نبذة عن حياة الكاتب
علم النفس: معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة - الجزء الأول

البحث الثاني: الاستقراء - الاستدلال - المعرفة
تمتاز ألفاظ اللغة العربية وتراكيبها بمبانيها ومعانيها، فاللفظة قد يكون لها معنىً ظاهر هو ما نفهمه من ظاهر القول، وقد يكون لها معنى آخر، هو المقصود، ولكن لا يفهم إلاَّ إذا وضعت في جملة أو في نصٍّ يشكِّل سياقَ الكلام.. والنصوص قد تحتاج إلى تفسير أو قد يتناولها التفنيد. وفي كلٍّ من التفسير، أو التفنيد لا بد من استخراج الفكرة التي يتوخَّاها أو يتقصَّدها الباحث أو العالم، وإقامة الدليل أو البرهان الذي يؤيد الطريقة التي اعتمدها في البحث، كالاستقراء والاستدلال. وسوف نحاول توضيح كلٍّ من هذه المفاهيم بصورة مبسّطة وسريعة.
اللفظ والمعنى
- اللفظ في اللغة هو مصدر لَفَظَ، ومعنى لفظ: رَمَى. تقول: لفظَ الشيءَ من فمه: رَمَى به. واللفظ في الاصطلاح: هو صوت أو عدة أصوات ذات مقاطع تعبر عمَّا يدور في النفس. وهو إما أن يكون مفرداً وإما أن يكون مركباً.
- أما المعنى فهو الصورة الذهنية التي تظهر في اللفظ، وتدل على ما يُقصد بالشيء، أو على ما يدل عليه القول أو الرمز أو الإشارة. ومنه دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي، أو دلالة القول على فكرة المتكلم، ومنه دلالة الإشارات المنصوبة على اتجاه السير أو على أمكنة معينة. ومنه أيضاً دلالة السكوت على الإقرار، أو دلالة الابتهاج على الانتصار أو النجاح.
التفسير والسياق والتفنيد
- التفسير هو الكشف والإظهار، بمعنى أن يكون في الكلام أو في النص بعض اللّبْسِ أو الخفاء فيؤتى بما يزيله أو يوضِّحه، تقول: فسَّرت الكلمةَ، وفسَّرت النصَّ، وفسَّرت المسألةَ أي أوضحت دلالاتها ومطالبها. والفرق بين التفسير والتأويل أنَّ التفسير يكون أكثر استعمالاً في الألفاظ ومفرداتها، أمّا التأويل فيكون أكثر استعمالاً في المعاني للتوفيق بين ظاهر النص وباطنه.
- وسياق الكلام، هو أسلوبه ومجراه. تقول وقَعَت هذه العبارة في سياق الكلام، أي جاءت متفقة مع مجمل النص.
وللتقيد بسياق الكلام في تفسير النصوص وتأويلها فائدة منهجية، لأنَّ معنى العبارة يختلف باختلاف مجرى الكلام، فإذا شئت أن تُفَسِّر عبارة من نصٍّ، وجب أن تفسرها بحسب موقعها في سياق ذلك النص.
وسياق الحوادث: مجراها، وتسلسلها، وارتباطها بعضها ببعض، فإذا جاء الحادث متفقاً مع الظروف المحيطة به كان واقعاً في سياق تلك الظروف، وإذا جاء مختلفاً عنها، وجب البحث عن علَّةِ هذا الاختلاف. نقول سياق المرض، وسياق الظواهر النفسية، وسياق الأمراض المجتمعية.
- وأما التفنيد فهو النظر في الرأي لرده وإبطاله أو الاعتراض عليه. تقول: فنّد رأيَ فلانٍ، أي أضعفَهُ وأبطلَهُ. وموقف المعترض على الرأي أو الفعل هو الذي يكون فيه إثارة للصعوبات والمشكلات، على حين أن موقف المفنِّد إنما يكون موقف المدّعي المنكر.
الاستقراء
الاستقراء في اللغة العربية هو التتبّع، فمن استقرأ الأمر تتبّعه لمعرفة أحواله.
والاستقراء عند أهل المنطق هو الحكم على الكلي لثبوت هذا الحكم في الجزئي. ومثاله أنَّ كل الأجسام تسقط نحو مركز الأرض، فالورقة، والحجر، ونقطة الماء، هي من الأجسام أو الأشياء، فهي إذًا تسقط نحو مركز الأرض.
ولذلك فإنَّ الاستقراء يستند إلى ظواهر قائمة وموجودة تؤدي ملاحظتها ومراقبة حركاتها إلى استخلاص قوانين عامة بشأنها. ويكون كل قانون متعلقاً بنوع واحد من الظواهر، مثل القانون الذي يحكم ظواهر سقوط الأجسام، والقانون الذي يحكم ظواهر انعكاس الضوء وانكساره. وعلى هذا يقال إنَّ الاستقراء هو الاستدلال الذي ينتقل من الظواهر إلى القوانين.
أما الاستنباط فهو الاستخراج، أي إنَّ كلَّ ما يُستخرج، وتقع عليه رؤية العين، أو تطاله معرفة الفكر يقال قد استنبط. ومنه النبط أي الماء الذي يستخرج من البئر في أول الحفر.
ولكن حين يكون الاستخراج لحقيقةٍ معينة، فلا بُدَّ من إقامة الأدلة والبراهين التي تؤكدها وتثبتها.. وغالباً ما يتبع العلماء هذه الطريقة في تقديم البراهين والأدلة الثبوتية لاستخراج القانون العام الذي يحكم ظاهرةً معينة من الظواهر. وإذا كان من شأن العلم الوصول إلى نتائج نهائية في بعض المجالات التي يبحث فيها، إلاَّ أنه في الغالب لا يتوصل إلاَّ إلى نظريات قد يطرأ عليها التغيير والتبدّل بطريقة كلية، ما يجعل النظريات لا يعوّل عليها بصورة قطعية، بينما يعوّل دائماً على البرهان الذي يكشف عن الحقيقة الكاملة. ولذلك يقال عن البرهان بأنَّه الحجة البيّنة الفاصلة ويأتي مِنْ: بَرْهَنَ أي بَيَّنَ، وبرهَنَ عليه أي أقام الحجة عليه. فالبرهان إذًا هو بيان للحجة، وهو أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبداً لا محالة. يقول الله تعالى: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البَقَرَة: 111]. ويقول تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النِّسَاء: 174]. وفي الأثر: «الصدق برهان».
أما عند الأصوليين فالبرهان هو ما فُصل به بين الحق والباطل، وميّز الصحيح من الفاسد بالبيان الذي يتضمَّنه.
الاستدلال
الاستدلال في اللغة العربية: هو طلب الدليل أو إقامة الدليل.
وفي عرف الأصوليين والمتكلمين: هو النظر في الدليل، سواء كان استدلالاً بالعلة على المعلول، أو بالمعلول على العلة.
والأولى أن يطلق الاستدلال على إقامة الدليل لا على النظر في الدليل، لأن الدليل قول مؤلَّف من أقوال يلزم من ترابطها قول آخر يدل على نتيجة.
والاستدلال عند علماء أهل المنطق هو تسلسل عدة أحكام مترتب بعضها على بعض، بحيث يكون الأخير منها متوقفاً على الأول اضطراراً، فكل استدلال إذًا هو انتقال من حكم إلى آخر. لا بل هو فعل ذهني مؤلف من أحكام متتابعة إذا وضعت لزم عنها بذاتها حكم آخر غيرها. وهذا الحكم الأخير لا يكون صادقاً إلا إذا كانت مقدماته صادقة. والمثال على ذلك أنَّ كل طائر يطير، وكل عصفور يطير، فالعصفور طائر.
لذلك كان كلٌّ من علم المنطق وعلم النفس يبحث في الاستدلال. إلا أنَّ رجل المنطق ينظر إلى الاستدلال على أنه مؤلف من عدة قضايا مرتبطة ببعضها بصورة ضرورية ومتلازمة، ما يجعله يرتب هذه القضايا، ويبين أنواع الأدلة عليها وقيمة هذه الأدلة من حيث صحتها وخطئها، أو قيمة الاستدلالات المنتجة والاستدلالات غير المنتجة. في حين أنَّ العالم النفسي يبحث في الاستدلال على أنه فعل ذهني واقعي دون أنْ يتدخل في معرفة صحته أو فساده. ولذلك تختلف قيمة الحجج العقلية في نظر رجل المنطق من حيث قربها من الصواب أو بعدها عنه، بينما تبقى قيمتها في نظر العالم النفساني واحدة، لأنه إنما ينظر في حركة الذهن، وكيفية تكوين الحجج العقلية ونشوئها، لا في صحتها وفسادها.
المعرفة
المعرفة والعرفان: إدراك الشيء بتفكُّرٍ وتدبُّرٍ لأثره. وهي أخصُّ من العلم. يقال: فلانٌ يعرِفُ الله، ولا يقال: يعلمُ الله، إذ إنّ معرفة البشر لله تعالى هي بتدبُّر آثار نعمه دون إدراك ذاته. ويقال: الله تعالى يعلمُ، ولا يقال: الله تعالى يعرف، إذ إنّ المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصَّل به عن طريق التفكر والتدبر. وأصله من عرفْتُ، أي أصبْتُ عَرْفَهُ (والعَرْف: الرائحة الطيبة). وعرَّفه: جعل له عَرْفاً أي ريحاً طيباً، كما جَعَلَ الله - تعالى - للجنة، في قولِهِ الكريم: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محَمَّد: 6] أي طيّبها وزيّنها؛ للذين قُتِلوا في سبيلِهِ عزَّ وجلَّ، وعرَّفها لهم بأوصافها مع تشويقهم وهديهم إليها.
لهذا وللأسباب الأخرى - التي ذكرناها في مقدمة هذا الكتاب، أو عند بحثنا في الطريقة العلمية والطريقة العقلية - نقول: «النفس تعرف» ولا تقول «النفس تعلم»، لأنَّ النفس عندما تعرف، إنَّما يعني أنّها تدركُ الأشياءَ بتفكُّرٍ وتدبُّرٍ لآثارها.
ويضاد المعرفةَ الإنكارُ، كما يُضادُّ العلمَ الجهلُ. يقول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النّحل: 83]، مع أنَّ نعمة الله تعالى على العباد لا تقبل النكران، فكيف إذا كانوا يعرفونها ثم ينكرونها؟!
والمعرفة من خصائص الإنسان بما يتمتع من مواهب خصَّه خالقه بها، فكان عليه أن يتّخذ له في الحياة عقيدة يؤمن بها، لأنَّ العقيدة - وحدَها - هي التي تحدد مفاهيمه، وتؤثر على نمط حياته، سواء في التفكير أو في الفعل والسلوك، وإلاَّ عاش هذا المخلوق البشري - بلا عقيدة - حياةً أقرب إلى المادية المحدودة..
على أنه، ومهما كانت عقلية الإنسان - أو نشاطه الذهني - فهو يتأثر بأفكار الآخرين، كما يتعلّم في سعيه لمعرفة ما حوله، بل ومعرفة ما أبعد ممّا حوله، ولا سيما في أيامنا هذه، حيث أصبحت وسائل الاطلاع والمعرفة متاحة للجميع بيسرٍ وسهولةٍ، فتتكوَّن لديه نتيجة لذلك كله، معلومات ومفاهيم معينة عن منشأه ومعاده، وعن غاية وجوده في هذه الحياة، وعن الطبيعة والكون إجمالاً.. أي تتكوَّن لديه قاعدة للتفكير والسلوك بما ينسجم مع نفسيته.. وكثيراً ما يوحي له عقله، من جراء الاطلاع والمعرفة، وتحت تأثير العوامل المجتمعية التي يعيش في ظلها، بأن ينشئ من الأفكار والمفاهيم ما يثبت عقيدته، أو ما يجعله يبدّل هذه العقيدة، لأنَّ هنالك شيئاً هاماً في حياة الإنسان، وهو أنَّ نفسَهُ - أو النفس البشرية - لا تستطيع أن تبقى مجرَّدة عن الاعتقاد..
ومن الثابت في حياة الناس أنَّ كثيراً منهم لا يحضرهم التصوّر. ولا يفكرون في القيم والمثل العالية، ولا تجذبهم الغايات البعيدة، كأنَّ في آذانهم وقراً وعلى أبصارهم غشاوة، فلا يميلون إلى التفكير في الأشياء الهامة - كما تعارف عليها الناس - ولا يتأثرون بما يحصل من الأحداث، كما لا يستحثّهم ما يصدر من علوم وأبحاث، وآداب وفنون.. وهذا ما يجعلهم ينصرفون إلى الحياة المادية البحتة، حتى لكأنَّهم أعداءٌ للمعرفة!.. فمثل هؤلاء الناس يكونون مصابين - إلى حدّ ما - بالجمود الفكري، والركود العاطفي - إذا جاز التعبير - فينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فُصّلَت: 5]، أي كأنَّ حالَ أكثر الناس اليوم مثلُ حالِ مَنْ كانوا يحادُّونَ رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، إذْ يدعوهم إلى الهدى فلا يجيبون، لأنَّ مقولتهم: قلوبُنا مُغْلَقَةٌ في أغطية تحولُ دون نفاذِ دعوتك إليها، وفي آذاننا ثقلٌ فلا نتدبّر ما نسمعُ منك، وبيننا وبين الحق الذي تدعونا إليه حجاب يستر عنَّا معرفته، فنحن بغُنْيَةٍ بما عندنا، فلا نؤمن لك أبداً!.. فكأنَّ موقفَهم إعراضٌ عن المعرفة التي يجب على الناس، وعلى المرء بالذات أنْ يطرق شتى أبوابها حتى يرتقي في مضمار الحياة البشرية والإنسانية - وعلى خلاف هؤلاء الناس الذين لا يُغريهم حبُّ المعرفة بشيء، نجد أنَّ في طبع الإنسان ميلاً شديداً للمعرفة، كما عليه حياة أكثر الناس، فإذا ما دار الحديث، مثلاً، عن حقيقة وجود الله تعالى، أو حول الأمور الماورائية (الغيبيّة) أو حول النفس البشرية، نرى الحضورَ تشرئبُّ أعناقُهم، وتتطاول آذانُهم لسماع الحديث، وذلك لأنَّ في دخيلة كلٍّ منهم دافعاً لكي يتلقَّفَ الفكر الجديد الذي يُعرض عليه، والوقوف على معانيه ومقاصده، وربما معرفة بعض أسراره، مما لم يُحط به علماً من قبل!.. وعلى ذلك، فإنَّ أبعد نظريات ما وراء الطبيعة تصل تلقائياً - وبدرجات متفاوتة - إلى آذان العامة فتحفظها، وتجعلها نوعاً من تراثها الفكري، كما نجد في الأغاني والأهازيج لدى الشعوب التي يتردَّد على ألسنتها شيء من الأفكار الفلسفية التي تشير إلى معاني الحياة والموت، أو الخلود والفناء، أو السعادة والشقاء، أو تشير إلى مفاهيمها عن الخير والشر، والخصب والجدبْ، والفروسية، وحب المغامرة.. وما إلى ذلك من الأفكار - فلسفية أو غير فلسفية - التي جرى تناقلها عبر الأجيال، بسبب اهتمام البشر بها، وانجذاب النفوس إليها، وإلى ما يرتسم حولها من المعاني التي تشكل ما يسمى بـ«المعرفة الفلسفية» لدى الناس، حتى ولو كانت تلك المعاني غامضة بالنسبة إلى أكثرهم، أو لا تستند إلى أحداث أو وقائع حصلت فعلاً، إلاَّ أنها كوَّنت، مع الزمن، ذهنية معينة لدى هذا الشعب أو ذاك، فجعلها من المعاني المجردة التي شكلت جزءاً من بناء أنماطه الفكرية، بمعنى أنَّ هنالك من القيم ما قد يكون له مواقعُ في النفوس قد تغلب على الأشياء المادية، فمثلاً قد تهمُّ المالكَ معرفة نوعية آراء المستأجر بقدر ما يهمه معرفة إيراده أو دخله؛ وقد تهمُّ القائدَ معرفة فلسفة العدو في ساحة الحرب أكثر من معرفة عدده وعدّته.. على أنَّ مثل تلك الأنماط الفكرية، وإن مازجها نوع من المعاني الفلسفية في الحياة العامة، فإنها تبقى أبعدَ من أنْ تجمع التأمَّل الفلسفي كله، لأنها لا تعدو أنْ تكون - في حقيقتها - درجةً محدودةً في التفكير، إلاَّ أنَّ شيوعها وإلمام غالبية الناس بها، جعلها تشكل نوعاً من «المعرفة العامة» لهذا الشعب، أو ذاك..
من هنا جرى تقسيم المعرفة إلى ثلاثة أنواع: المعرفة العامية، والمعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن فهم المعرفة الفلسفية على حقيقتها إلاَّ إذا نسبت إلى المعرفة العامية تارةً، أو إلى المعرفة العلمية تارةً أخرى..
1 - المعرفة العاميّة:
وهي ما تسمى أيضاً بـ«المعرفة العفوية»، والتي تتكون عادةً من أفكار وأحكام واستدلالات تكتسب من تجاربنا الفردية والجماعية، فنطبقها على حياتنا العملية في الحياة بصور مختلفة.
ولتقريب هذه الفكرة إلى الأذهان، نقول بأنَّه لو نظرنا إلى الطبيعة من حولنا، دونما تفكير أو تأمّل، فإنَّ حواسنا ترى كثيراً من الموجودات المختلفة: كائناتٍ حيةً وبحاراً، وجبالاً، ونباتاً، وأنهاراً، ومدناَ، وقرىً إلخ... فهذه كلها بالنسبة إلى حواسنا مجموعات من الأعراض والكيفيات المختلفة الأشكال والصور والألوان، والأصوات والحركات.. التي عندما ينظر إليها الإنسان العادي لا توحي له بأشياء ذات أهمية. في حين أنَّ نظرة عالمٍ إليها تثير في نفسه النُّظُمَ التي تسيرُ عليها، والقوانينَ العلمية التي تحكمها، وسننَ الله تعالى التي أنشأتها وسيَّرتها بهذه الدقة والانتظام..
فالمعرفة العامية شبيهة بتلك النظرة الأولى التي نلقيها على الطبيعة.. لأنَّ النظرة الأولى لا تتوخّى التعليل وإِعمال الفكر، ولذلك تبقى الطبيعة من خلالها مجرد موجودات مركبة، متشابكة، نُتابعها بصورة تلقائية، ما يعني أنَّ المعرفة العامية مبنية على استقراء ناقص وتحليل غامض. فهي معرفة كيفية، تكتفي بذكر خواص الأشياء من غير أن تنفذ إلى التحليل والمقابلة والاستنتاج. وهي أيضاً جزئية لا تستطيع أن تجمع الحوادث بعضها إلى بعض، فلا تتوقف عند تقارب الحالات أو تعارضها، ولا تقارن بين طفو الخشب على وجه الماء وغرق الحجر فيه، بل تشاهد كل حدث بمفرده، من غير أن تجمعه إلى غيره وتؤلف منها نظاماً خاصاً. فهي إذًا معرفة إمكانيات، لا يوجد عنصر ضرورة في مفاهيمها، ولا تقيد في أحكامها، ولا يقين في نتائجها، ولا تؤثر عادة فيما حولها إلا بقدر محدود، لأنها معرفة عملية تهتم بالنتائج القريبة.
وقصارى القول أنَّ المعرفةَ العامية هي معرفةٌ ذاتية، مؤلفة من آراء وقتية، وأحكام فردية، وقد لا تخلو من التخيلات والأوهام. وهي ليست علماً بالمعنى المقصود بالعلم، لأنها تقتصر على الحوادث الجزئية، والعلم لا يكون إلا بالكليات.
2 - المعرفة العلمية:
قد يطلب الإنسان العلم لذاته، أو قد يطلبه لنتائجه العملية أو الفنية. فإنْ طلبه لذاته كان محباً للحقيقة، وإنْ طلبه لنتائجه العملية كان ميالاً إلى الخير والعمل الصالح، وإنْ طلبه لنتائجه الفنية كان ميالاً فقط إلى تذوق الجمال، لأنَّ في اكتشاف الحقيقة - عادةً - جمالاً ولذةً وقوةً. وهذا ما يميز المعرفة العلمية عن المعرفة العامية، ويجعلها أرقى منها. فالرجل العادي يشاهد بعينه سقوط الأجسام فلا يعرف أسباب هذا السقوط. أما العالم فيبين لنا كيفية سقوطها وفقاً لنظام ثابت، فالعلم إذًا هو البحث لاكتشاف القوانين الطبيعية.. ويمكن أن نمثل على القوانين الطبيعية من خلال الطبيعة أيضاً، إذْ لو ألقينا على الطبيعة من حولنا مجردَ نظرة سطحية، من غير أن نتعمق في إدراك ماهية أو حقيقة كل موجودٍ من موجوداتها، لرأينا أنَّ هذه الموجودات كثيرة الاختلاف والتباين: فلا نجد مثلاً على شجرة واحدة ورقتين متساويتين، ولا في حقل قمحٍ سنبلتين متماثلتين، حتى إننا لنجد الورقة الواحدة تتغير من وقت إلى آخر.. ولكننا إذا تعمقنا في دراسة هذه الظواهر المتغيرة (من الورقة إلى السنبلة، إلى تكوين الشجرة أو النبتة أو أي شيء آخر) وجدنا أنَّ هنالك عناصرَ ثابتة وراء الظواهر المتغيرة، ومن ذلك أنَّ الورقة على الشجرة إنما تتغيّر من وقت إلى آخر بتأثير ما خلق الله - تعالى - فيها من تفاعلات كيمياوية.. وكذلك نجد أنَّ في أوراق الشجر صفاتٍ واحدة مشتركة يمكن تحديدها، وأن التبادل الكيميائي في الأوراق يخضع لقوانين ثابتة. وهذه القوانين التي يدرسها العلماء، ويستنبطون منها العناصر العامة لتكوين أوراق الأشجار هي ما يسمى بالقوانين الطبيعية، ما يجعل القانونَ الطبيعي عبارة عن علاقة ثابتة وضرورية بين ظاهرتين طبيعيتين. أما القوانين العلمية فتختلف باختلاف الظواهر التي تبحث فيها، فعلم الفلك مثلاً يبحث في الأجرام السماوية وحركاتها، وعلم الفيزياء يبحث في توازن الأجسام، والضوء والكهرباء والحرارة، وعلم الكيمياء يبحث في المعادن والأجسام العضوية وتفاعلها فيما بينها..
قال لاشيليه: «القانون الطبيعي هو رد الجزئي إلى الكلي، والمركب إلى البسيط، والممكن إلى الضروري».
ويعطي العالم لويس ليارد المثال التالي:
«ألقي حجراً من بين أصابعي فيسقط، وأترك أيضاً قطعة من المعدن أو الخشب فتسقطان، وأقلب إناءً مملوءاً ماءً فيسيل منه، وتسقط كتلة من الرصاص وكرة من الخشب بسرعتين متباينتين في الهواء، وبسرعة واحدة في الفراغ. والخط الذي يتم فيه سقوط هذه الأجسام يكون عمودياً فوق سطح الماء الراكد، سواء كان ذلك في القطب، أو في خط الاستواء، أو ما بينهما. وإذا مُدَّ خط السقوط صادف مركز الأرض.. فهذه هي الظواهر. أما القانون في هذا المثال فهو: كل الأجسام تسقط نحو مركز الأرض بسرعة تزداد بصورة متناسبة مع الزمان الذي مضى منذ بدء السقوط».
ولكي يتحقق القانون العلمي، يجب أن تتوافر في الأشياء التي يجري البحث فيها الشروط التالية:
أ - تناول المعاني الكلية
من المتعارف عليه أنَّ المعاني التي تتناولها العلوم هي معانٍ كلية، وما يجري مجراها، ويدخل في حكمها، لأنَّ العلم لا يكون بالشيء الجزئي. فقد نستطيع أن نصف شيئاً بمفرده، ونعلل الأسباب، إلا أن هذا الوصف وهذا التعليل لا يبلغان غاية العلم إلا إذا كانت الأسباب عامة، تنطبق على الجزئيات الأخرى. ففي المثال السابق عن سقوط الأجسام هنالك خاصة مشتركة بين جميع الأجسام وهي خاصة السقوط نحو مركز الأرض، إذْ لو أجرينا التجربة على أجسام كثيرة، وفي أماكن مختلفة، لرأينا أنَّ النتيجة لا تختلف بالنسبة إلى الأجسام، ولا إلى الموقع الجغرافي، أو الارتفاع عن سطح البحر، بل الأجسام كلها تسقط سواء في القطب، أو في خط الاستواء، وسواء في الهواء كما في الفراغ.. من أجل ذلك كانت خاصيَّةُ السقوط هي قاعدة كلية عامة لجميع الأجسام.
ب - إرجاع المركب إلى البسيط
إنَّ الظواهر الطبيعية كثيرةُ العناصر، ومتشابكة بعضها ببعض، وتخضع لشروط كثيرة. فلو أخذنا سقوط تفاحة مثلاً كظاهرة طبيعية، لوجدنا أن حادثة السقوط هذه مركبة من عدة عوامل مثل مقاومة الهواء، والرطوبة، والموجات الكهربائية أو المغناطيسية الموجودة في الجو، والارتفاع عن سطح البحر، ومكان السقوط، وكثافة الجسم الساقط.. ففي قانون سقوط الأجسام - الذي اتخذناه مثلاً في بحث المعرفة العلمية - يجري تحليل كل حادثة جزئية بمفردها، لكي يُستخلص من تحليلها الاقتصارُ على عامل واحد بسيط يكون مشتركاً بين جميع الحوادث الجزئية. وعلى ذلك فالعلم يرجع الحوادث المركبة إلى عناصرها البسيطة المجردة، حتى قيل: «العلم تعليل الظاهر المركب بالخفي البسيط».
ج - رد الممكن إلى الضروري
وهذه الصفة أساسية في العلم؛ فالقوانين العلمية ضرورية، ويجب أنْ تخضع لصيغة الثبات والاستمرار. نعم إنَّ الناظر إلى الطبيعة قد يظن، لأول وهلةٍ، أنَّها بنتُ المصادفة العمياء، ولكن البحث والتعمق يكشفان له عن نظام ثابت تخضع له الحوادث الطبيعية بالضرورة، لأنَّ العلم لا يؤمن بالمصادفة العمياء، ولا بالفلتة العابرة، ولا بالاتفاق العابر، ولا بالشذوذ المنحرف، بل يقول إنَّ الحوادث يجب أنْ تخضع لنظام ضروري ثابت. وعلى ذلك فإنني إذا عرفت قانون السقوط طبقته على الأجسام وقررت سقوطها وفقاً له، لأن وجود العلة يستتبع حدوث المعلول.. إذ في مثال الحجر الذي نتركه يسقط إلى الأرض، فالتصور - قبل معرفة القانون العلمي للسقوط - يمكن أنْ يتجه إلى عدة احتمالات، منها احتمال أنْ يبقى الحجر معلقاً في الهواء، أو أنْ يرسم في سقوطه هذا المنحنى أو ذاك، أو أنْ يسقط بسرعة متزايدة، أو بسرعة متناقصة.. أما بعد معرفة قانون السقوط، فإنَّ هذه الحادثة (سقوط الحجر) وظروفها المختلفة تظهر ضرورية، ويمتنع الفكر عن تصورٍ مختلفٍ عما وقع. فإذا وقع حادث تبعاً لقانون معروف، فحدوثه ضروري بالنسبة إلى هذا القانون.
وعلى ذلك يرى العلم أنَّ بين طبائع الأشياء علاقات كلية ضرورية وثابتة. وهذه الضرورة يسميها العلماء بالحتمية. فالعلم إذًا هو ربط المجهول بالمعلوم. والمثال على هذا الربط هو أنك إذا رأيت سنابل الحقل تتحرك من بعيد، من غير أنْ تعرف سبباً لهذا التحرك، ثم يقول لك الفلاح إنَّ حيواناً قد مرَّ في طرف الحقل، فتقنع منه، فتكون حركة السنابل حادثة جديدة ومجهولة بالنسبة إليك، ولكنها ربطت بحادثة معينة معروفة وهي حركة الحيوان. وربط المجهول بالمعلوم، لا يكون إلا برد الجزئي إلى الكلي، وبإرجاع الكثرة إلى الوحدة. فنحن نربط حركة الآلة بتمدد البخار، والحرارة باحتراق المادة الملتهبة، وحدوث الصوت باهتزاز الهواء سواء كان صوت إنسان، أو هدير طائرة، أو حفيف أشجار، أو خرير مياه.
فالمعرفة العلمية تتوخى الكشف عن العلاقات الضرورية الموجودة بين طبائع الأشياء، وهي غاية نظرية بحتة، بخلاف المعرفة الصافية التي تتقيد بالنتائج العملية. والعالم الحقيقي يطلب العلم لذاته، لأنَّ الاشتغال بالنتائج العملية دون الحقائق النظرية يعوق العلم عن بلوغ أهدافه. ولا يتم للعالم ذلك إلا بتأليف المعاني، وتنسيقها، واستخراجها من مصادرها، وتنظيمها في قواعد أو قوانين عامة. وهذا كله من ثمرات العقل ونتاج السعي.
3 - المعرفة الفلسفية:
يُقال إنَّ أولَ من استعمل كلمة فلسفة في القديم كان الحكيم اليوناني فيثاغورس. فقد كان يقول: «الفلسفة هي محبة الحكمة». وهذا يعني بحسب اشتقاق الكلام، أنها مكونة من لفظتين: (فيلا) وهو حبُّ، و(سوفا) وهي الحكمة. ومن قول فيثاغورس أيضاً: «من الغرور أنْ يدّعي الإنسان الحكمة لنفسه لأنَّ اسم الحكيم لا يليق بإنسان قط بل يليق بالإله. وكفى بالإنسان شرفاً أن يكون محباً للحكمة، وساعياً وراءها».
وكان أفلاطون يقول: «الفلسفة هي العلم بالحقائق المطلقة المستترة تحت ظواهر الأشياء، وهي علم العالم المعقول، لأن الذي يقتصر على العالم المحسوس لا يدرك إلا ظل الحقيقة». ولا يختلف أرسطو في تعريفه للفلسفة عن أفلاطون إلاَّ قليلاً، إذ عرّفها بقوله: «هي العلم بالأسباب القصوى للأشياء أو علم الموجود بما هو موجود».
أما ابن سينا فكان يقول: «إن هذا العلم يبحث في الوجود المطلق، وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم. وهو الحكمة التي هي أفضل علم بأفضل معلوم، أي بالله تعالى وبالأسباب من بعده. وهو أيضاً معرفة الأسباب القصوى للكل».
ويلاحظ من هذه التعريفات أنَّ القدماء لم يكونوا يفرقون بين العلم والفلسفة، إذْ كانت الفلسفة عندهم تدل على كل معرفة خالية من الغرض، لا يطلبها الفيلسوف إلا لذاتها، ولا يهمه ما تؤول إليه نتائجها العملية، فهي بذلك تلتقي مع العلم فتكوِّن معه لديهم شيئاً واحداً. وهذا ما ذهب إليه أصحاب المذاهب الوضعية الذين يعتبرون الفلسفة أنها علم العلوم، وإليها تنتهي كل الحقائق، وبها يكون اتصال العلوم ببعضها.. والمعروف أنَّ الفلاسفة لم يبحثوا جميعهم في المسائل نفسها، بل كان كل فيلسوف يبحث في مسألةٍ، أو مسائل معينة، وغيره يبحث في غيرها.. وحتى عند بحث بعضهم في المسألة الواحدة، لم يكن كلُّ واحد يعيرها الدرجة نفسها من الاهتمام؛ فأبحاث ابن سينا في النفس، ليست على المستوى نفسه لأبحاث (برغسون) في الحدس، أو لمسألة المعقولات عند أفلاطون..
وقد برهنت الأبحاث فيما بعد أنَّ العلوم شيء، والفلسفة شيء آخر، وإنْ كانت هناك علاقة ما بين الفلسفة والعلم، شأنها شأن أي نتاج فكري إنساني يستعين بالعلم إذا وجدت علاقة يمكن أن يربط بينهما من قريب أو بعيد.. فالباحث في اللغة يعتمد قواعد معينة تشكل في نظر الكثيرين قواعد علمية، وكذلك الأديب يأخذ بالبراهين العلمية ليعطي لأفكاره قوة معينة وهلُمَّ جرّاً... وقد كانت الفلسفة في نظر القدماء معرفةً أرقى من المعرفةِ العلمية، لأنَّ الفيلسوف يحتاج - كما قيل - «إلى ملكات عقلية لا يحتاج إليها أهل الكهف» وقد اعتمدوا هذا التعبير «أهل الكهف» للتدليل على أنَّ الفيلسوف ليس شبيهاً بأهل الكهف الذين يكتفون بالمعرفة الحسية، ويقتصرون على ظواهر الأشياء، ويجهلون عالم المثل الحقيقية. وإنما الفيلسوف هو رجل سامٍ لا يقتنع بالظواهر، بل يتوسل بعقله وبحدسه الخاصّ - الموهوبَيْن من الخالق العظيم - الاتصال المباشر بعالم المثل كما ذهب إليه أفلاطون، ومن ساروا على أثره بإقرار وجود الحدس الخاص، حتى لتجد القول به عند فلاسفة القرن التاسع عَشَر أمثال (فيخت) و(هيجل) و(شوبنهاور) الذين زعموا أنَّ هذا الحدس ملكة خاصة بالفيلسوف، وهو ضروري للاتصال بالمطلق واللانهاية..
وعلى ذلك فإنَّ الفلسفة تمتاز عن العلم بأنها تبحث في الكليات العالية حتى تصل على الرغم من أصحابها إلى إدراك الحقيقة والجوهر. ولذلك فرقوا بين الفسلفة والعلم بخاصتين هما:
1 - المعرفة الفلسفية تمتاز عند الفلاسفة بأنها عامة وكلية، أما العلم ومهما بلغت درجة عموميته فإنه يبقى في بعض نواحيه خاصاً. والفلسفة وحدها تملك قواعد كلية يمكن أنْ تتفرع عنها قوانين العلم، حتى لقد قال أفلاطون: «الفيلسوف يجمع كل شيء في نظرة واحدة».
2 - الفلسفة تتوخى تعليل الأشياء تعليلاً أعمق وأكمل من تعليل العلم. بل وتعليلها مخالف لتعليل العلم، لأنها تبتغي به الوصول إلى الحقائق المطلقة.
المثال التالي يمكن أن يوضح الخاصتين السابقتين: لنفرض أنَّ كلباً حاول الهجوم عليَّ، فأخذت حجراً ورميته به. فهذه الحادثة الصغيرة تتداخل فيها عدة قوانين علمية: الفيزيائي يهتم بالمنحنى الذي رسمه الحجر أثناء سقوطه، وبيان حركته وسرعته منذ بدء رميه وحتى سقوطه، وشدة الجاذبية، وتأثير الهواء عليه. والفيزيولوجي يهتم بما قامت به اليد عند إلقاء الحجر لناحية حركة العضلات، واتصالها بالمراكز العصبية المحركة، وكيفية صدور الفعل عنها. والنفساني أو السيكولوجي يبحث عن أسباب الخوف الذي داخلني، والذي ظهر باصفرار على وجهي، فيعتبر أنَّ الخطر الذي دهمني هو الذي ولَّد الخوف لديَّ، وكان عليَّ إما الالتجاء إلى الهرب، أو الدفاع عن النفس. وفي فعل الدفاع هذا تشترك عدة أمور نفسية كالتذكر، وتداعي الأفكار، والخيال وغير ذلك.. هذا فيما يتعلق بالعلم.. أما فيما يعود إلى النواحي الفلسفية فإن الحادثة تبحث بوضوح أكثر وعلى درجة أعم وأعمق. فالبحث هنا يكون عن أسباب إدراك الخوف ونتائجه، والسعي لفهم حقيقة الأفعال النفسية وبيان تأثيرها في البدن. فالإدراك هو الذي ولد الخوف، والخوف هو الذي دفع إلى تنفيذ فعل إرادي.. إذًا كيف تُحرّكُ الإرادةُ البدنَ، وكيف يكون اتصالُ الانفعالات النفسية بالحركات العضوية، وبعبارة أخرى ما هي علاقة النفس بالجسد؟.. كل ذلك ممّا تريد الفلسفة الوصول إليه، ساعية إلى توضيح هذه الأمور بصورة عامة وعميقة..
3 - لا تقتصر الفلسفة على الأمور الحسية الظاهرة التي هي موضوع العلوم، بل تغوص في البحث عن الوجود والجوهر علَّها تهتدي إلى الحقائق العميقة.. أي إنَّ العلوم تبحث في ظواهر الأشياء الحسية لمعرفة قوانينها، في حين أنَّ الفلسفة تريد إدراك الحقيقة المطلقة. فعلم الطبيعة يبحث في الضوء والصوت والحرارة. وعلم الكيمياء يبحث في خواص الأجسام وقوانين اتحادها. ولكن الفلسفة تريد أن تفهم ما هي حقيقة القوة والمادة. وإذا كان علم الأحياء يدرس ظواهر الهضم والتنفس والدورة الدموية مثلاً، فإنَّ الفلسفة تتوخى إدراك حقيقة الحياة. وإذا كان علم النفس يهتم بمعرفة تراكيب النفس من إدراك وذاكرة وعاطفة وإرادة، فإنّ الفلسفة تريد إدراك جوهر النفس ومعرفة نوع ومدى التفاعل في داخلها..
على أنَّ الاتجاه الذي يميل إلى اعتبار الفلسفة ذات صفات أعم وأشمل من العلوم يقابله اتجاه مضاد عند الوضعيين الذين يزعمون أن كل ما لا يتناوله العلم بالبحث لا يمكن الوصول فيه إلى حلٍّ نهائي، بل يبقى خليطاً من الحدس والظن لا يوصلان إلى معرفة صحيحة. ولكن هذا الزعم لا يستند إلى دليل، لأنَّ العلم نفسه لا يُكْتَسَبُ إلا بطرائق عقلية خاصة يستند إليها العلماء في البحث عن الحقيقة العلمية. وهم يتبعون هذه الطرق وفقاً لقواعد ومقاييس معيّنة من غير أن يسألوا: ما هي الحقيقة العلمية التي يتوخونها، وما هو معناها، مِنْ مِثْلٍ ما قيمة الاستنتاج في المسائل البرهانية التي ينظر فيها الرياضيون؟ أو ما قيمة الاستقراء الذي يوصل العالم الطبيعي إلى التعميم؟ وما هو عمل العقل في هذه المسائل؟ بل ما هي قيمته؟
ثم إنَّ النتائج التي يتوصل إليها العلم بين حين وحين، قد تؤدي إلى بطلان حقائق كانت تعتبر علمية حتى ثبت عدم دقتها أو بطلانها، فمثلاً كان العلماء يظنون أنَّ الأرض مسطحة أو ثابتة حتى جاء البرهان على أنها كروية، وتسبح في دورانها حول نفسها وحول الشمس، فظهر بذلك سخف الأحكام القديمة وفساد الاعتقادات التي كانت ترى في الأرض كوكباً ثابتاً. ومثال آخر وهو أن الألوان تنشأ عن اهتزازات تؤثر في شبكة العين، وهي تختلف باختلاف تلك الاهتزازات، فحقيقتها إذًا بعيدة عن ظاهر ما يبدو منها لأعيننا، ما يجعل الشك يتسرب إلى عمل الحواس نفسها بالنسبة إلى العالم.
من أجل ذلك يذهب أنصار الفلسفة إلى القول بأنَّ العلم بقواعده وطرائقه ونتائجه عبارة عن نظريات وفرضيات خاضعة للبحث وقابلة للتغيير، وهو يرتبط بالفلسفة من نواحٍ معينة. في حين أنَّ الحقيقة على عكس ذلك، أي إنَّ الفلسفة تعتبر تابعة للعلم، حتى وإن كانت متقدمة عليه في ظهورها، وهذا ما دفع شوبنهاور لأنْ يقول: «الإنسان حيوان فيلسوف». ولكن تلك الفلسفة الأولى في حياة الإنسان كانت فلسفة عامية غامضة، تدفعه إليها حاجاته، ويستنبطها من تجاربه العملية والشخصية، وهي تبقى بدون قيمة إذا قيست بالفلسفة النظرية المستندة إلى العلم. ومن الحقّ القول بأنَّ العلوم غيَّرت كثيراً من مفاهيم الإنسان، وبدَّلت اعتقادات القدماء؛ فقد كانت فلسفة الأقدمين مملوءة بالخيالات والأساطير والأوهام، فاستبدلت اليوم بفلسفة عقلية مؤسسة على العلم والتجربة.. وكان القدماء يستسهلون تعليل الأشياء بنظريّات خيالية لا تؤيدها التجربة، فأصبح الإنسان في العصر الحديث لا يضع نظرية إلا بعد البحث والتمحيص، وبذلك تكون نظريته تابعة للتجربة، لا التجربة تابعة لنظريته.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢