نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الأول
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ١٥٦٨
تاريخ النشر : ٢٠٠٦

البحث الثاني: النَّسَبُ النَّبَويُّ الشَّريف
وتستمرُّ الأجيالُ في التعاقُبِ منذ أيام إسماعيل، بعد أن رفعَ، هو وأبوه إبراهيم (عليه السلام)، قواعدَ البيت العتيق في مكَّةَ المكرمة. ويستقرُّ الحُكمُ في ذلك البلد الأمين لقبيلة جُرهُم أخوالِ أبناء إسماعيل، بعد أن غلبوا قبائل العماليق وأجلَوهم عنها، حتى يجيءَ عهدُ مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي.
ويَشيعُ في قوم جُرهُمَ - بعد استقرارهم في أرض مكة - البذخُ والترفُ، وتسودُ حياتَهم الَّلذائذُ الفانيةُ، وتَنتشرُ بينهم المُتَعُ الرخيصةُ، حتى تفترَ الهممُ، وتموت روح المواصلة على الكفاح، ويصير التراخي والركون إلى الراحة فيهم بمثابة العادة، فلم يعودوا يأبهون لنوائب الأيام وصِعابها، أو يتحسَّبون لعثرات الدهر ونكباته. وكل ذلك على خلاف ما تتطلبه ظروف الحياة في تلك الأرض القاسية.
ويرى سيِّدُهُم مضاض ما هم عليه من سوءٍ ورذيلةٍ وعدم اكتراث بأوضاعهم ومصالحهم، فينبّه ويحذّر من سوء مغبَّة ما يفعلون، ولكن القوم لا يَسمعون له ولا يرعوون، حتى بلغَ بهم السَّفَهُ أن غارَ ماءُ زمزم ولم يُكلِّفوا أنفسَهم عناءَ البحث والتنقيب عنه في باطنِ الأرض، وكأن مثل هذا النذير لا يَعنيهم بشيء.
ويخاف مضاض الجرهمي على كنوز الكعبة من استلاب القبائل المعادية، وعلى وجه الخصوص خزاعة التي كانت تتوثب إلى إقصاء جُرهُم وتولي المناصب في مكة، فيعمد إلى تعميق بئر زمزم، ويدفن في قعرها غزالتين (أو أسدين) من ذهب، وسيوفه الذهبية، وما كان في الكعبة من نذور العرب النفيسة، ثم يطمّها بالرمال حتى تذهبَ آثارها.
ويصدق ظن سيد جُرهُم فتدهم خزاعة مكة وتستولي عليها، بعد أن تطرد الجرهميّين منها، ثم تأتي بمضاربها وتقيم في البلد الحرام.
قصيّ بن كلاب
وتثبت الأمور لخزاعة، فتتولى شؤون الكعبة. وتتعاقب ولايتها عدة أجيال حتى يكون منتصف القرن الخامس الميلادي فيؤول أمر الكعبة إلى قصيّ بن كلاب الجد الرابع للنبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) [*]. ذلك أن كلاب بن مرة كان قد أولد من زوجته فاطمة بنت سعد الأزدي ولدين: زهرة وقصيّ. فلما توفي كلاب، وكان ابنه قصي ما يزال فطيماً، تزوجت أمه من ربيعة بن حرام، فارتحل بها إلى موطن قبيلته قضاعة على حدود بلاد الشام، وقد حملت معها طفلها في المهد زيداً - فلما بعدت به عن بلاده وأهله لقبته قصيّاً - بينما بقي أخوه زهرة بن كلاب في مكة.
وفي ديار ربيعة بن حرام راح قصي ينمو ويكبر، وهو لا يعرف أباً له غير ربيعة، حتى كان يومٌ، عيَّرَهُ فيه أحد بني قضاعة بأنه ربيبٌ دخيلٌ على قومه، ولا تربطه بهم أية رابطة من أصل أو نسب، وهو يقول له: «لست منا، وإنما أنت فينا ملصق».. وعزَّ على الفتى الأمر، لأنه، وإن كان ما يزال في أول فتوته، إلاَّ أنه قد رضع منذ الصغر - مثل غيره من أبناء العرب - ما للنسب في حياة العربي من أهمية وأثر، إذ يقوم عليه فخر القبيلة ورفعتها، وإلاَّ فالوهن واللَّحاق بقبيلة أخرى أرفع نسباً وأقوى شكيمةً، لذلك لم يكن من قصيّ وهو يسمع بأنه لصيق إلاَّ الإسراع إلى أمه، وهو دامع العينين، مهيض الجناح، كسير الخاطر. فتلقاه تلك الأم بلهفةٍ، وتسأله عما أصابه حتى أزرى به إلى هذه الحالة البائسة.. وبصوت ملؤه الحسرة، رَفع قصيٌّ رأسه من إطراقه، وأخبرها بالخلاف الذي حصل بينه وبين رجل قضاعة وما عيَّره به من لصوقٍ بزوجها ربيعة.. إلى أن سألها: ابنُ مَن أنا يا أماه؟.
ولم يخطر ببال فاطمة من قبل أن يسألها ابنها عن نسبه وهو في هذه السن المبكرة، بل كانت تعلم بأن هذا سيحصل، ولكن بعد أن يشبَّ ابنُها ويصلب عوده، أما وأن المحتوم قد وقع، فلم تجعل المفاجأة تربكها، بل تبتسم - على مضـضٍ - في وجهه وهي تقول له:
- أنت من أعرق العرب نسباً، وأشرفهم حسباً يا بنيَّ. ورهطك أشرف من رهط الذي سبَّكَ وعيَّرَكَ، وآباؤك أشرف من آبائه، وإنما أنت من بني كعب بن لؤي جيران بيت الله الحرام في مكة، وبنو أعمامك وأخوك يعيشون هناك[*].
قال الفتى: إذاً ربيعة ليس أبي؟
قالت الأم: بل هو مربيك، وحاضنك، وله الفضل في تنشئتك ورعايتك.
قال الفتى: ومن هو أبي، وأين يكون؟
قالت الأم: أبوك هو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وقد مات منذ كنت رضيعاً. أما أخوك زهرة ابن كلاب فهو بين ظهراني أهله وعشيرته، وقد خلّفتهُ شابّاً ينعم بالرجولة والكرامة..
وراح الفتى يردّد: أنا ابن كلاب بن مرة.. أنا ابن كلاب بن مرة. إذن فلا بدَّ أن يكون أصلي شريفاً، وهذا ما يجعلني أرغب عن ديار تبخسني حقي!!..
ولم تتركه أمه في شروده، فعادت تقول له:
- إنك والله لأكرم أباً ممن أساء إليك، وقومك بمكة آل الله وفي حرمه. ومن أين لأحدٍ أن يعيّرك بحسب أو نسب، أو أن يستهين بعشيرتك وقومك؟
وهدّأ الفتى من سَوْرَةِ غضبه، وجلس إلى أمّه لتقصَّ عليه من أخبار أبيه وبني قومه ما يفاخر به أترابَهُ، والرجال في بلاد العرب كلها، حتى إذ انتهت به المعرفة إلى ما يريد.. هبَّ وقد عزم الرحيل إلى مكة..
وعبثاً حاولت فاطمة أن تطيّب خاطر ابنها، وأن تردعه للعزوف عن رأيه، وأنها سوف تشكو الأمر إلى زوجها ربيعة حتى يكون له شأن في هذا الأمر، إلاَّ أنَّ الفتى الأشمّ كان قد انتهى في قرارة نفسه إلى ما عزم عليه، حتى أنَّ أمر السباب لم يعد يعنيه بشيء، بعد أن صار همُّهُ أن يذهب إلى أهله في مكة..
وتعاودُ الأم إقناعه، محاولة هذه المرة ملامسة عواطفه، وهي تبدي له بأن زوجها ربيعة لن يرضى برحيله وفراقه، فهو عنده بمثابة الابن، وليس حضيناً كما يتوهّم قصيّ، ثم ألا يكون لحرص ربيعة عليه وحبه له، ونبله في معاملته أثر في نفسه حتى يتركه هكذا، وبدون أن ينتظر قدومه ليودعه على الأقل؟ ولكن هيهات لفاطمة أن تقنع ابنها وهو يصرّح لها بأنه بات يشعر بالغربة والوحشة في تلك الديار، وأنه لا يطيق البقاء بعد، بل إن مقامه بات يقلقه، وكأنه دعيٌّ بين قوم غرباء!.
وتدرك فاطمة عدم الجدوى من إصرارها على ثنيه عن عزمه فتقول له بحسرة:
- ولكن هل تسافر بلا زادٍ ولا رفيق؟ لا، يا بني، أنت لا تعرف الطريق إلى مكة، ولا الصعاب التي تعترضك في الصحراء الموحشة.
ويأتي جواب الفتى قاطعاً، فيقول لأمه:
- سيكون زادي الاعتزاز بالنفس، والحفاظ على الكرامة. أما رفيقي في دربي فسيكون العزم والأمل.
وتطيب نفس الأم لمشاعر ابنها، فترشده إلى ما يجب أن يفعل، وتوصيه أن يتبيَّن القوافل التي تغادر الشام إلى بلاد الحجاز فيذهب في ركب إحداها.
ويقوم الفتى، من فوره، يودّع أمّه وهو يُجهش بالبكاء مثل الطفل الرضيع، فتضمّه أمّهُ إلى صدرها، والدموع تملأ مآقيها هي الأخرى، وقد أحسَّت بلوعة الفراق تكاد تدمي قلبها، إلاَّ أنه سرعان ما انفلت منها، وانطلق كالسهم، فلم تجد إلاَّ أن تدعو له بالسلامة، وأن يحالفه التوفيق في سفره، والنجاح في حياته.. وليس صعباً على فتًى مثل قصيّ، وملؤه الثقة بالنفس، وصدق العزيمة، أن يهتدي إلى قافلة مكة حيث أشارت أمّهُ إلى مكان تواجدها، فجاء - دون أي تردد - إلى كبيرها يسأله أن يعمل لديه بلا أجر لقاء نقله إلى مكة... ويستخبر الرجل من هذا الفتى الجريء والمقدام عما جاء به إلى بلاد الشام، وما حاجته لهذا السفر بلا رفيق ولا متاع، وما قصده في ديار مكة البعيدة؟..
وبلا أدنى وجلٍ أو تردّد يخبر قصيٌّ الرجل عن نفسه، وعن نسبه، وإقامته في حضانة ربيعة بن حرام، وتوقه للعودة إلى العيش بين ظهراني أهله في مكة، بعد أن أحسَّ في نفسه ثقل الغربة عليه، فيُكبر فيه قائد القافلة هذه الهمة، مثلما يُكبر نسبَهُ وأصلَهُ، فيعده أن يحمله معه، بل وأن يبقيه إلى جانبه، فلا يطاله مكروه.
وأزفت الساعة، وسارت القافلة وقلبُ قصيّ ممتلئ بالشوق إلى رؤية أهله، من غير أن يحفل بوعورة المسالك، أو يعبأ بمشاق السفر، بل صار يجد الأيام طويلة، والليالي قاسية، ما دامت تفصله عن مكة.
ويصل قصيّ أخيراً إلى موطنه، ويهتدي إلى ذويه وأقاربه، فيعيش معهم على حلو الحياة ومرّها، ولكن من غير أن يتقاعس في طلب الكسب والعمل! صحيح أنه قد جاء خالي الوفاض، ولكنه لن يقبل أن يكونَ فقيراً، أو كَلًّا على غيره، فيذهب إلى رجل القافلة الذي جاء به من بلاد الشام ويطلب إليه أن يعمل عنده، لكي يتدرب على التجارة والبيع..
قصيُّ مجمِّعُ قريش
وهكذا اندفع قصيُّ في العمل، يتحرَّى عن كل صغيرة وكبيرة، ويجهد في التعلم واقتناص الأساليب حتى برع في فنون التجارة وجمع من المال ما يكفيه للمشاركة في القوافل والاتجار لحسابه، مما جعله محطَّ أنظار عشيرته، وموضع تقديرٍ وثقةٍ من أهل مكة جميعاً.
وكانت سدانة البيت في خزاعة، ويومئذٍ سيدها حُلَيْل بن حُبشيّة. فلما أراد قصيٌّ الزواج، وقد صار له من المال ما يكفي، ومن السمعة الطيبة ما يُغني، ذهب إلى حُليْل يخطب ابنته حُبَّى، فلقيه سيد خزاعة بالحفاوة والمكرمة، وزوّجه ابنته برضىً وقناعة.
وعاشت حبّى في البيت الزوجي على الوئام والسعادة، إذ اجتمع لها بعد هذا الزواج، رفعة الشأن في النسب، وعلو المكانة في الزواج، ولذلك فإنَّ أباها حُليلاً عندما تقدم به العمر، وأحسَّ بدنوِّ أجله، لم يجد خيراً منها، فأوصى لها بسدانة الكعبة، وفي يقينه أن من يتولَّى أمور البيت من بعده سيكون زوجَها قصيّاً، وإنه لأفضل الرجال، وأقدرهم على القيام بتلك المهمة. ولكنَّ حبّى اعتذرت عن قبول مفتاح البيت الحرام، لأن المهمة شاقة، مما دفع أباها لأن يوكل مفتاح باب الكعبة إلى أحد رجال خزاعة، واسمه أبو غبشان سليم بن عمرو. ولكن هذا الرجل تحوّل إلى السكر، ولم يردعه كون مفتاح الكعبة الشريفة في يده عن تهتكه وعربدته، بل ظل مدمناً معاقرة الخمرة، حتى وصَلَ به الحال إلى أن يعوزه الشراب، فلا يجد معه ما يبتاع به خمْرَه، مما دفعَهُ لأن يأتي إلى قصيّ ويعرض عليه أن يعطيه المفتاح، فاشتراه منه بزّقٍ من خمر، بعد أن تشاور مع امرأته حبّى التي آثرت أن يتولى زوجها سدانة الكعبة، ويكون معه مفتاحها، حتى تبقى لها حُرمتها، وكرامتها... وبذلك يضرب المثل: «أخسر من صفقة أبي غبشان». وقال في ذلك بعضهم:
أبو غبشان أظلم من قصيٍّ
وأظلم من بني فهر خزاعهْ
فلا تلِموا قُصيّاً في شراه
ولوموا شيخكم إذ كان باعه[*]
وعمل قصيّ على تجميع بني قومه من بني كعب بن لؤي بعد أن جمع بطونهم وألَّف ما بينهم. فسماهم الناس «القرشيين» أي المتجمعين، لأن معنى التقرّش: التجمع، وهذا ما يشير إليه الشاعر بقوله:
قصيّ لعمري كان يدعى مجمّعاً
به جمع الله القبائل من فِهر[*]
وبالفعل فإن الأخبار تروي أن القرشيين لم يُعرفوا بهذا الاسم قبل قصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وأن هذا الاسم قد غلب على من توالد من بني فهر بعد أن جمعهم قصيُّ حول الحرم، وأسكنهم بجواره، وكانوا من قبل متفرقين في شعاب مكة وبطاحها.
ورأت خزاعة أن الأمور قد بدأت تفلت من يدها، وأن مكانتها سوف تذهب إن بقيت سدانة الكعبة لقصيّ، فلا يعود لها شرف القيام بمناصب الكعبة، فقامت مستنكرة تحاول انتزاع المفتاح من قصيّ[*] بالقوة. ولم يكن أمام قصيّ إلاّ أن يستنفر بني قومه من قريش، وانحازت معه كنانة وقضاعة وغيرهما من القبائل التي رأت أنه أحكم المقيمين بمكة وأعظمهم قدراً، كما ثبت معه أخوه رزاح بن ربيعة بن حرام - من أمه - ومن معه من قومه من قضاعة[*]. وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا، واقتتلوا قتالاً شديداً بالأبطح حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعاً. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن لَيْث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة[*]، فحكم لقصيّ، وأدانَ خزاعة بديَة القتلى من أصحابه.
وولي قصيُّ البيتَ وأَمْرَ مكة، بعد أن انتزع هو وبنو قومه وحلفاؤهم مكانة خزاعة، مما وفَّر لقريش هيبة وسطوة على القبائل الأخرى، ولكنَّها - بالمقابل - دانت لقصيّ بالملك عليها، فكان أولَّ بني كعب ابن لؤي أصاب ملكاً أقرّ له به قومه، وقُلِّد جميع المناصب، واجتمعت له الحجابة[*]، والسقاية[*] والندوة[*]، واللواء[*] والقيادة. أَمّا وقد أصبح سيد القوم فقد فرض عليهم الرفادة[*]، وذلك عندما قال لهم: «يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته، وأهل حرمِه، وإن الحاجَّ ضيف الله ومن زوار بيته، وهم أحق الأضياف بالكرامة. فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحجّ حتى يصدروا عنكم»[*].. فامتثلوا لأمره، فكانوا يُخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجاً، يدفعونه له، فيصنع طعاماً للناس، وجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام.
لقد حاز قصي الشرفَ في مكة، فصار سيدَها المطاع، فقطَّعَها أرباعاً، وأعطى لكل عشيرة رُبعاً، فاتسع عمرانها، وتزاحم الناس على الهجرة إليها، وكان ذلك - طبعاً - بفضل وجود البيت الحرام فيها أولاً، والمكانة التي أوصلها إليها قصيٌّ ثانياً، حتى صارت طريقاً للقوافل إلى الشرق لناحية اليمن، وإلى الغرب لناحية بلاد الشام.
وكان قصي قد ولد من زوجته حبى ستة أولاد، أربعة من الذكور وهم: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي. وابنتين وهما: تَخْمُر وبَرّة[*]. وقد شرف ابنه عبد مناف في زمن أبيه، وذهب في هذا الاتجاه كل مذهب، لا يدانيه في مكانته بين القوم إلاَّ أخواه عبد العزى وعبد قصيّ. وإن قصيّاً، على الرغم من ذلك، جعل إلى ابنه الأكبر عبد الدار كل ما كان بيده من أمر قومه.. فقد عاش قصيٌّ سيداً في قريش، وسيداً في العرب، لا تردُّ له كلمة، ولا يسفه له رأي، إلى أن صار شيخاً هرماً، ورقّ عظمه وشارف على الموت، فجمع أبناءه وقال لابنه عبد الدار: «أما والله يا بنيّ لأُلحِقنَّك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقدُ لقريش لواءُ حرب إلا بيدك، ولا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاماً إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمراً من أمورها إلا في دارك»[*]. وبذلك أولاه السدانة (الحجابة) واللواء والسقاية والرفادة والندوة.
ويتوفى الله - تعالى - قصيَّ بن كلاب فتؤول تلك المناصب إلى بِكْره عبد الدار، فيسير على نهج أبيه في إدارة شؤونها، لكي تظل للقبيلة مكانتها المرموقة بين العرب، وتحافظ الكعبة على عزِّها وتاريخها العريق. وكان يساعده في ذلك إخوته، وقد برز من بينهم عبد مناف الذي رأى فيه الناس فضلاً وعزة في النفس، وعلوّاً في الهمة، وزعيماً حكيماً في القوم، فالتفّت القلوب من حوله، وصارت القبيلة تتطلع إليه في كثير من شؤونها. ولكنه مع ذلك لم يأخذه طمع، أو تسوّل له نفس مطالبة أخيه المشاركة في المناصب، بل كان إلى جانبه خير معين، وخير مساعدٍ، من دون أن يألو جهداً في إدارة الشؤون ورعاية مصالح الناس مما زادهم إكباراً لخصاله الحميدة، ولاسيما ترفّعه عن طلب الحكم لنفسه.
اختلاف قريش وقيام الأحلاف
وتنقضي السنون وتدور الأيام، ويكبر أبناء عبد الدار وأبناء عبد مناف. ويظهر للملأ من قريش ولأهل مكة أن أبناء عبد مناف هم أشرف في قومهم وأعظم مكانة، وأنهم أحق وأقدر على تولي المناصب، ورعاية شؤون الكعبة، فقامت بطون كثيرة من قريش تطالبهم بتسلُّم زمام الأمور وإدارة المناصب، وكانت طائفة مع بني عبد الدار، يرون أن لا يُنزَع منهم ما كان قصيّ جعله إليهم[*].
ودب الخلاف بين أبناء القبيلة الواحدة، وأدى هذا الخلاف إلى قيام حِلفين:
1 - حلف المطيبين: وقد عقده بنو عبد مناف[*] مع بني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبني زهرة بن كلاب، وبني تيم بن مرة بن كعب، وبني الحارث بن فِهرْ بن مالك بن النضر، وذلك بأن جاؤوا بجفنةٍ[*] مملوءة طيباً إلى الكعبة وغمسوا أيديهم فيها، وقد أقسموا على الوفاء بالعهد، وحفظ الذمة ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فسمّوا المطيبين.
2 - حلف الأحلاف : وهو الذي عقده بنو عبد الدار[*] مع بني مخزوم بن يقظة بن مرة، وبني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبني عدي بن كعب. وقد تعاهدوا في هذا الحلف على عدم التخلي عن أيّ منصب من مناصب الكعبة، أو السيادة على مكة وألاَّ يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً، فسمّوا الأحلاف.
وتوشك قريش أن تقع في حرب قاتلة، لولا أن تداعى الشيوخ والعقلاء إلى الصلح، واتفق الرأي على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تظل الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار.
وارتضى الفريقان بعقد الصلح، إلى أن جاءت الأحداث وأعطت - بإذن الله - نسل عبد مناف ما يستحقون من المكانة في قريش والعرب.
هاشم بن عبد مناف
وكان عبد مناف بن قصي قد ولد أربعة أبناء وهم: عبد شمس والمطلب وعمرو، (وأمهم: عاتكة بنت مرة بن هلال)، ونوفل (وأمه: واقدة بنت عمرو المازنية). وكان عمرو أشدهم سداداً في الحكمة والرأي، وفي التآلف والإيثار، مما جعله سيداً في القوم. وقد عمل في التجارة فجلّى في مضمارها وصار ذا يسار وغنى، فتولى وحده - وبرضى إخوته - السقاية والرفادة، وكان مثل جده قصيٍّ يأخذ من أموال قريش خرجاً لإطعام الحجّاج منذ أول الموسم فإذا حضر الحجيج قام في بني قومه وقال:
»يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهلُ بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته، وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون به طعاماً لأيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها، فإنه والله لو كان مالي يَسع لذلك ما كلفتكموه»[*].
وتلك الخصال التي عُرف بها في القوم جعلتهم يطلقون عليه لقب «عمرو العلا».
ويأتي الزمان الذي يزدادُ فيه صاحب اللقب شرفاً.. ولذا لم يقف أمر «عمرو العلا» عند إطعام حجاج البيت الحرام، بل اتصل بِرُّه وكرمه بأهل مكة جميعاً. وكان ذلك عندما جاءت عليهم سنة جدب، وحاقت بهم الشدة، إلى أن كادت تُفقدهم سبلَ العيش، فتصدى رجل الجود والبرّ للنكبة، وراح يوزع الزاد على المكيين، ويقدم لهم المؤن التي تبعد عنهم غائلةَ الجوع والموت، فكان ينحر لهم الجمال، ويهشم لهم الخبز ويصنع لهم الثريد، ويطعم القاصي والداني حتى أجمع الناس على لقب أسمى له، فدعي «هاشماً» وفيه يقول الشاعر:
عمرو العلا هشَم الثريدَ لقومه
ورجالُ مكة مُسنِتُون[*] عجافُ
بل ولقد غلب لقبه الجديد «هاشم» على كل اسم أو لقب سابق له فصار يُعرف به اسماً علماً، وإليه ينتسب بنو هاشم أو الهاشميون.. ولم تكن تلك الضائقة الكبرى التي حلَّت بمكة وأهليها هي وحدها التي جعلت هاشماً سيد مكة المطاع، ونبيل القوم وقائدهم، ولم تكن هي ظاهرته الأبرز في اهتماماته بشؤون الجماعة، بل لقد عمل على أن يكون لأهل مكة مجالات رحيبة في الاتصال بالعالم الخارجي، وتوفير الأموال وزيادة الثروات فاستنَّ رحلتي الشتاء والصيف: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بلاد الشام. فصارت لمكة وأهليها - فعلاً - مكانة مميزة في بقاع الحجاز الجافة، وغدت، أكثر من أي عهد مضى، ملتقى لطرق القوافل إلى اليمن، والحيرة، والشام، وإلى نجد. وباتت مركز الاتصال بتجارة العالم عن طريق البحر الأحمر (ميناء جدة) الواقع على مقربتها.
وبعد أن استقامت رحلات قريش التجارية إلى تلك الأمصار، فكَّر هاشم بتدعيم الروابط والعلاقات مع العالم الخارجي، وعقد معاهدات أمن وسلام مع حكام الدول المحيطة به، كما رأينا سابقاً[*]، وتلك المآثر لهاشم بن عبد مناف تدل على ما كان للرجل من دراية وحكمة، ومن بعد نظر في رعاية شؤون قريش، حتى جعل لهم السيادة على العرب، والصدارة لمكة في كل أنحاء شبه الجزيرة.
على أن ذلك الاهتمامَ الكبيرَ بالأمور العامة ومصالح الجماعة لم يحل دون مواظبته على نفس الدأب من الجد والعمل فظلَّ يقود قوافله التجارية بنفسه.
ويكون هاشم في رحلة له إلى الشام، وأثناء العودة - وقد أناخ بيثرب رحال جِماله طلباً للراحة - علم بأن امرأةً ذاتَ شرفٍ في قومها، وصاحبةَ تجارة واسعة في يثرب، عازفةٌ عن الزواج ما لم يوافق طالبُ يدها على أن يشترط لها بأن يكون أمرها بيدها، وحقها في اختيار الإقامة ببلدها.. فرغب في مقابلتها..
ويشاء الله تعالى، الذي يقلِّب القلوب كيف يشاء، أن يستهويَها عندما جلس يحادثها، وأن تستهويَه هي أيضاً، لا سيما بعدما عرفت مكانته في قومه، إذ رأت فيه أمير مكة الذي لا ينقصه كمال الخَلْق، ولا يعوزه حُسن الخُلق، فضلاً عما يتحلى به من الصفات التي كانت تتوسمها في الرجل الذي تريده زوجاً.. فتوافقا على الزواج، وتشهد يثرب الزواج المبارك ما بين هاشم بن عبد مناف وسلمى بنت عمرو (أحد بني عدي بن النجار)، ثم يرتحل هاشم بعروسِهِ إلى بلده مكة، وقد لفَّتهما السعادة بأهدابها.
وأقامت سلمى في البيت الزوجي، هانئة، قريرة العين، إلى أن عاودها الحنين إلى يثرب، فلم يُنكر عليها زوجها رغبتها تلك، وهو يعرف طباعها، بل على العكس قام هو بنفسه يحملها إلى ديارها، وقد أودع في أحشائها جنيناً من صلبه. وهنالك في يثرب ولدت له ولداً، أسمته شيبة وكان ذلك في سنة 497 ميلادية[*]، فصار لهاشم أربعة بنين وهم: أسد، وأبو صيفي، ونضلة، وشيبة، وخمس بنات وهن: الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية وجنة. وأقبلت سلمى على تربية ابنها وتنشئته بدراية وحكمة حتى غدا فتًى لا مثيل له بين أترابه في بهائه ونضارته، فكان مصدر سرور لأمّه، وسلواها في غياب أبيه الذي شغله اهتمامه بشؤون القوم، والقيام بأعباء الكعبة حتى ملأت عليه وقته وكيانه. ولكن تلك الاهتمامات رغم اجتماعها عليه لم تكن لتمنعه من تفقُّد زوجه وابنه بين فترةٍ وأخرى، وقضاء بضعة أيام للراحة بقربهما.
ويخرج هاشم في إحدى رحلات الصيف إلى غزة من بلاد فلسطين، فتفاجئه المنية، ويدفن هناك، مما جعل قريشاً تجزع لفقده، وتخاف على تجارتها، فيذهب أخوه عبد شمس إلى النجاشي ويجدِّد عهده مع القرشيين، كما يذهب أخوه نوفل إلى العراق ويوثق حلفهم مع كسرى..
المطّلب بن عبد مناف
وكان المطّلب بن عبد مناف بن قصي أصغرَ سناً من أخيه عبد شمس، ولكنه عندما كبر شرُف في بني قومه حتى سمَّته قريش «الفيض» لسماحته وفضله[*]، فكان من الطبيعي، وهو على تلك الشمائل، والصفات الذاتية، وعلى تلك المكانة المرموقة من بني قومه ألاَّ تتغيَّرَ الأوضاع في مكة بعد تسلّمهِ مقاليد الأمور من بعد أخيه هاشم، بل تبقى لقريش سيادتها على العرب، ولمكة مكانتها على القرى.
وكما كان مؤملاً منه، فقد قام المطلب بدوره الريادي كاملاً، ولكنه لم ينس - وهو في غمرة المسؤوليات والأعباء - أن ابن أخيه شيبة ما يزال يعيش في يثرب، على الرغم من أنه بلغ حدَّ الفتوة، ولم يعد جائزاً بقاؤه بعيداً عن أهله، فقرر الذهاب ليأتي به إلى مكة، حيث مكانه الطبيعي بين أبناء عشيرته.
ولم يكن ليغيب عن أم الفتى ما للعصبية القبلية من سلطان على حياة الأبناء، إذ بمتقضاها تكون الولاية على الولد لجده من أبيه، أو لعمه، بعد وفاة الأب..
وها قد جاءها المطلب، عمُّ ابنها، يجالسها ويحادثها من غير أن يدعي المطالبة بحق الولاية على ابن أخيه بوجهها، وما ذلك - كما رأت - إلاَّ حفاظاً على كرامتها وخاطرها، فهل تبادل الإحسان إلا بالإحسان؟!
وإنه - واللَّهِ - لأمر جلَلٌ أن تقع هذه الأم المسكينة بين نارين: نار قلبها الذي سوف يتفطر ألماً ولوعةً على فراق فلذة كبدها الوحيد، ونار الذهاب للعيش في مكة لتبقى بقربه، وهي لم تتمكن من التأقلم في أجوائها في حياة زوجها، فكيف يمكنها الإقامة فيها من بعده؟! إذن فما عليها إلاَّ أن تسلِّم أمرها لعلاَّم الغيوب، وأن ترضخ لحكم الواقع.. وليذهب ابنها مع عمه، فهي لا تملك له إلاَّ الدعاء بالسلامة، والحياة الطيبة..
وحانت ساعة الرحيل، ويشهد المطّلب وداع الأم لابنها، فتسيل عبراته مع عبراتها، إلاَّ أن الواجب يدعوه - وهو أقوى من العواطف - فيردف ابن أخيه خلفه على بعيره، ويرتحل مبتعداً به عن يثرب، حتى يدخل مكة.
عبد المطلب بن هاشم
ولعلَّ ما كان مقدَّراً لهذا الفتى، هو الذي جعل أهل مكة يظنون بأن سيدهم قد ابتاع له عبداً، عندما رأوه خلفه، وهو يتهادى على بعيره، فراحوا يتصايحون: انظروا هذا عبد المطلب.. انظروا هذا عبد المطلب..
وراح العمّ يصرخ فيهم: ويحكم! إنه ابن أخي هاشم، وقد حملته معي من يثرب، ولكنْ غلبت صيحة القوم، وغلب معها اللقب على «شيبة» ابن هاشم.. ومع الأيام نسي الناس اسمه الحقيقي فدعي «عبد المطلب»..
وكان هاشم قد خلَّف وراءه ثروة كبيرة، وقد استأثر بها بعد موته أخوه نوفل من دون إخوته الآخرين. فلما عاد المطلب بابن أخيه، سعى ليردَّ الأموال عليه، لأنه هو وارثها وصاحبها، ولا حقَّ لأحدٍ غيره بها، فأبى نوفل عليه ذلك الأمر، مصرّاً على الاحتفاظ بالمال، ومواصلة وضع يده عليه..
وأراد المطلبُ أن يقتله، أو يهدر دمه، ولكنَّ حرصَهُ على جمع شمل بني عبد مناف، وخوفَه أن تلوك الألسنةُ السمعة الطيبة التي يُحمدون بها، جعلاه يكظم غيظه، ويصبر على سوء فعل أخيه نوفل.. وكان عبد المطلب يومئذٍ في أول تفتُّحه ونضوجه. وكان يسمع ويرى كل شيء، فيؤلمه أشدَّ الإيلام أن يكون عمه قد آثر نفسه عليه، وسلبَ ثروة أبيه طمعاً وعنتاً.
وكان الفتى يشب. ولكنَّ استبداد عمه بإرثه لم يكن ليفارق مخيلته، ولم تفلح محاولاته لاسترداده، إذ كان كلما ذهب إليه مطالباً بحقه، لم يجد لديه آذاناً صاغية، مما دفعه لأن يستعدي عليه أخوالَه بيثرب.. وفي ليلةٍ دهماء جاء خاله أبو سعد بن عدي في ثمانين من فرسان خزرج ورجالها الأشاوس لنصرة ابن أختهم. ولم يكن أمام شيوخ قريش إلاَّ تهدئة خاطرهم، لأنهم ما جاؤوا إلاَّ ليردّوا حقاً قد استلبه أحد أبناء قومهم. ودعي نوفل على عجل وأذعن إلى الحكم الصواب وسلّم الأموال إلى عبد المطلب، ولم يطل العهد به بعد ذلك، إذ هلك في محلة تدعى سلمان من ناحية العراق.
أما عبد المطلب وبعد أن أخذ ماله فقد عقد العزم على أن ينمِّيَه ويزيده لكي يكون وسيلته في خدمة أبناء قومه، ولا سيما المحتاجين منهم، فراح يعمل في التجارة، وبرع فيها كدأب آبائه في هذا الميدان الواسع، حتى استقامت له أمورها، ونجح فيها نجاحاً باهراً..
وليس غريباً أن يحبَّ الناسُ عبد المطلب، فالشجرة الطيبة لا تؤتي إلا ثماراً طيبة لأن أصلها ثابت وفرعها في السماء من لدن عزيز حكيم؛ فمِن قبلُ أحبَّ الناسُ آباءه وعمومته من أجل محتدهم[*] الطيب، وحسن معاملتهم، وما كانوا يتمتعون به من الحكمة، ورجاحة الرأي.. وها هي قريش، وقد مات المطلب - في محلة تدعى «ردهان» من أرض اليمن - لا ترى حق الولاية من بعده، في السقاية والرفادة إلاَّ لابن أخيه عبد المطلب، فقلّدوه هذه الولاية إرثاً موروثاً..
وقام عبد المطلب بحق هذه الولاية، حافظاً للأمانة، باذلاً لقومه ما كان يبذله آباؤه لهم، وما كان بضنين على خدمة الكعبة الشريفة حتى بلغ فيهم حداً كبيراً من الشرف بل وفاق حبّهُم له كلَّ حب لآبائه، فصار أمره عظيماً فيهم، وفي العرب، لا سيما بعدما ذاع صيته، وتناقله الحجيج في البوادي والحضر..
ومع الأيام تبدأ معاناة عبد المطلب من أعباء السقاية والرفادة. فقد كان عليه أن يأتي بالماء من آبار عدة، ومتفرقة من حول مكة، حتى يملأ الأحواض لسقاية الحجاج في المواسم. ولم يكن له من معين في تلك المهمة الشاقة إلاَّ ابنه الوحيد الحارث، الذي أرهقه هذا العمل إلى حدٍ كبير، مما جلب لنفس أبيه الغم، فصارت السقاية محوراً لتفكيره مثلما هي سبب لمعاناته..
وكانت قريش ترى بأم العين ما يعاني عبد المطلب وابنهُ، وعلى الرغم من مكانته في نفوسهم، وحبهم الذي يظهرونه له، بل وخوفهم من سطوته وهيبته، إلا أنَّ أحداً لم يفكر يوماً في مساعدته على نقل الماء، أو بدرت منه أية بادرة لتخفيف همومه وأتعابه. أما من ناحيته، فقد كان على يقين أنه لو طلب إليهم ذلك - وهو سيدهم وصاحب الأمر والنهي فيهم - لما توانى الجميع، شيباً وشباناً، عن تلبية أوامره. ولكن أبت عليه عزة نفسه أن يستخدم الناس في السقاية، حتى لا يقال: إن ابن هاشم قصَّر في أداء واجباته، ولم يوف مناصبَهُ حقوقها..
وقدَّر، في تلك الغفلة من الناس عن أتعابه، أن الأبناءَ هم خير معينٍ للآباء، ولو وجدوا، لكان ذلك كافياً لإزالة الهموم عن كاهله. فانصرف تفكيره إلى الإنجاب وتكثير الأبناء ليكونوا سياجَ عمره، وصمام الأمان لحياته...
وراح هذا التفكير مع الوقت يقلقه، ويقض عليه مضاجعه، فلا ينام، ولا يقعد، إلاَّ ويتراءى له الأبناء من حوله، يمنعونه من حمل الأثقال، ويردون عنه غوائل الزمان..
وكانت الكعبة ملاذ عبد المطلب، ولاسيما إذا حزبته الأيام بدهمائها، فيذهب إلى ركن من أركانها ليستروح في ظلها من حرِّ الشمس الوهاج عندما يخالط رمل الصحراء وينفذ إلى ثناياه، فيستلقي مطمئناً إلى جوار البيت الحرام، ويغرق في قيلولته مفارقاً الدنيا وهمومها.
ولكن هيهات أن تبقى له حتى هذه الهناءة القليلة، والأحلام قد بدأت تدهم سكينة نفسه في إغفاءتِهِ، وهي تحمل معها مشاغله في السقاية والقيام بأود الحجيج فتتراءى له وكأنه في اليقظة.
وظلت تلك الأحلام تلازمه إلى يوم جاءه هاتف في المنام يقول له: احفر بئر زمزم.. وأنِسَ عبد المطلب لهذا الهاتف فهبَّ من نومه مستبشراً، وهو يردد: ولِمَ لا؟.. فلعلَّ في بئر زمزم التي عفت عليها السنون، وطمرتها الرمال في طيات الأرض ما يشفي غليل نفسه، ويؤمِّن مطلبه الغالي..
وظل الهاتف يعاوده، ويلحُّ عليه في حفر زمزم، وهو لا يدري ما يفعل، إلاَّ أنه يعلم في أعماق نفسه أن في الأمر سراً علوياً، وأن فيه الخيرَ كل الخيرَ؛ وإلاَّ فلمَ هذا الهاتف الذي لا يفارقه كلما كان في جوار الكعبة؟ ولكن ليس هذا ما يحيّره، بل إنَّ المشكلة تكمن بأنه لا يعرف مكان البئر، بعد أن مرّت أجيالٌ على عهد مضاض الجرهمي الذي طمرها.
وكان على عبد المطلب أن يسأل، فذهبَ إلى الطاعنين في السن، وإلى الرواة، وحَفَظَةِ أخبار العرب، يتقصَّى منهم خبر بئر زمزم. ولكنَّ جميع من التقاهم لم يفيدوه بشيء!... فكل ما عرف منهم أن بئر زمزم كانت في قلب مكة، ولا تبعد كثيراً عن الكعبة، مما يعني أنَّ أحداً لم يزد على علمه شيئاً، أو يعطه بارقة أمل في معرفة المكان الذي يجب أن يحفره.
ومع ذلك فقد عزم عبد المطلب على العمل فاتخذ من ناحية جبل الصفا هدفاً له وراح يحفر هناك، إلاَّ أنه لم يجد في تلك الناحية إلاَّ الجفاف، الذي يضرب في طول الرمال وعرضها، فلا رطوبة مياهٍ تبيّنُ للباحث طريقه.
وحاول البحث عند أقدام جبل المروة، وانتقل منه إلى عدة أماكن أخرى، وكلها بدون جدوى، حتى كلّت يداه وساعداه، وكاد ظهره أن يحدودب. وزاد في شقائه أن ابنه الوحيد الحارث لم يكن يفارقه في عمله، بل كان يهبُّ معه قبل طلوع الفجر، ويظل إلى جانبه يزيح الرمال أو يضرب بالمعول إلى أن ينهكهما التعب، وحرُّ الشمس، فيتركان العمل إلى فجر الغد التالي..
وكان عبد المطلب يتأمَّل حالة وحيده الحارث، وما صار عليه من هزال: فقد ضمر بطنه، ودق عوده، وشحب لون وجهه من غير أن يبدي تذمراً أو شكاية، فيزداد على ولده غماً بغم، وحزناً بحزن، إلاَّ أنه لا يريد أن يفقد الأمل في بحثه عن زمزم..
ويذهب سيد مكة كعادته إلى ركن الكعبة، وهو ينوء تحت أعبائه النفسية والجسدية، كي يلوذ بظلها، فيأخذه النوم، ويأتيه الهاتف عينه، ولكن بلهجة غليظة هذه المرة، وهو يصرخ فيه: قم يا عبد المطلب إلى زمزم..
ويهبُّ الرجلُ من نومه مذعوراً، ويلتفت حواليه فلا يجد أحداً، فيقعد مستلقياً إلى الركن، وقد أخذه التفكير إلى البعيد، وراح يطوف به في أحداث الأجيال الماضية حتى عبرت بذهنه قصة إساف ونائلة، وقد كانا زوجين، فبغيا في الكعبة - أعزَّها الله - فمسخهما ربُّ العالمين على مكانتهما، وقد جرى نقلهما في الماضي البعيد، من جوار الكعبة، إلاَّ أن غلبة الجهل على أهل الشرك، وسفاهة أحلام أهل الكفر قد أنست الناس ما كان للمسخين من عبرةٍ إلهية، فأعادوهما واتخذوهما إلهين مثل سائر الأصنام والأوثان التي وضعت في جوف الكعبة وبجوارها...
ورأى عبد المطلب أن عبادة الناس لهذين الصنمين - إساف ونائلة - ربما هي التي جعلت مضاض الجرهمي يفكر، بعد أن طمر بئر زمزم، أن ينقلهما إلى فوقها، فتحفظ بذلك الكنوز التي خبَّأها!. أو ربما أراد الناسُ إعادة المسخين إلى جوار الكعبة، ووضعهما بالقرب من زمزم بالذات لكي تجتمع معجزة الماء بهذا الوادي، غير ذي الزرع، مع معجزة المسخ، فتبقى العبرةُ مجسَّدةً، ويرى الناس دلالتها بأم العين.. إذن فلا بدَّ أن يكون مضاضٌ قد رجَّح مثل هذا الاحتمال، فتكون زمزم - على أقرب تقدير - تحت صنم إساف ونائلة، أو بجواره.. وبهذه الرؤية الفكرية غلب الظن على عبد المطلب بوجود البئر، وما عليه إلاَّ أن يعاود البحث عن ضالّته المنشودة - الماء - في تلك الناحية بالذات.. وبالفعل، ومع الفجر، حمل عبد المطلب وابنه الحارث عدتهما، وانكبا على كشف الرمل والحفر عند الصنمين المسخين، إلاَّ أن الأمرَ لم يكن أحسنَ مما سبق.. ومرَّتْ عدة أيام، وهما على تلك الحالة من التعب والجهد مما حمل عبد المطلب على الدخول إلى جوف الكعبة لمناجاة ربِّ هذا البيت، والاستغاثة به حتى يخلّصه وابنه من عذابهما..
وفي تلك الليلة بالذات نام عبد المطلب ملء جفونه، على غير ما كان عليه في المدة التي انصرمت، إلاَّ أنه، وقبل طلوع الفجر، وجد نفسه يهبُّ من رقاده، ويذهب في هدأة الليل ليعاودَ عمله، من غير أن يوقظ ابنه إشفاقاً عليه من التعب الذي كاد يضنيه.. وانقضت ساعات وساعات حتى قارب الوقت الظهيرة وهو منكبٌّ على الحفر، دونما توقف أو أخذ قسط من الراحة، وكأنَّ مثل هذا العمل قد حمله، وهاجر به من هذه الحياة الدنيا إلى دنيا جديدة لا يرى فيها إلاَّ حجيجاً يرتوي من ماءٍ رقراقٍ يشفي الغليل، وبهائم تروح وتأتي وهي تعبُّ من هذا الماء... وهو - في ذلك - مستأنس، هانىء بهذه المشاهدة الرائعة!..
ولمَّا أفاق الحارث هرع إلى مكان أبيه، وتقدم ليأخذ المعول منه، إلاَّ أنه، وبردة فعل آلية، دفعه عنه بقوة، مما جعله يتقهقر ويقف واجماً، خائفاً على هذا الأب، وهو على تلك الحالة من الشرود، وكأنما لا يعنيه إلا ضربات معوله، واكتشاف المجهول الذي يغيض في الأرض!... وبين دهشة الحارث، واستغراقه في التأمل بأبيه، إذا به يتعثر ويسقط.. وكانت عثرة مباركة غطَّت وجهه بالوحل، فصرخ بملء صوته: أبي! إنه الماء..إنه ماء زمزم يا أبي..
ومن أين للأب أن يسمع، وروحه تهيم بين معولٍ وماءٍ ليس إلاَّ، حتى كانت منه تلك الضربة الأم التي جعلت الماء ينبجس تحت قدميه، كما انبجس بين قدمي الرضيع إسماعيل (عليه السلام) منذ دهرٍ طويل، فيفيق، ويعود إليه وعيُهُ الدنيوي، ليرى معه في هذه الحفرة العميقة ولده الحارث، وهو ينظر إليه والهاً، فيقعد بجانبه، ثم يملأ كفَّهُ بالماء، ليغسل ما علق على وجهه من وحل، وهو يقول له:
هيا يا بنيَّ، اروِ ظمأ صدرك من ماء زمزم المبارك، فلا هموم، بعد اليوم، تثقل كاهلك، وتضني جسدك.. إيهِ يا بنيَّ، هاتِ هذا الوجه الصبيح لأغسلَه براحتيّ هاتين، فما أحبَّهُ وجهاً على قلبي، مرَّغته أوحالُ زمزم، فطِبت به عزاً ومكرمة..
ويسترخي عبد المطلب وابنه الحارث على الوحل والماء وقد غمرتهما السعادة، ثم لا يلبثان أن يتوثّبا بهمة جديدة، ويعاودان العمل حتى ظهرت لهما البئر على قِدَمِها وعمقها، فحمدَا الله على ما وفّقهما إليه وقد تأكد لهما أنها بئر زمزم حقاً، بمائها العذب، ومذاقه الطيب..
أجل، إنها بئر زمزم التي بقيت على مر التاريخ شاهداً على قصة إسماعيل الرضيع، وقد حمله أبوه إبراهيمُ الخليلُ وأمّه هاجر إلى وادٍ غير ذي زرع عند البيت المحرَّم، ليترك أهله في تلك الفلاة وحيدين إلاَّ من رحمة الله تعالى. وتعطش الأم يومئذٍ، ويكاد الرضيع أن يموت من جوعٍ ومن عطش، فتسعى هاجَرُ وراء سراب يخادعها عند جبل الصفا وتهرول نحوه فلا تجده شيئاً، وتلتفت وراءها فيتراءى لها السراب عند صخرة المروة، فتركض مهرولة إليه.. وما يزال هذا السراب يجذبها ويشدها حتى أنهكت، بعد سبعة أشواط كانت تقطعها ذهاباً وإياباً ولكن دون أن تجدَ قطرةَ ماء. وتفيق من ذهولها، فتفطن إلى رضيعها الذي تركته وحده، فتركض إليه ملهوفة لتفاجئها رحمة الله عزَّ وجلَّ، وقد حلَّت ببركاتها السنيّة على هذا الطفل الرضيع، فجعلت الماء ينبع بين قدمَي إسماعيل.
أجل، إنها بئر زمزم التي حفظت الماء في باطن صحراء الحجاز، وبجوار الكعبة الشريفة، حتى يأتي اليوم الذي يكشف عنها عبد المطلب ويعيدها إلى سابق عهدها مورداً للسقاية.
أجل، إنها بئر زمزم التي يظل ماؤها، أبد الدهر، شراباً قراحاً، ومغتسلاً طهوراً للمسلمين، يؤمّونه في مواسم الحج والعمرة، ويحملون منه إلى مختلف البقاع التي جاؤوا منها، فيرتشف المؤمنون قطراتٍ منه طلباً للبركة والشفاء..
وإنها هي عينها بئر زمزم التي احتضنت في جوفها كنوز الكعبة الشريفة، بعد أن خبأها مضاض سيدُ جُرهُم في هذا المكان الأمين، في البلد الأمين، ليأتي عبد المطلب، فيعثر عليها، ويعيدها إلى الكعبة التي أعزَّها الله في هذه الأرض.
وتناهى خبر زمزم إلى الناس، فجاءت قريش، كبيرها وصغيرها، تُكبِر عمل عبد المطلب وابنه، وما بذلاه من جهدٍ جبار في إحياء مكة من جديد بالماء القراح، والكل يهتف لهما هتاف الإعجاب والتقدير، بينما لا يرى عبد المطلب أيَّ فضل إلاَّ للرب الكريم الذي شاءَ أن يعيد للبئر مكرمتها، ولمائها الطهور بركته، فيبقى مورداً عذباً إلى أزمانٍ لا يعلمها إلاَّ اللَّهُ صاحبُ الشأن، العزيز الحكيم..
وحمل عبد المطلب الكنوز التي وجدَها في جوف زمزم، وانتحى بها إلى ركنه بجانب الكعبة، فتبعه الناس يتحلّقون من حوله، ثم لا تلبث أفواههم أن تبتلع هتافاتها، التي ما صدحت إلاَّ توطئةً للمطامع التي تحبل بها نفوس رؤساء قريش، الذين لم يعجّلوا في الإتيان بتلك الجموع واندفاعها إلى الكعبة إلاَّ ليمنعوا عبد المطلب عن أن يستأثر وحدَهُ بكنوز الكعبة الثمينة!.. لقد جاؤوا يريدون أن يأخذوا النصيب الأوفى من هذه الكنوز لأنَّ في ظنهم أن قريشاً أحقُّ العرب بالكعبة، وأقرب الناس مجاورةً لها، فلِمَ لا تكون كنوزُها كنوزَهم، وأموالُها أموالهم؟! ولِمَ لا يطالبون بأن توزع على شيوخ عشائرهم، فينال كل منهم حظَّهُ متساوياً مع حظ عبد المطلب؟!..
وهبَّ الرجلُ غاضباً في وجوه القوم، وقد حان الوقت ليفرغ ما في قلبه على هذه الطغمة من قريش، التي أعمتها الجهالة عن معرفة الحق، واستبدت بها الأطماع عن تقديس الكعبة، فجاءت تروم كنوزها غنيمةً سائغةً، لم تنفق في سبيلها نزراً من جهدٍ.
وراح عبد المطلب يعيّرهم بمواقفهم منه: فقد تناسوه وهو يشقى في أعمال السقاية، ولم يمدَّ أحدٌ منهم يدَ العون له - أو يشفق على ولده الوحيد - وهم يرونهما يجهدان في الحفر أياماً وليالي طويلة، لا سيما وأن غايته - كما يعرفونها حقَّ المعرفة - تأمين السقاية لحجاج البيت الحرام، كي تظل هذه العادة الشريفة قائمة على مدى الأزمان، ويحمدها الناس في كل بقاع الأرض، إلى أي جنسٍ انتموا، وعلى أي لون كانوا!
وبعدُ، أفلا يعلمون أن في أخلاق عبد المطلب ما يدفع عنه كل تهمة في طمع أو استئثار بمالٍ؟ فكيف إذا كان المالُ مالَ الكعبة؟! أم تناسوا أنه سيّدهم الذي يعمل بمكارم الأخلاق: «يقطع يد السارق، ويمنع من طواف العراة، ويوفي بالنذر، ويؤمن بالمعاد، ويحرّم الزنا، والخمر، ونكاحَ المحارم، وكان يأمرُ وُلْدَه بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيّات الأمور، وكان مجابَ الدعوة، وتَرَك الأصنام»[*]، فتلك خصال سيدهم عبد المطلب التي يقرّون بها... إذن، فبأي حقٍّ جاؤوا يطالبونَهُ أن يوزع عليهم كنوز الكعبة؟! لا، ليس لهم أدنى حقٍّ بشيءٍ منها، ولو طردهم من وجهه فإنَّ أحداً لا يلومنَّهُ على ذلك، ولكنَّ أخلاقه، وفضل زعامته عليهم غلّبا حِلمه على غضبه، فيظل على سماعه لهم، وتقبُّل جدالهم وهم يراوغون ويداهنون حتى أعياه التعب، فطلب أن يكفّوا عنه، ويعطوه بضعة أيام للتفكير..
ولم يكن عبد المطلب وهو الرجل الحصيف، وذو المراس والحنكة ليعوزه الرأي، فبعد أن عقد العزم على تنفيذ الخطة التي توصله للغاية التي يرومها، دعاهم للاجتماع في دار الندوة، ووقف فيهم قائلاً:
- يا معشر قريش! إن أموالَ الكعبة هي حق للكعبة. وأسياف مضاض الجرهمي ملكٌ للقوم. ولكني سأضع كلَّ ما وجدت في زمزم تحت القسمة، فأجعل للكعبة قدحين، ولقريشٍ قدحين، ولي قدحين، ومن خرجت قدحاه على جزء كان له، ومن تخلّفت قدحاه فلا شيء له. وإني لفاعل ذلك حتى لا تقول العرب بأنَّ ابن هاشم قد طمع على بني قومه، واستعدى عليهم بحقوق طالبوه بها - وإن كان لا حقَّ لكم بما تطلبون ـ.. فإن رضي جمعكم ذهبنا إلى الكعبة توّاً، وإلاَّ فلا شأن لأحدكم في ما أفعل.
ولم توافق طروحات عبد المطلب أهواء أولئك الطامعين، ولكن هل لهم خيار إلاَّ القبول؟ فنزلوا عند رأيه صاغرين. وذهبوا إلى الكعبة، فجاء صاحب القداح وضرب قداحه، فلم يكن لقريش - بتقدير العزيز الحكيم - أن تصيب قداحها، بينما كانت السيوف من نصيب عبد المطلب، وتمثالا الذهب من نصيب الكعبة.
لقد كانت الوسيلة، ولا شك، القداح.. ولكنَّ العدل الإلهي وحده الذي يُحق الحق ويُزهق الباطل. فخرجت قريش خاسرة، وكانت قد أمَّلت أن تصيب الثروة والأموال فتوزعها على ذوي الشأن فيها مكسباً سهلاً بلا عناء ولا جهد.. بينما ربح عبد المطلب لأنه أراد الحق، وكان مع الحق، وربحت الكعبة لأنها بيت الحق (تبارك وتعالى)...
ومنذ صباح اليوم التالي ذهب عبد المطلب إلى الصناعي فصهر الأسياف وجعلها باباً للكعبة، ثم ضرب التمثالين من الذهب حليةً لها، ثم باع المجوهرات وخصَّصَ ثمنها لإعادة بناء بئر زمزم، ولخدمة الحجيج فأيقنت قريش أنه لم يكن لسيّدها مطامع شخصية، وعادت إلى رضاها - مرغمةً - بعد أن كانت ساخطة حانقة.
واستقامت الأمور لسيد مكة بصورة مطلقة، فالقوم قد دانوا له بالسلطان، وهو لا يتوانى أبداً عن رعايتهم.. أمّا السقاية فلم تعد مصدر قلقه وماء زمزم يفيض بالبركة، فعظُم أمرُه في العرب، وعلت مكانته أكثر من السابق.. ولكنَّ أمراً واحداً ظل يشغل باله، وهو حاجته إلى البنين. إنه الهاجس الذي ظل يلازمه أبداً، ولم يفارقه طوال تلك المدة، وما عصف به من أحداث خلالها، بل ولقد تلبس هذا الأمر تلافيف قلبه، في تلك الفترة الحرجة بالذات يوم أنْ كان يشقى في البحث عن ماء زمزم ولا معين له ولا عضد إلا ولده الوحيد، فنذر حينها إن جاءه عشرة من الأبناء أن ينحر أحدهم عند الكعبة تقرباً إلى الله، وذلك على عادة العرب في ذلك الزمان، في تقديم القرابين عندما تتحقق لهم الأمنيات الكبرى..
وأخذت السنون تمرُّ، والأيام والشهور تكرُّ حتى كان لعبد المطلب ما أراد وتمنَّى. فقد تكاثر بنوه حتى صاروا عشرة ذكور، وست بنات. أما الذكور فهم: الحارث، والزبير، وحجّل (واسمه الغيداق) وضرار، والمقوِّم (واسمه عبد الكعبة) وأبو لهب واسمه (عبد العزى) والعباس، وحمزة، وأبو طالب (واسمه عبد مناف) وعبد الله. وأما البنات فهن: صفية، وأم حكيم - البيضاء - ، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرَّة. وقد باتوا قرة عين له، يملأون عليه الدنيا من حوله، ويشغلون الحيّز الرحب من وجوده... بل صاروا بعدما شبّوا عضده في الملمات، وفخره في المحافل، وموضع اعتزازه بين أبناء العشائر والقبائل. فكان يحمد الله - تعالى - على ما أفاض عليه من نعمةٍ وفيرة، ومن فضلٍ جزيلٍ.
وبقي عليه الوفاءُ بالنذر، وهو الغصّة التي تحرقه، وترجح كفتها على كل طمأنينةٍ في حياته. ولكنَّ مثله لن يتناسى عهده مع ربه، ولن ينثني عن الوفاء بنذر قطعه على نفسه، حتى ولو كان الثمن ذبح ولدٍ من أولاده.
عبد الله بن عبد المطلب
وحان وقت الوفاء بالنذر..
فجمع عبد المطلب أبناءه ليطلعهم على سرِّه ويستشيرهم في أمره، فتكون التضحية التي يقدمون عليها، تضحيةَ رضى وقبول، لا تضحيةَ طاعة وقهر... ورغم هول الخبر على هؤلاء الأبناء، فقد وجد عبد المطلب في كل واحدٍ منهم ما يماثل - حقاً - ما وجده إبراهيم في ابنه إسماعيل (عليه السلام)، إذ وقفوا جميعاً نفس الموقف الذي يريده كل واحد لنفسه، وهو أن يكون الفداء بدلاً عن إخوته.. لا بل واحتدم بينهم الجدلُ في أروع مباراة عرفها الناس لهذا البيت الكريم، والتي تجعل منه مثالاً فريداً في التضحية والإِيثار.. فجميع أفراده يتسابقون: كلُّ واحدٍ منهم يقدم عنقه للنحر متمنياً أن ينال الحظوة عند الأب، فيختاره وحده من بين إخوته الآخرين.. إنهم أبناء عبد المطلب، فهم للعُلا يتوثبون، وعلى مشارف التاريخ يسمون ليقدِّموا للأبناء آياتٍ في الوفاء بعهد الآباء. ولله درّهم من جماعة قد خلت، وخلّفت من ورائها أبناء المدنية والتقدم في عصرنا - وفي غيره - والذين يصدموننا كل يوم بأكثر من قصة تروي أخبار مروق الأبناء، وعقوق الآباء، وتكاذب الإخوان والأصدقاء، حتى لقد صار الابن يقتل أباه، والأخ يسلب أخاه، والصديق يخون صديقه، والناسُ تأكلُ الناس، والكل ينسى أن رصيده من العمل الصالح يتآكل يوماً بعد يوم، وإلى حفيرة في التراب، أو تابوتٍ من الخشب، سيؤول وإن طال الأجل!.. هكذا هي الحياة بين ماضٍ لأبناء عبد المطلب في الجاهلية، وبين حاضر لأبناء البشرية في عصر المدنية، والله أعلم بما يأتي به مقبل الأيام.
ولنعُد إلى عبد المطلب، هذا الأب الملتاع الذي لا تكفيه جراحات نفسه، والنذر يحزُّها حزّاً، فجاء أبناؤه يوقعونه في حرجٍ أكبرَ، وهم يتركون له أن يختار منهم من يسوقه إلى الذبح. وكيف له أن يؤثر واحداً على الآخر، والكل عزيز على قلبه.. إنه يعيش المأساة بكل معانيها، لأنه كيفما قلّب الأمر ومن أي وجه أتاه لا يجد له حلًّا.. ولكن عدالته بين أبنائه، وصدقه مع ربه جعلاه يتريث فترةً من الزمن علَّ ربَّهُ يحدثُ له أمراً.. ولكم كان يتمنى لو أنَّ أحداً يفتيه بأن يجعل نفسَهُ القربانَ شرط أن يفيَ ذلك بالنذر!.
وتطول الجلسات بين عبد المطلب وأبنائه، وتمتد الأحاديث والذكريات حتى تصل الليل بالنهار، وكأن أمر الذبح لم يعد يعني هؤلاء الأبناء بشيء ما دام كل واحد يؤمل أن يكون هو الذبيح. أما الأب فكان كلما مرَّ عليه الوقت مزَّقه الألم أكثر، وكوته اللوعة بأشدّ. وذاتَ ليلة، وقد رانَ السكون عليهم، إذا بهم ينصتون إلى زفرات أبيهم، وهو يحدّث نفسه ويقول:
«يا لله ما أصعب أن ينتزع الإنسان حبة قلبه، ولكن القضاء محتوم، والمقدَّر واقع، وليس إلاَّ الصبر على البلاء»..
كان عبد المطلب في حالة مناجاة والدموع تتدحرج على خديه، مما لا يدع مجالاً للشك بأن أمنيته الوحيدة باتت أن يكون هو الذبيح، وأن يكون أبناؤه هم الذين ينحرونه على مذبح الفداء، فإذا بالدموع الحرَّى تملأ مآقيهم، فينكبّون عليه، يلثمون يديه ورجليه، ويقولون بلسان واحد:
- لا تبتئس يا أبانا، ستجدنا إن شاء الله من الصابرين.
ولكن بماذا يعزّي نفسه إلا أن يقول لهم بلهجة الأب العطوف:
- يا رياحين روحي، ويا حبات قلبي، أنتم والله أبنائي وعشيرتي. وإن الأمر، كما تعلمون، جليل. ولكن الاستسلام لمشيئة ربنا - تعالى - هو سبيلنا. وقد أشارَ عليَّ المخلصون بحلٍّ نحن عليه عازمون، فغداً سوف نأتي بالقداح[*]، ويأخذ كل واحد قدحه وعليه اسمه، وعند الكعبة وأمام مقام أبينا إبراهيم سوف تضرب القداح، فمن خرجت قدحه كان قرباناً لله ربنا، ورب آبائنا إسماعيل وإبراهيم، ورب الناس أجمعين!...
ولم يَنَمْ عبد المطلب في تلك الليلة، بل ولم يغمض لأحد جفن في ذلك البيت، لأنهم جميعاً ينتظرون تقديم ذبيحهم في الغد.. حتى إذا طلع الصباح، تفرّق أبناء عبد المطلب، كما أمرهم أبوهم، يدعون أهل مكة للذهاب إلى الكعبة، وحضور الاحتفال بوفاء عبد المطلب بنذره..
وتسارع الناس، والتفّت الجماهير حول زعماء العشائر، وفي وسطهم جلس سيد القوم عبد المطلب، مطرقاً، كأنه لا يحس بوجود أحد من حوله.. لقد جاءت مكة كلها، بعدما عرفت بالخبر، لأنه لا حدث أكبر ولا احتفال أعظم عندها من ذبح عبد المطلب لأحد أبنائه.
وأزفت الساعة، وتقدم صاحب القداح فضربها، وها هي قدح عبد الله، أصغر أبناء عبد المطلب وأحبّهم إلى قلبه، هي التي تخرج دون قداح إخوته.
وسادَ الجموع هرجٌ ومرج، فتعالت هتافات، وقد راقها الحدث، تستعجل النحر، بينما انطلقت صيحات غيرها، تغطيها وتغلب عليها، وهي تستنكر وترفض، حتى اختلط كل شيء ببعضه، وامتزج اللغطُ بالنقاش، والغضب بالرضى، فلم يعد بين الناس أحد يعرف ما تريده هذه الجموع..
وفي خضمِّ هذه الحماسة والاحتدام، وقف عبد المطلب يشير بالهدوء والصمت، فوجم الجميع، وسكنت الحركات وتطلع الناسُ إليه يرقبون ما يريد، فإذا به يتقدم من ابنه عبد الله، فيدنيه إليه، ويشده إلى حضنه، ثم يعانقه طويلاً حتى لم يعد يطيق احتمال نفسه. ويسأله أن يغفر له، وأن يسامحه، علَّ في ذلك ما يواسيه مِن بعده.. ويجثو عبد الله على ركبتيه، ممتثلاً لأمر أبيه، وقد طأطأ رأسه إلى الأرض، مستسلماً لقضاء الله وقدره.. وتحين أقسى اللحظات وأشدها إيلاماً، والتي قد تدفع الإنسان إلى التردد أو العزوف عن مثل هذا العمل الجليل الذي يقدم عليه.. ولكن عبد المطلب بإيمانه القوي، وعزيمته الصادقة، يقوى على كل ما في نفسه من وهن وعذاب، فيدور من وراء ولده ويستلّ سكينه، وهو يهمّ بأن يهوي بها على رقبة ابنه، لولا أنَّ صوتاً جهورياً، تكاد تهتز منه جنبات البوادي، قد صرخ في الناس لكي ينتبهوا من غفلتهم، ويحولوا بين عبد المطلب وابنه، فلا يطاله بالذبح!..
وكأنما كانت تلك الصرخة - وقد استقرت في الآذان - بمثابة النذير الذي أعاد الناس إلى دنيا اليقظة، فإذا بالجموع تتحرك مندفعة نحو عبد الله وتتحلق من حوله وهي تصرخ:
لا، لا للذبح! نعم، نعم للحياة!.
ومن بين ذلك الحشد الغاضب، الذي تبدل، بين لحظة وأخرى، من محتفل بالذبح، إلى ثائر ضد التضحية بالأبناء، انبرى أحد بني مخزوم، وهو عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة ليقف أمام عبد المطلب، وجهاً لوجه وهو يقول له:
- إيه يا سيد قريش، أو ما تدري ما أنت فاعله؟
فقال عبد المطلب بصوت خافت:
- نعم والله يا أخي، وما غيري بأدرى مني بما أصنع..
قال الرجل: لا يا سيد قريش، فإنك لا تعلم عاقبة ما تقدم عليه..
قال عبد المطلب: وكيف أيها الرجل وأنا أفعل ما أفعل وفاء بنذري الذي عاهدت ربي عليه؟!..
- قال المخزومي: إنه نذرك أنت يا عبد المطلب، ولكن ذبح ابنك لا يطالك وحدك، بل سوف تكون عواقبه وخيمة على العرب جميعاً، ولا يعرف مداها إلا الله!..
- قال عبد المطلب: ومتى كان الوفاء بالنذور ينذر بالشر المستطير، ويخزي الناذرين؟!.
- قال المخزومي: حاشا أن أنسب ذلك إلى سيد قريش. ولكنني أخشى إن فعلت وذبحت ابنك وفاء لنذر نذرته يوماً، أن تقوم هذه العادة في العرب، ولا يزال الرجل ينذر، ويأتي بولده فيذبحه، حتى نذهب بأبنائنا إلى القبور، ونحملهم على أكتافنا إلى الفناء، دونما فائدة ترجى، إلا ما رضيت به أحلام الآباء.. وما للناس احتمال على هذا الأمر الخطير!..
ولم يدرِ عبد المطلب بما يجيب، بل ظل مطرقاً، فتابع المخزومي يقول له:
- ثُمَّ إن ابنك عبد الله هو ابن أختنا، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وإن كان بدافع قرابتنا حميناه، وإن كان بدافع حرصنا على أبنائنا فلن ندعك تذبح هذا الفتى حتى نعذر فيه!..
ما أصعب ما يقوله المخزومي! إنه يضيف إلى ثقل هموم هذا الأب أثقالاً جديدة، فكأنما لا تكفيه مأساته بقتل أحد أبنائه على يديه، فجاء يحمّله أعباء الناس وأوزار الأجيال القادمة.. ولكن، ومهما بدا الأمر عظيماً فهل يستطيع عبد المطلب أن يخلَّ بعهده أمام ربه؟
وبشق النفس رفع عبد المطلب صوته، ليصرخ قائلاً:
ولكن يا شيخ مخزوم كيف أُرضي ربي؟
وتلاقت الصيحات من كل جانب وهي تجمع على أمر واحد: فداء عبد الله..
فهذا يقول: أنا أفدي الذبيح بمالي، وآخر غيره يقول: أنا أقدم إبلي قرباناً بدلاً من عبد الله، وتتعالى الأصوات: بل نقدم السيوف والرماح، وكل السلاح بين يديك يا سيد مكة لتجدَ الوسيلة التي توفي بها نذرك، وتحفظ ابنك.
ومثل رجالات قريش، وقفت النساء يزغردن، ويبدين الاستعداد للتبرع بحلاهن وأساورهنَّ، أو ينذرْنَ الإقامة على خدمة الكعبة إن أعتق عبد المطلب ابنه، وخلَّى سبيله من الموت!..
ولكن أليس للشباب رأي، وأين هُمْ في هذه المعمعة؟
إنهم هنا يتحلقون حول عبد الله، ويضربون حوله طوقاً من أجسادهم فهو رفيق الطفولة، وعشير الفتوة، ولن يدعوا أحداً يمدُّ يده إليه بسوء.. إنهم لا يحتجّون على عبد المطلب وحده، بل وعلى سادة قريش جميعاً وهم يعلنون موقفهم قائلين:
- أعتقوا الأبناء من جور الآباء يا شيوخ الحكمة.. وحذارِ من غفلة عقولكم، فقوموا وسيحوا في البوادي والقرى لتأتونا بالفتيا إن كنتم عاجزين عنها ههنا.. أما نحن فإننا لن نسلّم لكم عبد الله، فإن أردتم ذبحه، فاذبحونا معه، ولكن انظروا كيف يكون بقاؤكم من بعدنا!...
إنها لثورة قرشية حقاً أشعل لهيبها المخزومي، فجاءت صواباً.. وإلاَّ لما كانت كل تلك الاحتجاجات العفوية تنطلق من القلوب، لتزرع الرحمة والرفق بالإنسان، بعيداً عن أية قبلية أو عصبية.
وأذهلت انتفاضةُ الشباب شيوخ قريش، وقد وجدوا فيها جديداً لم يألفوه من قبل، وأملاً للمستقبل يحمل المجد للعرب والسؤدد، فنادى في القوم مناديهم:
- يا أهل مكة، يا أبناء القبائل والعشائر، إن عبد المطلب منّا جميعاً حيث تعلمون، وإنه لجدير بكم أن تشفقوا على ابنه، وأن تفدوه بالغالي والنفيس. وإن السماء لتبارك فداءكم، وفيه قوة جمعكم وتضامنكم، فانصرفوا الآن، وإن غداً لناظره قريب.
وأجابته الجموع:
- وعلام نذهب ولمّا تُخلّوا أَسْر الذبيح بعد؟!..
فقال الرجل:
- يا معشر أهل مكة، إن أمرنا اليوم صعب، وحسن التدبير لا نعدمُهُ.. تعودون إلى بيوتكم، والشيوخ من ورائكم يأتمرون، ولن يعجزهم الأمر الذي يحفظ على عبد الله حياته..
وتفرَّق الناس، وبقي الشيوخ إلى جانب الكعبة، وكأنهم يستجيرون برب هذا البيت كي يلهمهم الرأي السديد، بينما كان الشباب لا يزالون يتحلّقون حول عبد الله وإخوته حتى يأتيهم الخبر اليقين عن مصيره. وبالفعل فقد ورد البشير ليعلن لهم أن القوم قد أجمعوا على الذهاب إلى عرّافة في يثرب قد ذاع صيتها في الكهانة والحنكة تدلُّهم على ما يُفتدى به الذبيح، ويَحفَظُ على الناذر وفاءَهُ..
واندفع شيوخ مكة نحو يثرب، وقد أبى عبد المطلب - على رغم ضعفه - إلاَّ أن يرافقهم. وراحوا يُغِذّون السير، وكأنهم يتسابقون مع الزمن: فقد تموت العرافة، أو قد يصيبها سوءٌ، ولمّا يصلوا إليها بعد!..
وعرفت يثرب بقدوم سادة مكة، وعلى رأسهم سيد القوم عبد المطلب، فجاء كبراؤها يستقبلونه ضيفاً عزيزاً، وكبيرَ قومٍ حلَّ في ديارهم مكرماً.. ولكنه أبى الضيافة معتذراً، وما مراده إلاَّ تلك العرافة في بلدهم علَّها تشير عليه بأمر يرجوه!. ويتفهَّم القوم مصابَهُ، فيعذرونه ويجنّدون أنفسهم لخدمته..
وجيء بالعرافة يستفتونها في قضية الوفاء بنذر عبد المطلب.. وقد علمت ما للناس في مكة وفي يثرب من اهتمام بهذا الأمر، فاستمهلت إلى الغد لتبدي ما تراه!...
وباتت يثرب ساهرة ليلها مع الحدث، حتى طلع الصباح، فجلست العرّافة مترنحة في مقعدها، وقد تطلعت الأنظار واشرأبّت الأعناق إليها، وتلهفت النفوس لرأيها.. وبعد أن استقرت في مقامها راحت تسأل أهل مكة: كم الدية عندكم يا قوم؟
فأجاب عبد المطلب سريعاً: عشرة من الإبل.
قالت العرافة: إذن فارجعوا إلى دياركم ثم قرّبوا صاحبكم وعشرة من الإبل واضربوا القداح، فإن خرجت عليه فزيدوها مثلها، ثم ما تزالون تزيدون حتى يرضى ربكم..
ويقيناً إن عبد المطلب كان أكثر الناس فرحاً بما رأت العرافة فقام يجزيها بالمال، ويقول لها:
- ليباركْ ربّنا خطاكِ، ولْيرافقْك حسن الطالع فيما تنوين، وفيما تُبدين.
وعاد عبد المطلب ورجالات قريش إلى مكة مستبشرين. وكان سيد القوم يكاد يطير فرحاً على راحلته، إذ مهما بلغت أعداد الإبل فإنها لا تساوي قطرة دم تنزل من نحر ولده عبد الله، ولا تعدلُ قولاً بأن عبد المطلب بن هاشم حنث بعهده مع الله، ولم يوف بنذره!..
ووصلَ عبد المطلب ورفاقه مكة، وذاعَ الخبر سريعاً في أرجائها، فاندفع أهلها يجتمعون عند الكعبة. ولكن كان الأب الملهوف أسبقهم جميعاً، فقد ساق كل ما عنده من الإبل، وأوصى الناس بأن يأتوه بكل بائع للإبل، على أن يسوقها من فوره إلى الكعبة.. وعلى مرأى من تلك الجماهير المحتشدة، ضربت القداحُ فخرجت على عبد الله. فزاد عبد المطلب عشرة منها، فخرجت أيضاً على عبد الله، وما زال صاحب القداح يضرب قداحه، وعبد المطلب يدفع بالإبل عشرة بعد عشرة حتى بلغت المئة، فخرجت عندها على الإبل.
وتعالت الهتافات والزغاريدُ فرحاً: أبشر بالفوز يا عبد المطلب، فقد رضي ربك.
ولكنَّ عبد المطلب تمسك بجدار الكعبة، وعيناه مشرئبتان إلى السماء داعياً ربه، وهو يطلب أن تضرب القداح مرة ثانية وثالثة.. وكان له ما أراد خلافاً لرأي شيوخ قريش. ويشاء الله تعالى أن تخرج القداح في المرتين الأخريين على الإبل. فجثا عبد المطلب على ركبتيه وهو ما يزال متّكئاً على جدار الكعبة، بينما تدافع الناس، ولم يعد عندهم قدرة على الاصطبار، وهم يستلّون شفرات سيوفهم وخناجرهم، وطفقوا ذبحاً في الأعناق فداءً لعزيزٍ ابنِ عزيز.. ثم تُركت المائة من الإبل لا يُصدُّ عنها شبِـعٌ ولا جائعٌ من الناس، أو الوحش أو الطير..
تلك كانت مجريات الأحداث التي شهدتها مكة في مدة زمنية قصيرة، وحفظها تاريخ شبه جزيرة العرب. ولذلك فإننا نتوقف عند ثلاثة أحداث منها، لمَا قد يكون لها من دلائلَ مستقبلية:
- الحدث الأول هو وقوف التسلسل التاريخي في رئاسة قريش على عبد المطلب بن هاشم واختياره بأمر غيبي - لا علاقة للناس به - ليكون هو الباحث عن بئر زمزم واكتشافها بعد طمرها بأجيالٍ طويلة، لأن هذه البئر مرصودٌ دورُها من رب السماوات والأرض منذ عهد إسماعيل (عليه السلام)، ليكون ماؤها هو السبيل لبناء مكة، ومصدر السقاية لأهلها، ولحجيج البيت الحرام يقصدونه من أقطار الدنيا، وبسبب إعادة حفر بئر زمزم كان نذر عبد المطلب بن هاشم أن يذبح أحد أبنائه قربة لله تعالى، معاودة لرؤيا إبراهيم (عليه السلام) عندما أُمِرَ أن يذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام)، في مكة الحرام، قرباناً لله تعالى.
- الحدث الثاني هو خروج القداح على عبد الله[*] من دون أبناء عبد المطلب الآخرين، لأنه سيكون له شأن عظيم تبدأ أماراته في قصة الوفاء بنذر أبيه.
- الحدث الثالث هو ثورة قريش، بشيوخها وشبّانها ونسائها، لتفدي عبد الله من الذبح، وهو أمر مستغرب حقاً، في تلك البيئة، التي تستبدُّ بها العقلية الجاهلية، فلا تعنيها بشيء قيمة الإنسان إن قُتل أو ذُبح، لما هي عليه من غِلظة في الطباع، وقساوة في العواطف، ما لم تكن إرادة سنِيّة علويّة هي التي دفعتها إلى هذه الثورة حتى يتذكَّر من يعقل، ويتفكَّر من يتعظ فيربط بين فداء إسماعيل (عليه السلام)، وفداء عبد الله بعد قرون من الزمان.
وتبرز أهمية تلك الأحداث في ما جاء التاريخ يثبته بعد حينٍ قصيرٍ، حيث يظل عبد الله على قيد الحياة ثم يتزوج ويموت قبل ولادة الجنين الذي أودعه في أحشاء زوجته، ليكون خلفه هذا الولد الوحيد الذي يختاره الله العزيز الحكيم ويجعله وحدَه الكفؤَ والجديرَ بحمل الرسالة السماوية الأخيرة إلى بني البشر في الأرض.
أجل، إنه ومن خلال الأحداث التي تعاقبت منذ أيام إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) وكان آخرها تلك التي اتصلت بعبد الله بن عبد المطلب في مكة، ليظهر تقدير الله، وهو - جلَّ جلالُهُ - يُعِدُّ كل شيء بمقدار، فيما يقوم من العلامات المميزة التي تدل على أن الإعداد لبعث نبيٍّ مكرَّم يجب أن تسبقه أحداث عظيمة في البيئة التي سيُبعث فيها، ولتكون تلك الأحداث بذاتها مقدماتٍ للمكانة التي سوف يتبوأها هذا النبي في مقبل الأيام، تماماً كما تجلَّت بالفعل في الأحداث التي سبقت ولادة محمد بن عبد الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) .
وإن هي إلا بضعُ سنوات بعد حادثة الفداء، ويبلغ عبد الله بن عبد المطلب سنَّ الرابعة والعشرين فيعرض عليه أبوه أن يختارَ فتاة يتزوجها. ولكن الفتى يترك للأب أن ينتقيَ هو الفتاة التي يراها، لأنه على يقين من أن هذا الأب يمتلك من الحكمة والتجربة ما يجعله يختار أفضل الصالحات في فتيات قريشٍ لتكون زوجة له... وسرعان ما تثبت صحة الرأي عند عبد الله، إذ ما كان لأبيه عبد المطلب أن يطيل بحثاً أو سؤالاً عن فتاة لابنه، فالكل في مكة يعرف أن آمنة بنت وهب قد تربت أحسن تربية، فشبت على الصفات الحميدة والخصال الكريمة، وعلى العفّة والشرف، فضلاً عما حباها الخالق من حُسن الخُلُقِ وجمال الخِلقة، وما هي عليه من الأصالة في النسب أباً وأماً، فأبوها سيد بني زهرة بن كلاب، وأمّها من ذات الطينة والنسب، فهي زهرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب. ولأجل تلك المزايا في آمنة ولكرم محتدها، ذهب عبد المطلب يخطبها لابنه عبد الله. وتم اللقاء بين الفتاة والشاب فأعجبها وأعجبته، وتوافقا على الزواج..
ودُعيت قبائل العرب من باديةٍ وحضرٍ لتشهد أعظم عرسٍ في ديار مكة، يوم أن تزوج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب.
ودخلت آمنة بيت الزوجية، وقد تآلفت وعريسها، وربط الحبُّ بين قلبيهما، وكأنَّما هما حبيبان منذ حداثة العمر، وخيَّمت السعادة والهناءة على حياتهما. ولكن سرعان ما هيَّأ عبد الله نفسه، ولمَّا يمضِ على زواجهما سوى شهور معدودة، وسافر في تجارة إلى بلاد الشام، سعياً وراء العمل والكسب، لكي يؤمّن لأهله سُبُلَ العيش الكريم، والحياة الفاضلة.
ارتحل عبد الله عن زوجته والأمل يحدوه بأن يرجع إلى هذه الزوجة الودود، وقد أمَّن أسباب الرفاهية لها، ولوليدها المنتظر، الذي بدأت حياتُهُ في أحشائها منذ أن تزوجها. ولكن نصيبه من السعادة مع زوجه، بل ومن هذه الدنيا كلها كان مقدوراً. فقد ذهب والآمال العريضةُ تراوده، وعادَ من تلك الرحلة والمرض يلاحقه، فلا يتيح له إكمال الطريق والوصول إلى مكة، بل يُقْعِده في يثرب. ويشتدُّ عليه مرضه وهو عند أخواله من بني النجار، ثم لا يلبث أن يفارق الحياة بعيداً عن الزوجة والأهل، ويدفن في دار النابغة الجعدي، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة[*].
هكذا هي الدنيا! تعطي، ولكنها تأخذ بالمقابل. فقد تَصوَّر الناسُ أن عبد الله بن عبد المطلب قد صفت له الأيام، فجعلت له شأناً تحدثت به الركبان في البوادي والقفار، يوم فدائه، ومنحته عزَّة شهدت له بها بلاد العرب قاطبةً يوم زواجه، فكان حرياً بالناس أن يحسدوه على ما نال من الشهرة. ولكن هيهات أن يدوم مجدٌ، أو تطول سعادة وقدر الله - تعالى - مقدور على عباده!... وها هو أجلُ عبد الله يأتي، فيُختطف، مفارقاً الدنيا وهو في ريعان الشباب، وذروة الشهرة.. فتبكيه زوجهُ آمنة بحرقة القلب، ودمعة العين.. وكيف لا؟!.
فإنها إن بكته، فهي تبكي الحبيب الذي أفاض عليها من قلبه حباً قلَّ مثيله.
وإن افتقدته، فهي تفتقد الزوج اللطيف الودود الذي زادت به شرفاً وعزة.
وإن جزعت عليه، فهي تجزع على شبابه الذي ذوى وهو في مقتبل العمر، وفي عزِّ النشاط والحيوية والرونق!.
بل ورثته هذه الزوجة لمّا بلغها نعيه، بأروع المراثي، قالت:
عفا جانبُ البطحاء مِنْ ابنِ هاشمٍ
وجاورَ لحداً خارجاً في الغمائمِ[*]
دعتْهُ المنايا دعوة فأجابَها
وما تركت في الناس مثلَ ابنِ هاشم
عشيّةَ راحوا يحملون سريرَه
تعاوَرَهُ[*] أصحابُهُ في التزاحمِ
فإنْ تكُ غالَتْهُ المنايا وريبُها
فقد كان معطاءً كثيرَ التراحُمِ[*]
كبيرةً كانت المصيبة على تلك الصبية آمنة عندما نُعي إليها زوجها، فأحسَّت أن نفسها هي التي تُنعى إليها. ولكم تمنَّت في تلك الساعة لو يأتيها الموت، ويحملها إلى زوجها في مثواه، حيث لا يكون بينهما فراق أبداً.
حقاً إن فاجعة الموت التي تدهم الإنسان هي أعظم النوائب التي تحل بذويه وأحبائه!.. ولكن أليس هو الأجل المحتوم الذي فرضَهُ الله تعالى على بني آدم، فلا رادَّ له ولا عاصم منه؟ وهو لا يفرق بين شباب وشيوخ، وبين صغار وكبار، فلكل أجله، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؟ بلى والله، وهو الحق..
والحقيقة أنه لا إنسان في هذه الحياة إلاَّ قد يصيبه مكروه أو تحل به نائبة.. ولكنه يتأسَّى - عادةً - بمشاركة الآخرين له في آلامه، وبما يواسونه به في مصابه، ويبقى العزاءَ الأهم صبرُ الإنسان على البلاء، وقناعته بأن مثله كمثل سائر الناس، فالكل سواء في الموت، وليس وحده دون غيره مَن يحلُّ به هذا المصاب العظيم... ولكن وعلى الرغم من ذلك يَظل المكلوم - ولزمنٍ - أسير الشعور بأن المأساة كبيرة والخطب فادح، ولولا رحمة الله تعالى ونعمته عليه بالصبر والسلوان، بل وبالنسيان، لعاش من يفقد عزيزاً غالياً على قلبه، كلَّ حياته في شقاءٍ، لا يذوق طعم الراحة أبداً.. ولكنه العزيز الحكيم هو الذي يقدِّر الأقدار، ويسيّر الليل والنهار، فتخف الآلام مع سيرهما، وتستمر الحياة، ويتعاقب الأحياء والأموات.
أجل، لقد أصابَ الثُكْلُ آمنةَ بنتَ وهبٍ بفقدان زوجها، ولكنَّه خلَّف في أحشائها أمانة، وما عليها إلاّ صون هذه الأمانة، والحفاظ عليها. وقد تكون هنالك كثيرات من النساء اللواتي لا يطقن ما أطاقت آمنة، وهي ما تزال في ريعان الصبا، وفي بدء الحياة الزوجية، لو كنَّ مكانها. ولكنَّ الخبير اللطيف هو الذي لطف بها وهوّن عليها، فهي، وإن أكثرت البكاءَ واشتدت بها اللوعة، إلاَّ أنها آلت على نفسها أن تقوى على المصاب، وألاَّ تدعه يهلكها لأن الأمل الذي تنتظره قد يكون فيه تعويضُها مما فات في حياتها.
وتعيش آمنة وحيدة في لياليها، فتتراءى لها ذكريات الماضي القريب والبعيد. ولعلَّ الشيطانَ رأى، من خلال تذكّرها، أن يحاول النفاذ إلى نفسها بوسوسته وهو يزيّن لها بأنها امرأة مثل سائر النساء، وما تزال في مقتبل العمر، وكثير من الأشراف في ديارها بل ومن كبراء قبائل العرب - يطمعون، ويتمنون لو تقبل الزواج منهم.. ولكن خسىء الشيطان وقبيله، فآمنة بنت وهب ليست كغيرها من النساء. ومجرد خاطرةٍ عارضةٍ من هذا القبيل إنّما تمجّها نفسها، بل وتزدري اللحظات التي تمرُّ بها.. إنها ليست من هذا الصنف الذي تساوره الرغبات، أو تراوده فكرة الزواج من جديد، لأن اختيارها أن تكون أمّاً، وأرملة وفيّةً هي من جلائل الأمور عندها.. أجل، إنها تتطلّع إلى غدٍ يؤمن لها عهد أمومةٍ قادمة عليها. وإنها تتشبّث بحياة ملؤها الإخلاص والوفاء للزوج الراحل، فكأنها لا تزال تلتصق به، ولو أنه صار في عالم آخر!.. وأما ما بقي مفقوداً من سعادتها، فسيكون مجرد ذكرى تعيشها، قبالةَ الأمانة التي خلَّفها عبد اللّه في أحشائها.. هذه الأمانة التي سوف تمنحها القوة التي تنتصر بها على كل يأس، وترفعها إلى مقام مسؤولية الأمومة...
إنه لجميل مثل هذا الوفاء الذي لا يتأتَّى إلاَّ لإنسان عزيز النفس، عظيم الخُلُق، فحقيق بمثل هذا الإنسان أنْ يتسامى بهذا الوفاء على الآخرين الذين لا يقيمون للمعاني السامية اعتباراً، لاسيما وأنَّ القلَّة القليلة من الناس قد بقيت لديها الأصالة التي تجعلها تدرك قيمة المعاني السامية وتعمل بوحيها، وتسير على هديها.. تماماً كما هو الحال بالنسبة لآمنة، فإن قيمتها الخلقيَّةَ ليست رائدها وحسب، بل إنها صنو نفسها، فكان خليقاً بها أن تحمل اسمها، لأنها هي الأمينة على الوفاء، وهي الأمينة على الأمانة، وهي الآمنة المطمئنة إلى قضاء الله وقدره - تبارك وتعالى ـ.
ثم يا سبحان الله، ما هذه الحكمة الإلهية في آمنة بنت وهب بالذات؟
فهل هناك إلهام صادقٌ هو الذي دفَعَ أباها وهباً - يوم أن ولدت له تلك الطفلة - لكي يطلق عليها اسم آمنة؟ حتماً إنه الإلهام ممَّن خلق الأرض والسماوات العلا، ومن بيده تسيير الوجود كله، وقد نفث في روع وهب بن عبد مناف - سيد بني زهرة - أن يضفي على ابنته ذلك الاسم الذي يحمل معاني الأمن والسلام، لأنه - جلّت عظمته - وفي علمه السابق، قد أعد لهذه المولودة دوراً مميزاً، وذلك بأن تحمل، وتلدَ الإنسان الذي رصدَه - سبحانه - في الأصلاب الشامخة، لحمل أكبر دعوة للأمن والسلام في دنيا الأرض.. ولسوف يؤكد المستقبل القريب أن مولود آمنة هو حامل رسالة الإسلام، رسالة الأمن والسلام للإنسان..
إذن، لم تكن مصادفة أن يكون لابنة وهب - يوم أن وُلدت - اسم آمنة، بل إنه أمر الله تعالى، وعنده كل شيء مكتوبٌ ومقدّر..
إنه قضاء الله - سبحانه وتعالى - وقدره الذي يجعل الأحداث كلها تسير بمقتضى النواميس الكونية التي خلقها؛ فليس للمصادفة أي أثر في السنن الإلهية، لأنَّ المصادفة تبقى مجرد تصوّر من تصورات الناس الجاهلين بحقيقة الخلق، الذين لا يعرفون ماهية ربط الأسباب بالمسببات، بل يجعلون المصادفة قانوناً خاصاً بهم، كلما قصَّر إدراكهم عن تعليل الوقائع والأحداث، وعجزوا عن إدراك ما يشاء عالمُ الغيب والشهادة.. وأياً كانت القوانين التي يبتدعها البشر أو التصورات التي يظنونها، فإنها لا تغيّر شيئاً مما قضى به الله عز وجل، والشواهد كثيرة: إذ لم يكن خلق آدم (عليه السلام) من صلصالٍ كالفخّار مصادفة، ولم يكن مصادفةً خلق عيسى ابن مريم (عليه السلام) من دون أب، وبخلاف ما يقوم عليه نظام الإِنجاب بين البشر.. ولم يكن مصادفة.. أن يكون أحفادُ إسماعيل (عليه السلام) من بني هاشم وبني زهرة في مكة.. ولذلك لم يكن مصادفة أن يُلهم الله سبحانه وتعالى وهباً سيد بني زهرة أن يُسمي ابنته آمنة حتى تكون الأمَّ التي تلد محمد بن عبد الله سليل بني هاشم الذي سيتولى مقاليد الدعوة لأمن الناس: أمنهم في النفوس، وأمنهم في العائلة، وأمنهم في المجتمع، بل ولأمانهم في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة..
وإنه لقدر قضاه الله سبحانه وتعالى أن تحمل آمنة في الأيام التي يسميها العرب أيام التشريق، وهي التي تقع عادة - في حسبانهم - ما بين الحادي عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة، أي في الأيام التي تعقب مباشرةً يوم عيد الأضحى الذي يحجُّ فيه الناس إلى بيت الله الحرام، وفي الوقت الذي كانوا ينشرون لحوم الأضاحي في الشمس لكي تجفَّ، وتكون مؤونة لهم، فكأن حمل آمنة ما كان ليتم إلا في وقتٍ كله إشراق ونور يسطع في أرجاء جزيرة العرب كلها، وفي مواعيد مباركة لعبادة رب العالمين.
وإنه لقدرٌ قد أحكمه الله سبحانهُ وتعالى لكي يجعل آمنة تستشعر الأمنَ بعد مصابها بزوجها، وتُحسُّ بأن ما يريحها ويسرّي عنها هو هذا الجنين المبارك الذي يتحرك في أحشائها.. فهي كليّةً - بخلاف كل امرأة حامل - لم تتأثر جسدياً بحملها، ولم تشعر بثقل أو ضيق، ولا باضطرابات عصبية مما يرافق الحوامل في العادة والمألوف.. إذ إن معظم الحوامل يتعرضن للقيء، والاضطرابات النفسية أو ما يسمى الوحام، وكلّ ذلك ينتج من التبدلات التي يحدثها الحمل في المرأة ويظهر بتقلب شهيتها للطعام والشراب.
وآثار الحمل هذه التي تتحملها المرأة في تلك المرحلة الحرجة، يجب أن يأخذها أهلها، أو من حولها، بعين الاعتبار، وأن يعملوا ما بوسعهم للترويح عنها ريثما ترتاح من الآلام التي تكابدها في سبيل الأمومة.
أما آمنة بنت وهب فلم تُحِط نفسها بالأهل والأقارب، بل آثرت أن تكون شبه وحيدة، تلازمها فقط الجارية أم أيمن التي خلفها لها زوجها الراحل. لأنها، على كل حال - وكما شاء الله تعالى لها - لم تكن بحاجة قطّ لأية رعاية أو علاج ما دامت لم تستشعر باضطرابات الحمل أو تتأثر بعوارضه، لا بل كانت تجد أن حملها يزيدها يوماً بعد يوم ثقةً واطمئناناً، وأن جنينها هو أنيسها وباعث سلواها.
بل وأكثر من ذلك، فقد كان من المرتقب، أن يوهن المصابُ الأليمُ جسمَ آمنة ويؤدي بها إلى الإجهاض. ولكنها - والحمد لله - لم تُصب بأذى لا من قريب ولا من بعيد، فظل حملها طبيعياً، بل وزادها قوةً وصلابةً كما ظهر في واقع حياتها.
وتمرُّ بضعة شهور، ويأتي على آمنة خطبٌ جَلَلٌ آخرُ، تعيش أحداثه وظروفه مع بني قومها جميعاً، وذلك عندما أراد أحد حكام اليمن غزو مكة، وهدم الكعبة الشريفة التي أعزَّها الله، كما سيجيء بعد قليلٍ إن شاء الله تعالى..
قصة أصحاب الأخدود
تروي كتب التاريخ، وتحكي أخبار السيرة[*] أنَّ تُبانَ أسعد أبا كرب بن زيد، وهو تبّع الآخر[*] - لأن تُبَّع الأول كان زيد بن عمرو الذي يرجع بنسبه إلى يعرب بن قحطان[*] - كان قد قدم يثرب، يريد إهلاكها، واستئصال أهلها، وقطع نخلها.. وبالفعل فقد وقع الاقتتال بينه وبين قبائلها من الأوس والخزرج. وبينا تُبَّعٌ على ذلك العزم من إخضاع يثرب، ذهب إليه حَبران من بني قريظة اليهود ناصحين له بعدم متابعة القتال، لأنه قد لا يؤمن عليه عاجلة العقوبة.
ودهش الملك متسائلاً عن سرّ ذلك، فقالا له:
»هي مهاجِرُ نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون دارَه وقرارَه».
وكأن شيئاً خفياً أقنع ملك اليمن وهو يستمع إلى الحبرين، فأمر بوقف القتال من فوره، ثم أدناهما منه ليتزوَّد ممّا عندهما من علم ومعرفة؛ ويبدو أنَّ تأثيرهما عليه كان قوياً، فتبعهما على دينهما، وحملهما معه بعد انصرافه عن يثرب، عائداً إلى اليمن. حتى إذا كان بين عُسْفان[*] وأمَجَ، جاءه جماعة من الهذليين يغرونه ببيت مكة لما فيه من الذهب والفضة والمعادن الثمينة (ويقال إن غاية الهذليين كانت ترمي إلى إهلاكه لما يعرفون ما للبيت من حرمة عند الله تعالى). ولكنَّ الحبرَيْن أشارا عليه بعدم التعرض لكعبة مكة لئلا يحصل له ما لا تحمد عقباه لما لهذا البيت من حرمة وقدسية تاريخية جعلت العرب تحج إليه لأنه البيت الذي بناه إبراهيم. ويشاءُ الله أن يبدّل ذلك الملك رأيه، فذهب إلى الكعبة وطاف حولها، ولم يكتفِ بذلك بل عهد قبل مغادرته مكة، إلى «جرهم» بتطهير البيت وكسوته: و«ألاَّ يَقربوه بدمٍ أو ميتة ولا مثلاةٍ[*]، وجعل له باباً ومفتاحاً»[*].
وتعاقب من بعده على حكم اليمن عدة ملوك حتى آل الأمر إلى ذي نواس بن تُبان أسعد، فملّكوه عليهم واجتمعت عليه حِمْير وقبائل العرب (ودُعي بذي نواس لأنه كان له غديرتان من الشعر تنوسان أي تتحركان وتضطربان).
وكان ذو نواس ميالاً إلى دين موسى (عليه السلام)، راغباً عن الوثنية التي تورط فيها قومه. وقد أخذ هذا الدين عن اليهود الذين هاجروا إلى اليمن وأقاموا في ربوعها. وذو نواس الحِمْيري هذا، هو - فيما يذكر المؤرخون - صاحب الأخدود[*].
ومفاد قصة أصحاب الأخدود أن بني يهود قد وجدوا في هذا الملك الحميري - ذي نواس - ما يؤمن لهم المآرب والمطامع التي يريدونها. فراحوا يغدقون عليه الهدايا النفيسة، ويحيطونه بضروب من التملق والمداهنة إلى أن أمكنهم السيطرة عليه وتسييره وفق ما يشاؤون.. ومن المعروف في حياة اليهود أنهم لا ينفقون درهماً واحداً إلاَّ إذا رأوا فيه تجارة رابحة، ولذلك، وبالدهاء والخبث أمكن لأحبارهم إقناع ذي نواس أن يدعو الناس إلى اعتناق اليهودية ولو بالقوة والبطش، وفي ظنهم أن ذلك يجعل لهم الحكم والسلطان في أنحاء البلاد التي يخضعها الملك الحميري لسيطرته، فيجنون من جرائه، بالإضافة إلى السلطة، الثروات الوافرة. وانصاع ذو نواس وأرسَلَ دُعاته إلى مختلف بقاع اليمن، وشبه جزيرة العرب حتى وصلت إلى أهل نجران - وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان - وكان هؤلاء قد اعتنقوا النصرانية على يد رجل يدعى قَيْمِيون، )جاء مهاجراً من بلاد الروم حتى استقرَّ بنجران)؛ ولم يقبل نصارى نجران بالتخلي عن دين السيد المسيح (عليه السلام)، الذي اعتنقوه عقيدة يؤمنون بها. وعادَ رُسُلُ ذي نواس خاوي الوفاض فثارت ثائرة أحبار اليهود، لأن مثل هذا الخبر، إن ذاع بين الناس، فلا بدَّ من أن يجعل جهودَهم تذهب أدراج الرياح، وتذهب جميع الخطط التي وضعوها لتحقيق مطامعهم. فراحوا يوغرون صدر ملكهم بالحقد على أهل نجران، ويدفعونه للانتقام منهم. وكان لهم ما أرادوا، إذ سرعان ما سار ذو نواس بجنوده إلى أهل نجران، يدعوهم إلى اليهودية، وإلاَّ فالقتل.. وقاموا يشهرون القتال في وجهه، إلا أنهم غلبوا على أمرهم، فقُتل من قُتل، ووقع في الأسر من وقع. وعلى خلاف ما يفعله قادة الحروب - عادة - في معاملة الأسرى، وعلى عكس ما تقره الشرائع السماوية والقوانين الوضعية من الرفق بالأسير، فإن الملك الحميري أبى على أولئك النصارى إلاَّ التخلي عن دينهم والدخول في دينه، أو إحراقهم بالنار.
ولكنْ أنَّى للنيران أن تثني ذوي الإيمان الصادق عن إيمانهم، وأنَّى للظلم مهما بلغت قسوته، أن يجعل الإنسان يتنازل عن عقيدةٍ قد ترسَّخت في نفسه، فكيف بالعقيدة الدينية السليمة.. وهذا ما يجهله ذو نواس، إذ من أين له أن يعلم، وهو الذي تسيِّره الأهواء اليهودية والمطامع الشهوانية، ويطغى عليه الجهل، بأن تاريخ أتباع الديانات السماوية، وتاريخ النصرانية بالذات، ولاسيما في أيام انتشارها الأولى، كان حافلاً بالمآسي من بطش الحكام وظلمهم، الذين ارتكبوا أفظع الجرائم وأعتاها بحق هؤلاء الأتباع، دون أن يستطيعوا تغيير ما في نفوسهم... بل ولم تكن جرائم القتل والتعذيب إلاَّ لتزيدهم إيماناً وثباتاً..
وسوف يأتي تاريخ الإسلام فيما بعد، ليكون شاهداً - بدوره - على الأحقاد التي ملأت نفوس قريش والمشركين على هذا الدين، وسجلًّا حافلاً بالعداوة التي انصبّت على محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وأتباعه ألواناً من الظلم والعذاب والأذى، من دون أن يغيّر ذلك شيئاً من الواقع.. فقد ظل المسلمون على إيمانهم بدينهم وبصدق نبيهم محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) حتى قُتل منهم من قتل، وهُجِّر من بلده من هجِّر، وشرِّد من دياره وممتلكاته من شرِّد.
هذه هي حال أهل الحق مع أهل الباطل: فإما الشهادة وهي الفوز برضوان الله تعالى وجنّته، وإما النصر على أعداء الله وأعداء دين الله (سبحانه وتعالى) وهو عزُّ الدنيا.
وهذا ما حَصَلَ مع أهل نجران، فإنهم لمّا تشبثوا بإيمانهم، وعقيدتهم النصرانية، حفر لهم ذو نواس أخدوداً - أي حفرة مستطيلة في الأرض - وأوقد فيه النار ثم ألقى بهم في أتونه، حتى قيل إن عدد القتلى، والذين حُرِّقوا بالنار بلغ عشرين ألفاً.
لقد كان نصارى نجران شهداء الدين، وشهداءَ الحق. وقد نزلت الآيات القرآنية تمجّد شهادتهم، وتمنحهم لقب «المؤمنين»، وهو أسمى وسام يشرّف به الإنسان المتديّن، فقال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ *النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ *إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ *وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ *وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [البُرُوج: 4-9].
ولقد أمكن لأحد أهل نجران، واسمه دوس ذو ثعلبان، أن يفرَّ خفية عن أعين أولئك الظالمين، وقدِّر له أن ينجو حتى أتى قيصر الروم جوستنيان - وهو على دين النصرانية - فأخبره بالحدث الرهيب الذي حلَّ بنصارى نجران. ولما كانت بلاد الروم بعيدة عن اليمن، فقد كتب القيصر إلى النجاشي عاهل الحبشة يحثه على قتال ملك اليمن، وإزاحته عن الحكم، انتقاماً لأبناء دينهما النصراني.
وجهَّز النجاشي جيشاً من سبعين ألف رجل، وجعل على رأسهم رجلاً اسمه أرياط، الذي اتخذ له قادةً أشداءَ كان أقواهم بأساً وشكيمة أبرهة الحبشي[*]، ونزل الجيش بساحل اليمن، ثم التقى بذي نواس ومن معه من قبائل اليمن، ودارت الدائرة على ذي نواس فقُتل، ودخل أرياطُ اليمنَ فحكمها.
وقام أرياط حاكماً على اليمن عدة سنين حتى نازعَهُ أبرهة الحبشي، إلاَّ أنَّه خوفاً من تفرّق الحبشة وهلاكهم في اليمن، فقد أرسل إلى أرياطَ أن يبارزه وجهاً لوجه، فأيُّهما أصابَ صاحبَهُ انصرف إليه جندُهُ. وأثناء المبارزة أرسل أرياط بحربةٍ حادةٍ علَّها تقتل عدوّه، إلاَّ أنها أصابت وجه أبرهة فشرمته، ولذلك سمّي أبرهة الأشرم.. وكان من ورائه غلام له يدعى عَتْوَدة، سرعان ما عاجل أرياطَ بطعنةٍ من الخلف فقتله، وبذلك تحقق النصر لأبرهة، فاجتمع عليه جيش الحبشة في اليمن.
وأمكن لأبرهة الأشرم أن يمالىء النجاشي ملك الحبشة، حتى رضيَ عنه، وثبّته على حكم اليمن.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢