نبذة عن حياة الكاتب
علم النفس: معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة - الجزء الأول

الفصل السّابع - البحث الأول: تكوين الشخصيّة
وأهمية تلك المراحل المختلفة التي يمرُّ فيها النمو أنَّها تجعل لكل منا شخصية خاصة، تميزه عن الآخرين. ويبدو أن تكوين الشخصية يتأثر بالعوامل الناتجة من الأحاسيس الجسدية، وبالعوامل النفسية المتعلقة بالأفكار والتصورات والذكريات، وبعوامل المجتمع والبيئة، ومع ذلك فإنَّ لكل فردٍ وحدَهُ شخصيّتُهُ الخاصة به، مهما شاركت العوامل المؤثرة، ومهما تباينت تلك العوامل أو جعلت اختلافاً بين الأشخاص...
من حيث الأحاسيس واضحٌ أنَّ للحواس، ولتكويننا الفيزيولوجي - إجمالاً - تأثيراً هاماً على شخصيتنا؛ فقوة الجسد أو سلامة الصحة يكون تأثيرها مختلفاً عن الأعراض والأمراض التي تصيب الجسم وتوهنه. ومن قبيل ذلك ما يقول علماء الطب مِنْ أنَّ للغدد الصُمِّ أثراً خطيراً فيما يطرأ على شخصية الفرد من تغييرات، فإذا ازداد إفراز الادرينالين مثلاً أدى إلى سرعة الانفعال، وإذا ازداد نشاط الغدة الدرقية ازداد النشاط وقوة الاحتمال.
ثم إنَّ التكوينات العامة للإنسان مثل هيئة وجهه، أو طوله وقصره، أو نحوله وجسامتِهِ... جميعها تؤثر في تصرفاته، وفي علاقاته بالآخرين. وغالباً ما يكون وجه المرء مرآة لنفسه، بحيث تظهر عليه ملامح الرضا أو الغضب، الفرح أو الحزن، الارتباك أو الصلابة... وكلها تأتي من انفعالات النفس، ومن تركيب الأعصاب عند الفرد، ما يجعله وحدة عضوية متكاملة تبنى عليها شخصيته، فإذا فقدت هذه الوحدة، أو لحق بها خلل، أدى ذلك إلى فقدان الشعور الواضح بالشخصية. ولذلك يتولد من اختلال إحساس الإنسان بجسده كثير من أمراض الشخصية.
وكما تؤثر الوحدة العضوية على الشخصية، فكذلك التصورات والذكريات تكون ذات تأثير هام على هذه الشخصية. فلكل إنسان مثلٌ وقيمٌ معنوية، وهو يسعى محاولاً إثبات وجوده من خلال المثل والقيم التي يؤمن بها، ويعمل على تحقيقها، والتي تتأتَّى - عادةً - من تصوراته ومفاهيمه التي يكتسبها خلال مسار حياته كلها. وهذا ما يجعل التصورات والمفاهيم من مقومات شخصيته. والذكريات لا تقل عنها شأناً في تقويم الشخصية، إذ لولا الذاكرة لما كان للإنسان عقل، ولا شعور ولا شخصية. فالإنسان يعيش في الماضي، كما يعيش في الحاضر، وكما يفكر دائماً في المستقبل الذي يريد، فحياته الماضية تبقى منطبعة في نفسه، وتكوّن جزءاً من شخصيته، لأنها لا تنفك تلاحقه في كل ما يقوم به. والذكريات الواضحة قد تنمي شخصية الإنسان، بعكس الذكريات الغامضة، التي قد تولد - كما يقال في طب الأمراض النفسية - خللاً في الشخصية، بحيث إذا تضاربت الذكريات في نفس الإنسان، وطغت طائفة منها على غيرها، قد تؤدي إلى انقلاب في شخصيته، فيصبح كأنه شخص آخر غير الذي يعرفه الناس.
وللعلاقات المجتمعية أيضاً أهميتها في تكوين الشخصية، لأن الإنسان يعيش في بيئة[*] معينة، حيث ينظم حياته، ونشاطه، ووجوده، وفقاً للقيم السائدة، والقوانين المطبقة، وهي تفرض عليه اتجاهات محددة، وروابط معينة، في كثير من الأحيان، فضلاً عن الاتجاهات والروابط الشخصية من عائلية، ومهنية، ونمط عيش وما إلى ذلك..
وهكذا تتضافر العوامل في حياة الإنسان، منذ طفولته وحتى نهاية عمره، لتكوين شخصيته.. فالعيش في الأسرة، وتلقي المعارف في المدرسة، والعلاقات مع أترابه في المجتمع، وسعيه لكسب رزقه وبناء مستقبله، كلها لها تأثيرها المباشر وغير المباشر على شخصية الإنسان، وتشكّل عوامل أساسية وحيوية لجعل كل فرد يتميز بشخصية معينة عن شخصيات الآخرين.
وقد كانت تلك العوامل مدار اهتمام المفكرين منذ زمن قديم. وقد أعطى المفكرون، على مدى عهود طويلة، معلومات وأفكاراً كثيرة حول الوجود الإنساني، وحول نفس الإنسان وسلوكه. إلاَّ أنّ الإنسان، على الرغم من ذلك، لا يزال كثير من مكوّناته مجهولاً: إنْ في دقائق تركيبه الفيزيولوجي ومدى ترابط الأعضاء لديه وأداء وظائفها واختصاصاتها، وإن بتكوينه النفسي من حيث العقل والتمييز، ومن حيث الشعور والإحساس.. وما إلى ذلك من التركيب والتكوين العضوي والشعوري الذي يميّز كل واحدٍ عن الآخرين في السمات، والسلوك.
ولذلك لم يتمكّن المفكرون، وعلماء النفس المحدثون، من وضع تصوّر موحد وشامل للشخصية الإنسانيّة، وذلك نتيجة لاختلاف نظرة كل منهم إلى الإنسان، ولم يتوصلوا إلى التوافق على نظرية موحدة، للشخصية، بل ما زالوا يعرضون نظريات تلو نظريات قد تتقارب في نواحٍ معينة، إلاَّ أنها تتصادم وتتناقض في معظم النواحي. وهذا ناتج من اعتمادهم، في دراسة الإنسان، على مناهج البحث الموضوعية، أو المناهج التي تعتمد الطريقة العلمية وسيلة وحيدة في مختلف العلوم والمعارف. ولا يمكن أن تؤدي هذه الطريقة إلى فهم الإنسان، فهماً حقيقياً ودقيقاً، لأنها تقوم على الملاحظة والاستنتاج، وعلى التجربة والاختبار، أي على البحوث في المختبرات العلمية، والمناهج التجريبية، وهي بحوث ومناهج تقصّر كثيراً عن المعرفة الدقيقة والصحيحة للشخصية الإنسانية..
وفي دراسة العوامل التي تحدد الشخصية يجري التركيز، في أكثر الدراسات والأبحاث، على العوامل البيولوجية والعوامل المجتمعية والثقافية.
والحقيقة أنه لا يمكن فهم شخصية الإنسان على حقيقتها إلاَّ بدراسة مختلف العوامل المذكورة مضافاً إليها العامل الأهم وهو الجانب الروحاني في الإنسان. ذلك أنَّ خلق الإنسان كان من جسد وروح ونفس كما يبيّن لنا القرآن الكريم. وقد مرَّ هذا الخلق بمراحل عديدة:خلط الطين بالماء، ثم تعريضه للهواء حتى يصير الطينُ من حمإٍ مسنون ثم تأتي مرحلة الطين اللازب، أي الطين الذي يصبح قابلاً للتخليق والتشكيل، ومن ثم من صلصال كالفخار أي اكتمال هيئة التكوين، من حالة التراب إلى حالة الصلصال، وذلك بفعل كافة المؤثرات الخارجية من الماء والهواء والبرودة والحرارة، مثلما يصير عليه الطين الذي يُصنع منه الفخار بعد أن يُشوى في آخر مرحلةٍ على النار (كما هو معروف في صناعة الفخار أو الخزف). وبعد التكوين المادي لهذا المخلوق الذي جبله الله تعالى من طين بَشَرة الأرض، نفخ فيه سبحانه من روحه فصار بشراً سويّاً تحرّكه الروح، ثم أودع سبحانه فيه النفس بكوامنها واستعداداتها، فاستوى آدم (عليه السلام) بخلقه الإنساني، وبهذا التكوين، من صنع ربّ العالمين.. ثم بما أودع الخالق تبارك وتعالى في آدم وحواء (عليها السلام) من نظام ثابت للتزاوج والتناسل، خرج الجنس البشري، فكان متميزاً عن سائر مخلوقات الأرض بخصائصه الذاتية الإنسانية، تصديقاً لقوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ *الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ *} [السَّجدَة: 6-9]. وعلى الرغم من هذا الخلق السوي فإنَّ الإنسان يشارك الحيوان في الكثير من الخصائص الجسمية وخصائص غريزة النوع وغريزة البقاء، إلا أنه يتميز عن الحيوان بالخصائص التي تمنحه قوة الإدراك والتمييز، أو قوة الربط الدماغية للمعلومات التي تجعله قادراً على المعرفة: معرفة حقيقة وجود الله تعالى، وما تقتضي هذه المعرفة من إقرار بألوهية الله تعالى المطلقة، وبربوبيته المطلقة، ومعرفة المنهج الذي يجب أن يسير عليه بما يتوافق مع عبوديته لخالقه، هذا بالإضافة إلى نزعته الإنسانية في حبه للمثل والقيم التي تمكنه من الترقي في معارج التكامل الإنساني.
من هنا وجب التركيز في أية دراسة أو بحث يتعلق بشخصية الإنسان على تكوين الإنسان ككل متكامل، وكوحدة غير قابلة للتجزئة.. وحدة تتكامل فيها عناصر الجسد والروح والنفس تكاملاً كلياً، بحيث يؤدي إهمال أي عنصر من هذه العناصر إلى هدم كيان الإنسان، وإطاحة مكرمة خلقه.
ومعرفة شخصية الإنسان تقتضي معرفة المفاهيم والمعلومات والسلوك، التي تنتج منها العقلية والنفسية.
المفاهيم والمعلومات
ويقصد بالمفاهيم معاني الأفكار لا معاني الألفاظ، فإذا قال الشاعر:
وأَخَفْتَ أهلَ الشركِ حتى أنَّهُ
لتَخَافُكَ النُطَفُ التي لم تُخلَقِ
فإنَّ المعنى في الشطر الأول موجود في الواقع ومدرك حسياً، بينما المعنى المقصود في الشطر الثاني لا وجود له في الواقع القائم والمحسوس، إلاَّ أنه يبقى مجرد معنى لفكرةٍ يمكن تفسيرها أو بيان المقصود منها.
ولكي يتّضح ما يعنيه المفهوم، نقول إنَّهُ عندما يظهر الفكر بلفظ ما، ويتضمن هذا اللفظ معنىً معيناً، وكان لهذا المعنى واقع يقع عليه الحسّ، أو يتصوره، ويصدقه العقل بكينونة وجوده. المعنى يشكل مفهوماً عند من يحسّه ويتصوره، ولا يشكل مفهوماً عند من لا يحسه ولا يتصوره، بل يظل مجرد معلومات.. أي إنَّ على المتلقّي أن يفهم معاني الجمل كما تدل عليه في حقيقتها - سواء كان هذا الفهم مطابقاً أو غير مطابق لما كان يريد واضِعُها أو لافِظُها - وأن يدرك في نفس الوقت نفسه واقع هذه المعاني في ذهنه إدراكاً يشخّص له الواقع، عندها تصبح هذه المعاني مفاهيم. ولذلك نقول بأن المفاهيم هي المعاني التي يُدرك لها واقعٌ في الذهن، سواء كان واقعاً محسوساً في الخارج، أم واقعاً مسلماً به أنه موجود تسليماً مبنياً على واقع تَمَّ الإحساسُ به.. وما عدا ذلك من معاني الألفاظ والجمل لا يسمى مفاهيم، بل مجرد معلومات. فالمفاهيم إذن تتكون من ربط الواقع بالمعلومات مع التصديق الجازم بصحتهما، أو من ربط المعلومات بالواقع. فمثلاً معنى التوحيد، وأركان الدين، والأحكام الشرعية، والمقاصد والأفكار التي يحملها الإسلام هي مفاهيم بالنسبة إلى المؤمنين، لأنهم صدقوا بواقعها، وهي أفكار ومعلومات بالنسبة إلى غيرهم من الناس. فإذا آمن بها الناس تصبح لديهم مفاهيم، وإذا لم يؤمنوا بها فإنهم يحملونها مجرّدَ معلومات أو معارف. والمفاهيم الإسلامية في حقيقتها ليست مجرد معلومات للمعرفة، بل هي مفاهيم لها مدلولات في واقع الحياة، ويمكن الإنسان أن يضَعَ إصبعَهُ على كل مدلولٍ منها، سواء كانت مفاهيم عميقة يحتاج إدراكها إلى فكر عميق ومستنير، أو كانت مفاهيم ظاهرة يمكن فهمها بسهولة. وسواء كانت مما تدركه الحواس في شتى مناحي الحياة، أو كانت من الأمور الغيبيّة التي صدَّقها العقل بصورة قاطعة حتى صارت بمثابة المحسوسات لديه مثل تصوّر معاني الملائكة والجنة والنار ويوم البعث.. فهذه مدلولات واقعة في الذهن على شكل قطعيّ، لأنها مدلولات قرآنية صدقها العقل وآمن بها القلب، فشكلت مفاهيم عند المسلمين..
والمفاهيم قابلة للتغيير، إلا أنَّ هذا التغيير لا يأتي إلاَّ من ذات الإنسان، من داخل نفسه التي تعبّئ المفاهيم في طيّاتها، يقول الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ *عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ *سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ *لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ *} [الرّعد: 8-11].
إنه علم الله الواسع، ومن يعلم ما في آفاق السماوات والأرض إلاَّ خالقهما. فهو يعلم - سبحانه - ما تحمل كل أنثى في رحمها من ذكر أو أنثى - أو فيما هو مماثل للرحم في الكائنات الحية الأخرى من غير البشر - ويعلم مدة الحمل عندما تنقص لدى نساءٍ فتلد في شهرها السادس أو السابع أو الثامن أو تزيد على ذلك عند نساءٍ، فتلد في شهرها التاسع، وربما في آخره.. ويعلم النطفة في الرحم التي تكون في طور التخلّف يفيضُ الرحمُ يجري سقوط الحمل، ويعلم ما تزدادُ به الأرحام عندما تحمل المرأة أكثر من جنينٍ في الحمل الواحد.. وكل ذلك بقدر مقدَّر منه تعالى، وحدّ لا يتجاوزه.
وهو يعلم - سبحانه - الغيب الذي تفرَّد به وحجبه عن عباده، سواء منه هذا الغيب الذي حجبَهُ عن أبصارنا وبصائرنا في أسرار خلْقِهِ، أو في الكائنات التي أوجدها في المدى البعيد عنّا وعن آلاتنا مهما تطوَّرت.. ومنه كذلك الغيب الذي يُخفي عنَّا أسرار النفس البشرية في مكنوناتها، وتوجّهاتها، وتقلّبها من حالٍ إلى حالٍ!...
ويكفي أنْ ندرك، نحن البشر، أنَّه ليس بمقدرونا معرفة كل ما في النفس البشرية حتى تتبيَّن لنا عظمةُ الخالق، العزيز في ملكه، ذو الجلال والإكرام، الذي يعلم - سبحانه - ليس ذلك الغيب المستور عنا فقط، بل والمشهود الذي قد ندركه بعقولنا وحواسنا، من أدنى ذرة إلى أكبر الأجرام في الخلق، إلى ما هو مستورٌ من الملائكة في السماء، أو ربما غيرها من المخلوقات التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى..
ولو أمعنا النظر لوجدنا أنَّ الغيب هو كل ما غاب عن علم المخلوقات كلها من الناس وغيرهم. وأنَّ المشهودَ قد يكون مشهوداً لنا، وغيباً عن غيرنا - من الخلائق - أو مشهوداً لغيرنا وغيباً عنّا، في حين أن الغيبَ والمشهودَ يعلمه الله الكبير المتعال.. الكبير: فكل شيء يصغر دونه في وجوده وعلمه، المتعال: فكل شيء يذلُّ دونه في وجوده وعلمه، فلا إله إلا هُوَ إلهٌ واحدٌ في السماوات والأرض، وربٌّ واحدٌ معبودٌ في السماوات والأرض، قد أحاط بكل شيءٍ علماً..
ومن خصائص خلقنا نحن البشر، أنَّ الله ربنا يتعقَّب بعلمه كلَّ واحد منا بمفرده، فيعلمه على أي حال يكون، سواء عملَ أو لم يعمل، وسواء أسرَّ القول لنفسه أو جهرَ به أمام الناس، وسواء كان نائماً، أو مستخفياً فيما يقوم به في الليل الذي يستر، أو ساعياً متحركاً في النهار الذي يكشف، فكل ذلك يدخل في علم الله، الذي لا يخفى عليه شيء من هذا الإنسان، وهو يصولُ ويجول في هذه الحياة الدنيا، وكأنَّما لا موت، ولا نشور ولا حساب عنده - على ما هو مشاهدٌ من أحوالِ أكثرِ الناس اليوم - وما يجب أنْ نتبَيَّنَهُ وننبِّه عقولنا ونفوسنا إليه، ما خصَّنا به، نحن البشر،خالقُنا، إذ جعل لكل إنسانٍ ملائكةً يحفظونه من المهالك، ويتعاقبون على حفظه، ليل نهار، بما يأمرهم ربُّهُم، كما أوضحَه أحد الصحابة - فيما تعلَّم عن رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - وهو يحدّث عن أمر الله تعالى، فقال: «لولا أنَّ الله - تعالى - أوكل بكم ملائكة يذبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطَّفنَّكُمُ الجنُّ». فهذه حال كل واحد من الناس، يحصي عليه ربُّهُ كل شاردة وواردة آناء الليل، وأطراف النهار، والناس على ما هم عليه في غفلةٍ من هذا كله، لا يعرفون أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد أوكل حفظةً، يحفظونهم من أمره حقاً، ولكن يحسبون أيضاً عليهم حركاتهم وسكناتهم من خير أو شر، إلاَّ النيات فإنه لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، الذي يعلم ما تكنُّ الأنفس، وما تخفي الصدور والتي يدخل فيها ما يمكن أنْ يُحدثوهُ من تغيير بأنفسهم، وما قد يترتب على هذا التغيير من آثار في حياتهم الدنيا. ذلك أنَّ الله - سبحانه وتعالى - لا يغير نعمةً أو بؤساً، ولا يغيّر عزّاً أو ذلّةً، ولا يغيّر مكانةً أو مهانةً بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، من الأفكار والمشاعر، وما في عيشهم من طرائق الأعمال والتصرفات، وهذه سنة من سنن الله تعالى في الخلق البشري، أحكمها سبحانَهُ لكي تسري مشيئتُهُ على هؤلاء الخلق طبقاً لما يريدونه بأنفسهم، فإذا أراد الله تعالى بقومٍ سوءاً - يكونون قد استحقوه بأنفسهم، لأنه ممَّا صنعت أيديهم - فلا دافع له عنهم، ولا يعصمهم منه والٍ يناصرهم. فالتغيرات في أحوال الناس موقوفةٌ على ما يُجرونه من تغيير بأنفسهم، وكلُّ تغيير في أوضاعهم مرهونٌ بتغييرِ نياتهم.
ومن ذلك أيضاً قولُ الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [الأنفَال: 53]، فما أعظم فضلُ الله على الناس، إذْ لو تفكَّروا بهذه الآية المباركة وتدبَّروها حقَّ تدبّرها، لعرفوا ما حباهم الله تعالى به من مكرمة عظيمة، وما جعل لهم من مكانةٍ رفيعة بين خلائقه. فقد أوكل الله تعالى كلَّ واحدٍ من الناس - وفي كثيرٍ من أمور حياته - إلى نفسه وجعل هذه النفس، السبب للنعمة أو النقمة، كما يدلُّنا عليه النصُّ القرآني الكريم. فالله سبحانه وتعالى لا يسلب نعمة أنعمها على قومٍ من عباده إلاَّ بعد أن يغيروا نياتهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم من الأحسن إلى الأسوأ.. وهذا منتهى العدل الإلهي، إذ عند هذا التغيير يستحقون ما يستحقونه من سلب النعم التي أعطاهم إيَّاها في الأصل تفضلاً منه تعالى وتكرّماً. وقد قضى سبحانه بأنْ يصاحب النعمَ لعباده حقُّ الابتلاءِ والاختبارِ، فإن لم يقدِّروا حقَّ تلك النعمة ولم يشكروا لله - عزَّ وجلَّ - مواهبَهُ وعطاياه، فمعناه أنَّهم سقطوا في التجربة والاختبار، فاستحقّوا سلب النعمة. هذا إذا أرادَ الله أنَّ يغيّر من نعمِهِ عقاباً لقومٍ على جحودهم ونكرانهم...ولكن قد يكون سلب النعمة أيضاً لمصلحة للعباد لا يعلمها إلا سبحانَهُ وتعالى وحده، فهو خبير لطيف بعباده ويعلم مصالحهم وأحوالهم، فيزيد من نعمه أو يسلب من هذه النعم، ما تقتضيه مصالح عباده، ووفق ما يشاء سبحانه ويقدر.
والفضل العظيم من الله تعالى هو عندما يجعل سلب النعمة أو عطاءَها منوطاً بالناس أنفسهم، فرادى وجماعات... ذلك أنًّ الله تعالى إنما يكرِّم هذا المخلوقَ البشري أكبرَ تكريم حين يجعل أمرَهُ به ينفذ ويجري من خلال نفس الإنسان ذاته، وبسبب عمله، ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم وسلوكهم، وأفعالهم وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم. إذْ مِنْ مصاديق تكريم الله لعباده أنه يلقي سبحانه التبعة على الإنسان نفسه، وذلك بأن يترك له المجال في التقدير والاختيار بحيث يملك هو - هذا الإنسان - أنْ يستبقي نعمة الله تعالى عليه، ويملك أنْ يستزيدها إذا هو عرفها فشكر، كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكرها، وبطر، وانحرفت نياته، فانحرف سلوكه وعمله.
لذا نجد هذه الحقيقة تتلازم بين العمل والجزاء في حياة الإنسان.. في تفكيره ونشاطه، وفي إرادته وتصرفه. ومن هذه الحقيقة يمكننا أن نتصور مشيئة العلي الحكيم في جعل هذا التلازم سنةً من سننه تعالى يجري بها قدره، ولا يظلم فيها عبداً من عبيده. فهو سبحانه سميع لأقوال عباده، عليم بجميع أعمالهم، وما تنطوي عليه قلوبهم، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
السلوك
الأصل في السلوك هو الطاقة الحيوية. وقد بات معروفاً، في تفكيرنا وتصورنا - نتيجة لما سبق توضيحه - أنَّ الطاقة الحيوية هي الغرائز والحاجات العضوية، التي تدفع الإنسان وتتطلب منه الإشباع، فيتحرك - قولاً أو فعلاً - لتحقيق هذا الإشباع. ولذا كان السلوك متوقفاً على الطاقة الحيوية.
إلاَّ أنَّ ما يعيّن سلوك الإنسان هو المفاهيم، لا الأفكار فقط، فالأفكار لا تؤثر على السلوك، إلاَّ إذا صدّق بها الإنسان وارتبط هذا التصديق بالواقع، فعندها تصبح الأفكار من المفاهيم. من هنا فإن سلوك الإنسان يكون - قطعاً ويقيناً - بحسب مفاهيمه.
والفكر يتأتَّى عن العقل، كما يتأتَّى السلوك عن الطاقة. ولذلك كان السلوك غير الفكر، وكان التفكير غير الميل، وكانت العقلية غير النفسية. إذاً هنالك في الإنسان طاقة تتطلب الإشباع، وهنالك فيه أيضاً عقل يفكر - وهما أمران مختلفان - فإن ارتبطا وحصل سلوك بحسب الأفكار كانت الشخصية. وإذا لم يرتبطا وظلا منفصلين كانت هنالك ميول، وكانت معها أفكار. إلاَّ أن مخالفة السلوك للفكر أكثر ما تكون في الجزئيات، ولا يؤثر ذلك على الشخصية، وإنما يؤثر على بعض التصرفات، في بعض الأحيان. ففي إحدى غزوات الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، المعروفة بغزوة بني المصطلق، ثارت في نفوس الأنصار والمهاجرين نعرة العصبية بسبب نفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول الذي أراد أنْ يشعل فتنة بين صفوف المسلمين.. في تلك الحالة، وقد وقف الأنصار يتنادون، ووقف المهاجرون يتنادون - بدعوة العصبية - انفصل السلوك عن الفكر، مع أنَّ مفهوم الأخوة في الدين الذي يناقض العصبية - مهما كان شكلها - كان واحداً عند المهاجرين والأنصار. ولكن ذاك المفهوم الإسلامي لم يعد، في الوقت الذي جرى فيه التنادي مفهوماً لأنه انفصل عن الارتباط بالطاقة، أي بالسلوك الإسلامي، فتصرف كل من هؤلاء وهؤلاء بحسب ميولهم السابقة لا بحسب أفكارهم الجديدة، ولكن من دون أيِّ تغيير يذكر في حقيقة شخصيةِ الأنصار، أو شخصية المهاجرين، إذ إنهم ما لبثوا جميعاً أنْ عادوا أخوةً - يغلب عليهم مفهوم الأخوة في الدين - بعد أنْ وضع الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الأمور في نصابها. ولذلك يمكن القول بأن انفصال السلوك عن الفكر لا يؤثر، في بعض الأحيان، على الشخصية. وكذلك يكون خطأً القول بأنَّ للإنسان وجهتي نظر في الحياة، إذ لا يكون للإنسان إلا فكرٌ أساسيٌّ واحدٌ عن الحياة تحوّل إلى مفهوم. فإذا وجد فكر غيره فإنه يبقى مجرد فكرٍ ولا يتعداه إلى مفهوم...
العقلية والنفسية
العقلية هي الكيفية التي يُربط فيها الواقع بالمعلومات، بقياسها إلى قاعدةٍ واحدة أو قواعد معينة. ومن هنا تختلف العقليات وتتنوع، فتقول هناك عقلية إسلامية، أو عقلية شيوعية، أو عقلية رأسمالية، أو عقلية فوضوية، أو عقلية رتيبة... أما النفسية فهي الكيفية التي يجري بها إشباعُ الغرائز، والحاجات العضوية، أي هي الكيفية التي تُربط فيها دوافع الإشباع بالمفاهيم، فهي مزيج من الارتباط الحتمي الذي يجري طبيعياً في داخل الإنسان: بين دوافعه النفسية، والمفاهيم الموجودة لديه عن الإشباع.
والكلام عن النفس يعني البحث عن العقل وأحكامه، والقلب وغرائزه. فعندما نتكلم عن الغرائز والحاجات العضوية التي تتمثل بالطاقة الحيوية وما ينبثق منها جميعاً من دوافع للإشباع نكون قد تكلمنا عن النفسية فقط، لأن تلك الدوافع للإشباع إنما تحدد سلوكاً معيناً، أي نفسية معينة..
وعندما نتكلم عن العقل فقط نكون قد تكلمنا عن قسمٍ من النفس، لأن العقل هو ما يشتمل على ملكة التمييز أو الإدراك أو التفكير، وهو الذي يعطي الحكم على الوقائع، والأحداث، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالعقل وعمله..
ومن النفسية والعقلية تتكون الشخصية.. وبها جميعها ككل متكامل يظهر الإنسانُ بهذه الشخصية أو تلك؛ فالعقل أو الإدراك، وإنْ كان فطرةً، ووجوده حتميٌّ لدى الإنسان المميِّز، إلاَّ أنَّ تكوين العقلية يكون بفعل الإنسان نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إشباع الغرائز والحاجات العضوية، فهي وإن كانت فطريةً، ووجودها حتمي لدى كل إنسان، إلا أنَّ تكوين النفسية يجري أيضاً بفعل الإنسان.. فإن تطابقَ تكوينُ العقلية مع تكوين النفسية، كانت للإنسان شخصيته المميزة. وإن حَصَل تباينٌ بين التكوينَيْنِ، كانت عقلية الإنسان غير نفسيته، لأنه حينئذٍ يقيس ميوله على ما في أعماقه، فيربط دوافعه بمفاهيم غير المفاهيم التي تكونت بها عقليته، فيصبح شخصيةً غير متماسكة، لأنَّ أفكارَهُ غير ميوله، ولأنه يفهم المعاني، ويدرك الواقع على وجه يختلف عن ميله للأشياء.
الشخصية الإسلامية
الإنسان، في المفهوم الإسلامي، كائن حيوي متميّز بخصائص عديدة. وقد عالج الإسلام أحوالَهُ النفسية والفيزيولوجية معالجة تتوافق مع تكوينه وفطرته. فهو يرى أنَّ الجسم له حاجاته العضوية مثل الغذاء، والنوم، والراحة، كما يرى أنَّ النفس لها غرائزها التي تحتاج فيها إلى الأجواء والمناخات التي تلائمها، ولا سيما منها الإيمانية، فتتشوق إلى معرفة حقيقة وجود الله تعالى، والقيام بعبادته وطاعاته، والإقدام على الأعمال الصالحة.. أو قد تنحرف نفسُهُ عن طريق الإيمان ومستلزماته وتهوي في مستنقع الكفر والرذيلة والأعمال السيئة.. من هنا قد ينشأ صراع داخل الإنسان بين حاجات الجسم العضوية والغرائز من ناحية، ومتطلبات النفس وأحوالها من ناحية ثانية، وقد يكون لهذا الصراع آثاره الهامّة على سلوك الإنسان، وعلى شخصيته.. وقد رأى الإسلامُ ذلك كله فتعامل مع تكوين الشخصية الإنسانية على أسس سليمةٍ قائمةٍ على الأحكام الشرعية المنبثقة من العقيدة، أي إنه نَظَرَ إلى الغرائز والحاجات العضوية فدعا إلى ضرورة إشباعها، إنَّما بالاعتدال في كل شيء،بحيث لا يطلق الإنسان لغرائزه العنانَ، ولا يكبتها كلَّ الكبت، ولا يتبع متطلبات الجسد ويتخلّى عن متطلبات النفس، أو العكس.. ولذلك قامت تلك الحالة التوفيقية التي ترتكز على إشباع الغرائز والحاجات العضوية دون إفراط أو تفريط. فالمنطلق إذاً هو العقيدة الإسلامية، والأساس هو هذه العقيدة أيضاً، وذلك لتحقيق التوازن في الشخصية كما يأمرنا بذلك رب العالمين. يقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القَصَص: 77]. ويقول رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم): «ليسَ بِخيركُم مَنْ تَرَكَ دُنْياهُ لآخِرَتِهِ وَلاَ آخِرَتِهِ لِدنْيَاهُ حَتَّى يُصِيْبَ مِنْهُمَا جَمِيعاً فَإِنَّ الدُّنْيَا بَلاَغٌ إلى الآخِرَةِ وَلاَ تَكُونُوا كَلاًَّ على الناسِ»[*] .
وبذلك يكون الإسلام قد جعلَ تكوينَ الشخصية الإسلامية منوطاً بالعقيدة الإسلامية نفسها التي تنطلق من الإيمان بالله تعالى والعمل بأصول الدين والأحكام الشرعية، والمفاهيم الإسلامية التي بها جميعاً تتكون عقليته، وبها تتكون نفسيته. ولذلك يدعو الإسلامُ الإنسان ليقيس الأفكار التي يكتسبُها أو ينشِئُها، كما يقَيس الواقع على العقيدة، بحيث تتكوّن لديه من ذلك وهذا، ما يجعل عند الإنسان المسلم عقليةً إسلامية ونفسية إسلامية، ويكون هذا الإنسان بهما معاً صاحب شخصية إسلامية، بغض النظر عن كونه عالماً أو جاهلاً. لأنَّ كل من يفكِّرُ تفكيراً إسلامياً، ويجعل سلوكه تَبَعاً للإسلام يكون ذا شخصية إسلامية.
وقد أمر الإسلام بالاستزادة من الأفكار والمفاهيم الإسلامية وبذلك تنمو لدى الإنسان عقلية إسلامية تكون قادرة على احتواء كل فكر من الأفكار. كما أمرَ بأشياء ونهى عن أشياء تقويةً للنفسية الإسلامية لتصبح قادرة على ردع كل ما من شأنه أن يخالف الإسلام. وبمقدار الالتزام بالإسلام: عقيدةً دينية ومنهجاً حياتياً، أو الابتعاد عن هذا الإسلام، يأتي التفاوت في الشخصيات الإسلامية، وفي العقليات الإسلامية، والنفسيات الإسلامية. ولذلك يخطئ كثيراً أولئك الذين يتصورون الشخصية الإسلامية على أنَّها مَلَكٌ سماويٌّ، فهم يبحثون عن المَلَك بين البشر فلا يجدونه مطلقاً، ومن الطبيعي ألاَّ يجدونه في أنفسهم، فييأسوا، ويبدوا عجبهم من الإسلام، بينما هم لم يدركوا حقيقة الإسلام، ولم يعرفوا طريق الإسلام، وما اهتدوا إلى هُداهُ أبداً.. إنهم خياليّون يتصورون أنَّ الإسلام روحانيَّة صرفة، وأنه مستحيل التطبيق في واقع الحياة؛ مع أنَّ الإسلام - في حقيقته - تسيير عملي، مطابق لمنهاج الله تعالى خالٍ من أيِّ تصوّرٍ خيالي، بل هو أحكامٌ وقواعدُ صالحة للتطبيق في كل زمانٍ ومكانٍ.. بمعنى أنَّ من يعرف الإسلام يجده واقعيّاً بكل معنى الكلمة، لأنه يعالج الواقع بشرعٍ سمحٍ لا يصعب تطبيقه، وهو في متناول كل إنسان، مهما بلغت درجة التفكير لديه من القوة أو الضعف، ومهما بلغت غرائزه وحاجاته العضوية أيضاً من القوة أو الضعف. فكل إنسان يمكنه أن يطبق الإسلام في حياته، وعلى نفسه بسهولة ويسر. والمسلم الذي يطبق الإسلام على نفسه يكون صاحب شخصية إسلامية، ويصبح مؤهلاً للقيام بجليل الأعمال، أو بأصغرها، فهو تلميذ ومعلم، جندي وقائد، في آنٍ معاً، يجمع بين الرحمة والشدة، بين الزهد ومتعة العيش، ويفهم الحياة فهماً صحيحاً، فيحوز الحياة الدنيا بحقها، وينال الآخرة بالسعي لها. ولذا، لا تغلب على الشخص المسلم صفة من صفات عُبّاد الدنيا، ولا يأخذه الهوس الديني ولا التقشف الهندي. وفي الوقت الذي يكون سَرِيّاً يكون متواضعاً، ويجمع بين الإمارة والفقه، وبين التجارة والسياسة. وأسمى صفةٍ من صفاته أنه عبد لله تعالى خالقِهِ وبارئِهِ.
والمثال البارز على الشخصية الإسلامية هو رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، الذي حباه الله تعالى من الصفات، ومنحَهُ من المزايا ما جعله إنساناً كاملاً في شخصيته، يفيض بالحيوية الجسدية، فيعيش حياته البشرية كغيره من الناس، وتشفُّ نفسه بعبادة ربه، فيرتقي إلى أسمى المعارج في تقديس الله تعالى وطاعته والامتثال لأوامره ونواهيه. فهو الإنسان الكامل، والشخصية النموذجية التي أمَرَ الله تعالى الناس أنْ يقتدوا بها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *} [الأحزَاب: 21].
وفي القرآن الكريم تصوير للشخصية الإسلامية، كما فيه تصوير للشخصيات غير الإسلامية. ونتلمّس هذه الشخصيات من تصنيف القرآن للناس - على أساس العقيدة الدينية - إلى ثلاثة أصناف، أي المؤمنين، والكافرين والمنافقين وأهمية هذا التصنيف تكمن في تأثير العقيدة الإسلامية على تكوين شخصية الإنسان، وعلى إبراز صفاته التي تميزه عن غيره من الناس، إنْ في حياته الخاصة، أو في علاقاته مع الآخرين.
وسوف نحاول إبراز الصفات العامة لكل من هذه الأصناف الثلاثة لبني البشر، أي الصفات التي تتبيَّنُ من خلالها شخصيةُ المؤمن أو الكافر أو المنافق، وذلك بعد أنْ نفهم حقيقة الإيمان.
الإيمان والمؤمنون
قال رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم): «ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلّي، ولكنْ هو ما وقَرَ في القلبِ وصدَّقه العمل»[*] .
هذا هو الإيمان كما أوضحَهُ لنا رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم). إنه ما انطوت عليه النفس، وما ظهر على حقيقته بالعمل. فيجب أنْ يكون هنالك توافق وتلاق ما بين باطن الإنسان وظاهره. فالباطن هو هذه النفس بجميع مركباتها وأحوالها، إنه مجمع العقل والقلب وما ينبعث عنهما من أحوال نفسية. أما الظاهر فهو السلوك أو التصرف الذي يصدر عن الإنسان، والذي يكون في حقيقته، مرآةً صادقةً لما انبعث من داخل النفس، وعبَّر بأمانةٍ عن مكنوناتها.
ومن يتقصَّ حقائق القرآن الكريم يجدْ أنَّ الإيمان أفضل مزايا الإنسان وأعلاها مقاماً.. فعندما يخاطب الله تعالى المؤمنين إنما يخاطبهم بصورة مباشرة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البَقَرَة: 104]. وهذا شرف رفيع، وتكريم عظيم لهم، لأنَّ مخاطبة الله تعالى لهم، ترفع من قيمتهم الشخصية، وتسمو بهم إلى المرتقى الأعلى من مراتب الإنسانية..
وعندما يتحدَّث الله تعالى عن المؤمنين إنما يقرنُ إيمانهم بالعمل الصالح،كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ *} [البَيّنَة: 7]. أفرأيت أيها الإنسان هذا الوصف الكريم لهؤلاء المؤمنين {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البَيّنَة: 7]. إنهم خير الناس جميعاً.. ومَنْ هذه صفتهم، فلهم الجنةُ نزلاً بما كانوا يعملون في هذه الدنيا، يقول الله تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [السَّجدَة: 19].
إنها مزايا ثلاث يخصُّ بها الله تعالى هذه الفئة المؤمنة من الناس: الإيمان، العمل الصالح، الجنةُ منزلهم. أما الإيمان، فهو ليس مجرد كلام ينطلق من اللسان، بل هو ما وقَرَ في الصدر، ولامَسَ شغاف القلب، واختزنَ في قرارة نفس الإنسان فاستقامت على الإقرار بأنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، الإلهُ الكبير المتعال، الذي تفرّد بالألوهية وبالربوبية؛ إنه التصديق الجازم بحقيقة وجود الله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والبعث، والحساب، والجنة والنار.
وهو التصديق الجازم أيضاً بحقيقة بعث محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) رسولاً للناس كافةً، وخاتماً للنبيين، وأنه حمَلَ الإسلام عقيدة دينيةً ودنيويةً، وخاتمةً للرسالات السماوية وأكملها؛ فكان بشيراً ونذيراً، مثلما كان رحمةً للعالمين...
ومن هذا الأساس المتين: لا إلهَ إلا الله، محمدٌ رسولُ الله: تنطلق جميع المقاييس والمناهج والسبل والقيم والمثل في مسيرة الإنسان على الأرض، وفي مصيره في الآخرة..
وأما العمل الصالح، فأول ما ينبثق منه عبادة الله تعالى، التي تظهر بأداء الفرائض من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍّ وجهادٍ في سبيل الله، مع ما يقترنُ بها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تستقيم العلاقات والمعاملات بين الناس، ثم الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره، والتوكل عليه في كل أمر وشأن.. وقد يكون أجرُ الإيمان وما ينبثق منه من الأعمال لخير المؤمن ونفعه، ولكنّ العمل الصالح لا يقتصر خيرُه على الإنسان الذي يقوم به، بل يجب أنْ يطالَ الآخرين من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، بل ويجب أن يكون في سبيل الناسِ أجمعين.
ثم إن العملَ لا يقترن فقط بوجهه الإيجابي، بل يجب أنْ يتَّصفَ بالابتعاد عن أي جانب سلبي، حتى يكون صالحاً.
وأما الجنة، فهي كما يصفها الله تعالى في قرآنه الكريم، خير مقامٍ ومستقرٍّ للمؤمن في الحياة الدائمة، حياة النعيم والخلود.. وذلك هو الفوز العظيم الذي يفوز به المؤمنون بعد رحلة حياتهم على الأرض، وقيام يوم الساعةِ والحساب..
والإيمان إنّما يخاطب النفس الإنسانية ليرى المؤمن من آيات ربه ما يجعله متفكراً في خلق الله تعالى، ساعياً إلى طلب العلم والمعرفة، ليهتدي إلى بعض أسرار نفسه، أو بعض أسرار هذا الكون، فيجد من نعمة الله تعالى، ومن عجيب صنعه وخلقه، ما يثبت عقيدته الدينية ويرسخها في نفسه، وما ينطلق به في الحياة على أنوار الهداية والخير، التي تجعله قادراً على مواجهة المصاعب بعزم وثبات، وبصبر واحتمال...
ولكي يميّز الله تعالى المؤمنين عن بقية الناس الآخرين، من الأمم والشعوب جميعها، يبيّن القرآنُ الكريم الصفات التي يُعرفون بها، وتدلُّ عليهم كما تدلُّ المناراتُ على السُّبل وتهدي التائهين، وتلك الصفات يمكن لكل إنسان أنْ يكتسبها، وأنْ يدخل في صنف هؤلاء المؤمنين، بمشيئة الله تعالى وهدايته. يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *} [الأنفَال: 2-4].
هذه هي أهمُّ سمات المؤمنين كما يبرزها لنا ربُّ العالمين في هذه الآية المباركة، أي إنها تبرز لديهم في الأمور التالية:
- وَجَلُ القلوب عند ذكر الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفَال: 2].
فالقلب المؤمن هو الذي يخشع لذكر الله تعالى، ويغشاه جلاله فيتمثل عظمته وقدسيته. والإنسان المؤمن يخاف الله تعالى لمجرد الذكر، أكان في نفسه شعور بالتقصير والذنب، أو ندم على فعل مضى قد أتاه في ساعة غفلة.. لأنه يستشعر بالذكر العظيم أليمَ عذاب الله وشدته، وطول البلاءِ ومدّته..
- التأثر القلبي بآيات الله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفَال: 2].
فالقلب المؤمن تزيده آيات القرآن إيماناً فوق إيمانه. والتلاوة لا تكون مجرد قراءة وحسب، بل تكون تقصِّياً للمعاني، وتدبّراً للأفكار التي تحتويها النصوص. وكلما تقصَّى المؤمن فهم القرآن وما تنطوي عليه آياته من المعاني والعظات الجليلة حول خلق الإنسان وحياته الدنيوية والأخروية، وارتباط هذا الإنسان بخالقه، وعلاقته بالأرض التي يحيا عليها، وتوافق هذه العلاقة مع النظام الكوني بأسره، كل ذلك وغيره يجعل المؤمن يدرك الحقيقة الثابتة والأكيدة، وهي أنَّ الله تعالى على كل شيء قدير، كما يدرك حكمة المولى الكريم في الصنع والتدبير، فيزيده ذلك إيماناً وتصديقاً.
- التوكل على الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفَال: 2].
فالمؤمن يعرف أنَّ الله - تعالى - هو ربُّهُ، وربُّ العالمين، ربُّ السماوات والأرض وما فيهنَّ، وما بينهنَّ، مالك الملك، المتصرف في ملكه فلا شريك له ولا معقِّب لحكمه. والمؤمن يعلمُ أنَّ ما شاء الله تعالى كانَ، وما لم يشأ لم يَكُنْ، إذنْ على مَنْ يتوكَّلُ المؤمِنُ بعد ذلك؟ إنه على ربِّهِ يتوكَّلُ، لا يرجو ولا يقصد سواه، ولا يطلب حاجة إلا منه سبحانه.. إنَّ المؤمن يعمل ويجهد في حياته، ولكن مهما عمل وسعى يبقَ في نفسه يقينٌ قاطعٌ بأنَّ الأمر كله متروكٌ إلى الله تعالى، وحده سبحانه يُنشئُ الأسبابَ، ويُنشئُ النتائج. وفي شعور المؤمن لا علاقة بين السبب والنتيجة، أي إنه يقوم بواجباته ويترك الأمور والنتائج لمشيئة الله تعالى. وهذا منتهى الشعور بالاطمئنان والقناعة والرضا.
- إقامة الصلاة: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} [الأنفَال: 3]
وإقامة الصلاة هي أول الطاعات والعبادة عند المؤمن. إنها شعور دائم يرافقه، فلا يرتفع صوت المؤذن في ليل أو نهار، ولا يحين مجيءُ وقت الصلاة، إلاَّ ويلازم قلبه شعورٌ بالواجب الثقيل إذا لم يؤدِّ صلاته بوقتها. وحين يؤديها بوقتها ينزاح عن قلبه ذاك الثقل ويغمره الاطمئنان والارتياح.
والمؤمن لا يقيم صلاته مجرد تلاوة أو قراءة، بل يجدها فريضةً أتاحتْ له ملاقاةَ ربه تعالى، بخشوع وتقوى، وبقلب متَّعِظ ونفس صافية. إنه، وهو في الصلاة، يتخلَّى عن الدنيا وأعبائها، ويتوجَّهُ بكليَّتِهِ إلى خالقه وبارئه، يعبدُهُ لأنه أهل للعبادة، ويتضرَّع إليه خوفاً من ناره، وطمعاً في جنّته.
وتبقى الصلاة في مظهرها المادي عنواناً لنظافة البدن، وشاهداً قائماً على الإيمان لدى المسلم، ورسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا صلاة له»[*] ..
- الإنفاق من رزق الله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفَال: 3]
فالمؤمنون ممَّا رزقَهُم ربُّهم ينفقون، سواء في الزكاة أو في وجوه الإنفاق الأخرى مثل النفقات العائلية والصدقات والحسنات للمحتاجين، وبناء المؤسسات الخيرية أو المساهمة فيها، وما إلى ذلك من سبل الإنفاق العديدة؛ فهم يعلمون أنَّ الأرزاق هي من الله تعالى، وأنَّ عملهم للحصول على الرزق الحلال ليس هو السبيل الوحيد لكسب الرزق، بل ويؤمنون بأنَّ المولى الكريم يرزق من يشاء بغير حساب. يقولُ الإمامُ عليٌّ (كرَّمَ الله وجهَهُ): «الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك». ولذلك جعل الله فيه نصيباً لمن يستحقونه من عباده: ذوي القربى واليتامى والمساكين، والسائل والمحروم وابن السبيل، وكل من هو بحاجة إلى مساعدة أو عون مما يتفضَّل به الله تعالى على عباده المؤمنين، وييسر لهم سبل تحصيله ونيله..
والإنفاق من رزق الله تعالى يجب ألاَّ يكون للتباهي والتفاخر، والمصانعة أمام الناس في سبيل الجاه، إنه في هذه الحالة يفقد معناه، ويصبح عطاءً لغايةٍ دنيويةٍ غيرِ محمودةٍ عندَ الله ورسولِهِ، بل يجب أنْ يكون الإنفاقُ سبيلاً لتزكية المالِ والنفس، ووسيلةً للتضامن مع إخوانهم في الدين وفي الإنسانية، وتعاونٍ على البر والتقوى.. هذا هو الإنفاق الذي يتصف به عمل المؤمنين فيما يعطون أو يبذلون أو يقدمون من مالٍ أو عمل أو مساعدة مادية أو معنوية..
وهذه الصفات التي ميَّزَ الله تعالى بها المؤمنين، في هذه الآية المباركة، تنطوي على الاعتقاد بوحدانية الله تعالى، والاستجابة الوجدانية لذكره،والتأثر النفسي بآياته، والتوكل عليه وحده، وإقامة الصلاة والتعبد له، والإنفاق من أرزاقه على أنفسهم وعلى غيرهم...
وبالإضافة إلى تلك الصفات، فقد أسبغَ الله - عزَّ وجلَّ - على عباده المؤمنين، صفة «المتقين» التي وردت في مطلع سورة البقرة - وفي غيرها - من قرآنه الكريم، بقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [البَقَرَة: 2-5]. فهذه الصفات وتلك هي مما يجدها المؤمنون حقاً في نفوسهم، وفي أعمالهم.. وتترتب على التحلي بهذه الصفات عاقبة حسنة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ *} [يُونس: 9]. فيا لها من عاقبة: الهداية من ربهم، والفلاح والفوز في جنات النعيم. ومن حظي بهذا المقام كانت له مغفرة عظيمة وأجر كبير.. والعاقبة دائماً للمتقين.
جاء في الحديث عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مرَّ برسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: «كيف أصبحتَ يا حارثُ؟». أجابَ: «أصبحت مؤمناً حقاً». فقال له الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «انظر ماذا تقول، فإنَّ لكل شيء حقيقةً، فما حقيقةُ إيمانك؟». قال الحارث: «عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغَون[*] فيها»، فقال له الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم): «يا حارثُ، عرفْتَ فالزَمْ». قالها ثلاثاً...
إنَّ المؤمنين يجب أنْ يتحركوا، اليومَ، بتلك الصفات في نفوسهم وأعمالهم. وسلاحهم القرآن، فهو يهدي للتي هي أقوم. وأمامهم عمل واسع وكبيرٌ جداً، لاستئناف حياة إسلامية عملية، من أجل إقامة أحكام هذ الدين القيم في واقع الحياة العملي، وخاصة بعدما غلبت على حياتهم في هذه الدنيا الجاهلية المادية العمياء، التي طغت على الأرض جميعاً، وأورثت فيها الشرور والمظالم والمفاسد... إلاّ أن قلوب المؤمنين يعمرها دائماً الإيمانُ الصادق، الذي لا يكون بالتمني أو بالتحلي، بل هو ذلك الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل، كما قال رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
تلك حقيقة الإيمان، وحقيقة المؤمنين الذين منَّ الله تعالى عليهم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان، فانطلقوا في الحياة يميّزون بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، ورائدُهُمْ عبادةُ الله تعالى، والعملُ الصالح لأنفسهم، وأهليهم، والناس من حولهم.. وهم الذين هداهم الله تعالى لأنْ يتفكّروا في أنفسهم، فيدركوا ما يميّزون به بين نور الإيمان وظلام الكفر وما في خلق الإنسان من دقة الصنع التي هي غاية في الإعجاز، وما في تركيب الكون وانتظامه من الآيات التي تُذهل البصائرَ، وتُدهش العقول..
إنها عظمة الله تعالى في الخلق..
وفي الاكتشافات التي تتقدم يوماً بعد يوم، أكبر دليل على ما بثَّ الله تعالى في الوجود البشري، وفي الكون بأسره، من آيات دالّة على قدرة الله تعالى، وأنه الصانع الحكيم، والمدبر العليم...
وكم تمتلئ نفوسُ المؤمنين بالاطمئنان، وهم يرون، ويبصرون هذه الآيات، وكم تعمر قلوبُهُم بذكر الله، فيسبِّحون الخالق البارئ، ويعبدونه حق عبادتِهِ، وكم تستبينُ لهم عظمة الخالق، وقوةُ إحكامه، فيعلمونَ علم اليقين بأنه سبحانه على كل شيء قدير. إنهم آمنوا بالله العلي العظيم استجابةً للفطرةِ التي فطرهم الله تعالى عليها، فاهتدوا إلى الحق وجهدوا لئلاَّ يحيدوا عن سبلِهِ ومقاصدِهِ..

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢