نبذة عن حياة الكاتب
علم النفس: معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة - الجزء الأول

الكافرون
وبخلاف المؤمنين، نجد الكافرين والمشركين قد عاندوا الفطرة، فعاشوا في غيابة الجهل والظلام، يكذّبون النبيين، ويقاتلون المرسلين، ويسخرون من كل بشير ونذير.. وكم أهلك الله تعالى من القرون السالفة، وأنزل بها من أنواع العذاب، لتكون كلُّ أمةٍ عبرةً لغيرها من الأمم اللاحقة، إلاَّ أنَّ الناس ظلوا - على ما يبدو - يوغلون في الجهل والضلال، وينأون عن الوعي والهدى، ويناصرون الباطل على الحق، ويسيرون وراء الشرّ، دون أنْ يخلو عصرٌ من الجرائم والفساد.. وإلاَّ فما بال الأمم، والدول اليوم، التي تسودُها أوضاع الشقاء والبؤس والقلق ويكتوي بنارها غالبية الناس؟! وما الأسباب الكامنة وراء المفاسد والشرور والمظالم التي تعم العالم بأجمعه؟! وكأنَّ الإيمان بالبعث والحساب أصبح نسياً منسياً، فما من مرتدعٍ عن غيٍّ، وما من مرتدٍّ عن ضلال، وما من منقلب على نفسه، مُنكر لما يجري على مسامع الدنيا وأبصارها؟!
إنه الابتعادُ عن الله تعالى، والجنوحُ إلى الماديةٍ القاتلة، والمجدُ الدنيوي الزائل!..هذه هي مكامن الداء التي توصل إلى الهلاك، ولا من يفكر أو يدري - إلا من عصم الله - إلى أين المصير، ومدى خطورة ما سوف يلاقي طلاب الدنيا من عذاب الله الأليم!.. ولئن كفر الإنسان من قبل، وعبَدَ آلهة مزيفة ابتدعها، أو اتخذ من الأصنام والأوثان آلهةً تقربه إلى الله زلفى، فما بالُ الإنسان اليومَ، والإسلام بين يديه،لا يفتح بصيرتَه على هذا الدين الذي يجد فيه الخلاص من آلامه النفسية، ويهديه إلى السبل التي تمكّن من محاربة الفوضى، والغطرسة، والظلم، والكذب، والاستغلال وغيرها من الشرور التي يخطّط لها أتباعُ الشيطان في أوكارهم السرّية، وينشرونها في دنيا الأرض، وفي ظنّهم أنها تحقق أحلامهم الجهنميّة؟!..
إنها المادية التي طغت على الأنفس، وجعلتها ترتمي في أحضانِ جاهليةٍ أعتى وأشد ظلماً من الجاهليات القديمة كلها، لأنَّ ما يُشاهَدُ في حياة كثيرٍ من الناس هو الكفر والشرك بعينه، ولكن في صور وأشكال جديدة، إنَّما لا تختلف في مضمونها عمَّا كانت عليه الأقوام والقرون الغابرة.. وهذا هو مثار العجب والدهشة من هذا الإنسان الذي بلغ درجة عالية من النضوج الفكري، والتقدم العلمي، أنْ يتفلَّت، ولو قيد أنملة، من قضية الإيمان التي تبقى هي المقياس الصحيح والوحيد لكل تقدم أو تطور أو ارتقاء..
وكم يجب أنْ يكون العمى ضارباً على بصيرة أي منكر أو ملحدٍ أو كافر حتى لا يهتدي إلى حقيقة وجود الله تعالى، ويقيم وجوده الإنساني على أساس هذه الحقيقة. أفلا يرى أيُّ إنسان من هؤلاء اسمَ خالقه موقعاً على كل قسيمةٍ من قسائم تكوينه، وعلى كل صفحة من صفحات هذ الكون الفسيح، وآثار الله تعالى وآياتِهِ باديةً وظاهرةً على كل شيء في الوجود؟!
ولو عاد الكافر أو الملحد أو الضالُّ إلى نفسه فماذا يجد فيها غير الضياع والشتات، وغير القلق والاضطراب؟! ألا يجد أنه أبعدُ خلق الله عن سكينةِ النفس، وراحة الضمير، وطمأنينة القلب؟ ولو أنَّه خَلاَ بين الفينة والفينة إلى نفسه، وأجرى جردة حسابٍ لكل ما يفكر فيه، ويقوم به، لوجَدَ أنَّ غايتَهُ القصوى هي هذه الحياة الدنيا، أنَّه لا يعبأ بشيءٍ اسمه الموت، أو بشيئٍ اسمه الحساب يوم الدين.. أمَّا أنَّه لا يفعل شيئاً من ذلك فكان من المقدَّر أن يندفع وراء الشهوات واللذائذ، ويرتمي في أحضان الطمع والجشع، وغالباً ما تؤدي به كثرةُ انشغالاته إلى أنْ ينهك قواه الجسدية والنفسية، حتى يصير عرضةً للأمراض والهموم.. ولو أن مثل هذا الإنسان أغمض عينيه يوماً فوجد راحة ما، لكن حياته كلها شقاء.. ولو أنَّ مثل هذا الإنسان أغمض عينيه عن الدنيا، وفكَّر بكلِّ ما هو فيه، وما هو عليه، وقدَّر ما سوف يصير إليه في آخر عمره، حيث يترك كلَّ شيءٍ لغيره، ولو كانوا أقرب المقربين إليه، فسوف يجدُ أنَّ كل جهوده، وكل ما بناهُ وجناهُ لن تجديَهُ نفعاً عند حسابه بين يديْ ربّه - عزَّ وجلَّ -... أما إذا لم يفكّر بلقاء ربه تعالى، وظلَّ همُّهُ الدنيا فإنه سوف يصل إلى سن الشيخوخة التي لا مندوحة له بعدها من مفارقة هذه الدنيا، ولعلَّه في تلك المرحلة من عمره قد يخالجه التأسّي والحسرة على نفسه، وتلك الحالة التي صارَ عليها من الوهن والضعف وقلة الحيلة حتى في هذه الحالة، وفي تأسِّيه قلق إضافي له، وغمٌّ يزيد من أعبائه وهمومه الكثيرة..
هكذا هي نفوس الكافرين: شقية، متعبة، يأكلها الضنى، ويقتلها التمسك بأهداب الحياة الزائلة... وهي نفوس قلقة حائرة لأنها ابتعدت عن سنن الله تعالى في الخلق، وجافت منهج الله تعالى في الحياة، فلم تحفل بمعاني الفضائل والمثل، وفي مقدمها التمسك بالدين، والقيم الروحية التي تبقى خير معين للإنسان على عبور هذه الدنيا إلى دار الأمان والاطمئنان، إلى دار الخلود والنعيم، - التي يجب أن تبقى غاية الإنسان بعد رضوان الله تعالى -. وقد يتوهم الكافرون أنَّ سعادتهم هي هنا، في هذه الدنيا، وأن شقاءهم سوف يدفن معهم في قبورهم. وهذا منتهى عمى البصيرة، وضلال النفس عن الحق، كما هو منتهى الجهل الذي يوقع في الخسران المبين.. لأنّ الحقيقة التي يجب أنْ يؤمن بها كل إنسان ويوقن بها يقيناً قاطعاً، هي أنَّ حياتَهُ لا تنتهي بموته، ومفارقة هذه الدنيا، بل هنالك بعثٌ يوم القيامة، وهنالك حسابٌ لا مفر منه على ما قدَّم في دنياه، ووفق ميزان هذا الحساب، الذي هو ميزان الحق والعدل، يتوقف مصير الحياة الأبدية للإنسان: فإما نعيمٌ مقيمٌ، وإما عذابٌ دائمٌ.. ومسكين هذا الإنسان الذي كفرَ أو أشرك بربه، مسكين هو لأنَّ أبوابَ الهداية قد شرَّعها له الإسلامُ من أجل توبته وخلاصه، ولكنه أصرَّ وعاند واستكبر، وسوف يلقى جزاءه على كفره، وإعراضِهِ عن دين الله تعالى...
إنها دعوة مخلصة للإنسان، أينما وجد على هذه الأرض، وإلى أية جماعة أو دولة ينتمي، وبأي عقيدة يعتقد... إنها دعوة صادقة له كي يعود إلى الحقيقة التي تناسب فطرته، وتتوافق مع وجوده الإنساني، وهي الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والبعث والحساب، والجنة والنار...
وليست هذه الدعوة إلاَّ من قبل الحرص على الإنسان، والأخذ بيده إلى الطريق الصحيح. لأن الله تعالى يريد لهذا الإنسان الخير، والرأفة، والرحمة، والعفو والمغفرة. وقد توسعت، وأبانت، وفصّـلت، وعقّبـت، وأوجـزت آيـات قـرآنـه الكـريـم سـبل الهـدى والضلال، ومصائر المؤمنين والكافرين... ولعلَّ في توضيح معاني بعض الآيات، ما يوضح صفات الكافرين، ويرسم صورة صادقة لأعمالهم، فنعرف كم هي مكروهة تلك الصفات، وكم هي مذمومة هذه الأعمال.
فمن صفات الكافرين : تقليد الآباء والأجداد دون تفكّرٍ أو تدبّر، ومن سماتهم الغرور والاستكبار، واتباع الأهواء والفجور والفسوق، ومن معتقداتهم إنكار البعث والحساب، وأنْ لا جنَّة، ولا جهنَّمَ بل هي الحياة الدنيا ويحيون فيها ويموتون؛ ومن أفعالهم الإعراض عن آيات الله تعالى ومحاربة الإسلام، حتى وصَلَ بهم الفعلُ الشنيعُ إلى تدنيس القرآن، كتاب الله، وحجته على العباد...
1 - تقليد الآباء والأجداد
إنَّ من يطّلع على الرسالات السماوية، وما أنزلَ الله تعالى في التوراة والإنجيل والقرآن، يجدُ أنَّ الله سبحانَهُ وتعالى كان يبعث، وعلى مدار الأزمان، النبيين والمرسلين لهداية الناس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، كما يجدُ أنَّ ما من نبيٍّ أو رسول إلاَّ وكان الملأ من بني قومه أول من يتصدون له، ولدعوته، حفاظاً على عباداتهم الموروثة، واستمساكاً بالنهج الذي ألفَوْا عليه آباءهم.. وفي القرآن المجيد خيرُ الأدلة والشواهد على ذلك:
فهذا إبراهيم (عليه السلام) يرى أباه آزر وقومه في ضلالٍ مبينٍ لعبادتهم الأصنام فيجابه ضلالهم بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} [الأنعَام: 74]. و{إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ *} [الأنبيَاء: 52] ولكنْ، ماذا كان جوابهم: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ *} [الأنبيَاء: 53].
وكذلك نوح (عليه السلام) إذ نصَحَ لقومه وهو يقول لهم: {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ *} [هُود: 26]. ولكنَّهم أبَوُا النصحَ والإرشادَ، فتنادَوْا بألاَّ يتخلَّوْا عن آلهتهم {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا *} [نُوح: 23].
وكذلك هود (عليه السلام)، فقد بعثَهُ الله تعالى إلى قومه عادٍ يدعوهم إلى عبادة الله الذي لا إله غيره، وهو ما يثبتُهُ قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ *} [هُود: 50]، فاحتجّوا زوراً بأنَّه لم يأتهم ببيّنة، وبأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم ولا بمؤمنين له، {قَالُوا ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ *} [هُود: 53].
وكذلك صالح (عليه السلام) وقد أرسله الله تعالى إلى قومه ثمود يهديهم إلى عبادة الله الذي لا إله غيره، وإلى أنْ يستغفروه ويتوبوا إليه، وهو ما يصدّقه قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ *} [هُود: 61]. ولكنَّهم تهجَّموا عليه وهو ينهاهم عن عبادة ما كان يعبدُ آباؤهم، {قَالُوا ياصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ *} [هُود: 62].
هذه هي واحدة الحقائق والبينات الساطعة التي يثبتها القرآن الكريم.. إذ إنَّ أولئك الأقوام الكافرين قد ألفَوا آباءهم يعبدون الأصنام والتماثيل التي زيّفتْها لهم عقولهم، فاتخذوها آلهةً مدعاةً، ما أنزل الله بها من سلطان، فعبدوا تلك الآلهة بفعل التقليد الأعمى، ولم يأبهوا لدعوة الحق التي كانَ رسلُ الله يدعونهم إليها. لسبب أساسي وهو أنهم لا يريدون التخلي عن عقيدة الآباء والأجداد، حتى ولو كانت تلك العقيدة تقوم على عبادة تماثيل من حجارة أو أخشاب يصنعونها بأيديهم، أو على عبادة كواكب تطلع عليهم في الفضاء، وما إلى ذلك من تلك العبادات الضالَّة..
إنها إحدى أهم معايب الكافرين التي تدل على قصر النظر، وعلى عمى البصيرة.. لقد أعماهم التقليد فلم يروا في آلهتهم جماداتٍ حقيرةً لا تنفع ولا تضر بشيء. ولم يجدوا في تقليدهم التعصبي للآباء هدراً لكرامتهم الإنسانية. إذْ من المشين بالإنسان - وقد وهبه الله تعالى العقل والتفكير، ومنحه القدرة على التمييز والاختيار - أنْ يعكف على عبادة شيءٍ حقيرٍ، تافهٍ - يصنعه هو بيديه أحياناً - ويترك عبادة الله الواحد الأحد، الذي خلقه، وأمدَّه بكل مقومات الحياة الأرضية، التي من شأنها - فيما لو تدبَّرها - أنْ تجعلهُ أكرمَ خلق الله، على الله ربّه..
2 - الغرور والاستكبار
إنَّ قصص الأنبياء في القرآن الكريم، تبيّن كيف كان الغرور والاستكبار من السيئات التي غلبت على نفوس الكافرين، ولعلَّ المثال الصارخ يبرز في قول فرعون للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النَّازعَات: 24] أو قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القَصَص: 38]. أي ادعاؤه الربوبية والألوهية - مثل سائر الفراعنة - ليس بفعل الجبروت والطغيان في نفسه وحسب، بل وليحكم الناسَ بالاستعلاء والظلم والقهر... والحجج التي كان يبتدعها المستكبرون كثيرة ومتنوعة، ومن قبيل ذلك أنَّ قوم نوح (عليه السلام) كانوا يكذِّبونه ويستكبرون عليه لأنَّه بشرٌ مثلهم، ومن يحمل رسالة سماوية حسب ظنهم يجب أن يكون مَلَكاً، وتلك الحجةَ التي لا أساس لها في الوجود البشري يبرزها قوله الله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا} [هُود: 27]، أو اعتمادُ أهل انطاكية الحجة نفسها، ليكذّبوا المرسلين إليهم، كما يتبيّن ادعاؤهم من قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ *} [يس: 15].. أو كانوا يبرّرون عدم الاستجابة للنبيِّ المبعوث من ربه بحجة انضمام المساكين والفقراء إليه وتصديق هؤلاء برسالته منذ بداية دعوته، كما في قول قوم نوح (عليه السلام) : {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هُود: 27] أو قولهم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ *} [الشُّعَرَاء: 111] أو كانوا يتكبّرون على نبيهم لاختياره ملكاً عليهم وهو ليس من الشرفاء وذوي الجاه والمال فيهم، كما فعل الملأ من بني إسرائيل مع النبيّ صموئيل، وهو ما يدلّ عليه قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البَقَرَة: 247]. وحتى لو كان، من بعثهُ الله تعالى، من أصحاب المال والسلطان - كما كانوا يتمنَّوْن، ويصرّحون به علناً - فهم لا يرتضون أنْ يكون له فضلُ النبوّة. التي ترفع من شأنه عليهم.. وكلُّها عواملُ غرور واستكبار لأنَّ نفوسهم تائهة عن الحق، ولا تريد الاستجابة لدواعي الإيمان.
3 - اتباع الأهواء والفجور والفسوق
فالأهواء أمراضٌ في القلب، وهي التي تفرض على الإنسانِ اتباعَ الفجور والفسوق، ولذلك تعتبر من الموبقات التي تلازم حياة الكافر في كل زمانٍ ومكان، بدليل أنه شخص استهوته الدنيا بمتاعها، فانقلب يغرف من ملذاتها، ويوغل في شهواتها، حتى أبعدتْ عنه أيَّ تأمّلٍ أو تفكير في نواميس الحق، والعدل، والصدق، وصرفته عن أي سبيلٍ من سبل الهداية، واتباع السلوك القويم.. أما علَّتُهُ - في الأساس - فتدور في رحى كفره وتكذيبه بآيات الله تعالى؛ ولعلَّ المثالَ المشهورَ في القصص الديني على هذا النموذج من البشر كان بلعم بن باعوراء، أحد علماء بني إسرائيل، الذي رُوي أنه كان عالماً، زاهداً، داعيةً إلى الصلاح.. ولكنْ، ويا للأسف، أنصاع لغُلاةِ بني قومه، فراح يتقوَّل على النبي موسى (عليه السلام) بما ليس فيه، مقابل ما أغروهُ به من الذهب والفضة.. ولذلك أنزلَ الله تعالى، في معرض الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل في سورة الأعراف، الآية الكريمة التي تحمل خبرَ ذلك الرجل، وفيها الأمرُ إلى رسوله محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يتلو نبأه على اليهود حتى يكونَ لهم شاهداً وعبرةً.. قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *} [الأعرَاف: 175-176].. فالواضح من النص القرآني أنَّ إيمانَ بلعمَ بن باعوراء كان إيماناً باللسان فقط، أي لم يكن مبنياً على الإخلاص لله تعالى، فلم تصاحبْهُ مثُلٌ رفيعةٌ تهمُّهُ، ولا قيم أخلاقية تربطه، فما إنْ زُيِّن له عَرَضٌ من أعراض الدنيا حتى تحلَّلَ من مصاديق العلم والمعرفة التي آتاه إيَّاها الله تعالى، فتنَصَّل منها، وانسلَّ من رحابها، كأنه ينسلخ من تلك الآيات الربانية كما تنسلخ الحية من جلدها.. ولكنْ إلى أين، وقد أدركه الشيطان، يُزين له أعماله، حتى أرداه، فانزوى في ظلمات الطمع والشهوة، وتمنطق برداء الضلال والكفر والنفاق، ليس له من شيء إلاَّ التلقّي مما يمليه عليه الشيطانُ، فكان من الغاوين.. ولو شاء الله - تعالى - لجعلَ له مكاناً بالآيات التي تعلَّمها، ولكنْ، يبدو أنَّه كان في علم الله السابق، ما تهفو نفسه إليه من السوء، فأركسه ربُّهُ تعالى في الحضيض، فركن - باختياره - إلى وحل الأرض وخبيثها، حتى انعدمت في نفسه كل معاني الحق والخير، وغلبت عليه كل أفاعيل الباطل والشرِّ، فانخرط في صفوف هؤلاء الكافرين الظالمين، الذين يعيثون في الأرض فساداً، وهم يدورون في غياهب الأهواء، وينزلقون في متاهات الضلالات بلا هادٍ لهم في الدنيا، ولا ناصر لهم من عذاب الله في الآخرة.. والعبرة في التعقيب: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعرَاف: 176]، وهو ما أمَرَ به الله تعالى رسولَهُ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بأن يقصَّ على اليهود خبرَ ذلك العالم، وأخبارَ غير مما يتناوله القصص القرآني، لعلَّهم يتفكّرون فيها، فيرتدعون عن غيِّهم؛ ويبقى أمرُ ربِّنا - جلَّ وعلا - نافذاً، لكي يقصَّ المسلمون على مسامع الكافرين ما جاءَ به القرآنُ من القصص، التي تحمل العظات البالغة، لعلَّهم يتدبَّرون تلك العظات، فيقبلون على الإسلام وينهلون من القرآنِ ما فيه هدى ورحمة..
4 - إنكار البعث والحساب
على الرغم من أن العدل من المقومات الأساسية في الوجود البشري، وقد أنشأت دول العالم جميعها المحاكم العدلية والجزائية - بل والدولية - لمحاكمة المتهمين، وعلى الرغم من القناعة التامة لدى كل إنسانٍ عاقلٍ بأنَّ العدلَ ضرورة لا غنى عنها حتى تستتب الأوضاع، ولاسيما الأمن في ربوع أي بلدٍ من البلدان.. على الرغم من ذلك، فإنَّ كثيراً من الناس لا يؤمنون بالعدل الإلهي، وسبب ذلك إنكارهم البعث والحساب، إذْ يتوهمون أنَّ الإنسان تنتهي حياتُهُ بالموت، فلا حياة بعدَه، ولا آخرة.. مع أنَّ كل الكتب السماوية، قد حفلت بالآيات البيّنات التي تتحدث عن يوم القيامة، وأنَّ الله تعالى يبعث من في القبور، وإليه النشور، حتى يلاقي كل إنسان جزاءه، وإلاَّ فأيُّ عقلٍ يقبَلُ بأن يفلتَ كثيرٌ من المجرمين من عدالة الأرض فلا يطالهم عقاب الله - تعالى على جرائمهم؟ بل وأيّ عاقلٍ يقبلُ بأن تطغى فكرةُ إنكار البعث والحساب على النفوس حتى تسود شريعة الغاب بين الناس؟! ولو أنَّ المستكبرين، والظالمين يتفكرون بأعمالهم لكان جديراً بهم أن ينصفوا أنفسهم أولاً، فيبتعدوا عن أعمالهم، وأنْ ينصفوا من ثَم الآخرين فلا يبقى الناس عرضةً للقلق، والهمّ، والتعاسة التي يورثها الظلم في حياتهم، ولا يبقى المؤمنون عرضةً للهجمات التي يشنونها عليهم تحت ستار ذرائع لا أساس لها من الصحة!.. ونحن نقول ذلك لأنَّ الموتَ حقيقة راهنة، فلا يمكن أحداً أن ينكرها، بل ونقول ذلك لأننا نؤمِنُ بأنَّ البعثَ حقيقةٌ يقينية مثل الموت، وبأنَّ الحسابَ لكل إنسانٍ آتٍ لا محالة، ولأننا نؤمن تبعاً لذلك بأنَّ الجنة حق، وأنَّ النارَ حقٌّ ولكل إنسانٍ ما سعى.. فهلاَّ يعود المنكرون إلى رشدهم ويتفكرون في أنفسهم بتلك الحقائق؟!
وهنالك حقيقة أخرى لا تقل أهميةً، وهي أنَّ الذين يؤمنون بالبعث إنَّما يعتنقون عقائد، أو يتخذون مذاهب فكرية، غالباً ما تجعلهم يعرضون عن الحق المبين، الذي وحده يقيم الموازين الحق، ويهدي للتي هي أقوم.. بل ويحاربون الحق المنزَّل من الله تبارك وتعالى، ولذلك كان من معين القرآن الذي لا ينضب، توكيده مراراً وتكراراً، ليس على حقيقة البعث والحساب وحسب، بل وشدّ انتباه الإنسان إلى عدل الله - تعالى - الذي يجازي كلَّ إنسان على ما يستحق من الأجر العظيم، أو العذاب الأليم.
أضف إلى ذلك أنّ الكافرين - وقد أعرضوا عن حقيقة وجود الله تعالى، وعن حقيقة القرآن - لا يقيمون وزناً ولا اعتباراً لعدالة آتيةٍ لا محالة - بعد البعث - ولذلك نجدهم يجحدون النعم التي منَّ الله تعالى بها على عباده، ويعتبرون ما هم فيه من النعم من عندهم، من صنع أيديهم، وينكرون، تبعاً لذلك، أنْ يكون القرآن منزَّلاً من عند الله - تعالى - وأنَّ محمداً (صلى اللّه عليه وآله وسلم) هو رسول الله، وخاتم النبيين!..
والقرآن يعطي عن هؤلاء الكافرين صورة واضحة، يستقيها من واقع حياتهم هنا، في هذه الدنيا، ليبيّن لهم أنَّ إنكارهم للبعث، والحساب هو ضد مصلحتهم، وضد المنطق الذي به يدّعون، والعقل الذي به يتميزون. وهذه الصورة يُظهرها القرآن الكريم في سؤالِ أهلِ الجنة للمجرمين عن الأسباب التي أدخلتهم في النار؟! فيقرّون بجرائمهم التي ارتكبوها في الدنيا، سواء بحق أنفسهم، أم بحق الناس الذين ظلموهم، وبخاصة تركهم للصلاة تعبّداً لله تعالى، وعدم الاهتمام بالمساكين.. وأكبرُ من ذلك الاعتراف بجريمتهم النكراء وهي الخوض والمشاركة في الدسّ على المؤمنين، وتكذيبهم بيوم البعث والحساب.. وهذا بعضُ ما نفهمه من قول رب العالمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *} [المدَّثِّر: 42-47] ويوم الدين هو يوم الحساب، واليقين هو الموت.
5 - الإعراض عن آيات الله تعالى
يقول الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ *كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ *بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً *كَلاَّ بَلْ لاَ يَخَافُونَ الآخِرَةَ *كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ *} [المدَّثِّر: 49-56].
ومن هم المعرضون عن ربهم، والمعرضون عن الاتعاظ بآيات قرآنه المبين، غير الكافرين وأمثالهم.. قد يعترفون - ولو عرضاً - بحقيقة وجود الله تعالى، ولكنهم يخالفون، في واقع حياتهم كله، أوامره ونواهيه..
ويأتي النص القرآني ليدلَّ ببلاغة ما بعدها بلاغة، وبتصوير دقيق ورائع، على حالة الإعراض عن آيات الله تعالى وعن الاتعاظ بها، وذلك عندما يشبه هؤلاء المعرضين كأنهم في إعراضهم مثل حُمُرٍ وحشيّةٍ تفرُّ لرؤية الأسد خوفاً من افتراسه.. وهذا التشبيه لأنَّ آيات الله - عزَّ وجلَّ - هي الفيصل القاطع لكل معتقدٍ منحرف، وهي كفيلة بالقضاء عليه بتاتاً، ولذلك هم يعرضون عنها، خوفاً من أنْ تقضي على معتقداتهم وأطماعهم الدنيوية، كما تخاف الحمر الوحشية على حياتها من الأسد!..
وهذا التشبيه أو التصوير من بديع القياس التمثيلي لأنَّ الإعراض عن آيات الله تعالى هو دليل الجهل والضلال، فكأنهم مثل هذه الحيوانات البريّة المستوحشة لا يعقلون..
ولكن لماذا هذا الإعراض عن الإيمان، وعن ذكر الله تعالى وآياته؟ بل ماذا يريد أهل الكفر والإلحاد؟ وكأننا بكلَّ امرئ منهم يريد أنْ يُنزَّل عليه كتابٌ من السماء يدعوه إلى الإيمان، أو يقول له هذا هو القرآنُ، كتابُ الله المبين فاتّبعه. أو كأنَّ كل امرئ منهم يريد أنْ تُنزَّلَ عليه صحيفةٌ فيها براءةٌ وعفوٌ له عن كفره وإلحاده، وعن العقاب المعدّ له، حتى يؤمن، أو كأن كلَّ امرئٍ منهم يريدُ أنْ يدخل جنة نعيم بلا منةٍ ولا رحمة من الله - والعياذ بالله - حتى ولو كان من المعرضين عن آيات الله !...؟
كلا! لن يكون لأحدهم شيء من ذلك.. بل هم لا يخافون الآخرةَ ولا يذكرونها أبداً؛ وكيف لهم أنْ يؤمنوا بالآخرة، وقد أعرضوا عن آيات الله التي تؤكد أنها حقيقة ثابتة، وتذكرهم بما فيها من الجزاء؟! كلا، أيها المعرضون إنَّ الحقّ حق، وليس كما تتصورون أو تتوهمون، فهذا القرآن تذكرة لكل عبد منيب، فيه آيات منزلاتٌ، وعظات بينات، فمن شاء آمنَ بأنَّهُ عند الله تعالى، فأقبل عليه يقرأه، ويفهم معانيه حتى يتّعظ، ويسير على هديه.. وما يؤمنون بهذا الكتاب المجيد، وما يتذاكرون آياته، ويتدبرونها بعقولهم وقلوبهم إلاَّ أنْ يشاءَ الله تعالى ذلك؛ فهو سبحانَهُ صاحب الشأن، وبيده ناصية كل إنسانٍ، ومن واسع رحمته أنْ أنزل القرآن، وجعلَهُ آيةً معجزةً بين أيدي الناس، حتى يقبلوا عليه فيؤمن من آمن عن بيّنة، ويكفر من كفر عن بيّنةٍ.. أما أنَّ الناس لا يفعلون ذلك فأعرضوا عن كتاب الله، فإنَّهُ سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عبادِهِ، أهل بذاته لأن يُتقى ويُعبد، وهو سبحانه أهل لأن يغفر لمن تذَّكرَ، فذكر اسم ربه فصلّى واتَّقى..
هذه «الصفات» التي تطبع نفوس الكافرين - وأمثالهم - بأمراض النكران والجحود لرب العالمين، هي التي تزين لهم أعمالهم في الدنيا، فيرضون - واهمين - عن تلك الأعمال، في حين أنها - في الحقيقة - سراب خادع تشدهم أكثر إلى الابتلاء حتى يكون العقاب أشد وأقوى!.
وما درى الكافرون - والمعرضون عموماً - أنهم وهم أحياء على هذه الأرض كأنهم موتى في إصرارهم على الكفر والإعراض عن آيات الله تعالى، واستكبارهم عن الإيمان الحق.. ويصوِّر القرآن كل واحدٍ من هؤلاء بمثابة الميت لقول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الأنعَام: 122]. نعم، الموت والحياة هما أهمُّ حدثين في الوجود البشري، وذلك لأنَّ فيهما البداية والنهاية للإنسان على هذه الأرض، وكلَّ ما يقوم به أو يُجريه، وما يجري عليه خلال مدة العمر التي تتعقَّبه بينهما.. أمَّا أهمية الحياة فلأنها تجسّد وجود الإنسان ككائن حي، يطمع - منذ تفتح وعيه - لتحقيق أمانيه وطموحاته المادية والمعنوية، التي قد ينالُ قسطاً وافراً منها، أو قد لا ينال إلا شيئاً زهيداً ممَّا تمنَّى وعمل له!..وأما أهمية الموت فلأنَّه أمر حتمي على رقبة الإنسان ولا مفرَّ، أو محيدَ عنه، يحلُّ به لينتزع وجوده من على هذه الأرض، فلا يبقى له من أثر أو ذكر إلاَّ من ثلاث: صدقه جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له، كما هو مرويّ من حديث رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
وأما المجرمون - من بين هؤلاء الناس فإنَّ التاريخَ يذكرهم، ويحفظ جرائمَهم، ليكونوا مثالاً للشر، والباطل، والشرك والكفر الذي أتوه، وليكونوا أيضاً عبرةً للأجيال لعلَّ فيما اجترحوا من السيئات ما يجعل أمثالهم يتعظون، فيرعوون!..
ولذلك فإنَّ القرآن الكريم في تركيزه على قيمة الحياة الإنسانية، أول ما يجعل الأساس المتين - بل الجوهر - الذي تقوم عليه هذه الحياة هو الإيمان الصادق، وهو يقرّب هذه الحقيقة إلى أذهاننا بمثالٍ حيٍّ عن الكافر الذي يعتبر ميتاً في قيمته المعنوية، حتى يهديه الله تعالى إلى الإيمان، فتكون هذه الهداية هي القيمة المعنوية الجديدة التي تهبه حياةً طيبةً جديدة، ويكون إيمانُهُ النورَ الذي يمشي به بين الناس.. ومثل هذا الإنسان الذي صار حيّاً بإيمانه ليس كمن هو في ظلمات الكفر ليس بخارج منها، ومن هنا كان تشبيهُ القرآن للإيمان على أنه حياة ونور - وهو كذلك فعلاً - وتشبيهُهُ للكفر بأنه موت وظلام - وهو كذلك فعلاً -.
صورتان متقابلتان - متضادتان - تعرضهما الآية القرآنية الكريمة: الصورة الأولى تمثل إنساناً ميتاً فأحياه الله - تعالى - من جديد.. ولكن استخراج المعاني للصورة يبين أنَّ مثل هذا الإنسان كان غارقاً في الكفر، حتى سيطر على نفسه، وجعله بمثابة الميت، إلى أن امتدت يدُ الله - تعالى - له بالرحمة والهدى، فقذف في قلبه نور الإيمان الذي انتشله من الكفر ووهبَهُ حياةً جديدة بذلك الضياء الذي ملأ جوانب نفسه، وشعشع سبل عيشه بين الناس؛ وهذا النور هو القرآن الكريم، وأنواره وإشعاعاته هي الحكمة والعلم والعظة والبيان والخُلُق والفضيلة، وكل ما فيه خير الإنسان وصلاحه... مع الإشارة إلى أنَّ تسمية القرآن بالنور قد جاءت في آيات كثيرة مبينة.
الصورة الثانية: إنسان حي ولكنه يعيش في الظلمات التي تحيط به من كل جانب، فلا يملك أية قوة أو وسيلةٍ ليخرج منها. ولكن ما هي هذه الظلمات؟ إنها ظلمات النفس التي تختزن في طياتها كل حالك أسود من همّ، وقلق، واضطراب، وتعاسة وشقاء.. وهي ظلمات العقل الجاهل، المنحرف، الضال، الجاحد، المنكر، المستكبر.. وهي كذلك ظلمات السلوك الضّار، القاتل، المهلك..
ظلماتٌ فوقَ ظلمات يعيش في دياجيرها مثل هذا الإنسان، ولمَ؟.. لأنه كافرٌ ضالٌّ.. إذْ لا شيء غير الكفر الذي يجعل الإنسان يقبع في ظلمات الجهل، والضلال والغي والفساد، وغيرها من المعميات حتى لا يعود يميّز معنىً للنور، ولا يرتقب معنىً للهدى!. وهو مع ذلك قد يستمرئُ أوضاعه ويستحبُّ عماه، فسيَّان عندَه ما يسمونه «إيماناً» أو «كفراً»، وسيَّان عنده إنْ أشارَ الناسُ إلى بعض الأمور والقضايا فقالوا عنها «حقائق»، أو قالوا عنها «أباطيل».. مقياسُهُ الوحيد أهواؤه، ومطامعه!. وإنسانٌ من هذا القبيل هل يمكن أنْ نتصور أنه قد يهتدي إلى حقيقة الإيمان، ونورها الوضاء؟ أبداً..لأنّ الحقائق لا تعيش إلا في النور، وهو يعيش في ظلمات فوقها ظلمات!..
وإذا كانت هذه أحوال الكافرين، فماذا عن أعمالهم؟ أو على الأصح كيف ستكون عليه تلك الأعمال في ميزان العدل الإلهي؟
قد يجني الكافرون ثمارَ جهودهم في الحياة الدنيا، وقد يحققون المآرب التي يصبون إليها، ولكنَّها جميعاً عند الله - عزَّ وعلا - لا تعدو أنْ تكون بمثابة هباءٍ منثورٍ، أو رمادٍ تذروه الرياح العاصفة، يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ *} [إبراهيم: 18].
ذلكَ أنَّ أعمال الإنسان من شأنها أنْ تعكس ما في نفسه، حتى قيل: «الأعمال مرآة النفس».. فالنفوس المؤمنة الصافية، من شأنها أنْ ُتشيع الأعمال الخيّرة، بينما النفوس الكافرة المضطربة لا بُدَّ وأنْ تعكِسَ الأعمال الشرّيرة؛ وما ذلك إلاَّ لأنَّ أعمالَ الإنسان هي بمثابة السبل التي تقوده إلى الغايات التي يرومها، فتراه يجهد، ويشقى ويعقد الآمال ويبني الأحلام، وليس له - في الحقيقة - إلاَّ ما قدَّرَ الله تعالى له في دنياه وآخرته، وهذا بالذات ما يغيب عن بال الكافرين، فيظلون في غيِّهم يعمهون.. إلاَّ أن القرآن الكريم يحذّرهم من هذا الغي، عندما يبيّن لهم أنَّ أعمالهم لا جدوى لها، ولا نفع منها في ميزان الحق، إذْ يشبِّهُ أعمال الكافرين، ومآلها ونتائجها كرماد، والرماد يكون هشاً خفيفاً قابلاً للانتشار بسرعة، فكيف إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف. ورياح الأيام العاصفة قد تقتلع كل ما يعترض اندفاعها من شجر، وبناء، وجسور، فكيف بالرماد حيث تذروه وتبعثره ذراتٍ خفيفة بحيث لا تعود ذرة متماسكة مع أخرى، فينعدم وجوده بتاتاً!.. هكذا أعمال الكافرين هي مثل هذا الرماد الذي جاءته ريح عاتية قوية وشديدة، فلا بُدَّ وأن تذهب يومَ الحساب أدراج الرياح، وكأنها لم توجد بتاتاً.. ما يعني أنَّ كلَّ مكاسب الكافرين وثرواتهم، وأمجادهم، وكلَّ أعمال الغطرسة، والتكبّر - بل وأعمال الخير التي قد يؤتونها - كل ذلك سوف يكون بلا فائدة، ولا يقدر الكافرون أن يجنوا منها أيّ ربح أو فوزٍ يوم الحساب، بل كلما زادت أعمالهم وآتت ثمارها، كان ذلك وبالاً عليهم، لأنَّ الأعمالَ، إنْ لم يكن فيها شيءٌ لله أو شيء يرضي الله تعالى، فإنَّها باطلة من أصلها.. وأعمالُ الكافرين ما كانت إلاَّ لمجدهم الدنيوي، فلا حسبانَ لها عند الله تعالى، إذْ يكفي أنهم نالوا ممراتها في الدنيا حتى لا يكون لها ثوابٌ في الآخرة.. هذا ما أرادَ أن يبيّنه المثل القرآني.. فالمثالُ واضحٌ، والطريق واضح.. فما كان من أعمال الإنسان خالصاً لوجه الله تعالى، موافقاً لشرعه، نافعاً للحياة، كان مقبولاً ونالَ الإنسانُ عليه الثواب. وما كان لغير الله - عزّ وجلّ - ومخالفاً لشرعه، ومضراً بالحياة، كان غير مقبول، وهو لن يتبدَّد ويتحسَّر عليه صاحبه وحسب، بل ويؤدي به إلى نار جهنم المستعرة وما فيها من ألوان العذاب الشديد..
ويعقب القرآن على أعمال الكافرين بما يتوافق والسبل التي طرقوها للقيام بها، والنهاية التي قادتهم إليها {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18]. الضلال عن إدراك الحقيقة، والضلال عن الإيمان، والضلال عن الفائدة الشخصية، والضلال الذي يقود إلى الوقوع في مهاوٍ سحيقة مُحْرِقة..
هذا هو شأنُ القرآن الكريم، فهو واضح، وضوح الشمس، في تبيان ما يترتب على أعمال الناس من نتائج حتمية. وما على الإنسان إلا أنْ يتأمل في آيات هذا الكتاب المبين، وأنْ يدرك حقيقة معانيها، ثم يقرر ما عليه القيام به.. وطريق الرجوع إلى الله تعالى نافذٌ أبداً ومستقيم، وهو التوبة الخالصة التي شرَّعَ الرحمنُ أبوابُها لعباده.. أجل يا عبادَ الله، إنَّ بابَ التوبة مفتوح دائماً لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢