نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الأول
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ١٥٦٨
تاريخ النشر : ٢٠٠٦

البحث الرابع: مَراحل الشَّباب والزّواج في حياة محمد (ص)
محمد الفتى
آلت كفالة محمد - إذن - إلى عمه أبي طالب، فاحتضنه هذا العمُّ بكل جوارحه: يؤثره بعطفه ومحبته، ويُدْنيهِ إليه، ويحرص على سلامته وراحته تماماً كما كان يفعل أبوه عبد المطلب من قبله..
وقد أخذ أبو طالب العهد على نفسه بأن ينشّىء ابن أخيه على السجايا الحميدة والصفات الفاضلة والتي تأتي مكمّلة لملكاته الفذّة، وعلامات نبوغه البارزة.. فراح يدرّبه على العمل مبتدئاً برعي الغنم لأهله، ليعتاد الاعتماد على النفس، وتتكون لديه القدرة على مواجهة الحياة بأعبائها، ولا سيما في الصحراء حيث شظف العيش، وقساوة الطبيعة على أشدّهما.. وكان الرعيُ عملاً عادياً لمن هم في مثل سن محمد، لأن الماشية كانت من وسائل العيش الرئيسية، ومصادر الرزق الهامة في شبه الجزيرة كلها، فكان محمد يقوم هو وأبناء عمه بالرعي، ومعاشرة أولئك الأتراب الذين لم توفر لهم ظروف الحياة سبُل اليُسر ورغد العيش.. ولم يتأفف محمد من هذا العمل، بل على العكس، وجد في الرعي، ورعاية الغنم - خاصة - ما يكسب الإنسانَ مشاعرَ الرقة، والحلم، والعطف على الضعفاء، وهو يقود هذا الحيوان الأعجم الضعيف إلى الكلأ والماء، ويردّ النافر منه إلى القطيع، فلا يكون شروده سبباً لهلاكه أو افتراسه من وحش عادٍ.. ثم إنَّ اجتماع الرعاة مع بعضهم، وهم في الغالب من أبناء الفقراء، وفيهم أيضاً العبيد والموالي، ومشاركتهم في الأكل والشرب، وتدبُّر أمور القطعان.. كل ذلك ينمي روح التعاون، وملامسة حاجات الفقير، والإحساس بآهات الضعيف، إلى غيرها من المشاعر الإنسانية النبيلة، التي لو تسنَّى - لمن يحفل بها في حياته، صغيراً كان أو كبيراً - أن يتسلم مقاليد الحكم، لجعل المساواة والعدالة، ورعاية المحتاجين، والنظر إلى شؤون الجماعة ومصالحها، من أولويات حكمه، والعمل على تحقيقها.. بل، ولعلَّ الأمة التي تنصبُّ اهتماماتها على مثل هذه القضايا، تكون جديرةً بتحمل جميع أعبائها ومسؤولياتها، وقادرةً على مواكبة الأمم الأخرى في تقدمها واستقرارها العام، مما قد يساعدها على النهوض والتقدم.. من هنا كانت حكمة الله البالغة التي جعلت النبيين والمرسلين جلَّهم رعاةً، أو عشراء لرعاة، فكان موسى وداود وشعيب (عليه السلام) رعاةَ ماشية، وكان أول الذين حدبوا على السيد المسيح (عليه السلام) واجتمعوا حول أمه في المغارة، وقت مولده، رعاة بيت لحم. وعلى غرار تلك الثلة الصالحة قضى تدبير الخالق الحكيم أن يمارس محمد تجربة الرعي، وهو ما يزال في بدء فتوّته، وإلى أن يبلغ الثانية عشرة من عمره.
ففي تلك السن أراد أن يعمل بالتجارة، ذلك أن الموسرين من أهل مكة، ومن قبيلة قريش بالذات، كانوا يزاولون التجارة بذهابهم في رحلتي الشتاء والصيف إلى بلاد اليمن والشام. وقد ساعدهم على ذلك ثلاثة عوامل: الموقعُ الجغرافي لمكة حيث كانت ممر القوافل التجارية، ووجودُ الكعبة الشريفة مقصد الحجيج من أنحاء شبه الجزيرة كلها، وإقامةُ الندوات وأسواق الشعر والخطابة حيث كانت تزدهر في تلك الأسواق تجارة البيان والبلاغة إلى جانب تجارة السلع والبضائع..
وكان محمد يرقب مجريات تلك الأمور، فأراد أن يعمل بالتجارة ليؤمن الكسب الحلال الوافر لهذا البيت الكريم الذي يحتضنه ويؤثره على أبنائه.. وقد وجد الفرصة سانحة عندما رأى عمه أبا طالب يتهيأ للخروج في تجارة له إلى الشام، فعرض عليه مرافقته في تلك الرحلة.
وتردَّد عمه في بادىء الأمر خوفاً عليه من التعب، ووعثاء السفر، وهو ما زال غضَّاً، طريَّ العود، وقد لا يستطيع تحمُّل المشاق والصعاب.. ولكنه وجَدَ عنده إرادة وعزماً قويين لمرافقته، فاستجاب لحماسته، ووافق على سفره معه، مؤثراً أن يكون ابن أخيه إلى جانبه، فيتمرّس بأعمال التجارة، ويتدرّب على معالجة المشاكل التي قد تصادف المسافرين، وخصوصاً إذا كان في السفر فوق مشاقّه، السهرُ على الأموال، وتوفيرُ روح التعاون بين الرجال.
وسارت القافلة في طريقها إلى بلاد الشام، وراحت تقطع البوادي والقفار، وحديثُ الركبِ الأقاصيصُ والروايات عن قوم عادٍ، وثمودَ، وقومِ لوط وأصحاب الأيكة.. وما يتداخلُ فيها من الكلام على شؤون التجارة، وأحوال رجال القافلة.. وغير ذلك مما يتسلّى به الركب، ويساعده على اجتياز المسافات الطويلة عندما يتعبون من الأهازيج، والحداء، ومبادلة الأشعار، وكل ما يمكن أن تجود به القرائح، قبل الوصول إلى بلاد الشام في بعدها عن مكة..
وكان محمد يستمع إلى كل ذلك، ويصغي بانتباه، فوق ما يجود به عمه أبو طالب لكي يُبعد عن نفسه السأم والضجر، ويخفف عنه شدة التعب، حتى بلغتِ القافلة بصرى من أرض الشام، فأناخت رحالها، وانصرف كل واحد إلى القيام بما عُهِدَ إليه من المهام التي ألفوها في تلك الرحلات..
وهنالك، وفي ظل شجرة كبيرة استلقى محمد، واضطجع عمه إلى جانبه يستريحان.. وكان غير بعيد عن تلك الشجرة صومعة أقيمت على الرابية من تلك الناحية التي تنيخ القوافل رحالها فيها.. وكان الرجال يعرفون راهب تلك الصومعة الذي يعيش للعبادة والتأمل، واغتراف ما في بطون الكتب التي يرونها عنده..، وقد توطّدت معرفتهم به نظراً لما كان يقدّم لهم من عونٍ، في بعض الأمور التي يحتاجون لها، كلما نزلوا بالقرب من صومعته.
ووقف الراهب، كعادته، يطل من نافذته على القافلة، فيشدّه دبيبُ هؤلاء الرجال وأصواتهم التي تتعالى وهم على نفس الانهماك والانشغال اللذين اعتادهما كلما أناخت القوافل بالقرب منه. واسترعى انتباهه، في وقفته تلك، هذا المشهد الذي يجذب إليه، رغماً عنه، كلَّ من يرى رجلاً مهيباً، تبدو عليه علائم النبل والشرف، ومسحة الجد والوقار، وقد استرخى إلى جانب فتًى كأنْ لا همَّ له إلاَّ حراسته، والاطمئنان إليه بقربه.. وسرعان ما أحسَّ الراهب بأن نفسه تلحُّ عليه في رؤية هذا الفتى، وقد ظهر له وكأن نوراً يشع من وجهه.. فبعث في دعوة أبي طالب وفتاه لزيارته.
ولم يتوانَ أبو طالب عن تلبية الدعوة، بعدما رأى ابن أخيه قد أخذ قسطاً وافراً من الراحة، فذهب إلى الصومعة، وجرى العناق بينه وبين الراهب بحيرا. ثم جلسا يتجاذبان أطراف الأحاديث كعادتهما، ولاسيما سؤال الراهب عن الأحوال في قلب شبه الجزيرة، وما يفعل اليهود هناك، وبخاصة في يثرب حيث صار لهم ذلك النفوذ القوي، الذي استطاعوا من خلاله استغلال كلِّ شيء من حولهم، يمكن أن يؤمن لهم مصالحهم، كما هو دأبُهُم في كل مكان يحلّون فيه!..
وكان الراهب بحيرا يعرف أن أبا طالب على الحنيفية الإبراهيمية، وأنه يؤمن بحقيقة وجود الله تعالى، وحكمته في خلائقه، وعظمته في جلاله وعزته، وذلك بخلاف العرب الذين يعبدون الأصنامَ ويتخذونها آلهةً لتقرّبهم إلى الله زلفى، وأن عبادتهم تخالف فطرة الإنسان، ومنطوق العقل. ولذلك كان الراهب يكبر أبا طالب كلما التقاه، ويزداد احترامه له وتقديره لصدق تفكيره كلما جلسَ إليه يحادثُهُ..
ويحاول الراهب بحيرا، بعدما جال في آفاق علمه، وما اطلع عليه من الإنجيل والتوراة - كما كان يتحدث به إلى أبي طالب - أن يصل إلى هدفه الذي يريد، فجعل اهتمامه ينصب في السؤال عن هذا الغلام الذي يرافقه في سفره.. فأخذ أبو طالب يعرّف عن ابن أخيه، وما يزدان به من خصال حميدة وصفات كريمة على الرغم من حداثة سنه، وما يمتاز به عن أترابه من المواهب التي أودعها الخالق العظيم في نفسه.. حتى إذا اكتملت لدى الراهب بعض المعلومات التي يريدها، مالَ إلى «محمد» يستحلفه - عن قصد - باللات والعزى - على عادة العرب في إيمانهم - أن يجيب، بلا أدنى حرج، عما قد يسأله عنه!..
وجاء جواب «محمد» القاطع وهو يردّ على هذا الراهب بألاَّ يسأله شيئاً باللات والعزّى، وأقسم بالله أنه ما أبغض شيئاً بُغضَه للأصنام، وعبادتها من قوم جاهلين!....
وطابت نفس الراهب بحيرا، وهو النصراني المؤمن، إلى ما أبداه هذا الفتى. فقد حلف بالله أنه يبغض الأصنام، وحَلِفُه دليل على فطرة سوية لم يخالطها شِرْك أو وثنيّة.
أجل لقد أنكر «محمد» على الراهب استحلافه له بأوثان جامدة لا تملك نفعاً ولا ضرّاً، بل واستحلفه بدوره بالله ألا يذكرها له، فازداد به إعجاباً.. فقال له:
- بالله ألا أخبرتني عما أسألك!.
فقال له محمد: الآن، سل عمَّا بدا لك..
وراح الراهب بحيرا يستوثق منه عن أمورٍ قد تكون مرَّت في حياته... وعمَّا كان يشعرُ به حيال تلك الأمور.. وماذا كان يفعل أثناءها!..فكان محمد يردُّ عليه بكل صدق وثقة، ودونما مواربة في جوابه أو كلامه، وكأنه شيخ مجرّب خَبَرتْه السنون، وصهرته الأيام، وليس فتىً في الثانية عشرة من عمره..
ورأى الراهبُ بحيرا - أخيراً - وبما انتهى إليه في ذلك اللقاء، بأن علامات النبي الذي سيبعث في آخر الزمان هي أكثر ما تنطبق على «محمد».. ولكنه لم يجرؤ على البوح بقناعته تلك علناً وصراحةً، لأن ذلك قد يشكل خطراً على الفتى، بل وعليه هو نفسه، من بني يهود الذين يعرفون العلامات التي وردت في كتبهم وتدلُّ على النبي المنتظر. فآثر أن يشير على أبي طالب ألاَّ يألو جهداً في رعاية ابن أخيه والحفاظ عليه، لأنه سيكون له شأن عظيم في مقبل أيامه.. ثم نصحَهُ أن يعود به إلى مكة لأن في عودته خيراً له من التجارة والأموال، وذلك عندما قال له: «فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهودَ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ ليَبْغُنَّهُ شرّاً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده»[*].
ونتساءل: ما الذي دفع الراهب بحيرا لأن يبدي تخوفه على هذا الغلام، ويجعله ينصح عمّه بأن يعيده إلى مكة يا ترى؟
إنَّ من الثابت في التوراة والإنجيل - قبل التحريف الذي أدخلته عليهما الإسرائيليات - أن نبياً يُبعث بعد عيسى ابن مريم (عليه السلام). فكانت صفات هذا النبي وعلاماته ومميزاته مما يجدونه مكتوباً عندهم في الكتابين المقدسين، ومما يعلمه الأحبار والرهبان - من اليهود والنصارى - فإذا اجتمع علم الكتاب وإيمان الإنسان - لصاحب كل ذي علمٍ - فإن هذا العالم المؤمن يهدي إلى الحقيقة الجليلة التي تنضح بالصدق، تماماً كما فعل العالم بحيرا، وهو يشير بأمارات النبوة وبالعلامات التي تدلُّ على أن هذا الفتى «محمد» هو الذي أعدَّه الله تعالى ليكون من أنبيائه المختارين بل وخاتم النبيين..
إذن، فالحدث الهام في لقاء الراهب بحيرا بالغلام العربي الهاشمي محمد بن عبد الله هو إيمان هذا الراهب النصراني بحقيقة النبوَّة المحمدية، عملاً بالبشارة التي أنزلت في الكتب السماوية. وأما الحكمة الإلهية من هذه البشارة، فتكون بالتأكيد على أن النصرانية هي التي تبشر بالإسلام، لأنهما - في الأصل - دين الله الواحد الأحد، الدين الحنيف الذي دعا إليه أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السلام)، وحمله المرسلون من الله (تعالى) إلى أهل الأرض .. فالنصرانية المؤمنة هي الأَوْلى بأن تبشّر بأحمد الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. ولذلك كان على أهل العلم من النصارى أن يكونوا أوْلَى الناس بمعرفة «محمد»، وبمعرفة الشأن العظيم الذي سيكون له في الناس، انطلاقاً من عقيدتهم الحقة.
أما ما قيل عن الغمامة التي توردها كتب السيرة، وأن الراهب بحيرا قد رآها وهي تظلل الشجرة التي يستلقي تحتها محمد، فإن المؤرخين المسلمين يجعلونها سبباً لدعوة الراهب بحيرا الفتى محمداً والتحدث إليه. وسواء أكانت الشجرة أم الغمامة، أم هما معاً، فإن ذلك يشير إلى الأمر الذي شاءه الله تعالى وهو أن تكون النصرانية هي المبشِّرة بالنبي محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، عملاً بما أُنزل في الإنجيل، وأن النصرانية والإسلام يجب أن يتلاقيا على هذه الحقيقة، بل وعلى كل الحقائق الأخرى المتعلقة بالإنسان والحياة والكون، لأنهما من الينبوع الواحد.
وسيَّان بعد ذلك إن صحَّت رواية الغمامة أو لم تصح، وسواء أكان القصد اعتبارها معجزة أم غير معجزة، فالحقائق الثابتة تبقى هي، هي.. رافقتها المعجزات أم لم ترافقها، وإن كانت المعجزات التي تحصل هي البراهين والشواهد على قدرة الله تعالى، وقد آتاها لأنبيائه ومرسَليه لتكون الدلالات على مكانتهم العظيمة، والبراهين التي يقدمونها للناس على صدق الدعوة التي يحملونها إليهم من رب العالمين..
ومعجزة الغمامة سواء حصلت أو لم تحصل - والله أعلم - ليست هي المعجزة الوحيدة في حياة محمد. فقد سبقتها البشارة به في التوراة والإنجيل.. وأما شأنه العظيم، فإن حياته كلها تتبدّى لكل منصفٍ أنها كانت ذات شأن عظيم، وبخاصة منذ بدء بعثه، ونزول الوحي عليه بهذا القرآن الذي يبقى معجزة الله الدائمة، الحية بين أيدي الناس وفي حياتهم، والتي ستبقى إلى حين قيام الساعة. فالقرآن حقيقة راهنة لا مجال لنكرانها. كما لا مجال للإنكار أن هذه المعجزة الحسية هي التي لا تزال تتحدى الثقلين، الإنس والجان، على أن يخرقوها، أو أن يأتوا بمثلها، وما يزال الثقلان عاجزين عن ذلك، وسيظلان عاجزين عن ذلك مصداقاً لقول الله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسرَاء: 88[.
أجل، إنَّ قدرة الله تعالى تتجلّى في إتيان المعجزات على أيدي النبيين والمرسلين، لتؤكد صدقهم، وصدق الدعوات التي يحملون، فيراها الناس بأم العين، ويؤمن من آمن عن بيِّنة ويكفر من كفر عن بينة.. وقد رأى الناس في زمان النبيين المعجزات التي أثبتت رِفعةَ شأن الذين أنزلت عليهم، ثم ذهبت وقائعها الحية مع الزمن، إلاَّ معجزة واحدة منها ظلت قائمةً كبرهان قاطع، ودليل حسّي ملموس، لأنها المعجزةُ الوحيدةُ التي شاءها الله تعالى أن تعيش في كل زمان، حتى تكون هي بذاتها، ووفقاً لما قضى به العزيز الحكيم، الحيّزَ الذي يحتضن بين دفّتيه الرسالةَ السماوية الأخيرة إلى العالمين، فلا تنقضي مدتُها في أي زمنٍ، ولا تتغيّر أو تتبدل على الإطلاق.. بل وشاء الله - سبحانه - أن تكون معجزة القرآن - التي نتحدث عنها - هي الحافظةَ لذكر غيرها من المعجزات التي رافقت حياة معظم النبيين والمرسلين، حتى يظل لتلك المعجزات شأنها العظيم، وتبقى هي المنارات التي من شأنها أن تنير ظلمات الكفر والإلحاد التي تلفّ الناس في ابتعادهم عن الله، ربِّهم وخالقهم، سبحانه وتعالى عمَّا يشركون. وهكذا حفل القرآن المبين بتلك المعجزات ومنها:
كانت معجزة أيوب (عليه السلام) بأنْ أحيا الله تعالى أولاده الذين ماتوا ثم رزقه مثلهم.
وكانت معجزة نوح (عليه السلام) بإغراقِ الأرضِ بالطوفان، ونجاةِ المؤمنين في السفينة التي أوحى إليه ربّهُ ببنائها.
وكانت معجزة موسى (عليه السلام) عندما ضرب البحر بعصاه فانفلق كالطود العظيم ليعبر منه بنو إسرائيل إلى برِّ الأمان من ظلم فرعون وجنوده الذين كانوا يلاحقونهم. ثم إغراق هؤلاء وهلاكهم على بكرة أبيهم.
وكانت معجزة مريم ابنة عمران (عليه السلام) عندما كان رزْقُها ينزل عليها من عند الله - تبارك وتعالى - وهي معتكفة في محرابها على العبادة، فكان إذا دخل عليها زكريا وجد عندها فاكهة الصيف أيام الشتاء، وفاكهة الشتاء وقت الصيف، فيسألها: أنَّى لك هذا يا مريم؟ فتقول: هو من عند الله.
وكانت معجزات عيسى ابن مريم (عليه السلام): بأن يكلم الناس في المهد صبياً، ويبرىء الأكْمهَ والأبرصَ، ويحيي الموتى بإذن الله تعالى.
وتلك وغيرها، مما لا يُعدُّ ولا يُحصى، كلها من صنع الله العلي القدير.. فليس المهم، بعد ذلك، أن تظلل الغمامة «محمداً» أو أن لا تظلله أية غمامة، ما دامت قدرة الله تعالى ترعاه، وعينه الساهرة تصنعه، وتعدّه للأمر الجلل. وهو ما أثبته التاريخ، وصدق به علم الراهب بحيرا، عندما بُعث محمد وصار له الشأن العظيم.
على كل حال، فقد كان ذلك اللقاء المبارك. وغادرت القافلة بُصرى من أرض حوران، حيث سارع أبو طالب إلى بيع تجارته، دون أن يتوغل في بلاد الشام خوفاً على ابن أخيه من بني يهود، وقفل راجعاً به إلى مكة - كما نصحه بذلك الراهب النصراني المخلص - غير عابىء بما أصاب من مال قليل في تلك الرحلة، ما دامت أموال الأرض كلها لا تعدل شعرة في رأس حبيبه محمد، وما دام يحافظ على العهد الذي قطعه لأبيه عبد المطلب في أن يكفل حفيده ويرعاه ويصونه، ويفي بما عاهَدَ عليه نفسه أمام ربه بأن يحميه حتى آخر رمق من حياته..
أجل بمثل هذه الروح العالية عاد أبو طالب إلى مكة، وقد بات محمد مدار اهتمامه، كما كان - دائماً - مثار عطفه وحبه. وكان محمد يرقب مدى هذه الرعاية الفياضة من عمه، ومقدار هذا الحنان الكبير الذي يغدقه عليه، فيحسّ بالاطمئنان والأمان في كنف هذا العم العظيم.. ولكن ليس أمان نفسه ما يهمه، بقدر ما يهتم لحياة عمّه، فكثرة عياله وقلة ماله كانت مما يقضُّ عليه مضاجعه فلا يجد معنًى للراحة، وهذا البيت الذي يُؤويه لا يتوفر له العيش الهانىء ولا يرفل بالبحبوحة واليسر. إنَّهُ يعلم بأنَّ الفقر يقهر عمّه، لأنه الجواد الكريم المضياف، بل والأكرم في قريش مكانة واحتراماً.. ولكنها ظروف الحياة التي لا تكون مؤاتية - في كثير من المجالات - لمثل هؤلاء الأشراف، الأباة، الأخيار أمثال عمّه!.. من أجل ذلك صار همُّ محمد اليومي البحث عن عمل أفضل من الرعي، لكي يوفر من المال ما يُذهِبُ عن عمّه بعضَ ضائقته، ويجعله يتغلب على تلك الظروف التي يعاني فيها العسر.
وكانت التجارة مقصده في تلك المرحلة من حياته. فاتصل ببعض تجار مكة، يعرض رغبته في العمل معهم، ولكن ليس لقاء أجر بل لقاء ربح يناله من عمله. ولم يشأ أن يعمل بالأجر، وبذلك هو لم يكن أجيراً لأحد قط[*].. فلقي الترحيب من أولئك التجار، وهو أمر طبيعي، لأن أهل مكة جميعهم، تجاراً وغير تجار، يعرفون محمد بن عبد الله الذي يمتاز بالصدق والأمانة، ويتحلّى بالخلق الحسن، والسلوك الطيب منذ حداثة سنه، ونضوج فتوته. أجل، راح محمد يعمل في التجارة داخل مكة، ولكن سرعان ما بدأت حقيقة التجار تتكشف له، إذ وجَدَ أكثرهم لا يقيمون وزناً إلا للأرباح وكسب الثروات، أما كيف يدخل المال عليهم، وبأية طريقة يعملون، فهذا لا اعتبار له في نظرهم. إنهم لا يأنفون من اللجوء إلى المضاربات، وإيقاع الخسائر الفادحة بالبسطاء منهم. ولا يتورعون عن احتكار السلع، ورفع الأسعار لسلب الناس مزيداً من أموالهم.. يتاجرون بلا وازع من ضمير، ويتحكمون في لقمة عيش المساكين، ويستغلون الفقراء بلا رادعٍ أو خوفٍ من حاكم، ما دامت تحميهم قوة الأموال ونفوذ العشيرة!...
وهذا هو حال بعض التجار في كل زمان ومكان، وليس في عهد مكة القديم. إذ إن أصحاب المشاريع الاقتصادية الكبرى، وأصحاب رؤوس الأموال - في أيامنا - هم الذين يؤثرون في تنصيب الحاكم، وصنع القرار، والتحكم بمصائر الشعوب. وكل ذلك تحت شعار الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي الذي يباح فيه لكل صاحب نفوذ أن يمتص دم الفقراء، ويستغل عرق المستضعفين، ليشبع نهمه من الثروات والجاه...
تلك الأوضاع التي كانت سائدة في مكة، والأساليب المخزية التي يمارسها التجار، قد أثارت سخط محمد واشمئزازه، لأن النفس الإنسانية الأبية ترفض كل ذلك وتعافُه. فمثل محمد لا يرى أن يكون التاجر إلا إنساناً قانعاً، عادلاً، رحوماً، يعامل الناس بالأمانة، ويجني الأرباح بالاعتدال.
ولقد أراد محمد التخلي عن المتاجرة، والعودة إلى رعي الغنم، إلا أن حاجة أحد تجار مكة، وهو السائب بن أبي السائب، إلى إنسان شريف وأمين، يساعده في تجارته الواسعة، قد دفعته لأن يعرض على محمد العمل معه.. وكان هذا التاجر شريفاً على خلاف غيره من تجار مكة. ووجَدَ فيه محمد الرجلَ الذي يمكن الوثوق به، بعدما تبين له أنه أقام تجارته على الاستقامة والقناعة، ولا يتلاعب بالكيل والميزان، ولا يستحلّ الطمع والغش، مثله في بيع المفرّق كمثله في الجملة، سواء بسواء في النزاهة والمعاملة.. فأعجبته تلك الخصال، وراح يعمل معه على النهج القويم في البيع والشراء.
ولم يكن اهتمام محمد منصباً على العمل والكسب وحدهما، بل كان يجد في نفسه توقاً دائماً إلى معرفة كل ما يدور في محيطه، وفي نوادي بني قومه. ولا يقل هذا التوق لديه عن حب معرفة ما في هذه الدنيا بأسرها، وما في هذه السماء التي تتطلع إليها الأبصار، دون أن تنفذ إلى أعماقها البصائر... كان إذا جاءت الأشهر الحرم يذهب مع أقاربه إلى الأسواق المجاورة لمكة بعكاظ ومجنَّة وذي المجاز، حيث تقام إلى جانب أسواق التجارة بالأموال أسواق الأدب، وندوات البلاغة والبيان.. فيشهد المباراة بين الشعراء، وإنشاد المعلقات، ويستمع إلى ما تحفل به من صناعة البيان في الفخر، والكرم، والغزل، وما تمتلىء به من التباهي بالأنساب والشجاعة والاعتزاز.. وكان يستمع إلى خطب الخطباء، وفيهم يهود ونصارى، حيث يفتخر هؤلاء بتعاليم موسى وعيسى (عليه السلام) على وثنية العرب، ويتباهَون بدين الله على عبادة الأصنام والأوثان، فيرى في آرائهم خيراً من المعتقدات الأخرى، وقرباً من الحقائق التي يستشعرها في نفسه.. ولكن ما كان يَعجَبُ منه، هذا الاختلاف بينهم، وإصرار كل طائفة على أنها وحدها على الحق، وما عداها على الباطل. فكان يقول في نفسه: إن كان هؤلاء من أهل الكتاب، فلِمَ إذن هذه العداوة والبغضاء؟! ولِمَ هذا الحسد والتعصب والحقد على بعضهم البعض؟! إنهم، وكما يظهرون للعيان، كأنهم أعداء أَلِدّاء، ولو أمكن لفئةٍ أن تقضي على الأخرى لما قصَّرت في ذلك، فهل هذا من الدين الذي يدعون إليه؟!... أبداً لا يمكن أن يكون ذلك صواباً منهم، أو يتوافق مع أديانهم!...
أجل كان محمد يسمع ويرى في تلك الندوات من الحوار والجدال والنقاش، ما يجعل الناس على مذاهب شتى، وعلى فرقةٍ في المعتقدات والدعوات، وعلى تشتت في الآراء والنزعات.. فكان يتفكّر في ذلك كله، ويزنه بميزان عقله وقلبه فلا يجد فيه الحقيقة التي تجمع الناس، وتؤلف فيما بينهم.. أو الحقيقة التي يمكن أن يتنسَّم طريقَها الصحيحَ من شاء الاهتداء إليها..
وكانت الأحوال التي يعيشها أبناء قومه هي أيضاً ما يشغل باله ويثير اهتمامه!.. كان ينظر إلى البيئة المكية فيجدها حبلى بالمتناقضات.. فقد كان في ذلك البلد، الذي يعد صورة جامعة لما عليه البوادي والحضر في شبه جزيرة العرب، عادات الجاهلية، وتقاليدها الفاسدة والسليمة على حدِّ سواء.. ففي مكة كان يعم الفساد والفسق، ويغلب النفاق والظلم. وجلُّ أهلها يتعاطون الموبقات، ويستسيغون المتَع والملذات عن طريق الإكراه أو الرضاء، ويحلون الربا والسلب. يكرهون البنات، اللواتي كان وأدهنّ أمراً مألوفاً. أما القبلية والعصبية فإن حياتهم تقوم عليهما. وليس ما يمنع من نصرة ابن العشيرة ولو كان ظالماً، وخذلان غيره ولو كان مظلوماً..
ولكن إلى جانب تلك المساوىء، كان لديهم خصال حميدة مثل الكرم، والشجاعة والإيثار، والصبر على المكاره، والثقة بالنفس، والاعتزاز بالنسب، والحفاظ على الشرف، وما إلى ذلك من المزايا الحميدة التي يتحلَّى بها العربي في بقاعه الصحراوية الجافة.. فكان أن تكونت لديهم حياة مجتمعية تشكل خليطاً من الأعراف الحسنة، والأعراف السيئة، يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، وترافق حياتهم جيلاً بعد جيل. ولكن طابع تلك الحياة الغالب، الذي يصطبغ بروح الصحراء، كان الانفلات من كل قيد، والانطلاق في غياهب جاهلية ظلماء، تحتاج إلى من يقودها إلى ضياء فجر جديد، ونور عهد وليد..
في تلك الأجواء عاش محمدٌ فتوته، فتفتحت مداركه على وعي كلّ ما يحيط به، وعلى التفكير بالغثّ والسمين منه.. مما عزَّز في نفسه البحث عن النواميس التي من شأنها أن تُصلح الحياة والناسَ!...
محمد الشاب
كانت عوامل التغيير قد بدأت تترسّخ في نفس محمد وهو ينتقل من مرحلة الفتوة إلى مرحلة الشباب. وكانت دوافع التغيير قوية وعديدة لديه، أقلُّها هذا السخط على عبادة الأوثان، وهذه الحسرة على ضلال الناس، وضياعهم في حمأة الفساد الذي عمَّ حياتهم، وطغى على أنماط العيش عندهم... وكان دأبُه التأمُّلَ والتفكّرَ، ينتظر هبوط الليل ليهجر فراشه، ويخرج إلى الفلاة، حيث يرتحل بعقله وحواسه ومشاعره إلى الخالق عسى أن يهديَه إلى الحقيقة التي ينشد.
وهنالك، وغير بعيد عن الكعبة، وقريباً من جبل عرفات، وفي جبل النور بالذات، كان يختلي محمد بنفسه، وهو وحيد تحت قبة الكون الواسعة، يمضي ساعات طويلة في جوف الليل البهيم، أو في ضوء القمر يتأمل في صفحات هذا الكون، وما ينطوي عليه من أبعاد وأسرار، ويتفكر في شأن هذه الخلائق ودقة صنعها، وانتظام سيرها، ويدقق في شؤون الناس، فيراهم بعيدين عن التبصّر بعظيم خلقهم، لا يحفلون بما حولهم من دلائل وبيّنات على قدرة الخالق العظيم، والمدبر الحكيم، الذي خلق هذا الكون، وخلق هذه الحياة، وخلق هذا الإنسان.
... فكل شيء في هذا الوجود لا بد له من خالق، وكل شيء في هذا الوجود يحتاج إلى قدير يرعى شؤونه، ويدبِّر أموره، وكل شيء في هذا الوجود يحتاج إلى حكيم يهديه، وكل شيء في هذا الوجود يحتاج إلى قوي عزيز مهيمن، يلجأ الخلق إليه في سرّائهم وضرّائهم.
إذن، فما هي تلك الأباطيل التي تقوم عليها حياة الناس في مكة، وفي جزيرة العرب، وهم يتخذون الأوثان والأصنام آلهة؟ وما هي تلك الحماقات في عبادة جمادٍ من حجر أو شجر، والإنسان قادر على أن يدمِّره أو أن يغيِّره بمعبودٍ آخر في كل حين؟!..
لا، ليست هذه هي الحقيقة!.
الحقيقة المطلقة هي حقيقة وجود الله تعالى، وهو رب السماوات والأرض.. والعرب يقرون بحقيقة وجود الله، إلاَّ أنهم يشركون بعبادته الآلهةَ المزعومةَ، ويجعلون له أنداداً بغير علم!.. إذن فهو الضلال عن الحقيقة المطلقة!
والحقيقة المطلقة هي ما كان محمد يريد الاهتداء إليه، فاستمر في حياته على التأمل والتفكير، فكان اليقين يزداد في نفسه يوماً بعد يوم بأن كلَّ شيءٍ باطلٌ ما خلا وجهَ الله الخالق العظيم.. ويترسَّخُ هذا الاعتقاد عنده إيماناً ثابتاً، ويقيناً قاطعاً.. وهذا ما كان يدفعه، ويشدّه إلى الخروج في جوف الليل، من أجل النجوى، وملاحظة هذا الوجود بأسره..
وأما في النهار فكان يعود إلى عمله اليومي، داخل مكة، في التجارة، دون أن يتخلّى عن مبدئه القاطع في توجيه الناس، وبث روح التوعية فيهم، لكي يتمكنوا من الانتقال إلى حالةٍ أفضل مما هم عليه، وذلك من خلال قناعته بالتغيير الذي ينشده، ولا سيّما أنه يعطيهم المثَلَ من نفسه، إذ هو - كما يعرفونه حق المعرفة - ليس لديه، قطعاً، أية نزعة أو رغبة لأن يجاري أبناء مجتمعه في صغائر الأمور التي ألِفوها، وفي أنماط العيش التي اعتادوها.. فهُم في غفلةٍ عن الغاية التي من أجلها خُلقوا، وفي بُعدٍ عن استعمال هذا العقل الذي أودعه الخالق في كيانهم، ليتخلوا عن الجهل والضلال، وسوء الفعال التي تحكَّمت فيهم، وجعلتهم ينقادون للعصبية، وللأهواء التي تنأى بهم عن القيم الرفيعة، والمثل العليا التي من شأنها أن تغيّر منهج تفكيرهم، وأن تقودهم إلى حياة أفضل وأسمى..
إنهم - إجمالاً - يحتاجون إلى هزة عنيفة، تعيدُهم إلى الوعي، فيدركون حقيقة وجودهم.
فما هو السبيل إلى ذلك؟!
هذا ما كان محمد يجهد في البحث عنه في خلواته في غار حراء وتأملاته في رحاب الكون، ويضني النفس في الاهتداء إليه..
أما المقاصد التي كان يرومها فهي كبيرة وبعيدة.. وما عليه في هذه المرحلة إلاَّ أن يثابر على جهوده في التوجيه الذي أخذه على نفسه، وبخاصة توجيه الشباب في مكة، الذين يكدحون في طلب لقمة العيش، ويجدّون في العمل والرعي لكسب قوتهم.. فهؤلاء الشباب هم أمل المستقبل، على سواعدهم تبنى المجتمعات، وبكفاحهم تنهض الأمم.. وإنَّ عليه أن يغرس في نفوسهم حُب الفضائل، والأخلاق القويمة، والتصرف بما يحفظ كرامتهم، ويوطد عزائمهم على العمل الجاد، النافع لهم ولأبناء قومهم.. لاسيما أنه قد جعل من نفسه مثالاً للشباب في النظر إلى الحياة بجديّة، والابتعاد عن كل ما يسيء إلى كرامة الإنسان ويحط من قدره وقيمته.
وإذا كانت كُتب السيرة قد أغفلت هذا الجانب الموجِّه في حياة محمد، وصرف اهتمامه إلى الشباب، من دون نسيان الكهول والعقلاء، فإنَّ حياته كلها، سواء في شبابه، وقبل البعثة أو بعدها، هي أكبر عنوان على أنه كان القدوة الصالحة في المجتمع المكي، كما يظل هو الأسوة الحسنة لكل من يطَّلع على دقائق سيرته، وتفاصيل حياته..
ولذلك فإنه، وهو في عزّ الصبا والشباب، كان إصلاح أحوال الناس ورعاية شؤون القوم من الاهتمامات الدائمة لديه. فإن وَجدَ هؤلاء القومَ على أمر جامع، ذهب إليه، وأدلى بما يراه صواباً، وينصح لهم بما ينفعهم، ويعود عليهم بالخير..
وكان موقفه منهم أشدّ في الكريهة[*] منه في غيرها، حتى يُبعد عنهم غلواءَ النفوس، وهياج العواطف وقِصَر النظر، ويمنع، بقدر ما يستوعبون، آراء التهور والتسرّع، التي تؤدي في معظم الأحيان إلى أذيتهم، وإلحاق الخسارة بهم، كما حصل في حرب الفجّار.
حرب الفجّار
وهي تلك الحرب الفاجرة التي دارت بين قيس عَيْلان من جهة، وبين قريش وكنانة من جهة أخرى، وكان مسبّبها البرّاض بن قيس الكناني. لقد كان شقياً، اعتدى على رجل من هذيل وقتله، فأخرجه حرب بن أمية من جواره، ففرَّ إلى ملك الحيرة النعمان بن منذر، فالتقى عنده عروة بن عتبة، من بني هوازن.
وكان ملك الحيرة يبعث كل عام بقافلة من الطيب إلى سوق عكاظ وغيرها من أسواق العرب لتبيع حِملها وتعود بما يحتاج إليه من الجلد والحبال وأنسجة اليمن المزركشة. وكان يعترض قوافلَه بلعاء بن قيس لأنه قد قتل أخاً له، مما جعل النعمان يبعث بقافلته بصحبة رجل من العرب حتى يجيرها ويبيعها له.. وبحكم وجود البرّاض الكناني عنده، فقد عرض عليه نفسه ليقود قافلته في حماية قبيلة كنانة. ومثله عروة الهوازني فقد عرض هو الآخر نفسه لقيادة تلك القافلة، على أن يتخطى بها إلى الحجاز طريق نجد.. فاختار ملك الحيرة عروة، مما جعل البرّاض يحقد عليه، ويلحق به فيغتاله.. فرأت في ذلك قيس عيلان سبباً للثأر لأحد أبنائها الذي قتله النعمان.
وقد هاجت حرب الفجار في شهر رجب، أحد الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم ورجب، عندما أتى الخبر إلى قريش، وهم في عكاظ، بأن هوازن وقيساً قد عزمتا على الثأر منها.
وكانت العرب تحرّم القتال في الأشهر الحرم، حتى يكون للناس الأمان في الحج إلى الكعبة، كما كانت تحرّم القتال عند البيت الحرام. فرأى أبو طالب أن يلجأوا إلى جوار الحرم حتى لا تُنتهك حرمة الأشهر الحرم، وقال: «هذا ظلم، وعدوان، وقطيعة رحم، واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره مع أحدٍ من أهلي»[*]. فقال عبد الله بن جدعان، وحرب بن أمية: «لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم»[*]، ولكن حرب بن أمية (أبا سفيان) - وخلافاً لما عزم عليه - عاد وحضر تلك الحرب، وكان هو قائد قريش وكنانة[*].
وكان المعتدون أسرع، فلم تدرك قريش الحرم لتلوذ فيه، فوقع القتال. وكان الظفر في أول النهار لقيسٍ على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس. ولكن قريشاً أبت إلاَّ أن تركن إلى البيت العتيق، فأنذرتهم قيس وهوازن باستئناف الحرب بعكاظ العام المقبل.
وقد امتدت تلك الحرب على مدى أربع سنوات. وخاف الشيوخ والعقلاء أن تحلَّ اللعنة على العرب بسبب تلك الحرب الفاجرة، فعُقد الصلح على حسب العُرف الجاري يومئذٍ، وهو أن يدفع من كانوا أقلَّ قتلى، دية العدد الزائد على قتلاهم من الفريق الآخر. وقد دفعت قريش دية أحد عشر قتيلاً.
وقعت حرب الفجار ومحمد على عتبة السادسة عشرة من عمره الشريف، لأنه كان قد أمضى أربع سنوات في الرعي والتجارة بعد سفره مع عمّه إلى الشام. وكان من الطبيعي أن يعيش أجواء تلك الحرب، فمقت فجورَها، وعابَ مَن أهاجها. وقد رأى فيها - كغيره ممن يعظمون حرمة الكعبة - حرباً فاجرةً تخزي وتجلب العار.. فهي إثم في مكانها لأنها انتهكت حرمة البيت الحرام، وهي إثم في زمانها لأنها انتهكت حرمة الأشهر الحرم، وهي إثم في فعلها لأنها قتلت الناس... فكان خليقاً به ألاَّ يشارك فيها لا من قريب، ولا من بعيد. ويؤكد ذلك أن عمه أبا طالب قد لعنها ومنع بني هاشم من الدخول فيها، فكان محتوماً أن يلعَنَها محمد كليّاً..
وكان محمد ما يزال على دأبه من الانصراف للتأمل والتفكير - كما رأينا - ليهتدي إلى المنهج الذي يبدأ به التغيير في مجتمعه. وهذا التوجه من شأنه أن ينأى بصاحبه عن أمور الدنيا العادية، وأن يرتفع به عن المشاغل الروتينية التي تهم الناس وتجعل الحياة وكأنها رتيبة، وعلى وتيرة واحدة.. لقد كان يتوق إلى تغيير الأوضاع، مثل توقه إلى الكمال، ولذلك لعن حرب الفجّار وأنكر على المشاركين فيها فِعالَهم، وكيف لا، ونحن قد عرفنا بأن الله تعالى يوجّهه، ويرعى خطاه، ليُعدَّه لليوم العظيم، ويكون صاحب الشأن العظيم كما كتب في اللوح المحفوظ. وإذا كان بعض كتّاب السيرة يوردون أنه شارك في تلك الحرب، بصورة أو بأخرى، وأنه هو بعد بعثه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) كان يذكر - متأسفاً - مشاركته فيها، فالحقيقة أن ذلك كله محض إدخال على سيرة محمد، أو محض تخيُّل من أصحاب تلك السير. لقد أبوا إلاَّ أن يشارك محمد في حرب الفجار لأنه في عز الشباب، فتأبى عليه شجاعته، ويأبى عليه إقدامه إلاَّ أن يحضر أيام تلك الحرب كما يتوهمون!..
والعجب!.. كيف تتحدث كتب السيرة تلك، عن خُلُق محمد العظيم، وعن حفاظه على سمعته وكرامته وهو في ريعان الشباب، فلا يقرب شيئاً - مثل رفاقه في مكة - من المتع واللذائذ... ثم يقولون: إنه شارك في حرب الفجار؟! إنه إقحام في غير محله، وهو باطل عند رب العالمين...
ولم تكن حرب الفجار لتستغرق إلاَّ أياماً من كل عام، يعود بعدها الناس، وأهل الحرب أنفسهم إلى ممارسة الحياة، ومزاولة الأعمال كالمعتاد، فكانت مكة تستعيد نشاطها التجاري وحيويتها في استقبال القوافل، ورحيلها عن أرضها إلى أن جاء الوقت الذي انتهت فيه تلك الحرب اللعينة، إلاَّ أنها خلفت في نفس محمد أكبر الأثر: فقد كرهها، ومقتها في أيامها ودهمائها في انتهاك حرمة الكعبة، وحرمة الأشهر الحرم.. وشأنهما كبير عند الله تعالى، وعند عباده من ذوي النفوس الصافية. وقد ظهر دور محمد بارزاً في وقف تلك الحرب، والعمل على تهدئة النفوس، حتى يتحقق الصلح بين المتقاتلين - كما حصل ـ. وذلك بما ينسجم مع طبعه الإنساني، وتطلعاته إلى مناخ جديد، ووضع مختلف عما هو سائد في بيئته. وكان محمد قد بلغ بداية العشرين من عمره، عندما دعاه واجبه الأخلاقي والإنساني ليكون عنصراً فاعلاً في وقف تلك الحرب فأكبرَ قومُه فيه رجاحة عقله، وسداد رأيه، وازدادوا له حباً وتقديراً.
حلف الفضول
انتهت حرب الفجار، واطمأنَّ الناسُ إلى أجواء مكة، ومعاودة مزاولة تجاراتهم فيها.. فجاء رجل من زبيد ببضاعة له، فاشتراها منه العاص بن وائل من دون أن يدفع له ثمنها. فلجأ الزبيدي إلى الأحلاف (عبد الدار، ومخزوم، وجمح، وسهم، وعدي بن كعب) يستجيرهم في حقه، فأبوا أن يعينوه على العاص نظراً لمكانته بين أطراف هذا الحلف.. بل وانتهروا رجل زبيد وهدَّدوه بالويل ينزل عليه إن أصرَّ على المطالبة بما يدّعيه!.
ولكنَّ الرجلَ سكت على مضـض وانتظر طلوع الشمس من صباح اليوم التالي، فصعد على جبل أبي قبيس، والناس مجتمعة حول الكعبة، وراح ينادي بأعلى صوته، مستصرخاً قريشاً أن ترفع الظلم عنه..
وثارت الحمية في نفوس الأباة من قريش: فلا يجوز أن تسلب الأموال بجوار بيت الله الحرام، ولا أن تضيع الحقوق في كنفه. فهب الزبير بن عبد المطلب ودعا إلى نصرة الرجل، فاجتمع بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة[*]، في دار عبد الله بن جدعان، فأولَمَ لهم، وغمسوا أيديهم في ماء زمزم، وتحالفوا وتعاهدوا أن يكونوا على الظالم حتى يرتدَّ عن ظلمه، ومع المظلوم حتى يُردَّ إليه حقه، فسمَّت العرب ذلك الحلف «حلف الفضول»، لدخول أصحابه في فضائل الأمور.
وذهب أصحاب الفضول إلى العاص بن وائل، فخاف، وأعاد للزبيدي بضاعته. وبذلك قال الزبير بن عبد المطلب معتزّاً:
إنَّ الفُضولَ تَعَاقَدوا وتَحَالَفوا
ألاَّ يُقيمَ بِبَطْن مكَّةَ ظالِمُ
أمرٌ عليه تَعَاقدوا وتوافقوا
فالجارُ والمعتَرُّ[*] فيهِمْ سالِمُ
وقد حضر محمد حلْفَ الفضول، ودعا إليه، وشارك في عقده، لأنه الأبيُّ الذي يكره الظلم، وينصر المظلوم، فكان محبباً إليه، وظل يذكره بعد بعثته (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) فيقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلفاً ما أحبّ أن لي به حُمر النَّعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت»[*].
ومن مآثر الفضول أيضاً أنه كان للمتعاقدين نفس الموقف مع رجل من خثعم، فقد قدم ذاك الرجل مكة ومعه ابنته، وهي فتاة رائعة الجمال فرآها نبيه بن الحجاج، فخطفها وغاب بها...
ونادى أبوها: من يعينني على هذا الرجل؟ فأشاروا عليه بأصحاب الفضول.
ولبّى هؤلاء نداء الاستغاثة، ووقفوا على باب دارة ابن الحجاج مشرعي السيوف، فنزل صاغراً على أمرهم، وأعاد الفتاة إلى أبيها من دون أن يمسها بسوء..
ورأى أصحاب الفضول في حلفهم الجامع أنه أعاد لقريش هيبتها، ولمكة مكانتها، بعد أن خبا وَهْجُ تلك المكانة بموت هاشم وعبد المطلب. فتفرقت بعدهما الكلمة، ورغب كل قبيل أن يكون صاحب الشأن والنفوذ، مما أضعف هيبة قريش، وأطمع العرب فيها، بعد أن كانت منيعةً، عزيزة الجانب، بعيدة عن أن يطمع فيها طامع، فجاء الفضول وردَّ لها ذلك الاعتبار.
مقدمات الزواج
وتتوالى الأيام، وقَدَرُ محمدٍ ينقله - بإذن الله - من حدث إلى حدث.. فيشارك في الحياة العامة، ويعيش مع الناس بأفراحهم وأتراحهم، ويقف معهم في معالجة قضاياهم وشؤونهم، بما يوثّق عُرى التعاون والتضامن، ويشدُّ من أواصر الألفة والمحبة بينهم، فكان - فعلاً - الصادقَ الأمينَ في كل قولٍ أو فعلٍ، لا تزيده الأحداثُ والسنون إلاَّ ثقةً بالنفس، ومرورُ السنين إلاَّ تمرُّساً بأعمال الخير، وتعلُّقاً بأهداب الفضيلة.. ولذلك نجده وقد بلغ من العمر الخامسة والعشرين، قد حبس نفسه عن الزواج، ولا همَّ له إلاَّ التفكير بشؤون الأقربين، والناس أجمعين، والعمل على الإصلاح في مختلف المجالات.. وكلها أمور جلَلٌ كانت تأخذ عليه مجامع نفسه، وتستغرق وقته..
لقد آثر محمد أن يعيش حياتَهُ بنقاء، وطهر، وصفاء، بعيداً عن هموم الجسد ومتاع الدنيا وزخرفها.. وكل ذلك عن قناعة ورضى، لأنه لو فكّر في الزواج ورغب فيه لكان خطب أكرم فتاة في قريش، وتزوج أرفعَ بنات العرب حسباً ونسباً، وأغناهنَّ جمالاً ومالاً.. ولكنَّ التماسه الخير العام، والنفع العام، وتطلعه إلى عظائم الأمور كانت أهمّ من حاجاته الجسدية، بل وجعل لها الأولوية في حياته على ما عداها...
وكان أبو طالب ينظر إلى ابن أخيه، وقد بلغ ريعان الشباب، وعزَّ الفتوة في تلك السن، فيتفكّر في أمره، وفي عزوفه عن الزواج، فيتساءل: هل إن فقر محمد وقلة موارده هما عائقه عن الزواج؟ مع كونهما - على حد علمه - مصدر غنًى لنفسه، ولا يمكن أن يشكّلا حائلاً له دون هذا الأمر أو غيره.. أم أنه نسيجٌ فريدٌ في تفكيره لا تلحُّ عليه متطلبات الحياة المادية، فيسلوها، ويكتفي بما يكسب من الرزق الحلال ليعينه به على حاجات عياله؟!
ويرى أبو طالب أنه مهما كانت الدوافع لدى ابن أخيه، فلا يجوز أن تصرفه عن الزواج، والتطلع إلى حياة اجتماعية من شأنها أن تخفف من ثقل همومه الفكرية والنفسية.. وبمثل هذا التوجّه، ولمَّا علم بأن خديجة بنت خويلد تجهز قافلة لتسير بتجارتها إلى الشام، بادر بعرض الأمر على ابن أخيه، للخروج بتلك القافلة، لعلَّ في ذلك ما يفتح له أبواب الرزق على مصاريعها، ويهيّىء له سُبلاً جديدة في الحياة عسى أن تنقلَهُ إلى وضع جديدٍ فيه الخير والفلاح! فقبل محمد مبادرة عمه، وترك له أن يتدبَّر الأمر مع صاحبة القافلة..
وكانت خديجة بنت خويلد قد تزوجت رجلاً مات عنها، فعادت وتزوجت، من بعده، برجل من بني مخزوم، ذي ثروة طائلة، ولحكمة شاءَها الله - تعالى - توفي هو الآخر، فورثت عنه مالاً كثيراً، راحت تستثمره في التجارة، حتى صارت القوافل التي تسيّرها تُعتبر من كبريات عيرِ قريشٍ كلها، وقد تفوقها أحياناً كثيرة... وقد دأبت خديجة على استئجار الرجال للعمل بتجارتها، أو إدخالهم فيها على سبيل المضاربة، فمن رضي بالأجر استأجرته، ومن أرادَ المضاربة أعطته المال مقابل جزء من الأرباح التي يحصّلها، على أن تتحمل وحدها الخسائر المالية - في حال حصولها - بينما يخسر المضارب جهوده.. وكانت على قدر كبير من الدراية والحكمة، فما سيّرت قافلة إلى اليمن أو الشام، إلاَّ وبعثت معها موالي لها، أو من تثق به من الرجال حتى يكون عينَها الساهرة على تجارتها. وليس ذلك إلاَّ من قبيل الزيادة في الحرص، لئلا يضيع المالُ، بسبب تهوّر بعض التجار، أو سوء النية لدى من تسوِّلُ لهم أنفسهم الغشَّ أو الاحتيال..
ودخل أبو طالب على خديجة يعرض عليها أن يخرج ابن أخيه محمد في قافلتها إلى الشام، لأن متاجرته في مكة لا ترضيه، لاسيما أنه قد عافت نفسه تجار مكة ومطامعهم، فلعلَّ في ذهابه بتلك القافلة ما يغنيه عن أعباءَ كثيرةٍ تثقل على نفسه!...
وكانت خديجة تصغي بغبطة وارتياح، فلما أكمل أبو طالب حديثه، قالت له:
- أهلاً بك يا كريم القوم، ومرحباً بابن أخيك في تجارتنا. فوالذي نفس خديجة بيده لأنا الخاسرة إن رددت هذا الطلب. فما محمد إلاّ الأمين، وإنه ليؤتمن على الأنفس، فكيف على الأموال؟
قال أبو طالب:
- ولكن أليس العقد والاتفاق والشرط بأولى، فإما أن تقرضيه مالاً فيكون مضارباً، وإما أن تجعليه شريكاً في تجارتك هذه؟[*].
فقالت خديجة:
- يا أبا طالب لو سألت ذلك لبعيدٍ بغيضٍ فعلنا، فكيف وقد سألتَه لحبيب قريب؟[*] يا أبا طالب لك أن تختار له ما تشاء.
قال أبو طالب: با ابن أخي، انطلق على بركة الله.
وانطلق محمد بالقافلة، ومعه ميسرة مولى خديجة، وقد أوصته بأن يقوم على خدمته، وأن يساعده في كل أمر يحتاج له.. ومرَّت تلك القافلة بالأماكن نفسها التي عرفها يوم أن جاء مع عمه أبي طالب منذ ثلاث عشرة سنة خلت. وكان طوال الطريق يستعيد تلك الذكريات التي غبرت، حتى بلغت القافلة بُصرى، فحطَّت رحالها هناك، لأنها كانت واحة القوافل التجارية الآتية من صحراء العرب إلى بلاد الشام. وأراد محمد أن يأخذ قسطاً من الراحة فقصد الشجرة الوارفة إياها، وقرب الصومعة نفسها، حتى يستظل هناك، تماماً كما فعل من قبْل. ويلتقي هذه المرة براهب نسطوري كان في تلك الصومعة، فيجالسه، ويحادثه، ويحاوره بما عنده من علم الكتاب... والراهب يعجبُ به، ويُكبِرُ فيه خُلُقه، ورصانته، وعمق تفكيره حتى غادرت القافلة وهو يدعو له بالتوفيق، ويوصيه بالحذر، والتيقُّظ في كل ما يفعل وأينما يذهب.. وكان ميسرة يسمع ما يدور بين محمد والراهب النسطوري، وما يبديه هذا الراهب من اهتمام بالاستفسار عن حياة محمد، فيعجب لمدحه صفاته ولقوله له بأنه سيكون له شأن عظيم.. فيزيده ذلك تعلقاً به، وإخلاصاً له..
وباع محمد في بلاد الشام تجارته، واشترى ما رغبت به خديجة من بضاعة، محققاً بذلك أرباحاً طائلة فاقت - كما كان يقول ميسرة - أضعاف الأرباح التي كانت تجنيها أية قافلة أخرى لخديجة بنت خويلد. وبهذا النجاح والتوفيق عاد بقافلته، وقد ملأ الفرح قلوب رجالها، فجادت القرائح بالأخبار والروايات، وصدحت الحناجر بالأناشيد والأراجيز طوال الطريق، حتى وصلوا مشارف الديار، وهم في شوق إلى الأهل والعيال..
ودخلت القافلة مكة وقت الظهيرة، وكانت أخبارها قد تناهت إلى خديجة، فخرجت إلى علِّية دارتها، تتأمل مشهد الإبل وهي تقبل نحوها، وقد أثقلت خطاها الأحمالُ فوق ظهورها، وطول المسافات التي قطعتها، فتسرُّ بهذه النعمة التي أفاضها الله عليها، وتمجِّد ربَّ الكعبة، التي بفضل بركتها، قد وصلت إلى ما وصلت إليه من غنًى وجاهٍ. وكانت عيناها لا تحيدان عن محمد وراحلته تتهادى به في مقدمة القافلة، وبدون أن تدري وجدت نفسها تندفع إلى فِناء الدار لاستقباله، وقد لوَّحت حرارة الشمس لون وجهه الجذّاب، من غير أن تؤثر على ما يعتمر به من قوة، ومن ثقةٍ تتبدى على ثغره الباسم. وكأنما هيبته قد عقلت لسانها ومنعت عنها النطق، فلم تزد على أن ترحب به قائلة: «حمداً لله على سلامتك يا محمد»، فردّ عليها التحية بابتسامة عريضة انفرجت عن فمٍ ذي أسنان مفلّجة[*] كأنها حبات اللؤلؤ الفاخر في العِقد الثمين..
ولم تدَعْ خديجةُ الدهشةَ تغلبها، فوقفت تتأمله وكأنها تراه لأول مرة، فإذا بها أمام شاب يتّسم بقامةٍ معتدلة، لا بالقصير اللاصق، ولا بالطويل الشامخ، عريض الصدر، بعيدٍ ما بين المنكبين، قويِّ الزندين، رحْب الراحة، ممتدّ الأطراف، في جسمه صلابة الرجل العربي، الذي عالجته قساوة الصحراء ومنحته القوة والبأس.
كانت المرأة تتأمَّلُ هذا الخَلْق السوي، فتقول في نفسها: «سبحان رب الكعبة ما أجمل هذه الملامح، وما أنقى هذه القسمات»، فقد حباهُ خالقه بما يزيد في روعة خَلْقه: فهو أدعج[*] العينين، أزجّ[*] الحاجبين، يتناسق ذلك كلُّه مع أنفه الأقنى[*]، وخدّه الأسيل[*]، ويتآلف مع جبينه الواسع، وعنقه المتين.. وتعاودُ خديجة تمجيدَ الخالق - بينها وبين نفسها - على ما ترى من جميل خلقه في محمد، ثم لا تلبث أن تدعوه للدخول، فيتقدم أمامها بخطى وئيدة، رافعاً قدميه عن الأرض رفعاً سوياً كأنه يقتلعهما اقتلاعاً. فترقب سيره بانتظام، غير متخايل ولا متمايل، بل يجلله الوقار من رأسه إلى أخمص قدميه..
ويجلس محمد - كعادته - متجملاً بأدب الرجل الكامل واحتشامه، فكأنما لا وعَثَ[*] ولا سفر، اللهمّ إلا تأخير لباس رأسه قليلاً فوق شعره الكثيف الأسود، وهذا العرق الذي يغطي جبينه وينساب على صفحة وجهه كحبات الندى الصافي، فتنبعثُ منه رائحة الطيب والمسك - كما تشمُّ خديجة - وهي تقدم له شراباً يبرِّد غلّته.
وراح محمد يخبرها عما جرى معه في رحلته، وما أصاب من أرباح، وما حَمَل من سلعٍ ومتاعٍ حتى انتهى من مجمل التفصيلات التي تعنيها معرفتها..فلما همَّ بالذهاب، قامت تودعه على اليُمن والبركة وملء جوانحها الشوق لمعاودة رؤيته...
وطلبت خديجة على عجَلٍ مولاها ميسرة، ليخبرها بأدقِّ التفاصيل عن كل ما سمع ورأى في مرافقته محمداً أثناء سفره إلى الشام، فقال ميسرة:
- مولاتي، إن الحديث يطول كثيراً، وقد يستغرق أياماً عديدة، ولكن ما أستطيع قوله هو أنَّ محمداً إنسان عظيم، فما رأيت في حياتي قطُّ مثيلاً له: في صدقه، وأمانته، وحسن معشره، ومعاملته، وفي رقة حديثه، وقوة بأسه، وصلابة رأيه.. إنسان متواضعٌ، جُلُّ نظره إلى الأرض لشدة تواضعه، يسبق من يلقاه بالتحية، ويبادر أصحابه بالمصافحة.. دائم التفكير، طويل السكوت، وكأن شيئاً عظيماً يكمن في أعماق نفسه، لا يتكلم في غير حاجة، وإن تحدّث فإنه يتكلم بجوامع الكَلِم، وبلهجة الصادق، الواثق. وإن خلُقه لدمث، وإنه لأجود الناس كفّاً وأجرؤهم قلباً، وأوسعهم صدراً. بل إنه يا سيدتي أوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرةً. من رآه هابَهُ لشدة وقاره وجلالهِ. يتصرف بالعزم والحزم، ويأخذ كلّ أمرٍ بجديّة.. لا يخالطه أحدٌ إلاَّ وأحبَّهُ، وتمنَّى دائماً أن يكون إلى قربه، لما يجد فيه من عطف، وكثرة جود، وميل إلى مساعدته.
لله يا سيدتي هذه الرحلة الكريمة التي حظيتُ خلالها بمرافقة هذا الرجل العظيم! إنكِ لتَرينه دائماً ليس بالجافي ولا المهين.. لا يحفل بالدنيا وما فيها عندما يخلو إلى ذاته، متأمّلاً، متفكراً، وناظراً إلى السماء كأنما يريدها أن تتكشف له عن أسرارها.. أما رعايته للقافلة ورجالها فإنه لشد ما يحرص على الرزق، ويعظّم النعمة. كان يوجِّه الرجال دائماً بالنصح وبالحزم، لا يراعي أحداً إلا في الحق، فلا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا رضي غضَّ طرفه خشوعاً كأنما يعتذر من خالقه. لا يتحدث إلا بهدوء وروية، وقد يضرب بإبهامه اليسرى باطن راحته اليمنى. وإذا أشار فبكفه كلها، وإذا تعجَّب قلَّب كفَّه بحركة جامعة، معبرة.
فهذه صفات محمد يا سيدتي، التي رأيته عليها وقد أكون قصّرت في تبيانها أو في التعبير عنها.
وسكت ميسرة، فقالت له خديجة:
وماذا بعدُ يا ميسرة، قُلْ، قُلْ، ولا تسكت.. لأني أريد أن أعرف من أخبار محمدٍ الشيء الكثير..
قال ميسرة:
- أمهليني يا سيدتي لأرتاح قليلاً، فلا وكرامتك لن أنسى لقاءَهُ مع ذلك الراهب النسطوري في بصرى!..
قالت: عجّل، وهاتِ ما عندك!
قال: وصلنا إلى بُصرى من ناحية حوران، وبعد أن أناخت القافلة وانصرف رجالها، كلٌّ إلى شأنه، مالَ محمدٌ يستظل تحت شجرة كبيرة، بالقرب من صومعة للرهبان. وإن هي إلاَّ فترة وجيزة، حتى رأيت راهباً ينزل من الصومعة، علمت فيما بعد أن اسمه نسطورا[*]، أو هو راهب نسطوري.. لا أدري، فالمهم أنني لا أعرف ما دفع هذا الراهبَ لأن يأتيه، فيجلس إليه، ويحادثه طويلاً بما عنده من علم الكتاب، حتى أيقنت - وبعد أن استمعت إلى حديثهما ساعات عديدة - أن محمداً، الذي أقوم على خدمته، رجل ذو شأنٍ عظيمٍ. فما كان الراهب يُبديه له من التقدير والاحترام، وما كان يخبره به عن عداوة اليهود لنبيٍّ سوف يبعثه الله في آخر الزمان، كل ذلك وغيره جعلني يا سيدتي أوقن بأن محمد بن عبد الله رجلٌ لا كالرجال، وإنسانٌ غير سائر الناس، فهو إنسانٌ مميزٌ ليس في صفاته وحسب، بل وفي كل شيء.. وأعتقد أن ذلك الراهب قد استشفَّ فيه، وهو يراقبه، سرّاً جعله ينزل إليه، ويحدِّثه بمثل ذلك الاهتمام الشديد..
وظل ميسرة يتحدث إلى سيدته، وهي تستمع إليه بكل رغبةٍ وإلحاح في معرفة كل ما وقف عليه في تلك الرحلة، حتى انقضت ساعات فقامت خديجة، ولديها يقين قاطعٌ بأنَّ محمد بن عبد الله ليس خير رجال قريش وحسب، بل هو أجلّ وأشرف قدراً من أي إنسان عرفتْه، أو قد تعرفُه في قريشٍ، وفي العرب جميعاً.
وخلت خديجة تلك الليلة إلى نفسها فرأت «أنها أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهنَّ شرفاً، وأكثرهن مالاً، وأحسنهن جمالاً. وخيرة شباب قومها كان حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه»[*] فقد خطبها عظماء قريش، وبذلوا لها الأموال، أمثال: عقبة بن أبي معيط، والصلت بن أبي يهاب، وهشام بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب[*]، فرفضتهم جميعاً. وقد آلت على نفسها عدم الزواج إذ كانت قد تزوجت أول مرة من أبي هالة النباش بن زرارة التميمي فمات عنها، ثم عادت وتزوجت عتيق بن عابد المخزومي[*] الذي لم يلبث أن مات هو الآخر، فعاشت وحيدة، قانعةً بما كان نصيبها من الزواج، ومسرّية عن نفسها بأعمالها التجارية..
في بضع ساعاتٍ، استعادت خديجة بنت خويلد كل ما جرى لها خلال الثماني والعشرين سنة[*] التي انقضت من عمرها، حتى انتهى بها الحال إلى هذه الليلة، فإذا بها تجفل من الشعور برهبة الوحدة، وتلحّ عليها الحاجة إلى من ينتشلها من حياة جوفاء لا أنيس فيها، ولا عشير عمر يملأ عليها حياتها ويشعرها بقيمة وجودها.. وبحسِّ المرأة التي يدغدغها الأمل بحياة جديدة تحمل في طياتها الرجاء والطمأنينة، قامت خديجة إلى المرآة، ولكنها وهي تنظر إلى جمال وجهها، تقطع بالرأي أن الجمال وإن كان محبباً في المرأة، إلاَّ أنه باهت إن لم يقترن بنبل الصفات ودماثة الخلق، فالجمال الحق هو جمال الأخلاق، ويأتي بعده أي جمال آخر.
وتستمرىء خديجة تلك المحاورة مع نفسها، لأنها تصل تفكيرَها بهذا الشاب الذي انجذبت إليه، والذي هو محمودٌ بصفاته في بني قومه، كما هو «محمد» في مجمل حياته..
إنها صادقة مع نفسها وهي تواجه حقيقة مشاعرها.. فقد أحبت محمد بن عبد الله، وما في الحب الصادق الطاهر ما يمسّ كرامة الإنسان، بل على العكس هو قوام هام في الحياة لبني البشر، وناموس من النواميس التي أنشأها الخالق العظيم من عليائه ونشرها أشعة تربط بين القلوب المتحابّة، وتشد المحبين إلى بعضهم بعضاً.. فكان على الإنسان من ذكر وأنثى، أن يجعل لمثل هذا الحب الصادق الشريف مكاناً في قلبه، فإن فرغ قلبُه، وخلا وجدانُهُ من هذا الشعور عاش حياةً أقربَ إلى الخواء والوحشة منها إلى الطمأنينة والأنس.. إن بذرة الحب مزروعة في قلب كل إنسان، فإن تعهدها بمكنوناتها، اندفقت لتكون الكلمة التي يعبّر فيها عن عاطفته، والشعور الذي يحنو به على غيره، والإخلاص الذي تزدان به حياته.. فكلمة الحب التي كوَّن الله - تعالى - معطياتها وأدواتها، كانت من أجمل ما خَلَقَ - سبحانه - للإنسان: فهي شعور يتدفق، وبصر يلمع، وبصيرة تشع، وأذن تطرب، وقلب يطمئن..
وبكلمة الحب، وبالحب، تعارف الناس وتكاثروا. وبتأثيره عمروا الأرض وتعاقبوا. ولذا أراده الخالق العظيم صلة دائمة بين مخلوقاته، وصلةً سنيّة لعبادته، فجاء في الحديث القدسي: «وجبت محبتي للمتحابين فيَّ». وقال الرسول الأعظم: «اللهم اجعل حبَّك أحبَ إليَّ من نفسي وأهلي». وقال (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : «من أحبَّ لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان». ولو لم يكن محمد بن عبد الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أحبَّ الخلق إلى الله سبحانه وتعالى لما أوجب محبَّته علينا جميعاً، بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عِمرَان: 31] وحديثه القدسي تبارك وتعالى: «قل لصفوة خلقي وخلفائي في أرضي، عليهم أن يقتفوا أثرك، ويقتدوا بك، حتى يبرهنوا باتباعك حبهم لي»[*].
ومن عجبٍ أنَّ في الناس من يزهد في الحب، ويريد أن يعيش في ظلمات قهر النفس وفراغ القلب، من دون أن يعرف الحُبَّ بمعانيه السامية الجميلة، لأنه يعتقد أن الحبَّ والميوعة توأمان لا يفترقان. فهذا وأمثاله ليسوا حُجَّةً على الحقيقة نستعملها لظُلم الحب الذي هو - من منطلقاته الجميلة - لا يعني إلاَّ نُشدان الحق والخير والجمال.. فإذا نشرنا ألوية الحب في النفوس، ورعيناه في القلوب، فإنه سيُنبت فينا بلا ريب الصفاءَ والهناء وحبَّ الحياة، وفوق ذلك كله، وأعلاه: حُبَّ الله ورسوله.
أجل، إنَّ الحُبَّ نِعمةٌ ربَّانيَّة، وهبةٌ إلهية، ليعرف به عبادُ الله ربَّهم تبارك وتعالى ويحبُّوه، وليعرفوا به ملائكتَه ورُسُلَه وأنبياءه ويحبوهم، وليَعرفوا أنفسهم ويحبُّوها، وليعرف الناسُ الناسَ فيحبّ بعضهم بعضاً، وليعرفوا هذه الدنيا ويعمروها، وليعرفوا الحياة الآخرة فيحبوها ويعملوا لها..
وهذا الحب الذي أودعه الخالق الكريم في القلوب هو الذي دخل قلب خديجة بنت خويلد، عندما التقتْ بمحمد بن عبد الله لدى عودته من رحلته، فأمِلت أن تكون له زوجاً[*]، حتى تستشعر معنى السعادة في حياتها، بعيداً عن اعتبارات السن، والغنى، وسائر الاعتبارت الأخرى التي تقيم للفوارق المادية وزناً بين الناس في كثير من الأحيان... وشتّان بين تلك الفوارق وبين هذا الحب العظيم الذي ملأ كيانها وأضفى عليها سعادة لا توصف... ومع ذلك، فقد وقعت خديجة في الحيرة عدة أيام ومشاعرها تتقلّب بين حياء المرأة من الجهر بحبها، وبين أن تجهر بهذا الحب على الدنيا بأسرها. ولكن أليست هي «الحرة العاقلة اللبيبة» فهل يعيبها أن تعرض على محمد الزواج بها؟ وهل مثلها من ترى غضاضةً في ذلك؟
ولئن كان يغلب على المرأة الحياءُ عادةً، فلا تجرؤ على البَوح بمكنون صدرها لمن تحبه، إلاَّ أن الصداقة قد تلعب دورها في مثل هذه الحالة، ولذا آثرَت خديجة أن ترسل صديقتها نفيسة بنت منية إلى محمد، لتقف منه على رأيه بالزواج، فإن آنستْ به مَيْلاً، أفضتْ له صراحةً بما جاءت لأجله..
وذهبت نفيسة - مشكورة - في مهمتها، ولكنها ما إن وقع نظرُها عليه حتى تملَّكَتها رَهبةٌ غريبة، فسكتتْ..
وقعت نفيسة في الضيق وهي تقف وجهاً لوجه أمام إنسانٍ لم ترَ مثيلاً له في حياتها، لما حباه ربُّهُ من الهيبة والوقار، إذ أخذها نوع من الرهبة، فوقفت ساكتة وقد أعياها النطق..
ورأى محمد ارتباك المرأة، فأشاح بوجهه عنها بعض الشيء، ثم جعل يلاطفها بما يزيل كل أثر للارتباك أو الحرج من نفسها.. ولكنَّ المرأة ظلَّت تصابرُ على نفسها إلى أن هدأ روعها، فانبرت تُطْرِي صفاته الكريمة، ومحامدَه في بني قومه مما اضطره لأن يقاطعها ويطلب إليها أن تكفَّ عن ذلك، لأنه لا يحب أن يطريه الناس، فتجرأت عندها - وهي تبدي عذرها إن رأى أنها تتطاول في الكلام - لتسأله عن رأيه في الزواج بالمرأة التي يريدها أن تكون شريكة حياته، لاسيما أنه قد بلغ عزَّ الشباب، والأشراف وذوو السؤود، من قريش، ومن العرب، يطمعون في مصاهرته...
وكان محمد ينصت إلى المرأة بجدية واهتمام.. فهو في قرارة نفسه لا يطمع في بنات الأشراف أو ذوات السؤدد، ولا في جمالٍ أو مالٍ، بقدر ما يريد الإنسانة التي تتمنطق بالعفة والطهارة، وتسمو بالشرف والوفاء، وأن تكون ذات الخلق الحسن، وأن تعايش أفكاره في بحثه عن الحقائق المطلقة.. فإن لقي المرأة التي تتحلّى بهذه الصفات، فإنه لا يتأخر عن اقترانه بها، لتكون شريكته في الحياة..
وتحدث محمد إلى نفيسة بنت منية بما يفكّر فيه، وبما يتوخّاه في الإنسانة التي يودّ أن يربط حياته بحياتها، من صفات ومزايا. فقالت نفيسة: وإن كفيت ذلك كله يا سيدي، وفوقه الشرف والمكانة في النساء، والثروة والغنى في الحياة؟
فلما سألها عمَّن تكون، ومن تقصد، أفصحت له بالقول: إنها خديجة بنت خويلد يا سيدي، وما ترومه في المرأة إنما يتوافر فيها، ولأجل صفاتها ومزاياها العفيفة فإنها تدعى بـ«الطاهرة»[*]، ويقال لها «سيدة قريش». وقد ردَّت الأشراف ممن جاؤوا يخطبونها؛ وهي التي أوفدتني يا سيدي، إن كنت ترى في نفسك ميلاً للزواج بها..
ورأى محمد بأن خديجة بنت خويلد، وهي تبعث من يعرض عليه الزواج بها، إنما هي امرأة تستحق الإكبار لصدقها وطيبتها، ولذلك لم يزد على أن يشكر لنفيسة مساعيها الحميدة، ويوصيها بأن تبلغ هذه السيدة مدى تقديره لها، وأن تعهد بأمنيتها إلى الله، فإن شاء أن يجمع بينهما برابطة الزواج المقدس، فإنه لا رادَّ لما سبق في قضائه وقدره.
زواج محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) من خديجة بنت خويلد
وجاء محمد إلى خديجة في بيتها. وكان اللقاء الذي انتظرته هذه المرأة «الطاهرة»، فأفضت إليه بما تكنُّه له من حبّ طاهرٍ شريف، ومن احترام وتقدير.. وأفضى هو إليها بدوره بمشاعره تجاهها. وكان التوفيق بما يريدُ الله تعالى، فتواعدا على الزواج.
وذهب أبو طالب وإخوته وأبناؤه، ونفر من قريش إلى عمرو بن أسد، عمِّ خديجة، ووليِّ أمرها، يخطبونها، لأن أباها كان قد قتل قبل حرب الفجّار[*]، فآلت ولاية أمرها إلى عمها، الذي رحَّب بالسعاة إلى هذا العمل الطيب لما يتمتع به محمد من عظيم محبة في نفوس الناس، تقديراً لأخلاقه، ومواقفه في بني قومه.
وحَلَّ موعد عقد القران، واجتمع كبراء مكة، وأشراف قريش، فوقف أبو طالب يلقي خطبة الزواج، فقال: «الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، ومعدن معدٍ وأصلِ مضر، وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وباركَ لنا في بلدنا الذي نحن فيه، وجعلنا الحكام على الناس».
ثم راح شيخ القبيلة يتابع، منوِّهاً بمزايا ابن أخيه محمد قائلاً: «ثم إن ابن أخي هذا ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلاَّ عظم عنه، ولا عدْلَ له في الخلق، فإن كان مُقِلًّا في المال، فإن المال رِفدٌ جارٍ، وظلٌّ زائلٌ وأمرٌ حائلٌ. ومحمد مَنْ قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله اثنتا عشرة أوقية ونصفاً ذهباً، وله - وربِّ هذا البيت - بعد هذا نبأ عظيم، وحظ كبير، ورأي كامل»[*].
وقام ورقة بن نوفل بدوره يتحدث - لا لأنه ابن عم خديجة ومن أقربائها، بل لأنه كان مخوَّلاً عند بني قومه بعقد القران - ويُشهد الحاضرين على هذا الزواج، فقال: «الحمد لله الذي فضَّلنا على ما عددت وكما ذكرت يا أبا طالب، فنحن سادة في العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يردُّ أحدٌ من الناس فخركم ولا شرفكم. وقد رغبنا في الاتصال بحبكم وشرفكم. فاشهدوا يا معشر قريش أنني زوَّجت خديجة بنت خويلد إلى محمد بن عبد الله على المهر المتفق عليه، وعلى الوفاق المأمول»..
وقام عمرو بن أسد، عم خديجة ووليُّ أمرها يعلن القبول وعقد الزواج.. وهو الزواج الذي يشاؤه الله تعالى ويباركه من عليائه، قبل أن يكون لأحدٍ من الناس يدٌ فيه..
ودخلت السيدة المصون بيت الزوجية، لتكون رفيقة الحياة الوفية الصادقة، والمرأة الفاضلة المخلصة، التي لا ترى قيمة لوجودها إلا بقرب زوجها محمد، ولا تعرف السعادة إلا بظل هذا الزواج، الذي وهبها، بدوره، كلَّ ما تستأهل من الحب، والوفاء، والرعاية، وحسن العشرة.
وكما كرَّست خديجة كل حياتها لزوجها، فقد جعلت كل أموالها بين يديه، يتصرف بها كما يريد من دون أي حسيب أو رقيب. وأولته كامل الحقوق والسلطة التي يملكها الإنسان على أمواله الخاصة.. ولكنَّ محمداً الذي لا يغرّه متاع الحياة الدنيا بأسره - وليس المال فقط - لم يستعمل ثروة زوجه إلاَّ لأعمال البر والخير. فقد تابع تجارتها كما في السابق، يديرها، ويشرف على تسيير قوافلها، وفي الوقت عينه لا يتوانى عن تقديم المال، وبذل العطاء، فلا يجد صاحب حاجةٍ إلاَّ ويقضي له حاجته، ولا ذا مسغبةٍ[*] إلاَّ ويشبعه، ولا ذا متربة إلاَّ ويرفعه.. وهذا ليس جديداً عليه، لأنه كان - دائماً - المثالَ في العون والرحمة والإحسان.
ولم ينسَ - وفي طبعه الوفاء - عمَّه أبا طالب وأعباءه من كثرة العيال وقلة المال، فأراد أن يردَّ بعضاً من الصنيع الجميل لهذا العم الجليل الذي أحبّه ورعاه، وقرَّبه حتى على أبنائه، فذهب إلى عمه العباس بن عبد المطلب - وكان ذا غنًى كبير ولكنه حريص على ماله أشدَّ الحرص - يحثُّه على أن يعيل بعضاً من أبناء عمه أبي طالب، فقبل أن يكفل منهم جعفراً.. أما محمد فقد أخذ ابن عمه عليَّ بن أبي طالب ليكفله ويرعاه، في كنفه، وكنف خديجة الفاضلة، التي كانت تشهد ما يقوم به زوجها من أعمال البر والخير، فتطيب له نفسها، وتشجعه راضيةً.. ولذا نراها تقبل على احتضان ابن عمه عليٍّ كالأم الرؤوم، ويزيدها بِرّاً به ما تجد فيه من النجابة والنبوغ، وما يُرضي زوجها وهي ترى مدى حبه الكبير له، واهتمامهِ به.
وتمرّ السنون وتنجب خديجة من زوجها محمد ابنين اثنين وأربع بنات. أما الابنان فهما: «القاسم (وبه كان يُكنّى) وقد توفاه الله تعالى بعد مشيه، وعبد الله (الملقب بالطيب والطاهر) وقد توفاه الله تعالى أيضاً وهو ما يزال صغيراً، وأما البنات فهن: أم كلثوم، وزينب، ورقية وفاطمة»[*].
وإذا كانت المحنة التي تحلّ بالأبوين من جراء فقد الأبناء عظيمة، وتصيبهما في الصميم، فإن محمد بن عبد الله لم يجعل من فقد وَلَدَيْهِ - رحمهما الله - مأساةً تخيّم بظلالها على بيته، بل تغلَّب على المصيبة تلو الأخرى، بما كان يواسي به نفسَهُ وزوجَهُ، وبما كان يحيط به عائلته من حنان ورحمة، جاعلاً الاهتمام منصبّاً على تنشئة بناته، وتربيتهن على خصال هذا البيت القرشي النبيل، ولاسيما أن في وجودهنَّ ما يعوض من فقد الولدين العزيزين، ويجعلهنَّ قرَّة العين للأب العظيم والأم الطاهرة.
إعادة بناء الكعبة
وهكذا عاش محمد تلك الفترة من حياته يقوم على رعاية عائلته، دون أن يصرف اهتمامه عن متابعة الحياة العامة، والمشاركة في شتى شؤون الجماعة، وذلك فضلاً عما يشغل باله للاهتداء إلى الحقيقة التي ينشدها حثيثاً في أعماقه.. ويظل على مثل هذه الحركة الدائبة الهادفة، حتى يبلغ الخامسة والثلاثين[*] من عمره الشريف. وتكون قريش في هذه الحقبة بالذات مشغولة بأمر الكعبة، تريد هدمها، وإعادة بنائها بعد أن طغى عليها سيل جارف انحدر من الجبال حولها، وضرب بناءها، وصدع جدرانها. ولكنها كانت تخشى من الإقدام على الهدم، لما للكعبة من حرمة وقدسية ليس في نفوس قريش وحسب، بل وفي نفوس العرب أجمعين، وذلك منذ أيام إبراهيم وإسماعيل ، فقد كانت ترى أنَّ من الإهانة لها أن يبقى البيت الحرام مصدعاً، ولكنها لا تدري ما السبيل للتخلّص من هذا المأزق؟ ولمَّا لم يكن أمامها من خيار إلاَّ بناء البيت، فقد أقرت الهدم والبناء معاً، واشترطت ألاّ ينفق مال في سبيل الكعبة إلا إذا كان مالاً طيباً، لا يخالطه أي خبث في دية دم هدر، أو ربا مال أخذ، أو مهر بغي استحل، وذلك لكي يتقبل الله - تعالى - العمل، ويكون خالصاً لحرمة البيت العتيق..
ولئن كان هذا التوجه يدل على ما تقتضيه الفطرة من خوف الله تعالى الخالق العظيم، والمدبّر الحكيم، وعلى إيمان العرب بحقيقة وجود الله تعالى - وإن كانوا يجعلون له أنداداً - إلاَّ أنه يدل أيضاً على بقاء شيء من تعاليم الحنيفية عند العرب، خصوصاً عند قريش، وعند بني عبد مناف بالذات.
المهم أن قريشاً أقرَّت أخيراً إعادة بناء الكعبة بنيةٍ وعزمٍ صادقين، فقسمت جوانبها أربعة أقسام فيما بينها: فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وما انضم إليهم من قبائل قريش، وظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وشق الحِجْر لبني عبد الدار بن قصي وبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو القسم الذي يطلق عليه الحطيم[*].
وحانت ساعة العمل.. ولكن، لا أحد يُقدم على ضرب أول معول في جدار الكعبة لشدة الخوف والرهبة.. وأخيراً تجرَّأ الوليد بن المغيرة المخزومي وقال للقوم: «أنا أبدأكم في هدمها». ثم تناول معوله وبدأ بالهدم وهو يقول: «لم نزغْ[*]، اللهم إنا لا نريد إلا الخير».
وبقي الناس ينتظرون، بل وباتوا تلك الليلة يتربصون ما الله فاعلٌ بالوليد، حتى إذا أصبح ولم يُصبه شيء، اندفعت قريش إلى الهدم، لئلاَّ يفوتَ بطناً من بطونها مثلُ هذا الشرف العظيم، ولذا كنت ترى بينهم:
أبا طالب والعباس وحمزة ومحمداً وأبناء عمومته من بني هاشم (أصحاب السقاية).
وأبا سفيان بن حرب وأبناءهُ من بني أمية (أصحاب الراية).
والحارث بن عامر وأهل عشيرته من بني نوفل (أصحاب الرفادة).
وعثمان بن طلحة وعشيرته من بني عبد الدار (أصحاب السدانة).
ويزيد بن زمعة بن الأسود من بني أسد (وهو صاحب رياسة الشورى).
وعتيق بن أبي قحافة وعبد الله بن جدعان من بني تيم (أصحاب الأشناق والديات والمغارم).
والوليد بن ربيعة وابنه خالداً، وعمرو بن هشام من بني مخزوم (أصحاب القبة والأعنة).
والخطاب وابنه عمر وسعيد بن زيد بن نفيل من بني عدي (أصحاب السفارة).
وصفوان بن أمية وإخوانه من بني جمح (أصحاب الأزلام والقداح).
والحارث بن قيس وعشيرته من بني سهم (ولاة الأموال المحجرة لآلهة قريش).
وانكبَّ هؤلاء وغيرهم، على العمل بجهد وإخلاص حتى انتهى الهدم إلى الأساس، حيث وجدوا حجارةً خضراً، آخذاً بعضها ببعض، فراحوا يبنون عليها. فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيه. وكل قبيلة تريد أن يكون لها الشرف بأن تضعه في مكانه. وكان بنو عبد الدار أكثر الناس اشتداداً في هذا الأمر ومطالبة للاستئثار به. فلما رأوا معارضة القوم لهم، ووقعوا في الخلاف، جاؤوا بجفنة[*] مملوءة دماً وغمسوا أيديهم فيه، مُقسمين على منع أحدٍ غيرهم من رفع الحجر الأسود ووضعه في مكانه، وقد تعاقد معهم على ذلك بنو سهم وبنو جمح، فسمّوا لعقة الدم[*].
واحتدم الخلاف بين قريش، وراح لعقة الدم يلوِّحون بالقتال والحرب، حتى قام بعد خمس ليالٍ، أبو أمية بن المغيرة المخزومي - وكان أحد أجواد قريش وأسنَّهم - يدعو إلى اجتماع داخل الحرم، لكي يتشاوروا في الأمر، لئلاّ تقع قريش في قتال يلفُّها جميعها، ولا تُعرف عواقبه الوخيمة عليها.. وطال الجدال والنقاش داخل الكعبة حتى أشار أبو أمية على المجتمعين بأن يحكّموا أول من يدخل عليهم من باب الصفا (باب السلام).. وارتضى الجميع بهذا الرأي، وهدأت العاصفة في النفوس فجلسوا ينتظرون.. وكالخاطرة العابرة رأوا محمداً أول داخل عليهم من الباب، فهتفوا: هذا الأمين، رضينا به حكماً وعدلاً.. فلما أخبروه بالأمر، جال بأنظاره في جوانب الكعبة، ثم توجَّه بقلبه ووجهه نحو السماء، وهو يناجي ربَّ هذا البيت أن يكون له هادياً. وما هي إلا لحظات، حتى نظر محمد إلى القوم، وقال لهم: هلمَّ إليَّ ثوباً.. ثم أخذ الحجر بيديه ووضعه في الثوب، وطلب منهم أن تأخذ كل قبيلة بطرف من هذا الثوب وأن يرفعوه إليه، وأسرع هو يعتلي الجدار، ويتناول منهم الحجر الأسود ويضعه في مكانه، ثم يرصف فوقَهُ بعض الحجارة، حتى استوى في مكانه، كما كان على عهده السابق؛ والكل ينظر إليه مقدّراً أنه أخذ حقهُ، وأنه راضٍ عما أخذ وأعطى.. هكذا، وبحكمته المعهودة، حسم محمد نزاع القبائل من قريش، فعادت إلى العمل، حتى أتمت البناء، وعادت الكعبة إلى سابق عهدها من المتانة والقدسية والطهارة، لتكون البيت الحرام، في البلد الحرام، موئلاً للأمن، ومزاراً للحجيج من أقطار الجزيرة كلها، فلا يقربه عقوق، ولا يدنسه آثم.
ورأت قريش في تدبير محمد، وهو يساوي بين قبائلها وبطونها، وفي عمله وهو يمنع الاقتتال ويحجب الدم، ما يزيده رفعةً في المكانة وتقديراً في النفوس. فاعتبرت ما قام به مأثرة كريمة تضاف إلى مآثره الحميدة، التي جعلته الرجل الحكيم، والصادق الأمين، عند أهل مكة، وعند العرب أجمعين.
وتدور الأيام وتكبر بنات محمد فتتزوج زينب بابن خالتها أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وتتزوج رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابنيْ عمهما أبي لهب (عبد العزى بن عبد المطلب). أما فاطمة، وكانت ما تزال في فجر طفولتها، فعاشت في كنف أبَوَيْها ورعايتهما هي وعلي وزيد بن حارثة، وهذا الأخير كان مولى للسيدة خديجة فوهبته لزوجها، فأعتقه، وتبنّاه، فصار يُدعى به: زيد بن محمد..
انصراف محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) إلى التحنّث
وكان قد مرَّ خمسُ سنوات على بناء الكعبة عندما رأى محمد، أن يتخلى عن كثير من الشؤون التي تشغله، فاستأجر من يعمل في تجارة زوجته، ويقود القوافل إلى الشام واليمن، بينما اكتفى هو بتدبير أعمال هذه التجارة داخل مكة.. وكانت خديجة تشجّعه على ذلك بعدما رأته في الآونة الأخيرة يكثر من الصمتِ والتفكر، ويحب الانفراد بنفسه، بعيداً عن هموم الناس، ومشاغل الحياة.. فقد كانت تلك الزوجة الطاهرة المعطاء ترقبه، وترى ما يثقل عليه من هموم النفس، وأعباء الفكر.. وقد بذلت قصارى جهدها كي تخفف عنه، فكانت تحيطه بكل آيات المحبة والوفاء والإخلاص، وتحنو عليه بكل مشاعر الرقة واللطف والإيناس، ولكنَّ ذلك - على الرغم من وجاهته - لم يؤثر في توجهات زوجها، وما يتطلع إليه، وهو ما من شأنه أن يكون - كما تحسُّ وترى - أبعد من أن يخطر على بال أحدٍ من البشر.
وكانت السيدة خديجة على حق فعلاً، فما يشغل بالَ زوجها صار معروفاً لديها، إذ كثيراً ما كان يحدثها عن سفاهة أحلام الذين يعبدون الأصنام والأوثان التي تصنعها أيديهم أو يعبدون الأشجار التي تقطع وتحرق، أو يتخذون آلهة من التمور التي تباع وتؤكل.. فهل هذه عبادة يقبلها العقل البشري؟
ثم ها هُمُ اليهود والنصارى، وعلى الرغم مما هم فيه يختلفون، فإنهم يعيّرون العرب بتلك العبادة الفارغة، الجوفاء، ويسخرون من تلك الآلهة الصماء البكماء.
بل إن في العرب أنفسهم من يرفض الوثنية وأصنامَها ويبحث له عن دين جديد، كما رأينا فيما سبق، فهذه القضية المحورية، كانت بتقدير الزوجة الحكيمة هي الشاغل الأهم في تفكير زوجها، لاسيما أنه كان يعلم بكل ما يدور في بيئته، من غير أن يجدَ فيه شيئاً يمكن أن يروي غليل فؤاده، أو يقنع عقله.. فهو يبحث عما هو أجلُّ وأعظم من كل ما يسمع ويرى ويحسُّ به كامناً في أعماق نفسه، إلاَّ أن الغيب يطويه عنه ويحجبه عن بصيرته فلا يهتدي إلى سرّه القدسي، ومن أجل ذلك كان انصرافه إلى التأمل والتفكر.. وكان قد دأب منذ مدة على الانقطاع عن الناس والاختلاء إلى نفسه، شأنه في ذلك، شأن أهل الحكمة والرأي من العرب الذين كانوا ينقطعون للعبادة فترة من كل عام، يقضونها بعيداً عن الناس، حيث يختلون إلى أنفسهم التواقة للاهتداء إلى حقائق الحياة.. وكانوا يسمون هذا النوع من الانقطاع: التحنث.. وهو الأمر الذي انجذب إليه محمد عندما اختار خير مكان يصلح للانقطاع والتعبد.. ففي الناحية الشمالية الشرقية من مكة، وعلى بُعد نحو ميلين عنها يقع جبل النور وفي أعلى هذا الجبل كهف يقال له غار حراء، ليس من حوله إلاَّ صخور تملأه بأجمعه.. وإذا أراد أحد الصعود إليه فإن عليه أن يسلك طرقاً متعثرة، ترتفع به رويداً رويداً، وقد يستغرق ذلك ساعة من الزمن، ثم ينحدر بسيطاً من قمة الجبل، ويمرُّ عبر فتحة ضيقة بين صخرتين كبيرتين، قد لا يجتازهما إلاَّ بصعوبة، فيجد نفسه أمام الغار الذي لا يزيد طوله على أذرع، وعرضه على ذراع وثلاثة أرباع الذراع، فإذا دخله انقطع عن كل شيء، فلا يرى إلاَّ مكة والسماء، ولا يسمع حسيساً أو أنيساً إلا صوت الريح عندما تهبُّ، لأن المكان مقفر لا يؤمّه طير أو حيوان، ولا يأتيه من الناس إلاَّ من يقصده...
وفي جبل النور، وفي غار حراء بقمة هذا الجبل، كان محمد ينقطع إلى عبادته وتحنُّثه. إذ كان يذهب إليه في شهر رمضان قبل بضع سنوات، مكتفياً بالقليل من الزاد والماء يحملهما معه في رحلة التأمل الرمضانية، مع سراج لا يكاد يُضيء ظلمة الغار.. وكان لا يترك مكة قبل أن يطوف حول الكعبة، ويتبرك بها، ثم يوزع الهبات والمعونات التي اعتاد توزيعها منذ زواجه. وبعدها يقطع المسافة الوعرة، ليدخل إلى غاره، وهمُّه الأوحد الاهتداء إلى نور الحقيقة والتماس الحق..
وليس صعباً على «محمد» بالذات الاهتداء إلى الحق الذي ينشد.. فقد جبلَهُ خالقه على الفطرة السليمة، والطوية النقية، والصفاء الوجداني، والتفتح الذهني.. وهذه وغيرها مما أودَعَ الله تعالى في خلقِهِ، كانت تكفيه لأن يدرك هدفه الأسمى.. ولو لم تكن لدى «محمد» مقومات الهداية إلى الحق، لما أمكنه أن يرى كل شيءٍ في جاهلية الناس من حوله ليس حقاً بشيء..
أجل، كان في خَلْقِ «محمد»، وفي تكوينه العقلي والوجداني ما يمكنه معه أن يهتدي إلى حقيقة وجود الله تعالى، الذي لا إله إلا هو، الإله الواحد في السماوات وفي الأرض، والربُّ العليُّ الكبير الذي له ملك السماوات والأرض..
وهذا ليس بدعاً في خَلْق الإنسان!.. فمن قبل اهتدى أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) إلى معرفة حقيقة وجود الله تعالى من خلال تأمّله في الكون.. وأدرك منذ تفتح وعيه سفاهة عبادة الأوثان وعاب قومه على عبادتها، كما أنكر عليهم عبادة الكواكب والنجوم، التي لم يرَ فيها إلاَّ أجراماً تطلع ثم تأفل وهي تجري إلى مستقر لها، فأعلن على الملأ براءته مما يشركون، وتوجَّه إلى الله تعالى فاطر السماوات والأرض حنيفاً، مائلاً عن حياة المشركين وعباداتهم.. وكذلك يحيى (عليه السلام) فقد آتاه ربُّهُ الحكمَ صبياً، وعيسى (عليه السلام) إذ قال لقومه وهو في المهد {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *} [مَريَم: 30].
وها هو «محمد» يهتدي إلى الشرع التعبدي الحق، إلى الحنيفية التي كان عليها أبوه إبراهيم (عليه السلام) بعد آلاف السنين، وإن كانت علائم هدايته قد أيقنتها نفسه منذ زمن طويل، إلاَّ أن تعاليم الحنيفية وكيفية ممارسة عباداتها، وظهورها بمظهر الجلاء والوضوح التّاميْن هو ما كان «محمد» يبحث عنه ويريد الاهتداء إليه.
وكانت الحقائق قد بدأت تتكشف له منذ أن بدأ يجيء إلى غار حراء، فكان يرى في نومه الرؤى الصادقة التي تزيح الأستار من أمام بصيرته، فتبدو له أنوار الحقيقة ساطعة مثل فَلَق الصبح.
إنها هداية «محمد» الذاتية.. ولكنها بفضل الله - تعالى ـ، فهو سبحانه «دبَّر لمحمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وهو يعدّه لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ: دبَّرَ له هذه العزلة - في غار حراء - قبل تكليفه الرسالةَ بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله»[*].
وكانت زوجته خديجة تعرف ذلك كله، فتحار في أمرها، وتخاف على زوجها من التعب النفسي، والانشغال الفكري، فكان يطمئنها ويهدىء بالها، فتقبل ما يقوله راضيةً، قانعةً، لأنها تعرف زوجها حق المعرفة، فهو لا يفكر إلاَّ صواباً، ولا يعمل إلا حقاً..
تلك كانت حال «محمد»، وبخاصة في السنوات الخمس الأخيرة التي انقضت على إعادة بناء الكعبة. فما أن ولج سن الأربعين من عمره الشريف حتى كانت نفسه قد امتلأت برؤاه الصادقة التي تُنبىء بالهداية إلى الحق، وكان توجهه بكليته إلى ملكوت الله العظيم حتى يكون بكامل الاستعداد لتلقي النور الذي ينزل عليه من الحق، من الله الواحد الأحدِ خالقِ الكون، وخالق الحياة والإنسان، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *} [الحَديد: 21].

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢