نبذة عن حياة الكاتب
علم النفس: معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة - الجزء الأول

المقدمة: معْرفَة النفس الإنسانية
تَلَمُّسُ الفكر الفلسفي للنفس
حكاية النفس مع الفلاسفة قديمة قدم الفلسفة نفسها.. ذلك أَنَّ معرفة ماهية النفس أو حقيقتها، وعلاقتها بالبدن، وتلمُّس القوى الكامنة فيها وتأثيرها على تصرف الإنسان، ثم إلى أين تؤول بعد الحياة، وما هو مصيرها.. كل ذلك وغيره ممَّا يتَّصل بالنفس، كان مثارَ الاهتمام من قبل الفلاسفة منذ عصور قديمة.
وعلى الرغم من تشعب آراء الفلاسفة حول ماهية النفس فقد التقوا على وصفها بأنها «جوهر روحاني بسيط، مجرد عن المادة، قائم بذاته، لا حيّز له. وهو لا يتغير بتغير الظواهر النفسية، ولا يتبدّل بتبدّلها».
ومما لا ريب فيه أَنَّ النفس متعلقة بالبدن، فهي التي تعيّن بها نوعَ حركته، وكيفية تسييره. إلاَّ أنها في النهاية مفارقة لهذا البدن، لأنها من تكوين مختلف، فهو ينحل ويفنى، بينما هي لا يطالها الانحلال أو الفناء، بل تبقى بعد انحلال البدن، وتنتقل إلى عالم جديد. على أنها ما دامت في البدن، فهي الباعث على التلقّي، والتخزين، وحدوث الإحساس، والتفكير، وانبعاث العواطف والمشاعر، أي هي المصدر لكل ما يعتلج في داخل الإنسان، وما يتبدَّى عنه من حركات وسكنات. وقد اتفق الفلاسفة على أن في النفس - هذا الجوهر - قوى متعددة: كقوة الذاكرة، وقوة الإرادة، وقوة التخيل، وقوة الاستدلال وقوة الإحساس، وقوة الشعور، وقوة الإدراك، وقوة التمييز إلخ...
وكان يطلق على الأبحاث التي تدور حول النفس «علم الروح» أو «علم العقل». إذ لم يميز القدامى ما بين «النفس» و«الروح»، بل كانتا، في نظرهم، شيئاً واحداً، ماورائياً، غير ظاهر للعيان. أما اليوم فقد بتنا نفرّق ما بين الروح والنفس، فالروح هي التي تجعل البدن كائناً حيّاّ، ولكننا لا نعلم عنها شيئاً، ولا عن ماهيتها، وكيف تعمل وأين تذهب بعد فناء البدن، فهي سرُّ الحياة لا يعلمها إلا الله تعالى، يقول سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *} [الإسرَاء: 85]، بينما النفس هي كل ما يتفاعل في العقل والقلب، ويؤثر على البدن وقيامِهِ بوظائفه.
وقد ظلَّ «علم الروح» أو «علم العقل» متداولاً طوال القرون الوسطى، واستعمله الفلاسفة اللاهوتيون أنفسهم، إلى أن ظهر «علم النفس» - كما هو معروف في الوقت الحاضر - والذي تعود تسميته إلى أصل يوناني، إذ هي مشتقة من اللفظتين اليونانيتين psychأ (روح) و logos (علم).
النفس لدى فلاسفة اليونان
اقتبس اليونانيون مفاهيم شتى عن النفس، وذلك من خلال معتقدات الشرق القديمة وأساطيره. ومن تلك المعتقدات نظرية التناسخ التي تقول بانتقال الروح من إنسان لإنسان، وهي هندية المصدر. والعقيدة الزرادشتية التي تقول بأنَّ هنالك نفسين تسيطران على العالم: إحداهما شريرة والأخرى خيرة. ومنها أيضاً النزعة الفرعونية التي كانت تعتقد بفكرة الخلود، من حيث إنَّ الروح تفارق الجسد مؤقتاً، لتعود إليه فيما بعد. من هنا نشأت عند الفراعنة عملية حفظ الأجسام (التحنيط) من أجل أنْ تبقى مستعدة لاستقبال الأرواح التي ترجع إليها بعد الذهاب من هذه الحياة..
ونجد مثل تلك المعتقدات الغيبية لدى جميع الأمم الساميّة، بل إن جميع القبائل والشعوب، ولا سيما البدائية منها، تظنُّ أنَّ هناك نفوساً شريرة هي التي تحدث الأمراض في الناس. كما أنَّ وجود الشيطان أمرٌ يقيني لدى شعوب الغرب والشرق على السواء. وكثيراً ما قامت معتقدات الشعوب في السابق على أنَّ الشياطين أو الجان هي الأكثر تأثيراً في أفعال الناس، والسيطرة على حياتهم!..
وقد عرف اليونانيون تلك المعتقدات ولكنهم لم يبقوها في إطارها الخرافي أو الوهمي، بل أنشأوا حولها تصورات عن النفس وفق مذاهب ونظريات متعددة، شملت أيضاً العقل والمنطق. فسقراط مثلاً هو صاحب الشعار المكتوب على مدخل معبد «دلفي»: «اعرف نفسك بنفسك». ولا يزال هذا الشعار يتردد حتى اليوم على ألسنة الناس باعتباره قيمة معنوية هامة لمعرفة الإنسان نفسه. ويعتبر سقراط من أكثر الفلاسفة القدامى اهتماماً بمعرفة النفس وطبيعتها ومصيرها، ولا سيما في أبحاثه عن العقل وعلاقته بالنفس.
أما أفلاطون فقال بأن النفس هي جوهر الحياة.. وقسم النفس إلى ثلاثة أقسام: النفس، والنفس الشهوانية، والنفس العاقلة. إلاَّ أن هذه الأقسام تشكل في النهاية وحدة لا تتجزَّأ، أي إنَّ النفس واحدة وإنْ تعددت قواها أو اتجاهاتها. وهي جوهر باقٍ، خالد لا يفنى أبداً. لذلك اعتقد أفلاطون بالتقمّص أي بعودة الروح إلى جسد ما. وهذه العودة تُفرض على النفس، بصورة دائمة، كلما فني الجسد الذي كانت فيه من قبل..
وبعد أفلاطون، أنشأ تلميذُهُ أرسطو مذهباً منظماً عن النفس، يقوم على اعتبار النفس جزءاً من علم الطبيعة. إذ إنَّ العقل عنده هو الأصل، وهو مبدأ الحياة في الإنسان. وعن هذا العقل تصدر الظواهر النفسية جميعها.
هذه لمحة سريعة وخاطفة عن معتقدات فلاسفة اليونان في النفس. وسوف يكون نهجنا في البحث على هذا النمط بحيث لا نتوخى إلاَّ الإلمام السريع بمختلف النظريات أو المدارس أو المناهج التي قام عليها علم النفس من قبل ومن بعدُ، لأنَّ غايتنا هي معرفة النفس الإنسانية من مصدرها الحقيقي، من ينبوعها الصافي والأصيل، من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ولذلك لا نجد حاجة في الاقتباس من أي مصدر آخر، أو التوسع في مفاهيم علم النفس إلاَّ بقدر ما يفرض علينا البحث بصورةٍ موجزةٍ.
النفس عند فلاسفة العرب
لقد تأثر فلاسفة العرب بالفلسفة اليونانية إلى حدٍّ بعيد، بل كانت أبحاثهم الفلسفية تستقي من مختلف نظريات الفلاسفة اليونان، فتماشيها أو تزيد عليها، ومن ثَمَّ تتخذ منهجاً خاصاً في محاولة توفيقية ما بين الفكر اليوناني والفكر الإسلامي. ذلك أنَّ ما جاء به القرآن الكريم من آيات تتحدث عن النفس، وما انتهت إليه أحاديث الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حولها، جعلت أولئك الفلاسفة يكوِّنون مفاهيم جديدة عن النفس وخاصة فيما يعود إلى مصيرها بعد هذه الحياة الدنيا، باعتبارها محل الثواب والعقاب في الآخرة.
وقد بحث معظم فلاسفة العرب في النفس، ولا سيما الفارابي وابن سينا. لكن آراء ابن سينا تبقى ذات الشأن الأهم، نظراً لما أحدثت من تأثير في الفكر الأوروبي، لا سيما إبّان القرون الوسطى. ولذا سوف نكتفي هنا ببعض ما ذهب إليه ابن سينا حول النفس، بصورة مختصرة، للإشارة إلى تبيان أفكار هذا الفيلسوف.
وعلى هذا يمكن القول بأنَّ أول ما قام به ابن سينا هو التدليل أو البرهان على إثبات وجود النفس. وكانت براهينه التالية:
1 - البرهان الطبيعي: الذي يدل على أنَّ الحركة في الجسم تأتي من شيء. وهذا الشيء هو النفس.
2 - خصائص الإنسان: التي لا توجد عند الحيوان، كالنطق، والانفعالات من ضحك أو بكاء أو خجل.. وهي خصائص أوجدها الله - تعالى - في النفس الإنسانية.
3 - برهان الاستمرار: ويعني أنَّ النفس باقية ومستمرة وإنْ في عالم آخر غير الدنيا، بينما البدن في تحلل وانتقاص. ولذا فالنفس مغايرة للبدن.
4 - برهان وحدة النفس: بمعنى أَنَّ وظائف النفس عديدة، مختلفة، وتنتفع من بعضها البعض. ولكن النفس مع ذلك واحدة، جامعة، تنظّم جميع تلك الوظائف وتربط فيما بينها بما يؤلف في النهاية وحدة متماسكة.
5 - برهان الرجل الطائر: ويقوم هذا البرهان على الافتراض التالي: «لو أنَّ الإنسان خلق دفعة واحدة وخلق كاملاً، وهو يهوي في هواء أو خلاء هوياً لا يصدمه فيه قوام الهواء صدماً... وفرّق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تُقَسْ.. لا يثبت هذا الرجل طرفاً من أعضائه، ولا باطناً من أحشائه، ولا قلباً، ولا دماغاً ولا شيئاً من الأشياء من خارج، ولا يثبت لها طولاً ولا عرضاً ولا عمقاً، بل كان يثبت ذاته. ولو أمكنه في تلك الحالة أن يتخيل يداً أو عضواً آخر، لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطاً في ذاته».
ويقول ابن سينا إنَّ النفس جوهر مغاير للجسم، وهي تستطيع أن تكون بدون بدن، ولكنها لا تكون قبله بل توجد معه. من أجل ذلك تبقى ولا تفنى بفناء الجسد. وهي واحدة بالنوع ولكنها كثيرة بالعدد.
والنفس عند ابن سينا ثلاثة أقسام:
1 - النفس النباتية وهي «كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى».
2 - النفس الحيوانية وهي محركة (شهوانية وغضبية)، ومدركة. ومنها المفكرة، الوهمية، الحافظة، الذاكرة...
3 - النفس الإنسانية وهي عاملة (العقل العملي) وعاقلة (العقل النظري).
وتتم المعرفة في النفس إمّا بالإدراك الحسي الظاهر، أي عن طريق الحواس الخمس: السمع، البصر، الشم، اللمس والذوق، وإمّا بالإدراك الحسي الباطن، ومركزه الدماغ، أي الإدراك العقلي (العقل ووظيفته).
وقد كان لآراء ابن سينا في النفس تأثير كبير في الغرب، ومنها على سبيل المثال: نظرية الحدس، التي قال بها فيما بعد «برغسون». وبرهان الرجل الطائر وهو قريب من استنتاج ديكارت الذي يقول فيه: «أنا أفكر فإذًا أنا موجود». وذلك إلى جانب إيمانه بأنَّ لبعض النفوس تأثيراً في أجسام الآخرين، أي إنها قادرةٌ على تحريك هذه الأجسام.. إلى ما هنالك من النظريات التي ابتكرها ابن سينا، ولا تزال أبحاث علم النفس الحديثة تأخذ بكثير منها.
النفس في فلسفة القرون الوسطى
ظهر في القرون الوسطى بعض الفلاسفة اللاهوتيين، الذين كانت مناقشاتهم، في غالبها، تدور حول طبيعة السيد المسيح ابن مريم (عليها السلام) من الناحيتين اللاهوتية والناسوتية وما ينبثق من ذلك من مفاهيم روحية، كما برز غيرهم من الفلاسفة الذين كانت لهم اتجاهات متعددة في الأبحاث الفلسفية..
ويرى كثيرون أن الفلسفة الحديثة بدأت مع «ديكارت» صاحب النزعة الميكانيكية والنزعة الذاتية في تفسيره للإنسان، إذْ ميّز ما بين النفس والبدن، وأعطى الأهمية الأولى للعقل، معتبراً أن المعرفة - وهي من نتاج العقل - إنما تتم بواسطة النفس. أما البدن فيقوم بالحركة الآلية، المتغيرة، المتبدلة. وعلى هذا فإنَّ ما هو في النفس يكون روحانياً، بينما كل ما هو في البدن يكون حركياً، وقد يكون غامضاً. تلك هي الثنائية - ما بين النفس والجسد - التي أخذ بها ديكارت. وقد ظلت آراؤه سائدة حتى عهد قريب، حين رفضت المدارس النفسية المعاصرة نظريته الثنائية، وراحت تنادي بوحدة الإنسان ككل، غير قابل للتجزئة. وعلى الرغم من ذلك فقد كان لديكارت تأثير كبير، برز في دعوته للبحث المنهجي الحر، القائم على الشك. وقد مهد الطريق في مجال بحوث النفس أمام غيره من الفلاسفة، ولا سيما «لوك» و«كونديلاَّك» اللذان قالا بالمذهب الترابطي أو مذهب تداعي المعاني، بمعنى أنَّ الفكر هو عبارة عن ترابط معانٍ، وهذا الترابط يحصل بشكل تلقائي. وعلى ذلك فالإدراك يكون عبارة عن مجموعة من الأحاسيس، التي يشكل كل واحد منها جزءاً من هذه المجموعة، فيكون الإدراك، بمختلف أجزائه - أحاسيسه - هو الذي ينتج العمليات الذهنية العليا، والأفكار المعقدة، مع ما يطرأ عليها من تحولات وما تُقدم من نماذج.
وبعد المذهب الترابطي، نادى «دي بيران» بفلسفة مادية طبيعية، واستعمل في مجال علم النفس، منهج الاستبطان وذلك من خلال تحليلة للـ«أنا» التي تدرك بالجهد الإرادي وحده: «أنا أريد، فإذًا أنا موجود». وقد كان للأخلاق والدين مكان بارز في آراء هذا الفيلسوف، إذ كان يؤمن بأنَّ الدين قادر على أنْ يحل كل مشكلة يمكن أن تطرحها الفلسفة...
ثم جاءت فيما بعد الفلسفة المعروفة بـ«الانتقائية» التي تجمع وتؤالف - بشكل منهجي - بين مختلف الآراء والأفكار والنظريات التي توافقها، مهما كان مصدرها وأياً كان المذهب الفكري الذي تنتمي إليه. وقد حمل أصحاب هذه الفلسفة لواء التعليم والثقافة ونقلوه إلى أوائل القرن العشرين الميلادي الذي حفل بأبحاث متقدمة في مجال علم النفس.
علم النفس كعلم مستقل
عرفنا أن أصل «علم النفس» يعود إلى اللفظتين اليونانيتين: روح وعلم. لكنه في اللغات الأوروبية اتخذ التسمية التي جرى تعريبها بكلمة «السيكولوجيا». والاستعمال النهائي للـ«سيكولوجيا» يعود إلى العالم الألماني (كريستيان وولف wolf ) في المؤلفات التي كتبها. وقد ظلت قليلة الاستعمال في القرن الثامن عشر، حتى اعتمدها (كانت) في أبحاثه، فانتشرت وأصبحت سائدة في جميع أبحاث علم النفس. وقد جهد علم النفس - إبّان القرن التاسع عشر - ليستقلَّ عن الفلسفة، ويكوِّن مناهجه الخاصة به، فراحت المجلات التي تُعنى بـ«علم النفس» تتكاثر تدريجياً في المانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وتزداد معها المؤلفات والدراسات في هذا الحقل حتى أواخر القرن التاسع عشر عندما أنشىء أول مختبر ل«علم النفس» في ليبتسغ (عام 1879م). وظلت أبحاث علم النفس تزداد بشكل ملحوظ حتى حلّ القرن العشرون، فإذا بـ«علم النفس» قد شقَّ طريقه كسائر العلوم الأخرى، واستقل عن الفلسفة كعلم خاص له مناهجه وقوانينه ومجالاته الخاصة به وحده. حتى أنَّ أحدهم عبَّر عن ذلك بقوله: «لقد صارت سائر العقول المستقيمة متفقة اليوم - عام 1903 - على الإقرار بأنَّ علم النفس هو علم على ذات الدرجة التي هي للفيزياء والفيزيولوجيا».
المنهج الصحيح في معرفة النفس
يجب علينا، قبل توضيح المناهج التي اعتمدت في بحوث علم النفس، أن نحدد المنهج الذي يأخذ، أكثر من غيره، بالمفاهيم الأساسية التي تتعلق بمعرفة نفس الإنسان. ذلك أن معالجة هذا الموضوع لا يمكن أن تخضع للمنهج الغربي الذي يهددها بالوقوع في الاجتهاد الذاتي، والتأويلات الفردية النابعة من الهوى والظن.. {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا *} [النّجْم: 28].
ونبادر فوراً إلى القول بأنَّ من أرادَ معرفة النفس الإنسانية على حقيقتها، عليه أنْ يتتبَّع المفاهيم المتعلقة بهذه المعرفة من خلال النصوص القرآنية، وليس من فكرة الصراع وتكوين الشخصية في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل التي ينادون بها!.. ولا من فكرة «اللاشعور» التي جعل منها اليهود ضربة موجهة لعقل الإنسان وإرادته الواعية. ولا من خلال قَدَريةِ الحَتْمِيّةِ النفسية ِ التي جعلها علم النفس الغربي ميراثاً مفروضاً وقدراً محتوماً لا يستطيع الإنسان منه خلاصاً.
لقد اتضح أنَّ معظم علماء النفس الغربيين لا يغوصون في أعماق النفس لمعرفة ما تنطوي عليه، وإنَّما يدرسون السلوك النفسي فحسب، ولهذا فإن معارفهم حول حقيقة النفس الإنسانية وأوصافها وخصائصها، هي مجرد دراسةٍ للمظاهر النفسية قامت على التخمينات والاجتهادات الذاتية.. ولذلك يجب أنْ نوقِنَ بأنَّ مجالَ التعرّف إلى النفس الإنسانية لا بدَّ وأن يُستقى من كتاب الله تعالى ومن هدي السنة النبوية الشريفة. إذْ شتان ما بين آفاق الحكمة الإلهية وشطحات الفكر البشري الذاتي. فحين يقول الله عزّ وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا *} [الشّمس: 7-10]. ينبري أصحاب المدرسة الشخصية والتحليل النفسيّ، وعلى رأسهم «فرويد» ليعلنوا أنَّ القانون الذي يحكم دنيا الناس - في مختلف حالاتهم النفسية - هو قانون الغاب الذي يقرر: «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب».
المصطلحات النفسية
يذهب البعض إلى إنكار أهمية المصطلحات، ويرددون عبارةً اشتهرت كثيراً وهي: لا مشاحة[*] في الاصطلاح. لكنَّ هذا القول مرفوض من جانب المفكرين بشكل قاطع. فالمصطلح هو المرحلة الأخيرة لاستقرار دلالة معينة في الأذهان. فإذا كان المصطلح - المتفق عليه - ينطوي على خلل معيّن في التصورات انتقل هذا الخلل إلى بقية مفاهيم الموضوع الذي يكون مدار البحث..
وإننا نأخذ مثالاً لمصطلحين في علم النفس الغربي وما يقابلهما في المفهوم الإسلامي، حتى يتبين لنا الفارق في الاتجاهات لمعرفة النفس:
1 - «الكبت» ويقابله في الإسلام «الكظم»
على الرغم من أنَّ النظريات الجديدة في علم النفس لم تعد تعترف بنظرية «اللاشعور» وأغفلت هذا المصطلح تماماً في أبحاثها، إلاَّ أنَّ مصطلح «الكبت» لا يزال يستخدم في كتابات العديد من المفكرين الغربيين والمستغربين، وهو يعني لديهم أنَّ الإنسان مغلوبٌ على أمره، وأنَّ الحتمية النفسية هي قدره المحتوم. علماً بأنَّ الكبت - عند الغربيين - هو مصطلح نفسي حديث، وهو عمل تلقائي يخفي ما في النفس بصورة لا شعورية، أو لا إرادية، وهو يتعلق دائماً بنوع من الغيظ، أي الغضب الدفين. ولذلك، تقول: كبتَ فلانٌ غيظَه في قلبه، أي لم يُخرجْهُ.
أما «الكظم» في المفهوم الإسلامي فهو القدرة على الإمساك بالهيجان النفسيّ من غضبٍ وثورة وأذى. فعندما نقول: كظم غيظَهُ يعني أنه أمسك نفسه من الغضب. وصاحبه يكون في موقف اختيار، أي حينما يكظم غيظه يختار عادة الأفضل والأصلح، ولذلك يحضُّنا القرآن الكريم على مسارعة المغفرة وكظم الغيظ لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عِمرَان: 133-134] أي القادرين على إظهاره مع القدرة على ما ينتج منه من فعل.. وهذا يعني أنَّ فعل الكظم يكون واقعاً عن وعي الفرد وليس ناشئاً عن الكبت النفسي الذي يقول به علماء الغرب. وأما لفظ الكبت كما جاء في القرآن الكريم فهو مصدر للفعل «كَبَتَ» يقال: كبت الله العدوَّ أي أذلَّهُ وأخزاه. قال تعالى: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجَادلة: 5] أي كما أُذِلَّ وأُخزيَ الذين من قبلهم وقال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ *} [آل عِمرَان: 127] أي يُذلهم ويُخزيهم.
2 - الحتمية يقابلها في الإسلام مصطلح الفطرة
ظهر مصطلح «الحتمية» بشكل واضح في علوم الميكانيكا، ثم انتقل إلى العلوم الإنسانية كالأخلاق والتاريخ وعلم النفس.
إن مصطلح «الحتمية» يقرر أن السّلوك يخضع، وفقاً لعلم النفس الغربي، للتكوين الطفولي في السنوات الخمس الأولى من حياة الإنسان.
والبديل لمصطلح (الحتمية) هو مصطلح (الفطرة) في المفهوم الإسلامي، وهذا الأخير هو أفضل وأشمل. فالفطرة موجودة في الإنسان كما هي موجودة في الناموس الكوني. يقول الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الرُّوم: 30] ، أي الخلقة التي جبل الله عليها تكوين الإنسان، أما بالنسبة إلى الكون فيقول عزَّ من قائل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعَام: 14]، أي خالقهما ابتداءً بإبداع من غير احتذاءٍ ولا مثال.
هذه الفطرة المشار إليها في الآيتين الكريمتين تسمح بتجاوز مفهوم الحتمية فيما يتعلق بالسلوك البشري. فهي لا تلتزم بقواعدها التعسفية التي تجعل الإنسان مجبراً على سلوكٍ معيَّن، بل هي تفتح باب معرفة النفس، ومن ثمَّ الالتجاء إلى الله تعالى والسير على صراطه المستقيم. فهو - سبحانه - الذي يملك أن يقلّب النفس، ويغيّر ما فيها حتى تصحَّ مما يعتريها. فمثلاً إذا أرادَ إنسان أن يتوبَ إلى الله تعالى ويسير على صراطه المستقيم، فإنَّه جلَّ جلاله يقبل التوبة عن عباده، ويجعل للنفس بهذه التوبة ميلاداً جديداً يجبُّ ما قبله، وبحيث يرجع الإنسان إلى فطرته ويكون من أهل الاستقامة والصلاح.
وانطلاقاً من هذين المصطلحين نقول للذين يكتبون أو يحاضرون في علم النفس: عليهم أنْ يتحققوا من المفاهيم الإسلامية أولاً ثم يعودوا إلى نمط الفكر الغربي، حتى لا يقعوا في متاهات المصطلحات التي تتنافى مع حقيقة معرفة النفس، وتكون في أكثر الأحيان غير مطابقة لمدلولاتها.
مناهج البحث في علم النفس
إن مناهج البحث في «علم النفس» كثيرة ومتنوعة، لأن هذه المناهج من وضع الإنسان، والإنسان لا يستطيع أن يحيط بمعرفة النفس من جميع جوانبها.
وعلم النفس ليس من العلوم الطبيعية أو العلوم المادية التي تخضع لقوانين معينة وقواعد محددة، بل هو علم يتناول الإنسان في أعماقه، وانعكاس ما يجري في هذه الأعماق على سلوكه الخارجي، ما يجعل من العسير وضع معايير ثابتة تحدد هذا الإنسان، وتضعه في أطر ودوائر مرسومة، أو ضمن مقاييس تحدد درجة انفعالاته النفسية ..وقد يكون ممكناً مراقبة السلوك الخارجي للإنسان ومعرفة اتجاهات صاحبه، ولكن المعرفة للسلوك الخارجي تكون محدودة ومتغيرة من إنسان لآخر. أما سبر أغوار النفس، والوقوف على أسرارها فمن الصعب جداً - إن لم يكن من المستحيل - بلوغهما وفقاً للمعايير الفكرية التي يضعها الناس، أياً كانت اختصاصاتهم ومداركهم، ومهما بلغت من العمق أو القوة.. ذلك أن الجوهر النفساني، بنظرنا، هو من الأسرار المتعلقة بخلق الإنسان، وتكوينه من جسد وروح ونفس. فالله تعالى خلق الجسم الإنساني، ثم أمدَّه بالروح - بنفخة منه سبحانه - ثم جعل النفس، بعد الجسد والروح، لتكون محلاً للاكتساب والمعرفة والإدراك والانفعال... وقد تفرَّد سبحانه بخلق الإنسان، وبعلمه وحدَهُ تعالى بما أودعَ في تكوينه من الروح والنفس، فلا يمكن إذاً للعقل البشري أن يحيط بمكنونات هذا الخلق على حقيقته. من هنا نجد تلك التعددية في مذاهب «علم النفس» ومناهجه، وكثرة الآراء والتشعبات في نظرياته، حتى لنرى المدرسة الواحدة تتبع نظريات عدة ومختلفة، بل وربما - أحيانا - متناقضة فيما بينها، ما يؤكد نظرتنا إلى صعوبة معرفة النفس الإنسانية، من خلال ما هو قائم اليوم من نظريات ومناهج كنظرية الحدس، أو نظرية الاستبطان، أو المدارس الذاتية أو المناهج التجريبية السلوكية... بل إن الغرب - وذلك منتهى الخطأ - يحاول أن يقيس الإنسان على الحيوان، فأنشأ علماً خاصاً سماه «علم نفس الحيوان»، إلى جانب علم النفس البيولوجي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس التربوي... إلخ...
ونظراً لتلك التعددية - التي لا تقع تحت حصر - ليس من الحكمة في بحثنا هذا التعرض لمدارس «علم النفس» وتسمياتها وتعدادها ومناهجها وطرقها وأساليبها في العمل.. بل سنكتفي بجولة فكرية عامة، مختصرة إلى أقصى حد، تبين منطلقات أو ركائز «علم النفس» في المعرفة، والمناهج الكبرى أو الاتجاهات الرئيسة التي اعتمدها هذا العلم للوصول إلى الغايات التي يهدف إليها.. ولعلَّ في هذا الاختصار ما هو أجدى نفعاً ليكون المجال مفتوحاً أكثر لمعرفة النفس وفقاً للمفاهيم الإسلامية.
ويمكن القول بأن علم النفس - كعلم موضوعي مثل سائر العلوم الأخرى كما يذهب إليه العاملون فيه والداعون إليه - قد اتخذ، منذ بداية القرن العشرين، عدة وجوه لاهتماماته، كان أبرزها الاتجاهات الذاتية والموضوعية، والاتجاهات التجريبية، والاتجاهات العيادية، حتى ظهر أخيراً الاتجاه القائل بالتوفيق أو التوحيد ما بين المنهجين الأسَاسِيّيْنِ: التجريبي والعيادي.
الاتجاهات الذاتية والموضوعية
اتخذت هذه الاتجاهات وجهين رئيسيين:
الأول : يقوم على دراسة الظواهر النفسية، لاستخراج نماذج عامة (كما يفعل علماء النبات والحيوان الذين يقسمون النباتات والحيوانات إلى أجناس وأنواع محددة لدراسة كل نوع أو جنس على حدة)، أي إنَّه يتم تجميع الظواهر النفسية المتشابهة، وتصنيفها في زمرٍ أو مجموعات، تكون لكل مجموعة منها مواصفات محددة ومتجانسة ومتقاربة قدر الإمكان.. ومن هذه المجموعات يتمّ تأليف نماذج نفسية، وأنواع خلقية، وطبائع وسجايا كلية. على أن ذلك يقتضي البحث عن منشأ الطبائع والسجايا، وعن العوامل التي تؤثر في تكوينها. وهذا ما يعرف بـ«علم الأثولوجيا» أو علم الأخلاق والعادات، كما ذهب إليه «ستيوارت ميل».
الثاني : وهو لا يكتفي بتأليف النماذج النفسية العامة، أو الأنواع الخلقية، أو الطبائع والسجايا العامة التي توجد في النفس الإنسانية، بل يحاول كشف القوانين العامة التي تخضع لها تلك الظواهر النفسية. أي إنه يحاول أن يضع قوانين نفسية كما يفعل علم الحياة (الفيزيولوجيا) الخاص بالحيوان والنبات وذلك من خلال بحثه في وظائف الحياة العامة.
وعلى هذا فإن «علم النفس»، وهو يشمل جميع الطبائع، والأنواع الخلقية العامة، يعمل على البحث في الوظائف النفسية، والتفاعلات الذهنية، توخياً لكشف قوانينها العامة.. وبذلك تكون غاية «علم النفس» الوصول إلى معرفة العلاقات الثابتة التي تربط مختلف التفاعلات النفسية ببعضها، وذلك عن طريق القوانين التي توضع لها، ما دامت الظواهر النفسية - بحسب هذا الاتجاه - تخضع لقوانين خاصة بها، تماماً كما تخضع الظواهر الطبيعية للقوانين العائدة لها.
ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن «علم الأخلاق والعادات» ذاته إنما يحتاج إلى هذه السيكولوجيا القائمة على دراسة الظواهر النفسية وقوانينها، لأن تحديد الأنواع النفسية لا يمكن أن يحصل إلا إذا عرفت قوانين الظواهر النفسية. ويدللون على ذلك بأن علم البيولوجيا لم يتوصل إلى تصنيف الموجودات الحيَّة، بصورة طبيعية ومعقولة، إلا بعد أن تقدم أشواطاً بعيدة في معرفة ماهية الحياة، ووظائف الأعضاء.
النظرية الذاتية
إلاَّ أنَّ الاتجاه القائم على مقارنة «علم النفس» بسائر العلوم الأخرى - كالفيزياء والكيمياء والفلك وغيرها - دحضه الفلاسفة المعروفون بفلاسفة التجربة، الذين أمكنهم فصل هذا العلم عن الروحانيات وعوالم ما بعد الطبيعة، وذلك عندما قرروا تأسيس «علم النفس» على الملاحظة، وعلى الاستقصاء الذاتي في البحث، بحيث يرجع العالِمُ - وفق الطريقة الذاتية - إلى نفسه، فيصف ما يجري فيها من أحوال داخلية، ويصوغ على أساس تلك الملاحظة، وفي ضوء التقصّي الذاتي، نظريته في علم النفس.. أي ما أمكنه الوصول إليه من أفكار وفق تجاربه الذاتية..
وقد اعتمدت الطريقة الذاتية على التحليل النفسي، وذلك بإرجاع الحياة النفسية إلى عناصرها الأولى.. ومن أشهر القائلين بالنظرية الذاتية «جيمس ميل» و«ستيوارت ميل».
النظرية الموضوعية
ومقابل النظرية الذاتية وجدت النظرية الموضوعية، وعلماء التاريخ الطبيعي هم أصحاب هذه النظرية. ذلك أنه من خلال دراستهم للحيوان، قاموا بوصف طبائع الحيوانات وغرائزها، ثم قابلوها بعادات الإنسان وسلوكه، ليصلوا بالتالي إلى تأسيس ما عرف بـ«السيكولوجيا المقارنة».
أهم طرق علم النفس
وإلى جانب البحث النظري الصرف، ابتدع علماء النفس طرائق عديدة لتوضيح نظرياتهم أو تركيزها على أسس جديدة. وأبرز تلك الطرق كانت: طريقة التنويم المغناطيسي، وطريقة التحليل النفسي. وهذه الطريقة الأخيرة أوجدها الطبيب النمساوي «سيغموند فرويد». وقد توخّى من خلالها، وعن طريق التحليل النفسي، النفاذ إلى أعماق اللاشعور. أي إلى باطن النفس حيث لا يستطيع الإنسان، في أحواله العادية، أن يدرك ما يختزنه هذا الباطن في أعماقه، إلاَّ أنْ يُستخرج منه بدون وعي، وبصورة لاشعورية. وكان تركيز «فرويد» منصبّاً على تشخيص الأمراض العقلية، وتحليل الأحلام، ودراسة التصرفات الخاطئة والأفعال اللاإرادية.. وجميعها تعتبر أحوالاً نفسية خفية من شأنها أن تؤدي إلى إحداث الاضطرابات النفسية.
وعلى الرغم من الشهرة التي لقيتها الطريقة الفرويدية في مجالات علم النفس، ومثلها طريقة التنويم المغناطيسي، إلاَّ أن الأبحاث والتجارب قد أثبتت فيما بعد، عدم قدرة كل من هاتين الطريقتين على معرفة حقيقة الأحوال النفسية ، ولا سيما بعدما ثبت بالبرهان عدم نجاحهما في التطبيق العملي، حيث تبين أنَّ التنويم المغناطيسي - مثلاً - لا يؤثر في جميع الأشخاص على حد سواء، لا بل هنالك أشخاص لا يمكن تنويمهم مغناطيسياً أبداً، كما أثبت ذلك «فرويد» نفسه. وقد اتَّبعَهُ فرويد لفترة من الزمن ثم تخلى عنه لعدم جدواه، كي يعتمد طريقة «التداعي الحر» وهي الطريقة التي يستلقي فيها المريض على أريكة، ويتولى الباحث أو الطبيب النفساني تشجيعه على التعبير عن كل ما يدور في ذهنه، كما يطلب إليه أن يتحدث عن أحلامه، وفي أثناء ذلك يدوِّن الملاحظات والبيانات التي يعود إلى تحليلها في البحث عن الرغبات والمخاوف والأفكار والذكريات التي تكمن في داخل المريض بعيداً عن شعوره ووعيه بها.. وهذا جلُّ ما ذهب إليه «فرويد» أخيراً.
وحتى طريقة التحليل النفسي تلك التي اتبعها «فرويد» لا تؤدي إلى النتائج المرجوة في معالجة النفس البشرية، ما دام هنالك ابتعاد عن حقيقة هذه النفس، وعدم معرفتها عن طريق المصدر الوحيد الذي أوجدها، وهو الخالق - سبحانه وتعالى - وهذا ما يجعل جميع أبحاث «فرويد» القائمة على «اللاشعور» واهية من أساسها؛ ولا سيما أنَّ الشعور - في الحقيقة - هو أول مرتبة في وصول النفس إلى إدراك المعنى، بحيث يترادف هذا الشعور مع الإحساس، أي مع الإدراك بالحس الظاهر. والشعور في علم النفس، هو الحدس النفسي الذي نطّلع به على حالاتنا الداخلية. وبذلك يتبين أن وجود حالات نفسية لاشعورية محال، بل إن اللاشعور يتناقض مع الشعور، لأن وجود أحدهما يلغي الآخر.
قد يكون - من الناحية الافتراضية - للحياة اللاشعورية معنى من الوجهة الفيزيولوجية، إذ لا يمنع وجود شيء فيزيولوجي لاشعوري كما لو افترضنا أنَّ الشعرةَ في الرأس، أو الظفر في الأصبع ليس لهما شعور؛ أما من الوجهة النفسية فلا يعقل - إطلاقاً - وجود اللاشعور، لأنك لا تستطيع أن تتصور نفساً لا تشعر، أو عقلاً لا يعقل.
وإذا سلّمنا بنظرية «اللاشعور» وخلّوها من التناقص لم نسلَم من الاعتراض. فقد يقال لنا: كيف يمكن إدراك اللاشعور ومعرفته؟ فإما أن يكون اللاشعور نفسياٌ، وإما أن يكون غير نفسي. وهذا الأخير لا دخل له في بحثنا. فأما إذا كان نفسياً فإنه لا يدرك بالملاحظة الخارجية أو بالملاحظة الداخلية لأن آلة هذا الإدراك هي الشعور. وإذاً فإن وجود الحالات اللاشعورية وعدم وجودها سِيّان.
هذا وقد عمدت بعض الاتجاهات إلى التفريق بين علم الأمراض النفسية، وعلم الأمراض العقلية، معتبرةً أنَّ النوع الثاني هو أحد فروع علم الطب البيولوجي الذي يهتم بمعرفة الأمراض التي تصيب الدماغ - أي مركز التعقّل - وأسباب وجودها، وتطورها، وبيان طرق معالجتها، في حين أن علم الأمراض النفسية علم نظري مجرد، يحلل الحوادث المرضية ويبحث في علاقات الاضطرابات النفسية، ليضع لها - حسب زعمهم - طرائق العلاج الخاصة، كتلك التي تطبق في حقل الحالات المرضية.
بل ذهبت بعض الأبحاث في علم النفس إلى القول بوجود سيكولوجيا شعبية عفوية، يعتمد عليها الناسُ في حياتهم وعلاقاتهم. وهذه السيكولوجيا الشعبية هي مزيج من التجربة والملاحظة والاستنتاج، يستعملها رجل السياسة، كما يستعملها رجل الإدارة، أو التاجر أو القائد العسكري، الذين يكمن نجاحهم في مدى معرفتهم بأحوال مَنْ يتعاطون معهم، وفي إدراكهم لحالاتهم النفسية.
ويقال أيضاً - في هذا المجال - إن الحياة نفسها تقتضي أن يكون لدى كل إنسان إلمام بشيء من هذه السيكولوجيا الشعبية. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، معتبرين أنه ربما كانت هذه السيكولوجيا هي وراء نجاح أولئك القادة، من السياسيين والعسكريين، الذين كانوا يستفيدون من الظروف، ويسخِّرونها لمصالحهم، لأنهم كانوا يعرفون «من أين تؤكل الكتف»، فيخاطبون جماهيرهم بما يثير في نفوسها الحماسة، ويدفعها للانقياد إلى رغباتهم، وإطاعة أوامرهم...
وبالإضافة إلى تلك النظريات والطرق التي اتبعت في علم النفس، وجدت أيضاً المناهج، ولعل أكثرها انتشاراً المنهجان: التجريبي والعيادي.
المنهج التجريبي
ويقوم على مراحل ثلاث: الملاحظة، وضع الفرضية، إجراء التجربة. وهذا المنهج استقرائي، أي إنه ينطلق من الحوادث ليبحث عن الأسباب، وينشىء من ثمة القوانين.. وقد يطرح فكرة فرضية ثم لا يلبث أن يعود إلى الحوادث لمراقبة تلك الفكرة والتحقق منها.
ويعتمد المنهج التجريبي في مجالات دراسته على التعلم والإدراك، حيث يجري تحديد الظروف بدقة متناهية، لإجراء التجربة موضوع البحث أو الدراسة. وهو منهج - كما يدل عليه اسمه - يُخضع الإنسان للمراقبة والتجربة. غير أنًّ المشكلة تكمن في هذا الإنسان - الذي هو موضوع البحث - هل يتقبل الظروف التي يوضع بها لإجراء التجربة عليه بذات التفاعلات النفسية التي كان عليها قبل إدخاله تحت ظل هذه الظروف؟ وما مدى تجاوبه مع الباحث؟ وهل يقبل بأنْ يفشي له جميع أسراره؟ أو أنْ يطلعه على المشاعر التي تُعشّش في أعماقه، ويكون غيرَ راغبٍ في إظهارها؟ فما مدى نفع التجربة - في أيٍّ من تلك الأحوال - وما القوانين التي يمكن أن يصوغها هذا المنهج التجريبي في معرفة النفس البشرية؟ فالإنسان ليس مادةً مختبرية مثل ورقة الشجرة أو مثل الحجر الصلب، أو قضيب الحديد، التي يمكن تحليلها ومعرفة عناصرها التي تتكون منها... إنه بشر من لحم ودم، وكتلة من العواطف والانفعالات والإرادة والعقل، ومختلف العناصر أو العوامل المعنوية التي تكوّن شخصيته التي يتميز بها عن الآخرين.. فكيف نجعله مادة للاختبار والتجربة، ونطبق عليه قوانين المختبرات والتجارب والتحاليل؟!
المنهج العيادي
يقوم هذا المنهج على مراقبة سلوك الشخص، وما يصدر عنه من أقوال وأفعال، عندما يكون مستلقياً على سرير في عيادة، والطبيب النفساني أو الباحث بقربه يحاول أن يؤانسه، وأن يدفعه إلى التعبير عما يجول في داخله، وفي الوقت ذاته يسجل كل كلمة أو حركة يقوم بها هذا الشخص.. وقد تطول الجلسات العيادية ويطول تدوين الملاحظات، ليعود الطبيب أو المعالج من بعدها لمطابقة نتائج اختباراته هذه على القوانين العامة الموضوعة. وهناك مقاييس ودرجات، يعمد بواسطتها إلى قياس هذا الشخص وتحديد ما يريد لديه: إن لناحية درجة ذكائه، أو مدى تخلفه العقلي، أو قوة الاضطرابات النفسية عنده إلخ...
ويطبق المنهج العيادي على المرضى من الناس وغير المرضى.. وهو يبحث في الحالات الفردية فقط، كحالة إنسان بالغ لمعرفة الاضطرابات التي تسيطر عليه، أو كحالة الطفل الذي يبدو أنه يعاني مشكلة معينة.. ممَّا يتبيّن معه أنَّ الطريقة التي يتبعها المنهج العيادي تتأثر بدرجة كبيرة بما هو معروف بالتحليل النفسي الذي اعتمده «فرويد» وغيره.
ومن المقارنة بين المنهجين التجريبي والعيادي، يمكن استخلاص ما يلي: إن المنهج التجريبي «يستخدم الكمية، ويستعمل الملاحظات والآلات والمقاييس والاختبارات».. أما المنهج العيادي (أو الإكلينيكي) فيقوم على العلاقة الحميمة بين الباحث والمريض، وعلى تعميق دراسة حالة فردية يؤخذ فيها الفرد على أنه وحدة متكاملة بحدّ ذاته، ما يجعل المنهج التجريبي يتمتع بصفات أعمَّ وأوسع وأشمل، تجعله أقرب للموضوعية من المنهج العيادي الذي هو أقرب إلى الفردي والخاص، لأنه يهتم بدراسة فرد معين، ويتعمق بدراسة الأحوال النفسية عند هذا الفرد.
ولا مجال للمفاضلة بين المنهجين، لأنَّ كلاً منهما يذهب في مجال خاص به يختلف عن مجال المنهج الآخر، وإنْ كان كل منهما يستفيد من النتائج التي يتوصل إليها الآخر، أما من حيث القيمة العلمية، وفي مجال المعرفة، فيذهب كثيرون إلى اعتبار المنهج العيادي أرفع مستوىً من المنهج التجريبي.
المنهج التوفيقي أو نظرية «لاغاش«
يعتبر «لاغاش» أنَّ تعدد مدارس علم النفس، أكان من حيث الموضوع، أم المنهج، أم القواعد التي تضعها كل مدرسة، إنما هو تعدد في الظاهر فقط، لأنَّ جميع السيكولوجيات تستقي من مصدر واحد هو النفس البشرية. ولذلك رأى «لاغاش» أن من الضروري توحيد [علوم النفس ]، وإنْ كان يغلب عليها اتجاهان رئيسيان هما: الاتجاه الطبيعي والاتجاه الإنساني.
فأما الاتجاه الطبيعي فيتمثل بالمدرسة السلوكية، التي تهتم «بدراسة السلوك بكل مباحثه الخارجية والداخلية، أي دراسة ردود الفعل التي هي مادية». وتكون غاية هذا المنهج في النهاية صياغة قوانين مشابهة لقوانين الطبيعة، وإقامة علاقات تهدف إلى شرح الظواهر، أي إعادتها إلى المكوّنات والعناصر والأسباب الابتدائية الأولى.
وأما الاتجاه الإنساني فهو عكس الاتجاه الطبيعي، يأخذ الأحداث النفسية على أنها حالات وعي، أو تجارب معيشة أو تعبيرات... فيكون بالتالي موضوع علم النفس غير مرتكز على السلوك الملاحظ، بل على السلوك المعيش، أو الوجود المعيش...
ويعتبر «لاغاش» أنَّ كل مدرسة من مدارس علم النفس تأخذ بالاتجاهين معاً لتداخلهما مع بعضهما، ولا تتفرَّد باعتماد اتجاه واحد فقط، ومن هنا دعوته إلى توحيد الاتجاهين. وهذا ما يؤدي - بنظره - إلى وجود «علم نفس واحد» لا علوم نفس متعددة.. وإذا ما وجدت متفرعات لعلم النفس الواحد، فهي جميعها تأخذ من بعضها، وتتداخل بشكل قوي لتعود وتصبّ كلها في الاتجاهين: الطبيعي والإنساني. وكل من هذين الاتجاهين يتمتع بمحتوى متحرك غير جامد، ويتطابق في العمل مع الطريقة التجريبية والطريقة العيادية. وذلك كله يُظهر أن هاتين الطريقتين لا تستغني إحداهما عن الأخرى، بل إنهما تتكاملان، لأنَّ الغرض في النهاية هو دراسة التصرف الإنساني بكليته، أي دراسة الإنسان ككل واحد لا يتجزأ.
وقد يكون «لاغاش» ذهب بعيداً في نزعته التوفيقية هذه، لأنَّ الأسس التي يقوم عليها المنهج التجريبي ليست هي ذاتها الأسس التي يقوم عليها المنهج العيادي. بل إن الفصل بين المنهجين في الأساليب والطرق هو أبعد بكثير مما ذهب إليه «لاغاش». ثم إنًّ واقع علوم النفس تثبت، كما قلنا، اختلاف المدارس وتعدد المناهج وتنوع الطرق، فلا يمكن بالتالي اعتماد ذلك التوحيد مع وجود الاختلافات والتناقضات فيها.
تلك لمحات وجيزة عما ذهبت إليه [علوم النفس] بنظريّاتها ومذاهبها المتعددة، وقد أوجدها الغرب بحسب نظرته إلى الحياة والإنسان، وما تفرع عنها من معارف وعلوم.
نظرة في علوم النفس والاجتماع والتربية
أما نحن فإننا نرى عكس ما يراه الغرب، في محاولاته و«علومه» لمعرفة النفس الإنسانية. فعندما نأخذ بتعاليم القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة كحقائق مطلقة - في كل شيء - تتكون لدينا معرفة تختلف عن معرفة الغرب حول طرائق التفكير والتصور.. إنًّ الغرب وأتباعه في مناهجهم الفكرية، يحاولون فهم سلوك الإنسان وفقاً لقوانين ومقاييس اصطناعية، وبحسب اختبارات وتجارب معملية مادية صِرفة.. بل كثيراً ما يقيسون السلوك الإنساني على ردود فعل الحيوان بعد إجراء التجارب عليه، ولا سيما الحيوان الضعيف كالفأر والأرنب. وكل ذلك لصياغة تلك النظريات المترجرجة، والتصورات الخاطئة التي لا تلامس حقيقة خلق الإنسان من جسد وروح ونفس، والتي هي أبعد ما تكون عن معرفة النفس الإنسانية على حقيقتها، حتى صار يظهر لدى الناس - من جراء تلك النظريات والتصورات - تشابكٌ بين الأفكار المستمدَّة من الطريقةِ العقليةِ، والأفكارِ المستمدّةِ منَ الطريقةِ العلميةِ التجريبية. ونظراً لهذا التشابكِ فإنهم يعتبرونَ أبحاثهم ودراساتهم حول النفس أو الاجتماع أو التربيةِ علوماً، ويعتبرونَ أفكارَها علميةً، لأنها قامَتْ على ملاحظات جرَى تتبّعها على الأطفالِ في ظروف مختلفة، أو على أعمال مختلفة لأشخاصٍ مختلفينَ في ظروفٍ مختلفةٍ، فسمّوا تكرارَ هذه الملاحظات تجاربَ. والحقيقةُ أنّ كل ما أوجدوه من أفكار حول ما يسمونه علومِ النفسِ أو الاجتماعِ أو التربيةِ، لَيْسَتْ أفكاراً علمية، لأنّ التجاربَ العلميةَ تقوم على إخضاع المادّةِ لظروفٍ وعواملَ غير ظروفها وعوامِلِها الأصليةِ، وملاحظة أثر هذا الإِخضاع وتتبّع نتائجه، كما يحصل في تجارب الفيزياء أو الكيمياء أو غيرها من التجارب، على شتى أشياء الطبيعة وموجوداتها...
هذا في حين أن ملاحظةَ الإنسان في أوقات وأحوال مختلفة، كملاحظة الطفل مثلاً في أحوال وأعمار مختلفة، وملاحظةِ الجماعات في بلدان وظروف مختلفة، لا يمكن أن تدخلَ في بحث التجارب العلميةِ، ولا تُعتبرُ طريقةً علميةً، بل تُعتبرُ ملاحظة وتكرارَ ملاحظةٍ واستنتاج فحسب، ولذلك فهي طريقة عقلية. وعلى هذا فإنّ أفكار ما يسـمى «علـم النفس» أو «علـم الاجتمـاع» أو «علـوم التربيـة»، تعتبـر أفكاراً عقلية، وتتخذ المفهوم الثقافي أكثر بكثير مما تتخذ المفهوم العلمي.
كما أنّ علومَ النفسِ والاجتماعِ والتربيةِ - وفقاً للمفاهيم السائدة - تعتبر من الأمور الظنية القابلة للخطأ، وليستْ منَ الأمورِ القطعيّةِ، لذلك لا يصحّ أن تُتّخذَ أساساً للحُكْمِ على الأشياءِ، ولا يجوزُ أن يُسْتَدَلّ بها على صحةِ الأشياءِ، أو عدمِ صحّتِهَا، لأنها ليستْ من قبيلِ الحقائقِ العلميةِ، أو القوانين العلمية، بَل هي معارف ظنيّة. وهي وإنْ تَمَّ التوصل إليها بالطريقةِ العقليةِ، إلا أنها ليستْ من قبيلِ الحكمِ بوجودِ الشيء، بلْ من قبيل الحكمِ على حقيقةِ الشيءِ أو عدمه وهذا الحكمُ ظنيّ قطعاً، فيهِ قابليةُ الخَطأِ.
يضاف إلى ذلك أن هذه المعارفَ الثلاثَ المعروفة بعلوم: النفس والاجتماع والتربية، إنما هي مبنيّة على أُسس مغلوطة، ما يجعل كثيراً من الأفكارِ التي تحتويها أفكاراً مغلوطةً. فلو أخذنا مثلاً علمَ النفسِ لوجدناه مبنياً في مجمله على نظرتِه إلى الغرائز والدماغ، لأنه يعتبر أنّ في الإِنسان غرائزَ كثيرة، منها ما اكتُشِفَ ومنها ما لم يُكتشفْ. ولقد بنى علماءُ النفسِ على هذه النظرةِ للغرائزِ نظرياتٍ خاطئةً، فكان ذلكَ من الأسبابِ التي أدّتْ إلى الخطأ في كثيرٍ من الأفكارِ الموجودةِ في علم النفسِ. أمّا الدّماغُ، فعِلْمُ النفسِ يعتبرُهُ مُقَسّماً إلى مناطقَ، وكلّ منطقة لها قابليةٌ خاصّةٌ، وفي بعضِ الأدمغةِ قابلياتٌ ليستْ موجودةً في أدمغة أُخرى، وبناء على ذلكَ فإنّ بعضَ الناسِ فيهم قابليةٌ لفَهْم اللغات، وليس فيهم قابليةٌ لفَهْم الرياضيات، وبالعكس. وهكذا بُنِيَتْ هذه النظرةُ الخاطئةُ على نظرّيات خاطئة.
والحقيقةُ في هذا كلّه: أنّ المُشاهدة بالحسّ من تتبع الفعل، وردِّ الفعلِ، تثبت أنّ في الإِنسانِ طاقةً حيويَّةً ذات مظهرين:
المظهر الأول : يتمثل في الحاجات العضوية كالجوعِ والعطشِ والتنفّس والنعاس وقضاءِ الحاجةِ وما إلى ذلك...
المظهر الثاني : يتمثّلُ في الغرائز الثلاثِ: غريزة التدينِ، وغريزة النوعِ، وغريزةِ حبِّ البقاءِ. وهذهِ الغرائزُ تتمثل كل واحدة منها بشعور معين، كالتديّن الذي يُشعر الإنسان بعجزه أمام خالقه، والشعور ببقاء النوع للحفاظ على الجنس البشري، والشعور بالحفاظ على الحياة حتى لا يعرِّض الإنسان نفسه للمخاطر، ولا يوجدُ غرائز أخرى غير تلك الغرائز الثلاث. وأمَّا ما يسمونه غرائز غيرَها فهي مظاهر للغرائز الثلاث مهما تعددت وتنوعت هذه المظاهر..
أمّا من ناحيةِ الدماغِ فالحقيقة أنّهُ واحدٌ، وأنَّ تفاوتَ الأفكار واختلافَها ناجمٌ عن تفاوُتِ المحسوساتِ والمعلوماتِ السابقةِ، وقوّةِ الربطِ لدى كل فرد وحده. ولا توجَدُ في دماغٍ قابليةٌ لا توجدُ في دماغ آخر، بل توجد في جميع الأدمغة قابلية التفكير في كلّ شيء. والأدمغةُ تتفاوتُ في قوةِ الرّبطِ وفي قوّةِ الإِحسَاسِ، كما تتفاوتُ الحواس الخمسُ قوّةً وضعفاً. لذلكَ يمكنُ إعطاءُ كلِّ فرْدٍ المعلومات، وتكون لديه القابليةٌ لهضمِها إذا أُعطيها بالطريقة التي تتوافق مع قوة الربط لديه، ما يعني أنه لا أساسَ لما جاءَ في علمِ النَّفسِ حول القابلياتِ في الأدمغة.
علم الاجتماع
أمّا علمُ الاجتماع فقد بُني على نظرتِه للفردِ والمجتمع، من حيث وجود فطرة في الإنسان تنتقلُ من الفردِ إلى الأسرةِ، وإلى الجماعةِ، وإلى المجتمع، وعلى اعتبار أَنَّ المجتمعَ إنّما يتكوّن من أفرادٍ، لذلك كانت المجتمعاتُ منفصلةً، وما يصلحُ لمجتمعٍ لا يصلحُ لآخر.. وبنى علماءُ الاجتماع على هذه النظرةِ نظريّاتٍ متعددة، نشأت عن الأفكار الخاطئة التي قام عليها علم الاجتماعِ.
وأمّا ما جاءَ في علمِ الاجتماعِ عنِ الجماعةِ من أنها أسرعُ إدراكاً للأمور وأقوى إثارةً للمشاعرِ منَ الفردِ، فصحّةُ هذا القولِ لم تأتِ من ناحيةِ النظرةِ إلى المجتمعِ، بل أتَتْ منْ ناحية غلبةِ المعلوماتِ الكثيرةِ المتكرّرةِ على المعلوماتِ الفرديةِ.
وعلى هذا فإنّ علمَ الاجتماعِ يمكن اعتباره فاسداً، لأنّهُ مبنيّ على نظرةٍ فاسدةٍ، وما صحَّ من نظرياته أتت صحته من كونه ناتجاً من سببٍ آخر..
علوم التربية
وكذلك الأمر بالنسبة إلى علوم التربية،فإنها بُنيت على «علم النفسِ» الذي قام على ملاحظة أحوال الأطفال وتحليلها وعلى تأثرها بنظريات «علمِ الاجتماعِ»، ما جعلَ الصحيحَ فيها يختلطُ بالفاسد، لأنَّ ما بنيَ على علمِ النفسِ، وتأثّر بعلم الاجتماعِ كان فاسداً في الأصل، وفسادُهُ أدى إلى انتشار الأفكار التربوية الفاسدة، ما جعل مناهج التعليم وطرقه غير صالحة في مجملها. فاعتبار طفلٍ لديه قابلية لبعض العلوم وليس عنده قابلية لغيرها هو خطأ بعينه، لذلكَ كانَ تقسيمُ التعليمِ إلى فروع علمية، وأخرى تقنية، وأدبية يُعدّ تقسيماً خاطئاً، ما أدّى إلى حرمانِ الكثيرينَ منْ تعلّمِ بعضِ العلومِ، أو حرمانِ غيرهم حتى من مواصلةِ التعليمِ.
أمّا علوم التربية المبنيّة على ملاحظةِ أحوال الأطفالِ، وأعمالِ الأفرادِ في ظروفٍ مختلفةٍ، فإنَّ ما كانَ موافقاً للواقع، كالتعب والراحة والنشاط الذهني وما شاكل ذلك، يُعتبر صحيحاً في جملته. وما كان غير موافق للواقع كتقسيم السنة إلى ثلاثة فصولٍ وإعطاء ثلاثة أشهرٍ عطلةً للتلميذ وما شاكل ذلك، فإنَّهُ خطأ في جملتهِ.
ومنْ هنا جاءَ خطأ النظرياتِ التربويةِ وفسادُ علومِ التربيةِ في جملتها، ولا سيما ما بُنِيَ على علمِ النفسِ التقليدي وتأثّرَ بعلمِ الاجتماعِ الظنّي.
وفي الموضوع الذي نعالجه في هذا الكتاب، أي موضوع «معرفة النفس» لدى الإنسان، لا نجد حاجةً للبحث في تفصيل تكوين الإنسان العضوي. ذلك أن تكوين هذا الإنسان العظيم في خلقه، والمعقد في تركيبه، لم يُكتشف بعدُ من خاصياته إلاّ القليل القليل، وبقي ما لم يكتشف منها - وهو الكثير - سرّاً مغلقاً لم تصل إليه العلوم العصرية حتى اليوم.
ولنأخذ مثلاً واحداً عن جزء من تكوين الإنسان العضوي: الدّماغ. فلو سألنا معظم المتخصصين في جراحة الدماغ: هل المعلومات التي تعرفونها عن الدماغ كافية ووافية؟ وهل استطاع التشريح الذي قمتم به أن يكتشف جميع خلايا الدماغ ووظائف كل خلية، وارتباطها بخلايا الأعضاء الأخرى في الجسد؟ وهل توصلتم إلى معرفة كيفية تكوين كل خلية في الدماغ على حدة، أو السبب الذي جعل الخلايا ترتبط بالذاكرة، أو المشاعر، أو الحواس؟ إلى ما هنالك من الأسئلة التي لو أجابوا عنها لقالوا إننا لا نملك إلاَّ القليل من المعلومات حول هذا الجزء العضوي، وهي معلومات لا تزال محدودة بالنسبة إلى طاقاته...
هذا بالنسبة إلى قدرة الإنسان على الإحاطة بكنه مادّةٍ خاضعة للتشريح والاختبار والتجربة بين يديه، التي هي الدماغ.. وهي قدرة محدودة قاصرة. فكيف به بالنسبة إلى قدرته على الإحاطة بحقيقة نفس الإنسان، وبما يعتمل في داخلها، والنفس ليست مادةً ماثلةً بين يديه أو واقعةً تحت حواسّه وخاضعة للتشريح؟!
تبارك الله الذي أحاط بكل شيء عِلْماً!
أما السبب الرئيسي الذي أوقع تلك العلوم بما وقعت فيه من أخطاء فهو كونها تعيش في ظل مناخات فكرية، وظروف وأوضاع حياتية لم تكن صالحة لحياة الناس في الأصل، ما أدى إلى فشل التطبيق العملي للنظريات والمبادئ التي كانت وراءها، فكيف ذلك؟
فشل النظامين الرأسمالي والاشتراكي
كنّا قد قلنا من قبل، أي في الطبعة الأولى من هذا الكتاب: إنَّ كل الدلائل والتحاليل الموضوعية والواقعية تشير إلى فشل النظامين الاشتراكي والرأسمالي.. فالاتحاد السوفياتي الذي حمل لواء النظام الاشتراكي الشيوعي منذ عام 1917 لم يعد قادراً على إقناع الشعوب التي تدور في فلكه بأنْ تبقى على ما هي عليه من شظف العيش والتقشف، والحرمان من البحبوحة والرفاهية التي وعد بها النظام الاشتراكي من دون أن يفي بوعده. والدليل على ذلك ما حدث أواخر القرن العشرين من تغيّر جذريّ معادٍ للشيوعية، في أنظمة ألمانيا الشرقية، ورومانيا، وتشيكوسلوفاكيا، وقبلهما - بقليل - ما حدث في الصين وبولندا والمجر. كما أن رياح التغيير اجتاحت بعد ذلك جمهوريات روسيّا السوفياتية، في انقلاب جذري على الشيوعية التي تهاوت من الداخل، على الرغم من ادعاءات المنظِّرين والمدافعين عن النظام الذي ساد بضعة عقودٍ من الزمان.
هذا الكلام الذي سقناه عام 1991، لم تتأخر الأحداث في إثبات صحته، عندما انفرط عقد «الاتحاد السوفياتي» وعادت الدول التي كانت تنضوي تحت لوائه إلى استقلاليتها.
وليست الرأسمالية بنظام أفضل لبني البشر، فها هي تحكم على نفسها بنفسها أيضاً، من خلال البلد الذي يتزعّم محورها كله، ونعني به الولايات المتحدة الأميركية... فالشعب الأميركي الذي يمثل اثنين بالمئة (2%) من سكان العالم، يستهلك، كما تقول الدراسات المعنية بالموضوع، حوالى ستين بالمئة (60%) من مخدرات العالم. وهذا الاستهلاك إنّما يتمّ في ظل رأسمالية مؤسساتيّةٍ مبرمجةٍ لتسلب الفقير وتعطي الغني، وتبني الأمجاد على المؤامرات التي تحولها ضدَّ أي بلدٍ - أو دولةٍ - في العالم لا يماشيها في سياساتها!!.. فضلاً عن هيمنتها بصورة ظاهرة أو خفيّةٍ على ثروات وخيرات معظم بلدان العالم الثالث، من أجل تأمين المصالح الحيوية الأميركية في الدرجة الأولى، ومنْ ثَمَّ تأمين بعض مصالح الدول الحليفة لها في أوروبا، في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة الأميركية على منع إتمام قيام «الوحدة الأوروبية»، لئلا تصير الدولة الاتحادية المزعومة شريكاً لها في زعامة العالم، ولعلَّ ما حصل في الاستفتاء على مشروع دستور الوحدة الأوروبية، ورفضه في فرنسا أولاً، ومن ثَمَّ في دولٍ أخرى، مؤشر بارزٌ على إفشال قيام هذه الوحدة!.. كما أن النموَّ الاقتصادي الصيني يؤرق الولايات المتحدة الأميركية، وهي تخاف انطلاق المارد الشرقي إلى العالم، لئلا يقضي على الزعامة التي تتربع على عرشها في هذه الحقبة من التاريخ البشري.. فهذه نماذج عن واقع الحياة، أو عن التصورات لأعظم دولة رأسمالية.
أما فيما خص جوهر النظام الرأسمالي بالذات، فإنَّه فشل في تحقيق التوازن الاجتماعي والغذائي والصحي والتعليمي لشعوب الـدول التي تطبق هذا النظـام، فضلاً عن فشـله في تحقيق السـلام النفسي للأفراد في تلك الدول، تماماً كما فشل النظام الاشتراكي في تأمين وفرة السلع الغذائية، وإشاعة أجواء الحرية في الدول التي اعتمدته!!
وفي ضوء المعطيات المتوافرة عن النظامين، فإنَّ القرن الحادي والعشرين سوف يشهد أزمات قادمة قد تأتي بويلات مؤكدة ليست بقدرة هذين النظامين مواجهتها، وربما أتت بتغييرات من شأنها أن تقلب المقاييس الحاليّة رأساً على عقب، لتولّد نظاماً يكون جديراً بكرامة الإنسان.
وما اعتقادنا بحتمية هذا الانقلاب إلاَّ لأنَّ غالبية الناس قد ارتمت في أحضان الرأسمالية أو الاشتراكية لفترات طويلة من الزمن، بعدت أثناءها بكليتها عن الله سبحانه وتعالى.. وانحازت الدول لهذه القوة أو تلك دون الانحياز إلى الله - جلَّ وعلا - ودون التفكير في الأنفس البشرية التي تعيش في ظل تلك الدول. وأهمّ ما في هذا التفكير أنه يعزّز الدوافع النفسية التي تحثُّ الناس على العودة إلى فطرتهم، والتوجه نحو خالقهم ليعبدوه ويشكروه على ما وهبهم من النعم والخيرات... ولأنَّ ما حصل لم يكن كذلك فقد ضاع الناس في طلب الحياة الدنيا ومادياتها، لكثرة الأعباء التي تتزايد على كاهلهم يوماً بعد يوم، ولشدة الأزمات المفتعلة من حولهم، حتى صارت نفوس الناس أسيرة هذه الفوضى العارمة التي تعم الشرق والغرب على حدٍّ سواءٍ.
وضياع النفس يعني ضياع الشخصية، وضياع الإنسان.. وهذا الضياع هو الذي يجعل إنسان اليوم بمثابة صورة مهزوزة بحيث لا يُدرك قيمة نفسه، ولا يُفكر في مكرمة خلقه. فإلى متى يظل عمى البصائر، مقوِّضاً للقيم الدينية والمثل الإنسانية معاً؟!
ولم تصل الأحوال بالناس في الغرب والشرق إلى هذا الحد إلاَّ بسبب اتباع الطريقة العلمية في بحث كل شيء، والمغالاة في تقدير هذه الطريقة، وتطبيقها على شتى الأبحاث والمناهج لمختلف العلوم. من هنا كان المأزق الذي أوقع فيه الغربُ نفسَهُ، وأوقع معه العالم الإسلامي، وذلك باعتماده مناهج للتفكير - في أبحاث العلوم الإنسانية ـ لا تستقيم مع القيم الإنسانية، أو مع حقيقة الحياة والوجود الإنساني فيها.. بل لو نظرنا لأبعد من الواقع الحالي، لوجدنا أنًّ مختلف المناهج التي استنَّها الناس قديماً وحديثاً، لم تستطع - وهذا طبيعي - مراعاة مختلف محتويات أو مكنونات النفس الإنسانية لكثرة تشعبها وتشابكها من ناحية، وتناغمها وتناسقها من ناحية ثانية. ولعلَّ هذا الأمر لا يقتصر على معرفة حقيقة نفس الإنسان، بل ويشمل الحياة البشرية كلها، عبر تاريخها الطويل، حيث تقلّبت الأفكار باتباع مناهج كانت معادية للحياة نفسها، لأنها لم تركن إلى المنهج القويم الذي يراعي شؤون الحياة، ويراعي حق الله تعالى في خلقه، وتدبيره سبحانه لهذا الخلق.
وعليهِ فإن المنهاج الوحيد الذي يراعي مختلف اعتبارات الحياة، وشؤون الإنسان، هو منهاج الله تعالى. فقد خلق - سبحانه - الأرض وأمدَّها بكل مقومات الحياة، لتكون صالحة لحياة الإنسان، ووهبه - من جملة مواهبه السنيّة - قوةَ البصيرة التي تستجلي الحق والصواب، ثم أنزل له - من عليائه - رسالاتِ تبين له المنهج القويم الذي يجب أن يسير عليه، فكان حتمياً أن يوافق هذا المنهج الوجود الإنساني، لأنه منزَّل من خالق الإنسان، وهو أعلم - سبحانه - بحقيقة تكوينه وفطرته، وبما أودع فيه من طاقات، وبما افترض عليه القيام به من وظائف. فيكون منهج الله تعالى هو وحدَهُ القادر على تحقيق السلام النفسي، وتأمين التوازن الحياتي لهذا الإنسان عندما يمارس مختلف وجوه نشاطه من أجل خيره الفردي، وخير الجماعة، وخير البشرية كلها على حد سواء.. فأين تلك المناهج التي ابتكرها الإنسان، قديماً وحديثاً من منهاج الخالق العظيم الذي وحده يجعل الإنسانَ خليفةً لله تعالى في الأرض؟!. ولو أخذنا ما ابتكره الإنسان لمعرفة النفس، كمثال على منهجية تفكيره، لرأينا أن مختلف المناهج حول نفس الإنسان كانت تراوح بين الإفراط والتفريط، بين الكبت والتهور، بين تقييد الميول الفطرية أو إطلاق العنان لها بلا ضوابط ثابتة.
ولم تلتزم الجماعاتُ البشرية جادّة الاعتدال في يوم من الأيام، ولم يقع التوازن في تصوراتها، وفي مختلف جوانب حياتها، إلاَّ عندما كانت تسْتقي من منهاج الدين الذي ارتضاه الله - وهو العليم الحكيم - للناس كافة فكان الدين عند الله الإسلام، وهو العقيدة، وهو المبدأ، وفيه المنهج القويم للحياة. وقد بدأ الإسلام مع آدم (عليه السلام) واكتمل ببعثة محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو وحده الذي يكفل للإنسان إقامة شريعة الله تعالى على الارض، فتستقيم حينئذٍ الحياة الإنسانية ويسيرُ الناس على الطريق المستقيم: تفكيراً وقولاً ونهجاً وعقلاً.
الطريقة العقلية هي الأساس للتفكير
إنَّ منهج الإسلام الحق هو منهج الحياة، وإن القرآن الكريم هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، وقد أُنزل إلى الإنسان من ربِّه تعالى، ليهتدي إلى الحقائق التي تُصلح شأنه في الحياة الدنيا وتجعله يفوز في الحياة الآخرة. ومن يتتبَّع الأسلوب القرآني في البيان والتبيين يجد أنَّه قد سلك الطريقة العقلية، أكان في إقامته البرهان، أم في بيانه الأحكام. فإذا كانت هذه هي طريقة القرآن - وهو كتاب الله، وهو قول الحق تبارك وتعالى - فقد وجب على الإنسان أن يعتمد هذه الطريقة العقلية أساساً للتفكير في حياته.
والأدلة على إقامة البرهان تبدو واضحة في هذه الآيات المباركة الكريمة: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ *} [الغَاشِيَة: 17]. {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبيَاء: 24] إلى كثير من آيات القرآن التي تأمر باستعمال الحواس لنقل الواقع، حتى يتمَّ التوصل إلى النتائج الحقة.. وهذه الطريقة في إقامة البرهان، إنْ هي إلا دعوة للعقل كي يتفكر في الكائنات الحسية الموجودة في دنيا الواقع التي تشكل البراهين على قدرة الله تعالى في الخلق. وما دام البرهانُ حسياً، فما على العقل إلاَّ أن يدركه.
وأما الأدلة على بيان الأحكام فمثلها أيضاً في هذه الآيات المبيّنة من كتاب الله. يقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المَائدة: 3]. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البَقَرَة: 216]. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البَقَرَة: 185]. {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عِمرَان: 159]. {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المَائدة: 1]. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البَقَرَة: 275]. {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النِّسَاء: 84]. {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفَال: 65]. {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطّلاَق: 6]، إلى غيرها من الآيات الكريمة التي تعطي كلها أحكاماً محسوسة لوقائع حسية، سواء أكان الأمر عائداً إلى الحكم نفسه أم إلى الواقعة التي جاء بها الحكم.. فالأمر كله يتعلق بالطريقة العقلية.
والقرآن الكريم، عندما يعتمد الطريقة العقلية أساساً للتفكير، فإنما يخاطب الفكر من حيث هو «الحكم على الواقع»، كي يمكن من ثَمَّ تطبيقُ حكم الفكر على الوقائع التي يتناولها، ليصوغ بالتالي الحقيقة التي تطابق الفكر على الواقع وتصدقه، باعتبارها الغاية التي يجري البحث للوصول إليها. وما من مطّلع عارفٍ، أو عالم محقق، أو منصف باحث عادل إلاَّ ويعرف أنَّ القرآن لم يأتِ إلاَّ بالحقائق، وأنَّ كلَّ حقائقه - جميعاً - هي حقائق نهائية وقاطعة بصورة مطلقة، بخلاف ما يصل إليه الجهد الإنساني ويسميه حقائق عن طريق التجارب، فهذه تبقى - على الرغم من كل الأدوات المتاحة التي يستعملها الناس - حقائق غير نهائية، وغير قاطعة، لأنها مقيدة بحدود التجارب البشرية والأدوات والظروف التي تمليها. فيصبح من الخطأ المنهجي - وبحكم المنهج العلمي الذي يقيمه الإنسان ذاته - أنْ تُعلّقَ الحقائق القرآنية النهائية التي هي من صنع الله العلي العليم، على حقائق غير نهائية، هي من نتاج جهد بشري قابل دائماً للتغيير، أو معرض في كل حين للوقوع في الخطأ.
هذا فيما يتعلق بالحقائق العلمية التي تبقى كذلك إلى أن يثبت العكس، ما يجعلها أقرب إلى الفرضيات والنظريات العملية - أكثر من كونها حقائق نهائية - من مثل النظريات الكونية أو نظريات علم الفلك، أو مختلف النظريات التي بحثت في نشأة الإنسان وأطواره، أو التي تهتم بحياة الإنسان (كعلم النفس أو علم الاجتماع أو علم التربية)، أو النظريات التي وضعت حول نشوء المجتمعات وتطورها، وما إلى ذلك.. فكلّ تلك العلوم والنظريات لا يمكن اعتبارها حقائق علمية قاطعة، حتى بقياس الإنسان نفسه، أي بقياس العلماء في مختلف الميادين.. ولكنّ قيمتها الفكرية، - سواء سميت علوماً أو قيل عنها نظرياتٍ وفرضيات - تبقى في صلاحها أحياناً كسبل ممهدة، أو كأمثلة من أجل تفسير أكبر قدر ممكن من الظواهر: كونيةً كانت أو حياتية أو مجتمعية أو نفسية. وصلاحيتها تظل قائمة إلى حين ظهور نظرية جديدة، أو فرضية جديدة تفسر قدراً أكبر من إحدى الظواهر، أو تفسر هذه الظواهر بصورة أدق وأعمق، وربما أشمل وأعم.. من أجل ذلك تكون جميع هذه النظريات والفرضيات قابلة - دائماً - للتعديل والتبديل، أو النقص والإضافة، بل إنها قد تنقلب رأساً على عقب بظهور أدوات كشف جديدة، أو بتفسيرات جديدة لمجموعة الملاحظات القديمة.. لذلك يمكن القول بأنَّ كل ما ينتجه الفكر البشري حول تفسير الظواهر العلمية ما هو إلاّ بمثابة نظريات أو فرضيات قابلة للتغيير، ما يجعلها بعيدة عن مفهوم الحقيقة العلمية المطلقة.
وهذا بخلاف القرآن الكريم الذي يخلو - تماماً - من النظريات والفرضيات بصورة مطلقة. وقد قامت محاولات وصدرت مؤلفات للربط ما بين بعض الإشارات القرآنية والعلوم البشرية، ولا سيما ما يتعلق منها بالفلك أو الطب أو نشأة الإنسان أو غيرها.. وكل محاولة من هذا القبيل غير جائزة في الأصل، إذ إنها تحمل في طياتها خطأ منهجياً لا يليق بجلال القرآن الكريم، كما أنَّ تلك المحاولات تنطوي على مغالطات كثيرة بعيدة كل البعد عن المفاهيم التي تحملها آيات القرآن. ومن تلك المغالطات نقتصر على إيراد ثلاث هي:
المغالطة الأولى : وتكمن في التفكير أو الشعور الذي جعل البعض يتوهم بأن للعلوم السيطرة التامة على الوجود البشري كله، ما يجعل القرآن مجرد تابع لتلك العلوم. وهذا في الحقيقة نوع من التفكير أو الشعور الانهزامي، أو هو هزيمة داخلية في نفوس أصحاب هذه المقولة..
وقد دفع الوهمُ بهؤلاء المهزومين إلى القيام بمحاولات ترمي إلى ربط حقائق القرآن بتفسيرات واستدلالات مأخوذة من العلوم البشرية.. ولم يدرك هؤلاء الباحثون أو المفسرون أنَّ القرآن الكريم هو كتابٌ من عند الله تعالى، فمواضيعه إذاً كاملة، وحقائقه نهائية.. وكما لم يدركوا أنَّ القرآن الكريم ليس كتاب نظريات علمية، ولم ينزل ليكون علماً تجريبياً، فليس هو كتاب طب مثلاً، أو كتاب فلك، أو فيزياء أو كيمياء.. ليس شيء من ذلك في القرآن الكريم، كما يحاول بعض المتحمسين له الادعاء بذلك، ولا يجوز لهؤلاء المتحمسين - ذوي النيات الطيبة - أن يؤخذوا بأبحاث البعض من أهل الكيد والدس الذين يزرعون في كل بلدٍ فريقاً من الاختصاصيين والعلماء، ويضعون تحت تصرفهم إمكاناتٍ مالية كبيرة، لوضع دراسات مبطنة هدفها المسّ بالقرآن الكريم وإظهاره بأنه مخالف لعلومهم و«منجزاتهم الرائعة»، وهو - على كل حال - أجلّ من أن يمسّ لأنه محفوظ من رب العالمين. لذلك فالقرآن المجيد هو غير العلوم التي هي من عند الناس، وهي العلـوم ذاتها التي لا تـزال تنقض اليـوم مـا أثبتته بالأمس، وتبرهن أيضاً أن ما توصلت إليه يظل محلاً للنظر، أي إنه غير نهائي ولا هو مطلق. وهذا طبيعي لأنه مقيد باحتمالات وإمكانيات وأدوات هي ذاتها غير قادرة على إعطاء حقيقة واحدة تتصف بالنهائية والإطـلاق. وقـد أكـد القرآن الكريم هـذه المحـدودية للطـاقة الفكرية لدى الإنسان، وذلك بقول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسرَاء: 85].. بالقياس - طبعاً - إلى علم الله الواسع. وأكّدها في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا *} [الكهف: 109]. وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [لقمَان: 27].
المغالطة الثانية : وهي الفهم السيئ لطبيعة القرآن ووظيفته. فهذا الكتاب المبين قد تنزَّل ليعالج بناء الإنسان بما يوائم ويوفّق ما بين طبيعته البشرية وطبيعة الوجود كله وفقاً للسنن الإلـهيّة، وبما تسمح به طبيعة الإنسان بالنسبة إلى طبيعة الوجود، حتى لا يكون هناك تصادم بين الإنسان والكون، بل - على العكس - تكون هناك أُلْفة بينهما، فيحاول الإنسان التعرف إلى أسرار الكون، ويستخدم قدراته لاستجلاء أبعاده وخفاياه، التي يمكنه أن يكتشفها بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، والعقل هو الذي يهديه إلى ذلك. وما وُهب الإنسان هذا العقل من خالقه تعالى إلاَّ لكي يعمل ويكشف من العلم ما يقدر عليه، لا أنْ يتلقى هذا العلم تلقياً بالبداهة. إذاً فالقرآن الكريم يحثُّ الإنسان على التفكير، واستعمال العقل، والتبصّر بكل شيءٍ في الوجود حتى يكون قادراً على القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض.
المغالطة الثالثة : وهي التأويل للنصوص القرآنية، وبطريقة فيها كثير من التحمّل والتكلّف، من أجل حمل هذه النصوص على نظريات وفرضيات ليس لها صفة الثبات والاستقرار، بل وجديدها في كل يوم يطمس قديمها.
وقد قلنا بأن مثل هذا التأويل لا يتفق وجلال القرآن الكريم، الذي يأبى - هو ذاته - أن تؤوَّل نصوصه، أو بعض آياته، وفقاً لتلك النظريات والفرضيات التي لا تلامس جلال معانيه، ولا تداني سموَّ وظائفه.. ثم إن القرآن - بطبيعته - يخالفُ اتباع كل المناهج الأرضية التي فيها احتمال الخطأ والفرضيات.
إذاً لا مجال لتأويل النصوص القرآنية بما هو بعيد عنها، وبما تناقضه بحقائقها، بل ومحظور - على الناس - تفسير هذه النصوص لجعلها مطابقة للعلوم.. صحيح أن في القرآن الكريم إشارات على بعض العلوم، لكنها تبقى في دائرة الإشارة أو التنبيه أو التلميح فقط، لأن القرآن الكريم ليس كتاباً علمياً غايته تفصيل العلوم، ولذا فهو - وإن أشار إلى بعضها - لا يبحث في منطلقاتها ولانهاياتها.
غير أنَّ ذلك لا يعني أبداً أن القرآن ضد العلم والمعرفة، بل على العكس إنه يحضّ على العلم، ويطلب من الإنسان بإلحاح أن يتعلم، وبرهاننا على ذلك آيات كثيرة تشيد بالعلم وأهله. قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزُّمَر: 9]. وهو - سبحانه - عندما أنزل القرآن، على قلب محمد خاتم النبيين (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كانت أولى الآيات المنزلة تحضُّ على إعطاء العلم الأهمية التي يستحقها، والتي يدل عليها قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ *} [العَلق: 1-5]. بل إن المكرمة التي تكـرَّم بهـا الخالق - عـزّ وجـلّ - على آدم عليـه السـلام، وعلى بني آدم جميعاً، هي مكرمة العلم بواسطة العقل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البَقَرَة: 31].. وهذا ما يفرض على الإنسان أن يبحث وينقّب كي يكشف كل يوم عن علمٍ، وأن ينتفع بهذا العلم، لأن الغاية من كل علم هي نفع الإنسان وخيره.. بل نحن المسلمين، وإنْ كنا نعتبر معظم العلوم التي تتعلق بفهم حقيقة ماهية الكون والإنسان والحياة مجرد فرضيات ونظريات، علينا أنْ ننتفع منها إذا كان من شأنها أن تزيدنا معرفةً بحقيقة وجود الله تعالى، وبالكون والحياة والإنسان، لأنّ في ذلك كله ما ينشئ لدينا الفكر المدرك لتلك الحقائق ويساعدنا على فهم نصوص قرآننا المجيد، من دون اللجوء إلى تطبيق العلوم على القرآن كما أشرنا إليه آنفاً.
ولذلك كان لزاماً علينا، أن نميز بين نوعين من الإنجازات العلمية:
نوع يمثل الحقائق الثابتة النهائية التي تمَّ التوصُّل إليها عن طريق البحث والتنقيب، كتلك التي تتعلق بعلم الفلك، ومنها على سبيل المثال ما يتناول الأرض ودورانها وحركتها في الفضاء[*] أو ما يتناول البرزخ الفاصل بين المياه العذبة والمياه المالحة في البحار[*]...
ونوع آخر يمثل المظاهر الآنِيَّة القابلة للتغيير والنقض، والتي تمَّ التوصُّل إليها عن طريق الملاحظة والاختبار.
وهذا النوع لا يُعَوَّل عليه في فهم إشارات أو تلميحات القرآن الكريم، لأنه قد يُنتقض بما يغيّره أو يُلغيه، بينما الحقائق القرآنية قطعية ونهائية... قال تعالى في وصف كتابه المجيد: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فُصّلَت: 42].
ولا يخفى أنّ الاكتشافات العلمية، ليست إلاَّ إدراكاً لأشياء موجودة أصلاً في هذا الكون، وهي بطبيعة الحال من خالق هذا الكون وصانعه.. ومع ذلك فإنَّ هذه الاكتشافات تعتبر ذات فضل كبير على بني البشر، إذ إنها كشفت عن بعض البصائر غشاوتها، وعن بعض القلوب أقفالها، وردّتها إلى الإيمان الصحيح بالله العليِّ القدير الذي، بفضله، وبما علَّم الإنسان، اهتدى إلى رؤية بديع صنعه - تعالى - في هذا الكون العجيب من خلال تلك الاكتشافات.. ومثل ذلك يأخذ بأواصر المسلمين من الإيمان التبعيّ التقليديّ، إلى الإيمان المستنير القائم على هدي الله ورؤية عظمته في عجائب خلقه... وممّا نفى الريب كذلك، من قلوب أهل الكتاب من ذوي الاختصاص في علوم البحار أو الفلك، أو الطب[*]... إلخ فاهتدوا، وأقبلوا على الإسلام يتخذونه ديناً، وعلى القرآن يجعلونه هادياً، بعدما رأوا الحقائق الثابتة التي يتضمنها كتابُ الله ماثلة أمام أعينهم، من دون أنْ تدركها العقول من قبل. علماً بأنَّ القرآن الكريم، أنزله ربّ العالمين على قلب نبيِّه محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وصدق حيث يقول: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} [المدَّثِّر: 31]. وعلى الرغم مما تقدم، فلا بدَّ من إلقاء نظرة سريعة على العلاقة ما بين القرآن الكريم والعلوم البشرية.
القرآن والعلوم البشرية
ونبادر فوراً إلى القول بأنَّ القرآن الكريم، في حقيقته، كرسالة سماوية، شيء، والعلوم البشرية شيء آخر.. ولذلك كان الانتفاع بالعلوم شيئاً، وكان تأويل النصوص القرآنية، بما يوافق تلك العلوم، شيئاً آخر.. فلا علم هو الذي يثبت الحقائق القرآنية - وإن كان يكشف بعض أسرارها - ولا انتفاع بعلمٍ هو الذي يبعث على حب القرآن، والتعلق بروائع بيانه، وعظيم محتواه.. ذلك أنَّ للقرآن المجيد طبيعة خاصة، قادرة على أن تجذب إليها كل عقل نيّر، وقلب سليم، وأن تغرس فيهما محبة هذا القرآن والتمسك بأهدابه.. لا بل إنَّ طبيعة القرآن، باتباعه الطريقة العقلية للتفكير، هي التي تدفـع بالإنسان إلى التفكّر والتأمل والتبصّر ليأتي دور العمل النافع الخيِّر. وها هو القرآن يأخـذ بيدنا لنكـون عقلانيين عالمين، عاملين في آن واحـد. يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصّلَت: 53]. هذا عن العقل والتفكير، أما عن العمل فيقول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التّوبَة: 105].
ومن إعجاز القرآن الكريم، أنه أُنزِلَ من لدن الحكيم العليم ليخرج الناسَ من الجهل والظلمات إلى العلم والنور، ليخلصهم من الكفر ويهديهم إلى الإيمان. يخاطب الله تعالى رسولَهُ محمداً (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].
ومن خصائص القرآن الأخرى، أنَّ الله تعالى أنزله للناس كي يُريهم ما يشاءُ سبحانه من روعة صنعه، وعظيم إحكامه، ودقة نظامه... ومثل هذا التدبّر للنصوص القرآنية هو الذي يكشف مدى مدلولاتها في تصوراتنا، ومدى معانيها في أفكارنا.. فالدعوة - إذاً - عظيمة الشأن، واسعة المدى في تدبّر القرآن: إنْ لمعرفة حقيقة الخلق في الآفاق أو في الأنفس، وإنْ في العمل الذي يقوم على المعرفة والفعل.. وهذا يجب أن يكون وفقاً لنصوص القرآن وحدها، بحقائقها النهائية والمطلقة، من غير أن نحمّلها ما لا تحمل من افتراضات ونظريات علمية، ومن غير أن نجعل لهذه الفرضيات والنظريات المقام الأول، ثم نلحق بها آيات القرآن إلحاقاً، وكأنها تبعٌ لها. ولعلَّ في بعض الأمثلة ما يوضح هذا الأمر.
يقول الله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفُرقان: 2].
من الثابت أنَّ الكون قائم على نظام دقيق، وعلى إحكام متناهٍ، رغم اتساعه الهائل، ومداه الشاسع وما فيه من عوالم المجرات والأجرام والنجوم التي لا تزال بعيدة عن متناول معرفة الإنسان. ولقد أُتيح لعلم الفلك أن يكتشف كل يوم جديداً في هذا الكون، ولكنَّ اكتشافاته، يبدو أنها لم تكُ شيئاً يذكر - منذ بدأت عام 1609 عندما نظر العالم الإيطالي (غاليليو) بأول تلسكوب أرضي إلى نجوم الكون ومجراته - بالقياس إلى ما تكشفت معرفته اليوم. ففي عام 1990 ميلادي بالذات، أمكن رواد المكوك الفضائي الأميركي «ديسكفوري» أن يضعوا تلسكوباً عملاقاً خارج الأرض أسموه «هابل» (Hubble) وقدَّروا له أن يدور حولها خمسة عشر عاماً، لتوفير أكبر قدر ممكن من المعلومات عن حوالى عشرين ترليون نجم وكوكب، كما قدر هذا العدد حتى الآن، بحيث ستكون لعلماء الفلك قدرة أكبر على اكتشاف ومعرفة ما غمض من أسرار كثيرة عن هذا الكون العظيم، الذي خلقه الله بإحكام وتقدير، والذي لا يزال حوالى تسعين بالمئة من أبعاده أمراً عميّاً خاضعاً للتأويلات والاجتهادات الفلكية.
وإنَّهُ لإنجازٌ يحمل بصمات جهود جبارة عندما ركّز الإنسانُ «مرآة قطرها 2.4 متر بحيث يمكن من خلالها تركيز الضوء على أي نسق أو منظومة من الكاميرات والآلات، وتسجيل وتحليل الإشعاعات وتحويلها إلى نبضات إلكترونية وإرسالها إلى الأرض بمعدل لم يعهده أحد من قبل، حيث يمكن من خلال (هابل) إرسال معلومات تكفي لملء موسوعة مكوّنة من ثلاثين جزءاً خلال 42 دقيقة». ومع ذلك كله، فإنَّ هذا الاكتشاف لا يزال بعيداً عن بلوغ آيات الخلاق العليم في آفاق الكون...
ومما لا شك فيه أن إضافة ما سيقدمه «هابل» من معلومات دقيقة وهامة إلى ما تتولاه سائر التلسكوبات الأرضية العملاقة الأخرى، سيبين للناس إعجاز الهندسة الإلهية وعظمتها، وسيرى العلماء ما لم تقع عليه عين بشر من قبل، ما قد يمكنهم من حلِّ العديد من الرموز والأسرار التي لا يزال العقل البشري أشبه بطفل إزاء حلها.
لقد كان العلماء ينظرون إلى الكون من خلال المنظار الضوئي المرئي الذي تستخدم معه التلسكوبات البصرية ذات المرايا أو العدسات والتي تقوم بتجميع الضوء واستنباط المعلومات الفلكية منه وتحليلها بأجهزة خاصة؛ أو من خلال موجات الراديو التي تستقبلها التلسكوبات العاملة بهذه الموجات. أما عمل «هابل» فيهدف إلى استقبال وتجميع الموجات التي لا تستطيع التلسكوبات الأرضية تجميعها إلا بمقادير ضئيلة للغاية، لأنَّ الغلاف الجوي يمنع وصولها إلى الأرض بشكل شبه تام، ومنها موجات الأشعة البنفسجية، وتحت الحمراء. لذلك فإنَّ إطلاق تلسكوب جديد فيما وراء الغلاف الجوي سوف يساعد على التقاط هذه الموجات والحصول منها على معلومات مما لا يقدر غيره من التلسكوبات على ذلك.
وهكذا فإن مهمة «هابل» سوف تكون متعددة، ومنها البحث عن اكتشاف مجرات ونجوم وكواكب جديدة، وتتبع موجات المدّ العالية من الطاقة التي تدور في دوامات بسرعة مخيفة حول الثقوب السوداء في أعماق الكون. ويقوم «هابل» بتلك المهمة من خلال تتبع والتقاط ما يسمى الخلفية الإشعاعية الكونية، وهي عبارة عن موجات كهرومغناطيسية ميكرومترية اكتشفت عام 1964م.
هذه الآفاق الجديدة لتقدم الاكتشافات العلمية وتطورها تنبىء بقدرة الله تعالى، الخالق العظيم، والمدبّر الحكيم لهذا الكون الهائل. ولا يزال المدى بعيداً أمام الإنسان للإحاطة ولو بقليل من معجزة خلق الكون، ودلالتها الساطعة على قدرة الخالق، وعظيم حكمته، وبديع صنعه.
وهكذا يتبين لنا أنًّ الله تعالى خلق هذا الكون بكل ما فيه من مخلوقات صغيرة وكبيرة وفق تقديره الحكيم. وما كان عَمَلُ الجبابرة من العلماء إلاَّ محاولة تلَمُّس نقطة من بحر هذا الخلق العظيم.. فالشكل الكروي للأرض، وما تحمل فوق سطحها وفي سمائها وما تحتوي في باطنها.. وارتباطها بالشمس: إنْ من حيث بعدها عنها، أو تلقي ضوئها وأشعتها، ووجود قمرها أيضاً على بعد محددٍ منها، وحجمها بالنسبة إلى حجم الشمس وحجم القمر.. فضلاً عن نظام الجاذبية، ودورة الأرض حول نفسها، ودورتها حول الشمس، وما ينتج من الجاذبية والدوران من ليل ونهار وفصول، وما ينزل من مطر، أو تتصاعد من أبخرة وغازات.. كلُّ هذه الخصائص، وآلاف غيرها، هي التي جعلت الأرض صالحة للحياة. ولولا التوافق والانسجام بين مختلف تلك الخصائص التي تختص كل واحدة بعنصر معيّن يكمّل العناصر الأخرى، لما كانت هنالك حياة على الأرض.
ومن البديهي القول: إن خلق الأرض بكل تلك الخصائص ليس فلتة عارضة ولا مصادفة عابرة، بل هو خلق مقدر تقديراً بكل دقة وإحكام.
ومما لا شك فيه أنَّ ما توصلت إليه العلوم من كشفٍ للعناصر التي جعلت الأرض صالحة للحياة، يساعدنا في إدراك المدلول القرآني: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفُرقان: 2].. وبكل تأكيد هنالك انتفاع من النظريات او الاكتشافات لعلمية، لأنها تقودنا إلى معرفة المعاني المقصودة من هذا النص القرآني، والتي يعبر عنها بـ«التقدير».
وقس على ذلك أي أمر أو أية قضية - سواء تعلقت بآفاق الكون أو بالإنسان - يشير إليها القرآن، من قريب أو بعيد. فعلينا أن نتقصَّى ما توصل إليه الجهد البشري حول ذاك الأمر أو تلك القضية حتى نستطيع أن نفهم المعنى القرآني فهماً صحيحاً. وهذا ليس جائزاً فقط، بل مطلوب تحرّيه ولا سيما من علماء المسلمين.
ولكن ما هو غير جائز ولا مقبول، أن نعتبر القرآن الكريم أنه كتاب علوم، ويحتوي - صراحةً - على جميع العلوم التي توصَّل إليها الإنسان، أو أن نؤمن بنظرية علمية لا تتطابق والقرآن الكريم، أو نعتقد بفرضية فكرية تكون مخالفة للمدلول القرآني. ولنأخذ مثلاً على ذلك: نشأة الإنسان..
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *} [المؤمنون: 12]..
هذه هي الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم: أَنَّ النشأة الأولى للإنسان كانت من تراب الأرض أو صلصالها، وأنَّ هذا الجسد الترابي - في أصله - دخلته الحياة عندما نفخ الله تعالى فيه من روحه، ثم منحه ميزة المعرفة عندما علمه المعاني الكلية للأشياء جميعاً..
ومع أنَّ هذه النشأة يبّينها بوضوح القرآن المنزَّل من الخالق الحكيم، فإنَّ علماء الغرب صاغوا نظرية معاكسة لهذه الحقيقة القرآنية، عندما ابتدع (دالاس) و(داروين) نظرية النشوء والارتقاء التي تعتبر أن نشوء الحياة بدأ من خلية واحدة تكوّنت في الماء، ثم راحت هذه الخلية تتطور، وتنتقل من نوع إلى نوع حتى وصلت إلى مرحلة الإنسان.. بمعنى أنَّ أصل الكائنات الحية جميعها من النبات والحيوان والإنسان، هو ذاته بدأ من خلية واحدة لها ذات الخصائص والميزات!...
فإذا حاول بعضهم - بحجة التأويل أو التفسير - أن يقول بأنًّ خلق الإنسان من طين الأرض ينطبق على نظرية النشوء والارتقاء، فإن هذا ليس من التأويل أو التفسير بشيء، بل هو أكبر الخطأ وأشد المغالطة، لأنه يتعارض مع النص القرآني تماماً، ولا يألفه العقل البشري.
ولذلك نحن نقول لمن يريد أنْ يُؤوِّل نصاً في القرآن على هواه: لا! لم يُشِرِ القرآنُ قَطّ إلى نظرية «النشوء والارتقاء». وليس فيه أي نص أو معنىً يدل - ولو تلميحاً - على هذه النظرية. هذا - على الأقل - بالنسبة إلى القرآن الكريم...
أما بالنسبة إلى النظرية ذاتها فلم تتمتع بمواصفات الثبات والإطلاق في يوم من الأيام، بدليل ما دخل عليها من تعديل في أقل من قرنٍ، كاد يغيرها كلياً. كما ظهر أن نظريات الوراثة تنقضها برمتها، لأنها تقول بأنَّ كل نوع من أنواع الكائنات الحية يحتفظ بخصائصه، ولا يمكن أن ينتقل إلى نوع آخر.. فالإنسان يولد إنساناً، ويتطور في داخل الجنس البشري، فلا يمكن أن يكون من الحيوان ويتطور إلى إنسان. وكذلك كل حيوان أو نبات: فالأسد يبقى أسداً ولا يتحول إلى حمار، والكلب، والفيل، والسمكة، والضفدعة، والعنكبوت كلها كذلك... وزهرة الأقحوان تبقى أقحواناً، وشجرة التين تبقى تيناً، والزيتونة تبقى زيتونةً، وكذلك الرمان، والعنب، والبصل، والأرز والذرة، والقمح، والعدس.. فكل نوع يبقى على نوعه، ولو دخل عليه بعض التهجين، بتوليد أشكال جديدة من النوع نفسه، قد تختلف باللون، والطعم، لكنها تبقى من ذات الفصيلة الزراعية ولم تنقلب إلى فصليةٍ أخرى.. وهذا ما يجعل نظرية النشوء والارتقاء معرضة للنقض والبطلان، وأبعد من أنْ تكون حقيقة علمية نهائية، بخلاف الحقيقة القرآنية التي هي نهائية، أولاً لأنها ثابتة بقولٍ من الله العزيز القدير خالق الإنسان وكل شيء، وثانياً لأنها تثبت أصل النشأة الأولى للإنسان دون الولوج في تفصيلات هذه النشأة. فهي إذاً نهائية في النقطة التي تستهدفها «وهي خلق الإنسان من طين» أي أصل النشأة الأولى، ثم يبيّن القرآن الكريم أن الله تعالى بعدما خلق الإنسان الأول، الذي هو آدم (عليه السلام) من صلصال كالفخار، وبعدما خلق زوجَهُ حوّاء من ضلعِهِ أودع في أصلاب الرجل، وفي أتراب المرأة نظام الخلق البشري المستمر منذ آدم وإلى يوم القيامة كما سيتبيّن معنا لاحقاً في بحث «الخلق». هذا ما تستهدفه الحقائق القرآنية بلا زيادة ولا نقصان. وليس للعقل البشري، إذا أرادَ أنْ يهتدي إلى هذه الحقائق، إلاَّ أنْ يبحث عن أصلها في القرآن وأنْ يكون صادقاً في بحثه، لا أنْ يتخيل مجرد تخيلات لا تمت إلى الحقيقة بصلة..
الطريقة العقلية وقيمة الإنسان
وما أوردناه إنَّما كان للتأكيد على أنَّ الطريقة العقلية التي اعتمدها القرآن الكريم، هي التي يجب أنْ تكون الأساس للتفكير، إلى أي جهة توجِّه فكر الإنسان، وفي أي مجال بَحَثَ. وسواء أتناولت أبحاثُهُ الفكرية الفلك أم الطب أم الفيزياء أم الكيمياء أم العلوم الإنسانية، أم الفنون الأدبية وغيرها.. وهذا ما يستدعي بصورة أَوْلى وأشدّ اعتماد هذه الطريقة عندما يكون البحث عن معرفة النفس الإنسانية. وإلاَّ ضاعت جميع جهودنا عبثاً، وضاع معها الإنسان في متاهات النظريات والتقوّلات - والمقصود هو خلاف ذلك تماماً - لأنَّ الإنسان مخلوق مميز بتركيبه وطبيعته ووظيفته على هذه الأرض. وقد تفرّد عن مخلوقات الأرض جميعاً في خَلْقه ومصيره. والإسلام قد قرّر التصور الصحيح والكامل عن الإنسان من الناحيتين: العضوية (الخِلْقَة والتركيب)، والمعنوية (الروح والنفس) كما يتبيّن ذلك من نصوص القرآن المجيد، فضلاً عن الوظيفة التي قدّر الله تعالى له من مدى خطورة المهمة التي ندب إليها هذا الكائن البشري! وأهمية الأمانة التي ارتضى حملها.. إلاَّ أنَّه وفي مقابل ما يتمتع به الإنسان من خصائص أهَّلته لأنْ يكون خليفةً لله العلي العظيم في الأرض، وسيداً على مخلوقاتها، فإنَّ القرآن الكريم يؤكد أنَّ هذا الإنسان خلق ضعيفاً وأنَّه محل ابتلاء في حياته، ومحاسب يوم القيامة على أعماله في دار الدنيا، التي يتقرر في ضوئها مصيره في الآخرة: في الجنة أو في النار!..
ووجود الإنسان على الأرض سيداً لمخلوقاتها، لا ينفي عنه تبعة الطاعة لخالقه، وعبوديته لربه تعالى الذي خلقه فسواه فعدله.. من هنا كان تكليفه بالاستخلاف وبحمل الأمانة. وبمقدار ما وهبه الله تعالى من قوىً، فقد جعله في مواجهة ومصارعة قوى الأرض العاتية، من براكين وفيضانات ورياح وأمطار، وفي الوقت نفسه سلّطه، ليس فقط على مخلوقات الأرض الأخرى؛ بل وعلى ثرواتها وخيراتها الوفيرة. وله أن ينشىء فيها وينمّي ما يشاء لمنافعه، بل وأن يغيّر في معالم موجوداتها من الجبال والأودية والسهول والأنهار إلخ... ولكنه في النهاية يجب أن يقرن ذلك كله بإقرار العبودية لربه، رب السماوات والأرض، وأن يحفظ عهده مع خالقه ومدبره. وقد هداه القرآن الكريم إلى خلق الله تعالى بقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *} [فُصّلَت: 9-12]. وفي تفسير مدلولات بعض هذه الآيات الكريمة يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «ألا إنَّ الأرض التي تُقلّكم، والسماءَ التي تُظلّكمُ، مطيعتان لربِّكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما تَوَجُّعاً عليكم، ولا زُلفةً إليكم، ولا لخيرٍ ترجُوانِهِ منكم، ولكن أُمِرَتا بمنافِعِكم فأطاعتا، وأُقِيمَتا على حدود مصالحكم فقامتا».
عطاء جزيل من رب العالمين لإنسان الأرض، حتى بات هذا الإنسان - وربما كل فردٍ منه - عالَماً قائماً بذاته، فكان جديراً ألاَّ تُبنى معرفة النفس في الإنسان إلاَّ وفق هذا المعطى الشامل، الذي يأخذ الإنسان كوحدة لا تتجزأ، وككلٍّ لا يتفتت، لأن الغاية في النهاية بناءُ الإنسان المتكامل، الذي يقدر أن يحافظ على التراث الإنساني الذي وصل إليه من الماضي، وأن يشيد عوامل التقدم والتطور في الحاضر، وأن يصوغ الإمكانات القويمة لمستقبلٍ أفضل وأرفع... ولن يقدر على ذلك إلاَّ الإنسان الذي يجمع إلى عطاء ربّه الجسدي فضلَهُ سبحانه عليه في التفوق الفكري والتصور الذهني والصحة النفسية، أي العناصر التي تزيد من صفات التكامل الذي يتيح الترقي والإنتاج في جميع مجالات الفكر البشري.. وإلاَّ كان الأمر بخلاف ذلك، أي عندما يهمل الإنسان وجوده ويتنكّر لنفسه ويجهل نعمة خَلْقه فإنه يصل إلى مرتبة الحيوان، ويصبح أدنى إلى البهيمية أو الجماد، ويضيع عن كل قيمة إنسانية - بعد أن يخسر نفسه كلياً - مما يخالف فطرته التي فطره الله تعالى عليها، وبالتالي يجحد نعمة الخالق وفضله عليه..
ولأن المعوَّل عليه دائماً هو نفس الإنسان، فقد وجب الاهتمام بهذه النفس من خلال تربية واعية حكيمة وفاعلة، ومن خلال دراسات ومناهج تعرف قيمة الإنسان وقدره، بعيدة عن المعطيات الحاضرة في «علم النفس» كما هي معروفة وشائعة اليوم في الغرب والشرق.
ومعرفة النفس لا بد أن تبدأ من منطلق صحيح، من منفذ يمكِّن من الولوج إلى داخل النفس. فما هو هذا المنفذ، أو ما هو هذا الباب الذي يمكّن من الوصول إلى أعماق النفس البشرية؟
المدخل لمعرفة النفس البشرية
لقد استخدمت في أبحاث علم النفس طرق عديدة ومختلفة - كما رأينا - وقد يكون بعضها صالحاً في حدوده الدنيا، وبعضها فاسداً في أصله، وما ذلك إلاَّ لأنَّ الباحثين لم يدخلوا إلى معرفة نفس الإنسان من الباب الأصلح، ونعني به الباب الذي أوجدَهُ رب العالمين وخالقُ النفس، كي يلجه أهل العلم والمعرفة لمعرفة النفس. أي كما أنه لا يمكن الدخول إلى البيت بصورة عادية إلاَّ من بابه، فكذلك الأمر بالنسبة إلى سائر العلوم والمعارف التي يجب أن نلج إليها من مداخل أبوابها.. وهذا ما تدلنا عليه التربية القرآنية للمؤمنين، فقد كانوا يحتاطون كثيراً وهم في حالة الإحرام للعمرة أو الحج، فجعلوا كوّاتٍ في جدر بيوتهم حتى يدخلوا فيها لحين فكِّ الإحرام، فأنزل الله تعالى الآي الحق الذي يأمرهم بالدخول من الأبواب بقوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البَقَرَة: 189]. والمقصود ليس البيوت التي نسكن فحسب، بل وأيضاً المسائل والقضايا التي تشغل بال الإنسان، ويريد معالجات لها. فيكون من المعاني الأخرى للنص القرآني: لا تطرقوا الأمور، ولا تبحثوا في القضايا والمسائل من جهات جانبية أو ملتوية، بل اقصدوا المنافذ والجهات المستقيمة، ولا تسلكوا سبل المعرفة إلاَّ باتباع المنهج الصائب الذي يقود إلى حقيقة المعرفة، أية معرفة.. ولا خلاف بين العقلاء على أنَّ منهج الله تعالى يسمو على المناهج جميعاً، وأنَّ أبواب الله المشرعة للمعرفة لا تعدّ ولا تحصى، هي وحدها التي توصل إلى المداخل الآمنة والسليمة. لذا كانت وهمية - إلى حد بعيد - تلك المناهج التي اتبعوها في معرفة النفس البشرية، لأنها لم تتخذ منهج الله تعالى باباً موصلاً، وسبيلاً قويماً لذلك...
وليس تجديفاً على الحقيقة القول بأنَّ من يتبع منهج الله تعالى في أي أمر من الأمور، لا بدَّ أنْ يهتدي إلى الحقائق المتعلقة بهذا الأمر، ومن يخالف هذا المنهج ويبعد عنه، فإنه يكون قد ضلَّ وأضلَّ معاً. ولا مجال للمقارنة بين علم ربّانيٍّ نُعطاه من الله تعالى، وعلومٍ وضعيةٍ نأخذها من بني البشر. وهذا ما ينطبق على الأنفس البشرية التي يجب علينا اتباع ما أنزل الله تعالى بشأنها من آيات بيّنات، تدلّ على المنهج الذي يجب أن نعتمده لمعرفة نفوسنا. لأن هذا المنهج هو من صنع الله تعالى، تماماً كما هي النفس من صنعه - سبحانه - وخلقه. وليس هنالك أدنى شك بأنَّ من يخلُقُ هو أدرى وأعلم بما خَلَق. وفي القياس على الفعل البشري - مع الفارق الكبير بين الله تعالى الخالق والإنسان المخلوق، نجد أن من يخترع آلة أو أداةً، مثلاً، يكون أكثر معرفة من غيره بكيفية تركيبها وتشغيلها وإدارتها واستخدامها، كما أنه أدرى بكيفية معالجة أعطالها وإصلاحها عندما يطرأ عليها عطل أو تصاب بخلل.. فإذا أيقن الإنسانُ أن الله تعالى هو خالق النفس، وهذا ما ينبغي له أن يؤمن به ويستيقن منه - رغم إنكار المنكرين وجحود الجاحدين - فهو إذًا سبحانه وتعالى أعلم بِما أودع فيها من طاقات وأسرار، لذا كان محتماً أن نهتدي إلى معرفة هذه النفس عن طريق ما هدانا الله تعالى إليه. لأنه - سبحانه - هو الذي خلق الإنسان، وهو أعلم بطبيعته وأسرار تكوينه وخفايا نفسه. حيث يقول: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *} [المُلك: 14]. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ *} [ق: 16]. فيكون سبيلنا لمعرفة النفس هو القرآن الكريم، كتاب الله، والسنة النبوية الشريفة التي بيَّنت هذا الكتاب للناس، وليس سواهما.
والقرآن الكريم الذي تنزَّل لهداية الإنسان ولتعليمه وتنظيم حياته، إنَّما هو كتابٌ يهدف لإصلاح الإنسان. لذا نجد فيه وصفاً لأحوال النفس البشرية، ولأسباب انحرافها ومرضها وطرق تربيتها وتهذيبها وعلاجها، مثلما نجد فيه كثيراً من الحقائق الأخرى عن خلق الإنسان في الأصل، وعن نظام الخلق المودع في سلالة آدم لاستمرار الحياة البشرية..
ونجد أيضاً في الحديث النبوي الشريف ما يوضّح تلك الحقائق التي أوردها القرآن الكريم عن الإنسان وحياته النفسية.. ولذلك فإنَّ ما أتى به الكتاب والسنة عن الحياة النفسية يعتبر حقائق مطلقة ويقينية، وعلينا أن نأخذها مسلمات لبحث معرفة النفس.
والقرآن المجيد - بوصفه كتابَ الله تعالى المنزَّل للإنسان - قد قام رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بتبلغيه للناس حتى يسيروا على هديه، ثم أُمِرَ الذين اهتدوا بهديه أن يحملوه دعوةً واضحةً خالصةً لوجه الله تعالى كي يغنوا الفكر البشري، والنفس البشرية، بوفرة أدلته وفيوض آلائه حول خلق الإنسان، وما أودع فيه خالقه من حواس وأعضاء، ولكل منها وظائفه وخواصه، كما وفَّر له المعارف حول خلق السماوات والأرض وارتباط الإنسان بهما... إلى كثير من المعارف التي لا مجال لذكرها الآن.. هذا الكتاب المبين يجب أن نرتكز عليه في معرفة وجودنا الإنساني، وفي معرفة النفس البشرية، كجوهرٍ حتمي في الخلق البشري، لأنَّ فيه الطريق المستقيم الذي يقود الإنسان إلى بلوغ النضوج الفكري، والتكامل الحياتي. وليس فيه قطّ مدعاة لمغالاة مغالٍ، أو كيد كائد، أو كراهية متعصب.. كما لا مجال للتستر وراء تأويله أو تفسيره بغرض العنصرية والحقد.. إنه كتاب مجيد، وقرآن حكيم، من لدن قدير، أنزله منهجاً للحياة كلها، منهجاً لتقويم علاقات الفرد والمجتمع، بل وسائر العلاقات الإنسانية من دون أن يدخل في جزئيات أو تفصيلات علمية بحتة.
وفي القرآن نجد خطاباً للفرد، وخطاباً للجماعة. إنه يواجه هذا الإنسان في فرديته، وفي نزعته الجماعية، ونزعته الإنسانية. فهو إذاً يخاطب جميع العقول والقلوب، يخاطب الناس، كل الناس، لإنشاء تصور خاص عن الوجود، ولإقامة نظام خاص في الحياة، وتكوين مجتمع خاص في العلاقات.
لقد أمرَ الله تعالى رسولَهُ محمداً (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يبلِّغ هذا القرآن «للإنسان»، وليس لأمة واحدة أو لشعب واحد. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سَبَإ: 28]. وما كان على الرسول إلاَّ البلاغ المبين. فالذين آمنوا به وبما أنزل إليه من ربه، عليهم أن ينشئوا أمةً جديدة في الأرض تضطلع بدور خاص في قيادة البشرية، فتبني نموذجاً فريداً من العلاقات المجتمعية والإنسانية غير مسبوق بنموذج مماثل، وتعيش حياة نموذجية غير موجودة من قبل، وتقرر قواعد لهذه الحياة غير معروفة من غيرها.. ثم على هذه الأمة أن تقود الناسَ جميعاً إلى الحياة النموذجية والمجتمع النموذجي، فيستريح الناس من كثرة المشاكل والمآزق التي يتخبطون فيها، وتعمر الأرضُ بما يملأها من آيات الإيمان والتقديس، والروابط الأخلاقية الفاضلة، والعلاقات القائمة على التعاون والتكافل والتضامن من أجل البِرِّ بالناس ونشر الخير لهم..
هذا ما أراده القرآن الكريم عموماً،وما يواجه به العقول والنفوس معاً.
المدنية الحاضرة والإنسان
إن الإنسان في هذه الحياة، هو ابن بيئته ومحيطه لا ابن طبيعته ومزاجه. بمعنى أنَّ الأوضاع التي تحيط بالإنسان غالباً ما يكون تأثيرها قوياً عليه، إلى الحد الذي يمكن أن نتصوَّر بأنها هي التي تقرر له حياة القلق أو حياة الطمأنينة.
والأوضاع التي تحيط بالإنسان هي كل ما يؤثر فيه كفرد، وكعضوٍ في المجتمع عليه التزامات تجاه أسرته وأقاربه وأصدقائه، وكمواطن يتأثر بما يحدث في وطنه، وكإنسان يشغله ما يجري في هذا العالم. وهي أوضاع كما نعلم كثيرة جداً ومتنوعة، وتكون متقلّبة متغيرة بصورة دائمة. فإذا تغيّرت نحو السيئ أو الأسوأ ساد القلق حياة الإنسان واستبدّ به الاضطراب النفسي، ما يوقعه في الكآبة والانقباض، ويجعله عرضةً لأمراضٍ نفسيّة معقدة. أما إذا تغيّرت الأوضاع نحو الحسن أو الأحسن، فإن الراحة تعمّ حياة الإنسان ويغدو مرتاحاً إلى حاضره ومطمئناً إلى غده. من هنا، إذا نظرنا إلى الواقع نظرة جدية، نلاحظ أنَّ كل حادثٍ - وربما كل خبر - من شأنه أن يترك أثراً في نفس الإنسان، إمَّا أن يكون بليغاً وإمَّا أن يكون عابراً، وذلك بحسب درجة تأثّره واهتمامه بما حصل. ولعلَّ هذا التأثر من أهم خصائص النفس البشرية وفقاً لما خلقها عليه الله تعالى حيث يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *} [الشّمس: 7] ثم أشار سبحانه إلى مدى تأثرها بما يجري في حياة الإنسان، فقال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *} [الشّمس: 8]. من هنا كان بإمكان الإنسان أن يحصل على الطمأنينة أو السكينة في نفسه مهما تقلبت الأوضاع من حوله، رخاءً أو شدّةً، عن طريق الإيمان بالله تعالى. فالإيمان يريح بال الإنسان، ويسلّحه بالصبر، وينزل في قلبه السكينة، ويجعله غيرَ بَطِرٍ من نعيمِ، ولا خائفٍ من ضَرٍّ حتى لو أدّى به إلى الموت. يقول الله سبحانه وتعالى في قرآنه المجيد: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ *وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ *} [محَمَّد: 5-6]. ويقول الرسول الأكرم: «عجباً لأمر المؤمن فإنَّ أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إنْ أصابته سَرّاءُ شكَرَ، فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضَرّاء صَبَرَ، فكان خيراً له»[*] . إذاً فالسبيلُ الأقوم لطمأنينة النفس هو الإيمان الحقُّ وطريقِهِ اتباع القرآن الكريم. ولكن - ويا للأسف - لم يُراعِ الناسُ هذا القرآن وحقائقه، لأنهم لا يريدون مراعاة أنفسهم ومصالحهم. لذلك أهملوا طريقة القرآن، وتركوا منهج الله تعالى، وابتدعوا طرائق ومناهج للمعرفة وأنماطاً للعيش، ما خدمت الإنسانَ إلاّ بالشيء القليل. وخير ما ينبئ عن ذلك عيش الإنسان بواقعه الراهن. فهو على الرغم من أنَّهُ أقام حضارات ومدنياتٍ وصروحاً للعلم والمعرفة والعمران، لا يزال القلق يعشش في نفسه، ولا يزال الشقاء يخيم على حياته. بل نجده كلما أوغل في المدنية كانت مدنياته سبباً زائداً في إرهاقه وتعاسته وضياعه. لقد أرهقت المدنيات المادية حياته، وأدخلت إلى نفسه الاضطراب وإلى جسمه الأمراض، حتى قضت على أسباب الطمأنينة والسعادة عنده، رغم كل المظاهر البراقة التي تخدعهم بها المدنية!...
ويعبّر «أليكس كاريل» وهو أحد كُتَّاب الغرب، عن هذه الحالة التعيسة التي وصل إليها الإنسان المتمدن في كتابه عن الإنسان، وعنوانه: «الإنسان ذلك المجهول». فيقول: «إنَّ الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب لأنها لا تلائمنا.. فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، ومن شهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم. وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة إلى حجمنا وشكلنا..
»ومن الواضح أنًّ العلم لا يتبع أية خطة، وإنما يتطور اعتباطاً. وبالجملة إنًّ الاختراعات تتطور دون إدراك سابق لنتائجها.. ومع ذلك فقد أحدثت هذه النتائج ثورة في العالم، وأوصلت حضارتنا إلى ما هي عليه الآن.. ولقد تقبَّل الإنسان المنازل التي تستخدم التدفئة بالبخار والإضاءة الكهربائية والمصاعد، لسبب واحد فقط هو أنَّ هذه المخترعات والاكتشافات مغرية ومريحة، لكن لم يحسب أي حساب لتأثيرها المحتمل فيما بعد على البشر..
»إنَّ المدنية العصرية تتكون من مبان هائلة، بينما تمتلئ شوارعها الضيقة بمخلفات البترول وذرات الفحم والغازات السامة. وتزدان هذه الشوارع بالمطاعم والبارات التي تقدم للناس الكحول التي تحرق الكبد وتحجب العقل، كما تقدم الأطعمة الكيماوية المغشوشة فتسمم الأجساد والنفوس.. وتمزق أعصابَ القوم المنهكين ضوضاءُ سيارات الأجرة والنقل والأوتوبيس، وتحتشد في أسواقها المحصورة الجماهير الغفيرة بصورة دائمة. وهكذا يتضح أنَّ من خططوا لهذه المدن لم يقيموا وزناً لخير سكانها».
هذا ما ذهب إليه أحد كُتَّاب الغرب نفسه، وهذه هي النتائج التي يحصدها الناس اليوم من العلوم العصريّة، ومن اعتمادهم الطرق والمناهج الفكرية على اختلافها وتناقضها.
وإنه لمن الثابت أنَّ المجتمعات الأكثر شقاءً وإرهاقاً لأفرادها ومجموعاتها، هي المجتمعات الأكثر مدنيةً وتقدماً تقنياً. وتغلب على حياة أفراد هذه المجتمعات الميول المادية على اختلافها، لأنهم ابتعدوا عن القيم المعنوية، وتركوا - أو كادوا أن يتركوا - الإيمان بالله نهائياً. فالعقلية الغربية السائدة اجمالاً، لا تنكر حقيقة وجود الله تعالى، لكنها لا ترى فائدة - وهي أيضاً لا تفسح مجالاً - لتطبيق أوامر الله تعالى ونواهيه على النظم التي تعيش في ظلها. حتى أنها اصطنعت نمطاً جديداً للتفكير يقوم على العجز الفكري للإحاطة بالحياة ككل. وبات الأوروبي أو الأميركي أكثر ميلاً لأنْ ينسب الأهمية العلمية إلى العلوم التجريبية، أو إلى الأفكار التي يؤمِّل منها أنْ تؤثر في صلات الإنسان المجتمعية بطريقة ملموسة.. وبما أن حقيقة وجود الله تعالى لا تقع تحت هذا النمط الفكري القائم على المعادلات المادية والحسية، فإن التفكير المهيمن على الغرب يميل - ابتداءً - إلى إسقاط النظام الفكري المنسوب إلى منهج الله تعالى من دائرة الاعتبارات المادية أو العملية، إسقاطاً نهائياً.
وتسيطر على العالم الغربي اليوم المغريات المادية، ولا أثر للروحانية فيها إلاَّ قليلاً... وتغلب على الناس هناك مادية تملك عليهم القلوب والعقول، وتُخضِعُ لها الشعور والإحساس. وهذه المادية هي التي تتحكم بالنفوس من غير أنْ يكون للديانات السماوية عموماً، والنصرانية خصوصاً - باعتبارها دين تلك البلدان - إلا تأثير يسير، اللَّهُمَّ إلاَّ من حيث التعصب لبعض الطقوس والمعتقدات التي لا يرضى الله سبحانه عنها. وهذا ما يتضّح لكل ملاحظ لا ينخدع بمظاهر الاحتفالات الكنسيَّة، ولا يغتَرُّ بالمناسبات التي تجذب كثيراً من الناس للترويح عن النفس، أكثر من انجذابهم إلى أداء الفرائض الدينية!...
لا بل إنَّ المجتمعات في الغرب التي تدّعي المدنية، لا تقيم اعتباراً لمكرمة الخلق البشري، وهي تهدر قيمة الإنسان - في جزء كبير منها - سواء شعرت بذلك أو لم تشعر.. فها هنَّ معظم نساء الغرب يسعينَ منذ الصباح الباكر وراء لقمة العيش، هذا عدا كثيرات من ذوات الحظ التعيس والمنكود، اللواتي يقدمن على بيع أجسادهنَّ من أجل تأمين المال الذي يمكّنهنَّ من مواجهة أعباء الحياة. فبئس هذا الظلم للمرأة كفردٍ، وبئس تلك المجتمعات كجماعات إنسانية. ولا يعتقدنَّ أحد أننا ضد عمل المرأة ومشاركتها للرجل، ولكنَّ هناك فارقاً كبيراً بين العمل الذي يُشغل المرأة ويُرهقها حتى يكاد يصرفها عن واجبات بيتها وعائلتها، وعملٍ قد يترك لها مجالاً أوسع لتحقيق رسالتها في الوجود البشري. فهي قبل كل شيء أمٌّ، وربةُ منزل، وسيدةٌ مصونةٌ في المجتمع، وعلى عاتقها أمانة مقدسة في تهذيب النفس الإنسانية من خلال تربية أطفالها تربية سليمة، كما يقع على عاتقها جزء كبير من مسؤولية صقل المشاعر الأسرية، وتوطيد العلاقات الإنسانية، بحيث لا تعدل مهامها تلك أية أعمال أخرى قد تقوم بها، مهما كانت نتائجها وآثارها على المجتمع.
وأما من حيث العلاقة بين الرجل والمراة - باعتبارها الأساس للحفاظ على كيان المرأة - في نظر الإسلام، فهي علاقة نظيفة محترمة، هدفها خدمة النوع البشري عن طريق الإنجاب الذي يأتي من علاقة زوجية شرعية، لا من روابط الزنى والسفاح. إذْ إنَّ بقاء النوع البشري، بل وتقدمه في مضامير المدنية والحضارة، يتوقف على المرأة مثلما يتوقف على الرجل، فلا يجوز والحالة هذه إرهاق المرأة وإبعادها عن دورها الذي اختاره الله تعالى لها. وكل عمل بخلاف ذلك إنما يعني تجاهل حقيقة الإنسان في نفسه، وهدر قدرٍ كبير من قيمة هذه النفس ولو في نصفها الآخر - على الأقل - الذي تكوّنه المرأة.
المزيد من معرفة النفس
من هنا كانت دعوتنا إلى مزيد من معرفة نفس الإنسان، لكي يمكن إعادة بناء المجتمعات البشرية وفقاً لمستلزمات إنسانية الإنسان. وليست هذه الدعوة إلا لأنًّ هناك نظرتين مختلفتين إلى واقع الحياة وطرق العيش، تسودان العالم كله اليوم. وهاتان النظرتان هما:
النظرة الأولى : تقوم على انقسام الناس إلى فئتين: فئة الذين يريدون العيش بالسلوك الحسن والعمل الصالح على مختلف مستويات العلاقات بين الناس، وفئة الذين لا يفرقون في سلوكهم وأعمالهم بين قطبي رحى تلك العلاقات: قطب الشرف والنزاهة وقطب الفسق والفساد، مهما تنوعت بواعثهما وأساليبهما. والفئة الثانية هي على ما يبدو، الغالبة على الناس الذين يريدون هذه الحياة الدنيا داراً للوجاهة والاستكبار، وساحة للصراع على النفوذ والمال، مثلما يريدونها داراً للَّهو والمتع، ونيل أكبر قدر من اللذائذ وإشباع الشهوات. فكان من الطبيعي أنْ تكبَّر الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية عند معظم الناس، لأنهم يعيشون في ظل تلك الظروف والأوضاع التي تضغط عليهم لشدة تبايناتها وتقلباتها، وإنْ كانَ مقدار تأثر الإنسان بطرق عيشه مرتبطاً إلى حدٍّ بعيدٍ بنوعية التربية التي قد تلقاها، فإذا كانت تربيته صالحة، فقد يساعده على تقبل مختلف الاحتمالات التي قد تواجهه.. فمثلاً إذا استيقن أنَّ الأوضاع تفرض عليه القبول بشظف العيش، فالرغيف الواحد قد يكفيه. أما إذا انصبَّت ميوله على تأمين البحبوحة في العيش، فإنَّ نفسه لا تعود تصبر على الشظف والفقر، بل تطمع دائماً لزيادة الكسب وجمع المال.. فالنفس قد تكون في حالة رضىً أو سخط بحسب الظروف التي تحيط بالإنسان، وبما يربي نفسه عليه. يقول الشاعر:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتَها
وإِذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنعُ
والله تعالى يقول في محكم التنزيل: {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى *} [العَلق: 6-7]. وهذا يعني أنَّ الإنسان قد يتجاوز حدَّه ويستكبر شأنه، ويعدو طوره عندما يتوهم أنه أصبح مستغنياً - في الحالة التي يكون عليها من الغنى أو الجاه أو الصحة - عن خالقه، إلاَّ من عصمه الله تعالى ورأى في عطاء ربَّهِ له وإغنائه، نعمةً تستحق مزيداً من الشكر والحمد.
النظرة الثانية : وهي النظرة التي تقوم على مفاهيم إسلامية. فالنظرة الإسلامية ترى أنَّ الإنسان هو محلٌّ للابتلاء في حياته، وأنَّ هذه الدنيا هي دار اختبار له وامتحان. وهذا الاختبار هو الذي يقرر مصيره ومقامه يوم القيامة، يومَ يحاسب الإنسان على كل ما قام به في حياته في دار الدنيا. إنه يوم امتحان لا يجوز أنْ يُنسى، بل على العكس يجب الاستعداد له بكل عزم وثبات، وبكل إيمان وإخلاص، لأنه لا مجال وقت الامتحان للهوٍ أو عبثٍ، ولا لعذر وندم، بل هنالك نتائج تترتب على أعمال سابقة، فإما الفوز وإما الخسران.
وقد يقدر الإنسان أن يفلت من الامتحان في هذه الدنيا، فلا يحاسبُ من أحد على ما يأتيه، أما يوم الآخرة - يوم القيامة - فلا مجال للهروب منه أو الإفلات من قبضته، إنه محتوم على الإنسان أن يمرَّ فيه، لتجازى كل نفس بما كسبت..
ومن خلال النظرة الإسلامية هذه تنطلق جميع الأعمال وجميع المفاهيم والقيم، بما فيها العبادات التي يؤديها الإنسان سواء في منزله أو في أماكن العبادة. إلاَّ أنَّ لمكان العبادة وفق هذه النظرة، مكانة خاصة من التقدير والاحترام، فلا يجوز أنْ يكون بيتٌ يعبد فيه الله تعالى محلاً لأيِّ لهوٍ أو عبث أو تفكير بغير العبادة والصلاة. والذين يحاولون الخروج على هذه الاعتبارات الدينية يلحقهم اللوم من الناس، والذم من الله تعالى.
ونحن المسلمين تعني لنا هذه النظرة بجديتها الالتزام بها بصورة كاملة، لأنها إحدى السبل أو المفاهيم التي نبني على أساسها نفوسنا وشخصيتنا الإسلامية، وفقاً لما يريده الله تعالى ورسوله الكريم. وقد يكون المزيد من معرفة النفس ضرورة لنا لا غنى عنها، لأنه يوقفنا على حدود قدراتنا، وحدود المجهول الذي لا حيلة لنا وراءه. ومعرفة النفس ضرورية لنا أيضاً لكي نحدّد في ضوئها ما الذي نملك القدرة عليه، وما الذي لا نملك التصرف فيه ويخرج عن طوقنا الإنساني. وعندما نعرف - تمام المعرفة - ما الذي يريده الله تعالى منّا، ولا نشغل أنفسنا بالذي لا يريده الله تعالى منا، فإننا نلتزم عندها حدودَ الله تعالى وحدود طاقتنا البشرية، فلا نهدر هذه الطاقة بلا جدوى، ولا نتخبَّط في هذه الحياة بلا هدى، كما يفعل الكثيرون منا اليوم، من غير تفكير أو شعور، فيعيشون بلا مبالاة كلّية، من دون أن يتحرّجوا من شيء!...
ثم إنَّ من الواجب الديني على المسلمين أنْ يعرفوا النفس على حقيقتها، لأنها هي محل الثواب والعقاب يوم الحساب. فعندما خلق الله تعالى الإنسان، خلق جسده أولاً من سلالةٍ من طين، ثم أمدَّه بالروح التي تهبه الحياة. ولكن هذا التكوين من جسد وروح لم يضفِ على هذا المخلوق قيمة إنسانية، أي إنه لم يصبح إنساناً إلا بعد أن أمدَّه خالقه بملكة المعرفة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البَقَرَة: 31]. ولكن أين تكمن المعرفة؟ إنها في النفس. وهنا تأتي الآية القرآنية الكريمة لتدل على إيجاد النفس، وذلك بقول الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *} [الشّمس: 7]. وهكذا صرنا نعرف أنَّ خلق الإنسان اكتمل بهذه النفس التي فيها ملكة العلم والمعرفة، أي الملكة التي تقدر على الربط والتمييز والإدراك، لتكون هذه النفس محلاً للاختيار والاختبار، مثلما هي محل للحساب يوم الدين..
وهنا لا بد من إعادة التأكيد على أمور ثلاثة:
الأمر الأول : هو أن معرفة النفس لدى الإنسان، بمفهوم الإسلام، تقضي أن لا تكون منفصلة عما يحيط بها من ظروف وظواهر مختلفة، كما تقضي بتجاوز حالاتها الظاهرة إلى حالاتها الداخلية، وما يحيط بها في الخفاء غير الملموس أو المحسوس لبني البشر.
الأمر الثاني : هو أنًّ تكوين الإنسان من جسد وروح ونفس لا يعني أنًّ أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة منفصل عن الآخر، أو يعمل بمعزل عن غيره. بل - على العكس - إن هذه العناصر متآلفة، متواصلة، متفاعلة بارتباط وثيق وتمازج كلي، بحيث يتوقف وجود أحدها على العنصرين الآخرين. وعليه فإذا تُوفِّيت النفس أو ذهبت إلى غير رجعة، خرجت الروح وفني الجسد. وإذا خرجت الروح ذهبت النفس وفني الجسد أيضاً. وإذا قطع الرأس أو توقف القلب أو احترق الجسد أو أصيب بما يعطّل الحياة فيه، خرجت الروح وأجابت النفس.
الأمر الثالث : هو أنًّ الإسلام يأخذ التكوين الإنساني كُلاًَّ لا يتجزأ. فهو من ناحية الجسد يقصد هذه الصورة الرائعة للإنسان بجميع أعضائه الخارجية الداخلية، والوظائف التي تؤديها هذه الأعضاء بدقة متناهية من أصغر شعيرة عصبية إلى أكبر عضو في جسد الإنسان. يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [التِّين: 4].. ويظهر هذا التقويم الأحسن بهذا المظهر الجسماني الذي يمتاز به المخلوق البشري عن سائر المخلوقات الأخرى من كائنات حية أو غير حية.
وأما من ناحية النفس فقد أورد القرآن الكريم بشأنها آيات كثيرة تبين جميع أحوالها، وهذه الأحوال ستكون مدار أبحاثنا في هذا الكتاب.
وأما عن الروح، فكما قلنا، أمرها مخفيٌّ عنا، وحقيقتها مطوية عن مداركنا. لقد أرادَ الله تعالى أن يبقي الروح سراً لحكمة ربانية، فما علينا إلاَّ أن نتقبَّل هذه الحكمة لأنها في مصلحتنا بلا ريب. فالله سبحانه وتعالى لا يريد لعباده إلا الخير، لأنه هو اللطيف الخبير.
ونحن لو شرَّحنا الجسد واطلعنا على تركيبه، لأمكن لنا في حال المرض العضوي معالجة ما يطرأ عليه أو يصيبه من خلل في الأعضاء والوظائف، ويعود الجسد بعد المعالجة معافىً سليماً.
وكذلك النفس إذا مرضت فإنَّ علينا محاولة علاجها بما علَّمنا الله تعالى ورسوله الكريم، من معالجاتٍ مبيَّنة في مصادرنا الإسلامية.
بقيت الروح - التي لا نعلم عنها شيئاً - فلا نستطيع أن نقول بأنها تمرّ في حالات من المعافاة أو السقم كما لا يجوز ان ننفي ذلك.. وهنا نقف عاجزين فعلاً لأنَّ الروح من أمر الله - تعالى - ولا علم لنا أكثر من ذلك..
وعندما يقف الإنسان على حقيقة الأفكار الإسلامية المتعلقة بالوجود الإنساني، فإنَّه يجد أن منطلقاتها وأسسها الصحيحة مبنية على معرفة النفس الإنسانية دون الدخول في ماهية الروح وابتداع النظريات حولها، لأنها شأنٌ ربَّانيٌّ، فلا سبيل للإنسان لمعرفتها.. وأهمية معرفة النفس أنها تجعل الإنسان قادراً على توطين نفسه على التكامل في وجوده كله، لأن الإنسان مدعو لأن يتكامل في هذا الوجود. وهذا التكامل ليس موقوفاً على صغر الإنسان أو كبره، ولا على غناه أو فقره، ولا هو مرتبط بالمركز الأُسَري أو المجتمعي، كما أنه ليس مقصوراً على بيئة معينة، أو على زمن دون آخر... إنه عمل متواصل وجهد دائم، يجب على الإنسان أنْ يوطِّنَ نفسه عليه في كل مراحل حياته، وأن يقوّمها ويدربها على جليل الأعمال، وعلى اعتناق القيم السامية والسبل القويمة... وقد يستدعي منه ذلك في أحيان كثيرة قهر النفس، لأن النفس أمارة بالسوء، فعليه أن يمارس هذا القهر مهما عظمت آلامه، لكي تعود النفس إلى الاستقامة وتنأى عن الانحرافات، فيتحقق للإنسان تكامله، وتتحقق له إنسانيته. وقديماً قال الشاعر:
يا خادمَ الجسم كَمْ تَسعى لخدمتِهِ
أتطلبُ الربحَ مما فيه خسرانُ
أَقبلْ على النفسِ فاستكمِلْ فضائِلها
فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ
وتوطين النفس على التكامل هو أقوى دافع للإنسان كي يكون سليم الطويَّة نقيَّ السريرة.فالأصل هو الداخل في الإنسان، هذه الأعماق في النفس التي تنطوي على الأسرار، وتخبئ الأفكار وتحتوي العواطف، وجميعها تتفاعل في النفس بحركية وديناميكية لا تهدأ ولا تستكين.
والمظهر الخارجي له أيضاً تأثيره على النفس، وبقدر ما يحاول الإنسان المحافظة على لياقة هذا المظهر وإتقانه بكياسة واتزان، بقدر ما يحسُّ بنوع من الارتياح الداخلي... هذا ما لم يغترَّ الإنسان بنفسه ويزهو بمظهره، وعندئذٍ يطيح بنعمة الخلق التي وهبه إيَّاها الله تعالى.
وقد دلَّنا القرآن الكريم على هذا الاغترار. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} [الانفِطار: 6-8]. وهذا الاغترار يأتي قبل كل شيء من نفس الإنسان، فيظهر متكبراً متعجرفاً لا يعجبه شيء إلاَّ هواه، أو ظنّه القدرة في نفسه.. بل ويتطاول بهذا التكبر إلى حد الغرور الذي يُنسيه أنَّ كلَّ ما فيه من نعمة، إنّما هو من عطاء ربِّهِ الكريم الذي خلقه فسواه فعدله. وهذا الغرور هو ما يجعله يجحد فضل الله تعالى الذي يقدر أن يصوره كما يشاء، وأن يركبه على الصورة التي يشاء... بل قد ينسيه كِبْرُهُ أن خالقه قادرٌ على أن ينكّسه في خلقه ساعة يشاء وكيفما يشاء، فتعساً للمتكبرين المغترين على جحودهم، وَصَغَارِ نفوسهم!
وعندما نذكر أمراض النفس فإن الغاية تكون العمل على شفائها من تلك الأمراض التي تتخبط بها. فالنفس - كما الجسد - لها عللُها وأمراضُها. ولكنَّ أمراض النفس غالباً ما تكون أشد إيلاماً في وقعها، وربَّما كانت معالجتها أصعب من أمراض الجسد، إذ إن تلك الوصفات العلاجية أو العمليات الجراحية للجسد قد تشفي المريض أو المصاب، إذا ما صحَّ التشخيص أو نجحت الجراحة. بينما أمراض النفس قلَّما تكون الوصفات والمعالجات لها ناجعة وشافية، إلاَّ إذا توصلنا إلى معرفة هذه النفس على حقيقتها، وكانت لديها هي القابلية أو الاستعداد للشفاء. وهذه الصعوبة في معالجة النفس متأتية من طبيعة النفس الخفية، وما قد تحمل في طياتها من غموض وتعقيد. فقد يشعر الإنسان أحياناً بالانقباض أو الحبور من غير أنْ يعرف سبباً لهذا أو ذاك، ومثله شعوره بالقلق أو الراحة، بالكبت أو الانفراج.. إنها أحوال نفسية متنوعة ومتعددة الأسباب والمظاهر، والإنسان غالباً ما يجهل تلك الأسباب في داخل نفسه.. لذلك كان هناك تلازم بين صحة النفس وتكاملها، وبين مرض النفس وانحطاطها. وكما هو معروف، فإن أمراض النفس لا تنعكس على أصحابها وحدهم، بل كثيراً ما يتأثر الآخرون بأمراضهم، ولا سيما الأقربون إليهم، وخاصةً المحبين منهم.
وبما أنَّ الإنسان يعيش مع غيره وعليه التزامات مادية وأدبية ودينية، كانت صحة النفس من الحاجات الضرورية التي يجب الاهتمام بها، لما لها من تأثير على حياته الفردية والعائلية والمجتمعية والإنسانية. وترتبط صحة النفس بمدى علاجها الذي لا يكون إلا بمعرفة كافيةٍ لهذه النفس.
مصادر معرفة النفس
إنَّ معرفة النفس الإنسانية لا تستقيم إلا بفهم دقيق للتصور الإسلامي للإنسان، والوقوف على وجهة نظر الإسلام في العوامل المكوّنة للشخصية السوية والصحة النفسية، أو أسباب أمراض النفس، وما ينجم عنها من سلوك منحرف يخالف منهج الحياة.
والأبحاث في النفس التي تدرَّسُ اليوم في المدارس والجامعات العربية والإسلامية مأخوذة جميعها من الغرب والشرق. وقد أشرنا إلى أنهم يعتمدون في وصف الإنسان وفي ما يسمى «علم النفس»، على نتائج البحوث التي يجرونها في بلادهم، ووفق تصورات وفلسفات خاصة بهم، تختلف عن تصوراتنا ومفاهيمنا الإسلامية..
فإذا أخذنا اهتمام «فرويد» مثلاً بالميل الجنسي، نجد أن اهتمامه يرجع في الأساس إلى ثقافة العصر الذي عاش فيه هذا الطبيب النمساوي، حيث كان الجنس يعتبر رذيلة مشينة وعملية سيئة، وعلى الإنسان الفاضل الابتعاد عنها بل ومقاومتها، ولذلك جاءت أبحاث «فرويد» مبالغاً فيها لدرجة أنه فسَّر جميع الأمراض النفسية على أنها ناشئة عن الكبت الجنسي.
والمجتمعات الغربية اليوم يغلب عليها الاتجاه المادي، وديانتها ليست النصرانية - على حقيقتها - كما أنزلت على قلب السيد المسيح ابن مريم عليه السلام، بل صارت - بحسب الممارسات الفعلية - بمثابة مادّية تخيم على العقول والنفوس أكثر منها عقيدة دينية، هدفها خير الإنسان ورفع شأنه!.. ولذلك كان ابتعادها التام عن الموضوعات التي تهتم بالنواحي الدينية، وحصر اهتمامها الكليّ بالنواحي المادية وحدها في مختلف المجالات.
ونحن، وإن كنا نحاول مراجعة ما وصلت إليه تلك الأبحاث والدراسات عن الإنسان وأحواله النفسية، إلاَّ أن جهودنا سوف تنصب على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كمصدرين أساسيين لمعرفة النفس الإنسانية، لأن هدفنا أن نقدِّمَ للجيل الصاعد وللأجيال القادمة - بإذن الله تعالى - منطلقات وقواعد يرتكز عليها في معرفة النفس، لا مجرد نظريات تصاغ، أو تجارب على أشخاص أو حيوانات تقاس عليها بقية الناس، أو ابتداع مقاييس وقوانين تعتمد لمعالجة المرضى.. أبداً لن نحاول ذلك، ولن نتأثر أيضاً بالاستنتاج الذي انتهى إليه الفلاسفة أو أهل المنطق وعلم الكلام. فكل ذلك لن يكون له علاقة بمواضيعنا إلا بالقدر الزهيد الذي يُوضِّح البحث أو يوجب إعطاء فكرة معينة..
لذلك، ولأنَّ الهدف الوصول إلى فهم أدق ومعرفة أعمق بالنفس الإنسانية، سوف يكون اعتمادنا على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومن ثمَّ التوصلُ إلى فهم سليم لهما؛ ذلك أنَّ في هذين المصدرين يجد الإنسان الباحث ما يغني ويحقق الغاية المنشودة بعد بذل الوسع في الجهد، والإخلاص في النية والعمل.
والقرآن المجيد يتناول النفس الإنسانية في كثير من آياته الكريمة التي أوردنا ما تيسَّر منها في مطلع هذا الكتاب.. على أنَّ ما يجذب الانتباه توكيدُ القرآن على أنَّ فيه شفاء لما في الصدور (النفوس) كما في قول الحق تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يُونس: 57]؛ وبأنه تعالى قد أنزل في هذا القرآن شفاءً ورحمةً للمؤمنين، بقول العزيز الحكيم: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسرَاء: 82]. وكما أنَّ في القرآن الكريم الشفاء، فإنَّ فيه أيضاً الهدى بقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *} [البَقَرَة: 2]. وذلك لأنَّ في الهدى شفاءً للنفس من الأمراض التي قد تعتريها، باعتبار أنَّ الهدى هو تهذيب للنفس وصقلها، مثلما هو مقوِّم للسلوك الذي يعكس ما في النفس كأنَّه مرآتُها..
وفي مفاهيمنا الإسلامية أنَّ الرسالات السماوية ما أنزلت إلاَّ لمعالجة الإنسان في نفسه ووجوده، ورد النفوس الشاردة التائهة في صحارى الكفر والشرك إلى واحة الحق والإيمان، وإصلاح تلك النفوس بعد أن تمرغت في أوحال الفسق والفجور. فما من رسالة سماوية إلاَّ وكانت تهدف لإصلاح نفوس الناس، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
وتعاليم الله تعالى إلى عباده تفرض عليهم أن يحاسبوا أنفسهم في كل حين، حساباً ذاتياً دقيقاً وشديداً، على ما أدركت تلك النفوس وميزت واختارت، وعلى ما سعت وباشرت وعملت. فإن كان في إدراكها زيغ أو انحراف وجب تقويمه، وإن كان في عملها تقصير أو نقصان وجب تلافيه أو إكماله، وإن كان منها ظلم أو فساد اقتضى نبذه واقتلاعه.. أما إذا جهل الإنسان هذا التقويم التهذيبي اليومي، أو تجاهل مساوئ نفسه وشرورها، كما يفعل كثيرون، على الرغم من معرفتهم لما تحتويه عقيدتهم الدينية من تهذيب للنفس وتقويم لاعوجاجها، فإن مثل هذا الإنسان لا يكون جاهلاً لحقيقة نفسه وحسب، بل ومنكراً لمكرمته الإنسانية، وجاحداً لاستخلافه في الأرض. وإنسان يصل إلى هذا الدرك من الانحطاط قد يكون عزله عن مجتمعه أفضل له ولغيره، بل وعزله لنفسه أجدر من بقائه ضالاً مُضِـلاًَّ، وذلك لكي لا يزداد غياً على غيٍّ وفسقاً على فسقٍ ونفاقاً على نفاقٍ يطال بآثارهِ جميع من حوله...
والرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الذي اختارَه رب العالمين سيَّد المرسلين والبشر أجمعين، لكونه حاملَ الدين القيم، وصاحب الخلق العظيم[*] ، هو الذي يوجهنا إلى تهذيب نفوسنا، وتقويم اعوجاجها بصورة دائمة ومتواصلة، في ما يأتيه الإنسانُ يومياً، لما لهذا التقويم من أهمية في حياتنا. فيقول (صلى اللّه عليه وآله وسلم): «مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فهُوَ مَغْبُونٌ، ومَنْ كانَ غدُهُ شراً مِنْ يومِهِ فَهْوَ مَلْعُونٌ، ومَنْ لم يَتَفَقَّدِ النُقْصانَ في عملِهِ كانَ النُقْصانُ في عقلِهِ، ومَنْ كانَ النُقْصانُ في عَمَلِهِ وعقلِهِ فالموتُ خيرٌ له مِنْ حياتِهِ»[*] .
هذا القانون التهذيبي الذي سنَّهُ محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، هو قانون يصلح لكل زمان ومكان من أجل محاسبة النفس وتقويمها نحو الصلاح والفلاح. وليس في محاسبة النفس أي خسارة للإنسان، بل قد يكون في محاسبتها ربح وفير ودائم لها، لأنَّ مثل هذه المحاسبة قد تفضي إلى صحتها وسلامتها.. ومحاسبة النفس - في الاصطلاح الإسلامي - إنما تعني مجاهدتها، التي لا تقل شأناً عن الجهاد في سبيل الله تعالى بل هما جهادان سواء بسواء. يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ *} [العَنكبوت: 69]. ويقول الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه في عودة لهم من إحدى الحروب: «انتهيتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر» . فقالوا له: «وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟». قال (صلى اللّه عليه وآله وسلم): «هو جهاد النفس«[*] .
ومجمل القول أن الخالق العظيم - جلّ وعلا - إلى جانب ما جعل في الأرض وفي آفاق الكون من آياتٍ تدلّ على حقيقة وجوده، وعلى قدرته البالغة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [البَقَرَة: 20]، وعلى مشيئته المطلقة لأنَّ {أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فقد جعل في نفس الإنسان آياتٍ للموقنين توجّه إلى ما في هذه النفس من خصائص ومزايا. فهو سبحانه خلق هذه النفس، وجعل فيها قابليّة التكاثر، فخلق زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً، ثم طالبهم جميعاً بالتّقوى.
وهو سبحانه الذي أودع في هذه النفس حين خلْقها، نوازعها نحو الخير ونحو الشر، وظلَّلَها بظل رحمته حتى لا تُغَلِّبَ الميلَ إلى السوء على الميل إلى الحسن، ثُمَّ تركها تخوض معترك الحياة وأقام عليها حافظاً، وجعلها رهينةً بما تعمل، وعرّفها أنه سبحانه يعلم رغباتها وميولها.
وهكذا فإن من يتدبّر الآيات البيّنات التي ورد فيها ذكُر النفس في القرآن الكريم، يرى أنّ رعاية الله تعالى تظلُّ مُلازمةً لهذه النفس منذ خَلْقِها، ثم خِلالَ مسارِها في دار الدنيا، وإلى حين موتها. ويرى كذلك أن رحمته - سبحانه - تحيط النفس المطمئنة طوال رحلتها هذه كي تظل مطهّرةً من أدرانِ الذّنوب، مطمئنةً بنقاوةِ الإيمان.. إلى أن تَرْجِعَ إلى ربِّها راضيةً مرضيّةً، فيدخلها في عباده ويدخلها في جنّته.. أمَّا ما يعتري النفوس من الاضطرابات والزيغ عن الحق واتباع الباطل، والضلال والإضلال والفساد والإفساد.. فهو من عمل الإنسان وما كسبت يداه... فهو من ظُلمه لنفسه، وظُلمه لغيره، وما الله يريد ظلماً للعباد!...
وفَّقنا الله تعالى إلى ما فيه مرضاته، وهدانا سبله لكي نتمكن من تحقيق الغاية التي آلينا على أنفسنا بلوغها في هذا الكتاب، وهي معرفة نفس الإنسان معرفة حقيقية، من خلال المنظور القرآنيّ والسنّة النبويَّةِ الشريفة. وذلك بعون الله تعالى، والله وليّْ التوفيق.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢