نبذة عن حياة الكاتب
معجم الأمثال في القرآن الكريم

الفصل الأول-العقيدة: مفهومها ومَضَامينها في الأمثال القرآنيَّة
لقد بات معروفاً لدى أهل العلم والفكر، ولا سيما الحكماء القاسطين، أنَّ الله تعالى، وهو اللطيف الخبير، قد أودع في خلق الإنسان خصائصَ ذاتيةً عديدةً هي التي ميّزته على سائر مخلوقات هذه الأرض. ولكنْ على الرغم مما لخصائص الجنس البشري من مزايا ترفع من قيمة الإنسان، فإنَّ أهمها يبقى هذا العقل، الذي به التفكير والإدراك، والتمييز والاختيار، وإلى هذا العقل - بالذات - ينسبُ كل تقدمٍ وارتقاءٍ في سلَّم الإنسانية، وفي تحقيق إعمار الأرض، إذ به تمكَّن الإنسان من الاكتشافِ، والتفوقِ في ميادين العلوم والفنون والآداب، وإنشاء الحضارات، وتعاقب أشكال المدنية، حتى وصلت إلى ما نشهد من مظاهرها الحديثة في أيامنا هذه.. ومع كل تلك الإنجازات العظيمة، بقي أملُ الإنسان، بل حلمُهُ بالسعادة، في هذه الحياة الدنيا، بعيد المنال، ولم يتمكن العقل - بسبب صرفه إلى غير ذلك - من إيجاد السبل الكفيلة بتحقيق هذا الأمل فعلاً. ولعلَّ العامل الرئيسيّ كان في عدم قدرة الإنسان على إيجاد التوازن ما بين عمله للدنيا، وسعيه للآخرة.. إذ غلّب أكثرُ الناس الأولى، فوقعوا في التخبّط والضياع، وفي القلق والشقاء على ما هو راهن في حياة الناس، مما لا يمكن لعاقلٍ منصفٍ إنكاره..
ويقيناً أنَّ ما أغرق الناس في هذا الخضم من التعب الفكريّ والنفسيّ، هو الإهمالُ للعقيدة الصحيحة، التي تقوم على الإيمان الصادق بحقيقة وجود الله تعالى، والامتثال لأوامره ونواهيه، حتى بلغ الحال بالأغلبية العظمى من أهل الشأن وأصحاب القرار لأن يُقصوا شرع الله تعالى، ومناهج رسالاته السماوية عن كافة شؤون الناس - تقريباً - وأن يرفضوا الحكم بما أنزل الله.. وكان الخيارُ، بدلاً عن تلك القيم المنزلة من ربّ العباد للعباد، هذا البحر من العقائد المادية الدنيوية، ومن القوانين والأنظمة الوضعية التي لم تؤمِّن في تطبيقاتها ما يريح الناس، أو ما يبعد عنهم الهموم والأعباء التي تُرهق نفوسهم بصورة متواصلة، وذلك لأنها لم تراعِ - بشكل كامل - قواعد العدالة والإنصاف، واحترام الحقوق والواجبات، وإقرار العلاقات والمعاملات بشكل يحقق «إنسانية الإنسان»..
ولعل أهم الدلائل على ذلك هو هذا الانحراف الأخلاقيّ في اتخاذ القرارات المصيرية، والمواقف الصائبة، بل وهذا الظلم في العمل والسلوك على مستوى الأفراد والجماعات، بعدما غلب على الأنفس التعلق بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها، واللهاث وراء الأهواء والمطامع دونما وازعٍ من ضمير أو وجدان، ودونما مراعاةٍ للاعتبارات الدينية.. مما يعني، في مجمله، تغليبَ كل شيء على العقيدة الدينية، وإباحةَ كل شيء على حسابها.. ولولا لطف الباري عزَّ وجلَّ بعباده، وأنه يؤخرهم إلى أجل مسمّى، لما ترك على وجه هذه البسيطة أحداً، من جراء الفساد والفسوق والعصيان وغيرها من أنواع الشر التي تملأ الدنيا بأسرها.. وهذا ما يستدعي وقفةً، وصحوةً من العقل والضمير للعودة إلى العقيدة السليمة التي فيها الخلاص حقاً..
والعقيدة - كما جرى الاصطلاح عليها - هي ما انعقد عليه القلب من قضايا الغيب مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما ينبثق عن هذا الإيمان من التصديق بيوم القيامة والحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار. وأهمية هذا الإيمان، الذي هو ضرورة للإنسان مثل الماء والهواء والنور، أنه يصوِّب مسار حياته كلها، فيمنعه من ظلم نفسه، ومن ظلم الآخرين، ويجعله يحاسب نفسه - الأمّارة بالسوء - على ما يقترف من ذنوب ومعاصٍ نهاهُ الله تعالى عنها، ومن بينها ما يرتكب بحق عباده من أخطاء وجرائم.. فعندما يؤمن الإنسان بأنَّ وراء هذه الحياة الدنيا بعثاً وحساباً، وأن جزاءَهُ مِن الثواب أو العقاب واقع لا محالة، وأنَّ قاعدة هذ الجزاء هو قول الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البَقَرَة: 286]، أي لها ما كسبت من الخير، وعليها ما اكتسبت من الشر.. أجل فعندما يؤمن الإنسان بذلك، فإنه يخاف أنّ يلحق الضرر بأحد من الناس، أو أنْ يرتكب معصية تُغضب ربهُ تعالى.. وحقيقٌ على الناس، أن لو اهتدوا إلى هذا الإيمان الصادق، لكان بإمكانهم أن يستبدلوا ما هو أدنى بالذي هو خير، وأن يعيشوا بالصفاء النفسيّ الذي هو صنو الفطرة، ولعلَّ هذا ما يبعث لهم الأمل المنشود لخلاصهم مما يحيق بهم من الشرور.
ومن منطلق هذا الإيمان الرحب، نعتقد - ونحن على يقين بإذن الله - أنَّ عقيدة التوحيد هي العقيدة التي تقوم عليها السماوات والأرض، وأن هذه العقيدة، مبدأً، وديناً ودنيا هي: الإسلام. فالإسلام هو الدين عند الله، ولا يُقبل من العبد دينٌ غيرُهُ، لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [آل عِمرَان: 19]، وقوله عزَّ وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عِمرَان: 85].
والإسلام، بمفهومه الأصيل، هو الاستسلام لـرب العالمين، الاستسلام لله الذي لا إلهَ إلا هو، إلهاً واحداً في السماوات والأرض، وهو الخالق العظيم، الذي خلق الكون والحياة والإنسان بالحق، فلا عبادة إلا لله، ولا عبودية لمخلوق إلا لخالقه. والإسلام هو الدين الذي حمله جميع الأنبياء والمرسلين إلى أهل الأرض، وهو وحده الذي يحقق لهم الفوز والفلاح في الدارين، وهذا الإسلام قد أكمله الله تعالى لبني البشر، شرعةً، ومنهاجاً ونظاماً أمثل للحياة، بالرسالة الخاتمة، التي بعثَ سبحانه بها خاتمَ النبيين محمد بن عبد الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بشيراً ونذيراً للعالمين، كي يؤمن من آمن عن بيّنة، ويكفر من كفر عن بيّنة. وكتاب الله، الذي يحمل هذه الرسالة، هو القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، وقد نزَّله ربُّ العالمين عربياً ليكون بلسان النبيّ محمد الذي يبلّغ هذه الرسالة، وهو لسان أمته التي انتدبها سبحانه لنشر هذه الرسالة وإيصالها للناس كافة، في مشارق الأرض ومغاربها، فعلينا كأمةٍ موحدة أنْ نَعقل ما في هذا القرآن، وأنْ نتدبره حتى يكون منا الدعاة الصالحون لنشره قرآناً عربياً، أو مترجماً من العربية إلى اللغات الأخرى، وهذا كله مما يقتضي له التعقل والحكمة، والتدبّر.. يقول ربُنا تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [يُوسُف: 2]، ويقول تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *} [الزُّمَر: 27-28]. ويقول تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ *} [النَّمل: 6]، إلى ما هنالك من الآيات المبينة التي تعرِّف بهذا القرآن، وما ينطوي عليه من خيرٍ وصلاحٍ للعالمين..
ولكنْ يبدو أنَّ غلبة الدنيا كانت أقوى على النفوس من انصياعها لهذا الدِّين، فقام أهلها الذين جذبتهم أطماعها ومتاعها، وزخرفها وزينتها، يحاربونه منذ أول دعوة انطلق بها خاتم النبيين محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)؛ ولكنَّ الله - تعالى - بالغ أمره، فهيّأ لـرسوله الأمين سبل النصر على أهل الكفر، والشرك والنفاق في نطاق الجزيرة العربية، ومكَّن، من تَمَّ، لدينه أنْ ينتشر، بعد انتقال النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إلى الرفيق الأعلى، لتظهر أحقيتُهُ في مجال العقيدة الراسخة، وفي أنظمة الحياة القويمة.. إلا أنَّ الجهل، والضلال وغواية الشيطان - التي لم تنقطع يوماً - كانت جميعها أقوى من ميل الإنسان للهدى والإيمان، فأبى الذين لا يريدون الانصياع للحقِ المبين، إلاَّ مناصبة الإسلام العداء، والتخطيط لإبعاده عن حياة الناس، مسخرين لذلك جهابذة العلم، والتاريخ، والأدب والفن والإعلام لكي يضعوا الدراسات والأبحاث، وينشروا الأفكار والثقافات التي من شأنها أنْ تقوِّيَ النزعات المادية على مفاهيم هذا الدين، فحقت كلمة ربك عليهم بقوله العزيز: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [يُونس: 33].. ومن قبائح فسقهم أنهم لم يكتفوا ببذل أقصى الجهود لإبعاد الناس عن معرفة الإسلام، وطمس معالم هذا الدين - كما يتوهمون - بل قاموا بالحروب، والانقلابات، والدسائس والمؤامرات لبذر روح الفرقة بين المسلمين، وإدخال كافة عوامل الضعف إلى نفوسهم ومجتمعاتهم.. وكان لهم ما أرادوا فعلاً، فانكفأ المسلمون عن حمل دينهم نوراً مبيناً للهداية والرشاد، وغرقوا بالمشاكل والنزاعات، وهي مما لا يمكن تلافيه، واتقاء أخطاره إلا بالعودة إلى إسلامهم، وحمله عقيدة، ودعوةً فريدة لخلاصهم وخلاصِ البشرية بأسرها..
وليس ذلك بعيداً عن متناول المسلمين، لأنَّ ربَّ العالمين أرادهم أنْ يكونوا، حقاً، أهل الخير، والبر، والصلاح كما وصفهم بقوله الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عِمرَان: 110]،، فقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} توكيد للكيان العضوي والإنساني الذي اختاره ربهم تبارك وتعالى لهم بمقتضى إيمانهم بهذا الدين، فإنْ أغفلوا هذه الحقيقة، وقعوا في المحظور - في الفرقة والتشتت - وقصَّروا في حمل الأمانة، وأداء المهمة التي أمرهم الله تعالى بها!..
أجل هذا هو السبيل الأوحد أمام المسلمين لإصلاح حياتهم، وإصلاح حياة الناس جميعاً.. لأن المسلم عندما يتعلم، ويتثقف بالثقافة الإسلامية، ويفقه مفاهيم وتعاليم دينه القويم، فإنَّ قلبه يطمئن بعقيدة التوحيد السامية، فيتحوّل - بداهةً - إلى إنسانٍ نقيِّ السريرة، محمود الخصال، حسنِ السلوك، سمْحِ التعامل مع الآخرين.. وهي جميعها المقومات التي تؤمّنه من الانحراف والضلال، وتبعده عن الزلل والخطأ، فيصير قادراً على التغيير التدريجيّ، وصولاً لبناء المجتمع الإنسانيّ الفاضل.. والمسلمون حين يكونون على المستوى الإسلاميّ اللائق، فإنَّ مجرد مقارنتهم ما بين عقيدتهم والعقائد الأخرى، تجعلهم قادرين على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، وعلى سبر غور الإسلام وإدراك ما فيه من غنى وفيض، ومن سماحة ويسر، وما في هذا الدين من مناهج إصلاحية.. وتلك هي مقوماتُ الدعوة التي حمل لواءها نبيُّ الإسلام، ورسول الهدى محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم).. فكان لزاماً علينا نحن المسلمين، أنْ نقوم بأداء واجبنا، فننهل من معين القرآن الحكيم، ونقتديَ بالسيرة النبوية الشريفة، امتثالاً لطاعة الله تعالى ورسوله الكريم.
ولما كانت الأمثال في القرآن المجيد تدل على كثير من عناصر العقيدة التي يجب أنْ تنعقد عليها قلوبنا، فإننا سنحاول في هذا الفصل أن نتناول - بعون الله تعالى - الآياتِ القرآنيةَ الكريمةَ التي من شأنها أنْ تبرز أهم تلك العناصر لما فيها من الهداية إلى سبيل الله العليّ العظيم.
الفقرة الأولى - الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى
إنَّ الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى هو ضرورة، بل وحاجة للإنسان كي يطمئن قلبه، وينأى عن التصورات التي توقعه في القلق النفسيّ، وفي سوء العمل الحياتيّ، لشدة ما قد تكون عليه تلك التصورات من التناقض والتضارب. بل ويعتبر الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، هو القضية الوحيدة في نظر الإسلام التي تبنى عليها، وتنطلق منها سائر القضايا الأخرى غيبية كانت أو مُشاهدة. ولذلك كان الإيمان - لغةً - هو التصديق مطلقاً، ومنه معنى «الأمن» الذي هو ضد الخوف، لأن المؤمن يأمن من عواقب الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة، إذ يسير على الطريق المستقيم، والسبيل القويم الذي يهديه إليه إيمانه.
والإيمان - في الاصطلاح - هو التصديق القلبيّ بما جاء به الأنبياء والمرسلون على مدار الزمان منذ آدم (عليه السّلام) وحتى خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم). وقد بيّن الرسول الأعظم معنى الإيمان، في حديث صحيح، من أنَّ جبريل الأمين (عليه السّلام) سأل رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عن الإيمان، فقال له: «أَنْ تُؤمِنَ باللَّهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخِرِ، وتُؤمِنُ بالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ»[*].
وقد جاءت في هذا الحديث للرسول الأكرم الأركان الأربعة الأولى للإيمان كما بيّنها له ربُهُ بقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *} [البَقَرَة: 285].
وجاء الإيمان بالقَدَر - حكايةً لما يقال للكافرين وهم يُعذبون في النار - في قول الله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ *إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ *} [القَمَر: 48-50].
أما الإيمان باليوم الآخر، أي اليوم الذي يؤدي مباشرة إلى الدار الآخرة الباقية، فالآيات فيه كثيرة جداً، ومنها قول الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *} [القَصَص: 83]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ *} [التّوبَة: 38]، وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ *} [الأنعَام: 92]. وقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [التّوبَة: 19].
إذاً فالإيمان بحقيقة وجود الله تعالى هو أساس عقيدة التوحيد الكائنة في كلمة «لا إله إلا الله» وهي الكلمة التي بمقتضاها «تتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد، ووحدانية العبادة، ووحدانية الاتجاه، ووحدانية الفاعلية من مبدأ الخلق إلى منتهاه. ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفكير والشعور، والسلوك، وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء، وارتباطات الناس بعضهم ببعض على أساس وحدانية الإله».
والقرآن، وهو كتاب الله الذي حمل عقيدة التوحيد كاملة، بشتى قضاياها ومفاهيمها ومقاصدها، قد تضمن في كثير من آياته الأمثال التي تبيّن أن الله تعالى - وحده - هو الخالق العظيم، والمدبر الحكيم لكل شيء في الوجود، وأن البراهينَ والأدلةَ على الخلق والتدبير كائنة في السماوات والأرض: من أكبر الأجرام في الكون، إلى أصغر حشرة في باطن صخرة.
وإن الأمثال الدّالة على حقيقة وجود الله تعالى، وعلى تفرُّده بالألوهية والربوبية، والتي تستدعي من الإنسان الإيمان المطلق بهذه الحقيقة، يمكن أن نستخلصها من الآيات القرآنية التي وردت فيها على النحو التالي:
أولاً - اللَّهُ هو الخالق العظيم
1 - الله خالق السماوات والأرض «ليس كمثله شيء»
يقول الله تبارك وتعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشّورى: 11].
الله «فاطر السماوات والأرض»، أي خالق السماوات والأرض، قد أبدعهما ابتداءً، وأنشأهما إنشاءً، ولا مجال لعباده أنْ ينكروا هذه الحقيقة أو يجادلوا فيها... فإذا قال (عزَّ وعلا) بأنه فاطر السماوات والأرض، فقوله الحق، لأنَّه (جلَّ جلاله) هو الحق.. وكما أوجد الله هذا الخلق العظيم (من السماوات والأرض) فقد جعل لنا من أنفسنا أزواجاً، إذ خلق الإنسان (آدم) من تراب، ثم من صلصال كـالفخار، وخلق زوجَهُ (حواء) من ضلعٍ في صدره، أي من نفس آدم؛ ثم أودع في آدم وحواء (عليهما السّلام) نظاماً للخلق البشري، الذي يتولد عن اجتماع الزوجين الرجل والمرأة، من خلال سكن الزوج لزوجه، وما يتآلفان فيه على المودة والرحمة اللتين جعلهما الخالق آصرة للزواج والإنجاب، يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [الرُّوم: 21].. وكذلك الشأن في الحيوان (ومنه هذه الأنعام التي لنا فيها منافع كثيرة) بأن جعل الله لكل نوع من الحيوانات نظاماً خاصاً يقوم على التزاوج بين الذكر والأنثى للتوليد. وبمقتضى هذا النظام، سواء في الإنسان أو الحيوان يكون التكاثر، واستمرارية تلك الكائنات الحية في أجناسها، وفي أنواعها وألوانها ونشاطاتها.. بل وانقراض أجناس من الحيوان أو الطير، هو بذاته دليل إضافي على تقدير الله، وحكمته في خلقه.
والخالق للأنفس البشرية، والخالق للأنعام وغيرها من الحيوان، والطيور، والنباتات، والأشياء جميعاً؛ والذي يملك أنّ يخلق ما يشاء غيرهم - ودون أن يكون لأحدٍ من مخلوقاته قدرة على الخلق - لأنه لا يملك سرّ الخلق والإحياء، إلا هو سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *} [غَافر: 62-63].. إذ مع قيام الأدلة والبراهين على أنَّه تعالى خالق كل شيء، فكيف تصرفون عن الإيمان، إلاَّ أن يكون الإفك هو الذي جعلكم تصرفون!.. ومثل افتراء هؤلاء المنكرين لحقيقة الخالق العظيم، كذلك افتراء الذين كانوا بآيات الله يجحدون...
وانطلاقاً من الحقيقة الثابتة والأكيدة، التي لا تقبل أي شك أو جدال، من أنَّ الله تعالى هو وحده «الخالق»، وحتى لا تكون هنالك أية شبهةٍ حول ما ورد في الآية 49 من سورة «آل عمران»، من حيث إنَّ السيد المسيح عيسى ابن مريم قد خلق طيراً، فإنَّ النَّص القرآنيَّ واضحٌ في المبنى والمعنى على أنَّ ذلك الأمر كان بإذن الله تعالى، حيث يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائيِلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [آل عِمرَان: 49].
فالنصُّ يحمل بنفسه المدلولات على:
- أَنَّ الله تعالى قد بعث المسيح عيسى ابن مريم رسولاً إلى بني إسرائيل، وقد أيدَّه بالمعجزات لتكون آياتٍ دالّةً من ربهم على خصوصيَّة السيد المسيح (عليه السّلام) في خلقه خلافاً للنظام الزوجي، وخصوصيته في الإِتيان بتلك المعجزات بما لا يقدر عليه غيره من البشر، فيصدقون، بمقتضى هذه الأدلة - المعجزة، أنه نبيُّ الله ورسوله، إنْ كانوا مؤمنين.
- أَنَّ تلك المعجزات هي شواهد وبراهين حسيّة كانوا يرونها بأم العين، وما كان للسيد المسيح (عليه السّلام) أنْ يجيء بها إلاَّ بإذن الله تعالى.
- أَنَّ تلك المعجزات، بما في ذلك خلق الطير، أو إحياء الموتى، لم تكن إلاَّ رخصة مؤقتة من ربّه تعالى، وليست صفة من صفات السيد المسيح (عليه السّلام) ، إذ من صفات الله (عزّ وعلا) أنه هو الخالق العظيم، فإذا أعطى عبداً من عبادة مِكْنَةً على الخلق، فإنَّ ذلك يكون من أمره تعالى، وبمشيئته، وبالقدر الذي يريد أن يمكّن لعبده من أمره الرّباني..
- أنَّ النص قد استعمل لفظة «كـهيئة الطير» ولم يقل «طيراً» للتدليل على الرخصة المؤقتة في خلق طير، وقد أشارت إلى هذه الرخصة بعض التفسيرات[*]، من حيث إنَّ السيد المسيح (عليه السّلام) قد خلق لهم الخفاش، لأنه أكمل الطير خلقاً، فكان يطير وهم ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً..
ولعلَّ في هذه الدلالات ما يكفي لاستنتاج أمور كثيرة، ومنها علم الله تعالى بما تنطوي عليه نفوس بني إسرائيل من الشك حول بعثة نبيِّهم الكريم عيسى ابن مريم (عليه السّلام) فشاء سبحانه أنْ يؤيّد رسوله إليهم، بتلك الآيات الربانية «المعجزة» حتى يروها بأم العين، فيصدقوا هذا الرسول، ويؤمنوا بما جاءهم به من شرعةٍ ومنهاج.. إلاَّ أنَّ أجلَّ الأمور بشأن الخلق، يبقى الإيمان - المؤيَّدُ بالأدلة الساطعة - بأنَّ الله هو الخلاَّق العليم، فكان، حكماً، أنْ «ليس كمثله شيء»..
ثم إنَّ البرهان العقلي الذي تقود إليه الحكمة والمنطق يثبت أنّ من يوجد الأشياء يكون مختلفاً حكماً في «ذاته» عن الأشياء التي يوجدها، بحيث لا يمكن أنْ تكون هذه الأشياء مثله، لأنها - بداهةً - من صنعه وإيجاده. فالإنسان الآليّ يبقى آلياً من غير لحم ودم مهما أوجد فيه صانعه من القدرات والإمكانيات. والنسخ الذي يدَّعونه بين كائن حيِّ وكائنٍ حيٍّ آخر، يبقى الناسخ فيه مقصِّراً عن أنْ يدرك سر الخلية التي استعملها، والتي على أساسها أجرى استنساخه لحيوان آخر، أو لشجر أو زرع آخر.. وهنا تتجلى قدرةُ الله الخالق العظيم، الذي يملك سرَّ الخلق، وسرَّ ما أودع في الخلايا من مقومات للخلق، فكانت هذه الصفة - الخلق - وحدها كافية للبرهان على أنَّ الله تعالى «ليس كمثله شيء»... وبما أنه هو الله العزيز الحكيم، وأنه ربُّ السماوات والأرض، وربُّ العباد والخلائق جميعاً، فقد دلَّ ذلك على أنه هو السميع لما يُقال، البصير لما يُفعل، بل هو السميع لجميع المسموعات والمبصر لجميع المبصرات.. وقد نفى - جلَّ جلاله - أن يكون له نظير أو شبيه، فحكم العقل، وحكمت الفطرة بنفي هذا النظير أو هذا الشبيه..
فسبحان من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.. ويقول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [النّحل: 17].
إنَّ هذا التوجيه من الله تعالى، وهذه الدعوة من ربّ السماوات والأرض للتذكّر بعظمة الخالق هما للوعظ، والتربية والتدليل على أنَّ من يخلُقُ لا يمكن أنْ يكون كـمن لا يخلُقُ.. فهذه مقاربة يحكم العقل بصدقها وأحقيتها، دون مواربة أو افتراء أو بهتان.. ومثل هذا التذكير والدعوة يأتيان في «سورة النحل»[*] بعد استعراض آيات الخلق، وآيات النعمة، وآيات التدبير التي تدلُّ على أنَّ الله تبارك وتعالى هو وحده الخالق المدبّر، والذين يعبدون من دونه لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون.. ويتجلَّى هذا الاستعراض بما ملخصه:
- أنَّ إنذار النبيين والمرسلين للناس إنَّما كان ليؤمنوا بأنه «لا إلهَ إلاَّ الله»، فاتَّقوا يا عبادَ الله غضبَ الله..
- أنَّ الله قد خلق السماوات والأرض بالحق، فتعالى اللهُ عما يشركون به علواً كبيراً..
- أنَّ الله قد خلق الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين لربه الذي خلقه، ومنكرٌ لبعثه بعد موته وفنائه..
- أنَّ الله قد خلق الأنعام وفيها منافع للناس، وجمال للاستمتاع بها، فهل يشكرون هذه النعمة العظيمة، أم يجحدون فضلها عليهم؟!.
- أنَّ الله قد خلق من غير الأنعام أنواعاً أخرى من الحيوان للركوب والزينة، وهي أيضاً من نعم المولى على عباده..
- أنَّ الله قادر على أن يخلق غير ذلك مما لا تعلمون أيها الناس، أفلا توقنون؟!
- وأنَّ الله قد أنزل من السماء ماءً منه تشربون، ومنه ينبت الشجر والزرع على اختلاف أجناسه، وكثرة أنواع ثماره وألوانه، فهل تقدرون هذا الفضل الكبير من الخالق العظيم؟
- أنَّ اللهَ قد سخَّر لكم الليل والنهار والشمس، لتستوي حياتكم على الأرض، مثلما سخَّر لكم كل ما في هذه الأرض جميعاً لمنافعكم ومصالحكم، وسخَّرَ لكم البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً، وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها، وأجرى لكم الفلك في مياهه لتطلبوا الرزق، وتقيموا أواصر التعارف والعلاقات، كما سخر لكم النجوم من فوقكم وجعلها علامات تهديكم إلى تحديد الجهات وسبل الأسفار التي تنقلكم إلى ما فيه خيركم وصلاح أحوالكم..
- أنَّ اللهَ قد ألقى في الأرض جبالاً تحفظ توازنها من الاهتزاز، وجعل فيها الأنهار والطرق التي تهديكم إلى مقاصدكم..
ثُمَّ وبعد هذا الاستعراض في آفاق السماء ورحاب الأرض يأتي التعقيب الذي هو حريٌّ بأن يؤثر في النفس وهي مهيأة له: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ} [النّحل: 17]..
فالعاقل المنصف، أياً كانت درجة تفكيره وتقديره، يدرك، ولا ريب، بأنَّ مَن يَخلُق ليس كمثل من لا يَخلُق، بل ولا سبيل إلى المقارنة على الإطلاق، لا سيما وأنَّ في تلك الآيات القرآنية التي تستعرض ذلك الخلق يأتي دائماً التنبيه على أنَّها آياتٌ لقوم يتفكَّرون، ولقوم يعقلون، ولقوم يذّكرون.. إذ لعلَّ من خلال التفكير، والتعقل، والتذكير يهتدون إلى أنَّ الله - جلَّ جلاله - وحده خالق كل تلك الأشياء، وأنَّه وَحدَهُ له صفة الخلق، خصوصاً، وأن واقع حياة الناس تثبت عجزهم عن خلق مثل السماوات والأرض، أو مثل البحر أو النهر، أو مثل الشمس أو القمر، أو مثل الليل أو النهار، أو مثل الخلية التي منها ينشأون... فهذا العجز هو الدليل القاطع على أنَّ الخلق لله تعالى، وأنَّ الخالق هو أحق بالعبادة، فسبحانه وتعالى عما يشركون به من خلائق وضيعة، مهينة لا تقدر على شيء. ولذلك كان التأكيد على التذكير بهذه الحقيقة، وعلى هذا النحو من الاستفهام التقريريّ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [النّحل: 17] أي أفلا تتذكرون ذلك بالبديهة، والفطرة فتعتبرون، وتؤمنون بـالله الخالق العظيم؟!..
وقد يأتي تفسير قوله تعالى على ثلاثة أوجه:
الأول : أنَّ الذين يعبدونهم، أو يدعونهم من دون الله، وسواء أكانوا من الكواكب أو من الأصنام أو من الأناسيّ أمثالهم، فإنهم لا يخلقون شيئاً، بل هم يُخلقون. وإذن، فلا خالق إلا اللَّهُ وحده.
الثاني : أنَّ المقابلة بين من يَخلُق ومن لا يَخلق جديرة بأن تُظهر هَوانَ تلك المخلوقات التي يعبدونها، ويدعونها من دون الله تعالى. بل وهي خليقة بأن تظهر مقدار فقر تلك المخلوقات لخالقها.
الثالث : أنْ يدرك العالم والجاهل، العاصي والطائع، المهتدي والضالُّ هذه الحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان وهي أنَّ «من يخلق ليس كـمن لا يخلق»، فيكون هذا الإدراك بمثابة هزة عنيفة لهم جميعاً.. فيراجعون حساباتهم في تصور مَنْ هو أحق بالعبادة والتقديس، ومن له الفضل عليهم في تلك النعم التي يدعوهم للتفكير بها، وإدراك معانيها من حيث إنَّ حياتهم تقوم عليها، وأنه بدونها - أو بدون نعمة واحدة منها - لا يستطيعون حياة، ولا يدركون منالاً. ولذلك فإنَّ نصوص القرآن تنبِّه، بعد استعراض تلك الحقائق، التي أتت على ذكرها في «سورة النحل»، إلى شيء هام في حياة الناس، وهو أنَّ كل ما خلق الله (تعالى) إنما هو نعمة لهم، وأنَّ هذه النعمة أبعد من أنْ تعد أو تحصى، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. مما يتقرَّر معه، بعد معرفة كل تلك الحقائق ضرورة الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى الذي ليس كمثله شيء.
2 - ما خلق الناس ولا بعثهم إلاَّ كـنفس واحدة
يقول الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [لقمَان: 28].
... ماذا لو حاول الإنسان أن يحصي عدد الخلق البشريّ، عبر العصور المتطاولة في الزمن، فهل يقدر على ذلك؟ مستحيل هذا الأمر لكثرة ما مرَّ على هذه الأرض من الأنفس، وآخرها هذه المليارات الستة التي يعدّدونها اليوم.
أما الاستحالة فلا تحتاج إلى دليل، لأن النظام الطبيعيّ الذي أوجده الخالق في بني البشر، والذي يقوم عليه وجودهم، يحكمه أمران: الحياة والموت، فهذه أعداد تخلق كل يوم، وهذه أعداد تموت كل يوم، وعجلة الزمان تدور، ونظام الحياة والموت، كما هو مقدر لبني البشر، سائرٌ لا يحول ولا يزول.
وسنة الخلق في الجنس البشريّ قد بيّنها القرآن الكريم في آيات كثيرة، ومنها الآية 28 في «سورة لقمان» التي تثبت أن خلق الناس جميعاً كـخلق نفسٍ واحدة، وأن بعثهم جميعاً بعد الموت كـبعث نفسٍ واحدة. ومن هذه الآية نستدلُّ على أن الخلق البشريّ قد بدأ من نفس واحدة، هي النفس الأولى، وأن تلك النفس (كما تهدينا إليه آيات أخرى، في بضع سور من القرآن) كانت آدم (أبا البشر جميعاً)، وقد كان خلقه - كما تخبرنا به نصوص القرآن، في سور أخرى عديدة - من طين الأرض، من «صلصال كالفخار»، ثم نفخ فيه الله تعالى من روحه فصار بشراً سوياً. وحواء هي من نفس آدم، وبضعة منه، أي هي من تراب هذه الأرض كزوجها آدم.. وقد قضى أمر الله تعالى أن يودع فيهما سنةً ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل، وهي سنة الاجتماع والإنجاب، والتي من جرائها تكاثرت ذريتهما، عبر الزمان.. فهذه هي حقيقة خلق البشر جميعاً، أي من نفس واحدة في الأصل.. وإنَّ القادر على خلق النفس الأولى، لقادر على أنْ يخلق مثلها بقدر ما يشاء، ودونما أي حسبان للأعداد والأرقام، ولا لتواريخ الولادة وتواريخ الوفاة.. فالأمر كله كائن، ولكنَّ سرَّ الخليَّة التي تنشأ منها الحياة هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، إنما وبمقتضى هذا السرّ كان خلقنا ووجودنا نحن البشر، وسيظل سرُّ خلق الخلية هذا مغلقاً على الإنسان طالما هو كائن على هذه الأرض، وإلى يوم القيامة.
ثم إنَّ من صفات الله (جلت عظمته) أنَّه هو الذي يحيي ويميت، وقد بيّن لنا القرآن أنَّ الله يحيي الموتى يوم القيامة، ويبعث من في القبور، كما يثبته قوله المبين: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ *} [الحَجّ: 7]. ويسوق القرآن شواهدَ حيةً - عايشها الناس وشهدوها وقائع حسيّةً في أزمانهم - على إحياء الله تعالى للأموات، ومن الأمثلة على تلك الشواهد الحية: بعث جماعة من بني إسرائيل، وإحياء قتيلٍ من بني إسرائيل، وفتية الكهف.
- فأما بعث تلك الجماعة من بني إسرائيل بعد موتهم، فقد جرى عندما ذهب موسى (عليه السّلام) لميقات ربّه واصطحب معه سبعين رجلاً من بني قومه، ليعتذروا إلى الله تعالى، عن عبادة العجل.. وفي الطريق طلبوا من نبيهم، حتى يؤمنوا له، أن يَرَوُا اللّهَ جهرة، فأخذتهم الصاعقة فإذا هم خامدون، ثم بعثهم الله من بعد موتهم لعلَّهم يشكرونه على إحيائهم من جديد. ولكنهم لم يفعلوا، بل لجّوا في الكفر، ونكران النعم التي أنعمَ بها الله تعالى عليهم، فظلموا بذلك أنفسهم، وذلك لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ *ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [البَقَرَة: 55-57].
- وأما إحياء القتيل من بني إسرائيل، فقد ورد في الرواية أنه قتل فيهم رجلٌ، في ظروف غامضة، فاختلفوا وتخاصموا فيه حتى كادت الفتنة أنْ تندلع بينهم، فدعا النبيُّ موسى (عليه السّلام) ربَّه أنْ يظهر القاتل حتى يدفع تلك الفتنة عن بني قومه، فأمره ربُهُ تعالى أنْ يذبحوا بقرةً، ذات أوصاف معينة، وأنْ يضربوه بشيءٍ منها، وما كادوا يفعلون حتى أحياه الله تعالى، فدلَّ على ابنيْ عمِّ له، هما اللذان قتلاه طمعاً في ميراثه، فكان احياؤه دليلاً حسيّاً على قدرة الله عزَّ وجلَّ في إحياء الموتى، يقول تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ *فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ *} [البَقَرَة: 72-73]، أي كما أحيا الله تعالى هذا القتيل، كذلك يحيي الله الموتى، وقد جعلكم تشهدون هذا الإِحياء بالعين المجردة ليريكم دلائل قدرته، لعلكم تعقلون فتوقنوا أنَّ القادر على إحياء نفسٍ واحدةٍ، قادر على إحياء الأنفس جميعاً..
- وأما فتية الكهف فهم الذين أماتهم الله ثلاثمائة وتسع سنين لقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا *} [الكهف: 11]، وقوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا *} [الكهف: 25]، ثم بعثهم الله بعد تلك المدة الزمنية، ليكون بعثهم آيةً شاهدةً على أنه قادر على البعث، مثل ما هو قادر على خلق الموت والحياة، وذلك لقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا *} [الكهف: 12]، وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف: 19]..
إذاً فالبعث من الأمور الغيبية التي تشكل حقائق ثابتة، يسوقها القرآن الكريم عبر أحداث جماعية أو فردية عاشها الناس، وعاينوها بحواسهم المجرّدة، كما هو الحال في الصاعقة التي أرسلها الله تعالى على تلك الجماعة من بني إسرائيل فأهلكتهم جميعاً، ثم أحياهم القادر المقتدر بأمره.. أما عددهم فقد ورد في الروايات أنهم كانوا سبعين رجلاً، ولكن لا يعلم عدَّتهم إلا هو سبحانه وتعالى؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى فتية الكهف الذين أماتهم الله، ولا يعلم عددَهم غيرُهُ جلَّ وعلاّ، وإنْ وردت الرواية عن ابن عباس (رضي اللَّه عنه) أنهم كانوا سبعةً وثامنهم كلبهم..
وما إحياء ذلك الرجل الواحد، أو إحياء تلك الجماعة من بني إسرائيل، وكذلك إحياء فتية الكهف، إلاَّ من البراهين التي تهدينا إلى حقيقة البعث يوم القيامة، وأن هذا الأمر يسير على الله العزيز الحكيم، إذ كما هو قادر على أنْ يبعث نفساً واحدة، فـكذلك هو قادر على أنْ يبعث كل الأنفس التي أماتها، لأنَّ القادر على النشأة الأولى، قادر على النشأة الثانية، وهي أيسر وأسهل عليه لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [الرُّوم: 27].. وليس الأمر على الله تعالى هو قضية اليسر أو العسر، بل الأمر أنَّه - جلَّت قدرته - هو الخالق، وهو كما يخلق النفس الواحدة يخلق جميع الأنفس، وأنه هو الذي يحيي ويميت، فـكما يميت ويبعث النفس الواحدة كذلك يميت جميع الأنفس التي خلقها ثم يبعثها من بعد موتها، وليس في ذلك شيء من اليسر أو العسر، وإنما مرده إلى مشيئة الله تعالى المطلقة في الإنشاء، والإحياء، والإماتة والإفناء.. وهذا هو الحق من ربك، فلا تكونَنَّ أيها الإنسان من الممترين، الذين يشكون في حقيقة البعث، أو يكذبون بهذه الحقيقة، لأنه تعالى سميع لما يقول لسانك من الكذب، بصير بما تختلج به جوارحك من الإنكار.. فكنْ أيها الإنسان على يقين بأنَّ {اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [الحَجّ: 61]: يسمع كل مسموع، ويبصر كلَّ مبصَر، لأنَّ من مقتضى صفاته في الخلق أنه سميع لكل شيء في الوجود، وأنه بصير بكل شيء في الوجود، فلا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، فسبحان من يملكُ السمْعَ والأبصارَ والأفئدة، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *} [المُلك: 14].
وإذا عدنا إلى خلق الإنسان فإنَّ القرآن يبيّن لنا أنَّ أصله من تراب الأرض، بينما خلق الله الجان من النار
يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ *} [الرُّوم: 20]، ويقول تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ *وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ *فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *} [الرَّحمن: 14-16].
أجل، هذا هو أصل الخلق للإنسان والجان، وإنشاؤهما من العدم..
أما الإنسان فأصله من تراب هذه الأرض، أي من الطين اليابس، وهو الصلصال الذي تسمع له صلصلة إذا ضرب بشيء. وهذا الصلصال يشبه بعد يباسه الفخار الذي هو من طين يطبخ على النار حتى يصير خزفاً. والمعنى أنه كما يصير الطين اللازب (التراب المجبول بالماء) بعد أن يشوى على النار فخاراً، هكذا جُبل آدم - أبو البشرية - من طين الأرض، ثم نَفَخَ فيه خالقُهُ من روحه، فاستوى على متانته وصلابته في هذا التكوين من الجسد والنفس والروح..
ولا يملك الإنسان أنْ يناقش أصل خلقه من الصلصال كي يدّعي إنكار ذلك أو استهجانه لأنَّ العلم الحديث جاء يؤكد هذه الحقيقة القرآنية، بعدما ثبت أنَّ جسم الإنسان يحتوي على عناصر كثيرة من عناصر الأرض - إن لم تكن جميع عناصره منها - وبخاصة الماء الذي يؤلف حوالي ثلاثة أرباع مساحتها، والتراب الذي يؤلف اليابسة على سطحها..
وبعد ذلك الخلق الأول لآدم، ومن ثم خلق حواء، بضعةً منه، أودع الخالق العظيم في آدم وزوجه حواء، نظاماً للتوالد، فكان هذا الوجود البشريّ بأسره، وبما يحفل من العظات الدالة على قدرة الخالق، على الرغم من أن أصله من طين، ونسلَهُ من ماءٍ مهينٍ يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ *} [السَّجدَة: 4].. {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ *الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ *} [السَّجدَة: 6-9].
وأما الجان فَخَلَقَهُ الله تعالى من مارج[*] من نار، فيكون أصل الجان من النار. وخاصّيته قوة الحركة وسرعة الانتقال تماماً كما اللهب الذي ينبعث من النار صعوداً في حركته..
ونحن، في الحقيقة لا نعلم عن مكنون خلق الجان وخصائصه غير ما دلَّنا عليه القرآن في سورة «الحجر» و«الرحمن» أو في غيرهما من السور الكريمة التي تبيّن قدرات الجن وطاقاته من قبيل: إمكانية استراق السمع في السماء، والغوص في البحار، وإنشاء الأبنية والمحاريب، وغيرها من الأشياء التي كان الجان يصنعونها وهم يعملون بين يدي النبيّ سليمان (عليه السّلام) عندما كان يبني الهيكل في بيت المقدس.
وإذا كانت حياة الإنسان أكبر شاهد قائم على ما يتمتع به من المدارك والأحاسيس التي أودعها فيه خالقة الكريم، والتي أهّلته للاستخلاف في الأرض وإعمارها، فإن الخصائص المودعة في الجان، والقوى الخارقة التي يملكها هي أيضاً من الشواهد التي تثبتها آيات القرآن الكريم لتكونَ أيضاً من الأدلة على عظمة الخالق، وعلى أنَّ هذا الخلق للناس والجان في الأرض - وإن كنا لا ندري أين يسكن الجان أو يقيمون - لدليلٌ إضافيّ على نعمة الوجود بأسره...
{فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *} [الرَّحمن: 61].. فهذه الآيات أو هذه المخلوقات وكلها شواهد قائمة، وهذه الطاقات والقدرات التي اختص بها الخالق كلاًّ من الإنس والجان، هل يمكن تكذيبها وأنتم تدركونها بالبصر والبصيرة، سواء في الأرض أو في السماء، أو تهديكم إليها آيات القرآن، وكلها من الحقائق الثابتة التي لا تحتاج إلى دليل؟! وإذا كان الأمر كذلك فبأي من الآلاء، أو الخلائق التي خلقها ربكما أيها الأنس والجان تكذبان؟! أبداً لأنّ كل ما في الوجود شاهد على أنَّ الله - جلَّت قدرتُهُ - هو الخالق العظيم، وهو المدبر الحكيم؟
3 - ليس الذكر كـالأنثى في الخلق
يقول الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} [آل عِمرَان: 35] * ! " £ $ % × ' }.
..كانت حنة، زوجة عمران، عقيماً، فلم تلد. وتقدَّم بها العمر، وهي على تلك الحال، حتى بلغت سنَّ اليأس - أي سنَّ عدم الإِنجاب عند المرأة - بحيث لم يعد لديها أمل بالولادة.. ولكن ما يشاء الله تعالى وما يريد لعباده، فإنَّ علم العبد يقصِّر عنه، ولا يدركه أبداً. ولذا فإنَّ امرأة عمران لم تكن لتدري بأن ربَّ العالمين قد قدَّر لها أنْ تنجب مولودة ستكون سيدةً في نساء العالمين، فعاشت على تقواها وعبادتها، طاهرة القلب، صافية النية، صادقة الإيمان، دون أنْ يؤثّر عقمها على صلتها بربها الكريم، لا بل وزادها سنُّ اليأس الإكثار من الصلاة، وذكر الله والتعبِّد لخالقها السميع العليم.
وقيل: إنها كانت تستظل ذات يوم تحت شجرة، فحركت في نفسها عاطفةَ الأمومة رؤيةُ عصفورةٍ ترفُّ حول فرخها، فدعت الله تعالى أنْ يهب لها الولد، دونما شعور منها - في تلك اللحظة - بما هي عليه من العقم واليأس، لأنَّ المؤمن، وفي الوقت الذي يكون اتصاله بربه مفعماً بالصدق والإخلاص، قد ينسى واقع حياته كلها، إلاَّ بغيةً واحدةً كان يرومها على مدى العمر، فيتوجَّهُ بناظريه إلى مولاه الكريم داعياً، وراجياً أن يحقّق له تلك الأمنية الغالية التي طالما أمِلَ بها.. هكذا كان حال امرأة عمران، فقد تاقت نفسها إلى الولد، في لحظة إشراقٍ مع خالقها، فأتاها الإلهام بالدعاء - النابع من صميم القلب إلى الله ربها - أن يهبها مولوداً، ثم لتفيق على استجابة الدعاء، وتحقيق الرجاء..
فلما أحسَّت حنَّةُ بالحمل، لم تأخذها الدهشة، إنَّما وجدت نفسها تجثو على الأرض، غارقة في السجود لله تعالى، وهي تحمده وتشكره على ما أفاض عليها من نعمة عظيمة. ولم تَرَ، في تلك الآونة بالذات، خيراً من التعبير عن الاعتراف بفضل الله عليها، إلاَّ النذر بأنْ يكون ما في بطنها محرراً من أوضار الأرض وقائماً على عبادة ربه بصدقٍ وإخلاص، إذ قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عِمرَان: 35]..
لقد كانت نية تلك المرأة منصرفةً لأن يكون حملها ذكراً، ومحرراً من أعباء الدنيا، إلا الإخلاص في طاعة الله، والقيام على خدمة بيت المقدس، جرياً على العرف في زمانها، إذ كان يوضع المولود الذكر، الذي نُذر لأن يكون محرراً، في بيت المقدس، أو في أي بيت آخر للعبادة، فلا يبرحه حتى يبلغ الحلم، فيُخيَّر بين الإقامة في المعبد، وتكريس نفسه لعبادة الله، أو الخروج إلى الحياة، والعيش مثل سائر الناس. هكذا كانت نية حنة امرأة عمران، إذ نذرت أن يكون ما في بطنها ابناً صالحاً، مؤمناً، تكرّس نشأته على العبادة لله تعالى، بل ودعت ربَّها أنْ يتقبل منها نذرها، لأنها على يقين بأنَّه تعالى السميع لكل دعاء، العليم بكل نية...
وحان الوقت ووضعت حملها، «فلما وضعتها، قالت: ربي إنّي وضعتها أنثى»! أي أنها لم تضع ذكراً كما كانت تأمل. وهذا يعني أنها لا تستطيع الوفاء بنذرها، وأنَّ عليها أنْ تعتذر لربّها، علَّه يقبل اعتذارها، فليس الأمر بيدها بما حملت، وما وضعت، بل الأمر لله وحده، فهو الذي صوَّر الأنثى في رحمها، وهو الذي خلقها ومنحها الحياة، وهو الذي يقبل العذر من أَمةٍ مؤمنةٍ صادقة.. ولذلك تابعت من خلال اعتذارها - وبعفوية تامة - فقالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عِمرَان: 36] للوفاء بالنذر، وحمل هذه الوليدة إلى بيت المقدس.. إذ وفقاً للأعراف والتقاليد السائدة يومئذ، فقد كانوا يرون في الأنثى مخلوقاً ضعيفاً، ولا تحتمل مثل الذكر مواجهة الأعباء، ولا سيما ما تتطلب الخدمة في بيت المقدس من إقامةٍ بعيدةٍ عن الأهل، ومن مشاق العبادة، والالتزام بالفروض والطاعات. هذا فضلاً عن قدسية هذا البيت التي قد لا تتوافق مع إقامة أنثى فيه، لما يلحقها من حيضٍ، وبالتالي من عدم إمكانية الطهارة الدائمة بعد البلوغ.. فتلك العادات الموروثة التي لا تجيز الالتحاق في بيت المقدس إلاَّ للذكور دون الإناث، والوهن الذي خلقه الله تعالى في المرأة، ونية امرأة عمران بأنْ يكون ما في بطنها قائماً على عبادة الله في بيت المقدس بالذات.. كل تلك الأمور قد حدت بها للاعتذار من ربها، ورجاؤها أنْ يَقبل ربها الكريم عذرَها، وأن يتقبَّل منها نذرها، لأنها على يقين بأنه تعالى هو السميع العليم.
وعلى هذا الأمل، وبمثل هذا الرجاء سمَّت ابنتها «مريم»، أي العابدة أو الخادمة - على لغة ذلك الزمان - وكأنَّ إلهاماً يقول لها بأنَّ هذه المولودة سوف تنشأ فعلاً للعبادة في الهيكل، وسوف تكون ملتزمة بكامل فروض العبادة، وأداء مهام الخدمة في رحاب المعبد الكبير..
واستكمالاً للنذر الذي قطعته على نفسها، وترجمة للعهد الذي التزمت به مع ربها أنْ يكون ما في بطنها محرراً من شوائب الدنيا، فقد ظلت على نفس التوجّه في الإخلاص وطلب العون من الله أنْ يحفظ وليدتها، وأن يصونها وذريتها - في الحياة الدنيا - من الشيطان الرجيم، فقالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *} [آل عِمرَان: 36].
ومثل هذه الاستعانة بـالله العليّ الكبير، إنما تنمُّ عن إلهامٍ تستبق فيه تلك المؤمنة الزمن، وهي تتطلع إلى وليدتها تنعم، وذريتُها، بغدٍ مشرق ملؤه الإيمان، والطاعة والرضى، وهي عطاءات من الله لا تتحقق إلاَّ أنْ يحفظ سبحانه وتعالى هذه الوليدة وذريتها معها، من غواية الشيطان الرجيم، المطرود من رحمة الله، فتكون وإيَّاهم بمنأى عن الوساوس التي يدسّها الشيطان في نفوس بني آدم، وتدخل معهم في زمرة المؤمنين الصالحين، في ظلال رحمة ربِّ العالمين.
ولذلك يأتي التعقيب القرآنيّ الذي يؤكد هذه الحقيقة، بقوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَناً} [آل عِمرَان: 37] أي أنَّه سبحانه تقبَّلها - وهي أنثى - بقبول حسنٍ، هو قبول الرضى والنعمة، وأنشأها ورعاها رعاية حسنةً تتوافق مع قبولها الحسن، فكانت - كما يروى - تكتمل في اليوم بقدر ما يكتمل غيرها من المواليد في الأسبوع.. وذلك كله جزاءٌ للأم على الإخلاص الذي عمر قلبها، وعلى تجرّدها الكامل في نذرها.. ومن ثمَّ إعدادٌ للمولودة فيما اختيرت له من دون نساء العالمين.
ويبين القرآن الكريم حقيقة هذا الاختيار بقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا *فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا* قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} [مَريَم: 16-19]، أي واذكر - يا محمد - ما أثبتناه في هذا القرآن من خبر مريم بنت عمران، إذ اعتزلت أهلها، حتى بعد بلوغها الحلم، لتقوم على عبادة الله تعالى في المحراب الذي أعده لها كافلها زكريا (عليه السّلام)، في ناحيةٍ شرقية من بيت المقدس، بحيث تكون بعيدة عن أقاربها، وفي مكان محجوب عن عيون الناس، فلا يراها فيه أحد، ولا يقتحم عليها خدرَها أحد. إذ إنَّ في الحجاب ما يحجب ويخفي عن الآخرين، وما قد يقطع التعامل معهم، كما كانت عليه الحالة التي نشأت فيها مريم بنت عمران. وبالفعل فقد كان زوج خالتها، النبيّ زكريا (عليه السّلام) هو الذي تكفَّل رعايتها، وتحمل مسؤولية إقامتها في بيت المقدس، وفقاً لما أعدَّ الله له من دورٍ يؤديه في حفظ تلك المولودة، وعزلها عن أي سوء، فمنع أيَّ إنسان من الدخول عليها في محرابها، فلا يصعد إليها أحد إلاَّ هو، وقطع عنها الخدمَ والكهَّانَ فلا يطعمها، أو يقوم على خدمتها غيره.
وهكذا كانت تربية مريم، في رحاب بيت المقدس، وفي أحضان النبوة، تُنشَّأُ وحيدةً في محرابها على الطهارة، والعفاف والعبادة حتى جاء الوقت لتلقّي النبأ العظيم، فأرسل إليها الله العزيز الحكيم «روحاً» من الأرواح الطاهرة التي خلقها، وأعدَّها لمهمات جليلة قضى بها سبحانه في علمه المكنون، وكان ذلك «الروح» الملك جبريل الأمين (عليه السّلام) الذي عبَّر عنه النص القرآنيّ بلفظ «روحنا» لأنه مخلوق ملائكيّ، روحانيّ، ولأنه حملَ نفحةً من روح الله لينفخها في هذه الإنسانة البتول الطاهرة حتى يتحقق أمره تعالى بما قدَّر في سابق علمه. وزيادة الضمير «نا» تعظيماً لنفسه (جلَّ جلاله)، وأنه هو الذي بعث هذا الروح لينفذ أمره في خلقه كما يشاء ويريد. وكذلك كانت زيادة الضمير تأكيداً على جلالة الأمر الذي يريده ربُّ العالمين من بعث هذا الرسول ليكون الوسيلة في تحقيق مشيئة الله تعالى المطلقة، في نفاذ الأمر الذي يريد، ودون أي أمرٍ آخر ولذلك قال: «فأرسلنا إليها روحنا»، لإثبات أنَّ الأمر الذي أرسل به جبريل شأنٌ إلهيٌ، ومنسوب إلى ذاته القدسية.. (ومثاله أن نقول: فؤادنا، عقلنا، كتابنا.. تأكيداً على ما في ذاتنا أو فيما يخصّنا دون غيرنا)..
وجاءها الملك جبريل فتمثل لها بشراً سوياً، على هيئة إنسانٍ، سويّ الخَلْق، بهيّ الطلعة، وذلك وفقاً لمقتضى التكليف الذي حمله من ربه.. وهنا يمكن أن نتمثَّل في خيالنا، مشاعرَ تلك العذراء الطاهرة، البريئة من الدنس، والتي نشأت في جو الإيمان، والإخلاص في العبادة، كيف يكون حالها، وقد دخل عليها هذا الإنسانُ فجأة، ومن غير استئذان كفيلها زكريا (عليه السّلام)، فماذا يمكن أنْ تقول له؟ وبماذا يمكن أنْ تشعر أو تفكِّر؟
كان من الممكن أنْ تأخذها الدهشةُ - مثل أي عذراء غيرها - لمرآه. وكان من الممكن أنْ يتملكها الخوف أو الذهول، بل والغيبوبة لو أنَّ جبريل (عليه السّلام) ظهر أمامها بصورته الملائكية، فتنهار عزيمتها، ولا تعود قادرة على محادثته، أو سماع ما يقوله لها، فيفقد التكليف غايته. ولكنَّ هذا في عرفنا، ووفق قصورنا نحن الآدميين. أما عند الله، فكل شيء يخضع لما يشاء، ولما يدبِّر، ويُحكم العزيز الحكيم. فأرسل إلى مريم بنت عمران الملك جبريل على صورة إنسان يكلمها بلغتها - لا إيماءً فتنفر، ولا إيحاءً فتجفل - ويوصل إليها الرسالة بجلالها.. ولذلك فإننا نجدها، وعملاً بما زوَّدها به ربها من التقوى، التي تحمل معاني القوة، والشجاعة، ومواجهة المواقف - بالعزة والحق - تبادره بما ينمُّ عن طهرها وعفافها، فقالت له: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *} [مَريَم: 18]؛ فالله هو الرحمن الذي يعصم من الزلل، وهو الرحمن الذي يستعانُ به، ويُلاذُ إليه في وقت الشدة، ولذلك كانت استعاذة مريم بالرحمن من هذا الزائر، وهي تقول له: إني أعوذ بالرحمن منك، ومن دخولك عليَّ إن كنت تخاف الله تعالى، وتتقي غضبه ونقمته. (وقد استعملت لفظة «تقياً» لأن التقيّ إذا ذُكِرَ الله أمامه خشع قلبه، فزادت تقواه، وزاد حذره وخوفه من الله، لأنه أصلاً لا يعمل إلا بما يرضي الله، وبما يبعد عنه سخطه)..
وأجابها جبريل الأمين: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *} [مَريَم: 19] طاهراً، مطهّراً من ربه تعالى؛ وليجعله آيةً للناس، وكان أمراً مقضياً!.
ويمكن أنْ يتمثَّل خيالنا، مرةً أخرى، ما قد تشعر به فتاة عذراء مثل مريم (عليها السّلام) من خوفٍ، وخجلٍ وهي تسمع من هذا الإنسان ما تسمع في خلوتها، بعيدة عن الأعين، لأنه في العادة لا يمكن أنْ يهب رجلٌ لامرأة غلاماً إلا بملامستها.. أما مريم وهي طاهرة مقدسة، فإنها ترفض أصلاً ملامسة أي رجل لها، لأنها قد نُشِّئت على العبادة والطاعة، ونذرت لها نفسها منذ أن تفتحت مداركها على وجودها في بيت المقدس. ولذلك كان جوابها واضحاً، ومعبراً عمَّا هي عليه، فقالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *} [مَريَم: 20]، أي فكيف تهب لي غلاماً وأنت لن تمسَّني، ولن تجرؤ على ملامستي، مثلما لم يمسسني بشر من قبل، لأنني لم تكن لي يوماً بغيةٌ لا في رجل، ولا في غلام، وحياتي قائمة على الطهارة، وعبادة الله ربي الذي يعصمني منك، ومن أي بشرٍ غيرك!..
وجاءها الاطمئنانُ: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا *} [مَريَم: 21]، أي مثل ما قال ربّك أقول؛ فالأمر إذاً ليس ملامسةً، بل نفخةً من روح الله فتحمل منها، وهو أمر هين على الله تعالى، حتى يتم أمره المقدر، كما شاءَ في سابق علمه.
وكان أمر الله تعالى الذي يقول للشيء: كن، فيكون، ونفخ فيها جبريل، فحملت مريم، وولدت عيسى (سلام الله عليهم جميعاً).
4 - خلق اللَّه سبع سماوات ومن الأرض مثلَهُن.
يقول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا *} [الطّلاَق: 12].
إن الجو الذي توحي به هذه الآية المباركة هو، في الحقيقة، جو الدعوة الإسلامية التي تخاطب أولي الألباب، كي يسيروا على منهج القرآن الذي يوحيه الله تعالى، إلى نبيِّهِ محمدٍ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ليهدي الناس إلى الإسلام، ويخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور؛ وهذا يعني أنَّ القرآنَ هو من عند الله، وأنَّ النبيّ إنما يبلّغ عن الله تعالى هذه الآيات المبيّنات في كتابه الكريم، لتخاطب أولي الألباب، وتبيّن لهم أنَّ الله تعالى هو الذي خلق سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، وهو الذي أوجب أن يتنزَّل أمره الجليل بينهنَّ بالحق، ليعلم المؤمنون أنَّ الله على كل شيء قدير فيما خلق، وفيما أنزل، وفيما قدَّر ودبَّرَ في السماوات والأرض؛ وليعلموا كذلك أن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فلا يغيب عن علمه شيء - ولو بمقدار ذرة - في السماوات والأرض، مما كان، ومما يكون..
هذا ولا بد من الوقوف على ما يدلُّ عليه ظاهرُ الآية المباركة، وهو أنَّ الله تعالى قد خلق سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن (أي في المِثْلِيَّة على القدرة في الخلق، لا في العددية). وليس في القرآن الكريم آيةٌ أخرى تشير إلى خلق سبعٍ من الأرضين. ولا خلاف في أنَّ السماواتِ هي سماءٌ فوق سماء. أما الأرضون فتحدث عنها ابن عباس (رضي اللَّه عنه) فقال: «إنها سبع أرضين ليست بعضُها فوق بعض، يفرق بينهنَّ البحار، ويُظِلُّ جميعهن السماء». وقد يكون ابن عباس (رضي اللَّه عنه) قد قصد بسبع أرضين أقسام اليابسة على هذه الأرض.. والله تعالى أعلمُ بمصاديق ما استأثر به علمُه، واشتبه على خلقه، فلا يعلم معنى {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطّلاَق: 12] إلا هو سبحانه، إذ لم يميّز أحدٌ حتى الآن بين وجود سبعٍ من الأرضين، كما لم يميّز أحدٌ بين وجود سبعٍ من السماوات، بما يؤدي إلى تحديدٍ لهذه السماء أو تلك، وإن كانت اكتشافات علم الفلك تتحدث عن الكواكب، والأجرام والنجوم، والمجرات الكبيرة التي لا تحصى في الكون العظيم..
وهذا ما يوحي بأنَّ كل شيء في الوجود إنما كان بأمر الله، ومن خلق الله؛ كما يوحي بأنَّ الكون - بخلقه الهائل وسعته العظيمة - غير متروكٍ بلا تدبير، بل هو محكوم بنظام دقيق، محكم وقويّ، لم يتطرق إليه الخلل، ولا أصابَهُ العطل، وفقاً لسنن الله التي لا تتبدل، ولا تتحول... وهذا بحد ذاته أعظم دليل على أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء - في السماوات والأرض - علماً، فسبحان الله العليّ القدير، وسبحان الله العليم الحكيم!.
5 - اللَّهُ الذي خلق السماوات والأرض قادر على أنْ يخلُقَ مثلهم.
يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا *} [الإسرَاء: 99].
وهنا العجب العجاب من الذين كفروا بآيات الله، وأنكروا حقيقة خلقهم، وحقيقة بعثهم فقالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا *} [الإسرَاء: 98].. فجاءهم الجواب القاطع، على شكل استفهام تقريريّ: «أَوَلم يروا أنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم»؟! أي أنه قادر على أنْ يخلق مثل هؤلاء الناس - وهم ما عليه من الصغر - لأنَّ من قدر على خلق ما هو أكبر منهم بكثير في هذا الكون - كما في هذا الخلق العظيم للسماوات والأرض وما فيهنَّ وما بينهنَّ - لقادر على أن ينشئ الناس، بعد فنائهم، وأن يخلقهم من جديد كما خلقهم أول مرّة...
ثم أَوَلم يتفكروا أنَّ الذي خلقهم قادرٌ على أنْ يبدّلهم بغيرهم، ويأتي بأناس يكونون على مثالهم في الهيئة والتكوين، فيعبدوه ويتَّقوه بخلاف ما هم عليه من الجحود والكفر؟!..
بل وكيف ينكرون قدرة الله تعالى على إعادة إحيائهم، وبعثهم للحساب، وهو الذي قد جعل لكل واحدٍ من بني البشر أجلاً محدداً لا بدَّ أنْ يبلغه بالموت الذي لا مفرَّ منه في حياة الناس أجمعين، بل ولا أحد قادر على أنْ يفلت منه بحكم وجوده البشري؛ وأن موعد هذا الأجل - من ثَمَّ - لا يعلمه إلا الله تعالى؟!
إذاً فالبراهين ساطعة على أنَّ الذي خلق هذا الكون الكبير الواسع، بما فيه من السماوات والأرض، لقادر على أن يخلق مثل هؤلاء الأناسيّ، لأنَّ القادر على الإنشاء ابتداءً قادر على إعادة هذا الإنشاء، بل وهو أهون عليه. فأية غرابة إذاً في البعث والحساب؟!.. لا غرابة في ذلك أبداً عند ذوي الألباب. ولكنَّ الظالمين لأنفسهم - بالكفر والجحود - يأبون الإقرار بهذه القضية، ويصرون على أن ينكروا حقيقة البعث، مثلما يصرون على الكفر الذي هو منتهى ظلم الإنسان لنفسه، طالما أنَّ عاقبته سوف تكون وخيمة، وهي، حتماً، الخسران المبين، حيث يساقون يوم الحساب إلى جهنم، وبئس المصير..
6 - الوعد بالحساب والثواب والعقاب حقٌّ مثل حقيقة النطق.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ *وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ *وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ *} [الذّاريَات: 20-23].
في هذه الآيات الكريمة إيقاظ للإنسان من مألوف العادة فيما يرى، ويسمع؛ وحثٌّ له على ألاَّ ينظر إلى الأشياء من حوله دون تبصّر، وتذكّر، واعتبار.. فما على الأرض من البحار والأنهار، ومن الجبال والأودية، ومن الأشجار والنباتات، ومن الحيوانات والطيور والحشرات.. هذه كلها براهين حسيّة على حقيقة وجود خالق عظيم، وأنه على كل شيء قدير فيما يخلق، وفيما يَهَبُ هذه المخلوقات من أنماط الحياة، وفيما يسنُّ لها من السنن التي تربطها بخالقها، وهو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد..
والله - تعالى - يخصّ الموقنين بالذكر هنا، لأنهم عباده الذين صدّقوا، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم على لسان رسله، واعتقدوا بجوارحهم اعتقاداً يقينياً بأنه «لا إلهَ إلاَّ الله»، إله واحدٌ في السماوات والأرض، وأنه خلق كل ما في الوجود بالحق، لأنه هو الحق، فكان اعتقادهم هو التصديق الجازم الذي يوافق الفطرة، ويناسب الإدراك، ويلامس الشعور، ويقوِّم السلوك.. ولذلك كانوا على يقين أنَّ كلَّ ما هو كائن في الأرض من حولهم، أو في السماوات من فوقهم، هو من خلق ربهم تبارك وتعالى. وإنّ إيمانهم الصادق هذا، هو الذي يرفعهم إلى مرتبة «الموقنين»، الذين يرون أنَّ كل ما في الوجود من آيات (مخلوقات) هي الأدلة الساطعة على حقيقة وجود الخالق العظيم، والمدبّر الحكيم.
وقد أيقن قلبُ الشاعر هذه الحقيقة، فقال معبّراً عنها:
وفي كل شيء له آيةٌ
تدل على أنه واحدُ
هذا في الأرض، وما يحيط بالناس من الأحياء، والجمادات والأشياء.. ولكن أليس في أنفسنا أيضاً آيات دالةٌ على قدرة خالقنا الكريم؟ إنَّ لفظة «أنفسكم»، كما وردت في التعبير القرآنيّ، هي إشارةٌ لكل إنسان، في تكوينه من جسدٍ ونفس وروح.. لأنَّ في خلق الإنسان من الصنع والإِحكام، ومن الخصائص والصفات الذاتية التي أودعها الخالق فيه، هو الذي يجعله بشراً سوياً، وفي أحسن تقويم.. فلو أدركنا ما في أنفسنا، أي ما في خلقنا كله، من دقيق الصنع، وعجيب التركيب، وعظيم التآلف والتناغم بين ما تنطوي عليه ذاتنا في الداخل، وما تظهر عليه صورتنا في الخارج، لأيقنَّا أن ذلك الخلق ليس عبثاً، وأن القادر على هذا الخلق لا يمكن أن يكون إلا الله العزيز الحكيم.
وإنَّ في القرآن المبين كثيراً من الآيات التي تدل على أصل الخلق البشريّ. وتلك الآيات جميعاً تدعونا إلى التبصّر بخلقنا حتى نستدلَّ على الخالق العظيم، ومنها قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى *} [القِيَامَة: 36-39]. فهنا تبيان لبعض أطوار الخلق البشريّ. وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم آيات تدل على أطوار غيرها من مثل تكوينه جنيناً في بطن أمه، ثم ولادته طفلاً لا يعلم شيئاً، ثم نموّه شاباً قوياً يملأ الحياة بالحركة، ثم صيرورته كهلاً وقد دبَّ فيه الضعف، ثم يُردُّ في النهاية إلى أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئاً.. وهذا كله قد اكتشف العلم منه شيئاً كثيراً، وسوف يزيده اكتشافاً، يوماً بعد يوم، مما يذهل العقول في دقة الإنشاء، والتركيب والتنظيم للهيكل البشريّ، وما تنطوي عليه نفس الإنسان من الملكات والقدرات والطاقات، التي تجعله - جميعها - بشراً سوياً.. وهذه الألطاف الربانية في الخلق البشري تنطق كلُّها بأن الله تعالى هو الخالق العظيم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
أما لماذا جعل الله تعالى رزقنا في السماء لقوله الكريم: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *} [الذّاريَات: 22].. فلأنَّ الماءَ ينزل من السماء بأمر الله تعالى، ولأنَّ الله جعل من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ، فالأحياء على الأرض البرية، والأحياء في تجاويف الأرض المغطاة بالماء من الأنهار، والبحار والمحيطات.. تلك الأحياء قد جعل منها ربنا الكريم أرزاقاً وأقواتاً للناس، ولغيرهم من الكائنات الحية.. وتلك الأنواع التي تؤكل من النبات والطير، ومن الحيوان البريّ والمائيّ، هي مما لا يُعدُّ ولا يحصى.. وقد سخَّرها الخالق غذاء لا يمكن بدونه للإنسان أنْ يحيا، أو أنْ تستمر حياته على هذه الأرض.. بيد أنَّ أمر هذه الأرزاق هو بيده تعالى وقد قسمها لعباده بما قدَّر وشاءَ، وما قد يزيد فيه، أو ينقص منه (مما هو مكتوب في اللوح المحفوظ)، لأنه سبحانه هو اللطيف بعباده ومخلوقاته، الخبير بأحوالهم وحاجاتهم، فيرزقهم، بهذا المقدار أو ذاك، لأنه هو الرزاق الوهاب، والغنيّ المغني، يقول تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [العَنكبوت: 62].
والناس يجهدون، عادةً، ويكدون في الحياة طلباً للرزق، وهذا أمر مشروع وشرعيّ، بل وواجب عليهم، لأنه لا يجوز للإنسان أنْ يكون عالَّةً على غيره، طالما أنه قادر على العمل، وجني الرزق من الكسب الحلال. على أن الميلَ في طبع هذا الإنسان لنيل خيرٍ أوفرَ، ورزقٍ أكثرَ، هو ما يجعله يعِدُ نفسه بالاستزادة منهما؛ وهنا عليه أن يعيَ بأن العمل والأمل مباحان له، ويمكن أن يعمل، ويجتهد بقدر ما يستطيع، ثُمَّ يترك الأمر لله سبحانه وتعالى، لأنَّ النتائج دائماً بيد الله، لأنه مالك الملك فلا شريك له في ملكه، ولا حسيب له في رزقه، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وعطاؤه لعباده لا يكون إلاَّ عن حكمة واقتدار وفقاً لما تقتضيه مصالح هؤلاء العباد.. والعبرة في الأساس أنَّ الأرزاق في الدنيا، وما توعدون به أيها الناس من البعث والحساب والثواب كله مقدر ومكتوب في كتاب لا يمسُّهُ إلاَّ المطهرون.. وفي ذلك آيات للموقنين.
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ *} [الذّاريَات: 23]..
وهذا القسم من الله تعالى - وهو ربُّ السماوات والأرض - لعباده من هؤلاء الناس، الذين يملك أنْ يتصرَّف بهم، وبحياتهم وأرزاقهم ومصائرهم كيف يشاء.. لقسم عظيم تقشعر منه أبدان المؤمنين، الموقنين بآيات الله، وجليل قدره عزَّ وعلا.. فعندما يقسم ربُّ العزة والجلال لعباده، من هؤلاء الناس، بأنه ربّ السماوات والأرض، وأنه ربُّ هذه المخلوقات كلها جميعاً، وأنه هو الذي قدَّر لها ما في السماء والأرض من الأرزاق... فكل ذلك حقٌّ يقين، لأن المُقسِمَ هو الله العلي العظيم، وقد أقسم بذاته القدسية على أنَّ بعثكم هو آتٍ لا ريب فيه، وهو حقيقة ستجدونها، مثل ما هي حقيقة نطقكم، أيها الناس، بهذا الكلام الذي يخرج من أفواهكم، إذ كونكم تنطقون حقيقة لا جدال فيها ولا مواربة، وغير قابلة للشك، فكذلك بعثكم وحسابكم هو حقيقة لا مراء فيها.. لا بل وكلُّ ما أتى به القرآنُ، وهو كتاب الله المجيد، هو حقائق ثابتة وأكيدة، ولا تقبل الشك.. والإيمان بكتاب الله، وما أُنزل فيه، يرقى لدى المؤمنين إلى مرتبة الإيمان الصادق الجازم، فهلاَّ توقنون، أيها الناس، بذلك حتى تكتبوا مع الصادقين، الموقنين؟!.
ثانياً - إنَّ الله يعلم أنْ لا مَثَلَ له، فلا تجعلوا له أشباهاً
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ *فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} [النّحل: 73-76].
من الثابت أنَّ المشركين والكافرين كانوا يعبدون من دون الله تعالى بعضاً من مخلوقاته التي خلقها في الأرض وفي السماء، وأنهم كانوا - وما يزالون - ينقادون لأناس أمثالهم، حتى يصيروا بمثابة آلهةٍ لهم، يسيّرونهم وفق الأهواء والمطامع .. ليكون اتِّبَاعُهُم لهم بمثابة عباداتٍ .. ولكنها عباداتٌ ضالّةٌ، مضلّلةٌ، وأولئك المعبودون - من دون الله تعالى - ليسوا إلاّ كائناتٍ أو أشخاصاً لا شأن لهم، ولا اعتبار إلاَّ بمقدار ما قدّر لهم خالقهم العلي القدير .. ومن هوان شأنهم أنهم لا يملكون لمن يعبدونهم رزقاً، ولو شيئاً يسيراً منه، لأن كل رزق من السماوات إنما يأتي من المطر الذي ينزله الله تعالى، ولأنَّ كل رزق من الأرض - من النبات والحيوان والمعادن، وغيرها مما قد يكون مورداً للخير والعيش - هو أيضاً من الله تعالى. إذاً فكان أكيداً - ودونما حاجةٍ إلى برهان - أنَّ ما يعبدون من دون الله لا يستطيعون أنْ يرزقوهم شيئاً، بل وهم محتاجون أصلاً لمن يهب لهم الرزق - مثل ما هم محتاجون لمن يهبهم الوجود - فإذا كان فاقدُ الشيء لا يعطيه، كما يدلُّ عليه الواقع في حياة الناس، فمن باب أولى أنْ لا يملك الذين يعبدونهم من دون الله رزقاً لهم: ولا يستطيعون أنْ يأتوهم بأي رزق لأنهم مفتقرون بذاتهم إلى من يرزقهم، واللهُ تعالى وحده الذي يملك الأرزاق ويعطي منها من يشاء، ولمن يشاء ..
ولذلك يأتي التقرير الحاسم - وهو على شكل الأمر للعباد جميعاً، كافرِهِم ومؤمِنِهم - بألاَّ يجعلوا لله عزَّ وجلَّ أشباهاً يشركونهم به في العبادة، أو في سواها، لأنه سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن التشبيه والمثال. فأمَّا المؤمنون فيعلمون أنه الأمر الحق من ربهم، وهم أصلاً يقومون على عبادة ربهم العليّ الكبير، ولا يشركون بعبادة ربهم أحداً.. بينما الكافرون، أو المشركون لا يعلمون هذه الحقيقة، أي أنه لا شريك لله في ملكه، ولا مثيل له في كينونته، ولذلك يعبدون من دون الله آلهةً مزيفةً، يشبّهونها بالله تعالى في العبادة، ويشركونها معه في أرزاقهم وأموالهم، فتعالى الله عما يشركون علوّاً كبيراً!!..
وعندما يحذّر الله جلًّ جلالُهُ الكفار والمشركين ألاَّ يضربوا له الأمثال فذلك لأنه يعلم أنَّ لا مثل له، وأنهم، هُمُ، لا يعلمون ذلك، وبالتالي فلا يعلمون عاقبة العبادة الباطلة - لتلك الأشباه - من دونه تعالى.. والفارق كبير، بل لا مجال للمقارنة بين علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء، وبين جهل أولئك الكافرين والمشركين، الذي لا يزيدهم إلا ضلالاً، مثلما لا تزيدهم عبادتهم الباطلة إلاَّ كفوراً، فكان لا بد من الأمر الحاسم والجازم بألا يضربوا لله تعالى الأمثال، وألاّ يجعلوا له - في تصوّرهم أو خيالهم، ولا في تفكيرهم أو شعورهم - شبيهاً أو نظيراً أو مثيلاً.. لأنَّ التشبيهات، وأياً كان نوعها، فما هي إلا ضلالٌ، وكفرٌ وصدٌّ عن سبيل الله.
ولكي يكون لهذا الأمر مدلولاته، وتأثيراته فإنَّ الله عزَّ وعلا يضرب في كتابه المجيد مثلين يقرِّب بهما إلى العقول، والأذهان والمشاعر، الحقيقة التي غفل عنها الكفار والمشركون، وهي أنه ليس لله تعالى مثال ولا شبيه، وأنه ليس من الجائز أنْ يساووا في العبادة بين الله الخالق، وأشياءَ وأشخاص من خلقه، وكلهم عبيد له..
- أما المثل الأول فقد ضربه الله تعالى للتمييز بين العبد المملوكِ - ويُبدَّل منه الأجير، أو المستخدم أو الخادم - الذي لا يملك شيئاً من الرزق، أو من حرية التصرف .. وبين السيد الحر، أمثال صاحب العمل، أو المؤسسة، أو مالك الأرض أو الدار، أو الغني صاحب الثروة وغيرهم ممن يرزقهم الله رزقاً حلالاً فهم ينفقون منه في السر والعلانية، ومن دون قيود، قد تمنعهم من هذا الإنفاق، سواء أكان في سبيل الله، أم في سبيل عباد الله. فهل يتماثل، إذاً، العبد والسيد ويتساويان في حرية الإرادة، وفي حق الملكية، والتصرف في هذه الملكية؟ وهل يعقل أنْ يكون هذا الحر المالك مثل ذلك العبد المملوك؟ أبداً لأنَّ الفوارق بينهما كبيرة في كل شيء، ولذلك لا يمكن أنْ يتماثلا، لا حالةً، ولا وضعاً، ولا إرادةً.. وقد عبَّر سبحانه وتعالى عن تلك الفوارق بينهما بعبارة {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النّحل: 75]، ولم يقل: هل يستويان؛ لأنه أراد بالعبد المملوك «الجنس» وليس التخصيص، كما أراد بعبارة: {وَمَنْ رَزْقْنَاهُ} [النّحل: 75] الكل، وليس الفرد.. فإذا كان هذا التفاضل موجوداً فعلاً بين إنسانٍ وإنسانٍ، بحيث لا يتشابهان أبداً، فهل يجوز أنْ يُماثَل ويُشابَهَ بين الله جلَّ جلاله مالك الملك، وبين عبيد له قد يكونون جماداتٍ لا تنفع ولا تضرُّ بشيء، أو قد يكونون أناساً، عباداً لله، ولكنهم لا يملكون إلاَّ ما رزقهم ربّهم، وقد يكون بقدر كفايتهم، أو زيادةً عن تلك الغاية وذلك لمقتضى حكمة الله تعالى في عطائه أو منعه..
فالحمد لله أنْ ليس له - سبحانه - مثيلٌ في الخلق، والحمد لله أنْ ليس له - سبحانه - شريكٌ في الملك؛ فهو «الله الذي لا إله إلاَّ هُوَ»، وعبادته وحده حق على عباده، وإقرارهم بالعبودية لربهم نعمة تستحق الحمد والثناء، إلاَّ مَنْ كان جهولاً فلا يعلم جليل قدر خالقه، أو من كان ضالاً فلا يقدِّر فضل ربه عليه!
والجاهلون - أو المتجاهلون - لهذه الحقائق اليومَ، كما كان عليه العهدُ عند بعث محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، هم كثيرون... لأنَّ أكثر الناس قد لا يعلمون أنَّ الله - جلت عظمته - لا مثل له، فكانوا مثل ذلك العبد المملوك الضالِّ عن معرفة الحقيقة، وعن الاهتداء إلى ما يريد، فلا يقدر، بالتالي، على شيء.. بل ولعلَّ الذين يضلّون عن معرفة حقيقة وجود الله تعالى، وحقيقة الألوهية والربوبية لله تعالى، أو الذين «ما قدروا الله حقَّ قدره» هم أضلُّ من ذلك العبد المملوك الذي ضربه الله تعالى مثلاً للكافر أو المشرك، ممَّنْ عميَ عن هدى الله، فضلَّ السبيل، وأضلَّ غيره!...
- وأما المثل الثاني فقد ضربه ربنا تعالى لرجلين: أحدهما أبكم (أخرس اللسان) لا يفهم ما يقال له، لأنه لا يسمع أصلاً - باعتبار أن حاسة السمع تكون عادة مفقودة عند الأبكم - ولا يُفهِمُ ما يريد لأنه عاجز عن النطق. وهذا الرجل ثقيل العبء على وليّ أمره، الذي لا ينتفع منه بشيء، «أينما يوجِّهْهُ لا يأت بخير» بل يضلّ عن وجهته، ولا يهتدي إليها أبداً، فكان محكوماً أنْ يرجع من المكان، الذي استطاع الوصول إليه، دونما فلاحٍ، أو جدوى منه...
والآخر رجل عاقل ومدرك، اعترف بفضل الله تعالى عليه، وما وهبه من الجوارح، وبخاصة النطق، وما حباه من الحكمة والهدى، فقام بين الناس يأمر بالعدل والإحسان، ويرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم. وهذه كلها من مزايا الاستقامة التي وطَّن النفس عليها، ومن صفات الخُلُق العظيم الذي يأبى على مثل هذا الإنسان إلاَّ أنْ يكون على صراطٍ مستقيم في كل ما يقول، وما يفعل..
فهل يستوي هذا العادل المصلح، مع ذاك الأبكم القاصر؟ أبداً لا يستويان مثلاً، ولا يتساويان قيمةً وقدراً.. إذاً فأين إدراك المشركين بالله تعالى، الذين يجعلون له أنداداً من التماثيل، والأحجار والأشجار، أو يشركون في عبادته الكواكب أو الملائكة، أو من هم عباد أمثالهم؟ وكيف عُقلت عقولهم ونفوسهم عن الادراك وأُغلقت عن معرفة الحقائق، حتى غفلوا، وتاهوا عن عبادة الله الواحد الأحد، وهو الحاكم العادل، والهادي إلى الصراط المستقيم؟ عن ابن عباس أنه قال: «إنه مثل الكافر والمؤمن، فالأبكم هو الكافر، ومن يأمر بالعدل هو المؤمن».
وإذا كانت حقائق الوجود جميعاً تثبت أنْ لاَ مَثَلَ للَّهِ سبحانه وتعالى، فقد كان جديراً بالبشر أنْ يعتنقوا عقيدة التوحيد الخالصة، وألاَّ يجعلوا لله شبيهاً أو مثيلاً في أي شيء من صفاته العليا، وأسمائه الحسنى التي تدل على تفرده سبحانه بالألوهية المطلقة، والربوبية المطلقة.
ثالثاً - مَثَلُ نور الله تعالى في السماوات والأرض
يقول الله تبارك وتعالى:
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ *اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقَيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [النُّور: 34-35].
لقد أنزلَ اللَّهُ تعالى القرآن وضرب فيه الأمثالَ، وقصَّ القصص عن الشعوب والأقوام الذين سبقوا من قبل، لتكون سبل هداية للمتقين، وأداة زجرٍ للعاصين.. كما حملت آياتُهُ الأحكام لحماية المجتمع الإسلاميّ مِنْ أنْ تشيع فيه الفاحشة والمنكر، صوناً لكرامة الأسرة، والحفاظ على البيت المؤمن، فيظل طاهراً، نظيفاً، لا تُنتهك أعراضه، ولا يُعتدى على حرماته.
وفي آيات القرآن كذلك تربية لنفوس المؤمنين على الطاعة، والأدب، واللياقة، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والاستعفاف عن الشهوات، أي أنها، إجمالاً، تدعو إلى التحلي بالفضائل التي ترفع من قيمة الإنسان، وتبعده عن مهابط الإغواء، والانقياد وراء المتع والاْهواء.. وهذا كله فضل من الله لهداية عباده الصالحين، هذه الهداية التي ترتبط بنور الإيمان في القلوب، بما يتوافق مع النور الذي في السماوات والأرض، والذي هو من أمر الله تعالى.. فهو - جلَّ سناؤه - منوِّرهما كي يسير كلّ ما فيهما وفق الانتظام العام الذي يحكمهما، بحيث لا يتعثر كوكب أو جرم في دورانه، ولا يتخبط في مصادفة عمياء تحيده عن مساره، وكذلك لكي تهتدي المخلوقات إلى سبل وجودها. وطرائق وظائفها، ومعاشها، فلا تضلّ عن غاية خلقها...
والإنسان، هذا المخلوق على الأرض، ماذا يريد غيرَ نور الله ليشعر باطمئنان القلب، وراحة الضمير؟ وماذا يبغي غيرَ نور الله ليحرك طاقاته الشعورية، وينمي مداركه العقلية، بل ويستخدم كلَّ ما جُبل عليه، كي يكون قادراً على العطاء لحياة أفضل؟!
ومن يقف على دلالة النور الذي يريده النص القرآنيّ، يتجلى له ذلك النور الوضيء، الهادي الذي يفيض حتى يغمر الكون كله، فلا تحيد أجرامه عن مساراتها، بل تبقى على نفس الضبط والإيقاع في ذواتها، وفي حركاتها المرسومة لها.. ثم من لا يتجلى له النور الذي يضيء هذه الأرض وهو يشعر به حقاً، بحيث ينفذ إلى الجوارح، ويحرك الحنايا، ويوقظ الحواس، فيتجرَّدُ ناسوت الإنسان من كثافته وثقله، ليستحيل روحانيةً وانطلاقاً، ومعرفة وعلماً، وراحة وحبوراً نفسياً. فإذا الكون كله، وبمثل هذه الهالة النورانية، وبكل ما فيه ومن فيه، نور طليق من القيود والحدود، تتصل فيه السماوات بالأرض، والأحياء بالجماد، والبعيد بالقريب، وتلتقي فيه الشعوب والدروب، والطوايا والظواهر، والحواس والقلوب..
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النُّور: 35].
ومن هذا النور كان قوام وجودها ونظامها، وكان جوهر سننها ونواميسها.. ولقد أمكن للإنسان أنْ يكتشف بعضاً من خصائص هذا الضوء الذي ينبعث في كل ناحية من الكون الفسيح، فقال العلماء بأنه يسير أو ينتشر بسرعة ثلاثماية وستين ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، وأنَّ مراصدهم تلتقط بعض الأضواء التي تحتاج إلى ملايين السنين الضوئية حتى تصل إلى الأرض، بل وبعض النظريات الحديثة تقول بأنًّ بعض الأضواء قد التقطت وهي آتية منذ مليارات السنين الضوئية، وأنَّ في الكون من المجرات والأجرام والنجوم والكواكب ما لا يمكن عده ولا إحصاؤه، وكلها ينبعث منها الضوء. وكذلك فإنَّ العلماء قد أدركوا طرفاً من حقيقة النور في الكون عندما استحال في أيديهم - بعد تحطيم الذرة - ما كان يسمى بالمادة إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور، ولا مادة لها إلا النور. فذرة المادة مؤلفة من كهارب وألكترونات تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع قوامه النور.. وعلى الرغم من كل ما توصَّل إليه علم الإنسان حتى الآن، فإنه لا يُعدُّ إلا دليلاً جزئياً، ويسيراً على أنه هو {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النُّور: 35].. والإنسان، في الحقيقة، عاجز عن أنْ يتدبَّر سرَّ هذا التنوير في السماوات والأرض، ومدى تأثيره على انتظام الكون، وتسييره وتدبيره؛ ولكن، ولكي ندرك بعضاً من معاني هذا النور، وبما يمدّنا به مِنْ مقومات الحياة، وبما يملأ به قلوبنا من الإيمان، فقد ضرب الله تعالى لنا مثلاً عليه بالمشكاة والمصباح والزجاجة، وهي من الأشياء المادية المحسوسة، التي من شأنها، في تفاعلها مع بعضها، أنْ تقرب إلى أفهامنا كيفية تفاعل الكون بأسره من جراء نور الله تعالى. وعلى هذا يمكن أن نفهم المشكاة على أنها عبارة عن كوة في الحائط، وقد أحيطت بالزجاج البلوريّ الصافي، وفي وسطها وضع مصباح للإضاءة هو عبارة عن الفتيلة، وهذا المصباح وضع في زجاجة هي عبارة عن القنديل، وهذه الزجاجة كأنها كوكب من الدرّ (اللؤلؤ) الذي يدرأ الظلام من شدة نقاوته. أما وقود المصباح فمن زيت شجرة مباركة، «زيتونةٍ» لا يعلم ماهيتها إلاَّ الله - وحده - لأنها ليست من شجر هذا الزيتون الذي ينتشر في شرق الأرض وغربها، بل إنَّ لها خصائص ذاتية، يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نارٌ، هي التي تبعث - عادةً - على اشتعاله وإضاءته. فإذا أشعلنا المصباح فإنَّ النور يملأ الكوة، وينعكس على الزجاج البلوريّ حتى يبدو متوهّجاً، متألقاً بالضياء.. فهذه الصورة الحسية مثال على النجوم والكواكب التي تملأ السماوات، وكلها تشع بالنور وهي تتحرك في مساراتها، وتنتظم في مداراتها، بما فيها الأرض التي تنعم بضوء الشمس ونور القمر وهما يتجليان على سطحها في النهار والليل مصداقاً لقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا *وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا *وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا *} [الشّمس: 1-4].
ومثل ذلك النور الذي يضيء الكوة، كذلك نور الهدى الذي يملأ القلوب فيحييها بالإيمان الذي يحرِّك طاقات الإنسان الشعورية، وينمّي مداركه الفكرية فلا يعبد إلاَّ الله، ولا يسير إلا على هدى النور المبين من الله، وهو دينه القويم، الإسلام ..
وهكذا يصل التعبير القرآنيّ ما بين الحقيقة والمثل، فيرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير الذي ما جعل إلاَّ لتقريب الأصل الكبير إلى الفهم. ويبقى - دائماً - الضوء الذي يسطع بالأنوار المتلألئة التي تنبعث من نور الله في السماوات والأرض.
ومما قاله المفسرون في التأويلات المعنوية للشجرة المباركة:
- أنها مثلٌ ضربه الله تعالى لنبيه محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) .. فالمشكاةُ هي صدرُهُ، والزجاجةُ قلبُهُ، والمصباحُ نبوَّتُهُ.. وهي لا شرقية ولا غربية، أي لا يهودية ولا نصرانية، توقد من شجرة النبوّة التي هي إبراهيم (عليه السّلام). يكاد نور محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، الذي يحمل النبوّة، يبين للناس ولو لم يعترف به أهل الكتاب، مع العلم أنهم دُعُوا في التوراة والإنجيل ليبشِّروا بمجيئه، والتحدث عنه قبل بعثه.
- أنها مثل عن شجرة النبوّة. فالمشكاة هي إبراهيم (عليه السّلام)، والزجاجة ابنه البكر إسماعيل (عليه السّلام)، والمصباح محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي هو من نسلهما. وهي لا شرقية، أي لا نصرانية لأنَّ النصارى كانوا يصلُّون إلى الشرق، ولا غربية، أي لا يهودية لأنَّ اليهود كانوا يصلون إلى الغرب. «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» يعني أنَّ محاسن صفات وأفعال محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) تظهر للناس قبل أنْ يوحى إليه، ومن قبيل ذلك أنَّ بني قومه كانوا يلقبونه «الصادق الأمين» مذ عرفوه في مكة ذلك الشاب الفاضل، الذي يتمتع بالخلق العظيم، والسلوك المستقيم... و«نور على نور» أي أنَّ محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) هو نبيٌ من نسل نبيّ.
- إنها تعبير عن القرآن بنور هدايته. فالقرآن يهدي للتي هي أقوم، ويكنَّى عن القرآن بالنور. فكما أن المصباح (المشبَّه به) يستضاء به، فكذلك القرآن يهتدى به، ويعمل به، وهداه لا ينتهي إلى مدى محدود. فالمصباح - إذاً - يُعنى به القرآنُ الكريم، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفمُهُ، والشجرة المباركة هي شجرة الوحي الذي حمل آيات القرآن بحيث تتضح حججه وبراهينه للناس حين تدبّر معانيها، والتفكر بدلائلها العظام.
«نور على نور» ومعناه، على إطلاقه، أنَّ أصله من نور، وضوءَه من نور، وهو يسري في كل شيء خلقه الله تعالى حتى يهب له الحياة والوجود. وهو نور دائم في السماوات والأرض: لا ينقطع، ولا يحتبس، ولا يخبو؛ فحيثما توجه إليه القلب رآه، وحيثما تطلع إليه الحائر هداه، وحيثما اتصل به المؤمن وجَدَهُ..
وهكذا يظهر المثل في النص القرآنيّ حاملاً أسمى المعاني والدلالات، موحياً بما للإيمان من عظيم الأثر والفعل في قلب المؤمن، لأنَّ أمره منوط بالله تعالى الذي يهدي لنوره - أي لدينه - من يشاء، ويوفقه في إصابة الحق بالنظر، والتدبر، فلا يضلّ عن الصراط المستقيم.
أما من لم يتدبَّر، ولم يؤمن، فـمثله كالأعمى سواء عليه جَنْح الليل الدامس، أو ضَحوَةُ النهار الشامس، فهو في هذه الدنيا أعمى عن النور الذي يضيء قلبه وبصيرته، وفي الآخرة أعمى، وضالٌّ عن الصراط المستقيم الذي يقود إلى الجنة، فلا هداية له في الدنيا والآخرة، والله لا يهدي القوم الظالمين.
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 25] من أجل أن يقرِّب لهم معاني هذا القرآن وما فيه من الآيات البيّنات، فتنفذ إلى عقولهم ومداركهم، وتستقر في قلوبهم ونفوسهم، فيهتدوا بنور الله الحق.
«والله بكل شيء عليم».. عليم بالإنسان، وبطاقاته على الإدراك والاستيعاب؛ وعليم بما يُنزِّل إليه فيقرِّب الحقائق إلى ذهنه حتى يكون قادراً على التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وعليم بأهل الإيمان الذين يعبدون الله الذي هو نورُ السماوات والأرض، وهو العليم بأهل الكفر الذين يعبدون آلهة مزورة لا تعدو عبادتها أن تكون بمثابة الظلام للنفوس، والعتمة للقلوب، وبسبب هذا الظلام العقليّ والقلبيّ ابتعد الكفار والمشركون عن نور الله تعالى، فلم يعبدوه بما يستحقُّ من العبادة والتقديس ...
إذاً فهذا القرآن يبين لنا، بالمثل المحسوس، أنَّ الكون كله نور على نور. وأنَّ هذا النور يسري في كل شيءٍ حتى يهب له الوجودَ أو الحياة. وهذا ما يجعل المثل في القرآن سبيلاً لتبيان ما للإيمان من أثر فعّال في قلب المؤمن، باعتبار أنَّ المثل القرآني مستوحًى من نور الله تعالى الذي يهدي لنوره من يشاء.. ومن أحق بهذا الهدى من النبيّ الأعظم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي أدرك حقيقة نور الإِيمان بـالله تعالى، ففاض به قلبه وهو عائد من الطائف، حيث خذله أهلُها، فنظر إلى السماء عائذاً بنور وجْه ربِّه الكريم، في هذا الدعاء النبويّ الشريف: «أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشْرَقَتْ له الظلماتُ، وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة»[*].
وهو نفسه هذا النور الذي فاض به قلبه المؤمن في رحلة الإسراء والمعراج، فحينما سألته السيدة عائشة: «هل رأيتَ ربَّكَ؟ قال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «أنَّى أراه، نورٌ على نور؟».
رابعاً - مردُّ القوى للَّهِ جميعاً
1 - ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كـحب الله.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ *} [البَقَرَة: 165].
كثيراً ما تعتري الإنسانَ حالاتٌ من القوة والضعف، فتراه، أحياناً، يمتلك من مشاعر القوة ما يجعله يظنُّ أنْ لا شيء يُدانيه، وأحياناً أخرى، قد تجده واهناً، وتتملكه من مشاعر الضعف ما يجعله يشعر بأنه لا يقدر على شيء مما حوله.. وهذه الحالات نابعة من تكوينه وطبيعته ككائن من عظامٍ ولحمٍ ودمٍ وعصب، وكتلةٍ من العواطف والمشاعر والميول والأهواء، التي لا يعلم حقيقة وكيفية تفاعلها في دخيلته إلا خالقه وحده.
وعلى الرغم من ذلك فإن الناظر في التاريخ البشريّ يعجب، حقيقةً، مما ظهر من هذا المخلوق «القوي - الضعيف» من حنكة فاعلة، استطاع بها أنْ يتكيَّف مع عوامل الطبيعة، وأنْ ينتصر على وحوشها الكاسرة، وحشراتها القاتلة، لينتصب سيداً عملاقاً في دنياه، وعماده دائماً ادّعاء القوة، يتخذها حجة على نزعته في الامتلاك، والسيطرة، والتحكم في الأشياء كلما وجد إلى ذلك من سبيل.
هذا من حيث الواقع، الذي طغى فيه على الإنسان حُبُّهُ لامتلاك القوة، التي استطاع، عبر القرون، إثباتها بمظاهر شتى، كان من أهمها: التقدم العلميّ، وامتلاك المال..
وغنيٌّ عن البيان ما حققت الاكتشافات العلمية في الفضاء، أو على سطح الأرض أو في أعماق البحار من تقدم ومعرفة، وما ظهر للمال من سلطان وتأثير على النفوس.. ولن ندخل في تفصيلات مظاهر هذين العنصرين: العلم والمال، لأنها معروفة، ولكن نشير إليها لما تقود إليه من استنتاج وهو: أن القوة كانت دائماً في جانب، والضعف في جانب آخر على ساحة الحياة البشرية بأسرها.. إن على مستوى الأفراد، أو على مستوى الدول والمجتمعات. ومن جراء القوة، في ذلك الجانب، كانت الدول العظمى والدول الغنية والمتقدمة، في مقابل الدول الضعيفة والدول النامية والفقيرة، في الجانب الآخر، التي تلتمس العون والحماية من «أخواتها» الكبرى، بل وكان الأقوياء والضعفاء، وما يزالون يعيشون إلى جانب بعضهم بعضاً في البلد الواحد، والمجتمع الواحد..
ولعل منطق هذا التوزيع لمظاهر القوى، ولاسيما في عالم اليوم، إنما يمكن ردُّه إلى ما يُسمى «شريعة الغاب» أي الشريعة التي قادت إليها غريزة البقاء عند الحيوانات لتأمين عيشها، والحفاظ على حياتها.
ولكن إذا كان لشريعة الغاب عند الحيوان ما يبررها، في فهمنا البشري، فما حاجة الإنسان لأنْ يستنَّ لنفسه مناهج تقوم على التمييز بين الناس على أساس العرق أو اللون أو الجنس، أو أنْ ينظر إليهم وفقاً لمقاييس الثروة أو الجاه أو السلطة؟! بل وما حاجة الإنسان لأنْ يستعمل قواه المادية والمعنوية، وعلى هذا النحو الذي نراه من الحدة، لكي يقتل أو يظلم أو يستغلَّ غيره، وكل ذلك من أجل مآرب دنيوية ليس إلاَّ .. إذ لو أنَّ كل إنسانٍ قد عقل فعلاً، لوجد أنَّ كل شيء من حوله زائل، بل ولاستدرك أنه هو نفسه إلى زوال عن هذه الدنيا، وليس معه شيء إلا رصيدُهُ من الإيمان والعمل الصالح!..
أما نحن فنؤمن، ومن منطلق مفاهيم إسلامنا القويم، أن خالقنا العظيم، وربنا الكريم هو الذي رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات: بالصحة والجمال، والمال والجاه، والقوة والضعف... وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ *} [الأنعَام: 165]، ولكنَّ ابتلاءَنا ما كان إلاَّ لأنَّ ربّنا العزيز الحكيم إنما شاءَ أنْ نكون على مستوى ما أمدَّنا به، وأعطانا من إنعامه وفضله، بحيث نقيم لكل نعمة وزنَها واعتبارَها، فلا نستخدمها في المعصية، ثم لا نظلم، أو نستكبر، أو نستعلي بتلك النعمة على غيرنا.. فكل ما نملك من صحة وقوةٍ، أو من مالٍ وجاهٍ إنما هو من فضل الله تعالى لكي نوفّي حقه علينا بالطاعة فيما آتانا، وحق أنفسنا بما يقوّمها ويزكيها، وحق العباد بما نقيم معهم من العلاقات المجتمعية والإنسانية السليمة..
وهذا الابتلاء، بأنْ جعل الله تعالى بعضنا فوق بعض درجات، هو الاختبار الحقيقي، والشاهد الحقّ، ليقيم الحجة على عباده بأنفسهم على أنفسهم، إذ يظهر فيهم، وعلى رؤوس الأشهاد، من لا يقبل أنْ تمتليء الدنيا بالجياع والمرضى والفقراء والأميين، بينما غيرهم يعيش على التخمة واللذة والفساد والفجور.. ويظهر فيهم أيضاً، وعلانيةً، من سعى، وعمل، وسخّر، لإِقامة الأنظمة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية الجائرة، التي لم تراعِ قيمة الإنسان في ذاته، ولم تحفظ كرامته وحقه في وجوده!.. فهذه الأنظمة بجورها في المبدأ، والغاية والتطبيق، هي التي أوقعت الناس جميعاً، حتى صانعيها وأسيادها، في المشاكل والمصاعب، وفي الهموم والأمراض النفسية، فلم يسلموا من أذاها الذي طالهم مثل غيرهم - وربما أكثر من غيرهم - في حقيقة الأمر والواقع..
ومن هنا كان اليقين، وفقاً لنظرة الإسلام الشاملة إلى الحياة البشرية، بأنَّ الإنسان هو الذي أوقع نفسه في المأزق، لأنه بَعُدَ عن الإيمان الصادق، فنسي أو تجاهل الحقيقة المطلقة التي تحكم الوجود بأسره، وهي أن القوة لله جميعاً. فهو - سبحانه - الذي خلق القوى، وهو الذي يملكها، ويسخرها كما يشاء، وكيفما يشاء، وما قوة هؤلاء الذين نحسبهم أقوياء إلا منه جلَّ وعلا، ولو شاء لبدَّل قوتهم بالضعف، وعزتهم بالذل، بل لو شاء لأهلكهم وخلق بدلاً منهم في هذه المعمورة.. وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً *} [الإنسَان: 28].
ولذلك فإنَّ الإنسان الذي يدّعي امتلاك القوّة، عليه أن يتروّى، ويعيد تفكيره وحساباته فيجد أنه لم يتملك من القوّة إلاَّ مقداراً محدوداً قضى له ربه تعالى أنْ يظهر به.. أما لماذا؟ وكيف؟ فهذا ليس من شأن الإنسان، لأنه يتعلق بحكمة الله السنية، التي لا مجال للنقاش فيها.. أما القوة، في الحقيقة، ومهما كان نوعها ومقدارها، فهي لله القوي المتين، والقادر المقتدر..
وإنَّ إغفال الإنسان لهذه الحقيقة المطلقة - أو ربما جهله بها في أزمان معينة - هو الذي قاده إلى أنْ يتخذ أولياءَ يعبدهم من دون الله، ويستمد منهم القوة، والنفع والضرر.. وقد تمثل هؤلاء الأولياء لدى الناس بتصورات مختلفة عن قوى الطبيعة، أو الكواكب، أو الأصنام أو غيرها.. ولكنَّ أعتى تلك التصورات، وأشدّها شراً على الإنسان، كان الإنسان نفسه، وهو يعتقد أنه يملك قوىً ذاتيةً، وطاقات فاعلة تجعله قادراً على أنْ يفكر، ويعمل ويقول ما يحب ويشاء، وأنه يستطيع أنْ يسيّر هذه القوى الذاتية، وأنْ يتحكم بها وفق هواه حتى ظنَّ بعض البشر أنهم آلهة! ونحن نحيل مثل هذا الإنسان، الذي جعل قواه الذاتية هي وليّه الذي يتعبّد إليه، إلى حالةٍ من الوهن أو الضعف أو المرض الذي قد يصيبه، ليقرر على ضوء تلك الحالة إن كانت قواه تملك أنْ تساعده، أو أنْ تخلصه مما هو فيه، إلا أن يشاء له ربه ذلك! يقول الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ *لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ *} [يس: 74-75]، فلا يستطيعون نصرهم في الدنيا، حيث يتوهمون بأنهم جندٌ لهم يستقوون بهم على غيرهم، ولا يستطيعون نصرهم في الآخرة، بدفع العذاب عنهم، لأنهم محضرون معهم في النار..
أما {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [العَنكبوت: 41].. فيقود إليه الدليل العقليّ، والبرهان الحسيّ. ذلك أن بيت العنكبوت عبارة عن نسيج من خيوط دقيقة، شفافة وواهية لا يكاد اللمس يقاربها، أو الريح تهب عليها إلاَّ وتتقطع وتتبدد، فلا تحمي العنكبوت ولا ترد عنها غائلة العوارض.. ومثل «المتانة» التي يتمتع بها بيت العنكبوت، هو ما ينطبق على القوة التي يستمدها الناسُ من الناس، أو من القوى الأخرى التي يتوهمونها في الآلهة المدعاة، أو في قوى الطبيعة.. ولذلك يجعلونها عوناً لهم لتمدَّهم بأسباب القوة. ولكن لو كان الذين يتخذون أولياء من دون الله، يعلمون أن القوة التي يستمدونها منهم هي عرضة للزوال في كل حين، وذلك عندما يأتيها أمر الله القوي المتين.. أجل لو كانوا يعلمون ذلك لما طلبوا العون إلاَّ من الله، ولما استنصروا إلاَّ بالله، ولما لجأوا إلاَّ إليه سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ فما عبدوا إلاَّ الله الذي هو ولي الأمر والتدبير.. والله يعلم أنَّ ما يعبدون من دونه من معبودات زائفة لا تملك شيئاً من قوة، ولا تقدر على شيء من سدِّ حاجة؛ ولكنه - جلّت عظمته - وهو العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه، لو شاء لبدَّدهم ومعبوداتهم وأولياءهم جميعاً، إِلاَّ أنه يؤخرهم إلى أجل مسمًى ليكون مصيرهم مرهوناً بالشرك الذي كانوا عليه، وبما اتخذوا من دونه أنداداً له - جلَّ شأنه - يحبونهم، كحب الله، إنْ كانوا يؤمنون بحقيقة وجود الله، أمَّا إنْ كانوا من الكافرين بالله، فالويل لهم من عذاب الجحيم!..
وهكذا يتبين أن الله تعالى قد ضربَ للناس المثل ببيت العنكبوت، ليكون دليلاً حسياً لهم على الضعف والهوان لسائر القوى التي يلجأون إليها، وبالتصوير الصادق لكي يعتبر الناس بـالمثل، فلا يلتجئون إلى قوة ولا يطلبون حماية إلاَّ من الله، لأن سائر القوى تبقى هزيلة، وضعيفة، وبلا أدنى فائدة إن لم يشأ الله تعالى أنْ يمدها بالأسباب التي تجعلها قوىً ظاهرة.
وهذه الحقيقة التي تردّ القوى لله جميعاً، جديرة بأنْ يعلمها الإنسان ويعمل بهديها، وإلاَّ ظلت البشرية تتخبط بمشاكلها ومآسيها، وسوف تزداد أحوالها سوءاً، كلما بعدت عن سنن الله، حتى تصل في النهاية إلى ما ينذر الناس بالعذاب، دونما فرق بين من يدَّعون القوة، أو من يسيطر عليهم الضعف.
والحقيقة الأخرى، التي يؤكدها القرآن الكريم، هي أن اللجوء إلى قوىً بشرية أو غير بشرية، وطلب العون والحاجات من الذين يتخذونهم أولياءَ من دون الله، أو أسيادَ منقادين لهم، إنما مردُّه إلى جهل الإنسان بالله القوي المتين، وامتلاكه وحده تعالى للقوى جميعاً. وهذا الجهل هو ما يدلُّ عليه قوله المبين:
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحَجّ: 74]
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزُّمَر: 67].
2 - المعجزات براهين على أنَّ القوة لله جميعاً.
المعجزات هي ما يُعجز الإنسان، ويستحيل عليه أنْ يأتي بمثله، لذلك كانت من البراهين الدَّالة على قدرة الله تعالى في صنعه، لأنه هو الله، وهو على كل شيء قدير.. وقد جاءت المعجزات التي يذكرها القرآن الكريم، لتؤكد هذه الحقيقة، وتدلل في الوقت نفسه على ضعف الإنسان، وقلة حيلته أمام ما يريده الله القويُّ الجبار، فلا يقدر الإنسان مثلاً على أنْ يجعل الطيور تفتك بجيش جرار؛ أو لا يقدر الإنسان على أنْ يفلق البحر ويجعلَ أمواجه كالجبال العالية ثابتة في مواضعها، ثم يعيدها إلى ما هي عليه أمواجاً منسابة أو متلاطمة.. فهذه خوارق أرادها الله تعالى أنْ تكون بأمره. والإنسان يصفها بالمعجزات، لأنها مُعجِزةٌ له حقاً، ولا يقدر على الإتيان بمثلها أبداً. فكانت من الشواهد على ضعف الإنسان، وعلى أنَّ القوة لله جميعاً.
وتبرز حقيقة مثل تلك المعجزات بالآيات القرآنية المبينة التالية:
أ - جعل الله أصحاب الفيل كعصفٍ مأكولٍ
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ *} [الفِيل: 1-5].
فنحن نرى في هذه الآيات الكريمة توجيهاً من الله تعالى لنبيِّه الكريم محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وتنبيهاً له على عظمة المعجزة التي حققها يوم جاء أبرهة الحبشيّ بجيشه لهدم الكعبة الشريفة، وكان معهم فِيَلةُ اليمن، فأبتِ تلك الفِيَلَةُ وفي مقدمها كبيرها ورائدها، التقدمَ باتجاه الكعبة عندما صاروا على مشارفها، مما أوقع أبرهة في ورطة شديدة. ولكنَّ الأعجوبة التي حدثت لم تكن فقط بامتناع ذلك الحيوان الأعجم عن التوجه صوب بيت الله الحرام، وإنما كانت فيما حلَّ بأبرهة ومعه جيشه بأسره، عندما جاءَهُم أمر الله سبحانه، ليبطل كيدهم ويذهب بمكرهم، إذ بعثَ فوقهم أفواجاً من الطير، تتتابع فوجاً بعد فوج، كأنَّما ينطبق عليها وصف أمرئ القيس لكتائب جيش مدجَّج بالسلاح حيث يقول:
تراهمْ إلى الداعي سِراعاً كأنَّهم
أبابيل طيرٍ تحت داجنٍ مُدْجنِ
أما لماذا بعثَ الله تعالى تلك الأفواج من الطير، فلكي تذيق أبرهة وجيشه الموت الزؤام، إذْ كانت تحمل حجارة من سجيل (أي من الطِّين المجفَّف الذي صار كالزجاج المخروط) ترميهم بها، فيدخل الحجرُ في رأس الرجل ويخرج من جسمه فيقع قتيلاً في الحال، حتى صاروا جميعاً مثل الزرع الذي جُزَّ وأُكِلَ، أو كمثل العصف (التبن) الذي أكلته الدواب ثم راثته، وديست من بَعدُ أجزاؤه فتفرَّقت.. وأما العبرة فهي ما حلَّ بأولئك الظالمين من الهلاك، إذ لم يكن الحجر ليصيب جسمَ أي فرد منهم إلا ويعرّضه للاهتراء من فوره، وتساقط اللحم عن عظامه حتى يُقضى عليه ويهلك. فكانت هي المعجزة التي أرسلها الله تعالى على أبرهة وجنوده ليهزمهم ويعذّبهم، لمَّا أرادوا هدم بيته الحرام - الكعبة الشريفة - في مكة..
ب - انفلاق البحر بضربةٍ من عصا موسى، «فكان كل فرقٍ كـالطود العظيم»
وهذه معجزة أخرى قد تكون أشدَّ عظمة وعبرة من معجزة الفيل، يسوقها القرآن الكريم من جملة المعجزات التي حفظها عبر الزمان للتدليل على قدرة الله تعالى، وامتلاكه وحده القوة. وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ *قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ *فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ *وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ *وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين} [الشُّعَرَاء: 61-67].
فمتى، وكيف حصلت تلك المعجزة؟
لقد دأب فرعون مصر - وقيل إنه كان «رمسيس الثاني» وقيل إنه كان الفرعون «منفتاح» على ظلم بني إسرائيل، الذين ظلوا على عهد الإيمان منذ أيام النبي يوسف (عليه السّلام)... وقد تمثل ظلم فرعون باضطهادهم واستعبادهم، حتى وصل به الحال إلى أنْ يستحيي النساء، ويقتل الرجال، والأطفال، من غير أن يُبقي على أحدٍ منهم، إلاَّ على الذين يستعملهم هو والملأُ من قومه، سخرةً، للقيام على خدمتهم، وتنفيذ أشغالهم..
وإزاء ذلك الظلم العظيم نزل الوحي على النبي موسى (عليه السّلام) أنْ يسري ببني قومه ليلاً، بما يمكّنهم من الهرب، والخلاص مما يحيق بهم في تلك الديار الجائرة!.. وبالفعل فقد خرج موسى (عليه السّلام) ببني إسرائيل، كما أمره ربّه تعالى؛ إلاَّ أنَّ فرعون سرعان ما اندفع وراءهم، وهو يقود جيشه الكبير، حتى تراءى الجمعان على مشارف البحر الأحمر، فقال أصحاب موسى - والخوف يكاد يقتلهم -: ماذا نفعل الآن وقد أدركنا فرعون وجنوده؟ وإلى أين نفرُّ منهم؟ وها هُم وراءنا، وليس أمامنا إلا البحر؟
قال موسى (عليه السّلام): كلاَّ، يا بني إسرائيل! لن يدركونا، ولن يبطشوا بنا كما تتوهمون، فالله ربّي معي، وسيكفيني شرَّهم، ويرشدني إلى طريق النجاة، فلا تخافوا ولا تحزنوا..
وسرعان ما نزل الوحيُ على النبي موسى (عليه السّلام): «أنِ اضْرب بعصاك البحر».. وكانت المعجزة الكبرى، إذ ما أنْ ضرب نبيُّ الله البحر بعصاه، حتى انفلق - أي انشقَّ - وظهر فيه اثنا عشر طريقاً يبساً، انتصبت الأمواج على جوانبها، وكل موجة تشكل قطعةً لوحدها، كالجبل العظيم في السماكة والارتفاع، وقد أمسكها الله تعالى على تلك الحالة حتى سلك بنو إسرائيل بينها، وانتقلوا بيسرٍ إلى الضفة الأخرى، ونجَوْا من بطش فرعون وجنوده..
ونتوقف قليلاً عند هذا المشهد قبل متابعة القصة - المعجزة:
فها هُمُ بنو إسرائيل أمام البحر، وليس معهم سفن ولا مراكب، وبدونها لا يستطيعون خوضه.. ولا هم بمسلَّحين حتى يدافعوا عن أنفسهم.. وفي المقابل، ها هُمُ فرعون وجنوده قد قاربوهم، يشهرون السلاح وهم يطلبونهم، ولا يرحمون.. فكل الدلائل تشير أنْ لا مفرَّ من هلاك بني إسرائيل، والبحرُ أمامهم والعدو وراءهم..
وبلغَ الكربُ ببني إسرائيل مداه: فمن خوفٍ واحتقان، إلى لوعةٍ ومأساة! وربما كانت تتمُّ كلُّها في دقائق، ثم يهجم عليهم الموتُ الذي لا مناص منه!..
وها هو نبيُّ الله موسى، لا يشكُّ لحظةً بأنَّ ربَّهُ على كل شيء قدير، وهو تعالى الذي أوحى إليه أن يخرج ببني قومه من مصر فلماذا لا يكون ملء قلبه الثقة برحمته، واليقين بعونه، والنجاة كائنة لا محالة، وما عليه إلا التريث، والصبر لما يوحي إليه ربّه تعالى.. فبادر يطمئن بني قومه، على الرغم من حراجة تلك اللحظات العصيبة، قائلاً: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ *} [الشُّعَرَاء: 62]..
قالها (عليه السّلام) بشدّةٍ وتوكيدٍ. «كلاَّ»، لن نكون مُدْرَكِين. « كلاَّ»، لن نكون هالكين. وبهذا الجزم، والتأكيد واليقين ينشق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب، وينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون.. إذ نزل أمرُه تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشُّعَرَاء: 63].
ولا يتمهل السياق القرآنيّ ليقول إن موسى (عليه السّلام) قد ضرب بعصاه البحر، فهذا مفهوم.. وإنما يعجل ليأتيَنا بنبأ المعجزة غير المتوقعة: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ *} [الشُّعَرَاء: 63].
ووقعت المعجزة، وتحقق الذي يقول عنه الناس إنه مستحيل.. لأنهم يقيسون سنَّة الله تعالى على المألوف من قدراتهم ومقاييسهم.. والله الذي خلق السنن، هو القادر على أنْ يجريَها وفق ما يشاء، لأنَّ كل ما في الوجود خاضع لأمره، ولمشيئته المطلقة، وقد أمر سبحانه وتعالى مياه البحر أنْ تنتصب على شكل الجبال العظيمة، فامتثلت لتكون بينها طرق النجاة، فيتمكن بنو إسرائيل من العبور وسط البحر إلى الشاطئ الآخر على حافة صحراء سيناء، ويفوزوا بالخلاص والسلامة..
ووقف فرعون وجنوده مبغوتين، مشدوهين بالمنظر الخارق، والحدث العجيب.. ولكنَّ فرعون سرعان ما أعادَهُ ظلمُهُ إلى طغيانه، فأصدر الأوامر لجيشه بأن يسلكوا مسالك بني إسرائيل، ويعجّلوا في القضاء عليهم.. ولم يَدُرْ في خلده أنَّ ما يحدث أمامَهُ لا بدَّ أنْ يثير فيه التفكير والتروي، لأنه شيء غير مألوف، بل وهو خارق للعادة.. ولكنه لم يفعل، بل أصرَّ على جنوده بالنزول في تلك الفجوات البحرية التي ظهرت فجأة، واللحاق ببني إسرائيل.. حتى إذا صاروا جميعهم داخل تلك الفجوات، جاءَ أمرُ الله تعالى فأطبق عليهم البحر بمياهه، وأغرقهم..
وهذا الذي حصل في ذلك اليوم من أيام النبوة التي يمثلها موسى (عليه السّلام)، وأيام الكفر الذي يمثله فرعون مصر، وذلك منذ حوالي ثلاثة آلاف عام، على ما يرجّح بعض المؤرخين، من أنَّ خروج بني اسرائيل من مصر على عهد نبيهم موسى، قد حدث في مطلع القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حدود سنة1230 ق.م. على عهد الفرعون منفتاح[*].
ومضتْ هذه الآية على الزمان تتحدث عنها القرون، فهل آمَنَ بها المستكبرون؟
إنها لآية معجزة حقّاً، وبرهان ساطع فعلاً على عظمة الله الذي أمَرَ البحر فانفلق ليَعبره عبادُه وينجوا من القتل، ثم أعادَه إلى حالته الأولى حين عَبَرهُ أعداؤه، ليُغرقَ أولئك القوم الظالمين. ومع ذلك لم يؤمن أكثرُ بني إسرائيل، على الرغم من أنهم عاشوا تلك المعجزة الخارقة بالواقع والشعور .. لم يؤمن أكثرهم، لأنهم سارعوا إلى عبادة العجل، من بعد تلك المعجزة .. وهذا ما يوحي بأنهم أهل عناد وضلال؛ ومثلهم كلُّ مستكبر، معاند، ضالّ..
فهذه أحداث غابرة يسوقها القرآن الكريم شواهِدَ على أنَّ الله - جلّت قدرته - على كل شيء قدير، وأنه وحده القوي، ووحده الذي يملك القوى جميعاً.. فإذا لم يؤمن كثير من الناس بتلك الشواهِدِ فإنَّ هنالك شواهدَ أخرى ليست أقل دلالةً وإظهاراً للحقيقة.. فاستمعْ إلى دليلٍ آخر من أدلة القرآن، وهو تحويل الجامد إلى كائن حيٍّ، كما في عصا موسى (عليه السّلام).
ج - معجزة تحويل العصا الجامدة إلى حية تهتزُّ كأنها جانٌ.
قال الله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ *} [القَصَص: 31].
ولو أمعنَّا النظر في آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن النبيّ موسى (عليه السّلام)، لوجدنا أنَّ قصته تتكرر في أكثرَ من سورة، تقريراً للحجة على أهل الكتاب، واستمالةً لهم نحو الحق الذي يدعوهم إليه محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) .. على أنَّ كل موضع من مواضع التكرار لا يخلو من زيادةٍ في الفائدة علماً وبياناً، حتى يبقى للقصة أثرها القويّ في النفس، فلا يضيع هذا الأثر مع الإعادة والتكرار.
ومن العود إلى بعث النبيّ موسى (عليه السّلام)، فإنَّ آيات القرآن تهدينا إلى أنه كان عائداً بأهله من مدينَ إلى مصر، عندما أتاه التكليف من ربِّه. ويبدو أنَّ عودتَهُ تلك كانت عن طريق صحراء سيناء، وقد أظلم الليلُ واشتدَّ البردُ، فرأى ناراً على جانب الطور، {فَقَالَ لأَِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى *إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى *إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي *} [طه: 10-14].
وأُخِذَ موسى وهو يستمع إلى هذا النداء العلويِّ. وكانت بيده عصاه التي يستعين بها على بعض حاجاته، فأرادَ ربّه - سبحانه وتعالى - أنْ يبيِّن له أول برهانٍ على بعثه، فسأله تبارك وتعالى بقوله الكريم: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى *} [طه: 17].
فأجاب: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى *} [طه: 18].
فأمره ربّهُ تعالى:{قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى *} [طه: 19].
وأطاع موسى (عليه السّلام) الأمر الجلل، وألقى عصاه، فإذا بها تتحول إلى أفعى حيَّةٍ تتحرّك وتهتزّ بسرعة عجيبة، كـأنها جانّ، فاستولى عليه الخوف، وولَّى هارباً لا يدري ماذا يفعل، كما يهدي إليه قول الله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النَّمل: 10]، إذ أخذته الدهشة أمام تلك المفاجأة التي روَّعته، وخاصةً في ذلك الجو الذي تحيط به الرهبة، والقدسية من كل جانبٍ، وهما - بذاتهما - كافيتان لإثارة الخوف في النفس، فكيف إذا اجتمع إليهما عنصر رعبٍ مفاجئ؟! فكان محكوماً أنْ يولّي موسى (عليه السّلام) الأدبار فراراً، دونْ أنْ يعقب بأية كلمةٍ، لولا أنَّ قول ربّه تعالى قد أعاد إلى قلبه الإطمئنان، وإلى نفسه الأمانَ، وهو يناديه: {يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ *} [القَصَص: 31]؛ وعادَ موسى (عليه السّلام) فقال له ربُهُ تعالى: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُوْلَى *} [طه: 21]..
وكـلمحٍ بالبصر عادت تلك الأفعى إلى سابق عهدها، العصا الخشبية، كما عهدها، التي يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، ويعلّق بها زادَهُ، ويحمي بها نفسه من الحيوان والزواحف... وبذلك الأمان والاطمئنان اللذين أعادهما الله تعالى إلى قلبه، تلقَّى سيدنا موسى (عليه السّلام) الوحيَ، بعد أنْ أصبح لديه البرهان الحسيّ على بعثه من ربّه رسولاً، ليبدأ المهمة التي ندبَهُ إليها إلى فرعون مصر..
تلك هي عصا موسى (عليه السّلام) التي استحالت حية تسعى.. وهي المعجزة التي أرادها الله - جلَّت قدرته - برهاناً على أنه وحده الذي يملك تغيير الأشياء شكلاً وروحاً، وإحالتها أشياءً أخرى مختلفة تماماً في تكوينها وطبيعتها ووظيفتها، كما في هذه العصا التي أراد القادر المقتدر أنْ تكون آيةً تدعم موقف نبيّه، وتقوّي حجته في مواجهة أهل الطغيان الذين بُعثَ إليهم، في الدعوة إلى الإِيمان والهدى.. فهل ثمَّةَ مجالٌ بعد لأي تأويلٍ للحقيقة المطلقة، وهي أنَّ الله تعالى على كل شيءٍ قدير؟ وأنَّ عصا موسى (عليه السّلام) ، وغيرها من البراهين المعجزة، التي أمدَّه بها ربُّهُ تعالى، ستكون الحجة على فرعون {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *} [طه: 44].
3 - السفن العائمة في البحار كـالجبال آياتٌ على أنَّ القوة والعزّة للَّه جميعاً
يقول الله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ *} [الرَّحمن: 24].
ولا يملُّ التردادُ بأنَّ كلَّ شيءٍ في الوجود يدلُّ على أنَّ الله تعالى هو القوي المتين، وأنَّ القوى في الكون، أو القوى التي يدَّعيها الناس مردها لله جميعاً، لأنه هو الذي يملك خلقها وأسبابَ وجودها.. ولكي ندرك هذه الحقيقة فقد ضرب لنا القرآنُ مثلاً بالسفن الكبيرة التي نصنعها بأيدينا، حتى لنحسبها وهي تجري في البحر، كالجبال الكبيرة العالية التي اقتلعت من أماكنها، لتعوم فوق سطحه.. ولكنَّ العبرة ليس في صنعها، وإعطائها كافة قوى الدفع اللازمة - وكله ممَّا علم الله الإنسانَ ما لم يعلم - إذْ مَنْ غيرُ الله بقادرٍ على أنْ يجعل للماء خواصه حتى يحمل تلك الأثقال الكبيرة؟ أو أنْ يجعل للسفن نفسها خواصها حتى تكون صالحة - مع شدة ثقلها، وكبر حجمها، وكثرة حمولتها - لتمخر عباب اليم؟! ومن غير الله بقادر على أنْ يجعل الرياح والأمواج تتلاءم مع جريانها، فلا تطغى عليها فتغرقها أو تدمرها؟! ألا إنه هو الله القويّ المتين، وإنه على كل شيء قدير.. وهو كما أودع في المياه، وفي السفن، خواصها الذاتية، فقد وهب للإنسان العقل، وهداه إلى العلم، حتى يضع المعادلات والمقاربات، ويسنَّ النظم الصناعية التي بفضلها كانت هذه المنشآت من السفن، والطائرات، والجسور، والمباني، والمراصد والآلات إلخ...
ولنا أنْ نتصور بعد ذلك ما يدلّنا عليه هذا المثل في القرآن من قدرة للإنسان على الإنشاء والصنع والتسيير... فهذه الأساطيل من السفن الحربية أليست كل بارجة منها - وهي تحمل الطائرات، والصواريخ، والمدافع، والدبابات، وسائر الأعتدة العسكرية الأخرى، بالإضافة إلى مَن يركب فيها من الناس - كالجبل الشامخ؟ ومثلها هذه الأساطيل من السفن التجارية - وما تحمل من البضائع والأشخاص والأثقال - أليست كل واحدة منها كالطود العظيم؟!.
إنها شواهد حسيّة على ما تحمله البحار فوق سطح مياهها من القوى الظاهرة التي يظن الإنسان أنه يملكها، بينما، في الحقيقة،إنَّ مالكها جميعاً هو الله «الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير». وهذا ما يريد القرآن أن يعيده إلى أذهاننا، ويكرّسه في نفوسنا، فالله تعالى - وحده - مالك الملك في السماوات والأرض، وهو - وحده - خالق وموجد القوى والطاقات في الإنسان وفي الأشياء.. ونلاحظ أن التدليل على أن الله ربنا هو المالك حقاً لتلك السفن العملاقة، إنما يأتي باللفظ البسيط - في الآية 24 من سورة الرحمن - بقوله تعالى: {وَلَهُ} [البَقَرَة: 266]، أي وله وحده السفن الجواري في البحر كـالاعلام، وله وحده كل ما تملكون، وما تنشئون ، وما تقيمون أيها الثقلان: الإنس والجان.
ثم يأتي التعقيب: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *} [الرَّحمن: 25-27].. فالأمر لا يستدعي الكذب ولا الإنكار. لأنَّ كل هذه الأشياء التي تحيط بكم، سواء أكانت من صنعكم، أم من غير صنعكم، فهي لا تعدو، في واقعها وحقيقتها، أنْ تكون آياتٍ وأدلةً، وشواهدَ على أنها وجدت بمشيئة الله، إذ أنتم لا تملكون أنْ تحيطوا بشيءٍ من علمه إلاَّ بما شاء، فإنْ كانت دعواكم أنَّ كثيراً من الأشياء كان بالعلم والجهد الإنساني، فهنالك من الأشياء ما لا يُعدُّ ولا يحصى غير ما آتيتم أنتم، كما تشاهدون في هذه الخلائق جميعاً، وهي كلها آيات تشهد وتدلُّ على أنها من صنع الله تعالى، فبأي من تلك الأشياء التي خلقها ربكما - أيها الأنس والجان - تكذبان؟! وعلى الرغم من كثرة هذه المخلوقات، سواء التي أنشأها ربكما ابتداءً، أو أحدكم بشيءٍ من علمه حتى تنشئوا ما أنشأتم على هذه الأرض، فكلها فانٍ، بما فيها أنتم جميعاً، لقول الله الحق: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *} [الرَّحمن: 26] فلايبقى شيء على هذه الأرض، لا السفن العملاقة كـالجبال الرواسي، والتي لا تعدو كونها مثالاً لجميع المنشآت الصناعية والتجارية والزراعية والسكنية على اختلافها، فكلها - جميعاً - سوف يصيبها القدم، والانهيار والاندثار، مهما تكن عليه من المتانة والقوة. ومثل ذلك، الأشياء كلها، والقوى كلها، فإنها إلى فناء، لأن الأرض أصلاً التي تقلُّها هي إلى فناء، وكذلك أنتم أيها الإنسِ والجان فإنكم جميعاً إلى فناء.. ولذلك كان تعبير القرآن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *} [الرَّحمن: 26] تعبيراً بليغاً وشاملاً. وقد غلَّب العاقل في «من» لأن الإنسان محسوبٌ من هذا الفناء. بل وكان فناء الإنسان، من هذه الدنيا، أكبر نعمة عليه من خالقه، باعتبار أنَّ الموت يشكل التسوية الحقيقية بين الناس جميعاً، ففيه يتساوى الكبير والصغير، والغنيّ والفقير، والملك والمملوك.. وباعتبار أنَّ حياة الإنسان إذا استمرت في هذه الدنيا، فإن مصيره سوف يكون في الابتلاء والشقاء، أو المرض والوهن، بينما في الحياة الآخرة - وبعد الموت والفناء والنشور - قد يفوز الإنسان بالنعيم الأبديّ حيث يجد ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. وهنا الحكمة البالغة التي تقودنا إليها النصوص القرآنية فلا يكون تعلق الإنسان بالحياة الدنيا جلَّ اهتمامه، بل وعليه أنْ يسعى للحياة الآخرة سعيها، حتى يفوز بذلك النعيم المقيم..
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *} [الرَّحمن: 27].
وبعد فناء الأرض ومن عليها، وبعد فناء السماوات ومن فيها، لا يبقى إلا الله الحيُّ القيوم، الذي تعزّز بالقدرة والبقاء، وقهر عباده بالموت والفناء..
وليس التعبير بـ«وجه ربك» إلا للتدليل على أنَّ ربَّ السماوات والأرض قد ظهرت حقيقة وجوده لنا من آياته في الخلق، ظهورَ الإنسانِ في وجهه. إذ تعالى الله عن التشبيه والتجسيد، فهو ذو الجلال، تجلُّه الخلائق وتنزِّهُهُ، لأنه هو الله الملك القدوس العزيز الحكيم. وهو ذو الجلال والإكرام، الكريم في عزّته وجلاله، الجواد في إنعامه على خلائقه، يسبح له ويحمده كل ما في الوجود، لأنه ربّ الوجود، ومالك الوجود، والباقي بعد فناء الوجود..
ويلفت ربنا تبارك وتعالى أنظارنا وبصائرنا في آية أخرى، إلى أهمية السفن في حياتنا، إذْ بعد أنْ ضربَ لنا مثلاً، على عظيم صنعها وإحكام هذا الصنع تشبيهاً لها بالجبال الكبيرة العالية، وبعد أن بيّن لنا أهمية هذه المنشآت في تسخيرها للناس وهي تعوم على مياه البحر، كذلك يبيّن لنا القرآنُ الكريم أنَّ اهتداءنا إلى بنائها قد كان بفضل الله ورحمته، عندما هدى نبيه نوحاً إلى بناء أول سفينة على الأرض، وذلك بقوله تعالى:
{وآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ *وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ *إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ *} [يس: 41-44].
ولقد جاء هذا التأكيد على أهمية السفن، وعلى أنها آية من آيات الله التي تشهد على عظيم خلقه، في معرض تبيان خواص وحقائق بعض الأشياء التي وضع فيها من السنن والأنظمة ما يجعلها تسير بهذا الانتظام الذي هي عليه، فلا يتعدى شيء منها على شيء آخر، بل كل يسير باتجاهه المرسوم له كما قدَّر له الصانع القدير.. وكل ذلك مرتبط بحياتهم، وبتأثيره الهام على هذه الحياة، ولولا خلق هذه الأشياء على ما هي عليه، لما كان لهم مجالٌ للحياة والبقاء على الأرض..
وتلك الأشياء التي ينبِّه إليها القرآن المجيد (في سورة يس)[*] والتي كل منها آية على أنَّ الله تعالى هو الخالق، وهو وحده القادر على مثل هذا الخلق. بإمكاننا أنْ نتبيّنها كما يلي:
- آية الأرض التي يُنزل الله عليها المطرَ فيحييها بعد موتها، ويخرج منها الأرزاق التي منها يأكلون..
- وآية خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض، ومن الناس أنفسهم، ومما لا يعلمون (مما خلق في السماوات والأرض)..
- وآية الليل عندما يسلخ منه النهار فيحل الظلام..
- وآية الشمس وهي تدور في فلكها، وتجري لمستقرٍ لها..
- وآية القمر في تقدير سيره خلال الشهر الواحد..
- وآية الإحكام والدقة في التسيير بحيث لا الشمس ينبغي لها أنْ تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يدورون، ويسبحون في هذا الفضاء الواسع.
- ومن ثَمّ آية الفلك المشحون التي حُمِلَ فيها المؤمنون، وقت الطوفان..
..ففي كل شيء آية تدلُّ على أنه الخالق. ودلالتها شرط على العاقل أنْ يتّبع هدى ربّه، وأنْ يؤمن بأنه القادر على الخلق، وأنه القادر على تسيير الفلك في البحار، مثلما يسيّر الكواكب في الكون، فهذه تسبح في جريانها إلى مستقر لها لا يعلمه إلا هو (جلَّ وعلا)، وتلك تسبح فوق الماء بأحمالها وأثقالها لتبلغ البلد الذي تقصده بأمره تعالى..
وقد جعل ربنا هذا المثل في هذا المقام، ليذَّكَّرَ أولو الألباب الطوفانَ الذي حلَّ في الأرض، فيكون في التذكّر عظةٌ للرجوع عن الغفلة إلى الإيمان والطاعة والعبادة.. ذلك أنَّ الطوفان كان بعضاً من غضب الله، وسفينة نوح (عليه السّلام) بعضاً من رحمته بعباده، إذ بعد أنْ ملأ الكفرُ الأرضَ، وأبى قوم نوح تصديقه بما يدعوهم إليه، أوحى له ربُّهُ أنْ يصنع سفينةً، فاتخذوا عمله هذا سخريةً واستهزاءً.
وحان الموعد، فحمل نوح (عليه السّلام) في السفينة بعضاً من بني قومه، أولئك الذين آمنوا به وصدقوه، كما ملأها بالأزواج من الحيوان والطير والزواحف، حتى تتوالد هذه المخلوقات وتكثر، فتكون مصدراً للرزق لمن نجوا من غضب الله، وحفظاً لأنواعها من الزوال، حتى تعود الحياة على الأرض بكامل رونقها. ثم حلَّ الطوفان الذي غطَّى الأرض كلها بالماء، وغسل سطحها من أدران الكفر والشرك، فأغرق الكافرين والمستكبرين ومحا وجودهم من هذه الحياة الدنيا. بينما نجا المؤمنون الذين ملأت ذرياتهم الأرض من بعد الطوفان..
..فآيةٌ للناس، وعبرةٌ وعظةٌ في التاريخ البشريّ، كان ذلك الفلك المشحون. ومن أبرز دلالاته أنْ جعله المولى القدير تذكرةً لأهل العلم حتى يطرقوا بابَ صناعة السفن، فتكون لهم هذه السفن العامرة التي تمخر عباب اليم، وهذه الأساطيل العملاقة التي تجوب المحيطات، وهي تحمل منافع للناس، تماماً مثل ذلك الفلك الذي ملأه نوح (عليه السّلام) بالناس، وشحنه بالمؤن والمعدات، وبالطير والحيوان.. ثم ألا يوحي لنا التعبير القرآنيّ {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ *} [يس: 42]، بأن الخالق العظيم هو الذي أمدَّ العقل البشريّ بالطاقات التي أهَّلته لاكتشاف العلوم التي أدت إلى صناعة السفن، والطائرات، والقطارات، والغواصات، والسيارات وغيرها من وسائل النقل التي يركبها اليوم الإنسان، مثلما ركب نوح، والمؤمنون معه، تلك السفينة التي صنعها قبل الطوفان؟
على أنَّ هذه السفن التي تسير على سطح الماء وفقاً للسنن التي قدَّرها الخالق لتسييرها، تبقى خاضعة لأمره تبارك وتعالى، إذ لو يشاء لأغرقها بموجٍ عاتٍ، أو عاصفةٍ هوجاء، أو بأي سبب آخر هي ومن عليها، فيغرقون في الأعماق لا يسمع لهم صريخ ولا بكاء، ولا يقدر أحد على إغاثتهم، بعد أنْ يبتلعهم الماء في جوفه، أو أنْ يمدَّ لهم يد العون إلا أنْ يشاء ربّهم تعالى ذلك، فيبعث من وسط البحر - أو من وسط المحيط الواسع - سفناً لتنقذ تلك التي شارفت على الغرق، وهو ما يحصل في أغلب الأوقات، فتكون هذه النجاةُ رحمةً من الله تعالى وعبرةً لمن يعتبر.. فلا مهارة ولا قدرة من العباد للإنقاذ إلا أنْ يشاء ربّ العالمين. وهذه الرحمة منه - عزَّ وجلَّ - تجعل الذين شارفوا على الموت، يحيون إلى أجلهم المقدَّر، فيتمتعون في هذه الحياة الدنيا ونعيمها طوال المدة الباقية من حياتهم، بدلاً من أن يلفهم الموت، ويأخذهم العدم بالغرق، وذلك كله مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ *إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ *} [يس: 43-44] فسبحان الله الذي جعل لنا الآيات كلها لنهتدي إلى الحق المبين، فندرك ما أحاطنا به ربّنا الكريم من النعم - ومنها هذه الفلك المشحونة - وما تفضل علينا به من تسهيل سبل حياتنا، وما سخَّر لنا في السماوات والأرض، فنعبده حق العبادة، ونحمده ونشكره على ما هدانا، وما رحمنا..
خامساً - لا يكفي ماءُ البحار حبراً لكتابة علم الله الواسع ولو جئنا بمثله مدداً
يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا *قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف: 109-110].
قد نقترب من فهم ما يعني هذا النص الكريم، إذا تصورنا مقدار أحجام المياه التي تحويها البحار - كبيرها وصغيرها - فإذا مثّلنا كل تلك المياه بالحبر الذي يُكتب به، واستعملناها لكتابة علم الله، فإنَّها لا تكفي، وحتى لو جئنا بمثلها ومقدارها من الحبر. وما ذلك إلاَّ لأنَّ علم الله غير محدود، وتقصر العقول عن إدراكه، لأنه العلم الذي وسع كلَّ شيءٍ في السماوات والأرض!.. وواضح أنَّ هذه النصوص تحمل خطاباً من الله تعالى لنبيّه محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إبَّان معركة الجدل والحجاج التي كان الكفار والمشركون يفتعلونها للوقوف في وجه النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، كما تشير إلى ذلك أسباب التنزيل، وخاصة عند إعلان الدعوة، وعرض الإسلام على الناس في مكة وما حولها. ولذلك نجد في سورة الكهف - وهي مكية - التي ختمت بهاتين الآيتين (109 و110 من سورة الكهف)، كثيراً من الأدلة والبراهين التي تدحض كل الافتراءات والدعاوى التي كانوا يكذّبون بها النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، والتي كانوا لا يريدون من ورائها إلا إظهاره في مظهر العجز، ولا سيما عجزه عن الإتيان بالأشياء التي كانوا يطلبونها - والتي تشكل معجزاتٍ - حتى يؤمنوا له أنَّه رسول الله!..
وكان النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يواجه معركة التشهير والاستهزاء به، ومعركة التكذيب والافتراء عليه، بالوحي الذي يتنزَّل عليه قرآناً فيه قول الله الحق، وفيه من علم الله الواسع ما لا تقدر عقولهم القاصرة، والمنحرفة عن الحق والهدى، استيعابه وإدراك مراميه، إلا بتقريب معاني الآيات المنزلة إلى أفهامهم، كما هو الحال في هذا التشبيه المأخوذ من البحر، بما يشكل من واقعٍ ماديٍ، ومحسوسٍ في حياتهم، ولديهم تصورٌ كافٍ عن عمقه واتساعه، وعن كميات المياه التي يستوعبها والتي لو كانت مداداً - أي حبراً - نحاول أن نكتب به عن علم الله تعالى، وعن أنواع وأجناس الكائنات التي خلقها، وعما يتميّز به كل نوع أو جنس منها من الخصائص الذاتية، وما قدّر الخالق العظيم لها من السنن الخاصة بها، وكيف ربطها بالسنن العامة في الحياة والكون، التي تؤثر بها.. أجل، لو حوَّلنا مياه البحر (والمقصود مياه البحار جميعها في الأرض) إلى حبرٍ للإحاطة ببعضٍ من ذلك الخلْق العظيم، لأفرغنا البحر، وما قدرنا على تلك الإحاطة، ولو جئنا ببحرٍ مثله مدداً.. والسبب أنَّ علم الإنسان ضئيلٌ، ومحدود جداً بالنسبة لعلم الله الواسع، لأنه سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، ومصداقه قوله الحقُّ المبين: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ *} [البَقَرَة: 29].. فهل بعدُ، أجلُّ، وأعظمُ مما يوحي به الله تعالى من آياتٍ بيّناتٍ، ليكون لها ذلك التأثير القوي والشديد في النفس، وذلك عندما يعلم الإنسان بأنَّ ربَّه، وربَّ هذا الكون بأسره، هو الله العليم الحكيم، وقد أحاط بكل شيءٍ علماً، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا يفوته شأنٌ من شؤونها؟ ثم بعد ذلك نتساءل: ما هي قدراتنا نحن بني البشر، وما هي طاقاتنا التي نملك حتى نكون مؤهلين لأنّْ نبلغ من علم الله إلا ما يعلِّمنا هو سبحانه وتعالى؟
ولذلك يقف المؤمنون مشدوهين أمام قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا *} [الكهف: 109].. وقد يكون القصد كذلك من هذا التعبير القرآنيّ: {كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] ما في الكون كله من مخلوقات.. وهذا محال أنْ يصل إليه علم الإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة، ومهما جاء به من الاختراعات والاكتشافات..
وقد يكون القصد من قوله «كلمات ربّي» ما في آيات القرآن المبين من المعاني.. وهذه بدورها بعيدة عن متناول الإنسان لأنه عاجز فعلاً عن الإحاطة بكل مضامين هذا الكتاب الذي فيه تبيانٌ لكل شيء.
إذاً فماذا يريد الكفار والمشركون بعد؟! فهل يدّعون علماً ومعرفة؟ ولكن أين ما يدّعونه من علم ربّهم السميع العليم؟ أم هل يريدون إظهار عجز هذا النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي يبلّغهم عن ربِّه ما يُعجز سادتَهم وبلغاءَهم؟! فكيف الحال بهم والقرآن يمدّه بالبراهين، والأدلة، والقصص والعظات التي تجعلهم هم العاجزين حقاً؟ أم هل يريدون البقاء على كفرهم، والنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يرشدهم إلى سبل الهداية التي فيها النور المبين لظلمات نفوسهم؟!.
فقد أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس في أسباب نزول هذه الآية الكريمة: أنَّ عتاة المشركين في قريش لما سألوا اليهود عن أشياء يمكن أنْ تضعف حجة «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، قالوا لهم: سلوه عن الروح، فنزلت الآية الكريمة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *} [الإسرَاء: 85]. فقالت اليهود: أوتينا علماً كثيراً: أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً؛ فنزلت الآية: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا *} [الكهف: 109]، وهذا يعني أن علم الله لا تحيط به التوراة ولا الإنجيل، ولا القرآن نفسه، لأنَّ مضامين هذه الكتب السماوية - على شموليتها - تبقى يسيرة وقليلة مما يحيط به علم الله الواسع، لا بل والبشر لا يحيطون بشيء من علم الله إلاَّ بما شاء لهم من الإحاطة، فيبقى علمهم محدوداً في مقابل علم الله اللامحدود...
أما عن المعجزات التي كانوا يطلبونها، فكان النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يقول لهم دائماً ما مؤدّاه: إنَّما أنا بشر مثلكم، وما أبلّغكم إلاَّ ما يوحى إليَّ من ربي الكريم، الذي اختارني نبياً ورسولاً، وهو أعلم أين يضع رسالته، فليس لي أنْ آتيكم بمعجزات وخوارق مما تطلبون. ولكن ألا ترون بأن هذا القرآن الذي يُوحى إليَّ هو المعجزة بذاتها، وقد ثبت لكم إعجازه لأنكم لم، ولن تستطيعوا، أن تأتوا بشيء من مثله؟!
وكذلك فإنَّ من مضامين هذا الوحي إلى النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنْ يقول لهم ما معناه: إنَّما إلهكم إلهٌ واحد، فمن كان يأمل بلقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً، يغفر له من ذنوبه ويدخله في رحمته التي وسعت كل شيء..
وهذه الأمور هي من الحقائق المطلقة التي يقوم عليها كل الوجود البشريّ، وذلك بأن يكون إيمان الإنسان بوحدانية الله تعالى، وألوهيته وربوبيته، إيماناً مطلقاً فلا يشرك بعبادة ربّه مثل تلك الآلهة المدعاة الباطلة من الأصنام والأوثان والتماثيل، أو غيرها من الأشياء الأخرى التي لا قيمة لها، ولا معنى تستحق عليه العبادة. وعدم الشرك من الإنسان بعبادة ربّه أحداً، هو الحق اليقين لأنه هو الله الذي لا إلهٌ إلا هو، إلهٌ واحدٌ في السماوات والأرض. ثم ليعمل بعد ذلك عملاً صالحاً، مع ما يستوعب معنى «العمل الصالح» من أمور الخير والبر، والتقوى والصلاح، إلى آخر الباقيات الصالحات التي أشارت إليها الآية الكريمة بقول الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً *} [الكهف: 46] وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا *} [مَريَم: 76].
ولعلَّ الربط بين الآيات التي سبقت مباشرة الآيتين (109 و110) اللتين اختتمت بهما «سورة الكهف» ما يؤكد تلك الحقيقة المطلقة التي يتعلق بها مصير الإنسان في الحياة الآخرة، يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً *ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً *خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً *} [الكهف: 103-108]، فهذه الآيات تبين سبل الأعمال إلى الضلال والخسران، وسبل الأعمال إلى الإيمان والصلاح، والمصير الذي يتقرر للإنسان على أساس تلك الأعمال التي يتولاها في حياته الدنيا.. أجل تلك الأعمال التي يقوم بها الإنسان هي التي تقوده يوم القيامة إما إلى جهنم وساءت مقرّاً ومقاماً، وإما إلى جنّات الفردوس، وحسنت نزلاً ومستقراً. وتلك الأعمال التي يقوم بها الناس جميعاً - لا تشكل، في الحقيقة، إلاَّ بعضاً من كلمات الله، وهو يأمر سبحانه ملائكته بتدوينها في سجلات الناس.. إذ لو حاولنا أنْ نحصي فقط ما يقوم به الناس من الأعمال، دون شيء آخر، لاستحال علينا هذا الأمر، فكان حقيقاً على الناس أنْ يؤمنوا بأنَّ كلمات الله في القرآن لا قبل لهم على استنفاد معانيها، وكان حقيقاً على الناس أن يؤمنوا بأنه «لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ»، وأنه وحده يستحق العبادة، فلا شريك له في خلقه، ولا شريك له في ملكه، ولا شريك له في عبادته، بل وكان حرياً بكم أيها الناس أَنْ تتزودوا من علم الله الذي أودعه قرآنه المجيد، وتجسّدوه من ثَمَّ عملاً صالحاً.. ولئن فعلتم، وأتممتم ذلك، فهو - والله - توفيقٌ من ربّكم الذي يهديكم إلى الصراط المستقيم، والفوز بجنات النعيم.
سادساً - أمرُ الله تعالى نافذٌ ومحقَّقٌ كَلَمْحٍ بالبصر
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ *} [القَمَر: 49-50].
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *} [القَمَر: 49].. فهو الله الخالق البارئ المصوِّر. خالق كل شيء، بلا استثناء، فلا يكون أيُّ شيء في الوجود كله، إلا من خلق الله تعالى. بل وكل شيءٍ كان خلقه بقَدَرٍ مقدَّر، وفقاً لما قضت به حكمة المولى السنية، ليكون في جنسه، ونوعه، وهيئته، وصفاته وخصائصه على النحو الذي جعلَه به أمر الله، بلا زيادة ولا نقصان.. وبحيث يقوم بوظيفته، أو بعمله، وفقاً لما هو مقدر له تماماً.. وبحيث يرتبط في وجوده، وفي تأثيره وتأثّره بغيره من المخلوقات بالسنن والقوانين والأنظمة التي قدَّرها الخالق للوجود بأسره..
ولعلَّ في هذا النص القرآنيّ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *} [القَمَر: 49] ما يجيب على تفكير الإنسان في أمر خلقه، أو في أمر خلق السماوات والأرض، والأسئلة التي قد تشغل باله: كيف كان هذا الخلق العظيم، ولِمَ كان، وعلى أي شيء كان؟ ومن حق الإنسان، وقد حباه خالقه بملكة العقل والإدراك، أن يفكر ويقدِّر، ولكن بشرط أنْ يأتي تفكيره متوافقاً مع الفطرة التي فُطر عليها، فلا يُجافي سلامة هذه الفطرة، ولا يجعلها تنحرف عن أصالتها، وإلا قادَهُ تفكيره وتقديرُهُ إلى الضلال، والضياع عن الحقيقة التي يطمئن إليها قلبُهُ، ويهديه إليها عقله. فالمهم أن يكون الإنسان منصفاً مع نفسه، ومستقيماً في صلته بخالقه العزيز الحكيم، وإلا ابتعد عن التقدير السليم.
والحقيقة أن انصراف الإنسان إلى التفكير في سر خلقه وإيجاده، إنما هو بحكم ما في طبعه من ميل للمعرفة، والتعلم، والاكتشاف، وبخاصة محاولاته في استشفاف المجهول، وما قد يحيط به من الأسرار.. والخالق العظيم لا ينهى الإنسان عن التفكير بما يهمُّهُ أو بما قد يشغل باله. لا بل يدعو سبحانه عبادَهُ إلى التأمل للاهتداء إلى الحقائق، وحضَّهم على التفكير والتأمُّل، لأنَّه جَبَلَ تبارك وتعالى في طباعهم ملكة التعلّم والمعرفة وهو عليم بهم، وخبير بنوازع نفوسهم لأنه هو الذي خلقهم، إذاً: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *} [المُلك: 14]؟..
ولكي يكون الناسُ على بصيرةٍ من أمر الخلق فقد أنزل إليهم ربهم الكتب السماوية التي تدلهم على حقيقة هذا الخلق، وتبين لهم سبل العلاقة التي تربطهم بخالقهم، ليعلموا بأنَّ الله هو خالقهم، وهو ربّ السماوات والأرض، وأنَّ وجودهم يقوم على العبودية لله وحده، وأنَّ من شأن ذلك أنْ يزيح الغشاوة عن بصائرهم فلا يقعون في الشك، والحيرة، وفي التردد بين عبادة الله الواحد الأحد، وعبادة مخلوقاتٍ له.. فإذا قُدِّر للإنسان أنْ يهتدي إلى هذه الحقائق، التي تدله عليها الكتب السماوية، فإنه يؤمن حينئذٍ بأنَّ كل شيء هو من خلق الله العليّ العظيم، وأنه - سبحانه وتعالى - قد خلق كل شيء بقدَرَ من أصغر حشرةٍ، أو ذرة في الأرض، إلى أكبر الأجرام والمجرات في السماء. وبمقتضى هذا التقدير السنيّ كان التناسق الكامل في الوجود، وكان الانتظام الشامل في الكون..
والقرآن الكريم يبيّن كثيراً من الأدلة على حقيقة التقدير الإلهي، ومن الأمثلة عليها:
قول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى *} [الأعلى: 1-3]. وقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ *مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ *مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ *} [عَبَسَ: 17-19]. وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدر تقديرا} [الفُرقان: 1-2]. وقوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *} [الأنعَام: 96].
فسبحان الذي خلَقَ كلَّ شيءٍ بقَدَر، وبأمره النافذ الذي لا يتعدّى المرَّةَ الواحدة في الخلق والتقدير: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ *} [القَمَر: 50].
يقال في اللغة: لمَحَ البصرُ، يَلمَحُ لَمْحاً: امتدَّ إلى الشيء.
ولمَّح إلى الشيء: أشار.
واللَّمْحَة: النظرة العجلى، وهي اسم من اللَّمْح.
فيكون المعنى: وما أمرنا لشيءٍ نريد خلقه إلا أنْ نقول له مرةً واحدةً: كن، فيكون، أي كائناً في وجوده، وحالاًّ في كينونته مثل لمح البصر، أي بقدر هذا الزمن القصير الذي تستغرقه النظرة العجلى عندما تلمح الشيء..
وهذا هو أساس الخلق، وسنَّةُ الله تعالى في خلقه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس: 82].
أجل إنما هي كلمة واحدة: «كن».. هذه الكلمة هي «أمر» يصدر لمرةٍ واحدةٍ، فلا يحتاج إلى إعادة، ولا تكرار، ولا تتابع، ولا فسحة في الزمان والمكان. إنه مجرد الأمر الواحد، في المرة الواحدة ويوجد الشيء على الكينونة التي يريدها الخالق.
ولا يعني «لمح البصر» تحديداً زمنياً، إنما هو تشبيه لتقريب المعنى إلى حسّ البشر. فالزمن هو مقياس بشريّ، ينظِّم به البشر أوضاعهم وحالاتهم، وحركاتهم وسكناتهم، حتى لا يعيشوا في فوضى، أو في فراغ، أو في تقلبات لا تخضع لقواعد ضابطة، ومقاييس معينة..
أما بالنسبة إلى الخالق العظيم فلا زمن، ولا حدود، ولا مقاييس لأمره في الخلق والإيجاد.. بحيث لا يمكن أنْ نتصور فارقاً زمنياً بين الأمر وتحققه، فهما: أمرٌ فخَلْقٌ، أمرٌ فوجودٌ، أمرٌ فتدبيرٌ، أمرٌ فحياة، أمر فموتٌ.. فكل شيءٍ خاضعٌ لأمر الله عزَّ وجلَّ إذا أراد شيئاً أنْ يقول له: كن فيكون. فكل شيء محكوم في خلقه إلى أمر الله، وكل شيء محكوم في تدبيره إلى أمر الله، فلا يكون لمخلوقاته شأن من الشؤون إلا بأمره، فإذا شاء: كان، وإذا لم يشأ: لم يكن، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا *} [الطّلاَق: 3]. وكما هو أمر الله تعالى في الخلق، إذ يقول للشيء: «كن فيكون» كـلمحٍ بالبصر، كذلك أمر الله عندما يتنزل بهلاك الكافرين، إذ جاءت الآية الكريمة {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ *} [القَمَر: 50]، بعد تبيانٍ لصور العذاب الخاطف الذي أهلك، ودمَّر على قوم نوح، وعادٍ، وثمود، ولوطٍ، وآل فرعون[*].. ثم أتبع صور ذلك الإهلاك بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ *يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ *} [القَمَر: 47-48] وهذا يعني أنَّه كما بيّن لنا العذاب الذي حلَّ بهم في الدنيا، يبيّن لنا كذلك العذاب الذي سوف يحيط بهم في الآخرة.. فهل من يتذكر ويتّعظ، وقد يسَّر ربُنا تعالى القرآن للقراءة وإدراك ما حلَّ بأولئك الأقوام، والاتعاظ بهم من كل معتبرٍ ومتّعظ، مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} [القَمَر: 17].
وهكذا يتبيّن لنا - من الفقرات السابقة - أنّ مثل تلك الصفات العليا والجليلة هي لله سبحانه وتعالى:
من حيث كونه الخالق العظيم (أولاً)،
ومن حيث إنه لا مَثَلَ له (ثانياً)،
ومن حيث إنه نور السماوات والأرض (ثالثاً)،
ومن حيث إنَّ مرد القوى لله جميعاً (رابعاً)،
ومن حيث إنَّ علم الله واسع ولا ينفد (خامساً)،
ومن حيث إنَّ أمر الله نافذ كـلمحٍ بالبصر (سادساً)..
أجل، إنَّ هذه الصفات التي يتفرد بها رب السماوات والأرض حرِيّة بأنْ تزرع الإيمان وتوطِّنه في القلوب والعقول، فيوقن الإنسان بحقيقة وجود الله تعالى، وبأحقية عبادته وتقديسه، ولذا كان الاعتقاد بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا من أواصر الإيمان الحق.
الفقرة الثانية - الإيمان بملائكة الله وكتبه
يقول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البَقَرَة: 285].
وانطلاقاً من التوجيه القرآنيّ الذي يبيّن الأركان الأساسية لعقيدة التوحيد، يبدو لنا جلياً أن الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى يستتبع - حكماً - الإيمان بملائكته وكتبه..
أما من حيث ملائكة الله فيرد ذكرها في مواضِع متفرقة من كتابه المجيد، ولا سيما في الحديث عن معتقدات أولئك المشركين الذين توهموا بأن الملائكة بناتٌ لله، وقد نزَّه تعالى نفسه عن أنْ يتخذ صاحبة، ولا ولداً، أو أن يكون له شريك في الملك.. ولذلك لم نفرد نبذة خاصةً للملائكة، لا سيما وأنه لم يرد عليها المثل في القرآن الكريم، فانحصر بحثنا في كتب الله باثنين: اللوح المحفوظ، والقرآن الكريم، دون أنْ نتطرق للبحث في التوراة والإنجيل لسببين:
الأول: عدم الإلمام بنصوصهما بصورة كافية، مما قد يوقعنا في الخطأ الذي نخشاه.
والثاني: وهو ما يرتبط بالـسبب الأول، إذ أنَّ ما لحق بالنصوص، التي أنزلها الله تعالى في هذين الكتابين الـسماويين، من التحريف، والـتأويل والـدسَّ، فأضاع بعضاً من قداسـتها التي أنزلت بها من عند الله تعالى، يجعل تناولها بدقةٍ وصدقٍ أمراً صعباً، إلاَّ ما يتوافق منها والقرآن، بصفته من الكتب الـسماوية الـمقدسة، وهو الكتاب الذي حفظه الله تعالى من أي إدخالٍ أو تحريف!..
هذا مع التوكيد على أنَّ إيمان المسلم لا يكتمل ما لم يؤمن بصدق التوراة، وصدق الإنجيل وسائر الزبر التي أنزلت من الله تعالى على رسله الكرام، وهذا الإيمان بكتب الله ورسله هو ما تهدي إليه الآية 285 من سورة البقرة، التي أوردناها في مطلع هذه الفقرة.
أولاً - ماهية اللوح المحفوظ
اللوح المحفوظ، كما يقول بعض المفسّرين، هو كتابٌ كبير الاتساع والشمول، كائن في السماء السابعة، وقد أحصى فيه الله تعالى كل مخلوقات الأرض من حيث إنشائها، وتسييرها، ووظائفها، ومصائرها، وما يمحو الله تعالى ويثبت في هذا الكتاب، من شؤون مخلوقاته ..
وقد عبَّر القرآنُ الكريم عن «اللوح المحفوظ» بعبارة «أم الكتاب»[*]، أو بلفظة «الكتاب»[*].
ولم يرد النص على «اللوح المحفوظ» مباشرة إلاَّ في آية واحدة من القرآن، بقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} [البُرُوج: 21-22].
ويتبيّن لنا معنى «اللوح المحفوظ» من حيث شموليته لشؤون الخلائق في الأرض بقول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *} [الأنعَام: 38].
ونكرّر بأنَّ هذا الكون واسع فوق حدود التصوُّر، كما تدلّ على ذلك اكتشافات علم الفلك الحديثة. وكلما توغَّل الإِنسان في أعماق هذا الكون، تبين له أنه ما يزال بعيداً جدّاً عن إدراك حدودٍ له أو نهاية.. إذ من الواضح عجز علم الإنسان عن معرفة أين تقع نهاية الكون التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى وحده.. ومن المعروف أنه في مدارٍ ما من هذا الكون الشاسع، كتلة كروية صغيرة هي الأرض التي احتوت إلى جانب الجنس البشريّ أجناساً كثيرة ومتنوعة من الحيوان والطير والدَّابة، وكلٌّ يعرف فيها معاشَهُ، ويسعى إليه... وهذه المخلوقات كلُّها قد أحصيت جميعها في «الكتاب»، أي اللوح المحفوظ بلا أدنى تفريط، كما يبيِّن لنا ربُّ العالمين ذلك بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعَام: 38]..
وإذا كان الله تعالى قد جعل الناس شعوباً وقبائل متفرقة، فإنه جعل من تكاثرها تلك الأمم التي تملأ الأرض في شرقها وغربها. ومثل هذه الأمم من الناس، فإنَّ القرآن الكريم يبيِّن لنا أنَّ الكائنات الحيّة الأخرى هي أمم أمثالنا، أي أنَّ كلَّ ما خلق الله من دوابَّ تدبُّ على الأرض برجليها، أو من زواحف تزحف على بطنها، أو كل ما خلق من طير يطير بجناحيه.. إن هي إلا أجناس متعددة، وأصناف متنوعة، تختلف في أشكالها وأنواعها، مثل اختلاف الناس في تعدد أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، وطرائق عيشهم. وتلك الدواب على تعدد أصنافها، وأعدادها الغفيرة من كل صنف، تُعرف بسمات معيَّنة، وبخصائص تميّزها عن بعضها البعض، لتكون مثل الناس، في خَلْقها من حيث الإِبداع في الخلق، وجميل الصنع في الهيئة والتكوين، وليكون كل جنس منها بمثابة أمةٍ، ولو تنوعت إلى جماعات متعددة.. وقيل إنما مثَّلت الدوابُّ والطيور بالأمم من الناس نظراً لحاجتها إلى مدبِّرٍ يدبرها في أغذيتها، ونومها، ويقظتها، وهدايتها إلى منافعها، وإلى آخر ما لا يُحصى من أحوالها ومصالحها!.
وهذا التنوع في الكائنات الحية: من الناس، والحيوان، والطير والحشرات، وما يختصُّ به كل جنس من خصائص مميزة عن غيره من الأجناس الأخرى، بل وما في الجنس الواحد من تنوع كثير، إنْ في فئاته وأشكالها، أو في سبل عيشها في البر والبحر، واهتدائها إلى طرائق هذا العيش.. كل ذلك خير دليل، وأكبر برهان على أنَّ الله هو الخالق العظيم، وأنه على كل شيء قدير؛ فقد قدَّر لكل كائنٍ حيٍّ حياتَه، ومماتَه، ورزقَهُ وعملَه، مثلما قدَّر له تكوينه البيولوجي والنفسي.. وهذا كله محفوظ بأمر الله في «اللوح المحفوظ»، كما هو مقدر في علمه الأزليّ.. فما من شيء يتعلق بحياة الإنسان، سواء بصورته وحركته، أو أفعاله وأقواله، أو ما تنطوي عليه نفسه من النوايا، والمدارك والمشاعر، بل وحتى النفَس الذي يتنفَّسه، إلا وهو محصيّ عليه، ومحفوظ في كتاب المخلوقات كلها، الذي هو اللوح المحفوظ.. وهذا ما يثبته القرآن المجيد عندما يبيّن لنا أنَّه ما من إنسانٍ إلاَّ ويوكل به الله تعالى ملائكةً تدوِّن كل شيء عنه، من قولٍ أو فعلٍ، مهما كان صغيراً أو كبيراً، حتى ولو كان عمله مثقال ذرة من خيرٍ أو شرٍ، فهو مدوَّن، ومحصيّ عليه. وأما الغاية فلكي يكون كتاب كل إنسانٍ حاضراً يوم الحشر، وعلى مضمون هذا الكتاب يكون حسابُهُ وجزاؤُهُ.
والحشر لا يكون للناس وحدهم، بل إن الكائنات الحية الأخرى من الحيونات والطيور والحشرات سوف يكون لها حشرٌ أيضاً مثلنا نحن بني البشر، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *} [الأنعَام: 38]؛ أما لماذا حشر تلك الكائنات، وهي ليست عاقلة ولا مدركة، فإنَّ عقولنا تقصِّر عنه، ولا نقدر على إدراك كنهه. وقد روي عن أبي ذر الغفاريّ (عليه السّلام) ما يبيّن الغاية من قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *} [الأنعَام: 38]، إذ قال أبو ذر: «بينا كنا مع رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إذ انتطحت عنزتان، فقال لنا: أتدرون فيما انتطحتا؟ قلنا: لا ندري يا رسول الله. قال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «لكنَّ الله تعالى يَعلَمُ، وسَيَقْضي بينَهُما»[*]. ومن قبيل ذلك أيضاً أن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قال: «لتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلِها يومَ القيامةِ حتَّى يُقادَ للشّاةِ الجَلْحاءِ من الشَّاةِ القَرْناءِ»[*].
وما تجدر الإشارة إليه أنَّ جماعةً من أهل التناسخ قد استدلت من قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *} [الأنعَام: 38] بأنَّ البهائم والطيور هي مثل البشر في التكليف.. وهذا لغوٌ باطلً، لأن القصد من عبارة: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعَام: 38] هو إفهامنا بأنَّ الدواب، والبهائم، والطيور على سطح الأرض، وكذلك حيوانات البحر، هي في كثرة أجناسها، واختلاف أحوالها مثل الجماعات البشرية من الناس في تنوعها وتعددها..
أما جعل الناس بمثل هذا التنوع من الشعوب والقبائل[*] فمن أجل الغاية التي أرادَها الخالق لهم، وهي التعارف فيما بينهم، أي التعارف الذي يؤدي إلى اجتماع جهودهم، وتضافر قواهم لإِعمار الأرض. فهذا الإعمار يقتضي له التنوع في الذهنيات، والطاقات، وفي الخصائص والمميزات عند الناس، كما يقتضي له أيضاً التعدّد في الأجناس والألوان والمواطن.. وكل ذلك يعتبر غنىً للناس، بما تغنى به عمارة أرضهم.. وأما الكائنات الأخرى من غير الجنس البشريّ، فإن وجودها كان حتمياً كما قضى الله تعالى منذ الأزل، وذلك لاستمرارية الحياة، وإقامة التوازن بين الأحياء في الأرض نظراً لما جعل الله لتلك الكائنات من منافع للناس، تساعد على بقاء الجنس البشريّ، إلى أنْ يرث الله تعالى الأرض ومن عليها..
إذاً فالأمر لا يعدو كونه إفهاماً لعقولنا بأن المخلوقات والكائنات الحية على اختلافها، هي في تنوع أجناسها مثل الناس، ولا يتعلق بأي تكليفٍ لتلك الكائنات، لأنها في قوام خلقها ووجودها، هي كائنات تفتقر إلى ملكة العقل والتمييز، والتكليف لا يصح، بل ولا يكون أصلاً، إلا مع كمال العقل، والقدرة على التمييز..
صحيح أنَّ الحيوانات والطيور والحشرات هي من الأحياء التي أوجد فيها خالقها الغرائز التي تهديها إلى مساراتها، وإلى ما فيه نفعها، ولكنها - قطعاً - لم تخلق لتكون موضع تكليف، ويكون حشرها على أساس هذا التكليف.. فالتكليف هو الذي يميّز بني البشر عن غيرهم من الكائنات الحية الأخرى.. ثم إنَّ هنالك أمراً آخر شديد الأهمية ترمي إليه الآية (38) من «سورة الأنعام» وهو أنَّ خلق أي كائنٍ، ومهما كان نوعه، لم يكن خلقاً عبثاً، بل هو مقدر في «اللوح المحفوظ» منذ أنْ خلَقَ الله السماوات والأرض، وبمقتضى الحكمة الإلهية من هذا الخلق، ولا نملك نحن البشر أيَّ شيء عن حكمة الله تعالى، وعن تقديره في خلائقه. ولكننا بعد القرآن، وما أتى به من البيان والتبيين، أصبحنا نملك المعرفة التي تؤكد لنا بأنْ ليس في وجودنا البشريّ، والأرضيّ أية مصادفة أو عبثية، بل كل شيء محكوم بعلة خلقه، وسبب وجوده، وأنَّ أمر هذا الوجود من حيث كيفية التسيير، والتدبير، والانقياد في الحياة والممات، إنما يخضع لما يشاء الله ويريد.. والأدلة على ذلك الآيات المبثوثة في الكون، من فوقنا ومن تحتنا، وفي أنفسنا، ومن حولنا، وكلها تبرهن، وتؤكد على الحقيقة الساطعة، حقيقة وجود الله تعالى، وبأنَّهُ هو الخالق العظيم، والمدبر الحكيم {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى *} [الأعلى: 2-3].. لذلك فكلُّ ما في الوجود - مما علم الانسان وما لم يعلم - من الكائنات الحية والجامدة، قد أحصيت في «اللوح المحفوظ» الذي ما فرَّط الله تعالى في هذا الكتاب من شيء يتعلق بمخلوقاته.. فحريّ بالإنسان النظر بآيات الله - أي مخلوقاته - نظر عظة واعتبار، والتفكر بها تفكير تدبّر واستدلال، فيؤمن بالله، وبأنه على كل شيء قدير..
ثانياً - الإيمان بحقيقة القرآن
لقد حملت رسالةُ الإسلام، التي بُعِثَ بها محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، في خاتمة مطاف الرسالات السماوية إلى دنيا الأرض، عقيدةَ التوحيد بكمالها وتمامها، لتكون العقيدة الحق، وعقيدة الإخلاص لله ربّ العالمين، وهي - بالطبع - نقيضةٌ للكفر والشرك والضلال، لأنَّ قوامها عبادة الله الواحد الأحد، والإيمان بما أنزل الله من كتب، والتصديق بأنبيائه ورسله، وأنَّ الجنة حق، وأنَّ النار حقّ، وأن الله يبعث من في القبور، وإليه النشور.. وهذا ما كان يستدعي من المسلمين مجابهة الأنظمة الجاهلية القائمة على الشرك، والفساد والفسق، والفجور، والظلم في حياة الناس، ليكون الحكم بما أنزل الله تعالى، فتستقيم سبل الصلاح والإصلاح، وتعتمد المناهج القيّمة للدين والدنيا.. ولكنّ الكافرين والمشركين لم يرضوا - ولن يرضوا - بذلك، فقام شياطينهم يتصدون للدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة، شأنهم شأن أمثالهم من السابقين الذين وقفوا في وجه دعوات النبيين والمرسلين، يشنون عليهم حروب التكذيب والاستهزاء، ويتعرَّضون لهم ولأتباعهم بحملات الأذى والتعذيب والقتال؛ بل ولم يتورع بعض الأقوام، مثل اليهود عن قتل النبيين بغير حقٍّ، إلاَّ أن يقولوا: «ربُّنا الله».. والأسباب وراء ذلك واضحة، ويأتي في طليعتها صرف الناس عن تلك الدعوات، والحؤول بينهم وبين الدخول في دين الله، لأنه لو أتيح لتلك الدعوات المجال، وانتصرت بتعاليمها السماوية، لكان خليقاً بها أنْ تسقط عروش السلاطين والملوك، وتذهب بسلطانهم الجائر، وتزري بجبروت المستكبرين، والظالمين والمفسدين، لتقيم، من ثَمَّ، بديلاً عن ذلك كله، موازين الحق والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة الناس.. وعلى هذا فإننا لا نجد، وعلى امتداد التاريخ البشري، أنَّ نبيّاً قد سَلِمَ من تكذيبٍ أو أذىً في بني قومه، أو خلت دعوةٌ رسوليةٌ من مواجهة طواغيت زمانها.. فكان من المحتوم ألاَّ يكون خاتمُ النبيين محمدٌ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أفضلَ حالاً من ثلة المختارين الذين سبقوه في حمل دعوات ورسالات الله إلى عباده، إذ ما إنْ أعلن نبوته ورسالته، وظهرت دعوته للإسلام، حتى هاج عنفوان الكفر والشرك في قلوب الأميين في مكة، واليهود من أهل الكتاب في يثرب، فانبروا لمناهضته، ومنع الناس من الدخول في دين الله... ولكنَّ القرآنَ الذي كان يتنزّل عليه وحياً من ربّه العزيز الحكيم، لم يسكت عن الكفَرَة الفجرة، وأعداء الله والإنسانية، فحملت عليهم آياته المبيّنات حملةً شعواء، تسفّه أحلامهم، وتصفع وجوههم التي كانوا يتعبدُّون بها للأصنام، وتدين انصياعهم لأرباب متفرقة اتخذت الأطماع الدنيوية آلهةً من دون الله تعالى.. وذلك في الوقت الذي تفنّد الحجج الباطلة التي يدَّعون، وتقضي على الأكاذيب، وأقاويل الزور والبهتان التي يختلقون.. إذْ حيثما كانوا ينكرون حقيقة القرآن، ويدَّعون بأنه من تأليف محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، فإنَّ آياته المعجزة كانت بذاتها الحقّ الذي يدمغ عقولهم، لتثبت وتؤكد أنَّه منزل من عند الله عزَّ وجلَّ، وبأنه قول الحق تبارك وتعالى، ويتنزَّل بالحق الذي لا مرية فيه، وقد أنزله الله قرآناً عربياً - بلسان عربي مبين - لأنَّ الرسول الأعظم الذي اختاره ربُّ السماوات والأرض لحمل الدين الكامل، والرسالة الخاتمة، هو إنسان عربي المنبت واللغة، وحكمه حكم سائر النبيين والمرسلين الذين كان كل واحدٍ منهم يُبعث بلسان قومه، فكان لا بدَّ أن يكون القرآن عربياً، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [طه: 113].. أي مثل ما أنزلنا الكتب والزبر، كل واحد بلسان القوم الذي بعث إليهم رسولهم، كذلك، أنزلناه قرآناً عربياً، لأنَّ محمّداً هو النبيُّ الأميُّ العربيُّ ولسانه لسان عربي مبين..
ويقول الحقُ تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ *} [الحَجّ: 16]، أي ومثل ما أنزلناه {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *} [الزُّمَر: 28]، كذلك أنزلناه آياتٍ بيّناتٍ: واضحةَ الدلالات، والحجج والبراهين، والعظات، ليكون هدى ورحمة للناس، وأنَّ الله يهدي من يريد هداه إلى هذا القرآن وآياته البيّنات، فيكون من الصالحين. ويقول ربُّنا تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ *} [العَنكبوت: 47].. أي وكما أنزلنا التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وما سبقهما من الكتب التي أنزلناها إلى رسلنا، كذلك أنزلنا إليك يا محمّدُ الكتاب المبين، هذا القرآن المجيد.. فالذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى يؤمنون به، إنْ كانوا من المهتدين؛ ومن أهل مكة من يؤمن به كذلك، وهم الذين يصدقونك، ويؤمنون بنبوتك، وبما أنزلنا إليك من آيات بيناتٍ تتلوها عليهم... وما يجحد بآياتنا، بعد أن تبيّنها للناس، إلاَّ الكافرون..
أ - نزول القرآن متفرقاً
يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً *وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *} [الفُرقان: 32-33].
فالسؤال: لماذا أنزل الله القرآن على قلب محمدٍ منجَّماً - أي متفرقاً - ولم ينزِّله جملةً واحدةً؟ وهذا ما يجيب عليه القرآن الكريم نفسه بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً *} [الإنسَان: 23]، وبقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً *} [المُزّمل: 4-5]. وقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ *} [القِيَامَة: 16-19].
وقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً *} [الإسرَاء: 105-106].
إنها الحقيقة - بل هي أم الحقائق الإيمانية المطلقة - وهي أنَّ هذا القرآن هو قول الله الحقّ، فلا ريب فيه، وأنَّه منزّل من عند الله تعالى، على قلب محمّد رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) والدليل على ذلك أنَّ القرآن كان منذ نزوله المعجزة الحسية الثابتة، التي لا يستطيع أحدٌ أنْ ينقضها فعلاً - لا قولاً بهتاناً - ، أو أنْ يأتي بمثلها، وأنَّ هذا الدليل ما يزال قائماً أمام بصر وبصيرة العالمين، دون أنْ يقدروا على أنْ يأتوا ولو بسورة واحدةٍ من مثله .. وهم - حكماً - عاجزون عن ذلك «ولن» يقدروا أن يفعلوا.
ثم إنَّ هذا القرآن - وهو قول الله - لا يطيق قلبٌ، حتى ولو كان قلب محمّد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، أنْ يتلقاه، ويحمل ثقله وشدته، إلاَّ أنْ يشاء منزِّلُ هذا القرآن ذلك، فكان محققاً بمقتضى قضاء الله أن يُنزَّل القرآن متفرقاً طوال فترة الوحي التي امتدت على مدى ثلاثٍ وعشرين سنة، وذلك لكي يثبِّت به الباري قلب رسوله الأمين، فينهض مطمئناً لحمل أعباء التبليغ، وهدي الناس إلى الصراط المستقيم.
وكان النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ينقل الآيات كما تنزَّلت عليه بحرفيتها، ليعود فيودعها صدور قوم مؤمنين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فساروا على هدى دينه القويم، وصراطه المستقيم، بما كان القرآن يفعله في نفوسهم، وهم يتابعون نهج رسولهم الكريم، الذي دأب على تعليم الصحابة الآيات التي تتنزَّل عليه، وذلك بتحفيظهم إيَّاها عن ظهر قلب، وتفسيرها، وشرح معانيها بكل ما تحفل به من الأفكار، والمفاهيم، والقيم، والأحكام والمواعظ.. وقد اتبع النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) مثل هذا الأسلوب التعليميّ التثقيفيّ ليسهل معه على الصحابة استيعاب الحقائق القرآنية، ويجعلهم مؤهلين لأنْ يكونوا الدعاة إلى دين الله الحق. وهذا ما يشير إليه قول ابن مسعود (رضي اللَّه عنه): «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لا يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن».
وبالفعل فقد حفظ التاريخ الإسلاميّ تلك الصورة الناصعة والمشرقة للمسلمين الأوائل، بما قدَّموا للإسلام من عزة ومنعة، وبما تربَّوا عليه من طاعة لربّ العالمين، وامتثالٍ لأمر الرسول الكريم، وبذلك امتلكوا تلك الثقافة الإسلامية العميقة، حتى أشربت بها قلوبهم: تلقيّاً، وحفاظاً، وتلاوةً، وفهماً واستيعاباً بفضل النبيِّ الأعظم، الذي أنشأ لهم دارةً بمثابة مدرسة، حيث كانوا يجتمعون في بيت الأرقم بن أبي الأرقم لتلقّي ما يعلّمهم إياه من آي الذكر الحكيم الذي يتنزَّل على قلبه الشريف تنزيلاً، لما فيه من القول الثقيل الذي يحمل الحق من ربّه تعالى، وبه تمتلئ كلمات الله التامة بالحقائق المطلقة عن الكون والحياة والإنسان.. وهذا ما يستدعي حضور الفؤاد كاملاً، ولا يقدر قلبٌ على تلقيه إنْ لم تتنزل الآياتُ تباعاً، والقرآنُ متفرقاً.. وهذه الحقيقة التي يدلُّ عليها القرآن بذاته لم يكن ليدركها، أو ربما تعمّد عدم إدراكها، أولئك الذين أشركوا بعبادة ربهم، ولم يصدّقوا محمداً رسولَ الله بما يتلوه عليهم من الحق. فانبروا يذيعون بين الناس، وبخبثٍ ودهاءٍ، أنَّ هذا القرآن، لو كان حقاً من عند الله، لنزل على «محمد» دفعة واحدةً، كما كانت الحال في التوراة والإنجيل والزبور!. فجاء الرد عليهم، بما خاطب به الله تعالى نبيَّه محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ما مؤداه: إنَّا ننزّل عليك يا «محمد» القرآن متفرقاً، لنقوّي به فؤادك في حمل العبء الثقيل، حمل الأمانة التي عُرضت على السماوات والأرض فأشفقن أنْ يحملنها!.. وقد نزَّلناه كتاباً مبيناً فيه آياتٌ محكمات وأخر متشابهات قد فصلت من لدن حكيم خبير، لتقرأها على الناس على مكث، بما يتناسب وطاقاتهم الذهنية والشعورية، فتأخذها نفوسهم عن قناعة، وتمتلئ بها قلوبهم عن يقين.. ولن يكون ذلك إلاَّ بترتيل القرآن ترتيلاً، وتبياناً للحقائق التي لا يمكن استيعابها إلاَّ بالإنزال المتفرق الذي يتبع بعضه إثر بعض...
فالترتيل هنا هو التبيين، كما شاء ربنا أن يكون هذا التبيين بحكمته البالغة، وعلمه المحيط بحاجات القلوب، واستعدادها للفهم والتأثر.
وقد روي أنَّ النبيَّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قال لابن عباس: « يا بْنَ عباس: إذا قرأتَ القُرآنَ فرتِّلْهُ تَرْتِيلاً. قال ابنُ عباس: وما الترتيلُ يا رسول الله؟ قال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) : بَيِّنْهُ تَبْيِيْناً، ولا تَنْثُرْهُ نَثْرَ الدُّقْل[*]، ولا تَهُذَّهُ هَذَّ الشِّعْر[*]. قُفوا عندَ عَجَائِبِهِ، وحرِّكوا بِهِ القلوبَ، ولا يكونَنَّ هَمُّ أحدِكُمْ آخرَ السُّورَة»[*].
وأما قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *} [الفُرقان: 33].. فهو يبيّن أن الكافرين والمشركين قد اعتمدوا في الحجج التي يسوقونها على الأمثلة، كإحدى الوسائل لمخاصمة النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ومحاولة تعجيزه، فنزل عليه القول الحق يطمئنه بأنَّ كل ما يأتونك به، ويظنون أنه قد يحمل معانيَ كبيرة وهامة ليس إلاَّ مجرد زعم باطل.. فلا يأتونك بحجة، أو يضربون لك مثلاً إلا جئناك بأحقّ منه، وأحسن تفسيراً وتبياناً للحقائق لأنه من لدنّا؛ وكفى بالحق الذي جئناك به أنْ يكون أبلغ لفظاً، وأوسع بياناً، وأبعد معنًى، ليكون أشدَّ تأثيراً في النفوس، وأكثر ملامسة للقلوب من كل ما يأتونك به، والذي لا يعدو كونه غثاً، لا يدل على حقيقة، ولا يؤدي إلى هداية.. وكان هذا هو الردّ القرآني دائماً.. ولكنْ أين الأذن التي تسمع، والقلب الذي يخشع، والعقل الذي يتفكَّر؟!
ب - تحدّي القرآن للثقلين أن يأتوا بمثله.
التحدي، لغةً، المباراة أو المغالبة..
وهذا يعني، في الواقع، العزم على المواجهة، والتصدّي لمحاولة تشويه أمر ما، من أجل إثباته على حقيقته، كما هو الحال مثلاً في مناهضة الجهود الفكرية والمادية التي تعمل على طمس حقيقة معينة، فينبري من يتصدّى لتلك الجهود من أجل إظهار مصداقية هذه الحقيقة وإثباتها، حتى تبقى قائمة ومعمولاً بها، أو النهوض مثلاً لمناصرة حقٍ يُراد هدره أو محوه.. وكذلك الحال في كل أمرٍ، أو قضيةٍ أو شأنٍ يهمُّ الناس، ويتطلب تحديد الموقف منه، أو اتخاذ القرار حياله.. ومن الطبيعي أن تختلف مواقف الناس تجاه القضايا، والشؤون والأحداث التي تواجههم باختلاف الغايات والأهداف التي يتوخونها، كي تتحدد على أساسها العلاقات فيما بينهم. وليس من الضروري أنْ يكون الهدف - دائماً - نبيلاً وقويماً، بل ربما تكون الأهداف الدنيئة والملتوية هي التي تغلب على مصالح الناس وطباعهم، كما نجد في الأهداف التي يغلّفها المأجورون، في بلدٍ معين، بالطابع الوطني، بينما تكون، في حقيقتها، خدمةً لمطامع أسيادهم الأجانب، الذين يُملون عليهم الأوامر في السرّ، ويلزمونهم باتباعها وتنفيذها، ولو كانت ضد مصلحة بلدهم، وأبناء وطنهم!.. من هنا تبرز المواقف التي يتحدد على ضوئها وجود التحدي أو عدم وجوده... والتحديات - بالاستناد إلى الأهداف والمواقف والخيارات - قد لا تقع تحت حصر، وكذلك الأساليب والوسائل لاستعمالها، وطرق التعبير عنها، إلاَّ أنَّ أهمها، على الإطلاق، يبقى التحدّي الفكري، والذي يتخذ - عادةً - هدفاً له التغيير من أجل إنشاء أو فرض واقع جديدٍ، يختلف عن الواقع السابق..
وهذا هو المنهج الذي اتَّبعه القرآن، أي أنَّ نوع ومضمون التحدّي، الذي يشهره في وجْه المعاندين أو المنكرين لحقيقته، وبأنه من عند الله تعالى، كان، وما يزال على حاله.. إنه هو هو، هذا التحدي الذي لا يمكن أنْ يطرأ عليه أي تغيير أو تحويل أو تبديل، وهو التحدّي الفكري المحض، الذي يقوم على: أنْ يأتوا بمثل هذا القرآن إنْ كانوا صادقين بأنه من تأليف محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، لأنَّ لديهم جهابذة في اللغة، والعلم، والمعرفة، ولأنَّ لديهم الاستطاعة أن يسخّروا من هؤلاء الجهابذة من يريدون!.. فإنْ ظهر عجزهم عن الإِتيان بمثل القرآن جملةً وتفصيلاً، فإنه يتحّداهم أنْ يأتوا بأقل: أن يأتوا بعشرِ سُورٍ من مثلِهِ!. فإنْ عجزوا، وهم قد عجزوا فعلاً - قديماً وحديثاً - فإنه يتحداهم بأقل الأقل: أنْ يأتوا - ولو - بسورةٍ واحدةٍ مِنْ مِثْل هذا القرآن (وفيه سُوَرٌ منزلة من ثلاثِ آياتٍ فقط)!.. بل ولقد بلغ التحدي الفكري للقرآن ذروته، وهو يبيّن للإنس والجان جميعاً، أنهم لو اجتمعوا على أنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، فإنهم عاجزون عن ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً..
وهذا التحدي قد ورد - فقط - في عدد يسير من آيات القرآن المجيد، وكان التعبير عنه بلفظ «مثله» أو بعبارة «من مثله»، كما يتبين ذلك جلياً في الفقرات التالية:
1 - القرآن منزَّهٌ عن التقوّل (ويتحدّى الكافرين أن يأتوا بحديث مثله).
إنَّ من يستعرض الآيات من 29 إلى 32 في «سورة الطور»، يتبين له بوضوح أنَّها تأييد، وتسديد للنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وحضّه على متابعة دعوة المشركين إلى الهدى، بينما هم يشنون عليه أعنف وأعتى الحملات الدعائية الجائرة، وذلك باتهامه بأبشع الظنون، عندما يقولون عنه: بأنه كاهن، أو مجنون، أو شاعر، وغيرها من الإشاعات التي تصفه (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأوصاف حاقدة، لا غاية من ورائها إلاَّ النيل من شخصه الكريم!.. ولكنَّ القرآن كان لهم بالمرصاد، وهو يتصدَّى ليس فقط لدحض تلك الافتراءات، وإبطال أكاذيبها، ولا لينفي عن النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أية شبهة، أو يرفع عنه أية ظُلامة وحسب، ولكن أيضاً لرفع مكانته في بعثته، وبما يُوحى إليه من ربّه تعالى، ولذلك يخاطبه العليُّ العظيم بأنْ يداومَ على تذكير المشركين بآيات الله، وألاَّ يتوانى عن التبليغ بسبب تقوّلاتهم تلك.. إذْ فما أنت يا «محمد» كما يقول له ربُّهُ تبارك وتعالى: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ *} [الطُّور: 29]، كما يتقوَّلون!.. وما أنت يا «محمّد» بنعمة ربّك {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ *} [الطُّور: 30]، كما يأفكون، حيث يزعمون أنهم ينتظرون هلاكك كما هلك غيرك من الشعراء!! أبداً يا «محمد»، فما بك شيء من ذلك، إنْ كل ما يقولون إلاَّ أكاذيب، وادعاءات لا تستند إلى أي أساسٍ أو دليلٍ أو عقل!.. لا، بل أنت من أنعم الله عليك بالنبوّة، وحباك بالرسالة السماوية الخاتمة، لتكون خاتمَ النبيين، ورحمةً مهداةً للعالمين..
وبعد أنْ تبيّن النصوص القرآنية مكانة النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) السامية، تعود إلى المشركين، لتدلَّ على بعضٍ من صفاتهم الشائنة، عندما تسأل باستفهام إنكاري، يزري بهم، وهي تتحدث عنهم بطريقة الغائب، وذلك بقول الله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *} [الطُّور: 32].. فهل تأمرهم عقولهم أنْ يتقوَّلوا على هذا النبيّ الكريم بأنه كاهن، أو مجنون، أو شاعر أو ساحر؟! لا، لا تأمرهم عقولهم بذلك، بل هم - في كل ما يتقوَّلون عنه - طاغون به.. إذ طغى عليهم الحقد، والشرك والعناد، فما وجدوا إلاَّ تلك الإشاعات المغرضة!.. ولكنْ أنَّى لهم ذلك، وهذا القرآن يتنزَّلُ عليك بالآيات التي تفضح كل تقوّلاتهم، وتخرّصاتهم وطغيانهم، لترفع، من ثم، مكانتك، لأنك النبيُّ الصادق الأمين، الذي كرَّمَك ربّك تعالى بما بعثك به للناس جميعاً من الهداية والصلاح والخير...
وتذهب النصوص القرآنية في سورة «الحاقة»، إلى أبعد من ذلك بكثير، لتبيّن لنا كيف أنَّ الله - جلَّت عظمته - يُقسم بكل مخلوق مما يبصرونه، ومما لا يبصرونه بأنَّ هذا القرآن إنْ هو إلاَّ قولُ رسول كريم، وليس بقول شاعرٍ، ولا بقول كاهنٍ، بل هو تنزيلٌ من ربّ العالمين.. يقول الله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ *إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجرين * وإنه لتذكرة للمتقين * وإنا لنعلم أن منكم مكذبين * وإنه لحسرة على الكافرين * وإنه لحق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم} [الحَاقَّة: 38-52].
أجل، بمثل ذلك الوضوح، وتقديم الأدلة والبراهين، والقسم الإلهي القدسي، كانت الآيات تؤكد مصداقية القرآن الكريم، وبأنه تنزيل من ربّ العالمين، ويبلَّغه رسولٌ كريم، هو النبيّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)... ولمّا لم يكن ذلك كله ينفع المشركين والمنافقين، ويثنيهم عن ادعاءاتهم الباطلة، وحملاتهم الفاشلة، فكان لا بدَّ أنْ يأتي التحدي القرآني ليسقط كل ما يقولون بأنَّ «محمداً» يتقوَّل القرآن، وذلك بقول الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ *} [الطُّور: 33-34].
إذاً فالتحدّي بسيط جداً: فإذا كانوا يقولون بأنَّ «محمداً» يتقوَّل القرآنَ من عنده، ويتكلَّف حديثه، ويختلق آياته، ثم يُسمّيه وحياً من الله، فهذا أمرٌ غريب جداً!.. بل هو كذب بكذب، لأنهم، في الحقيقة، لا يؤمنون بأنه تنزيلٌ من ربّ العالمين، مثلما لا يؤمنون ببعث محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وتصديقه، وذلك استكباراً وعناداً.. وعلى الرغم من ذلك، فإنْ كانوا يقولون بأنَّ «محمداً» يتقوَّل القرآن، فليأتوا بحديث مثله إنْ كانوا صادقين!..
وهذا هو التحدّي القرآني، وهو - بذاته - تحدّ بسيط، ولكنه شاقٌ ومستعصٍ، إلاَّ أنه كان لا بدَّ منه! لعلَّ أولئك المشركين يرعوون عمَّا هم عليه من الضلال والعناد.. فالتقوّل إنما يعني الاختلاف، أو التكلّف في القول، ولا يكون إلا في الكذب، فمن يريد أنْ يتقوَّل شيئاً، فإنما يريد أنْ يكذب به. ولذلك نزل الذكر الحكيم يستنكر دعواهم الباطلة بمثل ذلك التقوّل الذي يزعمونه، بل ويسفّه كل دعواتهم الضالَّة، لأنهُ لا يجوز أنْ يُنسبَ شيء من تلك الدعوات أو قبيلها إلى «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وهو صاحب «الخلق العظيم»، مصداقاً لقول ربِّ العالمين عندما وصفه من عليائه بقوله الحق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} [القَلَم: 4]، وكما خبره الناس في دنيا الأرض، وخاصة أولئك المفترين أنفسهم، الذين عرفوا «محمدَ بن عبد الله» حقّ المعرفة، فكانوا في مكة يلقبونه بـ«الصادق الأمين» قبل بعثه (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وقبل أن يتنزّل عليه القرآن المجيد، الذي يثبت قول العلي العظيم بأنَّ «محمداً» على «خلق عظيم».
ثم إنهم، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، يعرفون جيداً أنَّ هذا القرآن ليس من كلام البشر، وما كان لأحدٍ أنْ يأتيَ بمثله أبداً. فيكون الأمر، والحالة هذه، أنهم هم الذين يتقوّلون الأحاديث عن النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ، ويختلقون الأكاذيب، وما مرادهم إلا الإصرار على الكفر والشرك، وعدم الإيمان بما جاء به محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)..
وبعد أن نزَّه الذكر الحكيم النبيَّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عن أية صفة مدّعاة لا تليق بمقامه، كان لا بدَّ من أنْ يُنزَّه القرآنُ نفسُهُ عن أية شبهةٍ، من أنه قول البشر، وهذا التنزيه قد حمل التحدّي الصارخ:
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ *} [الطُّور: 34].. فإذا كان هذا القرآن من حديث «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ومجرد أقوال وتآليف من عنده، فإنَّ ما يقدر عليه من قولٍ أو تأليف لا يعجزهم أنْ يقولوا مثله، وأنْ يؤلّفوا مثله، لأن لغته لغتهم، وفصاحته من فصاحتهم، وبيانه من بيانهم.. إذاً فليأتوا بحديث مثله إن كانوا - في زعمهم - صادقين.. والله - سبحانه وتعالى - يعلم أنهم لكاذبون، وأنهم لا يقدرون على أنْ يأتوا بحديث من مثل القرآن.. وهذا يعني أنَّ التحدي القرآني إنما يواجههم بالاستطاعة التي يملكونها، وهي: اللغة والتأليف.. فإذا ثبت عجزهم عن ذلك، لزم عليهم أنْ يكفّوا عن هذا الكذب الشنيع، وألا يفتروا على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنه يتقوَّل القرآن. بل ويكون لزاماً عليهم - وهم لم يأتوا بحديث مثله - أنْ يقروا بأنَّ القرآن منزَّل من عند الله تعالى، وأنْ يصدّقوا «محمداً» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنه نبيُّ الله ورسوله، وأنه يحمل دعوة الحق من ربّه، وهي دعوة «لا إلهَ إلا الله» وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير..
2 - القرآن لا يُفترى، ويتحدى المشركين أن يأتوا بعشر سور مثله
يقول الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [هُود: 13].
إنه هو، هو: التحدي القرآني ذاته!..
وإنهم هُمُ، هُمُ: المشركون والكافرون أنفسهم!..
ولكنَّ الجو الذي نزل فيه التّحدي القرآني هذه المرة مختلف عن غيره، فالآية 13 من سورة «هود» التي تحمل هذا التحدّي، قد وردت تعقيباً على مواقفهم الجديدة، حيث لم يتوجهوا إلى «شخص» النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) واتهامه بتقوّل القرآن، بل لجأوا إلى محاولة جديدة وهي النيل من نبوّته عن طريق طلب المعجزات، كما تدلُّ عليه الآية 12 من سورة هود، بقول الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ *} [هُود: 12]... فلعلك أيها النبيٌّ تارك بعض الآيات التي توحى إليك، بحيث يضيق صدرك فلا تبلّغها في وقتها، كما يتمنَّى ويشتهي المشركون، وكما يعلّلون به أنفسهم، وهم يلحّون عليك بالمطالب الإِعجازية، كي يحرجوك!.. من مثل قولهم: «لولا أنزل عليه كنز»، أو قولهم: «لولا جاء معه ملك يصدقه»!. فاصبر على ما يقولون، إنْ هي إلاَّ مجرد ترهات، وأمانيُّ كاذبة ولا تَنُمُّ إلاَّ عن عجزهم، هم، تلقاء ما تنذرهم به.. فما أنت، والحقُّ، إلاَّ نذير بين يدي عذابٍ أليمٍ، وما عليك إلاَّ البلاغ المبين، وليس الإتيان بالمعجزات!.. فالوحي واضح الدلالة والمعنى، كما يبينه ربّك بقوله العزيز: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ *} [العَنكبوت: 50].. إذاً فلا استجابة لأهوائهم المضلّلة لأنك نبيٌّ مرسلٌ ولا تحتاج إلى المعجزات التي يطلبونها .. أما إذا كانوا يقولون بأنك تفتري القرآن، كعادتهم في الافتراء عليك، فهم ولا ريب ضالُّون، إذ لو تفكّروا، واستبصروا.. لوجدوا أنك لا تبتغي إلاَّ استلال الجاهلية من كوامن نفوسهم، وإنارة عقولهم بفعل هذا القرآن الذي تتلوه عليهم آياتٍ بيّنات، تهدي للتي هي أقوم.. فإذا كانوا لا يصدّقون أنه كتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين، وأنه من عند الله، ويدّعون أنك تفتريه من عندك (فلا بلاغ ولا نذير - إذاً - من ربّ العالمين) فقل لهم: «فأتوا بعشر سورٍ مثله مفترياتٍ»، وادعوا كل من ترونَ أنه يستطيع مساعدتكم على هذا الأمر من دون الله جلَّ وعلا، الذي بعثني نبياً ورسولاً وأنزل عليَّ هذا القرآن.. هذا إن كنتم صادقين - في ادّعائكم - بأنه قرآن مفترىً..
ممّا يتبيّن معه أنَّ التحدي للمشركين، في أي مقام أتى، هو التحدّي نفسه، الذي لا يختلف نصاً ومضموناً في كل مناسبة وحين.. وهذا يعني بأن القرآن يتحداهم أنْ يأتوا بحديث مثله، على وجه العموم، دون تخصيص لموضوع معين، أو لحالة معينة، أو لظرفٍ معيّن، ولهم أنْ يختاروا من أجل ذلك من يريدون، من الذين يتوهمون أنهم يستطيعون الإتيان بمثله.. {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ *} [الطُّور: 34].
ثم تضيق دائرة هذا التحدّي، علّهم يجدون الأمرَ أسهلَ عليهم، أي: فإنْ عجزوا عن أنْ يأتوا بحديث مثل القرآن - وهم حتماً عاجزون - وظنّوا بأنَّ المطلوب أنْ يأتوا بقرآنٍ مماثل، يفترونه من عندهم، كما «يفتريه محمّد من عنده» فإنَّ هذا القرآن يتحداهم أنْ يأتوا ليس بقرآن مثله، بل ليأتوا بعشر سورٍ مثل سوره.. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هُود: 13] بحيث تكون من نفس القول، الذي يتلوه عليهم النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قرآناً، ويدَّعون أنه ليس قرآناً... ومثل هذا التحدّي إنما يحمل في طياته نوعاً من الاستصغار لقدرهم، والتحقير لشأنهم، لأن الخطاب للنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بالأمر الجلل: «قل» لهم يا «محمد» بأن يدعوا لمساعدتهم كل من يرون فيهم مقدرةً على ذلك من جهابذة الفصاحة، والبلاغة، والبيان، وحسن النظم والتأليف، وهذا إن كانوا صادقين في دعواهم.. أما أنَّ دعواهم غير صادقة، فإنما هو التوكيد على عجزهم، وعلى أنَّ الافتراءَ منهم، هم، على القرآن، وعلى النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) معاً.
أما من حيث التبليغ والدعوة، فالتحدي هنا، شأنه في كل الحالات، ليس إلا مؤازرةً وتصديقاً للنبيّ الكريم بأن يثبت في وجه الكفار والمشركين، ولا يضيق صدره بما يقابلون به دعوته للهدى، من التعنت والاستكبار والافتراء عليه.. ولكي يعلموا أنَّ هذا النبيّ معصوم عن الافتراء، والاختلاق والتقوّل، وأنه لا يبلّغ إليهم إلا قول ربّ العالمين.. ولعلَّ في ذلك ما يكبح جماح عنادهم، فلا يطلبون منه المعجزات والخوارق، وما إلى ذلك مما كانوا يبرعون به لإِعجاز النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من دون أدنى طائل!..
3 - القرآنُ، لا ريبَ،منزَّلٌ (ويتحدى الكافرين أنْ يَأْتوا بسورةٍ من مثله)
يقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [البَقَرَة: 23].
وهنا نلاحظ أيضاً أنه حصر دائرة التحدي، ولكن إلى أضيق حيّز ممكن من نسج القرآن، عندما يدعوهم أن يأتوا ولو بسورة واحدة من مثله حتى ولو كانت من ثلاث آيات، كما هي الحال في بعض السور القرآنية.. وهذا التحدّي لأن يأتوا ولو بسورة واحدة من مثل سور القرآن، ليس لأنَّ الأمر يتعلق فقط بردّ الافتراء على شخص النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، أو بكبح جماح خيالهم - وهم يطلبون المعجزات - فهذه أمور يقينية، بل ولأنَّ أهداف التحدّي هي أوسع وأشمل وأعم، فهي تتناول الدعوة ككل، ويجب أن تكون على مستوى الدعوة ككل، إذْ القضية في الأساس، تتعلق بجوهر الدعوة، وأصل العقيدة، حيث نجد أنَّه سبق هذا التحديّ للكافرين (أن يأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن)، دعوةُ الناس جميعاً لأنْ يعبدوا الله ربّهم، مع تبيان الأدلة لأحقية هذه العبادة، وذلك بقول الحقّ تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [البَقَرَة: 21-23].
فالقضية هنا هي المنطلق، وهي الغاية: إنها الدعوة إلى عقيدة التوحيد التي يحملها محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم).. وهي الدعوة التي تستوجب على الناس، كلِّ الناس، أنْ يعبدوا ربّهم الذي خلقهم، ولم يكونوا شيئاً، مثلما خلق الذين من قبلهم جميعاً، ولم يكونوا شيئاً، وليس - في الحقيقة - من خالق إلاَّ الله، وهو ربُّهم، وربُّ العالمين.. وهذه الدعوة هي لصالحكم أيها الناس، فإنْ عبدتم الله ربكم، فقد تتَّقون بعبادته العقابَ والعذابَ.
أما الأدلة العقلية والبراهين الحسية على توحيد الخالق، وضرورة عبادته فهي مجملة بالأشياء الأساسية التي لا يكون للناس حياة بدونها.. إنها هذه الأشياء العظيمة: الأرض التي تقلهم، والسماء التي تظلهم، والماء الذي جعل الله منه كلَّ شيءٍ حيٍّ، ومنه هذه الأرزاق من الثمرات على اختلاف أنواعها، وألوانها وطعومها.. فهذا الماء، وهذه الأرزاق التي بدونها لا يمكنكم العيش، ولا البقاء أحياءً، هي بعض من الشواهد والبراهين التي تؤيَّد مصاديق الذكر الحكيم الذي يوحيه ربُّ السماوات والأرض لعبده ورسوله «محمد»، الذي بعثه بالهدى ودين الحق للناس كافة.. وبعد الأدلة يأتي الأمر الجازم: فلا تجعلوا لله أنداداً تشركونهم معه في العبادة وأنتم تعلمون أنه الله الذي لا إله إلاَّ هو، إلهٌ واحد في السماوات والأرض، فلا إلهَ غيره، ولا معبود سواه!..
وإنْ كنتم في ريب مما نزَّلنا على عبدنا محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من الآيات، والسور في القرآن، فأتوا بسورة واحدة من مثل سوره التي هي، في حقيقتها، مغايرة، بصورة مطلقة، لأي كتاب من الكتب السماوية، أو من كتب أهل الأرض..
والدعوة في هذا التحدي - كما في كل موضع من القرآن المجيد - ليست مقصورة على الكفار والمشركين في زمن الرسالة، بل هي دعوة قائمة أبداً لكل من يشكُّون أو لا يقرُّون بأن القرآن منزَّلٌ من عند الله تعالى. وليدعوا معهم من يشهد لهم بهذا - من دون الله - فقد شهد سبحانه وتعالى لنفسه بأنه «لا إلهَ إلاَّ هُوَ» قائماً بالعدل في خَلْقه، وذلك بقوله الكريم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [آل عِمرَان: 18]، كما شهد لعبده ونبيّه محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بالصدق والإيمان بدينه ودعوته، قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا *} [الأحزَاب: 22]، وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا *} [النِّسَاء: 166].
«وكفى بالله شهيداً» عليكم أيها العباد، في الدنيا والآخرة بما أنزل إلى نبيّه محمدٍ من الذكر الحكيم، والقرآن المبين.. وشهادته (عزَّ وعلا) هي الحق الصراح.. وشهادته (جلَّ جلاله) هي الحجة الصادقة.. فلا تجعلوا لله أنداداً!.. ولا ترتابوا بما أنزل إلى عبده «محمد»، أنزله بعلمه الذي لا يعزب عنه شيءٌ في السماوات والأرض..
وعلى كل حال فالنتيجة محسومة سلفاً: ليس من أحد، ولا جماعة، ولا أهل السماوات والأرض - لئن اجتمعوا - بقادرين على أنْ يأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن. ولذلك كان هذا التحدي الذي ضاقت مساحته إلى الإتيان ولو بسورة واحدة، وكان في مقابله العجز المطلق.
4 - القرآنُ يَتَحدَّى الإنسَ والجانَّ (الثقلين) أَنْ يأْتُوا بِمِثْلِه
يقول الله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسرَاء: 88] }.
إن معارضة القرآن متعذرة ولا ريب، فقد ثبت بعدما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان، أن هذا القرآن هو المعجزة الحسية الدائمة التي يلمسها الناس بأيديهم، ويسمعونها بآذانهم، ويبصرونها بأعينهم.. والمعجزة - أية معجزة - كافية بذاتها للتدليل على أنها ليست من صنع البشر، وإلاَّ لما أعجزتهم، وقصَّرت قدراتُهم وطاقاتُهم عن الإتيان بمثلها. وهذا ما ينطبق على حقيقة القرآن، فلا أحد يستطيع أنْ يغيّر فيه لفظة، أو عبارة، أو آيةً أو سورةً إلى يوم الدين.. أو أنْ يدّعي هذا التغيير، ويكون ما يدّعيه قرآناً أو ما يشبه القرآن! لأنَّ أي تغيير، أو تبديل أو تحريف، يكون مفتقراً لخصائص القرآن اللغوية والبلاغية ومجمل نسجه وبيانه، فضلاً عن المعاني والعظات، والأهداف التي تتضمنها الآيات، عادة، في السياق الذي تتناوله... ومن هنا كان تحدّي القرآن بإعجازه لمن أنكروا أنه منزَّل من عند الله، أمثال المشركين والكافرين جميعاً، الذين ثبت عجزهم بالفعل، هم وجميع الناس الذين أخذتهم العزة بالأثم، فظنوا أنهم يملكون الاستطاعة على أنْ يأتوا بمثل القرآن، وآخر الأدلة الحديثة على ذلك الكتاب الذي ألَّفوه في الغرب، بالتعاون مع الموتورين والحاقدين على القرآن وأهله، وأسموه (الفرقان)، والذي ثبت أنَّ ما بينه وبين القرآن من البعد ما بين السماوات والأرض!... ولعلَّ المنكرين لحقيقة القرآن قد غاب عن بالهم أن الإعجاز القرآنيّ لم يطرح مسألة تحديه على ساحة الإنس وحدهم، بل وتعداها ليطرحها على ساحة الجن أيضاً. والقصد من هذا التحدي إثبات قصور الإنس والجن عن الإتيان بمثل القرآن على الرغم مما يتمتع به كل جنسٍ منهما من الخصائص والمزايا في خلقهما!.. فأما من ناحية الإنسان، فقد حباه خالقه الكريم بالعقل الذي به الإدراك والاختيار، وهي الخصيصة التي جعلته سيد المخلوقات على هذه الأرض.. فهو إذاً قادر على أنْ يفعل، أو يعمل، أو يصنع ما يشاء، إلاَّ ما كان خارجاً عن طاقته أو قدرته، فيبقى عاجزاً حياله.. وأما من ناحية الجن، فإنَّ القرآن الكريم نفسه يبيّن لنا بأنه مخلوق قد أعطي قدرات خارقة يستطيع بواسطتها أنْ يأتي المعجزات والخوارق، ومن قبيل ذلك إخبار القرآن عن عفريتٍ من الجن عندما قال للنبي سليمان (عليه السّلام) بأنه قادر على أنْ يأتيَ بعرش ملكة سبأ (بلقيس)، من اليمن إلى بيت المقدس، قبل أنْ يقوم من مقامه، وفي هذا دليل على ما يتمتع به الجن من قدراتٍ خارقة بحكم تكوينهم.. بينما نجد أنَّ الذي «عنده علمٌ من الكتاب»، وهو من الإنس، قال له: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك، وقد فعل ذلك حقاً، وأتاه بعرشها في لحظات، ولكنَّ ذلك كان باستخدامه علماً ممَّا علَّمه الله إياه من آياته، التي بفضلها يمكن أن تتحقق المعجزات، إذا شاء الله، ومنها معجزة نقل عرش بلقيس في لحظاتٍ..
أما السبب وراء الإتيان بذلك العرش، فقد سبق أنْ بعث النبيُّ سليمان لملكة اليمن كتاباً فحواه أنه: «بسم الله»، وأنْ تأتيه وقومُها مسلمين.. ويبدو أنَّ شهرة الملك سليمان كانت قد وصلت إلى تلك البلاد، ولكنَّ السياق القرآني لا يذكر شيئاً من ذلك، إنما يبيّن أنها عرضت الكتاب على الملأ من قومها، ليروا ماذا يصنعون، فأبدى الكهان، وحاشية البلاط والقادة المحاربون استعدادهم للقتال، فقالت لهم كما يبيّنه قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *} [النَّمل: 34]، أي ومثل تلك الأفعال، من الفساد، والإذلال اللذين يأتيانهما الملوك عندما يدخلون بلداً عنوةً، كذلك يفعل هؤلاء الذين أرسلوا الكتاب إذا جاؤونا غُزاةً فاتحين.. عندها قررت أنْ ترسل للنبيّ سليمان هدية، لترى ردَّه، فجاءها الرد الحاسم برفض الأموال التي بعثت بها، مما جعلها تقرر الذهاب إليه، هي والملأ من قومها.. فلما علم النبيّ سليمان بخروجها من اليمن، طلب أنْ يأتوه بعرشها قبل أنْ تصل إليه، ليتبيّن عند مجيئها ما لديها من علمٍ مكَّنها أنْ تحكم بلاد اليمن.. يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ *} [النَّمل: 42] ! " £ }، أي قيل لها: أمثلُ هذا العرشِ عرشُكِ؟ قالت: كأنه هو!.. مما يعني أنها عرفته، ولكنًّها شبَّهت عليهم، كما شبَّهوا عليها، إذ لو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم.. وقد تأكَّد للنبي سليمان (عليه السّلام) من جوابها، بأنَّ لديها علماً ومعرفةً، ولكنْ صدَّها عن الاهتداء إلى الإيمان الحق، وعن عبادة الله تعالى، أنها كانت من قوم كافرين.. ومع تلك القدرات الممنوحة للإنس والجن، كان تحدي القرآن لهم بأنْ يجتمعوا، ويتعاونوا على الإتيان بمثل هذا القرآن.. ثم كان الأمر الجازم على أنهم غير قادرين على ذلك.. ثم أتبعه التعقيب - على نفي قدرتهم - بأنْ يتقوا غضب الله ربّهم، وألا يبقوا مصرّين على عنادهم وكفرهم، وإلا كانوا وقوداً للنار التي أعدت للكافرين، كما يبيّنه قول الحق تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *} [البَقَرَة: 23-24].
بل ويرمي النص القرآنيّ في تبيان هذه الحقيقة إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ إنَّ الخصائص التي يتميز بها خلق كل من الإنس والجن، تجعل اجتماعهم على التعاون فيما بينهم أمراً مستحيلاً، فهم من جنسين مختلفين في التكوين، سواء في الهيئة أو في الطاقة.. علماً بأننا لا ندري فعلاً كيفية تكوين الجن، ولكننا نعلم أنَّ بين جنسنا وجنسهم اختلافات كبيرة في كل شيء؛ ومنها على سبيل المثال أنهم يروننا من من حيث لا نراهم.. بل والنصوص القرآنية تبيّن أنَّ مِنَ الجان مَنْ هم من الشياطين، كما في قول الله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ *} [الأنبيَاء: 82]. وفي قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ *} [سَبَإ: 12-13].
وهنا لا بدَّ أن نتبين أمراً جوهرياً، وهو أنَّ الشياطين من الجن هم عدو للإنسان، ولم يثبت وجود اتفاق أو تعاون على الخير بين هذين الجنسين المختلفين، بل ومن الثابت في القرآن، أنَّ الشياطين، وهم من قبيل إبليس، إنما يغوون الناس ويضلّونهم ليصدوهم عن سبيل الله تعالى.. أما ما كانوا يعملون للنبيّ سليمان (عليه السّلام)، فهو تسخير لهم من الله تعالى كي يتمكّن من إقامة معبدٍ للصلاة. بل ولقد توعدهم ربّهم بأنَّ من لا يطيع سليمان (عليه السّلام) فإنه يخالف أمر ربّه، وعذابه سوف يكون في النار..
ولئن كان الأمر كذلك من الاختلاف والعداوة بين الناس والشياطين فلا يمكن أنْ يتعاونوا أو يتعاضـدوا.. ولئن اجتمعوا - فَرَضاً - على أنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، فلن يفعلوا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، أي عضداً ومعيناً على هذا الأمر..
ثم إنَّ من مدلولات النصّ القرآني، في سياق تحدّي الإنس والجن على أنْ يأتوا بمثل القرآن، أنَّ الجنَّ منهم المؤمنون ومنهم الكافرون، وأنَّ هؤلاء الكافرين هم من يعارضونَ القرآن مثل الكافرين من الإنس، ولئن كانت تلك المعارضة لا تجدي هؤلاء ولا هؤلاء فتيلاً.
ومثل قضية التحدّي القرآني لكل من يعارضونه، والتي تشكل حقيقةً طرحها كتابُ الله على ساحتي الإنس والجن، هنالك حقائق كثيرة غيرها قد أوردها القرآن الكريم وحثَّ الناس على معرفتها، فإن عصيت على الناس، ولم يتمكنوا من إدراكها، أو الوقوف على مضامينها وغاياتها فهذا قصور من الناس، ولا سيما من الذين أبوا إلاَّ أن يكونوا كافرين بالله تعالى، وكتابه المجيد، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا *} [الإسرَاء: 89]..
وليس القرآن فريداً - وحسب - في المبنى والمعنى اللذين فيهما مضامين الإِعجاز، بل ويتفرَّد في تكامله بما يقدمه من براهين على عظمة الخالق، وعلى عظيم خلق السماوات والأرض، وما يهدي إليه من سبل الإيمان والرشاد، وما يبين من المناهج والأحكام.. أي أنَّ كل ما يستوقف الإنسان من القضايا التي تتعلق بالحياة الدنيا، وبالحياة الآخرة قد جاء بها القرآن، ومع ذلك فإنَّ قضايا أخرى عظيمة قد أحاط بها علم الله، وتنطوي عليها آيات القرآن، إلاَّ أنَّ ربَّنا تعالى قد قضى، في علمه الأزليّ، أنْ تبقى مغلقة على الإنس والجن، لأنها من القضايا التي لا تقدر عليها طاقات البشر، ولا قدرات الجن..
فإذا كان القرآن على ذلك الاتساع والشمول والعمق في احتواء الآيات للمعاني والقضايا والعظات، والأخبار، والقصص، والأمثال، والأهداف التي تتوخى أفضل القيم، والمُثُل، والمناهج.. فهل تقدر مخلوقات - مهما كان جنسها، ومهما تميزت به من الخصائص الذاتية - على الإتيان بمثله؟ ولذلك كان التحدي للثقلين معاً على أنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، وكان بالمقابل عجزهما عن ذلك ثابتاً وأكيداً.
وعلى الرغم من كمال القرآن فقد أبى أكثر الناس إلا كفوراً وعناداً.. فلم يصدقوا ما يتصف به هذا الكتاب المجيد، وما يتفرَّد به من الإعجاز الذي يجعله فوق مستوى الإنس والجن، فأبوا إلا المماحكة والادعاء بأنه من عند محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وليس هو قول الله الحق!..
وبسبب هذا الإصرار على الكفر وعدم الإقرار بحقيقة القرآن، كان الإنسان أكثر شيء جدلاً - في حقيقة هذا القرآن العظيم - يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *} [الكهف: 54].
وهذا الجدل قد تبين لنا عندما كان الكفار والمشركون يدّعون تارةً بأنَّ محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يتقوَّل القرآن، وتارةً أخرى عندما كانوا ينسبون إليه بأنه افتراه من عنده، أو عندما كانوا يجادلونه على نزوله عليه متفرقاً، وليس جملةً واحدةً أو دفعةً واحدة.. أو عندما كانوا يريدون إظهار عجز النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لصرف الناس عنه، وعن دعوته.. ومن قبيل ذلك سؤالهم التعجيزيّ عن الروح، أو طلبهم المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله العليّ القدير. بل قد بلغ بهم الحال أنْ يطلبوا من النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن الذي يتلوه عليهم، كما يتبين في قول الله تعالى:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [يُونس: 15].
أجل، فقد بلغ الكفر بمن لا يرجون لقاء الله ربّهم، ولم يصدقوا الوعد والوعيد بالبعث والحساب، أنْ ينكروا كلَّ ما يُتلى عليهم من آيات القرآن المجيد، التي تبيّن لهم الأمثال، وتروي لهم قصص الأمم الغابرة، أو التي تبيّن لهم القضايا الغيبية بشواهد من واقع الحياة التي يعيشونها، أو تلك التي تسفه أحلامهم وتعيب عليهم عبادة آلهة مدعاة!.. فكانوا يطلبون من النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنْ يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن، أو أنْ يبدّله فلا يكون فيه إزدراءٌ بعقائدهم وعباداتهم، ولا يفرض عليهم تكاليف وعبادات..
وكان خطابُ الله تعالى للنبيّ الهادي، والرسول الأمين (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في الردّ على ذلك، أنْ يذكّرهم، ويؤكد عليهم حقيقة بعثه نبيّاً رسولاً، وحقيقة أنَّ القرآن هو قول الله الحق، فلا يمكن لأحدٍ، ولا للنبيّ نفسه أنْ يبدّله أو أن يغيّر فيه شيئاً.. فكان توجيه ربّه تعالى له أن يقول لهم ما مؤداه: ما ينبغي لي أنْ أبدّله من تلقاء نفسي، فما أنا إلا بشرٌ مثلكم، وقد اختارني الله ربّي بشيراً ونذيراً للعالمين. وهذا القرآن إنْ هو إلا وحي يوحى إليَّ، فأتبع الوحي وأبلغه كما أمرت، وإني أخاف إنْ عصيتُ ربّي - فلا أبلغ الوحي كاملاً كما يتنزَّل به عليَّ جبريل الأمين - عذاب يومٍ عظيمٍ..
وكذلك كان أمر ربّه تبارك وتعالى أن يقول لهم ما معناه: لو شاء الله ألاَّ ينزل عليَّ القرآن، وألاَّ أبلغكم إياه، ما أنزله، وما تلوته عليكم، ولا أعلمكم به.. ولكن شاء الله ربّي وربّكم، وربّ آبائكم الأولين، أنْ يتفضَّل عليَّ بنعمة النبوة، وأنْ يرسلني بالدين الحق، فأنزل عليَّ هذا القرآن الذي أتلوه عليكم.. فقد لبثت فيكم عمراً قبل أنْ يبعثني الله نبياً رسولاً، ولم أدَّعِ طيلة هذا العمر الذي امتدَّ على مدى أربعين سنة: لا نبوّةً، ولا رسالةً، ولم أتلُ عليكم شيئاً من وحي، أفلا تتذكرون، وتعقلون، وأنتم تعلمون سيرة حياتي التي عشتها بين ظهرانيكم؟!
وعلى الرغم من هذه الآيات البيّنات التي كانت تتنزَّل على النبيّ الكريم لمواجهة أهل الكفر والـشرك، وما حملته من التحدي الذي يُظهر ضعف الإنسـان، وصغره أمام عظمة القرآن المجيد، فقد ظلوا على عنادهم، وعلى تكذيبهم للنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): يجادلونه، ويحاجّونه بالباطل دون أنْ يعقلوا أو ينصاعوا لدعوة الحق المبين. وهذا يعني أنه لم ينفع معهم ما صرّف الله تعالى في هذا القرآن من الأمثال، فأبى أكثر الناس إلاَّ الكفرَ، والضلال، ولذلك كانت طريقتهم للدفاع عن كفرهم: أنْ يجادلوا أكثر ما يجادلون في هذا القرآن، دون عقل أو تدبر.. إنما عاقبة هذا الكفر - بعدما تبيّن لهم الهدى فرفضوه - لن تكون، وفقاً للعدل الإلهيّ، إلا الخسران المبين..
5 - بعض ملامح التحدي القرآنيّ
لقد تبيّن لنا مما تقدم أن التحدي ورد في أربع سور متفرقة من القرآن المجيد (البقرة: 23 - هود: 13 - الإسراء: 88 و89 - الطور: 33 و34) وهي تحمل على الكافرين والمشركين لتأكيد أمرين جوهريين:
الأول: أن القرآن هو «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين».
الثاني: أنه منزَّل بالوحي من عند الله تعالى على عبده ورسوله محمدٍ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي بعثَهُ بشيراً ونذيراً للعالمين.
أما وجه التحدّي فيه، فهو أنَّ هذا القرآن قد أُنزل بلسان عربيّ مبين، وأنَّ العرب هم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، ومع ذلك فإنه يختلف عن كلامهم كله، لأنه نزل على نظم مخصوصٍ، وبلاغةٍ وفصاحةٍ مخصوصتين فلا يستطيعون أنْ يدانوا شيئاً منهما.. ومن هنا كان اللفظ، والتعبير وأسلوب الأداء من ميزات الإعجاز القرآني، حتى للعرب أنفسهم، الذين نزل القرآنُ بلغتهم.. والدليلُ أنَّ البلاغة - التي كانوا يتغنون بأنهم أسيادها - تكون على ثلاث طبقات:
فأعلى طبقاتها معجز، وأدناها وأوسطها ممكن، والتّحدي القرآني وقع في الطبقة العليا، هذا من حيث البلاغة .. أما من حيث المعاني ففي القرآن تبيان لكل شيء، وهذا ما يعجز عنه الإنس والجان، ومن هنا كان عجزهم - عن عدم الإتيان بشيء من مثله - حجةً عليهم، ودليلاً ثابتاً على صدق محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وعلى حقيقة الوحي الذي يبلغهم عنه آيات ربّهم تعالى..
أما لماذا ذَكَرَ الله التحدّي مرةً «بحديث مثله» ومرةً «بعشر سور» ومرة «بسورة واحدة» فلأنَّ التحدّي إنما وقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام، فتحدى بالوجه العام، ثم بالأكثر، ثم بالأقل..
ثم إذا علمنا بأنَّ الكافرين والمشركين - وكثيراً غيرهم من أهل الكتاب - قد شنّوا على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وأتباعه حروباً نفسية لا هوادة فيها، وبخاصة تلك الإشاعات المضلّلة التي تكفي - بذاتها - لصدّ الناس عن الدعوة، كما شنّوا على المسلمين حروباً قتالية فعلية، بذلوا من أجلها الأنفس والأموال، إلاَّ أنها لم تُؤتِ لهم إلاَّ الهزيمة، والقتل، والذل، وذهاب السيادة التي كانوا يتمتعون بها على سائر قبائل العرب في الجزيرة.. أجل لو علمنا ذلك كله، لأدركنا كم كان المكذبون للنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) والمعارضون للقرآن على ضلال مبين!.. وكم كان التحدّي ضرورياً لأنْ يعيدهم إلى رشدهم، فلا يركبون مركب الجهالة، ولا مركب الهزيمة، وقد أدت كلها إلى عجزهم حتى بالاستطاعة التي يملكونها وهي: الكلام، والتأليف.. فتلك الحروب الإعلامية والقتالية التي مارسوها، هي البرهان على عجزهم هذا، إذ لو قدروا على معارضة القرآن، والإتيان بشيء من مثله، لكان ذلك أهون وأيسر عليهم من الحروب والقتال، وبذل الأموال والأنفس.. وهذا أمر ينبع من طبيعة الإنسان التي تملي عليه ألاَّ يعدل عن الأسهل إلى الأصعب - أو أن يركب الخشن - إذا كان من شأن الأسهل أن ينيله الهدف الذي يبتغي.. فالأمر الأسهل كان بالنسبة إليهم معارضة القرآن، عن طريق الإتيان بشيء من مثله، أما الأمر الأصعب فهو ذلك القتال الذي ظهر بالغزوات التي شنّوها على المسلمين للقضاء على الدعوة، ومن ثَمَّ لإماتة الوحي الذي يعني ذهاب القرآن!.. ولكن أنَّى لهم ذلك، وإنَّ مجرد اختيارهم للأصعب كان كافياً - بذاته - لإثبات عجزهم وإفلاسهم عن الإتيان بشيءٍ من مثل القرآن، وبالتالي للتأكيد على مصداقية التحدّي!.
على أنَّ من يطّلع على القرآن، ويفقه معانيه، يدرك تماماً أنَّ إعجازه لا يقف عند حدود سورة من سوره، أو آية من آياته، بل هو ينتصب في مطلع سور كثيرة مُفْتَتَحَةٍ بالأحرف النورانية، التي قال بعض المفسرين: إنَّ افتتاح بعض السور فيها إنما يعني أنَّ هذا الكتاب المنزَّل من عند الله تعالى هو مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم، بينما في الحقيقة إنَّ مثل هذا الافتتاح واستعمال هذه الحروف في أول السور، يبقى سراً مغلقاً على الناس، وإنَّ ما ذهب إليه المفسرون، في شتى التفسيرات، لا يعدو ضرباً من الاجتهاد الذي يثاب عليه صاحبه..
أما حقيقة إعجاز القرآن، فهو أنه - كما ثبت - ليس من كلام البشر، وإلا لما كان هذا التأكيد الجازم من الله العليّ العظيم على أن الإنس والجن لو تطاولوا، وحاولوا الإتيان بمثل القرآن، فإنهم عاجزون عن ذلك عجزاً مطلقاً، ولذلك كان الإنذار المبين بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *} [البَقَرَة: 24].
فالتأكيد الجازم: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البَقَرَة: 24] أي لن تستطيعوا الإتيان بمثل هذا القرآن لا حاضراً، ولا مستقبلاً، ومهما تطاول الزمان!.. إنما يدلُّ على شيء واحد، وهو أن النتيجة محسومة سلفاً وهو عجزكم!.. إذاً فاعقلوا، وأدركوا أيها الناس المعاندون أنكم لن تأتوا بمثل هذا القرآن، وإلاَّ إن بقيتم على عنادكم، وكفركم بالقرآن فسوف يكون مصيركم إلى النار التي أعدت لكم بسبب هذا الكفر الذي تصرّون عليه بعد ثبوت الدليل العقليّ، والبرهان الحسيّ من أنفسكم بالذات، ألا وهو عجزكم المطلق عن الإتيان بمثل القرآن..
والخطاب: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البَقَرَة: 24] هو للثقلين معاً - الإنس والجن - وليس مقصوراً على جيل، أو أمة. «ولن تفعلوا» لا الآن، وإلى قيام الساعة، بل سوف يظل هذا القرآن حجةً في وجه جميع معارضيه ومكذّبيه، إلى أنْ يأتي الله أمراً كان مفعولاً، ويُظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.. ولو كره الكافرون...
6 - وكذلك يفصّل الله آياته ولتستبين سبيل المجرمين
يقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وك\لك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين * وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم * وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} [الأنعَام: 52-55].
روى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: «مرَّ الملأ من قريش على رسول الله وعنده خباب بن الأرتّ، وصهيب، وبلال، وعمار وغيرهم من ضعاف المسلمين، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء، وهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟! لو طردت هؤلاء لاتّبعناك، فأنزل الله بأولئك المسلمين من أتباعه ذكراً حكيماً بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعَام: 51] - الآيات - إلى قوله تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ *} [الأنعَام: 55].
إنها قصة المستكبرين أينما وجدوا. إنهم لا يطيقون مجالسة الفقراء والمستضعفين، ولا معاشرتهم، فكيف يكونون وإياهم في مجلس واحد، وعلى مستوى واحد من المساواة وعدم التمييز؟!
إنهم يريدون أنْ تكون لهم وحدهم المكانة الأولى في كل شيء!.. حتى في أمر العقيدة، وفي قضية الإيمان اللذين يربطان قلب الإنسان بربّه، ويجعلان الصلةَ الحقَّ مقصورةً على علاقة الإنسان بخالقه..
هذا ما كان المشركون من زعامة قريش يريدونه، عندما اشترطوا على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنْ يبعد عنه ضعاف المسلمين، وأنْ يطردهم من مجالسه لأنَّ مكانتهم الاجتماعية لا تسمح لهم بمجالستهم، ولأنهم لا يرضون أنْ يكونوا وإيَّاهم سواسيةً في الدين الجديد.. ولكنَّ رسول الله أبى أنْ يستجيب لدعوة أولئك «الكبراء» من قريش!.. وهذا أمرٌ بديهي لأنَّ الإسلامَ الذي يدعو إلى اعتناقه لا يقيم أي اعتبارٍ أو وزنٍ للفوارق الاجتماعية التي يتمايز بها الناس على أساس الغنى والفقر، أو النفوذ والضعف.. فالمقياس في الإسلام هو التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجرَات: 13].. فلا مال، ولا جاه، ولا سلطان، ولا مكانة يمكن أن تعطي أيَّ إنسانٍ مكرمةً على غيره إلاَّ التقوى، فهي الميزان الحق الذي توزن به القيم التي يتحلَّى بها الناس، وتجعل بعضهم في مرتبةٍ أعلى من بعض.
ولم يكن لتلك الشروط من المشركين أن تمرَّ من غير تبيان لبعض القواعد التي يجب أنْ تقوم عليها العلاقات في المجتمع الإسلامي، فنزل الوحيُ يثبّت النبيَّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) على موقفه؛ إذ إنّ عليه أنْ يبلّغ الناسَ، بما تحمل الآيات المنزلة من النذير المبين، ومن ثمَّ فلا يطرد الذين يعبدون ربّهم، ويتوجهون إليه بقلوب عامرة بالإيمان، يدعونه في الصباح والمساء مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.. أمَّا أنهم فقراء أو ضعفاء فهذا ليس من شأن أحد، لأن فقرهم أو غناهم مقدَّرٌ من الله، حتى النبيّ نفسه فإنَّ غناه أو فقره بيد الله، ولا يملك أحد هذا الشأن إلاَّ الله سبحانه وتعالى؛ إذاً فلماذا يطرد رسول الله الفقراء والمساكين والمستضعفين من حوله، وهو الذي يحمل الدعوة إلى دين الرحمة، والعدالة، والمؤاخاة.. ولو فعلَ - فرضاً - بأن آثَرَ المستكبرين على غيرهم من الناس، لكان من الظالمين، وحاشا لرسول الله أنْ يكون من الظالمين، فكان رفضه قاطعاً في الاستجابة لرغبة أولئك الطغاة من قريش! ثم ماذا على هؤلاء، ممَّن يدَّعون السيادةَ في القوم لو دخلوا في الإسلام، وهذا لصالحهم!.. أما إنْ رفضوا، مدَّعين مثل تلك الأعذار الواهية، فالذنب يقع على عاتقهم، وهذا لا يعني إلاَّ تصميماً للبقاء على شركهم، وهو الظلم بعينه، لأنَّ الشرك لظلمٌ عظيم لو كانوا يعلمون!...
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *} [الأنعَام: 53]..
..فالاستكبار على المؤمنين المساكين هو بذاته فتنة، إذا لم تتقبّل عقولهم، ولم تقتنع نفوسهم بأن يكون مواليهم وفقراؤهم أهدى منهم. وتلك الفتنة هي ما ابتلاهم الله به، لأنه يعلم ما في الصدور. وقد ظهرت تلك الفتنة على ألسنتهم بقولهم: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، فهداهم إلى الخير الذي يدعو إليه «محمد»؟! إنه لو كان ما جاء به «محمّد» خيراً لما سبقونا إليه، ولما جعلهم الله أفضلَ مِنّا، ولا منَّ عليهم من بيننا، وتركنا من غير أنْ يهدينا إلى دينه.. والحال أننا نحن أصحاب الجاه والمال، وذوي السيادة والمقام!.. ذلك قولهم بأفواههم، ولكنَّ القرآنَ يردُّ عليهم مستنكراً ظنونهم وأفكارهم العقيمة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *} [الأنعَام: 53] لربّهم على ما أنعم عليهم من نعمة الإسلام، التي تُعدُّ - بالمفهوم الإنساني - من أعظم النعم التي يمنُّ بها الله على عباده، الذين لا يعبدون إلاَّ الله تعالى، ولا يتوجهون بالحمد والشكر إلاَّ لوجهه الكريم... والله تعالى يعلم هؤلاء المؤمنين الشاكرين، فخصَّهم بنعمة الشكر لأنهم يستحقونها، وسيجزي سبحانه هؤلاء الشاكرين على شكرهم.. وشتان ما بين جزاءٍ محمودٍ على شكر النعمة بالإسلام، وبين جزاءٍ مذمومٍ على جرم الكفر أو الشرك!.. والله أعلم بالشاكرين لأنعمه، وهو أعلم بالجاحدين لهذه الأنعم.
ثم يأمرُ الله تعالى نبيَّه محمداً بتعظيم المؤمنين، الذين يؤمنون بآيات الله يتلوها عليهم قرآناً مبيناً، ويصدقون بما أنزل إليه من ربّه، وما أنزل من قبله من كتاب.. وذلك التعظيم بأنْ يقول لهم: سلام عليكم بما قضى ربكم على نفسه من الرحمة بكم، كما يهدينا إليه قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [الأنعَام: 54].
إنه السلام الذي يملأ نفوسهم بالطمأنينة والراحة، فلا يخافون أنْ يطردوا من مجالس رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ولا أن يُبعدوا عن رحمته ورأفته بهم؛ لا بل هو رضىً من ربّهم الحميد الذي أسبغ عليهم فضل السبق إلى الإسلام، فكانوا أهلاً لأنْ ينعموا بأمان الله، وبالسلام الذي يفشيه الرسولُ بينهم.. وزيادة في تكريمهم والإنعام عليهم، فإن الله يبشرهم بأنه كتب على نفس الرحمة، أنه من عمل منهم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده، وأصلح نيته وعمله، خالصاً لله، فأنه تعالى غفور رحيم.. وهذا يعني أنَّ الله عزَّ وجلَّ أمرَ نبيَّه بأنْ يقبل عذر من عمل سوءاً، وكان يجهل عاقبةَ هذا السوء، ثم يبشِّره بالسلامة لمن اعتذر وأناب إلى ربّه، بل ويؤمِّنه بأنَّ ربَّهُ ومولاه أوجب على نفسه الرحمة إيجاباً مؤكداً، وذلك بأنْ جعل هذه الرحمة للذين آمنوا بآياته، ثم أخطأوا في بعض تصرفاتهم - عن جهل، ثم تابوا عن خطأهم، من بعد علمهم به.
وقد يحتمل النص: { أنه من عمل سوءا بجهالة } أي كان جاهلاً للمكروه فيه، لأن البعض يفسِّر الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب، فما يذنب المؤمنُ إلاَّ عن جهالة، أو أنه علم أنَّ عاقبة هذا السوء مكروهة، ولكنه آثر العاجل، فَجُعٌٌِلَ جاهلاً لإيثاره النفعَ القليلَ على المنافع الكثيرة، والمتعة الزائلة على العافية الدائمة. ومثله قول الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما} ]النساء: 17[.. فالتوبة التي تتأتَّى عن الرحمة التي كتبها الله على نفسه للذين يعملون المعصية، إنما هي لأنهم كانوا جاهلين بأنهم يعصون ربّهم، ثم يتوبون من قريب، أي قبل أنْ يدركهم الموت، فأولئك يقبل الله توبتهم. والله تعالى عليم بخلقه، وبضعفهم الذي يرتكبون بسببه المعصية، ثم لا يصرون عليها. وهو سبحانه حكيم بما جعل في نفوسهم من قابلية لتجاوز هذا الضعف، وعدم الوقوع في المعصية مرة أخرى، ثم الرجوع إلى ربّهم طلباً للتوبة والمغفرة..
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ *} [الأنعَام: 55].
«وكذلك» أي مثل ما قدَّمنا من الدلالات على التوحيد، والنبوة، والقضاء بالرحمة، والتوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون عنه.. «نفصِّل الآيات»، أي نبيّن الحجج، والبراهين، والشواهد والأدلّة ونوضّحها على صحة ما يقول هذا الرسولُ، وبطلان ما يقوله أولئك الكفار.
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ *} [الأنعَام: 55]: أي ليعرف السامع أو السائل، أو لتعرفَ أنت يا «محمد» - في حال كانت «سبيلَ» على النصب - سبيلَ المجرمين، وما هم عليه من الكفر والعناد، وارتكاب المعاصي والجرائم المؤدية إلى النار.. وقيل: إنَّ المراد بـ «سبيل المجرمين» ما عالجهم الله به من الإذلال، واللعن، والبراءة منهم، والأمر بالقتل والسبي في حال محاربتهم للمؤمنين، ونحو ذلك من المخازي التي ينزلها بهم العليم الحكيم على يد المؤمنين، أو العقوبات التي ينزلها بها العليُّ القديرُ على ذنوبهم ...
وإذا سُئل: ما المشبه وما المشبه به في الآية: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ *} [الأنعَام: 55]؟ فالجواب:
الكاف: أداة تشبيه، وقد جاء هذا التشبيه في موضع نصب لأنه مفعول «نفصِّل».
و«الواو» في «ولتستبين» للعطف على مضمر محذوف، وتقديره: لتفهموا ثوابَ التوبةِ وإصلاحِ النفس، «ولتستبينَ سبيلُ المجرمين» ممن لا يتوبون، ولا يرجون رحمة من ربهم الغفور الرحيم، أو جاء الحذف لأنَّ فيما أبقى دليلاً على ما ألقى.
أو أنَّ المعنى: كما بيّنا ما ذكر في الآيات التي تقدمت في هذه السورة، كذلك نفصّل ونبيّن الآيات الأخرى التي تليها، ليظهر الحق فيُعمل به، وتظهر طريق المجرمين فيُصار إلى اجتنابها..
«ومن هذا يتبين أنَّ النص قد جاء شاملاً لكل سوء يعمله صاحبه متى تاب من بعده وأصلح عمله، وذلك لأنَّ النصوص الأخرى في القرآن الكريم تجعل التوبة من الذنب - أياً كان - والإصلاح بعده، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله تعالى على نفسه من الرحمة».
الفقرة الثالثة - الإيمان برسل الله
1 - ليست استجابة الذين يدعونهم من دون الله، إلاَّ كباسط كفّيه إلى الماء وما هو ببالغه.
يقول الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ *} [الرّعد: 14].
إنَّ دعوة الحق، التي هي كلمة الإِخلاص بشهادة «لا إلهَ إلاَّ الله»، وما ينضوي تحتها من دعوات الصلاح، والإصلاح، والخير والتقوى، والإيمان، والسلام، والإسلام.. هي جميعها لله وحده، الذي لا شريك له، فله الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.. فكان من مقتضيات الوجود كله، أنْ تكون العبادة لله وحده، وأنْ لا يشرك العباد بعبادة ربّهم أحداً.. ولكي تستقيم هذه الدعوة في عقول الناس وأفئدتهم، وتتأثر بها أسماعهم وأبصارهم، وسائر حواسهم وجوارحهم، فقد أمر الله تعالى الرسولَ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنْ يلقي الحجج البيّنات على أهل الكفر والضلال - بل وعلى الناس كافة - فيسألهم بطريقة السؤال التقريري،التوكيدي بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يُونس: 31]... فهذه القضايا الكبرى، التي تلامس كيانَ كل كائن بشري، لا بدَّ إلاَّ أن تكون، إذا ما طرحت على الأسماع والأبصار والأفئدة، من الحجج والبراهين العقلية والحسية التي يقدمها القرآن..أجل إنَّ هذه القضايا إذا ما طرحت على الناس، لا بدَّ أن تهزَّهم، وتحرّك عقولهم ومشاعرهم، ثم تفرض عليهم أنْ يجيبوا إمَّا بالإِنكار، أو بالإقرار، فإنْ راعوا الحقَّ المبين {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يُونس: 31]، أي أنَّهُ إقرارٌ بيّنٌ منهم بأنَّ من يرزق من السماء والأرض، ومن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض هو الله تعالى.. فإذا قالوا هو «الله» فقل لهم يا محمد: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ *} [يُونس: 31] - إذاً - ربَّكم القويَّ المتين، فتؤمنون به إلهاً واحداً، وله وحده دعوة الحقّ؟
بل ويتابع الوحيُ الأمرَ التقريري، حتى لا يكون الإقرار، مجرد إقرار، وإنما توكيد على أنَّ الخالق، والجاعل والفاعل لكل تلك القضايا والأشياء، والذي يدبّر أمور الخلائق، هو لله ربّكم، الحق الأزلي، القائم والدائم، ولذلك يأتي التوكيد على أنَّ الله وحده دعوةَ الحق بقوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ *} [يُونس: 32].. فكيف تحيدون عن الإِيمان بـالله ربّكم الحقّ، مع تلك الحجج والبراهين، وبعد إقراركم واعترافكم؟!..
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يُونس: 32] أيها العباد، فكان قوله الحق، و«له دعوة الحق» عبادةً، واستسلاماً ودعاءً؛ فإذا كان توجهكم إليه بالنية الخالصة، والقلب الموقن، واللسان الصادق، فإنه سبحانه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ولا يخيَّب أمل من رجاه..
أما الذين يدعونهم من دون الله، كما هو شأن المشركين والكافرين، الذين كانوا يتعبَّدون لتصوراتٍ وهميةٍ لا تنفع ولا تضرّ، أو كشأن الذين يعتمدون على أمثالهم من الناس، ويتّكلون عليهم في قضاء حوائجهم ونيل مطالبهم.. فكل أولئك الذين يدعونهم من دون الله ربّهم الحق، لا يستجيبون لهم بشيءٍ، إلاَّ أنْ يكون خلافاً للحق، ومتماشياً مع الباطل!.. ولذلك فإنَّ مِثْلَ تلك النتائج التي يحصلون عليها من حيث قيمتها في حسبان الحق، كمثل ما يحصل على الماء رجلٌ ظمآنٌ يقف على حافة بئر، أو فوق نبعٍ، أو على ضفة نهرٍ، وهو يحدِّق بالماء، ويبسط إليه كفيّه، وكأنما يدعوه ليرتفع إليه، فتتلقفهُ كفاه المفتوحان، ثم يودعه فمَهُ ليرتوي!.. وهذا ضربٌ من التصور الذي لا ينفعه بشيء، لأنه محالٌ أنْ يرتفع الماء بصورة تلقائية لمجرد أنْ يبسط كفيه إليه، دون أنْ يتقدم ويغرف منه، ليروي ظمأه.. فحاله في هذا التصرّف الذي يدل على بلاهته في عدم اغتراف الماء بكفَّيْه، كمثل حال أولئك الذين يدعونهم، أو يعوّلون عليهم من الأوثان، أو الكائنات، أو البشر من دون الله تعالى إذ تبقى دعواتهم لهم دعواتٍ باطلةً وفاسدةً لأنها غير مبنية على الحق، ولا تتوخى الحقّ.. ولذلك كانت كل دعوة لغير الله الحق، دعوة ضلالٍ وبهتانٍ، وخارجةً عن طبيعة الحياة المحكومة بالحق، وكذلك كان كلُّ خروجٍ على سنن وضوابط الحق، إنما هو إلى بطلان وضياع؛ فالنتائج التي تترتب على أعمال الباطل محسومة سلفاً بالخسران.. والقرآن الكريم عندما يقرر هذه الحقيقة في مثال الباسط كفيه إلى الماء، إنما يريد أنْ يدلّل به على دعاء الكافرين، أي على ركونهم إلى عباداتهم، وتصرفاتهم، ووجوه سلوكهم، فكلها تذهب بلا فائدة في حسبان ربّ العالمين، بل وقد ترتدُّ بالخيبة على أصحابها، لأنَّ طلب الباطل لا يمكن أنْ يقع إلاَّ في باطل، وعبادة الكافرين لا يمكن أنْ تقع إلاَّ في ضلال، وذلك بخلاف الذين حملوا الدعوة للإيمان بحقيقة وجود الله، من الأنبياء والمرسلين، ومن سار على هديهم من أولياء الله الصالحين وعباده المؤمنين، فكان حرياً بالناس أنْ يؤمنوا بحقيقة بعث النبيين والمرسلين، وأن يصدقوا بما جاؤوا به من ربّهم تبارك وتعالى، كما تبيّنه الآيات المباركة التالية.
2 - الرسلُ بشر مثل سائر عباد الله من الناس
يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ *قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأَتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ *} [إبراهيم: 9-11]
إنه تذكير للمشركين والكافرين بأنباء الأقوام الذين مرّوا على هذه الدنيا من قبلهم، مثل قوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ، والذين جاؤوا من بعدهم، وهم كثير لا يعلمهم إلا الله الذي بعث الرسل لهدايتهم، فأبوا الهداية، وكذبوا الرسلَ بكل ما جاؤوا به من البشير والنذير، وهم يعلنون عن ذلك صراحة، فيقولون: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ *} [إبراهيم: 9].. ولكنَّ الرسل كانوا ينكرون، بدورهم، على الكافرين كفرهم، وعلى الشاكّين بدعواتهم، شكَّهم، وذلك من خلال هذا الحوار الرصين بين الفريقين، وهو كما يبدو حوار هادئ، بليغ بدلالاته المقنعة على الحق الذي يدعو إليه أولئك الرسل المهتدون..
قالت الرسل: أفي حقيقة وجود الله - تعالى - شكٌّ، وهو فاطرُ السماواتِ والأرض؟ وكيف يمكن أن يتسرَّب الشكّ إلى نفوسكم، وكلُّ ما في السماوات والأرض يدلُّ على حقيقة وجوده تعالى وبأنه هو الخالق العظيم؟ إنه هو - جلت عظمته - الذي يدعوكم للإيمان به، عملاً بالميثاق الذي واثقكم به وأنتم في عالم الذرّ، وقد أقررتم على أنَّ الله تعالى هو ربّكم وأنتم له مسلمون.. وما نحن إلا مبلِّغون لدعوة التوحيد والإيمان، وحاملون للبيّنات على صدق دعوة الله الحق لعباده.. وإن يَدْعُكُمْ ربّكُمُ الله العليّ الكبير، أيها العباد إلى الإِيمان والهدى، فإنّما ليغفرَ لكم من ذنوبكم التي اقترفتموها، جراء الكفر الذي هو أكبر المعاصي على الإطلاق. فالدعوة التي نحمل إليكم هي دعوةٌ للإيمان بالله الحق، وهذه الدعوة لخيركم، وفلاحكم في الدنيا والآخرة، فإن أنتم آمنتم غَفرَ لكم ربّكم من ذنوبكم ما لا تعلمون. وهذا الغفران هو منتهى الرحمة لأنه يُنجيكم من العذاب يوم الدين. بل ورحمته أوسع عندما يؤخركم إلى أجل محدود أنتم بالغوه، بحيث تكون لكم فسحة للتعويض عما فاتكم من الطاعة والعبادة، ومن ثَمَّ الاستقامة على منهج الإيمان الذي يكفل لكم الفوز والنجاة.
قال الكفار: كلاَّ، لن نصدِّقَ ما تزعمونه بأنكم مرسلون من الله، ومبعوثون لهدينا، إنْ أنتم إلاَّ بشر مثلنا، والله لا يبعث الرسلَ من البشر!.. وإنّما جئتم تحاولون أنْ تصدُّونا عما كان يعبد آباؤنا، فإنْ كنتم صادقين في دعوتكم، فأتونا بالبراهين البيّنة، والحجج الظاهرة على الرسوليَّة التي تدَّعون!..
قالت لهم رسلهم: إنْ نحن إلاَّ بشر مثلكم، وها نحن أمامكم بأجسادنا البشرية التي لا نتنكَّرُها، ولا ندَّعي غيرها.. وسنة الله تعالى في خلقه ألاَّ يبعث رسولاً لقوم إلا من أنفسهم، وبلغتهم، وهو - سبحانه - يمنُّ بهذا الفضل العظيم، وبنعمة النبوة وحمل الرسالة، على من يختار من عباده الصالحين. وأنتم تعرفون حق المعرفة أننا أبناء قومكم، وإخوانكم في اللحم والدم والموطن، وقد عشنا بينكم زمناً قبل بعثنا رسلاً من ربّنا وربّكم.. فآمنوا بما ندعوكم إليه، ودعواتنا كما نبسطها لكم بالآيات، والأحكام والقصص، والأمثال والأدلّة العقلية والحسية فيها البيّنات على صدقنا. أما أنْ نأتيكم بمعجزات - كما تطلبون - فليس لأيّ نبيّ أو رسول أنْ يكون له ذلك إلا بإذن الله، فالمعجزات منه تعالى، فإن شاءَ أظهر معجزاته على أيدي رسله، وإلاَّ فالأمر له عزَّ وجلَّ، وما كان لنا، نحن البشر أمثالكم، أنْ نأتي بأية معجزة إلاَّ أن يشاء الله، أو نأتي بأي برهان أو حجة إلا بما يُوحى إلينا من الله الذي بعثنا..
وفي ختام المطاف كان رسلُ الله يلقون الحجة على الناس، قائلين: لقد آمنّا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما أُنزل إلينا من الدين والهدى، ومن يؤمن بالله ربّاً كريماً، فهو حسبه، إذ إليه تعالى يوكل الأمورَ جميعاً في هدايته، وهداية عباده. ونحن نتوكل على الله في دعوتنا، ولا نلتفت إلى عون إلا عونه، ولا نركن إلى حمىً إلا حماه، وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
3 - بلاغة دعاء الأنبياء ومثالها دعاء أيوب (عليه السّلام)
يقول اللَّهُ تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ *ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُِولِي الأَلْبَابِ *} [ص: 41-43].
إنَّها مواساةٌ من الله تعالى لرسوله الكريم محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنْ يتذكَّر أخاه أيوبَ (عليه السّلام)، وما وقَعَ به من البلاء، فخاطبه تعالى بقوله العزيز: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [ص: 41].. وهنا تبرز الصيغة الجميلة في دعاء أيوب (عليه السّلام)، وهو يرفع صوته منادياً: يا ربِّ!.. فالنداء الذي يتوجه فيه الإنسان المؤمن إلى ربّهِ، هو دعاءٌ ينبع من الأعماق مع حرارة في القلب، واستسلامٍ في الجوارح، وهذا ما يفرقه عن الدعاء كما لو قال: «اللّهُمَّ ارحمني»، فيكون داعياً، وليس منادياً. ولذلك تبقى في النداء صرخةٌ أعمقُ في طلب الرحمة، ولهفة أشدُّ للاستجابة..
وهذا ما كان عليه نداء أيوبَ (عليه السّلام) وهو يستجير بربّه تعالى: «ربّي إني مسَّنِيَ الشيطانُ بُنُصبٍ وعَذَابٍ»، أي: يا ربِّ! هذا الشيطان قد أضرَّني فأتعبني، ووسوس لي فعذّبني، فأسألك وأتضرّع إليك يا ربِّ أنْ تصرفه عني، فأنا عبدُكُ وراضٍ بحكمك عليّ.. وأنا فقير إليك، وصابر على ابتلائك، ومحتسبٌ جميلَ صنعك بي يا رؤوف، يا رحيم..
وهنا يبرز صدق الإِيمان عند العبد، ومنتهى ثقته بربّه تعالى، فأيوب (عليه السّلام) كان صابراً على البلاء، ولكن ما كان يزيد في آلامه النفسية والجسدية تلك الوساوس من الشيطان، وهذا اللعين يجهد بأنْ ينتزع من نفسه صبرَها، وأنْ ينفث في قلبه من سموم اليأس ما يوهن احتماله، وذلك بكيدٍ تحريضيٍّ حتى ينقم على ربّه - تعالى الله علواً كبيراً - لأنه سلب منه الصحة والمال، وحرمه الولدَ والذريَّةَ، فلم يبق له شيء إلا المرض والعذاب!. فأولاده على كثرتهم قد ماتوا، وأمواله وأرزاقه على وفرتها قد تبددت، وأنعامه ومواشيه على كثرة قطعانها قد ضاعت.. ولكن، وعلى الرغم من كل ما حدَثَ له، ولا سيما ذلك المرض العضال الذي أضناه منذ أعوامٍ، فقد ظلَّ أيوب (عليه السّلام) صابراً على البلاء العظيم، لا يني عن ذكر ربّه الحميد المجيد، والدعاء إليه بأنْ يرحمه، ويقوّي في نفسه الاحتمال على تلك الشدائد.. وهذا ما جعل الشيطان يزدادُ حقداً عليه، وإصراراً على الكيد له، والإيقاع به، وهو يراه على ذلك الصبر الجميل؛ فانصبَّ كيده على دسّ الوساوس الخبيثة في نفسه، والتي ظنَّ أنَّ من شأنها دفعه إلى اليأس، والقنوط من رحمة ربّه.. إذْ كان يزيّن له ما كان يعيش فيه من الثروة والغنى، وما كان يأنس به من الأولاد والأحفاد، الذين هم أعزُّ من المال والجاه والسلطان عند المؤمن.. ثم يعود ليصوّر له حجم المأساة التي وقع بها، وقد ذهب عنه كل ذلك إلى غير رجعة.. ودون أنْ ينسى مصابَهُ في نفسه، وما يعاني من آلام المرض الشديد، والبلاء العظيم!.. أما ما كان يطمع إليه الشيطانُ اللعينُ فهو أن يُزلَّ هذا العبد من عباد الله المخلصين، الذي اجتباه ربُّه لحمل الرسالة، ثم أوقعه في البلاء ليكون إيمانُهُ بالله، وصبرُهُ على الإبتلاء مثالاً يحتذي به المؤمنون على مدى الأزمان من بعده، ولذلك قَعَدَ له الشيطان مستميتاً في صرفه عن التوجه إلى الله، وهو يسلك إلى ذلك طريق التضجُّر، والتبرُّم من الحالة التي كان عليها النبيّ الصابر.. ولكن خسئ الشيطان الرجيم، وخابت كل جهوده، فما وجَدَ، في نهاية المطاف، إلاَّ عبداً صابراً، محتسباً، مستسلماً لأمر الله تعالى، ومسلّماً بقضائه وقدره ..
وقيل في عمل الشيطان إنَّه لم يكتفِ بوسوسته لأيوب (عليه السّلام) إبَّان اشتداد المرض عليه، بل زيّن لبني قومه الابتعاد عنه، فكان لا يزوره، أو يقدم له العون أحدٌ منهم؛ لا بل وكان يحرّضهم على أنْ يجافوا امرأته حتى لا تدخل عليهم في بيوتهم، إنْ كانت ترغب بالبقاء على خدمة زوجها، ومواساته من دون سائر أولئك الناس.. وهذا ما جعل أيوب (عليه السّلام) يتأذَّى كثيراً من ضرر الشيطان له، ومن الألم الذي يناله بسببه، في حين أنه لم يتأفف، ولم يشْكُ من آلام المرض التي هي ابتلاءٌ من الله تعالى له..
وصَبَرَ أيوبُ (عليه السّلام) على عذابه وألمه سبع سنين، كان طوالها لا ينفكُّ عن مقاومة الشيطان، وطرد وساوسه من نفسه، والاستعاذة بالله تعالى منه، محيلاً وساوس هذا العدو المبين إلى دعاء صادق للمبتلين، ودسائسه إلى نداء صارخ للعابدين، علَّ ربَّهُ السميع البصيرَ يخلّصه من تسلّط الشيطان عليه، فيبعده عنه، وينجّيه - برحمته الواسعة - من فتنته وإضلاله.. وكانت الاستجابة من الله الرحمن الرحيم إلى عبده أيوب، فأوحى إليه أن «اركض برجلك» حيث يجعلك هذا الضرب برجلك، من حيثُ أنت مقعد، ترى الماء يتفجّر عند رجليك؛ وهو ماءٌ طهورٌ باردٌ، إذا اغتسلت به، وشربت منه تشفى بإذن الله.. وتحققت مشيئة ربّ العالمين، إذ ما كاد أيوب (عليه السّلام) يشرب، ويغتسل بذلك الماء حتى ذهب عنه كلُّ أثرٍ للداء، وعادَ معافىً، موفور الصحة بأحسن مما كان عليه من قبلُ..
ثم يظهر، بعد ذلك، الفضل العظيم الذي امتنَّ به الله تعالى على عبده الصابر أيوب (عليه السّلام)، بأنْ وهب له أهله ومثلهم معهم، كما أعطاه كلَّ ماله الذي تبدَّد ومثله معه، وبذلك عوَّض عليه من أولاده الذين ماتوا ضعفهم، ومن الأنعام والأرزاق أضعاف ما كان يملك، وكل ذلك رحمة منه تعالى ونعمة، وعظةٌ لأولي الألباب الذين يتفكرون في حياة ذلك النبيّ الكريم، فيجدونها مليئةً بأحداث جسيمة، هي - في الحقيقة - آيات مبيّنات على أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنَّ تلك الأحداث ليست مقصورة - بالضرورة - على النبي أيوب وحده، بل ويمكن أن يكون لها مثيل - يظهر بوجوه أخرى - في حياة كثيرٍ من عباد الله الصالحين، الصابرين الذين لا ينقطعون عن عبادة ربّهم وشكره، مهما تألّبت عليهم الظروف، أو داهمتهم الخطوب..
وتتأكد تلك الاستجابة لأيوب مرة أخرى بقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *} [الأنبيَاء: 83] ! }.
وهنا في سورة «الأنبياء» كما في سورة «ص» نجد نفس المعاني التي تشير إلى الحالة التي كان عليها النبيّ أيوب، وإلى رحمة الله التي حلَّت به. والقرآن الكريم يكرر قصته في أكثر من سورة توكيداً على عظاتها ومراميها، بحيث تجتمع في النصوص البلاغة، وصوغ الألفاظ لتؤدي المعاني المطلوبة تارة بالإِطناب والإِسهاب، وتارة بالاختصار والتقليل في اللفظ، ليكون في ذلك عبرة لذوي الأفهام، وتنبيهاً إلى ذوي الأبصار، وهو: أنَّ الكتاب الذي يأتي بمثل هذا الأسلوب، ويستعمل هذه الطريقة في الأداء ليس من تأليف البشر... لأنَّ البشر لا يقدرون على تبيان نفس المعاني بصيغ مختلفة وبألفاظ تكثر في موضع، وتقل في موضع آخر، ويكون لها في كل مرة الوقع والجرس اللذان يبرزان المعنى، ويؤديان نفس الأثر في القلوب.. فالقصة هي عينها، والأداء والأسلوب هو ذاته، وغالبية الألفاظ تكاد تكون نفسها، وفي آيتين من كل سورة بلا زيادة أو نقصان. وكذلك هي المعاني التي تدلّ الناس على أنَّ الله هو الذي يعطي ويهب النعمة، وهو الذي ينشر رحمته الواسعة على عباده بلا حدود ولا قيود. وأما ما يصيب العباد من الضرِّ والبأساء، أو من الشدة والبلاء، فإنها عوارض يمحّص الله بها القلوب، ويثيب العابدين الصابرين بما يستحقون من الأجر والجزاء.. وليس أعظمُ مكرمةً لأيوب (عليه السّلام) في دنياه من أنْ يشفيه ربُّهُ من مرضه العضال.. وليس أوسعُ رحمة تنزل به من أنْ يعيد له ربُّه زوجَهُ أكثر شباباً وحيوية.. وأن يعوِّضه عن أبنائه الذين ماتوا، جميعاً، بل ويأتيه مثلهم عدداً.. وليس أكبر نعمةً يتلقّاها من أنْ يفيض عليه الرزّاق الكريم من الأرزاق والخيرات أضعاف ما كان عنده قبل الابتلاء..
وذلك - وهنا العظة البالغة - لأنَّ أيوب (عليه السّلام) لم ييأس ولم يقنط من رحمة ربّه، ولم يخضع لوسوسة الشيطان ونزغه، بل صبر على حكم الله تعالى وتوكّلَ عليه، فلم ينقطع قلبه ولسانه عن ذكر الله، وعن عبادته، وشكره والثناء عليه في الضرّاء، كما كان حاله في السرّاء، فاستحق تلك الرحمة المباركة العظيمة لأنه من عباد الله الصابرين. وإنَّ في مَثَله لذكرى للعابدين فإنْ صبروا مثل صبره، فسوف يثابون بالأجر مرتين: مرةً على إيمانهم الصادق بالله تعالى، والثقة بربّهم الكريم، ومرةً على صبرهم في الابتلاء والشدّة، وذلك هو الفوز العظيم.
4 - العلم اللَّدُني الذي يهبه الله تعالى لأنبيائه، ومثاله تأويل النبيّ يوسف الأحاديث.
يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [يُوسُف: 6].
العلمُ اللَّدُنِيُّ، هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله تعالى، لأنه عالم الغيب والشهادة، وقد جعل غيبَهُ سراً مكنوناً، محجوباً عن خلائقه، إلاَّ من اصطفى من عباده، فيعلّمه من لَدُنْهُ - سبحانه - شيئاً من غيبه، بما قد يدلُّ على أمرٍ خفّيٍ، أو على حدثٍ مستقبليٍّ، أو حادثةٍ معينة غير متوقعة في الزمان والمكان..
ومن علم الله المغيب، ما علَّم يوسف بنَ يعقوب (عليهما السّلام) من تأويل الأحاديث، أي تعبير الرؤيا، التي تحصل في المنام، كما يدلُّ عليه قول يعقوب (عليه السّلام) لابنه: «وكذلك يجتبيك ربُك»، أي يصطفيك مثل ما اصطفى آباءك من قبل، ويعلمك من تأويل الرؤى ما لم يستطع غيرك أن يفقَهَ سرَّهُ وغيبَهُ؛ ويتمُّ، من ثمَّ، نعمته عليك بالنبوة، وعلى آل يعقوب (عليهم السّلام) كما أتمَّ هذه النعمة العظيمة على أبوَيْكَ من قبل إبراهيمَ وإسحاقَ[*]، لأنَّ ربَّك عليمٌ بخلقه، ومن هم أحقّ بالاجتباء، حكيم في صنعه بهم، بما يهبهم من المؤهلات التي تمكّنهم من حمل أعباء النبوة وأثقالها..
ومن المعروف في سيرة يوسف (عليه السّلام) أنَّ إخوته قد تآمروا على قتله، وهو ما يزال فتى يافعاً.. وبعد مشاورات ونقاشات كثيرةٍ آثروا، بدل أنْ يقتلوه، أنْ يلقوه في بئر مملوءة بالماء، علَّه يموت غرقاً، إلاَّ أن مشيئة الله تعالى كانت أقوى مما يظنون، فأنجاه إلى صخرة آوى إليها في جانب البئر...
وصادف مرور قافلة للتجارة، فأرسلوا من يرد الماء ليستقوا منه، فتعلق يوسف بحبل الدلو، ليأخذه أولئك التجار إلى مصر، ويبيعوه عبداً إلى عزيز مصر، أي الوزير الأول لدى فرعون.. وقال هذا الرجل لامرأته: أكرمي مثواه، بإقامته عندنا، عسى أنْ ينفعنا أو نتخذه ولداً - لأنهما لم يرزقا أولاداً -.
وهنا يعود التوكيد في النصوص القرآنية على تعليم الله عزَّ وعلا ليوسف من تأويل الأحاديث، الذي سيجعل له شأناً عظيماً في مقبل أيامه، فيقول الحق تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [يُوسُف: 21]، أي وكما نجيّناه من القتل، ومن أخطار البئر، وأكرمنا مثواه لدى عزيز مصر وامرأته، ومثل ذلك مكَّنا له في أرض مصر، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، ليكونَ هُوَ - أي يوسفَ - عزيزَ مصرَ، وحافظَ خزائن الملك.. والله تعالى يختار ما يشاء، فلا يعجزه شيء، لأنَّ أمره السنيَّ هو الغالب دائماً على كل أمرٍ أو مشيئة، ولكنَّ أكثر الناس من الكافرين لا يعلمون ذلك..
ودارت الأيام، وأودع يوسفُ السجن حفاظاً على سمعة عزيز مصر، بعد أنْ افتضح أمر زوجته، عندما راودته عن نفسه، فاستعصى بفضل الله تعالى، الذي شاءَ أنْ يعصمه، ويصرف عنه السوء والفحشاء ليكون من عباده المخلصين..
وأمضى يوسف في السجن بضع سنين مع فتيين أُودِعا نفس الغرفة التي حبس فيها؛ وكان أحدهما قد رأى حلماً بأنه يعصر خمراً، ورأى الآخر حلماً بأنه يحمل على رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فطلبا منه أن ينبئهما بتأويل رؤياهما قال: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يُوسُف: 37]. ثم قال لهما: أمَّا أحدكما فيخرج ويعود إلى خدمة سيده، فيسقيه خمراً. وأما الآخر فيصلب، فتأتي جوارح الطير وتحط على رأسه لتأكل منه.. هذا تأويل رؤياكما، مما علّمني ربّي وألهمني من تأويل الرؤى .. وقال يوسف للذي ظنَّ أنه ناجٍ منهما: أذكرني عند سيدك، فإني محبوس ظلماً..
ثم كانت الرؤيا الفاصلة، والحاسمة في حياة يوسف، عندما رأى الملك في منامه سبعَ بقراتٍ سمانٍ يأكلهن سبعٌ عجاف، وسبعَ سنبلاتٍ خضرٍ وأخرَ يابسات..
وطلب الملك من الملأ حوله أنْ يفسّروا له ما تعني تلك الرؤيا، فقالوا: هذه أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
وتذكَّر، بعد مدةٍ، ذاك الذي نجا من السجن، أنَّ يوسف قادر على تأويل الرؤى، فأرسلوه إليه في سجنه، فلما قصَّ عليه رؤيا الملك، قال يوسف: تزرعون سبعَ سنين، فيرزقكم الله خيراً وفيراً، فما حصدتم فاتركوه في سنابله لئلاَّ يفسد، إلاَّ ما تدرسون لتأكلوه.. ثم تأتي سبع سنين مجدبة، فيكون لكم ما ادخرتموه من السبع المخصبات عوناً على اجتياز أزمة ذلك الجدب، ثم يأتي من ذلك عام يُغاث فيه الناس بالمطر، والزروع الفائضة..
قال الملك: ائتوني به استخلصه لنفسي، فلما جيء به قال له: إنك اليوم لدينا ذو مكانة، وأمين على أمرنا، فماذا ترى؟
قال يوسف: إجعلني على خزائن أرض مصر وإني حفيظ للأمانة، عليم بتدبير الأمور.
وأولاه فرعون ما طلب، بأنْ جعله مكيناً، يأمر بما يجب، وينهى عمّا يحرم، حفاظاً على مكانة الملك، ومصالح الناس. وبفضل ما علَّمَ الله تعالى يوسف من لدنه، أي بما كشف له من غيبه، كان هذا العلم سبباً لبلوغه تلك المكانة المرموقة التي يدلُّ عليها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يُوسُف: 56]، أي وكما أنعمنا عليه بتأويل الأحاديث والخلاص من السجن، كذلك مكَّنا له الحكم في الأرض، ينزل منها أيّ منزل حيث يشاء، فلا معارض له، ولا دسيسة عليه... وذلك كله بفضل الله ورحمته التي يصيب بها من يشاء من عباده، بحيث لا يضيع أجر المحسنين، ومنهم يوسف الصدّيق.
وعندما حلَّت سنوات القحط والجدب جاء إخوة يوسف من فلسطين إلى مصر لشراء الميرة، فأنزلهم منزلة حسنة من غير أنْ يعرّفهم بنفسه، ولكنّه بذكائه وحسن معشره، استدرجهم ليعرف أخبار أهله، ولا سيما ما جرى مع أخيه الأصغر «بنيامين»؛ فلمَّا جهَّزهم بجهازهم، أخبرهم بأنه لن يكيل لهم مرةً أخرى، ولم يعطهم ميرةً إنْ لم يأتوه بأخيهم الأصغر - الذي أخبروه عنه، أثناء مسامرته لهم -. وكانت حجتُهُ أنه إنّما يريده، ليرى ما فيه من صفات، جعلت أباه يحبه ويؤثره، وأخاه يوسف، عليهم..
وعاد إخوة يوسف مرةً أخرى إلى مصر، ومعهم أخوهم «بنيامين»، فأنزلهم كراماً لديه، ثم أعلم شقيقه «بنيامين» بحقيقة أمره، وطلب إليه أن يكتم السرَّ عن إخوتهما، فلما جهز بضاعتهم، أمر بوضع صاع الملك في رحال «بنيامين»، حتى يقال عنه إنه سارق، فيستبقيه لديه.. وعندما نادى المنادي بأنَّ صواع الملك قد سرق من أصحاب العير، وحاول أعوان يوسف اتهام إخوته، تدخل عندها وقال:
فما جزاء السارق، إنْ كشف أمره، وتبيّن أنه أحدكم وقد غرَّهُ الشيطان أن يفعل ما فعل؟!
{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ *} [يُوسُف: 75]؛ وكان عقاب السرقة لدى فرعون الضرب، وتغريم السارق مثليْ المسروق، بينما في حكم آل يعقوب كان السارقُ يُسترَقُّ، وذلك بأن يعمل عبداً لدى من سرق له، بمقدار قيمة ما سرق، ويظلّ عبداً له إلى أنْ يستردُّ حقَه كاملاً.. وهذا ما يدلّ عليه قولهم: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ *} [يُوسُف: 75] أي مثل ذلك الاستعباد هو العقاب الذي نجزي به السارقين في شرعتنا ومنهاجنا.. وكل تلك الأحداث كانت بمشيئة ربّ العالمين يديرها ويسيّرها، تمكيناً ليوسف (عليه السّلام) .. فقد ألهمه ربّه تعالى الوسيلة التي يأخذ بها أخاه «بنيامين» تحت طائلة الرقّ، ليستبقيه عنده، ثم يعود ويطلع فرعون على حقيقة أمره، وما جرى له مع أخوته، وما عانى أبوه يعقوب (عليه السّلام) من ألمٍ وحسرةٍ على غيابه، كما نستدل عليه بقول الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ *} [يُوسُف: 76].. وفوق كل ذي علم من البشر من هو أعلم منه، وفوق علوم هؤلاء البشر، ذلك العلم اللدني الذي يهبه الله لعباده المخلصين، وكل ذلك لا يعدو كونه نزراً يسيراً من علم الله تعالى، الذي أحاط بكل شيء علماً.
الفقرة الرابعة - الموتُ والقيامةُ والبعثُ
أولاً - الموت
من الناس، بل وكثيرٌ من أهل الكتاب - بالذات - من يعتقدون بأنَّ الموت دخيل على الحياة البشرية، بمعنى أنه لم يكن مكتوباً في اللوح المحفوظ، عندما خلق الله تعالى آدم؛ بل خلقه وأراد ابتلاءَه حتى يعلم علم ظهور ما يكون منه!.. فارتكب آدمُ الخطيئة، وهي التي جرَّت بدورها إلى خطيئة الجنس البشريّ عامة - باعتبار أنَّ جميع البشر هم أبناء آدم - فكان الموت عقوبةً على الخطيئة، بعد أنْ يسلك الإنسان (بصفته ابن آدم) رحلة العذاب على الأرض، تكفيراً عن الخطيئة التي يرتكبها، والتي تعود بدورها إلى خطيئة أبيه، عندما أغواه إبليس اللعين.
والحق، أنَّ الموت ليس دخيلاً على حياة البشر، وأنَّ الإنسان لم يخلق ليبقى في الحياة الدنيا خالداً مخلَّداً، بل إنَّ الله تعالى قد خلقه وجعل له مصيراً محتوماً، بحيث تنتهي حياته الأولى بالموت، كما أنه تعالى قد خلق الحياة لتكون بلاءً، يختبر به الخالق عباده على الصبر، والاحتمال، والاستمرار في طاعة ربّهم، فلا يعبدون إلهاً غيره، ولا يشركون بعبادته ربّاً سواه.
يقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ *} [المُلك: 1-2]. ويقول تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *} [الرَّحمن: 26-27].
أجل إنَّ الله هو مالك السماوات والأرض، وله الملك - مطلقاً - فلا يشاركه أحدٌ في ملكه؛ فتبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، يتصرف بملكه خلقاً وعبيداً كيف يشاء، ويقدِّر لهم ما يشاء، فلا يعجزه شيء في ملكه.. ولا يجوز لأحدٍ أن يجادل في هذه الحقيقة، التي تدل عليها طبيعة الوجود كله في خضوعه لخالقه، وانقياده للسنن والنظم التي أوجدها هذا الخالق العظيم، لتسيير وتدبير هذا الوجود..
ولأنه سبحانه تفرَّد بالخلق، فقد خلق الموت والحياة، بل وجعل الموت سابقاً على الحياة - كما يدلُّ عليه النص الكريم - ليدرك الإنسان بأنه ما خلق إلاَّ ليموت. والحياة في الأصل تحتّم عليه الحركة والعمل، وذلك ضمن الاختيار الذي أعطيه كخاصّية من خصائصه البشرية، والتي بمقتضاها يملك العقل والإرادة اللذين يجعلانه يختار بين أنْ يعمل بطاعة ربّه - عزَّ وجلَّ - ويمتثل لأوامره ونواهيه، وبين أنْ يكفر بعبادة ربّه، ويرتكب المعاصيَ والذنوبَ التي تجسّد معاني الكفر، والبهتان، والضلال البعيد..
وأما الحالات التي يمرُّ فيها الإنسانُ، عادةً، من الصحة أو المرض، والغنى أو الفقر، والسعادة أو الشقاء.. وكل ما يمكن أنْ يندرج تحت هذه العناوين الكبرى من حالات.. فذلك كله ابتلاء، يمتحن فيه الله عباده ليمحّص الطائعين من العاصين، فتكون العاقبة الحميدة لمن أحسن عملاً، وعاقبة السوء لمن ساء عملاً.. على أنَّ ذلك كله رهنٌ باعتقاد الإنسان أنَّه ميّتٌ، وأنَّه محاسبٌ، ولا ريب، بعد الموت على ما فعل في الحياة الدنيا..
ويدلُّنا الواقع - بالشواهد الحسية، والبراهين العقلية - على أن الموت والحياة هما من سنن الله في خلقه، أي من السنن الثابتة، التي لا يطرأ عليها أي تحويل أو تبديل.. فلا يكون، والحالة هذه، للخطيئة التي يرتكبها ابن آدم، ولا لأي شيء يصدر عنه من خير أو شر، أيَّةُ علاقة بحدوث فكرة الموت، وأنَّه ليس سنة ثابتة في الوجود البشري!.. فالموت من سنن الله التي لا دخل فيها للإنسان، لا من قريب ولا من بعيد.. وما دام الأمر كذلك، فإن المعاصي التي يرتكبها الإنسان، أو الطاعات التي يقوم بها، ليست هي سبباً للموت، بل هي المحور الذي تترتب عليه النتائج والآثار التي يتقرر على ضوئها مصيره بعد الموت، في يوم الحساب. ولذلك جعل الله الموت والحياة ابتلاءً، ليميز بين عباده أيّهم أحسن عملاً.. فعندما خلق البارئُ المصورُ الإنسانَ، ونفخ فيه من روحه ليكون بشراً سوياً، فإنما قضى له حياة في دار الدنيا، وقضى له أجلاً مسمًى يموت فيه، ثم يحييه تارة أخرى لتكون له الحياة الأبدية.. وتلك الحياة الأخرى لا بد وأنْ تسبقها القيامة والبعث حتى يتحقق أمر الله وقضاؤه.. وهذا ما يثبت بأنَّ مسار الخلق البشريّ إنما يبدأ بالنشأة الأولى، التي هي ولادة كل كائن من بني البشر، ثم يعقبها الموت.. وعلى هذا النحو، أي موتٌ وحياةٌ، تستمر عجلة الحياة البشرية إلى أنْ تقوم الساعة، ويبعثُ الله من في القبور، وهي النشأة الثانية. ثم يكون الحسابُ في يوم القيامة، لتكون لكل إنسانٍ حياة أبدية إمَّا في الجنة، أو في النار.. فما معنى الموت، وما معنى يوم القيامة، وما هي الأدلة والبراهين على البعث والحساب؟
الموت، في الحقيقة، هو هذا الفاصل بين دار الحياة الدنيا التي هي البلاء والاختبار، وبين الدار الآخرة التي هي دار البقاء والحياة، لقول الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [العَنكبوت: 64] أي لو كان الناس يعلمون ذلك حق العلم، وهو أن الحياة الأخرى هي الحياة الدائمة والأبدية، لما آثروا الحياة الدنيا التي هي بمثابة اللهو الطارئ، واللعب العاجل الذي لا يلبث أن ينقضي ويذهب سريعاً، ولذلك كان من فضل الله تعالى على المؤمن أنه كلما ازداد إيمانه عمقاً وتصديقاً، كلما حسن عمله بطاعة الله، وكثر شوقه إلى لقاء ربّه.. يقول الرسول الأكرم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «لا راحةَ لمؤمنٍ إلاَّ بلقاءِ ربِّه»[*].. وليس شوق المؤمن إلى الموت سبباً في هروبه من متاعب الحياة، بقدر ما هو خوف من لهوها ولعبها الذي يجرُّ إلى معصية الله، لأنَّ الإنسان خلق ضعيفاً، وضعفه قد يحرفه عن الطاعة إلى ارتكاب الآثام والذنوب، إذا ما غلب عليه هوى النفس، إذ: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} [يُوسُف: 53]..
ولذا نرى أنَّ حب الموت عند المؤمن إنما يبقى منضوياً تحت مفهوم الدعاء المأثور: «الَّلهُمَّ... اجْعَلِ الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر[*]»، أو منضوياً ضمن إطار الدعاء الطيب: «اللَّهُمَّ أَحْيِني ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوفاةُ خيراً لي»[*].
وكما يفرح المؤمن بلقاء الموت الذي يخلّصه من دار الابتلاء والشقاء، فإنه يستبشر بيوم القيامة، لأن القيامة انتصار على الموت، والانبعاث إلى حياة الخلود.
على أنَّ الموت، في واقع الأمر، يبقى حقاً مرهوباً، وحقيقة مخوِّفة، فالمؤمن قد يخاف من الموت إن قصَّر في الطاعة، فيتمنَّى أنْ يمدَّ ربُّهُ بأجله حتى يعوِّض عما فاته.. أما الكافر فإنه يخاف الموت لأنه يحرمه من مطامعه وأهوائه في الدنيا، ويسلبه متاعها وزخرفها..
وعلى الرغم مما في الموت من مرارة وقهر، فإنَّ من تعاليم الإسلام الأصيلة ما تنبئُنا به الآية الكريمة، في قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *} [الأحزَاب: 23]، وهؤلاء المؤمنون هم رجالُ الله، الذين أسقطت المفاهيمُ الإسلامية معانيَ الخوف من الموت في نفوسهم، فكانوا أولئك المجاهدين الذين لا يخافون على أيِّ جنبٍ في سبيل الله قُتِلوا.. ومن المؤمنين أيضاً الصدّيقون، والأولياء الذي يثقون بربهم، وبرحمته التي وسعت كل شيء، فلا يجزعون من مرض، أو هرم قد يؤدي إلى الموت، ما دامت نفوسهم مطمئنة إلى وعد ربّهم بالعفو والرحمة..
أما الذين يخشون الموت فعلاً - وبكل ما تحمل هذه الخشية من معاني الرهب والرعب - فهم الذين يقلقون على مصيرهم يوم القيامة، من جراء الظلم والإثم والعدوان، وشتى الجرائم التي يكونون قد ارتكبوها في حياتهم الدنيوية. ومثلهم الكافرون بيوم القيامة الذين يرهبهم الموت ليس خوفاً من بعث وحساب - لا يؤمنون بهما أصلاً - بل طمعاً بهذه الدنيا التي يسلبهم إياها الموت، ويودي بهم إلى الفناء، بينما كانوا يطمعون ببقاء طويلٍ في الدنيا، حتى يستنفدوا كل رغباتهم ومطامعهم.. في حين أنَّ مجرد التفكير بالبقاء طويلاً على هذه الأرض، إنَّما هو ضربٌ من الوهم الخادع، والأمل الزائف لو كانوا يعقلون.. ولا نظن أحداً يخدع نفسه ولو بمثل هذا البقاء الطويل في الحياة الدنيا، إلا أنْ يكون الشيطان قد زين له ذلك فأوقعه في المسّ، أو العتَهِ، أو الحلم المكذوب!.. أمّا الاحتجاج بأنَّ آدم، وهو أبو البشرية، قد وقع في الغواية بسبب فكرة الخلود فتلك حجة القاصر عن إدراك الحكمة الإلهية من خلق آدم، وذريته من بني البشر جميعاً على هذه الأرض.. ولكن، لا ريب، أنَّها كانت فلتةٌ من أبينا آدم عندما غافله الشيطان عن نفسه، وزيَّن له الخلود، إذا ما أَكَلَ هو وزوجُهُ من الشجرة التي نهاهما ربّهما عن الاقتراب منها. إلاَّ أن آدم سرعان ما عاد إلى نفسه، وعلم أنَّ الشيطان قد أزلّه، وأغواه، فتاب إلى ربّه وأناب. من هنا كان الصراع في الحياة ما بين الخير والشر - بصورة مطلقة ـ، إنما أساسه وسوسة الشيطان لبني آدم، منذ أنْ أخذ العهد على نفسه بإغوائهم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين، فإنه لا سبيل له عليهم.
ولذلك، كان لزاماً علينا أنْ نوضح إحدى أهم القضايا الفكرية والإيمانية، ألا وهي قضية الخلود التي أزلَّ بها الشيطان آدم، فعصى، والتي ترتبط بها قضية الموت، وما وراءه من قيامةٍ وحساب.. فعندما خلق الله تعالى آدم، إنما خلقه ليعيش على الأرض، في حياة بشرية ودنيوية، ومن ثمَّ ليقوم بمهمة الاستخلاف في هذه الأرض، والدليل مصداق قول الله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [البَقَرَة: 30].
والخلافة تكون في المكان الذي يستخلف فيه الإنسان، لا في مكانٍ آخر؛ فالذي يخلف ملكاً، تكون خلافته على أرض مملكته لا على أرض مملكةٍ أخرى لا يمتُّ إليها بصلة؛ وقد بيّن الله تعالى للملائكة أنَّ مكان استخلافَ آدم وذريته هو الأرض {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البَقَرَة: 30]؛ وهذا يعني أنَّ آدم لم يخلق ليعيش، أو لتطأ قدماه جنة الخلد، قبل أنْ يؤديَ مهمة الاستخلاف في هذه الأرض، وإلاَّ لو كان الأمر بخلاف ذلك لما وجب أنْ يكون هذا الاستخلاف لعمارة الأرض، ولما وجب أنْ يكون الابتلاء لآدم وذريته في هذه الحياة الدنيا، ولما وجبَ كذلك أنْ يحق عليهم الموت والنشور، ليكون من ثَمَّ الثواب في جنة الخلد، والعقاب في النار السرمدية.. وبما أنَّ آدم لم يتقابل وإبليس اللعين في جنة الخلد - قطعاً - فقد استطاع إبليس أن يغويَهُ بالحلم الجميل، حلم الخلود، الذي ابتدعه إبليس من عنده، كما يخبرنا الله تعالى بقوله العزيز: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَال ياآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى *} [طه: 120].
وكان على آدم أنْ يتنبَّه إلى أنَّ الشيطان عدوه، وقد حذَّره ربّه السميع العليم من ألاعيبه الماكرة بقوله تعالى: {فَقُلْنَا ياآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى *إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى *وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى *} [طه: 117-119].. فقد أُعِدَّتْ تلك الجنة، وبتلك المواصفات خصوصاً، ليعيش فيها آدم وزوجه زمناً، ثم لتكون المنطلق للفتنة الأولى التي يقعان فيها، قبل الهبوط إلى ناحية أخرى من الأرض؛ والملفت أنَّ الله تعالى لم يقل لآدم أنك لن تموت فيها، ولذلك كان الموت مكتوباً - منذ بدء الخليقة - على آدم وزوجه، وعلى كلِّ ابن آدمَ من نسلهما...
أما لماذا نسيَ آدمُ عداوة الشيطان حتى أغواه وأزلَّهُ، فذلك لأنَّ ضعفه البشريّ قد غلب عليه حيال فكرة الخلود. وفي حالة هذا الضعف يغيب - عادة - عن الإنسان تفكيره المستنير، وإدراكه الواعي، فيقع في المحظور، تماماً كما حصل مع أبينا آدم.. بل هو الضعف الذي جعله يؤخذ بفكرة الخلود، فنسي أنَّ هذا العدو اللعين لا يمكن الوثوق بشيء يقوله، إذْ لو كان يعرف سر الخلود لاحتفظ به لنفسه، وما دلَّ عليه آدم وزوجه قطّ، لأنَّه عدوٌّ لهما!.
وبذلك يتبيّن أنه لولا الضعف الذي تنطوي عليه النفس البشرية لما عصى آدمُ ربَّهُ، فغوى.. ولكنه سرعان ما ندم، هو وزوجته، على تلك المعصية، فتابا إلى ربهما، وتضرعا إليه بطلب العفو والمغفرة والرحمة، مصداقاً لقوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [الأعرَاف: 23]. فاستجاب لهما ربُّهما لأنَّه ربُّ العفو والمغفرة، ثم اجتبى آدمَ ربُّه وهداه، فجعله نبياً لقوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى *} [طه: 122]. فزالت بذلك عن آدم (عليه السّلام) أعراض تلك المعصية التي أزلَّهُ بها عدوه إبليس، ونشط للطاعة بما يرضي الله عزَّ وجلَّ.
وهنا تبرز حقيقة أخرى هامة، وهي أنَّ المعصية التي ارتكبها آدم - قبل النبوة - كانت بلاءً وامتحاناً من ربّه، ولكنه خرج فائزاً مرضياً - بإعمال العقل الذي هداه إلى الصواب - ليسلك سبيل عمارة الأرض - وهنا محور القضية - هو وذريته من بعده، وليكون من هذه الذرية أقوام مهتدون، وأقوام كافرون..
فأما المهتدون فهُمُ: إما تلك الثلة المختارة من النبيين والمرسلين الذين عصمهم الله تعالى عن الخطيئة، وإما هؤلاء المؤمنون بالله ربّهم، الذين قد يرتكبون المعصية، ولكن سرعان ما يتوبون، ويؤوبون إلى ربهم العليّ القدير، نادمين مستغفرين.
وأما الكافرون من بني آدم فهم الذين اتخذوا سبيل الشيطان - بدلاً من سبيل الله - فكانوا أعواناً له ولقبيله في بذر الشر في النفوس، ونشر الفساد في الأرض، فكان محتوماً أنْ يوجد الصراع في الأرض، وأنْ يكون هذا الصراع بين أهل الديانة الواحدة، أو بين أهل الديانات والمعتقدات المتعددة، ناهيك عن الصراعات على مطامع الدنيا ومتعها وغرورها.. وكل ذلك مرتبط بوجود الإنسان على هذه الأرض، وبالغاية من الاستخلاف فيها وهما: عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض.. مما يدل على أنَّ آدم (عليه السّلام) قد خُلِق ليعيشَ وذريتُهُ على الأرض، قبل الانتقال إلى الدار الآخرة.
والأدلة التي تهدينا إليها النصوص القرآنية على أنَّ آدم (عليه السّلام) لم يخلق ليعيش شطراً من حياته الأولى في جنة الخلد - لأنَّ هذه الجنة قد أعدَّت لما بعد الحياة الدنيا، أي لما بعد النشأة الثانية - فهي كثيرة، ومنها:
1 - طمع آدم بالخلود، عندما أطمعه فيه إبليس اللعين. وهذا يعني أنَّ آدم كان يعلم أنَّ له أجلاً مسمّىً، وأنه ميت، لا محالة، عند حلول ذلك الأجل، فتوهَّم أنَّ إبليس قد يكون عالماً بالسر الذي يمنع الموت، وأنه ربما يكون في تلك الشجرة التي نُهيَ عنها.. ولكنه سرعان ما تبين له أنَّ سنة الله في خلقه تقضي بالموت، فتاب واطمأنَّ إلى وعد ربّه وهُداه..
2 - أنَّ الجنة التي يكون فيها الخلود هي الدار الآخرة، أي الجنة التي عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين، جزاءً وفاقاً على إيمانهم، وعملهم للصالحات. ولكنَّ ذلك يحتاج إلى اجتياز الحياة الدنيا بكل ما تحفل به من البلاء، والكدّ، والنصب، والصبر، والاحتمال. فالحياة كلها ابتلاء، والمعوَّل عليه دائماً هو قهر النفس لترك المعصية، واتباع سبل الطاعة لله ورسوله..
3 - أنَّ الجنة في الآخرة هي التي وصفها الرسول الأعظم بقوله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «ما لا عَيْنَ رأتْ، ولا أُذُنَ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَر»[*].
وفي هذا القول الكريم نجد «لا النافية» لكل عين، ولكل أذن، ولكل قلب، بما فيها عين، وأذن وقلب آدم (عليه السّلام) .. وسوف نتبيّن فيما بعد، عند الحديث عن الجنة، بعضاً من مواصفات جنة الخلد، كما وردت في القرآن الكريم، وهي المواصفات التي عناها الرسول بحديثه الذي ذكرناه.. مما نستنتج معه أنَّ الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه لم يكن فيها شيء من مقومات الخلود، وأنَّ ما حصل مع آدم كان تجريةً حَيَّةً أراد الله بها أن يبيّن له، ولذريته من بعده، كيف يمكن أنْ يتسلَّط الشيطان عليهم فيغويهم، وكيف يمكن للغفلة أن تطغى على النفس فتستجيب للغواية، وكيف أنَّ ذلك العدو - الذي يختفي عن الأنظار - ماكر، مخادع، يمنّي الإنسان ويعده ليوقعه في معصية ربّه ليس إلاَّ..
4 - أنَّ القرآن يقدِّم البرهان اللغويّ، والمثال الحسيّ على أن لفظ «الجنة» الذي ورد في آياته المبيّنة لم يطلق على جنة الآخرة وحدها، بل اشتمل على وصف كل مكان ظليل تتوافر فيه المياه والثمار والحياة الطيبة. وهو ما يعرف في اللغة بـ«الحديقة ذات النخل والشجر»[*]، والعنب، و«الفردوس الأرضيّ»[*]. وهذا الفردوس الأرضيّ هو الذي عناه القرآن الكريم، وأطلق عليه لفظ «الجنة»، كما في قول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا *} [الكهف: 32]؛ وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ *} [سَبَإ: 15]؛ وقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *} [البَقَرَة: 266].
5 - أنَّ الجنة التي التقى فيها آدمُ بإبليسَ (أو الشيطان) كانت نوعاً من الفردوس الأرضيّ، لأنها لو كانت - فرضاً - جنة الخلد، لما أمكن للشيطان دخولها لأنها محرَّمة عليه أصلاً منذ أنْ عصى ربَّه، عندما أمره أنْ يسجد والملائكةُ لآدم، فامتنع وأبى، لما زينت له نفسه من الكبرياء.. ولو أنه كان يعلم بأنَّ الشجرة التي دلَّ عليها آدم هي فعلاً شجرة تمنح الخلود، لأكل منها فصار خالداً، وهذا ما يتنافى ويتناقض تماماً مع طلبه إلى الله بأن يبقيه حياً إلى يوم الدين، كي يتمكن خلال مدة إمهاله تلك، من أنْ يغوي بني آدم، إلا عباد الله المخلصين، الذين ليس له سلطان عليهم. وهذا كله يثبت معرفته بأنه ميت في نهاية المطاف، وإقراره بأنه ميت دليل إضافيّ على عدم دخوله جنة الخلد، ويؤكد ذلك أيضاً أنَّ خلق آدم كان من الطين الذي منه تكوين هذه الأرض - كما يدلنا عليه القرآن الكريم - مما يعني أنَّ آدم قد خلق في مكانٍ ظليل على وجه هذه الأرض الطيبة، وليس في جنة الخلد مصداقاً لقول الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى *} [طه: 55].
6 - أنَّ كلَّ مخلوق على هذه الأرض ميّت وفانٍ، ولا يبقى فيها أحدٌ حياً على الإطلاق، تصديقاً لقول الله العزيز: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *} [الرَّحمن: 26-27].
من هذه الأدلة يتبيّن لنا أنَّ الجنة التي خلق فيها آدم كانت إحدى جنات هذه الأرض أي هذه الأرض، التي فيها كل العناصر التي تمكّن من حياة البشر عليها، فخلقه ربُّهُ في إحدى بقاعها حيث يكثر النخل، والعنب والشجر، والمياه، والزروع والأزهار، مما يجعلها بقعة طيبة فيها من كل الثمرات والريحان.. وهي غير جنة الخلود التي وعد الله تعالى بها الذين آمنوا وعملوا الصالحات من عباده المتقين. إنّما العبور إلى تلك الجنة سبيله الموتُ، ثم القيامة والبعث والحساب..
وننتقل إلى الآيات القرآنية، ولاسيما التي تحتوي الأمثال، لتبيان يوم القيامة، وحيرة الناس بشأنها، وما تكون عليه الأحوال في ذلك اليوم المخوف الهائل.
ثانياً - يوم القيامة
يقول الله تعالى: {إِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ *مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبيَاء: 1-3[.
إنه النذير من ربِّ العالمين عن اقتراب الساعة، ويوم القيامة..
وقد حمل النبيّ الأعظم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) هذا النذير المبين، فآمن به من آمن، وظلَّ الكافرون معرضين، لا يريدون أنْ يستمعوا للنذير، ولا يرغبون في تقبل الموعظة. فقد كانوا يعيشون في غفلةٍ عن الآخرة، وعن يوم الحساب، لأنَّ الحياة الدنيا قد شغلتهم، فانساقوا وراءها، ووقعوا في الغفلة والإعراض عن كل دعوة للهدى والإيمان، وعدم الاكتراث للنذير الذي يحمله قوله تعالى: {إِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبيَاء: 1].
وما يَلفِتُ إليه القرآن الكريم هو تعاقب النذير الذي كان يتنزَّل به الوحي من الله تعالى، وبلاغُ النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) للناس بما يبيّن ما سوف يحلُّ بهم من فناءٍ دنيويٍّ،، وما ينتظرهم من بعده من حسابٍ أخرويٍّ.. وكانوا يستمعون إلى النذير المبين، ولكنَّهم يتخذونه هزواً، ومدعاةً للهو والتفكهة، دونما أي اعتبارٍ لجديته أو أهميته، لأنَّ قلوبهم لاهيةٌ عن سماع الحق، وعن التأثّر بالوعيد، إذ غلب عليهم الكفر والوثنية، فلم يروا وراء هذه الدنيا داراً آخرةً.
وعلى الرغم من أنَّ الكفار والمشركين كانوا يفقهون مدلولات الذكر الحكيم، الذي يتلوه عليهم النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) آياتٍ بيّناتٍ، بل وكانوا يتذوقون ما فيها من حلاوة وطلاوة، لأنهم أهل بلاغة وفصاحة!. وعلى الرغم من أنهم كانوا يستشعرون تأثير تلك الآيات في نفوسهم، إلاَّ أنهم جحدوا بها، كما يهدينا إليه قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمل: 14].. (تماماً كما كان يفعل بنو إسرائيل ظلماً واستكباراً عن الإيمان بما جاء به موسى (عليه السّلام)، ولذلك لم يصدّق أهل الجاهلية محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ولم يؤمنوا بأنه رسول الله، وحجة هؤلاء أنه بشر مثلهم، فلا يمكن أنْ يكون نبياً ولا رسولاً، لأنَّ النبيَّ أو الرسول الذي يبلّغ عن ربّه يجب أن يكون - بحسب ظنّهم - من الملائكة وليس من البشر..
وزيادة في الجهالة، والتجنّي على هذا الرسول الكريم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ، فقد كانوا يتواصون باتّهامه أنه ساحر، وأنَّ ما يأتي به لا يعدو السحر، فلا يجوز لهم أنْ يذهبوا إلى مجالسه، أو أنْ يتّبعوه، وهم يعلمون أنَّ ما يقوله لهم هو السحر، أو ما يشبه السحر - بحسب ظنونهم وأهوائهم -.
وكان الذكر الحكيم يحمل النذير تلو النذير، لعلَّ المشركين والكافرين يرعوون، ويعودون عن الغيّ الذي يملأ نفوسهم.. وإلاَّ فالعذاب الأليم آتٍ، وسوف تُجزى كل نفس بما كسبت، كما يبيّنه قولُ الله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ *وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ *} [إبراهيم: 44-45].. فهو أيضاً الخطاب إلى النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لكي ينذر الناس بأنَّ يوم القيامة آتٍ لا ريب فيه، وأنه يحمل العذاب للذين ظلموا أنفسهم بالكفر، أو الشرك بالله تعالى، وإنَّ عذاب الآخرة لكبير لو كانوا يعلمون..
وعظمة القرآن بأنه يصوِّر للناس الأحوال التي يكونون عليها يوم القيامة - وهم ما زالوا في هذه الحياة الدنيا - تصويراً دقيقاً يجعل كل من يقرأ هذا الكتاب، ويعي معانيه، كأنه يشهد يوم القيامة ماثلاً أمام عينيه، وأمامه جموع الناس قد احتشدت في الحشر، وكلهم خائفون، خاشعون، ينتظرون الحساب، فيقول الكافرون (وقد استحقوا الأمر، وعلموا يقيناً أنه مقضيّ عليهم بالعذاب) ما مؤداه:
ربَّنا أخِّر عنا العذاب، وأرجعنا إلى الدنيا، ولو إلى أجل قريب، بحيث لا يطول بنا المقام فيها من جديد، ولئن أُرجعنا، نُجبْ دعوة الحق، ونشهد بأن لا إلهَ إلا أنت سبحانك، ولا نعبد إلا إيَّاك، ونؤمن بما آتيتنا على رسلك، ونتبع سبل الهدى والرشاد التي يدعو إليها هؤلاء الرسل!!.
ولكن أنِّى لهم ذلك وقد صاروا في مشهد ذلك اليوم العظيم؟!..
فقد جاءهم النذير من قبلُ، وهم في الدنيا، بأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور، أي أنه يبعث كلَّ البشر الذين خلقوا على هذه الأرض منذ آدم (عليه السّلام) وحتى خاتم النبيين محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وإلى يوم القيامة.. وقد ذهب الأقوامُ، وذهب معهُمُ الرسلُ، وبقيت تعاليم دين الله التي تنذر بالعذاب الأليم لمن كفر بربّه، وحادَ عن تلك التعاليم حتى لا يكون للناس على الله حجة.. ثم جاءت صحف إبراهيم، والتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب السماوية، حتى نزل القرآن، وكلُّها تقول للناس بأنَّ يوم القيامة آتٍ، وكان أكثرها - ولا ريب - بلاغةً وتبياناً القرآن، لأنه يتضمّن من أنباء الساعة، والبعث والحساب ما يكفي من الآيات البيّنة الواعظة، بحيث لا يكون بعدها لأي إنسانٍ أنْ يحتجَّ، أو أنْ يطلب رجوعاً إلى دار الدنيا، وقد وقفَ بين يدَيْ العزيز الجبار، للحساب، لاسيما وأنَّ الناس جميعاً، قد أنذروا بطريقةٍ أو أخرى، مباشرةً أو مقاربةً، وعلى مرّ الزمن، بوجوب الاستعداد لذلك اليوم المشهود!...
والحقيقة أنه ليس في دنيا الواقع، ولا جاء في الكتب السماوية أيُّ شيءٍ عن رجوع إلى هذه الحياة الدنيا، بعدَ الموت؛ فقد خلق الله تعالى الموتَ والحياةَ، وأخبرَ الناس، على لسان الأنبياء والمرسلين، وفي كتبه التي أنزلها، وبخاصة في هذا القرآن المبين، أنَّ الموتَ حقٌّ، وأنَّ البعثَ حقٌّ، وأنَّ يوم الحساب حقٌّ، وأنَّ العاقبة الحسنى - في الجنة - للذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ وأن العقاب - في النار - للذين ظلموا أنفسهم باعتناق عقائد فاسدة، والقيام بأعمال ضالّة ومضلّلة.. فهذه القضايا، وإنْ كانت من أمور الغيب، إلاَّ أنها من السنن الإلهية التي بيَّنتها، وأكَّدتها الرسالات السماوية كلها.. فيكون، والحال كذلك، ضرب من المحال أن يطلب الظالمون إعادتهم إلى الحياة الدنيا، ولو لأجل قريب!.. ولكن، يبدو أنَّ الهول من رؤية العذاب يومئذٍ، هو الذي يدفعهم إلى طلب الرجوع، فيأتيهم الجواب حاسماً: أنْ لا رجوع.. بل وتقول لهم الملائكة - تبكيتاً، وتأنيباً على ما فرَّطوا في حياتهم الدنيا - ما يبيّنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ *} [إبراهيم: 44-45].. فالملائكة يعيدون على مسامعهم ما كانوا هم يقسمون به في حياتهم الدنيا، وأَيمانهم تلك محفوظة في سجلاتهم، التي فيها جميع أقوالهم، يأتونهم بها لتُنبئهم عمَّا كانوا يحلفون به من الأيمان الغليظة، أنه ما لهم من زوالٍ إلى حياةٍ أخرى بعد الموت، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا بالقيامة، أو الحساب.. ولذلك تفتح الملائكة سجلاتهم، لتقرأ عليهم ما كانوا يقسمون به، وقد أحصيت في الزمان والمكان، وبنفس الحديث واللفظ، ثم حفظوه لهم إلى يوم الحساب، لئلاَّ يكون لديهم أية حجةٍ للإِنكار!...
والعجيب من أمر أولئك الكافرين أنَّ أَيمانَهم، وما كانوا يقسمون به، ما كانت إلاَّ عناداً واستكباراً!.. فالحياة البشرية تدلهم، وعلى مدى الزمان، أنَّ البشر، أفراداً وجماعات، وشعوباً وأمماً، كانت كلها تعيش وتزول، وأنهم هم أنفسهم يعيشون في أماكن كان غيرهم قد سبقوهم إلى إعمارها. وهم يعلمون أيضاً أنَّ تلك الأقوام قد حلَّ بها الفناء والدمار. بل وهم يعلمون أنَّ الله العليّ القدير قد دمَّر على الأمم والشعوب من الماضين قراهم، وأهلكهم بالعذاب في الحياة الدنيا، قبل العذاب في الحياة الآخرة.. وأنه تعالى قد بيّن لهم كيف فعل بأولئك الأقوام السابقين ليكونوا عبرة - لو كانوا يعتبرون - وشواهد على ما يفعل الله تعالى بالعباد، عندما يلجّون في الكفر، ويتمادون في الضلال! وجميعها تبقى مثلاتٍ دائمة، ومتجددة يضرب بها الله تعالى للناس أمثالهم في كتابه المجيد، لتكون تلك الأمثال حيَّةً، وتتجدد معانيها مع تجدد الحياة في كل يوم!.. فكم من أحياء قد ماتوا! وكم من أحياء قد ولدوا، وكم من أجيال تذهب وأجيال تأتي.. وكم من أمم قد هلكت، وبدَّلها الله تعالى بأمم غيرها، وكلها ممَّا عبَّرتْ عنه الأمثالُ التي يضربها الله للناس.
إنه القرآن، الكتاب الحقُّ الذي يحمل النذير المبين لكل من أساءَ عملاً.. وفيه بيان ليوم القيامة، وتهديد ووعيد بالعذاب للذين ظلموا أنفسهم!. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} [القَمَر: 15].
والقرآن عندما يبيّن لنا ماذا يحدث يوم القيامة، نجد أننا أمام انقلابٍ شاملٍ في الكون الذي يحيط بنا، سواء في السماء أو الأرض. ويبدو أنَّ هذا الانقلاب كان هماً يشغل بال الكافرين، ويفزعهم في قرارة نفوسهم، على الرغم من جحودهم، وعدم الاعتراف - في ظاهر الأمر - بحقيقة الوحي الذي يحمل الآيات الدالة على ذلك الانقلاب الكونيّ، ولذلك كانوا يسألون النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ، ويلحون عليه في السؤال، عن الساعة، ومتى يكون وقتها!.. وهذا ما تبيّنه بوضوح بعض أمثال القرآن الكريم.
1 - سؤال النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عن الساعة
يقول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الأعرَاف: 187].
والسؤال: لِمَ كان الكافرون يستهترون - ولو ظاهرياً - بما حفلت به الكتب السماوية من الدعوة إلى الإيمان بيوم القيامة، بينما هم لا ينفكُّون عن السؤال عنها، وهم يرددون القولَ: متى تكون الساعة؟ وكيف يكون حدوثها؟ وهل هي واقعة فعلاً؟!.
والجواب، يقيناً، أنَّ المشركين في زمان النبيّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ما سألوه عن القيامة إلاَّ لإحراجه، وإظهار عجزه، وبالتالي اتخاذ ذلك حجة عليه لإبعاد الناس عنه.. فإذا أنذرهم بالعذاب الأليم، يوم تقوم الساعة، لجأوا مباشرة إلى أسلوبهم المعتاد قائلين: ومتى هي، ومتى يكون وقتها؟ وهذا ما يبيّنه قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعرَاف: 187]، أي متى وقوعها؟
والجواب من الوحي: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعرَاف: 187].. فالساعة من علم الغيب الذي لم يطلعه الله تعالى على أحدٍ من خلقه، فلا يعلم متى تكون الساعة إلاَّ هو سبحانه، فهي من غيب السماوات والأرض الذي تفرد به العليم الحكيمُ، ويمتنع على عباده العلمُ بها قبل حدوثها ولذلك يقصِّر علمهم عن الساعة حتى يجلّيها ربّها، ويظهرها في وقتها، وفي الميعاد الذي قدَّره لها منذ خَلَقَ السماوات والأرض..
وإنَّ تغييب علم الساعة عن العباد إنما هو رأفة بهم ورحمة، لأنَّ علمها يثقل حمله - ولا ريب - على أهل السماوات والأرض، لعظيم الهول مما يحدث فيها: كطيّ السماوات والأرض كطيّ السجل في الكتب، وانتثار النجوم، وتكوير الشمس.. وما إلى ذلك من انقلاب في الكون (كما سنرى بعضه في آيات أخرى).. فما يقع يوم القيامة لا قِبَلَ للعقلاء، والمدركين على حمل علمه، ومعرفة دقائقه لأنه يصبح من الهموم التي ترزح تحت عبئها قلوبهم، وقد لا تقدر هذه القلوب على تحمل هذا العبء، فتنفجر.. فكان أدعى للعباد، وأصلح لهم ألاَّ يعلموا وقت الساعة، وألاَّ يسألوا متى وقوعها، بل الأولى لهم أنْ يبادروا إلى الإيمان وعمل الصالحات، وأن يقوموا على طاعة الله عزَّ وجلَّ، والابتعاد عن معصيته، حتى يكونوا مهيّئين، ومستعدين لها، حتى لا تأتيهم بغتةً، وهم في غفلةٍ، لاهيةً قلوبُهم عن وقوعها. ومن عظيم رحمة الله بالعباد، وحتى لا يبقوا في مثل تلك الغفلة، فقد أورد القرآن الكريم ذكر بعض الأَمارات التي تسبقها، وذلك تنبيهاً للاستعداد لها!..
وعلى كل حال، فإن ربَّ العزة والجلال قد قضى بألاَّ يعلم العباد وقت الساعة، رحمةً بهم. ولكنه سبحانه يحذّرهم بأنها سوف تأتي فجأة، وإنَّما بعد أنْ يظهر لهم من أَماراتها والدلالات عليها ما يفترض بهم أنْ يصدقوا بها.. وأما إذا ألحَّ الناس، والمشركون بسؤالك عنها يا «محمد»، وكأنك حفيٌ[*] عنها، أي تسأل دائماً عن وقتها، حتى تكون عالماً بها، فقل لهم تكراراً، وتأكيداً:
{إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الأعرَاف: 187].. فهو سبحانه قد جعل علم الساعة عنده وحده من دون العباد. ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون بأنَّ ما اختص الله به نفسه من علم، لا يجوز لعباده أنْ يعلموه، فهو الله في السماوات والأرض، وهو ربّ السماوات والأرض، فهل يمكن أنْ يُشرك بعض عباده بعلمٍ جعله لنفسه وما خلقهم إلا ليعبدوه؟! إذاً فلا يجوز لهؤلاء العباد أنْ يسألوا عن الساعة، لأن علمها عند الله تعالى وحده..
وفي سورة أخرى من القرآن الكريم نجد نفس الموقف الذي كان يلحُّ به الكفار على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بالسؤال عن يوم القيامة، ومتى تكون ساعتها، فيقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا *فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا *إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا *إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا *} [النَّازعَات: 42-45] }.
يسألونك أيها النبيّ عن الوقت الذي يحل به يوم القيامة، ومتى يكون وقوعها، ولماذا أنت تكثر من ذكرها على مسامعهم، طالما أنه ليس عندك علم عنها، وطالما أنَّ منتهى علمها إلى ربّك فلا يعلمه غيره!..
فقل لهم - كي يعلم يقيناً هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالساعة - إنما أنت تكثر من ذكرها لتنذر من يخافها، ويخشى عواقبها من المؤمنين بها، وإن كانوا هم لن يؤمنوا بهذا النذير مهما بيّنت لهم من أهوالها، وما قد يكون عليه يومئذٍ مصيرهم.. والأمر الأكيد أنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، وسوف يعتقدون، يوم يرونها بأم العين، كأنهم لم يبقوا في قبورهم - أو كأنهم لم يبقوا في حياتهم الدنيا كلها - قبل وقوعها إلا عشيةً، أو ليلةً واحدة وما أعقبها من الضحى، لأنَّ الزمن يُطوى في أذهانهم، وحسبانُهُ عصيٌّ عليهم، وهم يرون أهوال تلك الساعة تحفُّ بهم من كل جانب..
ويقيناً أنه عند قيام الساعة سوف يحقُّ العذاب على من كان في دنياه لا يخشاها، ولا يقيم لها وزناً، على الرغم مما قدَّم القرآن من آيات، وما أعلن الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من عظات تؤكد حقيقتها..
2 - حدوث الانقلاب الكونيّ يوم القيامة.
يقول الله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ *أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلََّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ *بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ *} [القِيَامَة: 1-6].
يقول الله تعالى أنه لا يقسمُ بيوم القيامة، ولا يقسمُ بالنفس اللَّوامة.. لأنَّ يومَ القيامة من الحقائق الكائنة والأكيدة التي لا تحتاج إلى القسم، والناس سوف يرون ذلك اليوم المشهود، بعد أن يبعثهم الله مِنَ القبور.. وكذلك الأمر بالنسبة للنفس اللّوامة فـالله تعالى لا يُقسم بها، لأنها أيقنت بيوم القيامة، فدأبت على تذكير صاحبها ألاَّ ينخدع بمظاهر الحياة الدنيا، وألاَّ يتوانى عن مراجعة أعماله، وتصرفاته وأقواله، ليتبيَّن أيها من الصالحات فيداوم على العمل بها، وأيها من السيئات فيندم عليها، ويسعى لأنْ يعوِّض عنها بخير منها.
وقد جاء في التفسيرات عن النفس اللوامة أحاديث كثيرة، ومنها قول حسن البصري: «إنَّ المؤمن، والله، ما تراه إلاَّ يلوم نفسه. ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإنَّ الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه». وعن عكرمة: «تلوم على الخير والشر: لو فعلتُ كذا وكذا!». وعن ابن عباس: «هي النفس اللؤوم. وعنه أيضاً: اللوامة المذمومة». وعن مجاهد: «تندم على ما فات وتلوم عليه». وعن قتادة: «الفاجرة». والأشبه بظاهر التنزيل، أنها النفس التي تلوم صاحبها على الخير والشر، على الخير من حيثُ التقصير، وعلى الشرِّ من حيث الندم على فعله. وهي النفس الصالحة لأنَّ الله سبحانه يلوّح بالقسم بها، إذ لو لم تكن عظيمة بصلاحها لما كان هذا التنبيه للقسم الإلهي بها...
وهذا التلويح بالقسم والتعالي عنه، إنما هو للتأكيد على أنَّ البعث آتٍ، يوم القيامة، ولا ريب فيه، وأنَّ الله تعالى سوف ينشز عظام الإنسان، ويكسوها لحماً ليخرجَ الناس من القبور، ويقفون للحساب.. فإذا كان الإنسان يحسب أنَّ الله تعالى لن يقدر أنْ يجمع عظامه، بعد أنْ رمَّت وبليت، إذاً ليكن مثل هذا الإنسان على يقين بأنَّ الله قادر على أنْ يسوي كلَّ عظامه، ويعيدها كما كانت تماماً، حتى بنانه، وهو طرف أصغر الأصابع في يديْهِ ورجلَيْهِ، وأنه تعالى قادر على إعادة تركيب عظامه في مواضعها كاملة، لا ينقص منها شيء حتى أدق عظم فيه.. وأما ذكر «البنان» خصوصاً فلأنَّ في أطراف الأصابع تلك البصمات التي تثبت هوية كل إنسان، وتميّزه عن غيره، والتي ثبت علمياً، وبصورة نهائية، عدم وجود بصمات متشابهة أو متماثلة عند اثنين من الناس، إذ لكل واحد من هذه المليارات من البشر، ولكل واحد ممن سبقهم، أو سوف يلحق بهم.. لكل واحد بصماته الخاصة به، التي تعرّف عنه، وتدل على شخصه..
وهذا البيان القرآني بأنَّ الله تعالى قادر على أنْ ينشئ الإنسان من جديد، إنما هو للردّ على الإنسان المجرم الذي يحسب أنْ لن يجمع الله عظامه، لأنه يريد أنْ يمضي قدماً في فجوره، ولا يريد أنْ يؤمن أو يصدّق بأنَّ هنالك حساباً وعقاباً. ولذلك تجد المجرمين يستهزئون من فكرة القيامة، والبعث، على الرغم من أنهم يرون الموتَ حقيقة راهنةً، وأنهم يحاولون أن يفرّوا من فكرة الموت!.. ولكن أنَّى لهم ذلك والموت سوف يلاقيهم، أينما توجهوا، وأينما كانوا، حتى ولو كانوا مختبئين في بروجٍ مشيَّدةٍ!..
ثم تبرز الأهمية التي يوليها البيان القرآنيّ لوصف يوم القيامة، فلعلَّ الإنسان الفاجر، السادر في غيّه، يتأثر بهذا البيان فيعود إلى ربّه تعالى تائباً، نادماً، وذلك في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ *يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ *وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ *} [القَارعَة: 1-5].
فالقارعة اسم من أسماء يوم القيامة، وقد جرى اختيار اللفظ بما يتناسب مع ذلك الجوّ الذي يخرج فيه الناس من الأجداث سراعاً، وأقل ما يقال فيه أنه يقرع القلوب بالفزع والهلع. والتأكيد على قرع القلوب يأتي بتكرار اللفظ على شكل الاستفهام والتعجّب: {مَا الْقَارِعَةُ *} [القَارعَة: 2] تعظيماً لشأنها، واستهجاناً ممن ينكرها! والثابت في الذكر الحكيم أنْ لا أحد من البشر يعلم وصفاً مجملاً أو مفصَّلاً ليوم القيامة على وجه الدقة، والأحداث التي تقع فيه تماماً. وكذلك لا أحد يعلم ما تكون عليه أحوال الناس في ذلك اليوم العظيم، لأنها فوق تصوراتهم.. إنما يقف علمهم عند حدود الوصف الذي يأتيهم به البيان القرآنيّ من حيث إنهم يكونون كـالفراش الذي ينتشر، لكثرته، بكثافة في أرجاء واسعة فيغطيها. والتشبيه للناس بالفراش للتدليل على ما يكونون عليه يومئذٍ من الضعف والوهن، ومن الحساسية والرهافة، بحيث لا يقدرون على شيء، وهم يساقون إلى مصائرهم، كـالفراش تماماً في ضعفه وقلة حيلته، وهو يتداعى على النار، ويتهافت على الضوء، فيحترق، دون أنْ تكون له القدرة على الإفلات بعد الوقوع في النار، التي يشده إليها انبعاث ضوئها. هذا عن الناس..
أما الجبال، فإنها تقتلع يوم القيامة من أماكنها، وتصبح هباءً متراكماً فوق بعضه كـالصوف المندوف، الذي نفش بعد معالجته من قبل المنجِّد!.. وهذا المشهد قد نتصوَّرُهُ عندما نتطلع من كوة الطائرة فنرى الغيوم تمرُّ من تحتنا متراكمة على بعضها والريح تثيرها وتسحبها كسفاً إلى حيث يشاء الله تعالى.. وهذا المشهد للغيوم قد يقرّب إلى أذهاننا فكرة الصوف المندوف المنفوش، الذي يشكل كتلاً كبيرة تبدو لناظريها كـالجبال، التي اقتلعت من أماكنها، فجرَّتها الرياح في الفضاء، دون أن تقوى على مقاومتها بشيء!..
وفي وصف آخر لما يحدث في الكون يوم القيامة يشير القرآن المبين إلى السماء، والجبال وأحوال الناس؛ فيقول الله العليُّ العظيم: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ *} [الرَّحمن: 37]، ويقول تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ *وَتَكُونُ الْجِبِالُ كَالْعِهْنِ *وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا *} [المعَارج: 8-10].
إنَّ المشهد الأول الذي يمكن أن نتصوّره أو نتخيّله، كما توحي به النصوص هنا، هو أن السماء تصبح كـالأديم الأحمر، على خلاف ما يشهده الناس، ولاسيما رواد الفضاء، من اللون الأزرق للأرض، إذ تصبح في أجزاء منها على شكل الوردة الحمراء، وهذا يعني أنّ السماء يوم يحدث الانقلاب الكوني لا تعود على حالها بل تتحول إلى أشكال جديدة لا يعلمها إلاَّ الله تعالى.. أما المشهد الآخر فيكون مختلفاً تماماً فالسماء - كما هو معلوم - مملوءة بالنجوم والكواكب، وبعضها يشكل كتلاً نارية، مثل الشمس، التي تستمد منها أمنا الأرض النور والحرارة باعتبارها أحد الكواكب في النظام الشمسيّ.. فيوم القيامة، وعندما يحدث الانفجار في تلك الكتل النارية الملتهبة، فإنها سوف تذيب كل ما يصل إليه لهيبها وإشعاعاتها، وهذا ما يجعل السماء تبدو كـالزيت المغليّ (المهل) أو كـالمعادن المذابة، بعد ذوبان الكواكب من حرارة الانفجار.. ولعلَّ هذا التشبيه للسماء في ذوبان كواكبها، أو للجبال في انتثارها وتجميع غبارها فوق بعضه البعض كأنه الصوف المنفوش، إنما هو لإفهام الناس عمّا يطرأ من التغييرات على ظواهر الكون يوم القيامة، وانتقال الناس إلى وضعٍ جديد يتوافق وتلك التغييرات.. إنه - ولا شك - وضع عسير، وشاق جداً على الناس، بحيث إنَّ الأهوال التي يرونها، ومشاعر الخوف التي تعتريهم، تجعل كل واحد معنيّاً بنفسه، ومهتماً لحاله، فلا يخطر على باله قريب ولا صديق، ليسألَ عنه، بل ولا يسألُ أيُّ محبٍّ محبًّا آخر، عمَّا هو عليه حاله في ذلك اليوم، بسبب الهلع، والفزع، والجزع الذي يطغى على كل إنسانٍ فلا يفكر بشيء، ولا يشعر بقريبٍ، أو يهتّم لأمرِ حميمٍ، لأنَّ أهم شيء عنده في ذلك اليوم طلبُ النجاة لنفسه، والخلاصُ من قرع الأهوال التي تحيط به..
ويتبين لنا كيف اختار القرآن لفظ «حميم» للتعبير عن قرابة الرحم، وصلة المودة والشفقة، وعلى الرغم من ذلك فلا القرابة، ولا الصداقة مهما كانت حميمة وقوية، يمكن أنْ يكون لها أثر في تلك الساعة!.
ولا يُفوِّتُ البيانُ القرآني تفكُّكك الأرض يوم القيامة بعد أن كانت كتلة متراصَّة، فيقول الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً *إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً *فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً *} [المُزّمل: 14-16].
وكما يحدث في السماء يوم القيامة، كذلك يحدث في الأرض، يوم ترجف، وتضطرب فيتفكَّك كلُّ ما عليها - ولعلَّ الزلازل هي المثال الحسيّ على اضطراب الأرض، وما قد تحدث من الدمار والقتل - ويوم ترجف الأرض في تلك الحركة التي تقوّض أركانها، وتبدّد تماسكها، ترتجف معها الجبال وتتفكك بدورها، وقد نسفت نسفاً، فلا يبقى شيء منها، بل تنهال من مواضعها، حتى تصير مثل كثبان الرمل الذي تذروه العواصف العاتية.
وعندما يضعنا النص القرآنيّ في مثل ذلك الجو الذي يخيّم فيه الخوف الشديد على القلوب، يعود ويذكر الناس عامة - والكافرين والمشركين خاصة - بعدم الاستجابة للرسل، ولكنه تذكير يحمل التقريع والتوبيخ، ليكون تأثيره في النفوس أقوى وأفعل، وذلك بقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً} [المُزّمل: 15] من أنفسكم أيها الناس، هو «محمد بن عبد الله»، يهديكم إلى الإيمان، واعتناق الإسلام، وهذا الرسول سوف يكون يوم القيامة شاهداً على أمته، وعلى صدق الأنبياء والمرسلين جميعهم، بأنَّهم أدُّوا ما عليهم من البلاغ، لكل الناس الذين بعثهم الله لهدايتهم.. ولقد أرسلناه بالهدى، ودين الحق، ليردكم عن الغيّ والضلال، كما أرسلنا من قبله إلى فرعون رسولنا موسى، لكي يدعوه إلى الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، وينهاهُ عن طغيانه بادعاء الألوهية والربوبية الباطلة، فعصى فرعونُ أمرَ الله تعالى الذي يحمله رسوله الكريم، وتكبّر، بل وازداد طغياناً في الإثم، فأخذه الله - عزَّ وجلَّ - أخذاً وبيلاً، وعذبه عذاباً شديداً، وذلك بسبب عصيانه، وعدم الامتثال لدعوة الحق المبين.. وهكذا أَخْذُ الله العزيز الجبار لكل عاص ومتكبر، حيث ينتظره العذاب في جهنم، وبئس المصير.
3 - المُعرِضُ عن ذكر الله يحشر يوم القيامة أعمى، ليكون جزاؤه مثل جزاء من لم يؤمن بآيات ربّه تعالى
يقول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا *قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى *وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى *} [طه: 123-127]
هذا ما يقرره القرآن الكريم، بأنّ من اتَّبع هدى ربّه فلا يضلّ ولا يشقى، لا في الحياة الدنيا، حيث الاطمئنان في نفسه يريحه من الأتعاب مهما بدت شديدة، ولا في الحياة الآخرة، حيث يوفّى جزاءَ إيمانه وأعمالِهِ الصالحة، ويدخله ربُّه جنات عرضها السماوات والأرض..
وهذا التقرير بأنَّ من اتَّبع هدى الله عزَّ وجلَّ لا يضلُّ ولا يشقى هو أهم علاج للنفس البشرية، لأنَّ الضلال يلازمه دائماً الشقاء، ولأنَّ الضلال يُبعد الإنسان عن الطريق المستقيم، وعن تحقيق الغايات والأهداف والمثل العليا التي يرومها المؤمن؛ والتي يضلُّ الكافر أو المشرك عن سبلها القويمة، وعن طرائقها السوية، فيقع في الحيرة والقلق، ويلازمه الهم والنكد، وكلها من ضروب الشقاء.. وعلى عكس هذا الضلال، فإنَّ الهدى من الله تعالى، هو النور الذي يشرح الصدور للحق، ويضيء للنفوس دروب الخير. ولكي يتحقق لنا هذا النور الهادي، فإنَّ علينا القيامَ بالطاعة لربِّ العالمين، والعمل بما يرضيه. ولا طاعة، ولا عمل فيه رضىً، أو صلاحٌ ما لم يصاحبه ذكر الله تعالى في التهليل، والتكبير، والتسبيح، والحمد، والثناء عليه (جلت عظمته). وهو ما سماها القرآن الكريم: «الباقيات الصالحات». وقد جاء توضيحها عندما سألوا رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): وما هي الباقيات الصالحات يا رسول الله؟ فقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «هِيَ سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبر»[*].. فهي تشتمل على كل ما في الوجود، وعلى كل شأنٍ للإنسان في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة..
وأما من أعرض عن ذكر الله الواحد الديان، فإنَّ له معيشة ضنكاً، قوامها التعب والألم والشقاء. والإعراض عن ذكر الله يعني قطع أية صلة للإنسان مع ربّه، وبالتالي اتّباع الشيطان، الذي يلازم الإنسان الضالَّ عن الإِيمان الصادق بـالله ربّه، ويدفعه إلى ارتكاب المعاصي والآثام، بما يزيّن له من متع الدنيا ومطامعها، وبما يغويه من الوقوع في المحرمات، التي هي - في حقيقتها - همومٌ وأعباءٌ أكثر منها متعاً وملذات.. فتأمل مثلاً الغنيّ كم يتعبه جمعُ الثروة.. أو تأمل الحاكم كم يشقيه حكمه وخاصةً إذا كان مصبوغاً بالظلم والنفاق، والفساد والإفساد!.. أو تأمل أي إنسان شدّته الدنيا إلى متاع الغرور فراح يلهث وراءها بالعرق والكد، وقد انعدم في قلبه الشعور بالخوف من الله، فوقع في الضياع والشقاء!..
فالراحة والسعادة تنبعان، مبدئياً، من النفس المطمئنة، النفس التي امتلأت بالإيمان بالله، والسير على هداه. وإلاَّ فإنَّ أي تصور غير ذلك يكون من عمل الشيطان وغروره، وهو عدو للإنسان، ولا يمكن للعدو أنْ يأخذ بيد عدوه إلى ما يفيده أو يسعده. بل إنَّ العداوة كلما اشتدت - ولا عدو أشد على بني آدم من الشيطان - أورثت مزيداً من الهموم والمتاعب، وأوقعت في التعاسة. ولذلك فقد كان محكوماً على كل ابن آدم، إذا ما اتّبع غواية الشيطان، أنْ يعيش حياةً ضنكاً، ملؤها الشك، والحيرة، والقلق على مطامع الدنيا وملذاتها، ومتاعها الزائل!.
وهذا بخلاف المؤمن الذي يذكر الله قياماً وقعوداً، وعلى أي جنبٍ كان، وعلى أي حال كان.. فيتفكر في الخلق، بما يجعله يحقق إنسانيته بصورة متفاعلة مع الوجود، لأن تفكيره وإيمانه يهديانه إلى الحق الذي بموجبه خلق الله السماوات والأرض. وهذا ما يهدي إليه قول الرحمن: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *} [آل عِمرَان: 191].
وعن ابن عباس (رضي اللَّه عنه) أنه قال: «ضمن الله - سبحانه - لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أنْ لا يضلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة..» لأنَّ القرآن هو الذكر الحكيم، وهو النور المبين، وهو الكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من لدن عزيز حكيم.
إذاً فمن ذَكَر الله ربّه، وسار على هدي قرآنه المبين لا يضلُّ ولا يشقى.. ومن أعرض عن ذكر الله ربّه، فإنَّ له معيشةً ضنكاً، ويحشره الله تعالى يوم القيامة أعمى، فلا يهتدي إلى الصراط المستقيم.
وقد يسأل ربَّهُ يوم القيامة: ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت في الدنيا بصيراً، مفتَّح العينين، أنظر إلى ما أُريد، وأفعل ما أُريد؟...
فيأتيه الجوابُ الحقُّ: كذلك يحشرك الله أعمى أي مثل هذا الحشر يحشرك الله، لأنَّ آياته العظمى الدالة على حقيقة وجوده سبحانه، والداعية إلى عبادته قد أتتك على صفحة الكون، وفي نفسك وحياتك، وعلى لسان الأنبياء والمرسلين.. وكل ذلك لم تأبه له، بل نسيته، وجحدت بآيات الله، واستكبرت، أو اتخذتها سخريّاً.. فكما بعدت عن آيات الله، وألهتك عنها الدنيا حتى نسيتها تماماً، فكذلك اليوم تُنسى، وتهمل في صفوف الذين لا يشملهم الله تعالى برحمته الواسعة، لأنهم لم يقدموا لأنفسهم شيئاً يستأهلون عليه عفو الرحمن الرحيم، وغفران ربِّ العالمين.. ومَنْ حُكِمَ عليه بالنسيان من رحمة الله يوم القيامة، فإنَّ مصيره أن يُترك في جهنم خالداً في العذاب الأليم، فكأنما خلوده الدائم هذا، هو الذي يجعله بمثابة المنسيّ، فلا يرجو عتقاً من النار..
4 - ولو أنَّ للظالمين ملك الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة
يقول الله العزيز الحكيم: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ *} [الزُّمَر: 47].
لو أمعنا النظر وأطلنا التفكير، ونحن نتصوّر ما في هذه الأرض من أموال وثروات، وكنوز ظاهرة ودفينة، وما في بحارها وأنهارها من خيراتٍ، وما على ظهرها من العمران، والأشجار، والنبات، وما جعل الله تعالى فيها من أممٍ لأجناس الحيوانات والطيور والحشرات، وكيف قسَّم الله تعالى، المدبر الحكيم، الأرزاق فيها على تلك المخلوقات الحية، لتبين لنا أنَّ ما خلقَ الله في الأرض، وما جعل فيها من الأموال والأرزاق، أبعد من أنْ يحصى ويعدّ، مهما كثرت الأبحاث والدراسات والإحصائيات..
ولو تخيّلنا أنَّ كل ذلك جُمِعَ في ملكية خاصة لبعض الناس، فملكوا ما في الأرض جميعاً، وزيادة عليه ضعفه أو مثله، وحلت اللحظة الحاسمة التي تجعلهم مستعدين لأنْ يقدموا ذلك كله فداءً لهم من العذاب الأليم، لافتدوا به أنفسهم من سوء ذلك العذاب!..
وهذه هي الحال التي يكون عليها يوم القيامة أولئك الذين ظلموا أنفسهم في الدنيا، بسبب كفرهم وشركهم بالله تعالى، فلو أنَّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أنفسهم من العذاب، الذي أُعدَّ لهم في ذلك اليوم الرهيب.. لماذا؟ لأنه بدا لهم من قضاء الله على عباده - بالعدل والحق - ما لم يكونوا يحسبونه واقعاً فعلاً، وحقيقة دامغة لا مناص من الإقرار بها، ومواجهة ما ترتب على إنكارها يوم كانوا في الحياة الدنيا.. فهم كانوا يكذبون بحقيقة يوم القيامة، والبعث والحساب، فقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا ونموت فيها وما نحن بمبعوثين، فكان بانتظارهم خلاف ذلك كله.. فقد وجدوا يوم القيامة حقاً، ووجدوا الحساب حقاً، فحق عليهم سوء العذاب بما كانوا يظلمون..
والقرآن الكريم يسوق هذا النوع من التصور عن الفداء، للخلاص من عذاب يؤمئذٍ، حتى يستشعر الناس مقدار ذلك العذاب، وكم هو شديد وأليم.. وحتى يقدِّروا أنَّ يوم القيامة لا يُقبل فيه تعويض، ولا فداء، بل يكون الجزاء الأوفى على ما اكتسب الإنسان في حياته الدنيا، وحتى يعلموا أنَّ الخلاص من ذلك العذاب إنما يبدأ من هنا على هذه الأرض، بالإيمان الصادق، والنوايا الحسنة، والأعمال الصالحة.. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *} [الزّلزَلة: 7-8]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ *} [فُصّلَت: 46]، فهو سبحانه {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاء: 40].
روي عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند الموت، فقيل له: أتجزع؟ قال: «أخذتني آية من كتاب الله، قوله عزَّ وجلَّ: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجَاثيَة: 33].. والله ،لقد أخذتني هذه الآية، وأخاف أنْ يبدوَ لي من الله ربّي ما لم أكن أحتسب»..
وهذا العذاب الذي يواجه الظالمين يوم القيامة، قد وردت عليه نصوص كثيرة في القرآن المبين، من مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [المَائدة: 36]، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *} [الرّعد: 18].
في هذه النصوص جميعاً يظهر الهدف الواحد، والغاية الواحدة، أي إبراز ما ينتظر تلك الفئات من الناس، من عذابٍ أليمٍ..
فقد استعمل في سورة الزمر، الآية: 47 عبارة {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزُّمَر: 47]..
وفي سورة المائدة، الآية: 36، عبارة: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [المَائدة: 36]..
وفي سورة الرعد، الآية: 18 عبارة: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا} [الرّعد: 18]..
فأولئك الذين ظلموا، والذين كفروا، والذين لم يستجيبوا لربّهم وهم في الحياة الدنيا.. ما هي أغلى، وأعظم أمنيّتهم يوم يواجهون ذلك العذاب؟!
إنَّ أبعد ما يتصوره خيالُ أولئك الناس أنْ يتوهَّموا بأنَّ لهم ما في الأرض جميعاً، وأنهم يملكونه ملكية تامة لهم، تخوّلهم حق التصرف المطلق فيه كيف يشاؤون.. ومن عظيم المعاني، وعميقها في القرآن أنْ يجاري كتاب الله مثل ذلك الوهم ولكن على سبيل الفرض - ليس إلاَّ - .. فيقول: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} [المَائدة: 36].. إذْ مع هذه الـ«لو»، التي تدل على مجرد الأمنية، وافتراض الملكية، فإنَّ هذا الافتراض غير قابلٍ لأنْ يكون حقيقة، أو أنْ يتحول إلى حقيقة، لاستحالته أولاً، ومن ثمَّ لأنَّ الافتداء من عذاب يوم القيامة غير واردٍ، بل ولا يمكن أن يتقبَّل منهم، وعدم تقبّله حتى لا يكون خلافاً للعدل الإلهي الذي تقوم عليه السماوات والأرض؛ ففي يوم القيامة، وحَدَه ميزان الأعمال هو الذي يكون في الحسبان، وهو لا يقبل اعتراضاً ولا يقبل معذرةً، ولا يقبل فداءً لا بالأنفس، ولا بالأموال، ولا بالممتلكات، ولا بكل الأشياء التي يمكن أنْ يفتدى بها.. لأنَّ العدلَ ليس سنةً في الوجود البشري، وفي حساب البشر يوم القيامة وحسب، بل وسنة كونية لانتظام واعتدال الكون كله.. وبما أنَّ الله تعالى قد جعل السنن غيرَ قابلةٍ لأي تبديل أو تحويل: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً *} [فَاطِر: 43]، فكان من مقتضيات السنن الإلهية، بل ومن مقتضيات العدل الإِلهي ألاَّ يُتقبَّل أي افتداءٍ لأعمال الظالمين، والكافرين والمعرضين عن الاستجابة لدعواتِ الإِيمان بـالله، لأنه لا شيء يمكن أنْ ينجيهم من عذاب يوم القيامة..
وعن النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنه قال: «يُقالُ للكَافِر يومَ القِيَامَة: أَرأَيْتَ لَوْ كانَ لَكَ مِلْءُ الأرضِ ذَهَباً أكُنتَ تَفْتَدِي به؟ فَيقولُ: نعم. فيُقالُ لَهُ: لَقَدْ سُئِلْتَ أيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ وأَقَلَّ منه في الدُّنيا فَلَمْ تَفْعَلْ، فاليومَ لا يَنْفَعُكَ إنفاقٌ لمالٍ أو تَضْحِيَةٌ بسُلْطانٍ. ولَنْ يَفيدَكَ ما تُقدِّمُ مِنَ الفِداءِ عَنِ العَذابِ الذي جلَبْتَهُ لنفسِكَ بسببِ كُفْرِكَ وعِنادِكَ»[*].
موعظة: الإيمان بيوم القيامة عزاءٌ وجزاءٌ
والحق أنَّ الإيمان بيوم القيامة فيه عزاء حقيقيّ لكلّ المحبين من الآباء، أو الأبناء، أو الأخوة، أو الأقارب، أو الأصحاب، أو الأصدقاء، أو الخلاّن.. فلو كان أمر الإنسان ينتهي عند الموت، ولا قيامة بعد هذا الموت، لكانت صلتنا بأحبائنا الذين فارقونا قد انتهت إلى الأبد، ولم نعد نأمل بلقائهم ورؤيتهم إطلاقاً.. وهذا من شأنه أن يُتعب القلب، ويسبب الحسرةَ الكبرى، والأسى الدائم، ولكنَّ عزاء المحبين - من الذين آمنوا وعملوا الصالحات - هو أنهم سيلاقون أحباءهم بعد القيامة. وفي سيرة الرسول الأعظم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) المثال الواضح على هذا العزاء. فقد اسْتُشْهِدَ سعدُ بن زرارة - أحد سادة المدينة المنورة - في معركة «أحد». فلما عاد الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) والمسلمون من تلك المعركة، وجدوا الناس في المدينة يبكون قتلاهم بمرارة وحزنٍ شديدين. وقد لفتَ الرسولَ الرحيمَ بالمؤمنين، وقعُ جلل المصيبة على أم سعد، فقال لها: «أبْشِرِي، وبَشِّرِي أهلِيْهِم يا أمَّ سعدٍ، إنَّ قَتْلاَهُمْ قَدْ تَرَافَقُوا في الجنَّةِ جميعاً». فقالت أم سعد: «رضينا بـرسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) سالماً، وليس من يبكيهم بعد هذا يا رسول الله»[*]، أي ليس من يبكيهم بعد هذا الاطمئنان عليهم في الجنة، أحياء يرزقون.. ولكنها عادت فسألت الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أن يدعو لمن خلَّفوا، فقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «اللَّهُمَّ أَذْهِبْ حَزَنَ قلوبِهِمْ، واجْبُرْ مُصيَبتَهُمْ، وأَحْسِن الخُلْفَ على مَنْ خَلَّفُوا»[*].. فالقيامة تجمع بين أهل الإيمان والصلاح في الجنة، بعد أنْ يكون الموت قد فرقهم في الدنيا، وفي هذا الاجتماع يكون العزاء لبني البشر، لأنهم يعرفون مسبقاً، بأنَّ أحباءهم بانتظارهم، إذا كانوا على شاكلتهم بما عملوا من الطاعة والأعمال الصالحة التي تؤدي إلى الخلود في جنة النعيم؛ مما يوحي لنا بأنْ نكون صادقين في إيماننا، وفي خوفنا من غضب ربنا، وفي تعاملنا مع الآخرين، حتى نحرص على لقاء الأحباء الصالحين من إخواننا، وأهلينا وأزواجنا وذرياتنا، وإلاَّ كان الموت سبباً لفراقنا الدائم عنهُمُ.. مما يفترض بنا أنْ نحاصر هؤلاء الأحباء بالتوجيه والإرشاد، وبالتوعية والنصيحة، والموعظة الحسنة حتى نبعدهم عن المعصية، فيكون سبيلنا وإياهم واحداً إلى اللقاء الدائم - إن شاء الله تعالى - في جنة الخلد..
وكما أنَّ الإيمان بالقيامة يحمل العزاء للقلوب المحبّة، فإنَّ من شأنه أيضاً أنْ يحوِّل أنظار المؤمنين إلى عالم آخر غير هذا العالم الفاني، فتتصاغر في أعينهم متع الحياة الزائلة، وشهواتها الفانية، كما تتضاءل عندهم كل تلك الأطماع في المناصب، والثروات، واستحلال المحرمات التي طغت على أهل الدنيا، ولا سيما على أتباع الشيطان الذين أغواهم، وأوقعهم في الإثم والعدوان، حتى يعصوا ربّهم كما عصى ربّه، واستكبر عن السجود لآدم (عليه السّلام) .
وأهمية الإيمان بيوم الآخرة أنه يجعل ذلك اليوم - المغيَّب عن أعين الناس - كأنه حقيقةٌ راهنةٌ، لا تفارق أذهان المؤمنين، فيستعدون له، ويتهيأون لملاقاته، وذلك بالقيام على طاعة الله تعالى، والامتثال لأوامره ونواهيه، فلا يشغلهم عن ذكر الله شاغل، ولا يلهيهم عن عبادته لهوٌ، ولا لاهون.. إنهم يعيشون في معترك الصراع، الصراع مع النفس الأمارة بالسوء، والصراع مع الناس في أطماعهم، ورغباتهم وأهوائهم، والصراع مع الحياة في تطاول الشر على الخير، والباطل على الحق.. ويبقى هؤلاء المؤمنون على عهدهم مع ربّهم، وعلى صلتهم بخالقهم، فلا ينكثون العهد، ولا يقطعون ما أمر الله تعالى به أنْ يوصل..
ولو لم تكن القيامة حقاً، لما وجدنا المؤمنين من عباد الله الصالحين يتميزون عن الكافرين والمشركين.
ولو لم تكن القيامة حقاً، لتهالك الناس جميعاً على مطامع الدنيا، فاتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله، ولذهبت مع تلك الأهواء معاني القيم الأخلاقية، والمثل العليا، ولبطلت معاني الحق والخير، وحلَّت في دنيا الناس، بديلاً عن ذلك كله، مادية جائرة قاتلة، أقلّ ما يقال فيها أنها تودي بكرامة الإنسان إلى الحضيض!..
ولو لم تكن القيامة حقاً، لما وُجدت النفوس المطمئنة التي تثق بأنها سوف ترجع إلى ربّها راضية مرضية.. ولكان الناس من ذوي النفوس الأمارة بالسوء هم - وحدهم - الذين يعيثون فساداً في الأرض.. فالحمد لله الذي جعل يوم القيامة حقاً، وجعل جنة الخلود للمؤمنين وعداً صادقاً.. ومثل هذا الإيمان هو الذي يجعل هؤلاء الأبرارَ يشتاقون إلى ما هو أكبر، وأعظم شأناً من كل هذا العالم الدنيويّ، وإلى ما هو أثمن من كل ما يحوزون، أو يجمعون أو ينالون.. لأنَّ متاع الدنيا، ومهما كان كبيراً، لا يُدخل في النفس المؤمنة أيَّ نوعٍ من الشعور أو الطمأنينة التي ترجوها بلقاء ربّها، والفوزَ برضوانه في الآخرة. ولذلك كان التوق عظيماً في نفوس المؤمنين الصالحين إلى رحمة الله تعالى وإلى فضله وإحسانه عليهم بالعفو والمغفرة يوم الحساب.. ولذلك نجدهم قد نظروا إلى الأرض كـمكان غربة موحشة، فاعتبروا أنفسهم غرباء، في عالم متصارع قد مُلئَ بالحقدِ والتنابذ والفساد!. فكان، بمقابله، شوقهم إلى العالم الآخر، عالم الطهر والنقاء، وعالم الود والأمان.. عالم الخلد في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين..
ثالثاً - البعث والحساب
من الأمور الأساسية والجوهرية التي تقوم عليها عقيدة التوحيد الإيمان بإحياء الناس يوم البعث، ومحاسبتهم على أعمالهم في الحياة الدنيا، لكي يتقرر مصيرهم في الحياة الآخرة إما إلى الخلود في الجنة، أو إلى البقاء في النار خالدين فيها إلاَّ ما شاء الله تعالى.. ولذلك سوف نحاول هنا تبيان الأمثال القرآنية التي تدل على حقيقة البعث، لنعود في الفقرة اللاحقة إلى معرفة أوصاف الجنة التي أعدها الله تعالى للمتقين.
يقول الله تبارك وتعالى: {أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [يُونس: 55-56].
ألا إنَّ لله ما في السماوات والأرض ملكاً وخلقاً وعبيداً. فهو مالك الملك، القادر على أنْ يتصرف بملكه كيفما يشاء، العزيز في خلقه، الحكيم في صنعه، وضع السنن، وقسَّم الأقدار والأرزاق، فلا يفلت شيء في الوجود كله مما قضى به في علمه الواسع الأزليّ، فكان وعده لعباده بالبعث حقاً يقيناً.
من هنا يستقيم المعنى في أذهاننا من أنَّ وعد الله بالبعث والجزاء حق، ويكفي الدليل على أحقيته أنه قول الله الحق، ومن أصدق من الله قيلاً! ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك لعلة في النفوس، وهي عدم التصديق بالبعث، لأنهم لا يؤمنون بأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - سوف يحيي الخلائق يوم القيامة، وأن الأموات سوف يعودون أحياء، كما كانوا في هذه الحياة الدنيا، ولذلك ترى كل جاحد للبعث، ومنكر لهذا الحق، يسأل متعجباً:
وهل سوف أبعث فعلاً من بعد موتي؟ وكيف يمكن أنْ أعود من جديد - بعد هذا الفناء والانحلال في القبر - إلى ما كنت عليه وأنا حيٌ، وقد فني جسدي، وبليت عظامي، وصرت تراباً أو هباءً منثوراً؟ وهل حقاً وصدقاً أنَّ وراءَ بعثي حساباً فيه ثواب وعقاب؟
ولكن لو فكر مثل هذا الإنسان بطريقة أخرى، وانصبَّ اهتمامه على وجوده الحقيقيّ، على وجوده الماديّ المحسوس في هذه الدنيا، لظهر له أمران ثابتان:
الأول: أنَّ وجوده الحسيّ لا يمكن إنكاره، فهو كائن حيّ يروح ويجيء، ويتحرك بكامل تكوينه من جسد ونفس وروح.
والثاني: أنَّ موته حتميّ، كما يُثبت له ذلك الوجودُ البشريّ، بل ووجود الكائنات الحية كلها التي لا بدَّ أن يطالها الفناء والزوال.. فمثل هذا الوجود الفعليّ للإنسان، وإدراكه له، وإحساسه به كحقيقة راهنة، وكذلك موته الحكميّ، ومعرفته اليقينية به، هما من الحقائق التي يهتم القرآن الكريم بتبيانها لما يترتب عليها من نتائج سواء في الحياة الدنيا، أم في الحياة الآخرة. ومن أجل ذلك، فإنَّ هذا الكتاب المبين يقدم للإنسان البرهان العقليّ على البعث، وهو أنَّ الذي خلق الإنسان أول مرة، وأحياه عمراً ثم أماته، لقادر على أنْ يحييه مرةً أخرى، لأنَّ القادر على النشأة الأولى، قادر على النشأة الثانية، كما يحكم العقلُ بذلك.. فأنت أيها الإنسان عندما تصنع شيئاً من نتاج عقلك، وبعد أنْ يصبح موجوداً فعلاً بين يديك، أو أمام ناظريك، فإنك إذا فككته أو دمرته يكون أهون عليك أن تعيد صنعه مرة ثانية.. فإذا كانت هذه قدرتك وأنت المخلوق، فما ظنك بالله الذي خلق السماوات والأرض جميعاً، وجعلك من مخلوقاتها، أليس بقادر على أنْ يُعيد إحياءك من جديد؟
ثم لو أخذنا الأمر من زاوية القانون الذي يحكم العلاقات بين الناس، والذي يقر بوجود عدالة هي التي تقضي وتفصل، لوجدنا أنَّ هذه العدالة هي الأساس لصلاح المجتمع البشريّ.. فعدالة الأرض، وما يقتضي لها من القوانين والمحاكم والقضاة، هي الوسائل التي من شأنها أن تحفظ الحقوق، وتصون الحياة، وتفرض النظام والاستقرار. وإلا لو خلت الحياة البشرية من العدالة، لاضطربت أحوال البشر، وسادت الفوضى، وعم الفساد، وعاش الناس في مثل شريعة الغاب، يأكل القوي الضعيف بلا رادع، ولا حساب.. وهذا مع الإشارة إلى أنَّ العدالة في الأرض لم تكن كاملة وشاملة يوماً. ولم يحقق العدل كامل أهدافه زمناً!.. بل أفلت من قبضته كثيرون بفعل استباحة حرمته، وخرق قوانينه ونظمه، والتعدي على سلطانه. بل وقد يحصل أنْ يصبح الجاني هو الذي يحاسب الناس بدل أنْ يحاسبوه، وأنْ يكون هو الذي يدينهم بدل أنْ يدينوه.. وكل ذلك باسم «العدالة» وتحت سمعها وبصرها.. وعلى الرغم من ذلك كله، فإنَّ أي مجتمع بشريّ لا يمكنه العيش بلا سلطة قضائية يُناط بها أمر العدل.
ولكن السؤال: هل يمكن للذين أفلتوا من قبضة العدالة في الحياة الدنيا، أنْ يهربوا من الجزاء بصورة مطلقة؟!
إنَّ الذين يوقنون بحقيقة البعث، يرون بأنَّ الجزاء الذي لم يتحقق على الأرض، لا بد أنْ يتحقق في الآخرة يوم الحساب.. إذ لو تسنَّى للمجرمين أَنْ يفلتوا من عدالة هذه الأرض بالمكر والخداع، أو بالباطل والقوة، أو بأية وسيلة من وسائل الظلم التي قد تتاح لهم هنا.. فإن العدل الإلهيّ سوف يكون بانتظارهم للحساب، وإحقاق الحق، وإنصاف المظلوم من ظالمه..
وإلاَّ لو قلنا بخلاف ذلك، وأنكرنا البعث، ومن ثم أنكرنا العدل الإلهيّ، لكان الشيءُ وضدّه سواءً. فيكون الصادق كالكاذب، والظالم كالمظلوم، والعادل كالجائر، والعالم كالجاهل، والمؤمن كالكافر.. ولانتفى أصلاً التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة.. ولو كان ذلك لما قامت السماوات والأرض!.. لأن ذلك مما يخالف منطوق الحياة البشرية، بل ومنطوق الوجود بأسره. ولو أقررنا - جدلاً - بعدم وجود العدالة في الأرض، وبعدم وجود العدل الإلهيّ في الدنيا والآخرة، لكان أساس الحياة، وأساس الوجود قائميْنِ على الخطأ، وعندها لا يستقيم شيء أبداً، لأنَّ ما بني على فاسدٍ فهو فاسدٌ حكماً. إلا أنَّ العقل، والقلب والوجدان في الإنسان، بل وإن طبيعة الوجود، ونظام الكون كله يقول بخلاف ذلك، لأنَّ كل ما في حياة الإنسان، وكل ما في الكون وكل ما في الوجود مبنيّ وفق نظام محكم، قائم على الحق والصواب، ومرتكز على سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وعلى منهج مستقيم متكامل يجعل الانتظام الشامل حقيقياً وفعلياً في كل شيء. وهذا ما نجده في حسّ الناس أنفسهم، إذ يميزون بين بعضهم البعض، فترى حكمهم بالبداهة يشير إلى أنَّ فلاناً عادل، وفلاناً جائر، وأنَّ فلاناً يتحلى بالصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة، بينما غيره تغلب عليه الصفات الذميمة والأخلاق الفاسدة.. مما يدلُّ على أنَّ الحياة البشرية قوامها - في الأصل - الحق والانتظام..
ثم أليس من الحقائق البديهية أنَّ حياة كل إنسانٍ لا بدَّ أنْ يعقبها الموت، وأنَّ هذا الموت لا بدَّ أنْ يترتب عليه أحد أمرين: إمَّا فناءٌ نهائيّ وينتهي معه الإنسان، وينتهي معه كلُّ ما فعله في حياته.. وإما حياة أخرى بعد الموت، وفيها يحاسب الإنسان على ما قدَّم في الحياة الأولى، وهذا هو الحق الذي قالت به الرسالات السماوية منذ عهد الخليقة!..
ودليل آخر على البعث ما نجده في الإنسان نفسه من حيث تركيبه النفسانيّ: ذلك أنَّ خالقه العظيم قد أودع فيه خصائص معينة هي التي ميّزته على الكائنات الحية الأخرى.. وأهمها خاصية التعقل، وآلةُ الإدراك والتمييز. وفي مقابل هذه الخاصية فقد ألزم الخالقُ هذا الإنسان بعبادته وطاعته، بل وما خلق الله تعالى الجن والإنس إلا ليعبدوه.. ولذلك كان التكليف، للإنسان العاقل المميز، بالعبادة والطاعة، وعدم ارتكاب المعصية والإثم. وعلى أساس هذا التكليف كان البعث والحساب والجزاء، ليعلمنَّ الله الذين صدقوا، فكانوا من الطائعين الذين يؤمنون بالغيب، وبالآخرة هم يوقنون، وليعلمنَّ الله الكاذبين الذين كفروا فلم يؤمنوا لا بالغيب والحساب، ولا بالآخرة والجزاء..
فالبعث هو نتيجة حتمية للوجود البشريّ، وإلا كان هذا الوجود عبثاً، لا حكمة فيه، بل ولا غاية له.. فإذا أقررنا بأنَّ خلق الإنسان لم يكن عبثاً ولا مصادفة، كان لزاماً الإقرار بضرورة البعث، حيث تنتصب الموازين الحق، لمحاسبة الناس على ما عملوه في الحياة الدنيا. والإقرار بحقيقة البعث يسبقه الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، وبأنه إلهٌ واحد أحد، لا شريك له؛ فهو الديَّان يوم القيامة، لتوفَّى كل نفس ما كسبت، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *} [الزّلزَلة: 7-8].. وليس وحدهم أتباعٍ الرسالات السماوية الذين يؤمنون بالآخرة وبيوم الحساب، بل إنَّ أقواماً كثيرة من الأمم الغابرة قد اعتقدت بحياة أخرى بعد الموت، كما دلت عليه اكتشافات الآثار حيث يجد العلماء في قبور الموتى: الأدوات، والحليّ، بل وأواني الطعام والشراب التي كانوا يودعونها مع الميت، لتكون حاضرة، فيستعملها بعد أنْ يحيا ثانيةً (والمثال عليها قبور الفراعنة في مصر)..
ولئن كانت الرسالات السماوية جميعاً قد جاءت بالنصوص التي تقول بحقيقة البعث، وبالبراهين العقلية عليه، فإن القرآن الكريم - الذي حمل الرسالة السماوية الخاتمة إلى الناس كافة - امتلأت نصوصه بالآيات التي تتضمن الأحكام، والأدلة العقلية، والبراهين الحسية والأمثال التي تؤكد أنَّ البعث حقيقة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ومن الأدلة والبراهين التي يسوقها القرآن الكريم على البعث نجد:
1 - أنَّ أبا الأنبياء إبراهيم (عليه السّلام) سأل ربَّه أنْ يُريه كيف يُحيي الموتى، فأمره الله تعالى أنْ يذبح أربعة من «الطير» ويفرق أجزاءهنَّ على الجبال من حوله، ثم يدعُوهنَّ إليه، فيأتينه أحياء. كما يبيّنه قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [البَقَرَة: 260].
ويمكن أنْ نستدلَّ من مقاصد هذه الآية الكريمة أنَّ إبراهيم (عليه السّلام) قد فعل ما أمره به ربُّهُ تعالى، أي أنه أمسك بأربعة من الطير، فذبحهنَّ، وقطَّعهنَّ أجزاءً، ثم خلط أجزاءهنَّ ووزعها على عدة جبال، ثم عادَ إلى حيث كان، ودعاهُنَّ إليه، فأتته تلك الطيور، على نفس الحال الذي كانت عليه قبل ذبحها وتقطيعها، نابضةً بالحياة، وذلك بإذن ربّها العلي القدير؛ فكانت البرهان لاطمئنان قلب إبراهيم (عليه السّلام) على أنَّ الله تعالى عزيز لا يعجزه شيء، حكيم في تسيير مخلوقاته، وأنه يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير. ولو لم يكن الأمر يتعلق بإقامة البرهان على ذلك، لما خطرت القضية أصلاً على قلب أبي الأنبياء، ولما طرأ أيُّ شيءٍ على وجدانه يمكن أنْ يغيّر بصدق إيمانه، إذ كما هو ثابت وأكيد في القرآن المبين أنَّ إبراهيم (عليه السّلام) كان على نفس العهد مع ربّه: إيماناً، وطاعةً، وتسليماً، واحتساباً وتوكلاً، فقال الله تعالى عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النّحل: 120]...
ثم إنَّ من مصاديق آية الطيور الأربعة أنَّها توحي بأمرين:
الأول: أنَّ اطمئنان قلب العبد لربّه العزيز الحكيم هو سبيله إلى الرشد، الذي يمكن أن يرقى به إلى المرتبة التي وصل إليها أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السّلام)، فيكون إماماً قدوةً، سواء في طاعته، أو في فعل الخير بكافة وجوهه ومقاصده..
والثاني: أنَّ الله عزَّ وعلا قريب مجيب، واستجابته لعبده فيها رضى، ومكرمةٌ لهذا العبد في سعيه لمعرفة الحقائق، دونما تجديفٍ على أمانة العلم والمعرفة..
فما أعظم مدلولات آيات القرآن الحكيم، وما أسمى مثل ذلك العطاء من ربٍّ عزيزٍ حكيمٍ لنبيٍّ من الصالحين..
2 - أن «سورة البقرة»، وهي أكبر سور القرآن الكريم، قد سميت بهذا الاسم لأنها تضمنت واقعةً حسية ملموسة أحيا فيها الله تعالى ميِّتاً.. فقد سبق أن ذكرنا قصة ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي قُتِل، ولم يُعرف قاتله، مما أدّى إلى بوادر فتنةٍ بينهم، لولا أنْ تدارك نبيُّ الله موسى الأمر، ودعا ربّهُ أنْ يبيّن لبني قومه القاتل، فأمر الله نبيَّه موسى (عليه السّلام) أنْ يذبحوا بقرةً، ويضربوا القتيل ببعضها، فلما فعلوا، أحياه ربّنا العزيز الحكيم فدلَّ على قتلته.. فكانت تلك الواقعة في عالم الشهادة، وعلى مرأى من بني إسرائيل مصداقاً لقول الله العزيز: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ *} [البَقَرَة: 73] أي مثل إحياء ذلك القتيل يحيي الله الموتى في البعث ويريكم الله آياته رؤية العين التي تنظرون بها إلى الأشياء المحسوسة من حولكم، ومن تلك الآيات رؤية هذا القتيل الذي أحياه كما رأيتم، وشاهدتم بأم العين إحياءه من الموت، وعودته كما كان قبل موته ليشهد على حادثة القتل كيف وقعت، وعلى المجرمين الذين قتلوه...
3 - أن عيسى ابن مريم (عليهما السّلام) كان يحيي الموتى بإذن الله، مصداقاً لقول الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتب والحكمة والتوراة واللانجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله} [آل عِمرَان: 45-49].
وفي الأثَر، أنَّ عيسى (عليه السّلام) قد أحيا صديقاً له اسمه عازر، وأحيا ابنَ العجوز، وابنةَ العاشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال[*].
وهذه الشواهد القرآنية كافية بذاتها للتدليل على البعث. إلا أنَّ آيات القرآن الكريم تجذب القلوب المؤمنة إلى نورها الوضاء، فتطلب الاستزادة من علم الله الواسع. ولذلك سوف نحاول أنْ نستشفَّ من آيات هذا الكتاب المجيد بعضَ الذي يثبت في أذهاننا حقيقة البعث، مسترشدين بالآيات التي ضُرِبت فيها الأمثال على هذه القضية، وذلك حيثما وردت لفظة «مَثَل» أو «كاف التشبيه» - كما أشرنا في مقدمة هذا الكتاب - فتكون هذه الأمثال سبيلاً آخر من سبل القرآن التي نطمع أنْ تهدينا إلى ما فيه نجاتنا وفوزنا يوم الدِّين.
ومن تلك الأمثال القرآنية التي نستدل بها على البعث - بعد الموت - الأمثال التالية:
1 - مثلُ العزير في إماتته وبعثه، آيةٌ دالةٌ على حقيقة البعث
يقول الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ *} [البَقَرَة: 259].
إنَّ مصداقية حقائق القرآن تتجلى بما تقدِّمُ من الأدلة والبراهين التي تخاطب عقل الإنسان وقلبه على السواء، فعندما يتناول الذكر الحكيم قضية من القضايا التي قد تشغل بال الإنسان وتفكيره، نجده يستعمل الألفاظ والمعاني التي من شأنها أنْ تطمئِنَ قلبه، وتذهب عنه هواجس القلق والهم التي كانت تؤرقه وذلك بما تحمل من العلاج الشافي لكل تساؤلاته حول هذه القضية، كما يبرز ذلك في قصة ذاك الإنسان المؤمن الذي مرَّ على قرية فرآها خاوية على عروشها، لا أثر فيها للحياة، فقال في نفسه: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فكان أنْ أماته الله تعالى مائة عام، ثم أحياه، ليجعله آيةً للناس على حقيقة البعث وإحياء الموتى..
إذاً فالمقاصد التي تتوخاها النصوص هنا ليست مجرَّد الإخبار عما قاله مؤمن يريد أنْ يعرف كيف يحيي الله الموتى، وما حصل معه بالذات فزاده إيماناً ويقيناً بحقيقة البعث، بل ليكون في خبره برهان مؤكد، وآية للناس في كل زمان ومكان، يستدلون بها على أنَّ الله تعالى يحيي ويميت، وسبيلهم للإستدلال هذا القرآن الذي يقدم لهم الأدلة الحسية، والبراهين العقلية على قدرة الله تعالى في الإِحياء والإماتة، وهو كتابٌ قائم أبداً بين أيديهم، يهدي إلى الحق، لأنه الحق تبارك وتعالى..
فهذه الآية الكريمة تخبر أنَّ الرجل المؤمن (وهو العزير، بإجماع المفسرين) كان في نفسه توق لاطمئنان قلبه من قضية البعث، وإحياء الموتى، فساقه ربُّهُ القدير، الذي يعلم ما في الصدور، إلى بيت المقدس، وهي يومئذٍ مهدومة، محروقة بفعل غزوها من بختنصَّر، ملك بابل. فلما رآها على تلك الحالة «خاوية على عروشها» قال: «أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها»..
ولعلَّ في الاستطراد هنا - ولو قليلاً - ما يدل على بعض جوانب التفكير عند كثير من الناس، ولو كانوا مؤمنين، كما كانت الحال مع العزير. إذ لم يكن في نفسه - وهو مؤمن صادق - أي شك أو ارتياب بالحق الذي يؤمن به، وهو أنَّ هنالك حياة أخرى غير الحياة الدنيا، ولكنه كان يريد لقلبه أنْ يطمئن، لا سيما وأنَّ يوم القيامة، وبعث الناس من القبور، والوقوف بين يدي ربّ العالمين، كلها من أمور الغيب، التي قد تراود الإنسان بعضُ التصورات عن كيفية حدوثها، من دون أنْ يجدوا ما يشفي غليلهم، إلاَّ أنْ يكون أمامهم برهان ساطع على ذلك.. ومثل هذه التصورات قد تخطر على بال كل واحد منا. وليس ذلك عجباً، أو شكاً - لا سمح الله - فهي تصورات وأفكار قد خطرت مثلاً على بال أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السّلام) - كما رأينا - وخطرت على بال العزير - الذي نحن بصدد قصته - ولذلك أتى القرآن المجيد بالآيات المبيّنة لتعطينا البراهين والأدلة، فتطمئن بها قلوبنا، ونفوسنا..
أجل، إنَّ هذا التوجه في القرآن الكريم، إنْ دلَّ على شيء، فإنَّما يدل - وعلى امتداد التاريخ البشريّ - أنَّ في نفس الإنسان دافعاً قوياً بأنْ يحصل لديه علم يقينيّ بحقيقة البعث عن طريق الواقع المحسوس، لأنَّ العلم الاستدلاليّ ربما تعتوره الشبهة، ومن أجل إزالة هذه الشبهة من العقول، يسوق القرآن الكريم شواهده، وأمثاله مما حصل في الماضي، لتكون عبرة للحاضر والمستقبل، فيستدلّ بها الإنسان على البعث، بما يؤيدُهُ البرهانُ الحسيّ الذي يمكن أنْ يستقيه من الواقع، وهذا مع العلم بأنَّه ليس ضرورياً أنْ يحصل العلم دائماً عن طريق الواقع المحسوس، أو لكل قضية من القضايا، ما دام للإنسان قدرة على التفكير، وتمحيص الوقائع والأحداث الماضية التي يمكن أن يستدل بها على القضية التي يريدها، أو على الحقيقة التي يبحث عنها، فيكون العلم الاستدلاليّ، والنظر الفكريّ كافيين لإقناعه. فإذا ثبتت له القضية أو الحقيقة بالعلم الاستدلاليّ ولم يقتنع كان عبء المسؤولية على عاتقه. وبمعنى آخر إنَّ أحداث التاريخ، أو الأحداث السابقة تبقى شواهدَ للإنسان، وبيّنات لإقناعه عن الشيء الذي يريد معرفته، والتيقن منه، وإلا فلا معنى للتاريخ البشريّ إنْ لم يكن لنا فيه مثالٌ أو عبرة.. فالعزير قد تفكَّر في البعث، وأراد الاهتداء إلى البرهان الذي يثبت حصول البعث.. ولكنه وهو يفكر، ويسأل نفسه عن ذلك، لم يدر في خلده أنه سيكون الشاهد على نفسه بنفسه لإثبات حقيقة البعث، وأن الله تعالى سيجعله آية - برهاناً - لكل من تؤرّقه فكرة البعث من بني آدم..
لقد أراد العزيرُ أنْ يعلم، ففكَّر.. ثم أخذته الغفوة وكانت، في الحقيقة، إماتته وكأنها نوم طويل غيّبه عن الزمن..
وأفاق بعد تلك الغيبة عن الزمن، وهو لا يعلم شيئاً.. إلاَّ أنَهُ كان بكامل الوعي والإدراك، فجاءه الوحي من ربّه قائلاً له:
«كم لبثتَ»؟ أي على تلك الحالة التي كنت عليها..
قال: «لبثتُ يوماً أو بعض يوم».. ظنّاً منه أنه كان نائماً في نوم عادي، وقد لبث فيه بضع ساعات ليس إلاَّ !.
ولكنَّ الوحيَ قال له: «بل لبثت مائة عام» وأنت في نفس المكان، وعلى ذات الهيئة، وبنفس الثوب الذي تلبس، فانظر إلى حالك هل ترى من تغيير؟ أبداً، لم يطرأ عليك، كما ترى، أي تغيير خلال هذه المائة عام. ثم البرهان الآخر أمامك «فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه»، فلم تفسدهما عوامل الطبيعة، بل بقي الطعام على حاله، من الطعم واللون والرائحة، صالحاً للأكل، وكذلك بقي ماؤك، وعصيرك الذي تشرب على حاله فلم يتبخَّر، ولم يأسن، وهو صالح للشرب..
ثم تابع الوحي يريه العبرة الّدالة والمؤكِّدة: والآن «فانظر إلى حمارك» الذي كان يقف بقربك عند موتك، فهل ترى له من باقية إلاَّ بعض عظام بالية؟ فلو نمتَ يوماً أو بعض يوم فهل كان يبلى ويفنى على نحو ما ترى؟ ثم انظر إلى بقية هذه العظام، كيف يعيد الله تعالى منها إنشاء عظام الحمار بكامل شكلها وتركيبها، وربطها ببعضها البعض، ثم كيف يكسوها لحماً، ثم يبعثه حياً من جديد..
وكان العزير يرى بالعين المجردة كيف تم ذلك كله، وكيف استوى حماره حياً كما كان قبل مائة عام، وقد حدث ذلك كله كلمحٍ بالبصر. فلمّا تبيّن له الأمر قال: «أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير»، وأنَّ أمره إذا أراد شيئاً أنْ يقول له: كن، فيكون..
لقد علم الله سبحانه وتعالى ما في نفس عبده العزير من توقٍ لمعرفة حقيقة البعث، فأتاه الدليل الحسيّ في نفسه، وفي حماره، أي الدليل الذي ينبثق عن كلمةٍ واحدةٍ: «كن» وهي كلمة التكوين والإنشاء وإعادة الإنشاء! وهي التي جعلت «عزيزاً» يستيقن من ثلاث حقائق: الخلق، والموت، والبعث؛ إذْ تبيّن له بعد أنْ هدأ روعه، أنَّ الزمن قد مرَّ طويلاً عليه منذ وصوله إلى بيت المقدس، لأنَّ معالم الأشياء كلها قد تغيرت من حوله، وأصبحت بيت المقدس وجوارها - في البنيان والعمارة وحركة الناس - على غير الحالة التي رآها فيها من الهدم، وندرة الحياة والأحياء، قبل أنْ يميتهُ الله تعالى..
وهذا برهانٌ آخرُ على حقيقة البعث: حادثةٌ يعيدها القرآنُ من غابر الزمان، ويحفظها آية للناس - كما شاءها الله العليّ القدير - ليستدل بها أهل الفكر، مهما طال الزمن، أو تعاقبت الأجيال، على أنَّ البعثَ حقيقة مؤكدة، وليعلموا، كما علم العزير: «أن الله على كل شيء قدير».
2 - كما أنَّ الله تعالى خَلَقَ السماوات والأرض فهو قادرٌ على أنْ يخلق مثل هؤلاء الناس..
يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [يس: 77-83].
إنها جولة جديدة من جولات الجدل في الحرب النفسية التي كان المشركون يشنونها على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وعلى دعوته، والتي كان الرد عليها يأتي من الله - جلت عظمته - بآيات قرآنية تستقي البراهين للناس من أنفسهم، ومما يشاهدونه في السماوات والأرض، كما في هذه الوخزة اللاذعة للضمير والوجدان التي تذكِّر المشركين بأصل خلقهم من ماءٍ مهين. فلعلَّ في هذا التذكير ما يعيد الوعي إلى نفوسهم، ويزيل تلك الغفلة التي تبعدهم عن النظر في هذا الخلق، فيمتنعوا عن مخاصمة النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في جدالهم العقيم حول إحيائهم بعد الموت، وبعثهم من جديد.
ولذلك يأتي النص القرآنيّ، وفيه التعجب والاستغراب من موقف هذا «الإنسان» الذي ينصِّب نفسه خصيماً للحق، فلا يجادل إلاَّ بالباطل، ليسأل: أولمَ يرَ الإنسان أنَّ الله ربَّه قد خلقه من نطفةٍ من منيٍّ يُمنى، ثم سوَّاه بعد هذا الخلق من الماءِ المهين، في أجمل صورة وأحسن تقويم.. فبدلاً من أنْ يرى في خلقه نعمة عظيمة تستدعي الاعتراف بفضل خالقه عليه، وحمده وشكره على ما جمَّله فيه وحسَّنه، إذا به ينسى أصلَ خلقه من ماءٍ مهين، وما فيه من الوهن والضعف، ثم يستقوي في جداله وخصامِهِ لإِنكار البعث، بما يضرب من مَثَلٍ بهذه العظام التي تبلى، فيقول: «مَنْ يُحيي العظامَ وهْيَ رَمِيمٌ؟».
فهو يظن أنَّ حجته قوية - وفقاً لمنطوق تفكيره المحدود - عندما يرى ماذا يحلُّ بالإنسان بعد الموت، وكيف ترمُّ عظامه وتتفتَّت.. فلا يصدّق إمكانية إعادة تركيبها، وإحيائه من جديد تماماً كما كان في حياته الدنيا، وقد أشرنا سابقاً إلى أنَّ المشركين كانوا يأتون بالعظام الرميمة ويسألون النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إنْ كان الله يحييها ويعيدها بشراً سوياً كما فعل العاص بن وائل.. وهو الأمر نفسه، على ما ورد في الروايات، من أن «أبيّ بن خلف اقترب من النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وهو على الصفا، يدعو الناس للدخول في الإسلام، وفتَّ عظماً في كفه، ثم نفخه وقال: يا محمد! أيبعث الله هذا بعدما أرمّ؟ فأجابه النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): نَعَمْ، يَبْعَثُ الله هَذَا، ثم يُمِيْتُكَ، ثُمَّ يُحْيِيْكَ، ثم يُدْخِلُكَ نارَ جهنَّمَ» [*]. وقد استند النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في رده على ذلك المشرك اللعين، وعلى جميع من يكفرون بأحقية البعث، على أمر ربّه الذي تنزَّل عليه في الذكر الحكيم بقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *} [يس: 79]. وإلاَّ فمن يحيي العظام وهي رميم غير الله تعالى الذي أنشأها أول مرة من ماءٍ مهين؟ فهو سبحانه بكل خلق عليم، وليس الخلق مقصوراً على الناس من مختلف الأجناس والألسن، ولا على الحيوانات أو الطيور أو الحشرات من مختلف الأنواع والأشكال، ولا على الأشجار والنباتات من شتى الأصناف والألوان.. بل إنَّ الخلق يشمل أيضاً كل ما في السماوات والأرض من خلائق لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى في تكويناتها، وخصائصها، وسننها، وارتباطها فيما بينها، وصلتها بخالقها.. أجل فكلها من خلق الله، وهو تعالى عليم بها جميعاً..
لذلك، ومن حيث إنّ الله تعالى قد أحاط بكلِّ شيء علماً، ومن حيث إنه بكلِّ خلقٍ خلَقَهُ عليمٌ، فإن النصوص القرآنية تتعدى البيان عن إعادة إحياء العظام إلى بعض من الأشياء الحسية ذات التأثير المباشر على حياة الإنسان، لتضرب بها المثل على «أنَّ الله على كل شيء قدير»، فـكما أنه هو الذي يحيي الإنسانَ بعد الموت، فهو الذي جعلَ للناس من الشجر الأخضر ناراً فإذا هم منه يوقدون.. ولكن لماذا هذا التدليل بالشجر «الأخضر»، وما علاقة ذلك بالإحياء بعد الموت؟
قد يكون الجواب البديهيّ أنه عندما نقطع الشجر الأخضر، نتركه حتى ييبس، ثم يصبح وقوداً للنار.. ولكن العبرةَ أبعدُ من ذلك بكثير وهي ما دلَّنا عليه العلم في اكتشافاته الحديثة التي ارتكزت على الاخضرار في الشجر، الذي يوجّه القرآن الكريم أنظارنا إليه باستعمال تعبير «الشجر الأخضر».. أجل لقد بيّن العلم أنَّ الشجر الأخضر فيه خاصية امتصاص الطاقة الشمسية والاحتفاظ بها، وهذه الطاقة هي التي تولد النار عند الاحتكاك أو الاحتراق، ولو لأقل شرارة؛ ولذلك تحصل الحرائق في الغابات الخضراء، بحيث يصعب السيطرة عليها، في بعض الأحيان، قبل أنْ تقضي على مساحات شاسعةٍ من الأشجار.. أي أنَّ الطاقة الشمسية التي تُختزنُ في الأوراق الخضراء اليانعة هي التي تنفجر لمجرد أي سبب، ثم تستعر النار على ما نرى في تلك الحرائق هنا أو هناك..
وإنَّ الذي أودع هذه الخاصية في الشجر الأخضر (أي امتصاص الطاقة الشمسية والاحتفاظ بها) هو الذي أودع في الخلية التي يحملها السائل المنويّ تلك الطاقة التي يتولَّد منها الإنسان بقواه الظاهرة والخفية. من هنا يربط الذكر الحكيم ما بين خلق الإنسان من ماءٍ ضعيف مهين، الذي تكمن فيه الطاقة التي تجعله بشراً سوياً، وبين الشجر الأخضر الرطب ولا سيما الأوراق الملساء الناعمة التي تكمن فيها الطاقة الشمسية التي تولد النار بقواها العاتية.. كما يربط النصُّ القرآنيُّ - هنا - بين إعادة إحياء الإنسان بعد موته، وإعادة إحياء الشجرة المحترقة إلى رونقها إذا ما تركت جذورها في الأرض، وجرى الاعتناء بها من جديد.
وتهدينا النصوص القرآنية إلى أعظم من ذلك شأناً في الخلق، بقول الله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]؟ أي مِنْ {مَثَلُهُمْ} [البَقَرَة: 17]؟ مِنْ مِثل هؤلاء الأناسيّ الصغار في الخلق والحجم بالقياس إلى السماوات والأرض.. ذلك أنَّ الذي خلق السماوات والأرض، مع عظيم هذا الخلق، لما تحتويان عليه من الأشياء، والطاقات والقوى - التي لا يعلمها إلا الخالق وحده - لقادر على أنْ يخلق مثل هؤلاء الناس الذين يخاصمون، ويشتدون في خصامهم بإنكار البعث.. ولو كانوا يتفكّرون، لعلموا أن الذي خلق السماوات والأرض لقادرٌ على أنْ يهلكهم، ويفنيهم، وأنْ يخلق أناساً مِنْ مثلهم في الهيئة، ولكن يكونون على خلافهم من حيثُ أنهم مؤمنون، يقومون على عبادة الله وطاعته، فلا ينكرون البعث، ولا يخاصمون بحقيقته، مع أنه حق، مثلما أنهم ينطقون.. أليست هذه حقيقة يستشعرها الإنسانُ في وجوده؟ بلى، لأنَّ الخلاَّق العليم، القادر على مثل هذا الخلق العظيم، إنما أمرُّه إذا أراد أن يخلق شيئاً أن يقول له: كن، فيكون، أي فيوجد في الحال لمجرد الأمر.
ولو وعينا هذه الحقيقة وحدها، فتدبرتها عقولنا، وانفتحت لها قلوبنا لوجب أنْ نعيش في عبادة دائمة لله تعالى، وفي تسبيح لا ينقطع للخالق العظيم، والربّ الكريم. فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء: الموت، والحياة، والبعث، «وإليه ترجعون»، في الآخرة.. ومستحيل أن يكون هذا الرجوع إلى الله إلاَّ بالبعث.
3 - الأمثال التي يضربها الضالّون لإنكار بعثهم خلقاً جديداً
يقول الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً *وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} [الإسرَاء: 48-52].
إنه مشهد آخر من مشاهد الجدال بين النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) والمشركين، حول قضية البعث.. ولكنَّ الجديد في هذه الآيات الكريمة أنها تحمل التحدي الذي يجبههم، والذي يثبت أنَّ الله تعالى قادر على بعثهم، سواءٌ كانوا أناساً، أو حجارةً أو حديداً، أو أي خلق آخر من أشكال وأجناس مخلوقاته، أو أي شيء أوجده، ثم أزاله من الوجود. ولذلك يتوجه الوحي في مخاطبة النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بما معناه:
انظر يا «محمد» كيف ضربوا لك الأمثال وهم يشبهونك - كما يحلو لهم الافتراء عليك - برجلٍ مسحورٍ {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا *} [الإسرَاء: 47] أو يشبهونك بشاعر، أو كاهن وما إلى ذلك من الأكاذيب التي يبتدعونها للنيل منك!.. ولكنهم ضلُّوا بتلك الأمثال التي يضربونها، أو التشبيهات التي يطلقونها عليك، ومن غير أنَّ يقدموا البرهان عليها بأي شيء، لأنهم عاجزون عن هذا البرهان، ولأنهم يوقنون في أنفسهم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} [القَلَم: 4]، بعيدٍ عن أية شبهة. وإنَّ ضلالهم عن تدبّر الآيات التي تبين حقيقة البعث، هو الذي يبعدهم عن الاهتداء إلى السبيل الذي يوصلهم إلى هذه الحقيقة، كما في قولهم: أإذا كنا عظاماً نخرة، ورفاتاً هشة - بعدما حلَّ الفناء في أجسادنا وتحللت إلى تراب - فهل نبعث ونعود خلقاً جديداً؟
قل لهم: كونوا على أية حال تتصورونها: بشراً عقلاءَ، أو حجارةً قاسيةً، أو حديداً صلباً، أو أيَّ شيء يصعب تفتته، مما لا يعقل، أو خلقاً آخر مما قد ترونه كبيراً، من مثل تصوراتكم عن عمالقةٍ أو جبابرةٍ أشداءَ، أو أي خلقٍ أعظم من البشر.. فأياً ما كنتم، وأياً ما كان خلقكم، فسوف تبعثون!..
فسيقولون: ولكن من يبعثنا ويعيدنا أحياءً من جديد؟
قل لهم: الذي خلقكم أول مرة، ولم تكونوا شيئاً. لأنَّ القادر على إنشائكم ابتداءً، قادرٌ على إنشائكم ثانيةً بعد الموت، وبعثكم خلقاً حيّاً جديداً. لأن القادر على البدء قادر على الإعادة بل هي أهون عليه..
وحيال هذه الحجة البالغة، التي لا يستطيعون مقارعتها لا بحجةٍ أو برهانٍ، يصور النص القرآنيّ ردة الفعل لديهم التي تدل على العجز:
{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الإسرَاء: 51].. هكذا وعندما يُعييهم الردُّ، فسوف يحركون رؤوسهم، ويلوونها فوق رقابهم إشارة على عدم الاقتناع، ثم، وباستهزاءٍ واستخفافٍ، يقولون: ومتى هو هذا البعث الذي تعدنا به؟!
فقل لهم: «عسى أنْ يكون قريباً».. إنه منتهى رجائي بقربه، حتى يتبيّن الصادق منا والكاذب!.. ولكنْ ذكّرهم، أيها النبيّ، بأنَّ الساعة علمها عند ربّي، ولا يجليها في ظهورها لوقتها إلاَّ هو سبحانه وتعالى.. أمـا ما أقـوله لكم، فإنَّما هو وحيٌ، يوحـى إليَّ مـن الله، على أنَّ البعث لا ريب فيه، يوم ينفخ إسرافيل (عليه السّلام) في الصور، فتهبّون من الأجداث، ملبيّن مسرعين، وأنتم تسبّحون بحمد الله، والثناء عليه، وتظنون أنكم كنتم في سباتٍ، وإنْ لبثتم فيه إلاَّ زمناً قليلاً!..
ومن كلام للحسن (عليه السّلام) حول حقيقة أنَّ كل آتٍ قريبٌ، مهما كان بعيداً، قوله: «كأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل».
4 - حَلَفُ الكافرين يوم البعث كمثل إفكهم في الدنيا
يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ *وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ *وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ *كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ *} [الرُّوم: 54-60].
في مطلع هذه النصوص الكريمة تبيان لمراحل النموّ التي يقطعها بنو البشر، منذ ولادتهم وحتى مماتهم، وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بلفظة «الأطوار»، كما في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا *وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا *} [نُوح: 13-14]؛ وهذه الأطوار لا تحتاج إلى براهين وأدلة، لأنها باتت علماً يقينياً، ويؤكده وجودكم الحسيّ في هذه الحياة، وأنتم تنتقلون من طور إلى طور..
والطور الأول الذي خلقكم الله فيه، هو الضعف الذي يكمن في نطفة المنيّ، التي هي عبارة عن ماءٍ مهين، ولكنها النطفة التي تحمل بذور وجودكم، ومن ثم حالات الضعف التي تكونون عليها، وأنتم أجنّة في بطون إمهاتكم، ثمّ وأنتم أطفالاً.. وكلها حالات تدلُّ بذاتها على الضعف، وقلة الحيلة.. ثم يأتي بعد مرحلة الطفولة طور القوة، في أيام الفتوة والشباب، التي يبلغ فيها الإنسان اكتمال نضوجه الجسدي والنفسي، حسبما قدر الله تعالى لكلٍّ من بني آدم..
ثم، يبدأ الرجوع إلى الضعف، بحيث ينتقل الإنسان، بصورة تدريجية، ومع مرور السنين، إلى طور الكهولة ومن ملامحها هذا الشيب الذي يغزو رؤوسكم، لتتسرّب معه عوامل الشيخوخة، وأكثرها تأثيراً ضعف الخلايا الحيوية، وموتها شيئاً فشيئاً، إلى أنْ يصير الإنسان في حالةٍ من التعب والوهن في الجسد والحركة، وتراخي الأعصاب، وهجوم الأمراض، التي تجعله في أشدّ حالاته ضعفاً.. بل {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَي لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النّحل: 70]، لأنَّ الضعف الذي يعتري قواه الجسدية والفكرية يفقده ما كان عليه من إدراكٍ، وتمييز وعلمٍ، وهذا هو التنكيس، لقوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ *} [يس: 68].
وهذه الأطوار التي يمرُّ فيها الكائن البشري لها مدلولات كثيرة، وأبرزها فكرة الفناء، حتى يتفكّر الناس - ولاسيما الجبارون والظالمون - في أنفسهم، فيستبقون الوصول إلى المرحلة المتأخرة من عمرهم، ويرتدّون عن بغيهم وغيهم، وعمَّا هم عليه من التسلط والاستكبار، لأنهم في تفكّرهم، إنَّما يعلمون أنَّ مصيرهم إلى زوالٍ من هذه الحياة، فلا يبقى لهم من أثر إلاَّ ذكرهم الطيب أو السيء!.. ثم إنَّ فكرة الفناء هذه يجب أنْ تكون الدافع لوجود الصلة التي تربط الناس بخالقهم، والتي يجب ألاَّ تنقطع، وألاَّ تغيب عن الأذهان بتاتاً، ما دامت الكهولة والشيخوخة تنتظرهم، لتقول لهم: بأنَّ رجوعهم إلى ربّهم تعالى قد بات قريباً، لأنَّ حالة التنكيس التي وصلوا إليها إنَّما تعني النذير المبين لمفارقة هذه الدنيا!.. أمَّا إنْ كانوا لا يؤمنون بالبعث والحساب، فإنَّ وجودهم الماديّ، ومن ثمَّ بلوغهم ذلك الضعف من أهم الأدلة على زوالهم، ولكن إلى أين؟ وإلى أي مصير؟ لو كانوا يعقلون!.. وقبل الإجابة عن المصير الذي ينتظر مَنْ ينكرون البعث، لا بدَّ من الانتباه إلى أنَّ النصوص القرآنية توجِّه عناية الإنسان إلى أنَّ الله {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ *} [الرُّوم: 54]، فهو سبحانه، ومن خلال تلك الأطوار في حياة الإنسان، يخلق ما يشاء من هؤلاء البشر، فمنهم الضعفاء والأقوياء، ومنهم الصمّ والسمّاعون، ومنهم العميُ والمبصرون، ومنهم البكم والفصحاء!. وهذا التقدير في الخلق البشري لا يكون إلاَّ عن علمٍ وحكمة، لأن الله تعالى، هو «العليم»، ولا يكون إلاَّ عن مشيئةٍ وقدرةٍ لأنه هو «القدير» على الخلق، وعلى تدبير شؤون هذا الخلق، بدليل أنَّ كلَّ مخلوقاته، في السماوات والأرض، بحاجةٍ إليه، إذ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *} [الرَّحمن: 29] من شؤون تلك المخلوقات..
وبعد أنْ تقرّر النصوص القرآنية أنَّ أمرَ الخلق، وعلى تلك الأطوار، والحالات لأبناء البشر، هو شأن لله تعالى، تنتقل إلى تبيان حال المجرمين وحال المؤمنين يوم تقوم الساعة، ويبعث الله من في القبور. أي يوم يُحيي الله تعالى البشر جميعاً، الذين مروا على هذه الأرض منذ آدم (عليه السّلام) وإلى آخر خليقة منهم.. أمَّا يوم تقوم الساعة - القيامة - ويدرك المجرمون (الكفار والمشركون) أنهم كانوا أمواتاً، ففي تلك الساعة يصيبهم الذهول من عودتهم أحياء، ولكن يغلب عليهم إجرامهم فيقسمون أنهم ما لبثوا في موتهم، وهم في القبور، غير ساعة واحدة من الزمن.. أي كما يُصرفون عن الصدق في حلفهم - يومئذ - كذلك كانوا يؤفكون في الدنيا وهم يكذبون بالبعث.. فهذا شأن المجرمين دائماً، إذ يطغى عليهم البهتان، حتى وهم قيام من رقادهم الطويل، فلا يصدقون بأنَّ الموت قد لفَّهم دهوراً طويلة لا يعلم مداها إلاَّ ربّهم الذي أماتهم، ثم أحياهم عند البعث..
أما الذين آتاهم الله العلمَ والإيمانَ من الملائكة والبشر فيقولون للمجرمين: لا داعي اليوم للإنكار، بلى والله، لقد لبثتم في موتكم الزمن الذي قدَّره الله تعالى لكم في سابق علمه، وجعله مكتوباً في اللوح المحفوظ، الذي خطت فيه الأقدار لجميع الخلائق، وقد بقيتم أمواتاً إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث الذي كذّبتم به، ولكنكم كنتم لا تعلمون أنه حق، وأنه واقع فعلاً، فلا يهمُّ بعده إذا كنتم لبثتم في ظلال هذا الموت طويلاً أم قصيراً، وها قد تحقق اليوم الذي كنتم توعدون..
وهنا أيضاً تقرر النصوص حقيقة أخرى من الحقائق التي ترافق يوم البعث - وليت الناس يقفون عند هذه الحقيقة ويعتبرون بها - فيومئذٍ لا ينفع الذين ظلموا أنفسهم - بالكفر أو الشرك بالله - أعذارٌ يبدونها، ولا أحد يعاتبهم، أو يطلب لهم العُتبى على إنكارهم للحق في دنياهم! فيومئذ لا تنفع معذرتهم بشيء، كما أنهم لا يستعتبون أصلاً. وعدم قبول أعذارهم، وعدم استعتابهم، فذلك لأنَّ الله جلَّ جلاله قد بعث النبيين والمرسلين بالأنباء والرسالات التي تهدي، فكذبوا بها جميعاً، ولا سيما هذا القرآن الذي ضرب الله فيه للناس من كل مثل، وقصَّ فيه من كل قصص، ليتجنّب الناس الكفر والتكذيب، وليسيروا على الطريق السويّ، طريق الإيمان والتصديق، ولكن قست قلوب كثير منهم، وأصمّوا أسماعهم عن قبول فكرة الآخرة، ويوم البعث، فلم يعبأوا بأمثال القرآن، وقصصه، وأحكامه وعظاته، ولم يقروا بدعوة رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لاعتناق عقيدة التوحيد التي يحملها القرآن، فكان أنْ وصلوا إلى ما وصلوا إليه يوم البعث حيث {لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *} [الرُّوم: 57].
وبعد البيان لما يكون عليه حال المجرمين يوم البعث، ولما يقوله لهم الذين أوتوا العلم والإيمان، يخاطب الله تعالى - ربُّ العزة والجلال - نبيَّه محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بقوله الكريم: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ *} [الرُّوم: 58].. فأية حجة مهما كانت بالغة، وأي برهان مهما كان ساطعاً، وأي دليل مهما كان واضحاً يأتيهم به رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) - بل ولو جاءهم بالمعجزة الباهرة - فإنَّ الكافرين لن يصدقوه، ولن يؤمنوا بما أنزل إليه من ربّه تعالى.. ولا يقف كفرهم عند حدود عدم التصديق، وعدم الإيمان، بل يتهمونه وأتباعه بأنَّ ما يرشدونهم إليه ليس إلاَّ أباطيل، إذ يقولون لهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ *} [الرُّوم: 58].. ولكنَّ هذا الاتهام هو بحد ذاته الحجةُ التي يحملها القرآن ضِدَّ كلِّ من وَصَلَ إليه هذا الكتاب أو علم به، ولم يؤمن بأنه كتاب الله الحق، وأنه وحي الله الذي نُزِّل على محمدٍ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ، وكذلك كلَّ من لم يتّبع ما فيه، فإنَّ الحجة قائمة عليه إلى يوم القيامة، وسوف يلقى عاقبتها أمام ربّ العالمين.. وهذا ما يؤثّر على الحقيقة الأصيلة والثابتة التي يهدينا إليها القرآن المبين وهي: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرهم رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في زمانه أم لم ينذرهم، وسواء أأنذرهم الدعاة للإسلام من بعد الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أم لم ينذروهم، وسواء اهتدوا بالقرآن أم آثروا نبذه وراء ظهورهم، فإنهم لا يؤمنون!.. لا يؤمنون: لأنَّ الله العزيز الحكيم ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم.. كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، ولا يريدون أنْ يعلموا الحق الذي جاء به القرآن، ولا أنْ يعتنقوا عقيدة التوحيد التي يدعو إليها هذا الكتاب المبين.
وتاريخ الدعوة الإسلامية يشهد كم كان يؤذي رسولَ الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ويؤلمه عدمُ الاستجابة لتلك العقيدة التي يحملها القرآن، هدىً للعقول، ونوراً للقلوب، لأنه كان (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أحرص الناس على هدايتهم إلى صراط الحميد المجيد، ولذا يخاطبه ربُّه تعالى داعياً إيَّاه إلى الصبر.. «فاصبر» على أذى الكفار، وإصرارهم على عنادهم وتكذيبهم واعلم أنَّ وعد الله بإنزال العقاب الشديد بهم حقّ لا مراءَ فيه، ولا يستفزَّنَّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالبعث، ولا يغيظنَّك هؤلاء الذين لا يصدقون بالوحي الذي يُنزَّل عليك، إذ آخرتهم إلى زوالٍ، وحسابهم آتٍ لا ريب فيه، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون..
5 - كما يحيي الله تعالى الأرض الميتة بالماء كذلك الخروج من القبور
يقول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ *وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ *وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ *رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ *} [ق: 6-11]. ويقول تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ *} [الرُّوم: 19].
فسبحان الله القادر المقتدر الذي يوجه أنظار عباده إلى ما خلق في السماء والأرض من آيات تشهد على أنه الخلاق العليم. ومن آياته بناء السماء من فوقكم بلا عمدٍ ترونها، أيها الناسُ.. والسماء ليس ما يصل إليه البصرُ، وحسبُ من العلو المترامي فوقهم، أو ما استطاعوا اكتشافه في أبعاد الكون الفسيح، بل السماء تتسع لتشتمل على سبع سماواتٍ طباقاً، يعلو بعضها فوق بعض بتماسكٍ متينٍ وإحكامٍ في البناء شديدٍ، حتى لا يتخللها عيبٌ أو تشقق يُفسد بناءَها، وإنها لتظل على متانتها وفق سنن ثابتةٍ، وأنظمةٍ دقيقةٍ يؤلف بينها روح التناغم الذي أودعه الخالق العظيم في بنيانها.. وإلاَّ لولا هذا الإحكام والإتقان لدهمها طائف القدم والوهن، فما بقيت سماء، ولا أرض ولا حياة.. ومن آيات الله العظمى ليس الإحكام وحده، ولا الإتقان وحده في هذا الكون الكبير الواسع، بل وأيضاً ما نراه من جمال هذه النجوم والكواكب التي تملأ صفحة السماء، وهي تتلألأ بالأضواء، وتشع بالأنوار لتكون زينةً للناظرين، أما مصادر تلك الأضواء والأنوار فهي مجالٌ آخر للنظر الفكريّ. وحسب أهل العلم تقدُّماً، أنْ تبيّن مراصدهم سعة الكون بأبعاده الهائلة، وهي تلتقط الأضواء الآتية من ملايين السنين الضوئية لتذهب إلى غاياتها، كما قدَّر لها الخالق العظيم.
وكما في خلق السماء آيات مبيّنات، فـكذلك في خلق هذه الأرض التي نحيا عليها.. فهي وإنْ كانت كوكباً صغيراً يسبح في فلك النظام الشمسيّ، إلاَّ أنَّ في بنائها ما يستدعي النظر والتفكير، إذْ جعل الله تعالى فيها سهولاً ممتدة، ونصب فيها جبالاً رواسيَ، ثابتة لتُحكم تماسكها، وتوازنَ بين تضاريسها فلا تميد أو تضطرب أطرافها.
ومن جمال هذه الأرض ما أنبت فيها خالقها من كل زوج بهيج. وقد كنَّى عن الأصناف التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى مما أنبت فيها بالـ«زوج» لأنَّ كلاً منها قائم على نظام التذكير، والتزاوج، إذ عندما يحصل اللقاح تبدأ عملية الإنشاء التي تكتمل بأجمل الحلة والرونق، والتي فيها متعة للعيون، وبهجة للقلوب، فتتكامل الآيات في الصنع والجمال ما بين الأرض والسماء..
كل ذلك قد جعله تعالى تبصرةً، وعظة لكل عبدٍ مؤمن يُرجع كل أمر، وكل شأنٍ إلى ربّه تعالى، فيعبده حق العبادة، ويطيعه حق الطاعة، لأنه يعلم ما للخالق من الفضل على عبادِهِ.. إذْ يكفي النظر إلى ما خلق لهم من مقومات للحياة، وسبل للعيش على هذه الأرض حتى يسبّحوه ويقدسُّوه، فلا يَنُوا في ذكره وتمجيده ما دامت الحياة، وما دام الليل والنهار. بل والحكمة تبين للناس ما في تكوين أمهم الأرض من إحكام وتكامل بين مختلف أطرافها، وما أمدَّها الخالق به من عناصر تكوينية تجعلها وحدها صالحة للحياة، من بين مختلف الكواكب السيارة في النظام الشمسي...
وتذكرة أخرى للناس جديرة بالتبصّر والإيقاظ من الغفلة: فهذا الماء الذي ينزله الله من السماء هو سبب الحياة على الأرض، إذ به يحيي الأرض بعد جفافها ويباسها، ويحيي أهل كل بلدةٍ فلا يموتون عطشاً أو جوعاً. فهذا الماء الذي يُنزله الله من السماء مباركاً، هو الذي يجعل الأرض ترتوي وتهتزَّ، وهو الذي ينبت به الله تعالى الجنات من الأشجار المثمرة وغير المثمرة، والحقول والسهول التي تمتلىء بالحبّ الحصيد، الذي يأكل منه الناس والأنعام، وهو الذي تغنى به الحياةُ بالخيرات والأرزاق على اختلاف أزهارها وأنواعها، ومثاله هذا النخل الذي تتراكب عناقيده فتعطي الناس أشهى الثمرات، وأكثرها فائدة.. وذلك تقدير العزيز الحكيم، الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديراً..
وكما يحيي الله تعالى الأرض الموات، أو البلدة المجدبة بالماء المبارك الذي ينزله من السماء، كذلك يحيي الأموات، ويخرجهم من القبور يوم البعث، يقول تعالى: {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ *} [الزّخرُف: 11].
فإذا دخلت الشبهة عقول الكافرين حول إحيائهم، وخروجهم من القبور، فتلك هي الشواهد من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، ومن حولهم، بهذا الماء، وبهذا الإنبات من كل زوج بهيج، وبهذا الرزق الوفير من كل الثمرات.. وكما يموت النبات ويحيا من جديد في المواسم، وخلال الفصول، وفي المواقيت المحددة له، كذلك تخرجون أيها الناس من القبور بعد أنْ كنتم أمواتاً، لتحشروا إلى ربّكم، يوم تقوم الساعة التي لا ريب فيها، والتي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، وحده.. وإنّ في إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، تذكرة متجددة لذوي الألباب، فلا يغيب عن بالهم مشهد الخروج يوم القيامة، بل يستعدون له كما يحثنا على ذلك القرآن الكريم، من خلال التبصّر بآياته وما تحفل به من التعاليم والمفاهيم حول أمور الدنيا والآخرة كما يهدي إليه قول الحق تبارك وتعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا *} [محَمَّد: 24]؟!..
ويؤكد القرآن على هذا الجانب الطبيعيّ الذي تتفاعل به الحياة على الأرض، بآيات أخرى عن الرياح والسحاب، وتأثيرهما في إنزال المطر، وإخراج النبات والثمار، لتكون الدلائل المعبرة لنا عن كيفية إخراج الموتى..
يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ *} [الأعرَاف: 57-58]. ويقول تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ *} [فَاطِر: 9] وهنا أيضاً في هذه الآيات المباركة بيانٌ لأهمية الماء الذي ينزله الله تعالى من السماء، ولكن مع ذكر بعض العوامل الطبيعية التي تؤثر في سقوط المطر، ومنها قوة الرياح التي تحمل السحاب الثقال (أي المليئة بالماء) إلى ناحية معينة في فضاء الأرض، حيث تتوافر لها عوامل البرودة فتنزل مطراً - بإذن الله - يحيي الأرضَ العطشى الجافة، ويروي الأشجار والمزروعات فتعطي من كل الثمرات رزقاً طيباً للعباد.
واللفتة القرآنية في هذا السياق تدلُّ على أنَّ قوى الطبيعة ما كانت لتجتمع، وأنَّ الماء ما كان لينزل لولا رحمة الله بالناس، فهو - جلّت قدرته - الذي يرسل الرياح ليستبشروا بها على نزول المطر، وهو الذي يأمر هذه الرياح أنْ تهبَّ وتنقل السحاب الذي يتكاثف من بخار المياه الناتج عن حرارة الشمس، وهو الذي يأمر المطر أنْ ينزل فوق بلدٍ أرضه جفاف ومواتٌ، فترتوي وتخرج النبات، لتربو فيها الخيرات من كل الأنواع والأصناف رزقاً حسناً للعباد. فـكما يحيي الله تعالى البلد الميت بإنزال المطر عليه، كذلك يخرج سبحانه الموتى من الأجداث.. والقرآن الكريم يسوق لنا هذا المثل عن إنزال الماء، وإحياء الأرض لعلَّنا نتذكر البعث يوم القيامة، كلما رأينا المطرَ يهطل، والأرضَ تنبت، فلا يغيب عن بالنا ذلك اليوم العظيم، فنستعد له بالإيمان، والطاعة وطلب المغفرة والرحمة..
ولا بد هنا من الربط - وبوحيٍ من آيات أخرى في القرآن الكريم - بين النفخ في الصور الذي يجعل الحركة تدبّ بين الأموات، وبين الرياح وهي تحرّك السحاب الذي يحمل المطر، بحيث تنشأ من الحركة حياة جديدة في الحالتين: ففي حركة الرياح والسحاب حياة الإنسان والنبات والكائنات الحية الأخرى، وفي حركة البعث حياة الأموات من الناس، وذلك هو «النشور»
ونجدُ لفتةً أخرى من لفتات هذا النص المجيد تؤشِّر على تبيان الأرض الطيبة من الأرض الخبيثة، للتدليل على الفوارق بين الاعمال الصالحة والأعمال السيئة. فالبلد الطيب الذي يكون تراب أرضه صالحاً يخرج نباته بسهولة ويكون نامياً زكياً؛ بينما البلد الذي يكون ترابه فاسداً، لا يخرج منه إلا نبات خبيث لا ينفع بشيء.. والناس كذلك - وهم من طين الأرض - فإنَّ منهم المؤمن الصالح، والكافر الفاسق، وكل بحسب استعداداته الذاتية في نفسه، وتربيته في بيئته، فيأتي التشبيه القرآنيّ ليـمثل بالنبات الطيب لأعمال المؤمن الصالحة، والنبات الخبيث لأعمال الكافر الفاسدة. وإنَّ في هذا التشبيه الحسيّ دافعاً قوياً للإنسان للعودة إلى نفسه، فيجعلها وعاءً للخير كـالأرض الطيبة، بدلاً من أنْ يجعلها وعاءً للشر كـالأرض الخبيثة.
{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ *} [الأعرَاف: 58]، أي وعلى هذا النحو من الشواهد الحسية يبيّن الله تعالى الآيات الدالّة لقومٍ يشكرون نعمته وفضله.. فتلك الخصائص التي تكمن في الرياح والسحاب، وفي ماء المطر، وما تؤدي إليه من إخراج الثمرات، وتبيان الفوارق ما بين الأرض الطيبة، والأرض العقيمة في الإنبات - وكلها مما يؤثر على الحياة - إنما هي أدلة وشواهد لأناسٍ يعلمون حقيقة النعمة، ويشكرون ربّهم على ما آتاهم من الأرزاق والخيرات.
والشكر لـربّ العالمين، لا يكون، عادةً، إلا من المؤمن، فـكما يحيي الذكرُ الحكيمُ القلوبَ المؤمنةَ، فلا تنفك عن الحمد والثناء للخالق العظيم، كذلك يحيي الماءُ الأرضَ فتغنى بالنبات والثمرات.. وبمثل هذا التبيان القرآني يمكن التوكيد على أنَّ صلاح الحياة لا يكون إلا من صلاح القلوب، وطيب الحياة لا يكون إلاَّ من طيب الشكر.. والأمر أولاً وآخراً للَّهِ المنعم الكريم.
6 - الله تعالى قادر على أنْ يبدل أمثالنا وينشئنا خلقاً آخر.
يقول الله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ *أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ *أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ *نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ *عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِأَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ *وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ *} [الواقِعَة: 57-62].
لقد بات واضحاً أنَّ من صلب تعاليم العقيدة الإسلامية الإيمانَ بالبعث، ولكنَّ بعض العقائد الأخرى قد لا تعبأ بحقيقة البعث، إنْ لم تنكره بصورة مطلقة، ولكي يبين لنا القرآن الكريم أثر الاعتقاد بالغيب، ومنه الإيمان بحقيقة الآخرة، فإنه يسوق لنا - كما أبرزناه مراراً - البراهين العقلية من واقع حياتنا، ومن حقيقة خلقنا مما لا يمكن تجاهله أو إنكاره..
وأول ما ينبِّه إليه القرآن هنا مخاطبةُ ربّ العالمين للناس بقوله الكريم: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ *} [الواقِعَة: 57].. إذ لا أحد ينكر أنَّ في هذه الحياة حقائق كثيرة، وكثيرة يعايشها الناس كل يوم، بل وكل ساعة، ومنها ما يُعدُّ مسلماتٍ يقينيّةً، لا تعود موضع تفكير، بحكم العادة التي ألفوها في معايشتهم لها، ومنها ما يكون موضع اختلافٍ بحكم العقائد التي يعتنقونها، وما ينبثق عن تلك العقائد من نظرةٍ إلى الأشياء من حولهم، وإلى ما يريدون، أو يطمحون إليه في وجودهم. ومن القضايا الخلافية بين الناس قضية الخلق!.. فالمؤمنون على يقين بأنَّ الله تعالى هو الخلاَّق العليم، وهو الذي خلق كلَّ شيء فقدَّره تقديراً.. بينما الذين ينكرون بأن الله هو الخالق، إنما يعزون الخلق إلى تفاعلات كيماوية وبيولوجية، أو غيرها من التفاعلات، ويسمون ذلك حسب نظرياتهم «تطور الكائنات الحية».. ونحن نحيل هؤلاء إلى العلم الحديث الذي يبحث في تكوين الإنسان، وقد ثبت لديه، بما لا يقبل الشك، أنَّ النظام البيولوجيّ الدقيق، الذي يقوم عليه خلق البشر، هو نفس النظام الذي حدَّد أطواره القرآنُ منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، فكان حقاً أنْ يتنزَّل في هذا الكتاب الاحتجاجُ، بل وهذا الإيقاظ لعقول الذين لا يؤمنون، ولا يصدقون بأنَّ الله جلت عظمته هو الخالق، وأنَّه هو الذي خلقهم، وذلك بقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ *} [الواقِعَة: 57]. أما البرهان فمن أنفسهم بالذات، من هذا المنيّ الذي يضعه الرجل في رحم المرأة، فيلتقي ماء الرجل الذي يأتي من صلبه (من ظهره) مع ماء المرأة الذي يأتي من صدرها، ليبدأ التفاعل الذي يؤدي إلى الحمل ثم تكوين الجنين، ومن ثم الولادة.. ويأتي هذا البرهان على شكل السؤال الذي يحمل التوبيخ والتقريع: أفرأيتم هذا المنيّ الذي تمنون - أيها المنكرون - أأنتم تخلقونه أم الله تعالى هو الذي يخلقه في عجيب تكوينه؟! ولو كنتم تعقلون الحقائق النابعة من الأنفس البشرية بالذات، لرأيتم أنَّ هذا المنيّ نفسه قد يكون عقيماً أحياناً، فمن جعله كذلك عقيماً عند هذا الرجل، وقابلاً للإنجاب عند الآخر؟ ومن جعل هذه المرأة عقيماً وغيرها صالحة لأن تلد من البنين والبنات ما يشاء الله تعالى؟ أفرأيتم هذا المنيّ الذي تمنونه أأنتم تخلقونه، أم الله هو الذي خلقه؟ والجواب: أنكم لستم أنتم الذين تخلقونه فكان من خلق الله، فهلاَّ تصدقون بهذه الحقيقة الراهنة؟!
وحقيقة أخرى في حياتكم: وهي الموت. فهذا الموت قد جَعَلَهُ الله قَدراً مقدوراً على الإنسان. وقدَّر لكل إنسانٍ أجلاً يموت فيه، ولا يمكن لأحدٍ أنْ يفلت منه، لأن كل نفس ذائقة الموت، إنما أمرُهُ متى يكون، وكيف تحصل الوفاة، فذلك من شأن الله، وهو جلَّ جلاله غير عاجز، وغير مسبوق بأنْ يميت من يشاء، وساعة يشاء، بل ولا شيء يعجزه عن أنْ يميت الناس جميعاً، وأنْ يستبدلهم بآخرين غيرهم. وقد يأتي بالآخرين من مثل خلقكم، وعلى نفس النظام الذي خلقكم بمقتضاه، أو قد يكون خلقاً آخر مختلفاً، فهو أمرٌ لله تعالى، وعباده عاجزون عن معرفة أسراره، لأنه يدخل في علم الغيب الذي اختصَّهُ الخالق لذاته القدسية، ولم يشرك به أحداً من مخلوقاته.
إذاً هذه أدلة لا تحتاج إلى براهين: تبدأ بالمنيّ، ثم تتعاقب أطوار الخلق البشري. لتنتهي بالموت.. فهذه النشأة الأولى من المنيّ، التي يعلمها الناس حق العلم، جديرة بأنْ تذكّركم بالنشأة الثانية بعد الموت، لأنَّ القادر على النشأة الأولى، قادر على النشأة الثانية يوم القيامة، فلولا تذكَّرون نشأتكم الأولى فتؤمنون بالنشأة الثانية يوم البعث!..
ومن قول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام): «عَجِبتُ لِمَنْ آمَنَ بالنشأةِ الأولى كيفَ يُنكِرُ النشأةَ الأُخْرَى».
7 - مشهد الجموع في خروجها من القبور كأنهم جراد منتشر
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ *حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ *فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ *} [القَمَر: 4-6] ! " £ $ % * × ' ( ) * + ، - }.
لقد كان النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يتلقى الوحي، الذي يحمل أخبار الأمم التي كذبت رسلها، وفيها زجرٌ ونهيٌ عن العناد والضلال اللذين يجعلان الكافرين يعرضون عن دعوته، ويلجّون في عتوٍّ ونفورٍ على عدم تصديقه، فجاءه الخطاب من ربّه تبارك وتعالى أن يتولَّى عنهم، فلا يجهد نفسه مع المستكبرين عن دعوته، لأنْ لا فائدة ترجى من هديهم، ولا أمل في نصحهم، فيوم الحشر ينتظرهم، وسوف يُلاقُون حاضراً ما كانوا ينكرون!
ولو تأمّلنا، وأمعْنا التفكير في هذه الآيات المبيِّنة، لتراءى لنا المشهد الذي تصوره لأولئك الكافرين المجرمين، الذين ما إنْ يسمعون الصيحة الكبرى، يوم يدعو الداعي - وهو المَلَكُ إسرافيل المكلف من ربّه العزيز بالنفخة في الصور - لإيقاظ الناس من موتهم، حتى يخرجوا من قبورهم دفعةً واحدة، كأنهم جراد منتشر في رقعة واسعة.. ولكثرة أعداد الناس يأتي النصُّ ليقرب لنا التصور عن مقدار جموعها، بمشهد الجراد الذي ينتشر بكثرة في الفضاء الذي يحوم فيه، ثم يحط على ناحية فيكسوها.. ومثل هذا المشهد قد يعبّر عن كل أولئك البشر الذين خلقوا على الأرض - والذين لا يعلم عددهم إلا خالقهم - عندما يهبون من الأجداث، ويسرعون باتجاه الصوت الذي دعاهم، وهم يمدون رؤوسهم إلى الأمام، وأبصارهم خاشعة من الذل، ومن الخوف الذي يعتري النفوس، وقد أيقنوا أنَّ ساعة الحساب قد حلت، وأنْ لا مفرَّ لكل نفس من أنْ تنال جزاءها، على ما كسبت في دنياها.
ثم يرسم لنا التعبير القرآنيّ مشهداً آخر للكافرين الذين لم يؤمنوا - من قبل - بيوم الحساب وهم يقولون: «هذا يوم عسر».. فلم يعد من مجال لأنْ ينكروا البعث - وقد بعثوا فعلاً - ولم يعد سهلاً أنْ يتقوَّلوا ما يريدون، فالهول يطغى على نفوسهم، والفزع يأخذ بمجامع قلوبهم.. فكل شيء يدلُّ على أنه يوم عسير وشاق عليهم، إذ ليس من إيمان يعصمهم من الفزع الأكبر، وليس من خير قدموه لأنفسهم، هو محسوبٌ لهم في ذلك اليوم، فكل ما عملوا للدنيا بقي في دنياهم، ولكن وجدوا عاقبته السيئة محضرةً يوم بعثهم، فحق أن يكون عسيراً عليهم ذلك اليوم، كما يعبرون هم عنه، وهم يقولون: «هذا يوم عسر»..
ولعلَّ في هذا التصوير لأحوال الكافرين، يوم يدعو الداعي إلى شيءٍ نكر (لما فيه من الأهوال) ما يعظ الناسَ في دنياهم، ويرشدهم إلى الإيمان بالله تعالى، وبالبعث والحساب، فيستعدوا، ليجعلوا ذلك اليوم يوماً سهلاً، بدل أنْ يجدوه يوماً عسيراً عليهم!..
وفي سورة أخرى من القرآن الكريم، يأتينا نفس المشهد ليوم الحشر، وما يكون عليه حال المجرمين، وهم يتخافتون بينهم عن مدة بقائهم في الحياة الدنيا، فيقول الحق تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا *يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا *نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا *} [طه: 102-104].
«ومن أصدق من الله قيلاً».. إنَّه سبحانه يتحدث عن حشر المجرمين، تبعاً لتلك الأعمال الإجرامية التي أتوها في حياتهم الدنيا، وهي على كثرتها وتنوعها، قد تراكمت على أكتافهم أثقالاً، يحسون بمقدار ثقلها وعبئها في يوم الحشر فقد ارتكبوا المعاصي، وتجاوزوا الحدود التي حدَّها الله تعالى، وفرَّطوا بحقِّ ربّهم جلَّ جلاله وبحق أنفسهم، وبحق العباد، حتى صارت بمثابة الأحمال الثقيلة التي تنوء أكتافهم وظهورهم بحملها!..
ذلك أنهم كفروا بربّهم وأعرضوا عن ذكره، وملأوا حياتهم الدنيا بالإثم والعدوان، ولم يراعوا إلاً ولا ذمةً في الناس، فاعتدوا عليهم، وسلبوهم حقوقهم، ولذلك كانت أعمالهم جرائم يحاسبون عليها، وينالون العقاب الذي يستحقون!..
فكيف يكون حال أولئك المجرمين يومَ يحشر الناس للحساب؟
ما إنْ ينفخ في الصور، ويأتيهم نداء الاستفاقة، حتى يهبوا من الأجداث بقلوبٍ يملأها الهلع!.. وما إنْ يصلوا إلى المحشر حتى تكون وجوههم قد غطاها الشحوب، والسواد فبدت من شدة الصدمة بتلاميح جديدة يغلب عليها الازرقاق، تماماً كما نرى مثل هذه الآثار على وجوه الخائفين، المصدومين عندما يسيطر عليهم القلق أو الفزع، إما من جراء المرض، أو من جراء ضبطهم بالجرم المشهود.. وفي محاولة يائسة من أولئك الكافرين للتسرية عن أنفسهم، يقولون، بصوت خافت، يكاد لا يسمع لشدة ضعفه: كم لبثنا في الحياة الدنيا؟!
فيقول بعضهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا *} [طه: 103] أي إنْ هي إلا مدة وجيزة، لا تتعدى عشرة أيام.
ولكن لماذا مثل هذا الظن، أو الوهم بأنَّ حياتهم الدنيا كانت قصيرة، حتى أنها لا تتجاوز أياماً معدودات؟
إنه تأثير يوم الحشر عليهم، فكأنما يريدون اختصار حياتهم كلها على الأرض بليالٍ قليلة، لتكون ذنوبهم قليلة، إذ كلما سيطر عليهم الوهم بأنَّ حياتهم كانت قصيرة، كلما غلب عليهم الظن بأنَّ جرائمهم كانت معدودة ولا تحتمل العقاب الشديد. وعلى العكس كلما أحسوا بأنَّ أعمارهم كانت طويلة، تراءى لهم عديدُ المعاصي والآثام التي ارتكبوها في دنياهم، وحاقت بهم مشاعر العذاب من جرائها!..
ويصور لنا النص أنَّ ما يتمنونه في قرارة نفوسهم، وما يقولونه لبعضهم البعض، يريدونه سراً فيما بينهم، حتى لا يسمع أحدٌ ما يقولون، أو يعلم بما يتهامسون، وذلك على نفس الدأب الذي كانوا يسلكونه في الحياة الدنيا، وهم يعدّون لجرائمهم، ويحيكون لمكائدهم في السرّ، والخفاء!..
ولكن أليس ذلك منتهى الضلال والغباء؟! إنهم، حتى في الحشر، لا يريدون أنْ يقروا بأن الله هو العليم الخبير، وهو يعلم السّر والنجوى، ويعلم ما تخفي الصدور، وما تنطق الألسن.. ولذلك كان التوكيد على أنه سبحانه وتعالى يعلم ما يسرون لبعضهم بقوله العزيز: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [طه: 104].
ويبدو أنَّ أمثلهم طريقةً في التمويه والغباء، وأمثلهم أسلوباً في الحنكة والدهاء قد شطَّت به أمانيه الكاذبة إلى أقصى ما يمكن أنْ يخفف به عن نفسه، وعن المجرمين أمثاله من ثقل الأوزار التي يحملونها، فيقول: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا *} [طه: 104].
فتلك أمانيه وأمانيهم.. لا يريدون أنْ يكون الحساب عسيراً عليهم، فيأملون - وهماً وظنّاً - بألاَّ يكون مكثهم في الحياة الدنيا أكثر من عشرة أيام، بل أكثر من يوم واحد!..
ولكن كذبوا وغرّتهم الأمانيّ الباطلة، فهم في يوم الحشر؛ وهم وقوف بين يدي ربّ العالمين، ولكلٍّ كتاب وحساب!..
فهل يكفي الناسَ ما يرشدهم به الذكرُ الحكيم عن يوم البعث، حتى يوقنوا به، ويعودوا إلى ربّهم الغفور الرحيم، ولا يبقوا سادرين في الغيّ والضلال؟
8 - مقولة إنكار البعث مثل مقولة الأولين
يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ *قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *} [المؤمنون: 79-82].
هذه هي الحقيقة التي يجب أنْ يؤمن بها الناس إيماناً صادقاً، وهي أنَّ الله تعالى هو الذي خلقهم في الأرض، ثم قدَّر لهم التزاوج والتكاثر، فكانت هذه الأمم، والشعوب والقبائل والجماعات باختلاف ألسنتها وألوانها.. وكانت هذه العمارة في الأرض على الرغم مما يتداخلها من أعمال الخير والشر، والحق والباطل، والتقوى والفجور، وغيرها.. وغيرها.. ممَّا يجعل الحياة في هذه الحركة الدائبة التي تعبّر عن مسيرة الجنس البشري بكل معانيها وآفاقها..
والحقيقة الأخرى التي يثيرها النص القرآني هنا، هي أنه بعد الموت الذي يطوينا، لا بدَّ أنْ نحشر إلى الله تعالى، الذي ذرأنا في الأرض، ليكون حسابنا بين يدي الواحد الديَّان، فنلقى جزاء أعمالنا، وما كسبت أيدينا. والقرآن المبين يهدينا بأنَّ الله تعالى هو الذي خلق الموت والحياة، بقول الحق تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ *} [المُلك: 1-2].. ومن بديهيات الأمور أنَّ الذي يخلق الموت والحياة هو الذي يحيي ويميت، طبقاً لما يؤكده كثير من النصوص القرآنية، كما هي الحال في سورتي «المؤمنون» و«الملك».. ليكون للنصوص في كل من هاتين السورتين المباركتين مضامينها وإيحاءاتها التي تدل على أنَّ الله على كل شيء قدير.. ومن تلك المضامين والإِيحاءات أنَّ الله عزَّ وعلا قد خلق الموت والحياة ليكون فيهما ابتلاء واختبار لعباده، وأيهم أحسن عملاً في دنياه.. وما أمره تعالى في اختلاف الحياة والموت وهما يتعاقبان على الناس، إلاَّ كـأمره في اختلاف الليل والنهار، وتعاقبهما بين الظلمة والنور، والطول والقصر، تبعاً لدورة الأرض حول نفسها في هذا النظام الكونيّ المتكامل، بحيث يكون لنا في تعاقبهما دليلٌ، وبرهانٌ على الحياة والموت.. وهنا يبدو الربط فائق الروعة بين ما يعنيه النهار من الحركة والحياة، وما يعنيه الليل من السكون والموت.. وذلك بما ينطبق تماماً على واقع الناس حيث يدبّون في نهارهم وينشطون للعمل والكد، فلا يأتي عليهم الليل إلا ويأخذهم النوم حيث تتوفى فيه الأنفس فعلاً، فيمسك الله (جلت عظمته) الأنفس التي قضى عليها بالموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمًى.. وذلك كله تقدير العزيز الحكيم، أفلا نعقل هذا التقدير فنعتبر، وندرك هذه الحكمة فنوقن؟
وعلى الرغم من هذه الأدلة العقلية، والبراهين الحسية فإنَّ الكافرين لم يأخذوا منها عبرة أو عظة.. بل قالوا مثل ما قال الأولون من آبائهم وأجدادهم، ومن هم على شاكلتهم في الكفر والإلحاد. قال الأولون: أإذا كنا تراباً وعظاماً أئِنَّا لمبعوثون؟ فكيف يكون منهم مثل هذا الاستغراب، الذي يدفعهم للقول بأنه يستحيل أنْ نموتَ، وتبلى أجسادنا، فتصبح تراباً، وليس منها إلا بعض عظيمات بالية، ثم نعود ونحيا من جديد؟! إلاَّ أن يكون إنكارهم للحقائق وتكذيبهم للأدلة والبراهين الدامغة مجرد عنت واستكبار، وذلك هو الضلال المبين..
الفقرة الخامسة: الإيمان بالجنة والنار
من الملاحظ في حياة الإنسان نزعته إلى الطموح، وسعيه الدائم إلى رغد العيش والراحة والأمان. فنراه يكدّ، ويجهد، ويتوسل بجميع القوى الفكرية، وبالوسائل المادية التي يستطيع بواسطتها تحقيق أهدافه، التي تختلف، عادةً، بين إنسانٍ وآخر، تبعاً لاختلاف الدوافع لدى كل واحدٍ من الناس.. فقد يكون الدافع مثلاً وراء إحسان المحسن ابتغاء كسب الأجر، ونيل رضوان الله تعالى، ولذلك فهو يؤثر مساعدة الفقراء والمحتاجين، ومدَّ يد العون لأصحاب الحاجات والمحرومين، والقيام بأعمال البر والخير، دونما حب للظهور، والتعالي على غيره، ودونما طمعٍ في مكاسبَ دنيويةٍ..
وعلى خلاف ذلك فقد يكون الدافع لدى الإنسان مادياً بحتاً، فنرى جهوده منصبّةً مثلاً على تحقيق الغنى، أو الجاه أو السلطان، أو غيرها من مطامع الدنيا.. وقد لا يتردد كثيرون عن استعمال أية وسيلة لنيل مطالبهم، حتى ولو كان الأمر على حساب الآخرين، أو هضم حقوقهم، أو القضاء على مصالحهم المشروعة.. فكل شيء عند طلاّب الدنيا مبرَّر، طالما أنه يحقق رغباتهم وأمانيهم!!.
وقس على هذين المثلين جميع المطالب التي يعمل من أجلها الناس، فهناك دوافع متنوعة، وهناك غايات متعددة ولكنها تظهر بالأعمال التي يأتيها الناس.. وهذه الأعمال هي التي تحدد نوعية حركتهم في الحياة الدنيا، وهي التي تحدد سعيهم للآخرة، على قاعدة إيمانهم - أو عدم إيمانهم - بالثواب والعقاب، وما يعقبهما من الدخول إلى الجنة أو النار..
أولاً - التمثيل على الجنة والنار بالأشياء الأرضية:
يقول الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصْفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ *} [محَمَّد: 15].
ويقول تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ *} [الرّعد: 35].
الأعمالُ بنتائجها وآثارها.. وأعمال الناس - طبقاً للمفاهيم الإسلامية - هي الطريق التي تقرر مصائرهم في الآخرة، وذلك بحسب الغايات التي ارتضوها، والخيارات التي ارتأوها. وهذا ما يبيّنه لنا القرآن الكريم، بوضوح، وبصورة مسبقة قبل الوصول إلى الآخرة: فأما المؤمنون الصادقون فقد وعدهم ربّهم الكريم بالفوز بالجنة حيث النعيم المقيم، بينما توعَّد الكافرين والعاصين بالخلود في النار حيث العذاب الأليم.
وبما أنَّ الجنة والنار هما من القضايا الغيبية التي لا يعلم إلاَّ الله تعالى حقيقتهما، وكيفية خلقهما وصفاتهما، فقد شاء ربُنا أن يقرب صورتهما للأذهان عن طريق الأشياء الحسية التي تلامس حياة الناس، في شتى مظاهرها، ولا سيما الأشياء التي تؤثّر عليهم مباشرة من مأكل أو ملبس أو مسكن، أو سعادة وشقاء إلخ.. فضرب لهم المثل عن صفات الجنة بهذه الأشياءِ التي يرونها في الأرض، وأهمها - على الإطلاق - هذا الماء الذي جعل الله منه كلَّ شيءٍ حيٍّ، بحيث لا تقوم للإنسان، أو لأيّ كائنٍ حيٍّ، حياة من دون الماء.. ولذا نجد القرآن الكريم يركِّز دائماً على ذكر الماء في معرض الحديث عن الجنة، وعن الحياة، وعن الكائنات الحية. فذكر فيما خصَّ الجنَّة الأنهارَ، وأكثر من تبيان أنواعها وأوصافها بما تحتويه من الملذات والمتع، ومن الفوائد والحسنات ولا سيما ما تبعث عليه من الراحة والسعادة، وذلك حتى تظهر لنا الجنةُ نعيماً مقيماً، وملكاً واسعاً لا يبلى، وخلوداً دائماً لا ينقضي ولا يفنى، كما نستدل على ذلك من الآيتين الكريمتين، في مطلع هذه الفقرة، حيث تبدأ كل آية بوصف الجنة، وذلك باستعمال عبارة «مَثل الجنة» أي أن صفة الجنة هي «كذلك».. أي ما فيها من تلك الأشياء، التي يجري الحديث عنها، والتي تتميز بخصائص، غير أشياء هذه الأرض التي تعرفونها أيها الناس؛ فالجنة فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ، أي من ماءٍ نقيٍّ طاهرٍ، فيه كل مقومات الصحة والسلامة، وهذا الماء، وبتلك المواصفات فيه تعبير أيضاً عن الفيض والوفرة، والتدفق، والاستمرارية في العطاء بدون انقطاع.. وتعبير عن الطهارة، والنقاء والصفاء في الأبدان وفي الأنفس، بخلاف أنهار الأرض التي قد يخالطها الفساد لكثرة ما تمتلئ به من القاذورات، والمخلفات الصناعية وغيرها من مسبِّباتِ التلوث الذي يحدثه الإنسان..
ومن الأمثال على أوصاف الجنة أنَّ فيها أنهاراً من لبنٍ لا يتغيّر طعمه، فلا تعتوره حموضة أو فسادٌ أو غيرهما من العوارض التي تصيب لبن الأرض. وكذلك الأنهار من الخمر[*]، التي تنشرح لها الصدور فتكون لذة للشاربين، أي على غير ما نعهد في خمر الأرض التي غالباً ما يرافق شربَها القيءُ والخفةُ، وفقدانٌ للوعي. هذا فضلاً عما يتسبب به إدمانها من أمراض جسدية ونفسية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأنهار من العسل المصفّى، الخالص من الشوائب التي لا تتغير خواصه، وطعمه ولونه، كما في عسل الأرض الذي قد يخالطه الغش والفساد، مما تصنع أيدي الناس.
وفوق تلك المقومات للحياة من الماء واللبن والخمر والعسل، يُضاف إلى طيبات الجنة كلُّ الثمرات على اختلاف أنواعها وألوانها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. وذلك تعبير عن كل نتاج ذي فائدة وخير، فضلاً عن أنها الثمرات المبرَّأة من كل خبث قد يصيب ثمار الأرض.. وكلُّ ما تسوقه النصوص القرآنية ليس إلاَّ أمثالاً على مقومات الحياة، وما يعين على توفير السلامة الجسدية، والصحة النفسية والعقلية في الحياة الدنيا.. وهذا ما يجعلنا نتفكر في أوصاف الجنة، حيث كل شيء مختلف عن دنيانا هذه، ولكنه يقود إلى اليقين بحياة الخلود والنعيم المقيم. وتلك الجنة «أكلها دائم» أي للتدليل عمَّا يؤكل، و«ظلها» دائم، فـ«لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً»[*] ولا يعرفون تقلبات للطقس، ولا اختلافات في المناخ، «وذللت قطوفها تذليلاً»[*] فلا كدَّ أو تعب، ولا قلق أو شقاء ... مما يوحي بكل أجواء السعادة، والنضرة، والسرور، وبكل ما يتناسق ويتناسب مع أسباب النعيم والخلود.
أما مدى اتساع تلك الجنة، فيقول ربّنا تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *} [آل عِمرَان: 133]، ويقول تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *} [الحَديد: 21] فالعرض في الآيتين يعني: السعة.. أي أنَّ الجنة سعتها سعة السماوات والأرض لو وصلت أجزاؤهما ببعضها، وتلك الجنة قد أُعِدَّت للذين آمنوا بالله تعالى ورسله الكرام، واتقوا الله بالطاعات وترك المعاصي.. وتلك الجنة، مفتاحها هنا على هذه الأرض، فلا تفتح أبوابها لأحد إلاَّ بالمغفرة التي يحثّ الرحمن عباده للإسراع، بل وللتسابق إليها، قبل أنْ يدهم الموتُ هؤلاء العباد، ولم يكونوا قد تابوا إلى ربّهم، ونالوا مغفرة منه ورحمة!.
أجل تلك الجنة، التي عرَّفها الله تعالى بتلك الملامح والصفات والخصائص، هي التي وُعِد بها المتقون من عباده، الذين اجتنبوا الكفر والشرك والنفاق، وانتهوا عن المعاصي والذنوب والخطايا، فساروا على طريق التقوى، والعمل على نيل رضوان ربّهم تبارك وتعالى لا تغريهم الدنيا وأفانينها، ولا يلهيهم شيء عن ذكر الله عزَّ وجلَّ، حتى استووا أناساً متطهرين، مؤمنين، صادقين، لا يلتفتون إلى عرض الدنيا، بل يتوجهون إلى الله خالقهم وبارئهم بالإيمان الصادق، والنية الخالصة، والعمل الطيب، فحقَّ أنْ يكون لهم الفوز بالمغفرة والرحمة - من الغفور الرحيم - وأن تكون عقباهم في الجنة..
وبالمقابل: هل مَنْ هو خـالدٌ في مثل ذلك النعيم المقيم، مثل مَنْ هو خالد في نار الجحيم؟ وأي نـارٍ هي تلك النارُ التي يذكرها القرآن الكريم، والتي نستشعر منها اللهب وهو يتلظَّى، والحريق وهو يشتعل، والحمم وهي تتطاول لتأكل كلَّ شيء تلقفه أَلْسِنَتُها؟.. هل نتخيَّلُ مشاهِدَ النيران التي تندلع في الغابات مثلاً وما يكون لها من فعل؟ أَم نتصوَّرُ تلك الطاقة المحرقـة التي تدفع بالصواريخ إلى الفضاء وما لها من قوة؟ أم نتذكر ثورة البراكين ونحن نرى حممها تسيل فوق سطح الأرض كـالأنهار، فلا تبقي ولا تـذر؟ فكما نـدرك آثـار هذه الأشياء الحسية عن النار في حياتنا الدنيـا، فالأولى أنْ نتصوَّر ما يمكن أنْ تكون عليه نارُ جهنم، وما سوف تكون عليه حال كل كافر جاحد، وكل منافق عنيد، وهو يتلظَّى في أتون تلك النـار، فيطلب الماء فلا يُسقى إلا ماءً حميماً، ما إنْ يصل إلى أمعائه وأحشائه حتى يقطّعها لشدة غليانه.. ولنا أنْ نستقيَ من واقعنا المحسوس مثالاً بسيطاً على ذلك من الماء المغليّ الذي قد يصيب بعضٌ منه جلودنا، وما يحل بهـا على الفور من جرائه.. أما إذا شربنا مثل هذا المـاء الذي يغلي، فتلك هي الكارثة التي تحلُّ بأجوافنا، لأنه سـوف يقطع أمعاءنا وأحشاءنا بلا جدال.. فهل لنـا أنْ نتذكَّر - ولو مجرد تذكّر - النار في الآخرة، وفي وسطها وقعرها أناسٌ، وكيف تكون حالهم، إذاً، وهم وقود لهذه النار؟!..
ثانياً - حياة أهل الجنة وحياة أصحاب النار
...وتلك الصور الحسية، وما يماثلها عن النعيم في الجنة، أو عن العذاب في النار، ترد في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وقد تجيء معها صور معنوية أو مجردة، أو قد تجيء وحدها منفردة في صور حسيّة وواقعية، وكلها يسوقها القرآن ليعرِّفنا على الفارق بين حال أهل النعيم، وحال أصحاب الجحيم، في حياة باقية، خالدين فيها أبداً..
والله الذي خلق البشر جميعاً، يعلم المتقين من العاصين {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *} [المُلك: 14]، فهو يعلم من خلق، ويعلم ما يؤثر في نفوسهم، وما يُصلح أحوالهم.. ومن أجل ذلك فقد أنزل في كتابه المبين الآيات التي تربيهم تربية سليمة، إن هم ساروا على تقوى الله ومنهاجه القويم..
ولقد كان خلق الناس على الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها، أي التي تصلح لحياتهم الدنيوية والآخروية، والتي من شأنها أن تهدي الإنسان السبيلَ ليكون إما شاكراً وإما كفوراً؛ فهو في الخيار بين أنْ يقوّي استعدادات الخير في نفسه فيكون من أهل التقوى، أو أنْ يغلِّب عليها استعدادات الشر فيكون من أصحاب المعصية. فأما الذين هُدوا إلى التقوى، فآمنوا بـالله وملائكته وكتبه ورسله، وآمنوا بالغيب، وأقاموا الصلاة فأولئك على هدى من ربّهم، وأولئك هم المفلحون، وصدق فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا *} [مَريَم: 96].
ولذلك كانت الصور الحسية التي يرسمها القرآن الكريم والتي تبين صفة الجنة، تتوافق مع تربيتهم الإسلامية، وتتلاءم مع طباعهم اللينة، التي اكتسبوها بفضل تصديقهم وإيمانهم.
وأما الذين اختاروا الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان، والنفاق على الصدق، فأولئك الذين ساروا وراء الشيطان فأغواهم، وأوقعهم في المعاصي والرذائل، فأفسدوا في الأرض، ونشروا الفسوق والعصيان، ولذلك لم تتقبل نفوسهم طاعة الرحمن، ولم يكن لديهم تصور عن الحساب، أو عن الجنة والنار، فحق عليهم وعيد الله، بقوله العزيز: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ *تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} [المُلك: 6-11].
ولا تقتصر الحياة في الجنة على المتقين وحدهم، بل على أزواجهم كذلك ومن صلح من ذرياتهم مصداقاً لقول الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ *هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ *} [يس: 55-56].
فأصحاب الجنة، أولئك الذين دخلوها بما قاموا به من الطاعات والعبادات، حق لهم أنْ يكونوا في شغلٍ هنيءٍ وسعيدٍ، ناعمين في كنف الرحمن الذي وهبهم حياة الخلود في نعيم مقيم، وملكٍ كبير. تصديقاً لوعده تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *} [طه: 75]، وأولئك الذين، وهم في الحياة الدنيا، كانوا يخشون ربّهم ويخافون مقامه في غيبه المكنون، فسوف تكون لهم جنتان في الآخرة مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *} [الرَّحمن: 46].
أما شغل أصحاب الجنة (حيث لا شغل ولا نصب ولا تعب وفقاً لمفهومنا الأرضيّ) فهو التسبيح، والتهليل والتكبير.. لا يفترون عن ترداد الباقيات الصالحات: «سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر»، كما وردت على لسان رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) .. فهم في شغل بالحمد، والثناء على مولاهم الكريم، وربّهم الحليم. وهم في شغل بالتفكير في آلائه، وبآياته العظمى، التي كلما انتهوا إلى مقام معينٍ من علمهم بها، ارتقوا إلى درجة أعلى في الجنة، لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *} [الرَّحمن: 46]. فالذي يخاف مقام ربِّهِ، هو من عرف ربَّهُ جلَّ جلاله حق المعرفة، فعبده، وأطاعه، واتَّقى غضبه، فبوَّأه ربُّهُ الكريم المقامَ الذي يليق به في دار النعيم..
ومن فضل الله أيضاً على المتقين تلك السعادة التي ترافقهم باجتماعهم مع أزواجهم، ومن صلح من ذرياتهم، الذين ينضمون إليهم إكراماً لهم على صلاحهم في الحياة الدنيا، بحيث يعيشون مجتمعين سويّاً، في الظلال الوارفة، وعلى الأرائك الفخمة في مساكن أليفة، وفي متناولهم كل أطايب المأكولات والثمرات، وكل ألوان السعادة التي يستأهلونها، حقاً وصدقاً.
ومما يزيد في حبور المؤمنين المتقين، الزوجات الطاهرات، عفيفات الشعور والنظر، اللواتي لا تمتد أبصارهن إلى غير أزواجهن، ولا يرين أحداً أحسن أو أجمل منهم، فهنَّ في جنة الخلد كما وصفهنَّ الله تعالى في قرآنه المبين بقوله الكريم:
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ *} [الرَّحمن: 56]، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ *} [الرَّحمن: 58]، كذلك {وَحُورٌ عِينٌ *كَأَمْثَالِ اللَّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ *} [الواقِعَة: 22-23]، بحيث إنَّ من بين المزايا التي تليق بأهل الجنة ما روى أبو ذر الغفاريّ (رضي اللَّه عنه) عن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): من أنها تقول لزوجها: «وعزّةِ ربّي ما أرى في الجنة شيئاً أحسنَ منك، فالحمدُ لله الذي جعلني زوجتَك وجعلك زوجي» [*]، لذلك كانت الزوجات في الجنة هنَّ المباركات من الحور العين، ذوات الجمال الخالص، وهنَّ الطاهراتُ المصونات اللواتي لم يطمثهنَّ[*] إنسٌ ولا جانٌّ قبل أزواجهنَّ، توكيداً على بكارتهنَّ وعفافهن، وزيادةً في إكرام أهل الجنة من الرجال والنساء..
ومن أوصافهنِّ - للتدليل على حُسنِهِنَّ - أنهن كـالياقوت والمرجان، كما نتصوره في صفائه، ونقائه وبياضه، وكـاللؤلؤ المصون الذي لم يتعرض للمسِّ أو للنظر، فلم تثقبه يدٌ، ولم تخدشه عين.. هكذا هنَّ الحور العين بجمالهنَّ، الذي صُبغ بجمال جنة الخلد.
وفي وصف المرأة باللؤلؤ قال الشاعر:
وَهْيَ زهراءُ مثلُ لُؤْلُؤَةِ الغوَّا
صِ، ميزتْ مِنْ جَوهرٍ مكنونِ
ومثل هذا الوصف يورده القرآن الكريم للغلمان الذين يطوفون على أهل الجنة، وهم يقدمون لهم الأطايب والاشربة التي يتلذذون بها، يقول الله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ *} [الطُّور: 24]، ويقول تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا *} [الإنسَان: 19].
على أن كلَّ تلك الأوصاف للزوجات، كناية عن معانٍ حسية لنفسيات لطيفة، طيبة زكيةٍ، ينشئهنَّ الله تعالى في الجنة إنشاءً. كما أنَّ في معاني الآيات الكريمة دلالة هامة أتى بها القرآن المبين وهي أن الجنيَّ يغشى كما يغشى البشريّ في الاجتماع ما بين الذكر والأنثى، لأنَّ تلك المواصفات للحور في الجنة جاءت في آياتٍ من «سورة الرحمن» التي تخاطب معشر الجن والإنس وهذا يعني أن الله - سبحانه وتعالى - كما يهب المؤمنين، المتقين من الإِنس زوجاتٍ طاهراتٍ، لم يطمثهنَّ أحدٌ من قبلهم، فـكذلك يهب المؤمنين من الجنِّ زوجاتٍ عفيفاتٍ، لم يطمثهن جنٌّ من قبلهم.. وهذا ثناء عظيم على المؤمنين، ووعْدٌ بما ينالون من فضل ربِّهم، ونِعمِهِ على عباده الصالحين.
وعن الحالة المعنوية لأهل الجنة، يقول الله تبارك وتعالى:
{تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ *} [المطفّفِين: 24].
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ *} [الحِجر: 47].
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [الأعرَاف: 43].
ذلك أنَّ أهلَ الجنة - وهم منعَّمون فيها - إنَّما يرفلون بثوب الصحة والسلام والأمان، ويعرف ذلك من وجوههم التي تطفح بالنضرة، والوسامة والبشر، والتي تعبِّر عما يعتمر في صدورهم من الطهارة والنقاء، وقد نزع الله تعالى منها كل غِلٍّ أو حِقْدٍ أو حسدٍ، فتآخوا في الدار الآخرة على المحبَّة والود الخالصين، كما تآخوا في الدنيا على الإسلام، الدين الروحانيّ السامي الذي ميَّزهم عن غيرهم في الدارين.. ثم إنّهم على نفس جوهر الإيمان الصادق، الذي يزيدهم في الآخرة اعترافاً وامتناناً بفضل ربهم الكريم عليهم، فلا تكفُّ ألسنتهم عن ذكر الله تعالى، يسبّحونه ويمجّدونه، ويحمدونه على ما هداهم إليه في حياتهم الأولى من فهم لدينهم، وما وفقهم إليه من اتّباعٍ للحق، حتى فازوا بهذا النعيم الخالد المؤبَّد.. فذلك النعيم الذي يرفلون فيه، مردُّه إلى هداية الله تعالى، وفضله عليهم بأنْ جعلهم من المهتدين. ولولا فضل الله وتوفيقه، لَما كانت لهم هذه الهداية، ولما كان لهم ذلك الفوز العظيم. يقول الحق تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *} [القَصَص: 14] أي ومثل ذلك الجزاء، نجزي المحسنين، إنْ في الدنيا، بأنْ نهديهم سواء السبيل، وإنْ في الآخرة، بأن ندخلهم الجنة.. وكل ذلك لأنهم من الذين أحسنوا الإيمان والطاعة، كما أحسنوا القول والعمل، فكان ذلك جزاؤهم من ربهم الكريم.. ومثل هذا الجزاء ما تفضل به الله تعالى على نبيه نوح (عليه السّلام) والذين آمنوا معه بما أنجاهم من الغرق، لقوله الكريم: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ *} [الصَّافات: 63]، أي كما أنجينا نوحاً والذين آمنوا من عذاب الهلاك بالطوفان، كذلك نجزي المحسنين.. وهو نفس الجزاء الذي وهبه تعالى للنبي «آل ياسين» بقوله المبين: {سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ *إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *} [الصَّافات: 130-131]، أي كما جزيناه ومن آمن معه، كذلك نجزي المحسنين.. وهو جزاء المتقين، مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ *وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ *كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [المُرسَلات: 41-43] }.
فهلاَّ أدركنا معاني الآيات في القرآن الكريم، وسرنا بما يُرضي ربَّ العالمين، حتى يهدينا سبحانه إلى الصراط المستقيم، فنكون من المحسنين، ومن المتقين في جنات النعيم؟!..

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢