نبذة عن حياة الكاتب
معجم الأمثال في القرآن الكريم

الفصل الثالث: معالجة الأمثال القرآنية لأَهم القضايا المؤثرة في حياة الناس
من الحقائق الثابتة في حياة الناس، كثرة وتنوع القضايا والمسائل التي تحيط بهم، سواء على المستوى الفردي، أو المجتمعي أو الدولي؛ وغالباً ما تكون تلك القضايا والمسائل مبنيّة على المعقتدات الدينية والفكرية المتأصّلة في نفوسهم، وتنعكس بالتوجهات والتطلعات التي يعملون لها، والتي تؤثر بدورها على المناهج والأنظمة التي ينشؤنها، وعلى العلاقات والمواثيق التي يقيمونها فيما بينهم..
وكما تناولت الأمثال في القرآن الكريم كلَّ ما يحيط بحياة الناس، فقد سبرت إلى أغوار الأنفس لتبيّن ما يدور في الصدور، وما ينعكس على سلوك وتصرفات الأفراد، والجماعات، وما يتحكّم بحياتهم، وذلك من خلال الصياغة، والأسلوب، والحكمة والموعظة التي جاءت بها، والتي من شأنها أنْ تضع الإنسان أمام الخيار بين القبول أو الرفض لقضية ما، أو اتخاذ الموقف المؤيد أو الرافض لمسألة دون أخرى.. كما أنَّ في الأمثال القرآنية ما يمدُّ الإنسان بالمقومات السليمة التي تتوافق وصدقَ إيمانه بربّه الذي خلقه، والسير على هداه، وبما ينسجم ونزعته الإنسانية تجاه المثلِ والقيم والمفاهيم والتصوّرات الصائبة والسامية.. وذلك من غير أنْ تُغفِلَ هذه الأمثال الربّانيةُ تبيانَ ما قد يترتب على الخطأ في الاعتقاد، والاختيار في العمل أو الموقف، أو على المكابرة في التصدّي للحقيقة، من هناتٍ ومساويء وشرور، غالباً ما يجدها الإنسانُ ماثلةً في ضميره وبصيرته، أو سوف يجدها - ولا ريب - حاضرة بانتظاره يوم الحساب العادل، وملاقاة المصير الذي لا مناص منه، والذي يكون الإنسان قد صنعه بيَديْه، ههنا، في حياته الدنيا؛ وهذا ما يوجب النذير بالقول: فليحذر الذين ألهاهُمُ التكاثرُ حتى زاروا المقابر.. فليحذر الذين ألهاهم الحكم والسلطان بكثرة أفانينهما حتى أطاحوا بآخرتهم.. وليحذر الذين ألهاهم التكاثر في الأموال والبنين، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، ولا جاه ولا سلطان إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم!.. من هنا نضع بين أيدي الناس الأمثال القرآنية التي تعالج أهم قضاياهم - وفقاً لما ألهمنا الله تعالى لمعانيها ومقاصدها - علَّها تهديهم إلى سبل الرشاد والصلاح بإذنه تبارك وتعالى..
والأمثالُ القرآنية التي وفقنا الله عزَّ وعلا للاهتداء بها حول ما يمكن اعتباره أهم القضايا في حياة الناس، يمكن أنْ نجد بعضها مكرراً في أكثر من آية، وقد جاء هذا التكرار في كتاب الله عن قصدٍ وحكمةٍ، حتى يعطي مدلوله بصورة أوضح وأعمق، وفقاً للسياق الذي يرد فيه المثل القرآني فيكون عملنا مقصوراً على تبيان بعضٍ من معانيه ومراميه، والحكمة منه وبقدر ما يوفقنا مولانا لذلك - فعسى أنْ يلهمنا ربُنا الكريم إلى ما فيه الحقُّ والصوابُ خدمةً لعباده، علَّنا ننال فضلاً من رضاه ورحمته، ألا إنَّه هو الجواد الكريم، وذو الفضل العظيم، ألا إنه هو الرحمن الرحيم.
الفقرة الأولى - الحق والباطل
1 - الباطلُ مثلُ الزبد الذي يذهب جُفاءً
يقول اللَّهُ تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَِنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} [الرّعد: 16-17].
إنها معركة ضارية ولن تتوقف أبداً ما دام «الإنسان» حيّاً على هذه الأرض، وما دام الصراع قائماً بين الحق والباطل، وهو لن يتوقف إلى يوم القيامة!.. وقد وجدت هذه المعركة منذ بدء الخليقة، يوم أمرَ الله تعالى الملائكةَ أنْ يسجدوا لآدم، فسجدوا كلهم، أجمعون، إلاَّ إبليس[*] - الذي كان بينهم - فقد أبى، واستكبر، وكان من الكافرين، لظنّه بأنَّ خلقه من نار، يجعله أفضل من آدم الذي خلقه الله من طين.. ومنذ ذلك الزمان والصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر على أشدّهما؛ وقد بدأه إبليس (الشيطان) عاجلاً، عندما زيَّن لآدم وزوجه (حوّاء) الخلود، فأكلا من الشجرة التي نهاهما ربُهما عن الاقتراب منها، فغوى آدم، وبذلك أخرجه إبليسُ من حياة الرغد والطمأنينة، ليعيش وذريتُهُ تجاربَ الابتلاء والاختبار في هذه الحياة الدنيا، بل وكان قابيلُ ابنُ آدم أولَ ضحية بعد أبيه لمكر إبليس وخداعه، إذْ وسوس له أنْ يقتلَ أخاه هابيل، فقتله!.. فكانت تلك الجريمة بمثابة نقطة الانطلاق التي اندفع منها الشيطان؛ فجمع إليه قبيله من الجان، ومن هؤلاء الأناس الذين تفلَّتوا من أي وازعٍ دينيٍّ أو ضابطٍ أخلاقيٍّ، ليدسَّ في نفوس، كلِّ بني آدم - إنِ استطاع - أفاعيل الغواية التي ينفذون من خلالها إلى استغفال بعضهم بعضاً، وبذر الفتن فيما بينهم، وإفساد حياتهم بما يبعدهم عن طاعة ربّهم عزَّ وجلَّ.. وبالفعل فقد صدق إبليس وعده، فكان من بني آدم من هم أبالسةٌ أكثرَ من إبليس وذريته من الجن، حتى ولو ظهروا بصورة البشر؛ لأنهم، في الواقع، لا يتورعون عن انتهاك أقدس مقدساتِ الإنسان، ولا عن ارتكاب أفظع الجرائم بحق البشرية، ولعلَّ مثالها الصارخ الجرائم المتعلقة بحقوق الإنسان، وسلب مقومات العيش للشعوب المستضعفة، وإخضاعها لإرادة السالبين ومطامعهم، كما تشهد على ذلك سيرة الإنسان عبر تاريخها الطويل، المليء بالغزوات، والحروب، والقتل، والاضطهاد، والظلم.. وكل أنواع البلاء الذي يحيق بالناس منذ وجودهم على هذه الأرض!..
وسوف تبقى أعمال أهل الباطل والشر تلقي بظلالها وآثارها على حياة الناس في مشارق الأرض ومغاربها!.. وهم كلما بعدوا عن الإسلام - الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده - أوغلوا في الكفر والشرك والضلال، وظهر، من جرّائه الفساد، والفسوق والعصيان والظلم.. دونما روادع أو زواجر في أنظمة وقوانين وضعية، ودونما احترام أو تقيد بالمواثيق والمعاهدات الدولية إلاَّ من حيث الشكل، وفي بعض الأحيان فقط!.. ولن يسلم أو يفلت من الوقوع في حبائل الشيطان، وقبيله من الإنس والجن، إلاَّ من رحم الله تعالى.. ولكنْ ويلٌ للناس، وهم غافلون عن يوم البعث والحساب، فالحكم، يومئذٍ، لله الواحد القهار، ربّ السماوات والأرض، وهو القاهر فوق عباده، يثيب ويجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالفوز بالجنة، ويجازي الذين كفروا وأفسدوا في الأرض بالعقاب في النار؛ فالله هو السميع العليم، يسمع الأقوال، حتى الهمس، ويعلم الأعمال الظاهرة والخفيّة، بل ويعلم النوايا وما في دخائل النفوس، فيحاسب على الأقوال والأعمال والنوايا، وكل ما يصدر عن الإنسان في السرّ والعلن..
ومن الآن وحتى تقوم الساعة، وإلى أنْ يقف الناس بين يدي ربّ العالمين، فإن المفسدين في الأرض سوف يبقون سادرين في غيهم، ويأتون بالأعمال الضارة لأنفسهم ولغيرهم. وهم بذلك إنما ينصرون الأبالسة والشياطين عليهم، هم أنفسهم، أولاً، ومن ثَمَّ على أهل الحق والإيمان!.. ولكنْ مسكين هذا الذي يقبع في حجرة مغلقة وهو يخطط للقتل، أو السلب، أو الاحتكار أو الاستغلال!.. ومسكين هذا الذي يتوهم أنه قادر ومقتدر، وصاحب مكانةٍ تخوله السلطة والصلاحية، ثم يتخذ قراراته بما يخدم نوازعه وأهواءه الدنيوية!.. ومسكين هذا الذي ينصر الباطلَ ضد الحق!.. ومساكينُ.. جميع أولئك الذين نسوا - أو كذَّبوا - أنَّ الموت حق، وأنَّ القيامة حق، وأن الحساب آتٍ لا ريب فيه!...
وإنَّ الأعمال التي يظنونها مقْدِرةً، ومهارةً، وفناً من عند أنفسهم، هي التي سوف تجعلهم وقوداً للنار يوم الدين.. فقد تاهوا عن هذه الحقيقة، فأتوا - ويأتون - بالسيئات التي تتكثَّف بها سحب الباطل وظلاله، والتي تحجب أنوار الحق وأضواءه.. ولقد بعدوا عن ربّهم وخالقهم، فجعلوا نفحات الخير تنوء تحت لطمات الشر، وصالحُ العمل يتوارى من صولة الخبيث، وصوت العدالة يخفت من قرقعة الظلم.. حتى ليظن الناس، من سوء ما يحيق بهم، بأنَّ دولة الحق قد دالت إلى غير رجعة!.. هل هذا تشاؤم أم أنه واقع الحياة؟ العاقلون المنصفون يحكمون!..
ولكن رويدكم يا أصحاب تلك «الأعمال الموصوفة»!..
وليكن معلوماً لديكم أنه مهما استفحل الشر، ومهما بغى الطواغيت منكم، فلا بد أنْ يرى الناسُ نوراً ينبثق من خلال هذا الظلام الدامس، وسناءً يتألق من بين مادية هذا الضلال الجائر!..
رويدكم!. أجل رويدكم أيها الطواغيت، إذْ لا بدَّ أنْ يستجمع الحقُّ قواه، ويندفعَ المؤمنون الصادقون على دروب الانعتاق، وهم يحملون نور الله الهادي، فلا ترهبهم الأبالسة البشرية، ولو تمنطقت بكل أسباب القوة، وبقنابل الذرة و«الهيدروجين»، ولا تخيفهم أنظمة العولمة، ولو تسلّحت بكل أفانين «الكمبيوتر»، وبالمخططات الاقتصادية، والأنظمة السياسة وقوانين المال وغيرها مما تبتدعون، وتفرضونها على شعوبكم، بل وعلى شعوب العالم، تحت ستار قواعد القانون الدولي!.. فالمؤمنون هم جنود الله، وهم أنصار الله، فهم - بحول الله - الغالبون في علم الله؛ بل ووعدهم الله جلت قدرته بالنصر على أعدائه، لأنَّ هدفهم واحد على الدوام، وهو إعلاء كلمة الله وجعلها هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فيقدمون على الشهادة والتضحية بغير حساب، وينشدون التغيير بغير مواربة. وإنهم وهم يقدمون على ما يقدمون عليه من الحقّ، لا يخافون في الله لومة لائم؛ فكان حقاً على الله ربِّ العزة والجلال أنْ ينصرهم لأنَّ من يَنْصُرِ الله ينصُُرْهُ، {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ *} [الرُّوم: 6-7].
ومن إيماننا بالقرآن، وتصديقاً بوعد الله عزَّ وعلا فإنّا - والمؤمنون كافة - على يقين من أنَّ الحق ثابت وقائم، وأنَّ له - دائماً - أصحاباً وأنصاراً، بينما الباطل زاهق، زائل لا محالة، بقول ربّ العالمين: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا *} [الإسرَاء: 81]. فمن سنن الله تعالى في خلقه أنْ يغلبَ الحقُ، في نهاية المطاف، وإنْ طال الزمن، لأنَّ للباطل جولةَ ساعةٍ، لكنّ جولةَ الحق تدومُ إلى قيام الساعة.
من هنا، فإنَّ الصور مهما تراءت قاتمة ومظلمة، أو بدت الأحداث عاصفة وقاهرة في مواجهة المؤمنين وأنصار الحق، فإنَّ الأمل يظل معقوداً على هذا «الإنسان» بأنْ يهتديَ - بالفطرة التي فطره الله تعالى عليها - إلى نُصرةِ الحق ومحاربة الباطل. والبداية تكون بالإيمان بما أنزل الله تعالى على عبده ورسوله محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من قرآن مبين يهدي للتي هي أقوم، ويبيّن للناس الحقائق التي تهديهم إلى الصراط المستقيم.. وبهذا الإيمان وحده يستطيع المؤمنون أنْ يتغلبوا على وسوسة الشيطان، وأنْ يتوافقوا مع نظرائهم في الإنسانية، ليكونوا كلهم أجمعون جنداً لله، ومن أنصار الله مخلصين له الدين ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون.
وها هو القرآن الكريم يقدم لنا في الآيتين 16 و17 من سورة الرعد - اللتين نحن بصددهما - الأمثال التي تؤكد ثبات الحق وديمومته، وزوال الباطل وفناءه. ومن استشفاف معانيهما يتبين لنا أنَّ الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنْ يسأل الكفار والمشركين: قل لهم: «مَنْ ربُّ السماوات والأرض»، ومن يدبّرهما، ويصرّف أحوالهما بما خلق من سنن وقوانين؟
وهذا السؤال ملقىً على عاتق كل مؤمن كي يسأله لأهل الباطل ويطلب منهم الجواب!. وطبعاً سوف يستعجم الجوابُ على أهل الباطل، اليوم، كما استعجم على الكافرين والمشركين عندما جابَهَهُمْ به رسول الله، لأنهم لم يستطيعوا - حتى الادعاء - بأن أصنامهم وأوثانهم التي كانوا يعبدونها هي التي خلقت السماوات والأرض. ولعلَّ أولئك المشركين كانوا أقلَّ سوءاً من الذين يظنون أو يعتقدون، اليوم، أو في أي زمانٍ آتٍ بأنَّ السماوات والأرض قد وجدت من العدم لمجرد مصادفة، أو بصورة تلقائية ذاتية، من غير أنْ يكون لها موجد قد أوجدها، إذْ مثل هذا الظنّ أو الاعتقاد محضُ تصوراتٍ مغلوطة، وأفكار خاطئة، تدل بنفسها على خطئها، وتحكم بذاتها على فسادها؛ خاصةً وأنَّ الذين ينكرون بأنَّ الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض لم يقدموا أي برهان مقنع على إنكارهم، في حين أنَّ القرآن قد أثبت، وبكثير من الأدلة والبراهين القاطعة، والتي لم تستطع، ولن تستطيع أنْ تدحضها مخلوقات السماوات والأرض وإن اجتمعت لذلك.. أجل لقد أثبت القرآنُ بأنَّ الله جلَّ وعلا هو ربّ السماوات والأرض، وهو خالقهما، ومدبرهما.. فإنْ لم يقرَّ المنكرون بهذه الحقيقة، علناً وجهراً، فقد استيقنتها، ولا ريب، نفوسهم!.. وسواء أكانوا يعلمون هذه الحقيقة ويكتمونها، أو كانوا يجهلونها، أو يضلون عنها لأنَّ عقولهم قد انحرفت عن الحق المبين، فلا بدَّ أن يواجهوا بها، وأنْ يُسألوا، بكل معاني التبكيت، والتقريع والتوبيخ: أفاتخذتم من دون الله أولياءَ تتعبدُّون لهم، وأنتم ترونَ أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرَّاً؟! بئس ما اتخذتم من أولياء، كما عبَّر عن ذلك أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السّلام) بقول الله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ *} [العَنكبوت: 25].. أبداً لن يكون لكم يوم القيامة من وليٍّ ولا ناصر، بل التلاعن والنار مأواكم، وهي حسبكم!. ولو تبصَّرتم، أيها الكافرون والمشركون، حقَّ التبصرة، لوجدتم أنَّ العقل والقلب والسمع والبصر، كلُّ أولئك يحكمون بأنَّ الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ليس لديهم أدنى مقومات الولي أو الناصر، في حين أنَّ من بيده ملكوت السماوات والأرض، هو من بيده النفع والضر، يعزُّ من يشاء بالغلبة والنصر، ويذل من يشاء بالقهر والهزيمة، فكان حقاً أنْ يكون هو الله جلّ وعلا، وكان حقاً أن يكون هو الولي والناصر، وكان حقاً أنْ يكون سبحانه مولى الذين آمنوا، وأنَّ الكافرين لا مولى لهم.. ولكي يقرب القرآن الكريم هذه الحقيقة إلى الأذهان، فإنه يقدم البراهين الحسية بما يجد الناس من الفوارق ما بين الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور، إذ كما لا يستوي الأعمى والبصير، كذلك لا تستوي الظلمات والنور؛ وقد كنَّى التعبير القرآني عن الكافر بالأعمى، وعن المؤمن بالبصير.. فأما الكافر فإنه يعبد من دون الله، مجرد تصورات وهمية، أو تماثيل صنميّة، أو يتعبّد لأناسٍ أمثاله بالطاعة والخضوع؛ تبعاً لما قدَّمت للبشرية تلك المعتقدات الإلحادية، وجعلت الأهواء، والرغبات والشهوات تطغى على النفوس حتى يصير أصحابها عبيداً لها، كما تدلُّ عليه الآية الكريمة: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجَاثيَة: 23]، فانساق وراء هواه، على عمى البصيرة، حتى وقع في مهاوي البهتان!..
وأما المؤمن فإنه يعبد الله ربَّ العالمين، الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزُّ من يشاء، ويذلُّ من يشاء بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ولذلك كانت عبادة المؤمن لربّه تعالى قائمة على نور البصيرة والهدى.
وزيادة في تنوير الأذهان، يضرب الله تعالى للناس الأمثال بالظلمات والنور، ويسألهم في قرآنه المبين هل تستوي الظلمات والنور؟ فهل هما من جنس واحد، ولهما نفس الخصائص، أم أنهما ضدان بطبيعتهما في نظام الكون الشامل؟ فإذا كانت الظلمات والنور لا تستويان، فلا يمكن أن تستوي، إذاً، عبادة الله التي يسير فيها المؤمن على نور وهداية من ربّه، مع عبادة أولياء، هم، في الحقيقة، عباد لله تعالى، إلاَّ أنهم يزيّنون لمن يتخذونهم أولياءَ من دون الله الكفرَ والضلال، وعبادة الأهواء والمطامع، وكلها من ظلمات الأنفس..
ثم تضيف النصوص القرآنية البرهان العقليّ والحسّيّ الذي لا يمكن دحضه بأية حجة أو بأي علم أو ظن، وذلك عندما يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [الرّعد: 16].. نعم هل من خالق غير الله؟ وهل الذين يشركونهم بعبادة الله قد خلقوا شيئاً مثل خلقه؟ وفي الواقع هل يقدر أحد على أنْ يخلق ثمرةً أو حجراً، أو أن يصنع ذباباً أو عنكبوتاً؟!.. وهل كل ما فعله الإنسان - وعلى الرغم مما توصل إليه من العلوم - إلاَّ مجرد اكتشافات لأشياء قد خلق الله أصلها، وأنظمتها وقوانين وجودها، لأنه هو الخالق؟ وهل يمكن التفكير أو القول بأن بعض الأشياء هي من خلق الله، وبأنَّ غيرها من خلق شركاء لله في خلقه، فتشابهت المخلوقات على المشركين فلا يعرفون خالقها؟
لم يعلم الناس أنَّ أحداً قد ادَّعى بأنه خالقٌ من دون الله. فهذا النفي المطلق هو من الحقائق الدامغة على أنَّ الله تعالى هو الخالق.. بل، أقرب من ذلك، فإن أحداً من الكائنات في السماوات والأرض لا يقدر على الادعاء بأنه قادر على أنْ يجعل الشمس تشرق من المغرب، أو تغيب في الشرق، أو أنْ يحيل النور ظلاماً، أو الظلام نوراً، أو أن يبدل الليل نهاراً، والنهار ليلاً! أي أنْ يغيّر - إجمالاً - بواحدةٍ من السنن الإلهية، التي يقوم عليها الكون كله! فإن كان الإنسان عاجزاً عن تغيير أو تحويل أية سنةٍ من السنن التي خلقها الله تعالى، فهل يقدر على الخلق؟!
فيا أيها الإنسان!
إنك، وإنْ حاولت أنْ تتنصَّل من الحقائق الدامغة، والبراهين الساطعة، وتبتدع لنفسك أفكاراً أو عقائد أو نظريات تبعدك عن الإقرار بأنَّ الله هو الخالق، فلن تجد ما ينفعك في هذا السبيل!.
وإنك مهما فكرت، وقدَّرت، ومهما اخترعت واكتشفت، ومهما فعلت وصنعت!.. فإنَّ ذلك كله هو ممَّا شاءَ لك الله أنْ تؤتيه، وهو لا يعدو في أصله من خلق الله تبارك وتعالى. بل ولعلَّ في هذه الأشياء التي تتوصل إليها أو تحققها، أيها الإنسان، ما يوفّر لك حافزاً للإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، كما فعل كثير من أهل العلم، والفلسفة الذين قادتهم بحوثهم وتجاربهم، وطرق الاستدلال التي اعتمدوها إلى الإيمان اليقيني بالله تعالى.. ولذلك فإن من الشواهد في الحياة عن الحالات التي تدل على تدهور الصحة النفسية، أو الإصابة بالأمراض العصابية، أنَّ الناس يظلون في حالة فراغ روحي، وعدم استقرار داخلي - مهما أنشأت عقولهم، ومهما اعتقدت قلوبهم - إنْ لم يقروا إقراراً قاطعاً بأنه لا إله إلا الله، وبأنه لا وليّ للعباد غير الله، وبأنه وحده الخالق لكل خلق، والقاهر لكل من يدعي اقتداراً وامتلاكاً.. فهو سبحانه قد خلق كل شيء، وجعل مجرى حياة الأشياء أو إيجادها خاضعاً لتقديره وقضائه. فكان جديراً بنا، ونحن من خلق الله، أنْ نعبده، ولا نشرك بعبادته أحداً.. وكان خليقاً بنا أنْ ندرك معانيَ الأمثال التي يضربها لنا، في كتابه المبين، حول زيف عبادة الكافرين والملحدين، وبطلان ما يتخذون من أولياء من دون الله، وفساد ما يجعلون له من شركاء، في أي أمر أو شأن!..
ولكي يزيد هذا القرآنُ المجيدُ الإِنسانَ تبياناً فإنه يقدم له برهانَيْنِ آخرين للتمييز ما بين الحق والباطل، وهما المثل عن الماء الجاري وما يعلوه من الزبد التافه، والمثل عن المعادن وما يعلوها أثناء ذوبانها، من زبدٍ لا نفع منه، فيقول الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرّعد: 17].
فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء مطراً غزيراً، فيتدفق في الأودية سيولاً جارفة، يحمل كل ما يكون في طريقه من التراب، والغثاء، والقش، والورق والحطب وغيرها.. وهذه السيول تحدث دائماً رغوةً، سرعان ما تتلاشى، وتنطفيء على شكل فقاقيع في الهواء لا خير فيها، مثلما هي الفضلات التي تجرفها معها ولا جدوى منها. ووحده الماء الذي يبقى متدفقاً في الأودية والفجوات هو الذي ينفع، حيث يذهب إلى الأنهار فيغذيها، وإلى الأرض فيرويها، فيحلُّ الخصب والنماء، ويكثر الخير والجنى.. ومثلُ زبد مياه الأودية الذي يختفي بلا نفع، كذلك زبدُ المعادنِ من الذهب أو الفضة التي يجري تذويبها فوق النار، لتصاغ منها الحليّ وأدوات الزينة، أو تلك التي تصنع منها أوانٍ وأدوات وآلات من الحديد والرصاص والنحاس وخلافها، فالمواد الخبيثة والأقذار، التي تعلو سائل هذه المعادن وقت ذوبانها، يجري طرحها والتخلص منها، بينما يبقى المعدن وحده، ومنه يكون الحلية والمتاع، وكل المعادن الصافية التي جرى استخراجها..
كذلك الحق والباطل في هذه الحياة. فالباطل قد يظهر، ويعلو ويبدو رابياً، ولكنه مثل الزبد لا بد وأنَّ يذهب جفاءً مطروحاً. في حين أنَّ الحق قد يبدو هادئاً وساكناً، وأنَّ أثره محدود، ولكنه هو الذي يبقى في النهاية، كما يبقى الماء الذي يحيي الأرض بعد موتها، أو المعدن الصافي الذي يصنع الناس منه حلية أو متاعاً.
قال قتادة: «هذه ثلاثة أمثال ضربها الله سبحانه وتعالى في مثل واحد: شبَّهَ نزول القرآن بالماء الذي ينزل من السماء، وشبه القلوب بالأودية والأنهار، فمن استقصى في تدبّر القرآن، وتفكَّر في معانيه، أخذ حظاً عظيماً منه كـالنهر الكبير الذي يأخذ الماء الكثير، ومن رضي بظاهر معانيه أدّاه إلى التصديق بالحق على الجملة، وكان أقلَّ حظاً منه كـالنهر الصغير. فهذا مثل.. ثم شبَّهَ الخطرات ووساوس الشيطان بالزبد الذي يعلو فوق الماء وذلك من خبث التربة لا من عين الماء، كذلك ما يقع في النفس من الشكوك فإنه يكون من ذاتها لا من ذات الحق. فـكما يذهب الزبد باطلاً ويبقى صفو الماء، كذلك تذهب مخايل الشك هباءً باطلاً ويبقى الحق. فهذا مثل ثانٍ.. {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرّعد: 17] إلى آخره.. فالكفر مثل الخبث الذي يطفو على المعدن وهو لا يُنتفع به، والإِيمان مثل المعدن الصافي الذي يُنتفع به. فهذا مثل ثالث».. كذلك يضربُ اللَّهُ تعالى الأمثال ويبيّنها للناس، فيلقيها على أسماعهم، ويعرضها لأبصارهم فتهتدي بها القلوب المؤمنة النيّرة، البعيدة عن ظلام الكفر.. فعندما يضربُ سبحانه المثل بالماء الذي أنزله من السماء لإِحياء الأرض، فتسيل به الأودية، إنما يريدُ بذلك القلوب التي تمتلىء بالحق والإِيمان. وكما يسَعُ الوادي الكبيرُ الماءَ الكثير، كذلك القلب المؤمن يسع العلم الوافر والهدى المنير.. وكما الوادي الصغير، فإن القلب الصغير لا يسع إلاَّ بحسبه.. فيكون معنى قوله سبحانه {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرّعد: 17] أَي أنَّ قلوباً احتملت من العلم والهدى بقدر ما تستطيع حمله.. ولذلك فإنه كما يجرفُ الماءُ الذي أنزله الله من السماء ما يصادف في جريانه من الأوحال الآسنة وما يعلوها، ليبددها، فـكذلك الهدى والعلم، عندما تمتليء بهما قلوب المؤمنين، فإنهما يقتلعان من النفوس كلَّ ما يخالطها من آثار الشبهات والشهوات ويطرحانها خارجاً، ليستقر في تلك القلوب الطاهرة، نور الإيمان وحده..
ولكنَّ التغيير في الأنفس، الذي يستتبعه الانتقال من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، لا بد أنْ ترافقه عملية استئصال حتى يأتي العلاج شافياً. فكما أن الجرّاح قد يضطر إلى استئصال المرض بعملية جراحية، مع ما يرافق ذلك من الألم والمعاناة، فـكذلك الهدى عندما ينفذ إلى القلب، لا بدَّ وأنْ يثير لدى الإِنسان الضيقَ والحرجَ في البداية ثم يقوى شيئاً فشيئاً، حتى يتغلب نورُ الله على الشبهات، ويطرحها خارج القلب.
وعندما يطمئن القلب بالإِيمان، وينتعش باليقين، فإنَّ الآثار تنتقل إلى سائر أعضاء البدن فتنشط للعبادة، وتسرع إلى الطاعة. وفي ذلك يقول الشاعر المؤمن:
وإذا حلَّتِ الهِدَايةُ قَلْباً
نَشَطَتْ للعِبَادةِ الأَعْضاءُ
إذاً فالمقصود بمثل السيل الجارف الذي يذهب زبدُهُ بلا طائل، وبمثل المعدن المذاب الذي يطفو زبدُهُ ويُرمى، الشبهات والشهوات التي يلفظها القلب المؤمن خارج الصدر، ليثبت فيه - بدلاً عنها - الإِيمان الخالص. وهذا الإِيمان ينفعُ صاحبه، وينفع غيره من المؤمنين. وعندما يكثر أهل الإِيمان، يقل عدد أهل الكفر، وكلما اتسعت مساحة الحق، ضاقت رقعة الباطل، إلى أن يزهق اللَّهُ تعالى الباطلَ وأهله، وينصر الحقَّ وأهله..
والله تعالى عندما يضرب للناس الأمثال، إنما يريد بهم الخير، والرأفة، والرحمة لما تحمل لهم من دليل وعظة على ما قدَّر الله لعباده من مصائر؛ وما جَعَلَ للدعوات والاعتقادات، والنوايا، والأعمال والأقوال من أقدار..
2 - مثل كلمة الحق الطيبة كـالشجرة الطيبة، ومثل كلمة الباطل الخبيثة كـالشجرة الخبيثة.
يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طِيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ *يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *} [إبراهيم: 24-27].
الكلمة الطيبة هي كلمة الحق..
والكلمة الخبيثة هي كلمة الباطل..
ذلك أنَّ الله تعالى هو الحق، وقد خلق السماوات والأرض بالحق وأجلٍ مسمّى، فكان الوجود كله قائماً على كلمة الحق، وعمادها: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن».. فكان كلُّ شيء في هذا الوجود مرتبطاً بالحق، وقائماً على صلته بالحق، وتناسقه مع الحق، وهذا على مستوى الكون كله.. أما بالنسبة لنا نحن البشر، ونحن جزء من هذا الكون، فليس شيء أكثر تأثيراً في النفس البشرية من كلمة الحق، بها يشرح الله الصدور، ويطمئن القلوب، فتصير قادرة على التصدي للباطل، ومواجهة الضلال، حتى يستقيم الحق في مسيرته التي تنشيء الخير، وتنشر الفضيلة، وتشيع الصلاح في دنيا الناس، بل وفي الحياة كلها.
ومن هنا كان المثل، في القرآن الكريم، على الكلمة الطيبة - كلمة الحق - بالشجرة الطيبة، ذات الجذور الثابتة، في عمق التربة فلا تقوى الأعاصيرُ على اقتلاعها. وذات الفروع والأغصان المتشابكة، المتماسكة فلا تقوى الرياح على تكسيرها. وهذه الشجرة الطيبة هي التي تعطي ثمارها في كل حين، بإذن ربّها، حتى ينتفع الناس بخيرها ونتاجها.
وكما هي الشجرة الطيبة، تَنْبُتُ من البذور المعطاء وتعيش في الأرض الصالحة، ثم تعلو من فوقها بالظلال الوارفة، وبالثمار اللذيذة التي تنفع الناس بأكلها كل حين، كذلك الكلمة الطيبة، التي تملأ النفوس بالصدق والإخلاص، وتثبّتُ القلوب على الإيمان والطاعة، وكلُّ ذلك بإذن الله تعالى، وإلاَّ فسدت التربة وأشجارها، وعميت القلوب ومعتقداتها..
أما الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - فهي التي تزرع الشر في النفوس، وتنشر الفتن بين الناس، وتناصر الظلم والطغيان والإلحاد، فلا بد - وهذه مواصفاتها - أن يكون مصيرها إلى زوال لمجرد احتكاك رياح الحق بها، بسبب الهشاشة والضعف الكامنين في طبيعتها، وبسبب الأخطار والأضرار التي تحملها في مضمونها.. ومَثَلُها في القرآن كـالشجرة الخبيثة التي قد تنشط فتهيج، وتمتدُّ فروعها وغصونها، حتى ليخيل إلى البعض أنها تطغى على ما حولها من الشجر والنبات، إلا أنها في الواقع تبقى هزيلة، وحين يأتي الوقت تراها قد اجتثت من فوق الأرض فلا يبقى لها قرار، ولا وجود.. كيف لا، والشجرة الخبيثة تنمو على الخبث، وعلى رخاوة الأرض التي لا تساعد الجذور على التشبث بالتربة، فتصير عرضة للاقتلاع لمجرد أن تهب عليها الرياح، أو لمجرّد أنْ يطرأ عليها أي عارض، حتى ولو كان تحريكها بيد الفلاح الذي غرسها.
ولا يقف المثل الذي يشبه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، أو المثل الذي يشبه الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة عند حدود المثل، كما لا يقصد منه مجرد عزاء للطيبين وتشجيع للمؤمنين، إنما هو تصوير لأصل الحياة الذي يقوم على الحق، وليس على الباطل، لا سيما وأنَّ الحق الثابت والخير الأصيل لا يفنيان أبداً، وإن تراءى للناس أنَّ تحققهما بطيء، أو صعب المنال. فهما أصيلان في الوجود، ولا يمكنْ أن يطالهما زوال أو فناء. وإن تغلب عليهما الباطل والشر - بسبب فساد الإنسان نفسه، ومصادمته لقوام وجوده - فإن غلبة هذين سوف تكون إلى حين ثم يأتيهما التآكل من داخلهما، والفساد من طبيعتهما، فيذهبان إلى غير رجعة..
ثم إنَّ الكلمة الطيبة، وما تـمثل من الحق والخير، هي التي تتجدد مع تعاقب الأزمان، لأنها تحتوي على الحقائق الثابتة. وقد تمثلت الكلمة الطيبة بأروع معانيها في الرسالات السماوية، وفي الدعوات الصادقة، وجميعها يستقي من عقيدة التوحيد القائمة على حقيقة وجود الله تعالى إلهاً واحداً أحداً، والثابتة على الحق من ربّ السماوات والأرض، وخالق الكون والحياة والإنسان. فلا حقيقة إنْ لم يكن أساسُها الحق، ولا خير إنْ لم يكن مددهُ الحقُّ.
وهكذا نرى أنَّ القرآن الكريم عندما يضرب المثل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، فإنما يعني بالكلمة الطيبة الإِيمان بالله تعالى، الذي جاءت به الرسالات السماوية جميعاً، كي تجعل الحياة طيبة بالإيمان والصلاح.. في حين يعني بالكلمة الخبيثة الكفر لأنه رجسٌ، وما يرادفه من الشرك والنفاق وخبائثهما، وهذا كله ممّا يبعد الإنسانَ عن ربَّه وخالقه.. ولما كان لا بد للشجرة من عروق، وساق وفروع، وورق وثمر، فـكذلك الإِيمان تكون عروقُهُ العلمَ واليقين، وساقُهُ الإخلاصَ، وفروعُهُ الأعمالَ الصالحة، وثمرُه الآثارَ والنتائجَ المترتبة على الأعمال الصالحة من صفاتٍ حميدة، وأخلاق كريمة، ومعاملات طيبة، وغيرها من المزايا والخلال التي يحمدها اللَّهُ تعالى وعباده الصالحون. وهي جميعها مما يثبّت الله تعالى عليها الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أما الكفر، أو الإِلحاد، أو الشرك أو النفاق فمثله كـالشجرة الخبيثة التي تنبت في أرض خبيثة، وتحمل أوراق الأذى وثمار السم. وقد تتطاول الشجرة الخبيثة في النماء والعلو حتى يقيّض اللَّهُ تعالى من يستأصلها، ويطرحها لليباس والاندثار فيخلص التربة من تكاثرها، والأحياء من أضرارها.. إنها شجرة الخباثة، وكل خبيث مذموم وملعون. وإنَّ من اعتقد كفراً، أو اتخذ شركاً فقد اتبع الخباثة، فذمَّه الحق، ولعنه الخير فما له من قرار.. وأهل الباطل هم الذين يفعلون عادة الخبائث، ولذلك نجدهم يكرهون الحق وأهله، ويحاربون الخير وفاعليه، فكانوا من الظالمين الذين أضلَّهم الله تعالى بسبب ظلمهم. {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، فلا تكون لهم هداية على الإطلاق، مصداقاً لقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ *} [الرُّوم: 29].. {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *} [إبراهيم: 27] من إضلال الظالمين لأنه عليم بما تنطوي عليه صدورهم من الخبث، ومناصرة الباطل.. والمقابل {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *} [إبراهيم: 27] من هداية المؤمنين إلى صراط الحق المبين، والعلم الصالح والسلوك القويم، مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الحَجّ: 54]؛ ويظهر هدى الله عزَّ وعلا لهم في القول الطيب، والخلق الحسن، واتباع سبيل الحق القويم، مصداقاً لقوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِبِّ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ *} [الحَجّ: 24].
وقد سئل رجلٌ من أهل العلم عن معنى «الكلمة الخبيثة» فأجاب: «لا أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً إلاَّ أنْ تلزم صاحبها يوم القيامة»؛ وقد روي عن ابن عباس قوله: «إنَّ الشجرة الخبيثة لم يخلقها الله بعد، وإنما هو مثل ضربه بهذا الواقع الذي يدل على الخبث والضرر»؛ وبخلافها «الكلمة الطيبة»، وهي كلمة التوحيد بشهادة «لا إله إلاَّ الله»، التي كانت عهداً على بني آدم، وهم في الأصلاب[*]، وهي الكلمة التي يثبّت الله تعالى الذين آمنوا بالقول الثابت عليها في الدنيا والآخرة، فيكون سبيلاً إلى فوزهم بالجنة.
3 - الكافرون يتّبعون الباطل، والمؤمنون يتّبعون الحق، كذلك يضرب الله للناس أمثالهم.
يقول الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ *} [محَمَّد: 1-3].
من يقف على تاريخ الجماعات البشرية، ويحلل الأحداث بعين مبصرة، ويطّلع على الوثائق أو المعلومات التي أخفيت عن الناس، ثم ظهرت بعد حين من الزمن، يجد أنَّ العداوة والبغضاء، غالباً ما كانتا تتحكّمان في نفوس وتصرفات أهل الكفر بين بعضهم البعض، إنما يتناسون كل تناقضاتهم حول ما يفرّقهم من المصالح، عندما يتعلق الأمر بأهل الإسلام، ولذلك نجد أنَّ أهل الكفر هم، دائماً، على نقيض أهل الإيمان؛.. ولكنَّ حكم الله السميع البصير، يختلف عن كل ما يخطط ويعمل أهل الأرض، وها هو قرآنه المجيد يبيّن لنا بأنَّ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النِّسَاء: 167] في عداوتهم، وحربهم على المؤمنين - الذين يدعون إلى سبيل الله وهداه - قد أضلَّ الله تعالى أعمالهم، فلا تقع على هدى أو خير، لأنها مخالفة، أصلاً وفرعاً، لشرع الله. أما الذين يدعون إلى سبيل الله وهداه، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّلَ على محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وهو الحق من ربَّهم، كفَّر ربُّهم عنهم سيّئاتهم وأصلح بالهم مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ *} [محَمَّد: 2]، فالذين آمنوا بصدق الرسالات السماوية وما فيها من الهدى والحق، وعملوا الصالحات بفعل ذلك الإِيمان، ثم آمنوا بما نزل على محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من قرانٍ كريمٍ، وأقرّوا بأنه هو الحق من ربّهم، فهؤلاء كفّر الله عنهم سيئاتهم، وأصلح حالهم وشأنهم، فلا يرتكبون المعاصي التي تقلق البال، وتقضّ المضاجع.. وهذا يعني أنَّ الذنوب هي التي تؤرّق الإنسان، وتجلب له الهموم، حتى الذين يظلمون، غالباً ما يجدون في أنفسهم قلقاً وغمّاً بعد ارتكاب مظالمهم - وذلك بخلاف ما يظهرون به على أعين الناس - إلاَّ الظالمين الذين عميت قلوبهم في صدورهم، فلا يشعرون بأية مرارةٍ أو كآبة من جرَّاء أفعالهم، بل ينسابون وراء نجاحاتهم كـانسياب الأفعى إلى وكرها بعد ابتلاع فريستها!.. أمَّا الذين آمنوا بالله تعالى، وجاهدوا أنفسهم لاتقاء غضبه وسخطه، فهم على نقيض أولئك تماماً، إذْ نجدهم - ولأي دينٍ انتموا - مرتاحين في مشاعرهم وتصرفاتهم، ويزيدهم الله تعالى من فضله، إذا آمنوا بما نُزِّلَ على «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وهو الحق من ربّهم، فهم ينتهجون - عندئذ - الاستقامة في التفكير والسلوك، وينشدون - دائماً - راحة القلب والضمير، فلا يعصون الله تعالى ما أمرهم. ونهج حياتهم دوماً قولاً وفعلاً، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [الأحقاف: 13].
وهذا أيضاً شأن أهل الإسلام من المتقين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [البَقَرَة: 3-5] فهذه الآيات الكريمة لا تحتاج إلى بيانٍ أو تفسير، بما وصف الله تعالى المتقين من أهل الإسلام، وبما حباهم من سمات الإيمان واليقين والهدى وبما وعدهم من الفلاح.. إلاَّ الذين ظلموا أنفسهم - من المسلمين - بارتكاب المعاصي، ولم يتوبوا إلى الله توبةً نصوحاً، فأولئك حسابهم على الله ربهم!..
وقيل إنَّ الآيات في مطلع سورة «محمد» - التي نحن بصددها - قد نزلت في أهل مكة، وفي الأنصار. فأكثر أهل مكة قد كفروا، وصدّوا عن سبيل الله فأضلَّ سبحانه أعمالهم تلك بأن بدَّد جهودهم في محاربة الدعوة، وهزمهم في قتالهم مع المسلمين.. وظلّوا كذلك إلى أنْ نصر الله الدعوة الإسلامية، وتَمَّ فتح مكة على يدي رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) فدخلوا في الإسلام طائعين أو مكرهين.. أما الأنصار فهم الذين آمنوا بما نُزِّل على محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وراحوا يدعون للإسلام قبل هجرة النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إليهم في المدينة المنوّرة، بل وقد أخلصوا لله ورسوله، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكانوا أهل النصرة حقاً وفعلاً. وبسبب إيمانهم بما نزِّل على «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وهو الحق من ربّهم، فقد غفر لهم ربّهم سيئاتهم، وما سلف من ذنوبهم، وأصلح بالهم بما غيّر في أحوالهم من العداوة والقتال الدائمين، اللذين كانوا عليهما في الجاهلية إلى إخوة في الدين، دأبهم الصلاح والإصلاح، فاطمأنت نفوسهم إلى آخرتهم، وذلك بما وعدهم الله تعالى دخول الجنة، وهو الفوز العظيم..
والإضلال لأعمال الذين كفروا، مردّه إلى أنهم يتبعون الباطل.. وأما تكفير السيئات، عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإصلاح بالهم، فمرده إلى أنَّهم يتّبعون الحق، ويهتدون بالقرآن المنزِّل إليهم من ربّهم.. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ *} [محَمَّد: 3] أي وعلى هذا النحو يبيّن الله تعالى للناس أحوالهم من حيث الكفر والإيمان، وما يتبع أهل الكفر من الباطل، وما يتبع أهل الإيمان من الحق الذي أنزل من ربهم، ومن ثم ما سوف يؤول إليه مصيرهم في الآخرة، وهل هم من أصحاب النار أم من أصحاب الجنة.. أما الذين لا يعلمون، والذين استوى الباطل والحق عندهم، فتعساً لهم!.
4 - تمنّي الذين يريدون الحياة الدنيا أن يكون لهم مثل ما أُوتِيَ قارونُ من المال والجاه.
يقول الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ *قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون} [القَصَص: 76-82] .
هنا يتجلَّى التعبير القرآني بأروع التمثيل وأحسن التشبيه فيما يرسم لنا من صورة للإنسان الذي يجحد فضل ربّه، ويتنكر للنعمة التي أفاضها عليه من رزقٍ وفيرٍ، ومالٍ كثير... ولعلَّ مردَّ ذلك إلى غروره بنفسه، وتناسيه ما قد يُنزل به ربُّه العلي القدير من صروف الدهر.. فـمثل هذا الإنسان هو الذي يدّعي - باطلاً - أنَّ ما عنده من مالٍ وغنىً، وما وصَلَ إليه من مكانةٍ ووجاهة، إنَّما كان بما ملك من علمٍ ومعرفة، وبما تمتع به من حنكةٍ وذكاءٍ، وقدرةٍ فائقةٍ على استغلال الظروف لمصلحته.. حتى ليتوهم، أحياناً كثيرة، بأنَّ الذين قد يبلغون ما بلغ هم قلائل بين الناس!.. وفي مثل هذا الإطار النفسي والسلوكي يدلّل القرآن الكريم على شاكلة هذا الصنف من البشر بشخص قارون من قوم موسى (وقيل: ابن عمه).. فقد اختار قارون طريق الذين يتولّون أعداء الدين، ويجعلون من أنفسهم عملاء لهم، وذلك عندما سخَّر حياته كلها، ليكون تَبَعاً لفرعون، ووزيره الأول هامان؛ فأوكلا إليه مهمة التسلّط والتنصّت على بني إسرائيل - وهم أهله وعشيرته - وذلك بتوليته وظيفة فرض الجزية عليهم، وجمع حاصلها من الأموال والغلال، بحيث يؤدي النصيب المفروض لفرعون، وما زاد يوزّع جزءاً منه على بطانته، ويجمع الباقي في خزائنه!.. وهذا فضلاً عن مراقبة كل تحركات بني قومه، أفراداً وجماعات، بحيث لا يخفى عليه خافيةٌ من أمورهم!..
وقد اتخذ قارون لذلك كلَّ أسباب القوة والبغي ووسائل المكر والدسيسة، حتى يرضي أسياده، ويحقق مآربه؛ فجنَّد من بني إسرائيل من هم صنوه في الخساسة والنذالة، ليكونوا عيوناً على بني قومهم، وأوصى - بصورة خاصة - ملاحقة موسى (عليه السّلام) والمقربين منه، حتى يتسنَّى له أنْ يرصدَ كلَّ ما يقومون به، أو يفعلونه!..
ويبدو أنَّ مطامع قارون لم تكن لتقف عند حدٍّ، فانبرى يجمع الثروات، ويمتلك الدور والأراضي دون وازعٍ من ضمير، أو خوفٍ من الله!.. فلم يقصّر في سرقة أموال بني قومه تحت أية ذريعة، ولم يتوان عن سلب ممتلكاتهم بشتى أساليب التهديد، وحرمانهم من أرزاقهم بمختلف أنواع الظلم، حتى بلغت ثروته حدّاً يصعب تقديره.. ولعلَّ ذلك الغنى قد أعمى بصيرة قارون، فلم يخطر بباله، ولم يدر بخلده، أنَّ ما يملك من الأراضي والبساتين والقرى، وما يجمع من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وما يكدس من الغلال والأرزاق في المخازن والمستودعات التي كانت عصبة من الرجال تعجز عن حمل مفاتيح أبوابها.. أبداً لم يتفكَّر بأنَّ كلَّ ذلك من عطاء الله تعالى، وأنَّ ما آتاه إنما كان فتنة وابتلاءً، لأنه تعالى أعلم بما تنطوي عليه نفس هذا الرجل من الجشع والخداع، وما يبطن في قلبه من النفاق، وكفران النعمة..
ويبيّن لنا القرآن الكريم كيف أظهر قارون نوازع الشر الكامنة في نفسه، ليكون مثالاً للمستكبرين والمفسدين الذين يكذّبون دعوات المرسلين، ويتبعون الأهواء المضلّلة.. فقد عمدت عصبةٌ من بني قومه إلى نصحه ووعظه بألاَّ يكون أَشِراً ولا بَطِراً، وألاَّ يظلم ويبغي على الناس، إذ قالوا له:
يا قارون! لا تفرح بكثرة الأموال والكنوز، فإنَّ الله لا يحب الفرحين الذين يتباهون بالغنى، ويتطاولون على الناس بالسلطان. وابتغِ فيما آتاك الله، من هذا الجاه والمال، الدار الآخرة، فتتصدق على الفقراء، وتقدمَ العون للمحتاجين، وتساعدَ بني قومك على تخفيف أعبائهم من العوز والجوع والمرض، وتريحَ أكتافهم - بقدر ما تستطيع عليه - من أثقال الهوان والذل، وأشكال المتاعب التي تحيط بهم من فرعون وملئه!.
بل وزادوا في نصحه، إذ قالوا: ولا يعني رجاؤنا، في الحدب على بني قومك، أنْ نحولَ بينك وبين ما أنت عليه من المكانة والثراء، ولكن نقول لك: إفعل الخير، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا، فهي لك بملاذّها وأطايبها، فَكُلْ من طيبّات ما رزقك الله، وتمتع بحياتك، كما يتمتع به العاقل المؤمن، الذي يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وإنْ كانت الآخرة خيراً وأبقى!.. وأحسن يا قارون، بالصدقات، كما أحسن الله إليك، فما أنت عليه من الملك، وما جمعت من الثروات في الأوعية، إنما هو مما أتاك الله من إحسانه وفضله، وقد جعل فيه نصيباً للفقراء، والمساكين، واليتامى، والسائلين والمحرومين، وغيرهم من العباد المحتاجين، فلا تقابل عطاء ربّك الواسع بالكبر والاستعلاء، ولكن بالجود، والعطف، والرأفة..
يا قارون، إنَّ الله تعالى يمقت أهل البغي والفساد في الأرض، فما استلاب حقوق الناس، واستغلال جهود المقهورين، والتحكم بالرقاب إلاَّ ظلم للعباد.. وما الدسيسة، وشراء الضمائر بالرشوة إلاَّ البغي على الناس! فهذا كله فسادٌ وإفسادٌ، والله جلَّ وعلا لا يحب الذين يعيثون في الأرض فساداً، ولا يحب الفرحين الذين أبطرهم الغنى والسلطان.
وكان جواب قارون على كل ذلك النصح - كما يبيّنه القرآنُ الكريم - أنْ قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القَصَص: 78].
وهذا هو الضلال المبين الذي وقع فيه قارون، وهو يظن أنه أُوتي المال الكثير، والجاه الواسع بخبرته وخداعه ومكره.. ولولا كفاءاته وقدراته ما أولاه فرعون ما أولاه، ولما كان له هذا النفوذ في بلاطه، وتلك الشهرة في أرجاء مملكته!.
ويبدو أنَّ جواب قارون القاطع لبني قومه إنَّما يعني بأنَّ الملك ملكه، والكنوز كنوزه، وليس لأحد أنْ يتدخل بأمر من أموره، أو شأنٍ من شؤونه.. فهو لا يريد أنْ يتصدق على الفقراء، أو يعطي المحتاجين، أو يساعد المحرومين.. لا بل وسحقاً لهم جميعاً، فهم قد جلبوا الشقاء لأنفسهم، لأنهم لم ينصاعوا لفرعون وأوامره!. فلماذا يحمل همومهم، ويُربِكُ نفسه بمشاغلهم، وهو غنيّ البال عن ذلك؟!.
وإنها لمقولة المغرور، الذي طبع الله على قلبه، ففُتِنَ بالمال، وعُمِيَ بالسلطان، فنسي مصدر النعمة، وحكمتَهُ تعالى في الإنعام على عباده!. ألم يعلم بأنَّ اللَّهَ تعالى هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب، فإنْ رَزَقَ المؤمنَ فلكي يمتحنه، وإنْ رزق الكافر فليبتليَهُ؛ وما كان مالُ قارون إلاَّ ابتلاءً عظيماً من ربّه، ليكون مثالاً لكل جاحد متكبر، وليكون نموذجاً مكروراً في البشرية. فكم من الناس الذي يظنُّ أنَّ علمه وكدَّه هما وحدهما سبب غناه، وأنَّ له أنْ ينفق أو يمسك كما يشاء، وأنَّه غيرُ محاسَبٍ على ما يُفسد بالمال أو ما يُصلح!.. وهذا تفكير كلِّ مارقٍ من البطرين، الأشرين الذين لا يراعون في الناس إلاً ولا ذِمَّةً، ولا يراعون لله جلَّ وعلا حقّاً ولا فضلاً، لأنهم لا يؤمنون بأنه هو الرزّاق، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممَّن يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير..
لقد كان قارون يتوهم بأنه جمع ماله بعلمه، ولم يتفكَّر بأنَّ كثيرين - غيره - من السابقين، كانوا أكثر منه مالاً وغنًى وثروة، ولكنَّ اللَّهَ سبحانه أهلكهم جميعاً، هم، وثرواتهم..
وكان من عادة قارون أنْ يخرج، ومظاهر الزينة والخيلاء تحفُّ به من كل جانب، لكثرة مَنْ حوله من الأتباع، والموالي والحشم والخدم الذين يسخَّرهم لمآربه..
ومثل تلك المظاهر تبهر - عادةً - الذين يريدون الحياة الدنيا، فكانوا إذا اصطفّوا للتفرّج على خروجه بزينته قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون من المال والثروة، وهذه الوجاهة من المكانة والعزّة، «إنَّه لذو حظٍ عظيم»!.. أما الذين آتاهم الله تعالى العلم والإِيمان، فكانوا يقولون لهم: ويلكم أيها المغترّون بالمال والجاه، ألا تعلمون أنَّ الغنى الحقيقي هو غنى الإيمان والطاعة؟! وأنَّ ثواب الله خيرٌ وأبقى، لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يُلقَّى الجنة، بهذا الثواب، إلاَّ الصابرون على طاعة ربّهم، الهاربون من معصيته، وأنَّ الدّار الآخرة - واللَّهِ - لهي الحياة التي ينشدها المؤمنون، وهي خيرٌ مما أوتي قارون، وكلُّ من هم على شاكلته من أهل الغنى، والبطر والفساد لو كانوا يعلمون!..
ويشاءُ اللَّهُ ربُّ العزة والجلال، أنْ يجعل من قارونَ مثلاً للذين يفسدون في الأرض من الجاحدين، والمستكبرين، والظالمين.. فيبيّن في قرآنه المجيد أنه خسف به، وبداره (وما فيها من الكنوز والثروات، ومن معه من الأتباع، الذين ساروا على دأب سيدهم المتكبر) حتى ابتلعتهم الأرض في باطنها، ولا يعلم أحدٌ مستقراً لهم إلاً اللَّهُ سبحانه وتعالى. فهل قَدِرَ قارون أنْ يدفع عن نفسه أمرَ الله لمَّا جاءه؟!.. وهل وجد مَن ينصره ويخلِّصه من عذاب الله الذي حلَّ به وبمن معه؟ كلاَّ ، لم يجد مَن يمنع عنه الهلاك، أو مَن يدفع عنه العذاب، وما كان قارون من المنتصرين بفعاله، ولا من الناجين من عقاب الله وعذابه!..
وطلع الصباح على الذين تمنّوا بالأمس أن يكونوا مكان قارون في الغنى والجاه، فإذا هم نادمون، يقول بعضهم لبعض: ويلكم، وعجباً لأمركم، ألا ترون أنَّ الله تعالى بكل شيء عليمٌ، يوسع الرزق لمن يشاء، ويضيّق الرزق على من يشاء؛ فلو أنَّ الله منَّ علينا بـمثل ما منَّ على قارون، ثم خسفَ بنا كما خسف به، لَكنَّا من الخاسرين.. وما لنا ألاَّ نؤمن بـالله تعالى ونرضى بعطائه ونعمه، فنبتعد عن الأهواء والشهوات التي تردي أهل الكفر، لأنه لا يفلح الكافرون، مهما كانوا عليه من النجاح في هذه الحياة الدنيا؟! أما في الآخرة، فسوف يصلون نار السعير التي أُعدت للكافرين والمتكبرين، مثلما أُعِدّت الجنة للمؤمنين الذين لا يريدون علواً في الأرض، ولا يبغون فساداً بين العباد، والعاقبة للمتقين.
الفقرة الثانية - الجدال والحجاج
1 - لقد صرَّف الله في القرآن للناس من كل مثل، وكان أكثر شيء في الإنسان جدله.
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *} [الكهف: 54].
أول ما يجب أن يستوقفنا في هذه الآية الكريمة قول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} [الكهف: 54]، الذي يوحي بأنَّه تعالى هو المتصرّف بكل شيءٍ، وبمقتضى هذا التصرّف الذي ينمُّ عن مشيئته المطلقة، جعل في هذا القرآن للناس مثلاً - جنساً - من كل مثل، ليكون في هذه الأمثال «الأجناس» ما يهديهم إلى الحقائق، ويأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاح حياتهم وآخرتهم.. ولذلك نجد في القرآن من كل مثل عن قضايا الخلق والحياة، وعن شؤون الناس وأحوالهم، وعن تقلبات النفس وأهوائها، وعن القيم والمثل الرفيعة وأضدادِها.. أي عن كل ما يتعلق بالأمور العقائدية، والفكرية، والشعورية والسلوكية التي تهمُّ الإنسان في مبدأه ومعاشه ومعاده، بالإضافة إلى ما تتناول هذه الأمثال من أمورٍ غيبّية كـالملائكة، والجنة، والنار، والقيامة، والحساب التي شاء ربُّنا تعالى أن يقرّبها إلى أذهاننا، فلا تبقى معاني مجردة، ومعجمة على أفهمامنا بل مصوّرة ومجسَّدة بـالمثل القرآني، فلا تعود تشغل بالَ الإنسان، ويريد أجوبة عليها، لأنه يجد في أمثال القرآن الكريم ما يشفي غليله حولها...
وبالفعل فإن من يقرأ القرآن، ويفهم معانيـه، ويدرك بلاغته يجد فيه أمثلة كثيرة وجليلة تنطوي - في شموليتها ووضوحها، وأحياناً في تفاصيلها - على ما يتلاءم مع فطرة الإنسان السليمة في توافقها مع سنن الله تعالى التي من شأنها أن تزكي النفس البشرية، من خلال ما تدعوها للعودة إلى أصالتها، وما يمدُّها من الوسائل، وما يهديها إلى الطرق التي تقودها في درب الخلاص والصلاح.. بل وميزة الأمثال في القرآن أنها - بالإضافة إلى ما تقدم من البرهان والدليل والحجة - إنّما تخاطب العقل والقلب على السواء، آخذة بعين الاعتبار ما قد يبلغ الإنسان من درجات في الفهم والعلم، وما قد يتفاعل في نفسه من تنوع في الشعور والإحساس..
وعلى الرغم من عظمة هذه الأمثال فقد جادل فيها الإنسانُ، مثلمـا جادل في آيات القرآن كلها، في محاولةٍ ومسعى لمغالبة وقعها وأثرها على نفسه، والتنصل من مصداقيتها وحقيقتها في حياته، فكان في مسعاه، وكما وصفه خالقه {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *} [الكهف: 54].
والهالة النورانية التي تنسجها هذه الآية الكريمة تتجلى بأنها تغطي مساحة السلوك الإنسانيّ بأسره، لأن الله تعالى قد صرَّف في كتابه المبين للناس من كل مثل، فلا يعرضُ شيء يتعلق بالكون والحياة والإنسان إلا ونجد عليه مثلاً في هذا القرآن.. أما المؤمن فيعلم أنه الحق من ربّه تبارك وتعالى، فيتَّبعه، وينتفع به من غير أن يخاصم في مصداقيته.. وأما الكافر فيقوده ضلال نفسه إلى إنكار القرآن، كما أنكر من قبل جميع الكتب السماوية، فعارضَها، وجادل في آيات الله التي أنزلت في كتبه، كما كذَّب النبيين والمرسلين الذين كلِّفوا بإبلاغ الآيات عن ربّهم حتى كان ذلك الجدل من الكافر أكثر شيءٍ بروزاً في حياته، فلا يترك موقفاً أو مناسبة إلاَّ ويتصدَّى لما أنزلَ الله من آيات؛ ولا يتحرك في أي مجال أو ساحةٍ إلاَّ ويدافع عن معتقدات الكافرين والمشركين، فكان مقدَّراً أنْ يبقى على جداله وخصامه، وألاَّ يهتدي إلى طريق الله تعالى، بحيث لا ينتفع بآيات الله، مهما حملت من الوعد أو الوعيد!...
2 - ما ضرب الكافرون عيسى مثلاً في عبوديته لله تعالى إلاَّ جدلاً
أ - مَثَلُ خلق عيسى عند الله كمثل آدم.
يقول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [آل عِمرَان: 59].
إنَّ خلق عيسى ابن مريم من غير أبٍ قد يبدو أمراً غريباً عند كثير من الناس؛ ولكنَّ المؤمنين يعلمون أنه أمرٌ سهل ويسير على الله العلي القدير؛ وقد جعله كذلك ليكون أقطع للخصومة، وأوقع في النفوس، إذ كما خلق الله آدمَ من تراب الأرض، من صلصال كـالفخار، ثم قال له: كن، فاستوى بشراً سويّاً، وكذلك كان خلق عيسى من أمه الطاهرة مريم بنت عمران، ولم يمسسها بشَرٌ، حتى يكون خلقه بكلمة «كن» تعبيراً عن أمر الله، الذي يبيّنه قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس: 82]، فلا يعجبنَّ أحدٌ، إذاً، أن يكون خلقُ عيسى ابن مريم (عليه السّلام) خلافاً لنظام الزوجية الذي جعله الله تعالى سنةً لتوالد البشر، باجتماع الزوجين الذكر والأنثى، لأنَّ خلقه (سلام الله عليه) من الأنثى وحدها، إنما هو تعبيرٌ عن مشيئة الله المطلقة، إذ لمجرد «كلمة: كن» فيكون الشيء، وبهذه الكلمة يكون الخلق والإنشاء، ويستوي التقدير والتدبير.. ويمكن أنْ نتبيّن هذا الأمر بوضوح في الحوار الدي دار بين الملك جبرائيل الأمين، والمصونة الطاهرة مريم بنت عمران (عليهما السّلام) ، إذ لمَّا أرسل الله تعالى إليها جبريل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *} [مَريَم: 17]
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *} [مَريَم: 18].
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *} [مَريَم: 19].
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *} [مَريَم: 20].
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا *} [مَريَم: 21]، أي قال لها جبريل (عليه السّلام): الأمر كذلك من خلق غلام منك من غير أبٍ، وقد أرسلني لأهب لك غلاماً زكياً بالنفخة، وقد قال ربّك هو أمرٌ عليه هيّن سبحانه وتعالى، وقد أراد أن يجعله آية للناس على قدرته، ورحمةً منه لمن آمن به؛ وكان أمره تعالى مقضياً ومحققاً.
أجل، كلُّ شأنٍ، وكلَّ أمرٍ هو على الله تعالى هيّنٌ، لأن الذي أبدع خلق السماوات والأرض، من غير مثالٍ سابق، أهون عليه أنْ يخلق بشراً من غير أب، أليس ذلك ما يقرُّهُ العقل والوجدان؟ بلى، لأنه تعالى هو الخلاق العليم، وأمره هو «كلمته» فإذا قال للشيء: كن، فيكون، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس: 81-82]، وعلى هذا الأساس فلا يجوز أن نبني أمرَ الله تعالى، سواء في الخلق أو في غيره، ممَّا تفرَّد به ربُّ العزة والجلال، على مقاييس الإنسان المحدودة، وقوانينه المتباينة، وأنظمته المتقلّبة.. فـلّله تعالى في خلقه شؤون تحكمها سننٌ مقدرة، ثابتة، لا تبديل فيها ولا تحويل إلاَّ أنْ يشاء هو سبحانه أنْ يبدّل أو يحوّل في سننه، وللحكمة والموعظة التي يريدها من ذلك.. ولقد كانت الحكمة والموعظة في خلق عيسى ابن مريم ما يثبته قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً} [مَريَم: 21]...
وإذا كانت سنة الله في الخلق أنْ جعل في كل جنس من الأحياء نظاماً معيناً للتوالد والتكاثر، ويقوم على الزوجين الذكر والأنثى، فإنه نفس النظام الذي يقوم عليه خلق بني آدم، وذلك بالتزاوج ما بين الرجل والمرأة (الذكر والأنثى)، وإنَّ الخروج عن هذا النظام، محال أنْ يكون إلاَّ بأمر الله تعالى، كما كان أمره سبحانه عندما خلق عيسى ابن مريم (عليه السّلام) من غير أب، ليجعله وأمَّه العذراء، آيةً للناس ورحمةً، بل وحجةً عليهم تذكرهم بأنَّ الله هو الخالق العظيم، وأمره في الخلق أن يقول للشيء: {كُنْ فَيَكُونُ *} [غَافر: 68]..
وكذلك فإنَّ من الخروج على المقومات التي أودعها الله تعالى في الرجل والمرأة للإنجاب، إحياء تلك المقومات بعد مواتها، في المرأة العقيم، لتعود فتحمل، وتلد.. وهذا هو الشأن مع زوجة إبراهيم (عليه السّلام)، إذ كانت السيدة سارة قد بلغت من الكبر عتيّاً (التسعين من عمرها) عندما جاءتها وزوجَها البشارةُ على لسان الملائكة بأنَّ الله يبشرهما بغلام حليم، فأقبلت من مخبأها، والعجب يأخذها مما سمعت، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ *} [الذّاريَات: 29]!. وكان جواب الملائكة من رسل الله: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ *} [الذّاريَات: 30] أي مثل قولنا في البشارة، قال ربك: بشروها بغلامٍ حليم، وما قال ربُّك هو الحق، وهو عليه هيّن، إلا إنه هو الحكيم في صنعه، العليم بخلقه..
ب - الجدال والمخاصمة في خلق عيسى ابن مريم (عليه السّلام)
يقول الطبريّ: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل هذه الآية حجة لنبيه محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) على وفدٍ من نصارى نجران الذين حاجّوه في عيسى (عليه السّلام) .. وذلك أنَّ رهطاً من أهل نجران قدموا على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): من هو؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبدُ اللَّه!! فقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): هو عبدُ اللَّه، وروحه وكلمته. قالوا: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره. فهل رأيت قط إنساناً خلق من غير أب؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عِمرَان: 59]»[*].. الآية.
ويبدو أنَّ بعض المشركين الذين كانوا يعبدون الملائكة، قد أخذتهم البهجة عندما سمعوا بهذه الآية الكريمة، فقالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدمياً، ونحن نعبد الملائكة، فنزل قولُ الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ *وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ *إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ *وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ *} [الزّخرُف: 57-60].
لقد أشرنا من قبل إلى تصدّي المشركين، ومن حالفهم من الأحزاب، للدعوة الإسلامية منذ ظهورها، وكان من أبرز وجوه ذلك التصدي ما تمثل في معركة الجدال التي دارت على أشدّها بين النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في دعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد، وبين المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان أو الملائكة، أو غير ذلك!.. وفي خضم ذلك الجدال تنزَّلت الآيات التي تتوعد المشركين بأنهم سوف يكونون «هم»، وما يعبدون من دون الله - مما يعتبرونها «آلهة» - وقوداً للنار..
ويروى عن الكافر ابن الزعبري أنَّه كان أكثر شيء جدلاً في آيات الله؛ فلما نزل وعيدُ الله، وتهديده للمشركين بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ *} [الأنبيَاء: 98-99]، أجل لمّا سمع ذلك الكافر تهديدَ الله، جاءَ إلى النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وقال:
- أهذا لنا ولآلهتنا ولجميع الأمم يا «محمد»؟!
وكان جوابه (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قاطعاً:
هو لكم يا مشركي مكة، ولآلهتكم المزعومة، ولجميع الأمم التي كفرت بالله وآياته!..
قال ابن الزعبري:
- خصمتك يا «محمد» - وربّ الكعبة - أليس النصارى يعبدون عيسى ابنَ مريم، واليهودُ عزيراً، وبنو مليحٍ الملائكةَ؟ فإنْ كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أنْ نكون وآلهتُنا معهم!..
واتخذ المشركون من جدال ذلك الكافر اللعين مادةً للسخرية والتندّر، وفي ظنهم الموهوم أنَّ «محمداً» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قد أصبح في موقف حرج، فلا يستطيع أنْ يدفع جدالهم ومخاصمتهم!.. ولكن نسوْا أنَّ الله تعالى هو السميع البصير، فأنزل من الآيات القرآنية ما فيها النفي المطلق لآية شبهةٍ حول عيسى ابن مريم (عليه السّلام)؛ وأنَّ كلَّ ما يتقوَّلونه حول هذا النبيّ الكريم - أو حول عزير، أو الملائكة - من اتخاذهم أرباباً أو آلهة من دون الله، إنّما هو باطل، ولا أساس له من الصحة، لأنهم جميعاً عباد لله تعالى، وسوف يُخاصمون - هم - كلّ من افترى عليهم بمثل ذلك الإدعاء الباطل يوم الحساب.. كما تبيّن الآيات القرآنية أنَّ ما توهمَّهُ المشركون حول هؤلاء العباد، وما جعلهم فرحين مستهزئين، فيضحكون ويصفّقون له، ليس إلاَّ جدلاً ومخاصمةً للنبي (عليه السّلام)، كما يبيّنه قول الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ *وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ *} [الزّخرُف: 57-58].
ويبدو واضحاً من ترابط الآيات الواردة في سورتي الأنبياء والزخرف، أنَّها لا تتناول، لا من قريب ولا من بعيد، ما ضربوه مثلاً عن عيسى (عليه السّلام) بقولهم: رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى، أو العزير أو الملائكة.. لأنَّ تلك الآيات الكريمة وإنَّما تنزَّلت لدحض جدالهم، وإخراس ألسنتهم، ومن ثم لتؤكّد أنَّ المشركين، والآلهةَ الصنميَّة التي يتعبدون لها من دون الله تعالى، هم جميعاً وقود جهنَّم وهم لها واردون، كما قضى الله بذلك.. ولو كانت تلك المعبودات من الأصنام والأوثان «آلهةً»، كما يزعمون، لما كانت هي ومن يتعبَّدها من المشركين وقوداً للنار، خالدين في جحيمها المشتعل[*].. ولذلك وحيثما ورد في القرآن تنزيه النبي عيسى (عليه السّلام) عن أية شبهةٍ حول ألوهيته وربوبيته، فإنَّ هذا التنزيه يجعل بذاته أقوال المشركين حول ما عَنَوْا به عن عيسى - أو العزير أو الملائكة - مجرَّد مغالطة فادحة تنمُّ عن المشاعر التي نفثها الشيطان في صدورهم، فأطلقوها صيحات للسخرية، وتصفيقاً وهزواً لكي يجعلوا مبرراً لأنفسهم في عبادة الأصنام، ولو كان المبرر مجرد تلك الأقاويل الباطلة، ومثل ذلك الضحك والتصفيق.. أما غايتهم الخبيثة فهي العمل على طمس الحقائق التي يتنزَّل بها القرآن؛ ولكنَّ آيات الله تعالى تفضح نواياهم، عندما تبيّن أنَّ المشركين ما ضربوا المثلَ للـنبيّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عن عيسى (عليه السّلام) بآلهتهم أي ما شَّبهوها وإيَّاهُ (سلام الله عليه) بالمصير، إلاَّ جدلاً وخصومة بالباطل، ليبعدوا فيه عن الحق.. فعندما يستعمل القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين لفظة «ما» وهي لغير العاقل، التي وردت بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبيَاء: 98]، فهي البرهان الساطع على أنَّها تتناول المشركين بقوله {إِنَّكُمْ} [الأنبيَاء: 98]، وتتناول أوثانهم وأصنامهم ومعبوداتهم من غير العاقل {وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبيَاء: 98]، بحيث يستقيم المعنى عندما يأتي الوعيد منصباً عليهم (كمشركين)، وعلى آلهتهم (كأشياء جامدة): وكان يجدر بهم وهم أهل الفصاحة والبلاغة، أنْ يتبيّنوا هذا الفارق اللغوي، لكي يدركوا أنَّ الله جلَّ وعلا أراد أنْ ينزّه نبيَّه وعبده عيسى، عن كل ظنونهم، وادعاءاتهم الباطلة، بينما هم أرادوا أنْ يجعلوه مثلاً لمجرد الجدال والخصام، فكانت عاقبتهم، هم وآلهتهم، إلى النار خالدين فيها.. لا بل ويبيّن القرآن الكريم أنَّ ايَّ عبدٍ من عباد الله يدّعي الألوهية، ولو قولاً، فذلك يكون جزاؤه جهنم، بقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ *} [الأنبيَاء: 29]، فأي مخلوق، أو كائن في الأرض أو في السماء، يقول: إني إلهٌ من دون الله ربّ العالمين، يكون ظالماً، والله عزَّ وعلا يدخله جهنَّمَ وبئس المصير.. كذلك، أي مثل هذا الجزاء في جهنم، يجزي الله تعالى الكافرين، والمشركين. وكلَّ الظالمين من أمثالهم..
بل والظنُّ أو الاعتقاد بأنَّ عيسى ابن مريم (عليه السّلام) هو الله، أو هو ابن الله فقد أبطله كثير من آيات القرآن المبين، ومنها آية المباهلة[*]، التي ما أن عرضها النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) على وفد نصارى نجران الذي جاء لمناظرة النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) حول لاهوتية عيسى (عليه السّلام) كما كان يدّعي ذلك الوفد.. أجل، ما أن عرض الرسول الأكرم عليهم المباهلة حتى امتنعوا عن الدخول فيها، لعلمهم الأكيد بما سيؤول إليه مصير المبتهلين إذا كانوا من الكاذبين!.. وما كان ذلك الرفض، إلاَّ لأنهم جاؤوا يجادلون النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لا أنْ يناظروه حول مسألةٍ أو حقيقةٍ ثابتةٍ وأكيدةٍ، وذلك لأنَّ المناظرة تكون - عادةً - بين فريقين، يرى كلُّ فريق نفسه على حقٍّ في المسألة التي تكون موضع نقاش، ولكنه يريد أنْ يبيّن الحقَّ - كما يراه - بطريقته ووسائله؛ أما الجدال فيكون بين وجهتي نظر مختلفتين، إحداهما تنطوي على حق، والأخرى على باطل، فيكون أحد الفريقين محقاً، والآخر مبطلاً. وما كان وفد نجران يريد - على ما يبدو - إلاَّ جدالاً، لا مناظرةً، فهربوا جميعاً من المباهلة، لأنَّ من شأنها في حال حصولها أن تبيّن الفريق الصادق من الفريق الكاذب، وأن تظهر الحقيقةَ التي تحقُّ الحقَّ وتزهق الباطل. وهذا ما تدلّنا عليه نصوص القرآن الكريم بما تحمل من أدلةٍ دامغة لكل من أراد أن يلقى السمع وهو شهيد.. وزيادة في بيان الحقيقة يذهب النص في «سورة الزخرف» إلى إظهار المشركين والكافرين على أنهم قوم خصِمون؛ فهم يجادلون في دفع الحق بالباطل، حتى يصيروا أخصاماً للحق وأهله مصداقاً لقول الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ *} [الزّخرُف: 58]..
ثم تتجلَّى مصاديقُ الآية الكريمة التي تلي، أي الآية (59) من (سورة الزخرف)، في توكيدها على حقيقة عيسى (عليه السّلام) «إنْ هو إلاَّ عبدٌ» من عباد الله أنعم عليه ربُّه بنعمة النبوة الكريمة، وجعله آية بيّنة - على قدرته تعالى - لبني إسرائيل، ولغيرهم من العالمين، وذلك بولادته من أمٍ دون أب، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ *} [الزّخرُف: 59]، أي وجعله الله شاهداً حيّاً يُضرب به المثل، للتدليل على قدرته تعالى في خلقه، وأنه سبحانه هو الخلاَّق العليم، يخلق ما يشاء، وهو على كل شيء قدير.. بل وجعله الله تعالى آيةً فريدةً في خلقه لبني إسرائيل، فلا يخالطهم أيُّ شك في قدرة الله تعالى، ولا يلتبس عليهم أي أمرٍ في نبوّة عيسى (عليه السّلام) لأنَّه تعالى أعلم بما في نفوس تلك الفئة من الناس، ولذلك فإنَّ الحجة على بني إسرائيل لم تكن في ولادته الفريدة وحسب، بل وفي نطقه وهو ما يزال طفلاً في المهد، إذ لمَّا أتتْ به أمُّهُ تحمله، قام أحبار بني إسرائيل يصبّون عليها جام غضبهم، ويتهمونها بما ليس هي فيه؛ ولم تحاول الطاهرة التي اصطفاها ربُّها على نساء العالمين، أنْ تدفع عنها اتهامهم الباطل، بل أشارت إلى طفلها كي يكلموه، وكانت الآية الربّانية عندما نطق عيسى (عليه السّلام) أمام الملأ من بني إسرائيل، مؤكداً عبوديته لله تعالى، وبعثه نبيّاً مباركاً، إذ قال لهم، وهو ما يزال طفلاً لم يبلغ أياماً من عمره، ما يبيّنه قول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *} [مَريَم: 30-32].. فتبارك الله الخالق العظيم، وتبارك القرآن الكريم الذي يبيّن لنا كيف جعل الله تعالى عيسى ابن مريم آيةً لبني إسرائيل، بل وآيةً ورحمةً للناس أجمعين، فيكون لديهم المثلُ الحيُّ، والدليل القاطع على قدرة الله تعالى، وعلى مشيئته المطلقة في خلقه، فيُقبلون على عبادة ربّهم حق العبادة، وعلى طاعته في الامتثال لأوامره ونواهيه.. ولكنَّ ذلك لم ينفع بشيءٍ مع بني إسرائيل، بل ظلَّ كثير منهم ينكرون نبوَّة عيسى ابن مريم (عليه السّلام) كما ثبت عبر تاريخهم في تكذيب أنبياء الله ورسله!.. وكذلك لم تنفع آيات القرآن المشركين والكافرين، الذين كانوا أشدَّ الناس لجاجاً في الخصومة بالباطل، شأنهم في الجدال والخصومة، لنصرة الباطل على الحق، شأن إنسان هذا اليوم الذي يحاول أنْ يفسّر أكثر أمور الحياة وفقاً لنوازعه وأهوائه ومصالحه، بعيداً عن الحق. بل هو يعتمد في أكثر الأحيان على ما يسميه «المنطق الجدليّ» المؤيد منه بحجج وبراهين يستنبطها ويبتدعها لتحقيق المآرب الشخصية، أو المنافع الذاتية، ولو كان فيها تعدٍّ على حقوق الآخرين ومصالحهم!.. وشأن الفرد في ذلك شأن الدول التي تسعى لتأمين مصالحها بصرف النظر عن الوسائل، والأساليب، والطرق والاستراتيجيات التي تستعملها لذلك؛ إذ «إنَّ الغاية عندها تبرر الوسيلة»، حتى ولو أدت بها الأمور إلى إلحاق الضرر بالآخرين، وهدر حقوقهم، وقتلهم، كما يحصل في أحيان كثيرة، عندما تعمد الدول الظالمة إلى تنفيذ مخططاتها، وتحقيق مطامعها ومآربها!.. ومثاله في الأمس ما حصل في إقليم «كوسوفو» على يد الصرب الذين خططوا لاقتلاع المسلمين من تلك المنطقة، فشنوا عليهم أقذر الحروب التي يمكن أنْ يشنّها الكافرون على المؤمنين، حيث كان من «مآثرها» - غير المشرفة -، والتي تصمُ أصحابها بالعار على أبد الزمان، التعدّي على كرامات المسلمين وحرماتهم، وتدمير ممتلكاتهم، وتهجيرهم من قراهم ومدنهم!. وأسوأ من ذلك كله - على بشاعته - المجازر الجماعية التي أنزلها الصرب بالمسلمين من جراء العنصرية العرقية، والتعصب الديني، والحقد الدفين، وغير ذلك من الخبائث التي ملأت نفوس الصرب، وجعلتها خاوية من أية ميزة أخلاقية، أو نزعة إنسانية.. فهل أشدُّ إيلاماً على المسلمين، وعلى كل أصحاب الضمائر الحرَّة في العالم من تلك الجرائم التي ارتكبها أولئك الصرب حوالي نهاية القرن العشرين، إلاَّ ما استجدَّ في مطلع القرن الحادي والعشرين، والـمثال ما يزال حيّاً، من الجرائم الإنسانية المتمادية التي يرتكبها الأميركيون - وقوات التحالف معهم - منذ احتلال العراق في آذار (مارس) عام 2003م، حتى قارب عدد الضحايا من العراقيين الذين سقطوا منذ بداية الغزو وحتى اليوم[*] ما يزيد على المليون إنسان من الأطفال والشيوخ والنساء، والشبان! وذلك إضافة إلى محاولات طمس معالم الحضارة في تاريخ العراق، ناهيك عن إثارة الفتن الطائفية والمذهبية وغيرها من المخططات الإجرامية التي يمارسها المحتلون الاميركيون وحلفاؤهم، بما يجعل صورتهم في العالم أشدَّ عتوّاً وظلماً وبشاعة من سورة البرابرة عندما احتلوا العراق في القديم..
أما أقرب المثال على كيد الكافرين أو عداوتهم للإسلام وأهله، بعد غزو العراق واحتلاله، فيتبَّدى في العدوان الصهيوني (الإسرائيلي) على لبنان في تموز (يوليو) عام 2006م؛ ويكفي للتدليل على الجرائم الإنسانية التي ارتكبتها الدولة العبرية بحق اللبنانيين، أنَّها ألقت على الأبرياء من قنابل طائراتها ما يفوق قوة القنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية فوق هيروشيما، وفوق ناكازاكي، وأنَّها غطَّت أراضي جنوب لبنان بما يزيد على مليون قنبلة عنقودية، وذلك إمعاناً في الإجرام، وقتل الناس بصورة مستمرة، ولمدة طويلة، طالما بقيت تلك القنابل موزعة على الحقول والبساتين، التي تشكل مصدر عيشٍ لأهالي تلك المنطقة!. ولعلَّ في غزو العراق واحتلاله، وفي الحرب الهمجية على لبنان وفي الجريمة المتمادية على الشعب الفلسطيني منذ عام 1948م.. ما «يبشر» بما سيكون عليه العالم في القرن الحادي والعشرين!! لأنَّ مثل هذه الحروب التي يشنّها الكافرون على بلاد المسلمين ليست إلاَّ صورةً واضحةً، بل وتعبيراً مثالياً للخصومة التي يكنّونها للإسلام والمسلمين؛ ولكنها، في الحقيقة؛ تعتبر رسماً بيانيّاً دقيقاً لكل من كان خصيماً لدين الله، وعدواً لأتباع هذا الدين، كما نفهم ذلك من قول الله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *} [النّحل: 4]، فالإنسان، وعلى الرغم من أنه مخلوق من نطفةٍ مهينة، من منيٍّ إذا يُمنى، وعلى الرغم من أنَّ يدَ خالقه اللطيف الخبير تنقله من طورٍ إلى طورٍ حتى يصير بشراً سويّاً، فإنه ينسى خلقه من تلك النطفة الواهنة، وينسى فضل ربّه تعالى عليه، وينسى هذه الصورة التي أوجده عليها في أحسن تقويم.. ينسى ذلك كله، أو أنه يتناساه، وبدل أنْ يشكر ربّه ويحمده، ويثني على نعمته، إذا به يخاصمه، ووسيلة خصامه مثل هذا الجدل الباطل في شؤون الدين (كراهية بالإسلام) وفي شؤون الدنيا (توهيناً للمسلمين).. والعلة أنَّ الجدل مستقر بالطبيعة البشرية لخصماء الحق، والتي تجنح بهم حتى تجعلهم أخصاماً مبينين الله رب العالمين..
أما قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ *} [الزّخرُف: 60]، فدليل آخر على أنه جلت عظمته لو شاء لبدَّل أهل الأرض بملائكةٍ يطيعونه، ولا يعصونه في أمر.. وهذا يعني أنَّ الملائكة (عليهم السّلام) مخلوقون جميعاً مثل بني آدم، وأنه سبحانه قادر على كل شيء، قادر على أنْ يبدّل أهل الأرض كلهم بمخلوقات غيرهم، أو أنْ يجعل من الناس أنفسهم ملائكةً في الأرض يخلفون على عمارتها بعد إهلاك أهلها الظالمين.. فإذا كان الله جلَّت قدرته قادر على أنْ يجعل من الناس ملائكة، فهل يكون عجباً أنْ يخلق عيسى (عليه السّلام) على المثال الذي خلقه فيه؟، فهو سبحانه القادر على أنْ يخلق ما يشاء من مخلوقات، وبالكيفية التي يشاء، سواء مثل خلق آدم من ترابٍ، أو مثل خلق عيسى من أمّةِ الطاهرة دون أن يمسسها بشر، وبلا فرق في ذلك بين المخلوق إبداعاً (آدم) أو توالداً (عيسى).. أما الغاية البعيدة في هذا السياق، فهي أنَّ الجنسين الملائكة والناس وهما مخلوقات، لا يصلحان للألوهية، لأنه لا إلهَ إلا الله، وهو الخالق الذي لا خالق غيره، ولا معبود سواه.
3 - ضربُ الكافرين بالملائكة مثلاً على اتخاذ الرحمن ولداً
يقول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ *أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينِ *وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ *وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ *} [الزّخرُف: 15-19].
فقد جعل الكفار - بحكم الظن الذي لا يستند إلى برهان أو دليل - لله تعالى أولاداً، حيث قالوا: الملائكة بنات الله!.. ولو كانوا يعقلون ما قالوا ذلك، وما نسبوا لله الولد، لأن نسبة الملائكة إليه عزَّ وجل إنَّما تعني إزالة صفة العبودية عنهم، كما أنَّ تخصيصهم بقرابة التوالد للَّه، إنَّما يعني إلصاق صفة الألوهية على هؤلاء الأولاد، لأن الولد جزء من الوالد. وهذا ما لا ينطبق على الملائكة، بل وليس له من موجب، لأنهم في الحقيقة عبادٌ لله، مخلوقون مثل سائر مخلوقاته، ولأنه يستحيل في الأصل أنْ يكون المخلوق ولداً لخالقه، أو قريباً له بصلة القرابة التي نعهدها في حياة الجنس البشريّ، والتي تقوم على رابطة التوالد والدمّ!.
وإنَّ ادعاء الإنسان بمثل هذا الظن الباطل، إنما هو الكفر الذي لا شبهة فيه، لأنَّ الله تعالى لم يلد ولم يولد، وقد نزَّه نفسه عن ذلك كله بقوله تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص: 1-4].. فعندما يجعل الإنسانُ لله مالك السماوات والأرض من عباده ولداً، فذلك هو إذاً الكفر البيّن، الواضح، والإنسان الذي يقول ذلك، أو يعتقد ذلك هو كفور، ظاهر الكفر، كما يبيّنه قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ *} [الزّخرُف: 15]..
ويستنكر الله جلَّ جلاله على أولئك المشركين من العرب؛ مثل ذلك التصور الأخرق، فيبيّن لهم، بمنطقهم وعرفهم، ما يبطل دعواهم، ويسفّه أحلامهم، وهم يزعمون بأنه اتخذ الملائكة - المخلوقين - بناتٍ، وأصفاهم، هم، بالبنين.. فأي مكرمة لهم عند ربّهم حتى يخصّهم هم - هؤلاء المشركون - بالبنين، ويتّخذ مما يخلق البنات؟!. وهل يستقيم ذلك مع العقل، أو يألفه الشعور؟ إنَّ قولهم ليس إلاَّ ضرباً من الجهل، الذي أعمى بصائرهم، وشلَّ مداركهم، فلم يعودوا قادرين على التمييز بين الخالق وعباده، وبين الوالد وما ولد، فوقعوا في الكفر الظاهر، وهو أعتى أنواع الظلم الذي يوقع الإنسان فيه نفسه.. بل وإنَّ منطق أولئك الكفار والمشركين من عرب الجاهلية - وممن يتوهمون أنَّ الخالق اتخذ من عباده ولداً له - هو الذي يكذِّبهم، ويبطل كل قول لهم من هذا القبيل، لأنهم، هم أنفسهم، عبادٌ لله تعالى سواء أقروا بذلك أم أنكروه. ومن أدب العبادة ألاَّ ينسب العباد لخالقهم ما لا يليق بجلال قدسه وعظمته، فكيف إذا كان هؤلاء العباد يستاؤون من شيء، ويكرهونه، ثم ينسبونه إلى ربّهم، الذي يملك التصرّف بحياتهم، وأولادهم، وبكل شيءٍ في الوجود؟!..
وأبعد أثراً من ذلك، أنَّ السماوات والأرض تكاد أنْ تتصدّع من اعتقاد جماعات من أهل الأرض عندما تدّعي أنَّ للرحمان ولداً!.. بل والحقُّ سبحانه وتعالى ينكر عليهم إنكاراً عظيماً أن يقولوا ذلك، بقوله الحق المبين: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا *وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} [مَريَم: 88-93].. أجل، كل من في السماوات والأرض، سوف يأتي ربَّهُ، يوم القيامة، عبداً ذليلاً، لا يبتغي إلاَّ رأفته ورحمته به، أفلا يعقلون مدى فداحة جريمتهم: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا *} [مَريَم: 91]؟!
وتلك هي حال كثير من عرب الجاهلية، الذين كانوا ينسبون إلى الله تعالى اتخاذ البنات، بينما هم يأنفون من أن تولد لهم بناتٌ، بدليل أنه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *} [الزّخرُف: 17].. فمن حيث مقتضى الحكمة الإلهية، فالأنثى من هؤلاء البشر الذين صورهم الله أحسن تصوير، وهي الأمُّ، والابنة، والأخت، والزوجة.. وهي بخلقها، ووضعها الاجتماعي، يجب أنْ تكون بشرى جميلة عندما تولد، كما يصفها خالقها بذلك {وَإِذَا بُشِّرَ} [الزّخرُف: 17] - الآية - والبشرى هي مما ينبيء عادة عن الخير.. أي الخيرُ بولادة الأنثى، ومع ذلك فالجاهلي الغبيّ، الذي لم يكن يقدّر نعمة هذا الخلق، كان يسوؤه كثيراً أن تولد له إبنةٌ، فإذا بشّر بها اسودَّ وجهه واكفهرَّ تعبيراً عما يجيش في قلبه من الكمد، والغيظ، لمجرد خبرها، فلا يجد ملجأً له من الخزي الذي يتوهمه، إلاَّ الفرار من القوم، والانفراد في عزلةٍ، لوحده، وهو كظيم مكروب، لا حيلة له ولا طول على ما بُشِّر به، إلاَّ أنْ يندب حظه وتعاسته!.. ثم تتضاعف عليه آلامُهُ وأحزانه، وهو يفكر: أيدسها في التراب، ويئدها طفلةً ما اقترفت ذنباً، أم يبقيها حيَّة، وفي حياتها كثير من القلق على مصيرها، وعلى مصير العشيرة التي ينتمي إليها؟!..
فأيُّ تفكير أخرق كان عند أولئك المشركين بأنْ ينسبوا لله تعالى «ممَّا يخلقُ بناتٍ»، ويكرهونهنَّ لأنفسهم؟! أو أيُّ شعورٍ بليدٍ كان يطغى عليهم، بأنْ يجعلوا لله البنات، وهنَّ من يُنَشَّأْنَ، عادة، بالحلى، والزينة والدعة نظراً لطبيعة خلقهنَّ الأنثوي من الرقة، وعدم احتمال الشدة كـالرجال؟! ولعلَّ هذا الضعف في البنية الجسدية، ما كان يجعل المشركين ينظرون إلى النساء على أنهنَّ ضعاف العقول، فلا يملكن الحجج والبيّنات التي يملكها الرجال إذا احتدم خصام، أو نقاش!.. ولذلك لم يكونوا يدعونَهُنَّ للمشاركة في مجالسهم، ونواديهم، لأنهنَّ يجب أن يبقين بعيداً عن اتخاذ المقررات، والأمور التي يعزم عليها القوم!..
أما أكبر الهموم تجاههنَّ فكان اعتبارهنَّ مجلبَةً للعار والشَّنَار، إذا غزتهم قبائل أخرى، لأنه لا قدرة لهنَّ على حماية، ولا حيلة في دفاع أو ذود عن الحياض، بل ربما يتعرَّضْنَ للسبي والعبودية، مما يحطّ من شرف القبيلة كلها، ويخزيها في أعين العرب جميعاً..
وعلى الرغم من تلك النظرة إلى النساء، بمختلف سلبياتها، كانوا يتوهمَّون بأنَّ الله تعالى خلق الملائكة إناثاً، واتخذهنَّ بناتٍ!... فهل بعد أشدُّ رعونةً من تلك الجاهلية الحمقاء البلهاء التي كانت تحمل المشركين على مثل ذلك الظنَّ بالله العلي العظيم؟!..
ولئن كانت الجاهلية قد أغرقت المشركين في ظلمات عاداتٍ ذميمةٍ كانت تصل إلى حدّ الإجرام، ومثالها الصارخ وأد البنات، فإنَّ تلك الجاهلية هي نفسها التي جعلت تصورهم عن الملائكة بأنهم أناث، وطبعاً، من غير أنْ يكون لديهم أية بيّنة على ذلك !...
وهنا يسأل القرآن الكريم (لإزالة تلك الشبهة لدى المشركين، بل ولدى كل من يكون لديه نفس التصوّر عن الملائكة): وكيف يعرفون أنَّ الملائكة بناتٍ؟ أشهدوا خلقهم؟ أم هل رأوا الملائكة أو عاينوا خلقهم حتى علموا جنسهم من الإناث؟
ولا بدَّ هنا من الإشارة إلى إحدى البديهيات، وهي أنَّ الادّعاء بصحة الشيء - إنْ لم يكن من الحقائق الثابتة - يفترض أنْ يكون مصحوباً بالدليل الذي يثبته، ويبيّن ماهيته.. وهم، عرب الجاهلية، لم يكن لديهم أي دليلٍ أو برهانٍ على جنس الملائكة، لأنهم - بكل بساطة - لم يشهدوا خلقهم في السماوات، ولم يعيشوا معهم على الأرض؛ ثم إنَّ ما يمكن أنْ نستوحيه من الآيات القرآنية، التي تأتي على ذكر الملائكة، أنهم كائناتٌ حية، ذواتُ أجسام لطيفة، يعجز البشر عن رؤيتهم، إلاَّ إذا تحوّلوا عن هيئتهم الملائكية إلى هيئة بشر، كما هو الحال بالنسبة إلى جبرائيل الأمين، عندما تمثَّل للسيدة مريم العذراء بشراً سويّاً، أو عندما كان يتمثل للنبي محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بشراً سوياً، في بعض الأحيان، ناقلاً الوحي إليه من ربّه تعالى - مثلـما كان ينقل الوحيَ إلى سائر النبيين والمرسلين لأنه أمين الوحي - ثم لا يلبث بعد أن يؤدي مهمته أن يعود إلى جنسه الملائكي لكي يستطيع العروج إلى السماوات؛ فإذا كان شأن الملائكة كذلك، فإنَّ قول المشركين عنهم بأنهم أناث، وبأنهم بنات الله، لا يعدو ذلك القول من أنْ يكون مجرد زعم باطل، وزورٍ فاضح لحقيقة خلقهم، فكان عليهم احتمال تبعة مقولتهم التي تشهد على كذبهم وافترائهم على الله تعالى، وستكتب شهادتهم عليهم، وتدون في صفحات كتابهم، لأنهم سوف يسألون عنها يوم الحساب، يوم يكون كلُّ شيء حاضراً بين يدي الله عزَّ وجلَّ!. فالمشركون قد شهدوا باطلاً، وشهادتهم سوف تحفظ لحين حسابهم، فيُواجهون بها، وسوف يترتب عليها العقاب - حكماً - والعقاب يكون بقدر الوزر أو الجرم الناجم عن المسؤولية.. بل ولقد ذهب المشركون إلى أبعد من ذلك، فقد افتروا على الله تعالى بأنه هو الذي لم يمنعهم عن عبادة الملائكة، ولو شاء سبحانه ما عبدوهم، فيلاحقهم آيُ الذكر الحكيم على هذه الفرية العظيمة، وعلى ما صاغوه حولها، بإبطال ما قالوا، وتكذيب ما ظنوا، وذلك بقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ *} [الزّخرُف: 20].. ويبدو أن تفكير الكفار والمشركين من عرب الجاهلية قد انعقد على سلسلة من المغالطات:
فقالوا: إنَّ الملائكة إناث..
وقالوا: إنَّ الملائكة بنات الله..
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزّخرُف: 20]..
وهكذا رتَّبوا المسؤولية في عبادتهم للملائكة على الله جلَّ وعلا، وذلك بزعمهم أنهم ما عبدوا الملائكة إلا برضى الله، ولو شاء الرحمن ما عبدوهم!.. وتلك المقولة إنما هي بدعةٌ من عند أنفسهم، فليس لهم علمٌ بأنَّ الله قد ارتضى لهم عبادة الملائكة، ولا يملكون دليلاً أو برهاناً على أنَّه لو شاء الرحمن ما عبدوهم، فإنْ هي إلاَّ مزاعم كاذبة، وتصورات خاطئة يريدون بها إحالة الباطل من عندهم على الله جلَّ شأنه!.. وهنا الخطأ الفادح الذي أوقعوا أنفسهم به: فإذا كانوا يعتقدون بأنَّ عبادتهم متعلقة بما يشاء الله، ويرتضي لعباده، وأنه لو شاءَ ما عبدوا الملائكة، فلماذا لم يصدقوا، إذاً، رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي كان يدعوهم لعبادة الله وحده - وهذا أليقُ وأسمى بالعبادة - بل كانوا يصرُّون على الشرك، ويتخذون من دون الله أنداداً له {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا *} [الإسرَاء: 43]؛ فالقضية ليست في إحالة عبادتهم على مشيئة الله عزَّ وجلَّ، بل لأنهم لم يؤمنوا بوحدانية الله، وبأنه لا شريك له، فكان أن طغت عليهم الوثنية، فأشركوا، وعبدوا آلهةً مزعومة، إنْ هي إلاَّ أسماء سمّوها ما أنزل الله بها من دليل ولا برهان، ثم أحالوا عبادتهم الباطلة تلك على الله جلَّ شأنه..
بل وكانوا يزعمون أنه لو شاء الله ما عبدوا من دونه من شيء، لا هم، ولا آباؤهم، ولا حرَّموا من دونه من شيء، يقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ *} [النّحل: 35]، فقد كانوا يحرّمون السائبة، والبحيرة، والحام وغيرها من الأنعام والحرث، ويجعلون فيها نصيباً لله، ونصيباً لآلهتهم، ثم يقولون: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، ولا حرَّمنا من دونه من شيء، نحن ولا آباؤها، فإشراكنا وتحريمنا هو بمشيئة الله!.. ولكنَّ الحقَّ تبارك وتعالى يكذبُّ أباطيلهم تلك، لأنَّ ما يقولون ويفعلون إنْ هو إلاَّ تقليد توارثوه، فلّما جاءهم رسولٌ من أنفسهم يدعو إلى ترك تلك العبادات الموروثة كذَّبوه، كما كذّب الذين من قبلهم رسلهم، وهو ما يبيّنه قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ *} [الأنعَام: 148]... فإحالة شركهم وتحريمهم، هم وآباؤهم، إلى مشيئة الله تعالى، إنْ هو إلاَّ افتراء كاذب، إذ كما كذَّب هؤلاء المشركون من أهل مكة، كذلك كذَّب الذين من قبلهم حتى أتاهم عذاب الله فذاقوا بأسه الشديد.. وهنا يأتي خطاب الله تعالى للنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بما مؤداه قل لهم يا «محمد» هل عندكم من علمٍ بأنَّ الله عزَّ وعلا يرضى لكم الشرك، ويرضى أنْ تحرّموا من أنفسكم ما أحلَّ الله لكم ولعباده من الأنعام والحرث؟ فإنْ كان عندكم شيءٌ من علمٍ بذلك فأخرجوه لنا بالبيّنة والدليل!.. والحقُّ أنْ لا علم عندكم بشيء مما تدَّعون، إنْ تتبَّعون فيه إلاَّ الظن و{إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يُونس: 36]؛ وإنْ أنتم إلاَّ تكذبون في هذا الظنّ الآثم..
ذلك ما كان المشركون يظنون.. وذلك منتهى الكفر والضلال، ومنتهى البهتان، وتزوير الحق، كما يتجلّى في تكذيب ربّ العالمين لهم بقوله العزيز: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ *} [الأنعَام: 148].. فالحقّ أنهم كانوا لا يوقنون بعبادة الله الواحد الأحد، لا شريك له.. ولا يمكن أنْ يحصل لهم مثل هذا اليقين، ما داموا يشركون في عبادة الله - والعياذ بالله - الملائكة، أو الأوثان والأصنام، أو غيرها من التصورات الموهومة.. فكل ما يدَّعون من الإحالة إلى «ما شاء الله» أو «لم يشأ» مالهم به من علمٍ، إنْ هو إلاَّ كذبٌ من عندهم، وباطل مبنيّ على الكفر..
4 - جدال المشركين حول صفات محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بما ضربوا له الأمثال
يقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفُرقان: 7 - 9].
وهذا نوعٌ جديد من جدل التفكير، الذي يغلب عليه الشك الحائر!.. فالذين لم يؤمنوا بأنَّ سيدنا محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) هو رسول الله وخاتم النبيين، يغلب عليهم الظنُّ - أكثر من الاعتقاد - أنه لو كان محمدٌ رسولاً، لكان ربُّه أمدَّه بالمعجزات التي تصدّق بعثه برسالة الإسلام؛ أما وأنَّه يعيش حياته فيأكل مثل غيره، ويروح ويجيء في الأسواق، فهو ليس برسول!.. فتلك كانت ظنون المشركين، وما كانوا يجادلون به ليدحضوا - بزعمهم - نبوَّته.. إذ كانوا يقولون:
ما لهذا الرسول يأكل الطعام كما يأكل الناس، ويمشي في الأسواق طلباً للمعاش مثل أي بشر آخر؟ أي أنهم كانوا يتوهمون بأنَّ الرسول يجب ألاَّ يكون بشراً مثلهم.. ثم يعقّبون على ذلك بقولهم: لو كان حقاً مبعوثاً من الله، فلماذا لا يُنزَلُ إليه ملكٌ من ملائكة السماء، فيكون معه نذيراً لما يتوعدهم به من عاقبة الكفر والشرك؟!
ذلك مبلغهم من العلم.. وقد غاب عنهم بأنَّ العزيز الحكيم قد قضى بأن يبعث الرسل من الناس أنفسهم، لأنهم يحسون بأحاسيسهم، ويستشعرون أشواقهم، ويقدّرون بواعثهم، ومن ثَمَّ فهم يعطفون على ضعفهم ونقصهم... وبمثل هذه الصفات يجد الناس في الرسول المبعوث إليهم إنساناً مثلهم، يعيش معهم وفيهم، ويقوم كما يقومون هم بالأعمال والتكاليف، لا تميّزه عنهم إلاَّ سماتُ النبوّة التي تعصمه عن الخطأ، وتجعل شخصيته ترجمة حيّة للعقيدة التي يحمل ويبلّغ، بحيث تكون حياته، في أقواله وأعماله، وفي حركته وسكنه، صفحةً مكشوفة أمام أسماعهم وأبصارهم تعرض تجاربهم، وتعالج مشاكلهم، وترسم آمالهم. وهكذا تكون نفوسهم أقرب إليه، لأنه مثلهم، بدلاً من أن يكون مَلَكاً له طبيعة غير طبيعتهم، وله طريقة في الحياة غير طريقتهم في كل شيء، فلا يأكل ولا يمشي مثلهم، ولا يعمل ولا يتصرف مثل أعمالهم وتصرفاتهم، وبالتالي فهم لا يتأثرون به نفس التأثر برسولٍ منهم.. وما حياة الرسول الأعظم إلاَّ المثال الأكبر على هذه الحقيقة التي يتضمَّنها قولُهُ تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [التّوبَة: 128] وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *} [الأحزَاب: 21].
نعم، تلك هي حكمة الله من بعث الرسل من الناس أنفسهم.. ولكنَّ المشركين والكفار لم يدركوا هذه الحكمة السنيّة، ولم يقدّروا قيمة الرسول المبعوث منهم وإليهم، ليسموَ بهم رويداً رويداً، ويسير بهم خطوةً خطوة نحو الأمثل والأحسن. ولذلك قالوا عن خاتم النبيين (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عنه: إنه ساحر، وإنَّ من اتّبعه إنما يتبع رجلاً مسحوراً، مخدوعاً، مغلوباً على عقله بالجنون...
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسرَاء: 48] فاتهموك أيها النبيُّ الكريمُ على ربك، بأنك شاعر، وكاهن، ومجنون.. وتأمَّلْ كيف استهجنوا أن تكون حياتك العادية مثل حياتهم، فقالوا: لماذا لا يكون معك مثلاً ملكٌ يؤيدك، ليصدق الناس ما تبلّغ وتنذر.. أو لماذا لا يغنيك ربُّك عن طلب المعاش، فينزل عليك مثلاً كنزاً من السماء، أو يجعلك في رغدٍ من العيش فيكون لك مثلاً بستان تأكل من ثماره وأرزاقه.. ولكنْ، أليست تلك الأمثال التي ضربوها لك مجرد تخرّصات ضلّوا بها عن الهدى، فلا يستطيعون إليه سبيلاً، ولا يملكون لإبطال أمرك شيئاً؟ انظر كيف أطلقوا العنان لتخيّلاتهم، بتلك الأمثال المستغربة، فما أدركوا الحقَّ الذي أُنزل إليك من ربّك!. وانظر كيف شدَّتهم تلك التخيلات حتى ضلّوا عن سواء السبيل، فحق عليهم قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ *} [غَافر: 35].. فالذين يجادلون في آيات الله بغير علمٍ، أو برهانٍ جاءهم، إن هم إلاَّ على ضلالٍ وبهتانٍ.. كبر جدالهم مقتاً وكراهيةً عند الله تعالى، وعند المؤمنين.. ومثل ضلالهم في ذلك الجدال يطبع الله تعالى بالضلال على قلب كل من يستكبر عن سماع الحق، ويظنّ في نفسه الجبروت والقوة، وهو من أضعف المخلوقات عند الله، إذ لو شاءَ العليُّ القدير لابتلاه بالمرض الذي يقعده، فهل يبقى له ما يستكبر، ويتجبّر به على الناس؟! ولو شاء الله لأنزله من سلطانه ومجده - الذي يدَّعيه - ثم جعله محكوماً بعد أنْ كان حاكماً، وخادماً بعد أن كان سيداً، وفقيراً بعد أنْ غنيّاً .. والله تعالى قادرٌ على أن يفعل ما يشاء، فيعزّ من يشاء، ويذلُّ من يشاء، بحيث لا يبقى أمام الإنسان إلاَّ أنْ يتَّقي مقت ربّه تعالى، ومقت الذين آمنوا، فلا يكون متكبراً جباراً؟!
5 - جدال إبراهيم (عليه السّلام) لأبيه وقومه حول عبادتهم التماثيل
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ *قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ *قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاََّّعِبِينَ * قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين} [الأنبيَاء: 51-56].
من يقف على سيرة أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السّلام) من خلال الاطلاع على آيات القرآن الكريم، يتبين له بوضوح، أنَّ الله تعالى قد آتاه الرشد والهدى منذ سن مبكرة، أي من قبل أن يبلغ الطور الذي يصبح فيه الإنسان - عادةً - قادراً على الإدراك والتمييز بصورة كاملة؛ وهذا يعني أنَّ الخالق الكريم قد أودع في نفسه من الملكات ما جعله يدرك حقيقة وجود الله تعالى، من خلال مشاهداته ومراقباته للمخلوقات في السماوات والأرض.. وذلك الإدراك المبكر ما كان إلاَّ نتيجة حتمية للفطرة الإنسانية التي جُبِلَ عليها، واستجابةً لما كانت نفسُهُ تمتليء به من استعدادات الرشد والهدى.. وكل ذلك، ممَّا قدَّر له الله تعالى في علمه السابق، لكي يكون صادق الإيمان، فلا يدخل في قلبه شيءٌ من العقائد الفاسدة، بل تكون عقيدة التوحيد وحدها التي يتغلغل نورها في نفسه، وينعكس ذلك النور على مختلف جوارحه؛ بما يؤهّله لأنْ يكون نبيّاً من الصالحين، ورسولاً من ربّ العالمين، مسلماً حنيفاً لا يميل عن الحق، وعن عبادة ربّه وطاعته.. وبذلك الرشد المبكر الذي وهبه له خالقـه الكريم، امتلك الحجج والبراهين التي تؤيد دعوتَهُ إلى الحنيفية السمحاء، فجاء قومَهُ يبيّن لهم الرشـدَ الذي أُوتيه، ويدعوهم للإِيمان بالله تعالى، من دون تلك التماثيل التي يعبدونها!.. إلاَّ أنَّ قومه أبوا تصديقه، بل وانبروا يحاجّونه في جدالٍ يظهر سخف التقليد الجاهل الذي دأبوا عليه مثـل آبائهم وأجـدادهم.. قال إبراهيم لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل من الأصنام والأوثان التي تعكفون على عبادتها؟!
قالوا: وجدنا آباءَنا لها عابدين، فسرنا على آثارهم، وكنا عليها عاكفين، لا نحيد عن عبادتها.. (وتلك كانت حجتهم، بلا أي برهانٍ أو دليلٍ عقلي، سوى أنهم اتخذوها آلهةً من دون الله، بلا أدنى تفكير، أو تمحيص، أو تدبّر لما كان عليه آباؤهم من صدق تلك العبادة الوثنية).
قال إبراهيم: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلالٍ مبين في العبادة، وفي تيهٍ واضحٍ عن الحق؛ فكيف تجعلون هذه التماثيل معبوداتٍ، وتخلعون عليها صفة القداسة، وهي جمادات واهية من صنع أيديكم وتتاجرون بها لمعاشكم؟! ألا ترون أنها قابلة للتحطيم والرمي، بحيث تصبح مثل سائر الأشياء التي لا نفع فيها؟!..
وما كان إنكار إبراهيم (عليه السّلام) على قومه تلك العبادة، إلاَّ لأنَّ العقيدة الدينية الحق، إنّما تنبع من القيم والمثل العليا، وليس من تقليد الآباء والأجداد؛ كما أنَّ العبادة الحق إنما تقوم على البراهين العقلية، والحجج الدالّة، وعلى انعقاد القلب والوجدان على التصديق بالحق، حتى يأتي التقدير طليقاً، متحرراً من أية خلفيّةٍ مبنيَّةٍ على التقليد الأعمى، والتفكير الخاطىء.. وعندما واجَهَ إبراهيم (عليه السّلام) قومه بالحقائق الملموسة التي تنقض معتقداتهم، لم يجدوا إلاَّ الإِنكار والرفض لما يدعوهم إليه، فقالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاََّّعِبِينَ *} [الأنبيَاء: 55]؟
وهذا سؤال من ليست لهم عقيدة مستقرة في نفوسهم، فكأنما الفكر والإرادة قد عطَّلهما لديهم تأثير الوهم الذي سيطر عليهم، والتقليد الذي اتَّبعوه، فلا يميزون: أيُّ الأقوال حقاً، وأيُّها هزلاً. وهذا هو الضلال الذي يتخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة، التي يستقيم معها العقل والضمير، لاستقامتها في النفس.. فكان خواء نفوس قوم إبراهيم من عقيدة التوحيد، ما أوقعهم في تلك المغالطة، فلا يدرون أجاءهم بالحق من ربّه، أم أنه من اللاعبين، الذين يعبثون بعقول الناس وأفئدتهم، فيدعونهم إلى ما لا يؤمنون، هم، به على أنه حقٌّ!.. وأين إبراهيم (عليه السّلام) من ذلك اللعب والعبث، فقد كان مؤمناً صادقاً، واثقاً من ربّه تعالى، مستيقناً من دعوته، ولذلك نجده بعد أن يجبَهَ عبادتهم الباطلة لأربابٍ متفرقةٍ من التماثيل، يعود ليبيّن لهم من هو ربُّهم الحقُّ: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *} [الأنبيَاء: 56].
لا أيها العباد، ليس ربُّكم بشراً مثلكم، ولا تماثيل وأصنام تقيمونها في المعابد، ولا مالاً تلهثون وراءه، ولا أهواءَ تمتطونها!. بل ربُّكم ربُّ السماوات والأرض الذي خلقهنَّ إبداعاً من غير مثال، وجعل قوامهن السنن والنظم التي تحكمهنَّ، بما فيهنَّ، وما بينهنَّ.. هذا هو ربّكم الحقُّ، وما بعد الحق إلاَّ الضلال!..
ولكونه، سلام الله عليه، مطمئناً إلى قوله، مؤيداً بالبرهان القاطع الذي يقدمه لقومه، أكد لهم أنه من الشاهدين على هذا الخلق العظيم، وقد عرفه بفضل ما أتاه الله ربُّهُ من الرشد، وبما هداه إلى الحق حتى بلغ مرتبه الشاهدين على كثير من حقائق ملكوت السماوات والأرض التي أراه إيَّاها خالقُهُ الكريم بالبصيرة النافذة، والقلب المدرك، اللذين وهبهما له، فاستدلَّ بتلك الحقائق على وحدانية الله تعالى وربوبيته المطلقة..
الفقرة الثالثة - الذين يتّبعون الأهواء
1 - تعطيل الجن والإنس لحواسهم ومداركهم يجعلهم كالأنعام بل هُمْ أضلُّ، أولئك هُمُ الغافلون.
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِّنِ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ *} [الأعرَاف: 179].
يبيّن الذكر الحكيم أنَّ الله تعالى قد خلق لجهنَّمَ كثيراً من الجن والإنس، لأنه في مكنون علمه منذ الأزل، وبما قضى به، وكتب في اللوح المحفوظ، أنَّ أولئك المخلوقين لجهنَّم، قد غلب عليهم الكفر والشرك، فطبع على قلوبهم بالجهل، والضلال والغفلة التي غلبت على فطرتهم، فانقادوا في متاهات كفرهم وضلالهم حتى عطَّلوا ملكاتهم التي كان يمكن أنْ يدركوا بها الإيمان والهدى، فكانوا من الغافلين عن حقيقة خلقهم، وعن سلوك السبل التي فيها خيرهم وصلاحهم.. ذلك أنَّ الله تعالى، وهو الذي خلقَ الجنَّ والإنس، قد جعل لهم قلوباً تميّز وتدرك، وعيوناً ترى وتبصر، وآذاناً تسمع وتعي، ولكنَّ كثيراً منهم - ويا للأسف - أفسدوا طبيعة تلك الحواس والجوارح، وما أودع فيها الخالقُ من الخصائص المميزة، ومن استعدادات الخير، بما يجعلها مهيَّأة للانتفاع بها، سواء فيما يتعلق بحياتهم، أوحياة بني جنسهم.. وكان إفسادهم لطبائعهم، بسبب أنهم قد أغلقوا على قلوبهم بأغلاف الجهل والضلال، فلا يدركون الحق، ولا يقبلون الهدى، وطمسوا على أعينهم بعمى البصيرة، فلا يبصرون ما في السماوات والأرض من عظيم الخلق، الذي يدل على قدرة الله تعالى، وضربوا على آذانهم بأغشية التكذيب فلا يسمعون بها، سماع تدبّر، دعوات المبشرين والمنذرين من الأنبياء والرسل، وهي دعواتٌ من شأنها أنْ تحثّهم - مدى الزمان - على اليقظة من الغفلة، وتبعث فيهم روح البحث لمعرفة الله تعالى، والعمل لنيل مرضاته ورحمته.. فكان لا بدَّ أن يجعلهم تعطيل حواسهم ومداركهم، كالأنعام، التي بطبيعتها عجماء غير معدَّة لأن تعقل وتميّز، ما دام أنها ليست على شيء من العقل أو التمييز.. لا بل إنَّ تعطيل هبة العقل، ونعمة الإبصار، وعطاء السماع، التي وهبها الله تعالى للجن والإنس - كي يعبدوه فلا يشركوا بعبادته أحداً -، إنّما يؤدي إلى صرف كلّ طاقاتهم الحيوية في مجالات الكفر والشرك، وهذا ما يجعلهم كالأنعام، بل أضلُّ من الأنعام.. إذ هذه الأنعام - وبحكم ما ركّز فيها من غرائز - تطلب منافعها، وتبتعد عن مضارها، بينما هم أولئك الجنُّ والإنس - وبحكم عدم تقديرهم لخلقهم حق التقدير - يضيّعون نعمة وجودهم، ويفقدون مكانتهم طواعيةً، أي بإرادتهم، فكانَ محتوماً أنْ يهبطوا إلى مرتبةٍ دون الأنعام، وتلك هي الغفلة - ليس عن قيمة خلقهم، وغاية وجودهم وحسب - بل وعن المنهاج القويم الذي يربطهم بخالقهم الكريم، فكانوا لجهنم حصباً، وساءت مستقراً.. ذلك أنَّ الجنَّ والإنس ما خلقوا إلاَّ ليعبدوا الله الواحد الأحد، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذّاريَات: 56]، فإنْ لم تستقم حياة كثيرين منهم على هذه العبادة، التي هي قوام كل شيء في وجودهم، بل وفي السماوات والأرض جميعاً، فإنهم يكونون قد اختاروا طريق الكفر بربّهم تبارك وتعالى، واختاروا السبل التي تقودهم إلى جهنَّم، فحقَّ عليهم قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِّنِ وَالإِنْسِ} [الأعرَاف: 179]..
والقرآن الكريم عندما يشبه أولئك الجن والإنس بالأنعام، ويقول إنهم أضلُّ منها، إنما يريد أن ينبِّه الجنسين جميعاً إلى ضرورة مراعاة خلقهم، فلا يكونون غافلين عما أودع فيهم الخالق من السمع والأبصار والأفئدة التي عليهم أنْ يوفُّوها حقها، ويستعملوها في طاعة الله، وتصديق النبيين والمرسلين؛ وفي هذا التنبيه فضل منه تعالى ورحمة بعباده، والحسنى لمن وعى واتقى.
2 - اتخاذ الأهواء آلهةً يحيل أصحابها كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
يقول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً *أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً *} [الفُرقان: 43-44].
لقد بعث الله تعالى رسولَهُ محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بالهدى ودين الحق.. فحمل هذا النبيّ الكريم، والرسول الأمين دعوة الإسلام، وهو يتزوَّد من القرآن، ومن إلهام ربّه له، بما يهدي للتي هي أقوم. وعلى الرغم من أنه كان يبلغ ما أنزل الله إليه، بالحكمة والموعظة الحسنة، ويقدِّم للناس البراهين والحجج العقلية، ويسوق لهم الشواهد والأدلة الحسية على صدق دعوته، وأحقيتها وكمالها، فإنَّ شيئاً لم يفلح مع رؤوس الكفر، ودهاقنة[*] الشرك الذين تصدّوا له، وللمسلمين الأوائل، وراحوا يؤلّبون عليهم العشائر والقبائل، وينالون منهم بالأذى والاستهزاء، ويحاربونهم - ولا سيما في مطلع الدعوة - بالكيد والمكر. كل ذلك والرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) صابر لا يملُّ، ولا يني عن بذل الجهود المضنية من أجل هدايتهم، وانتشالهم من الضلال الذي فيه يعمهون..
وإزاء هذا الواقع المرير، نزل الوحي يخفف عن الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بعض همومه بالإيناس والتوجيه، ويكشف له حقيقة نفوس أولئك الذين غلبت عليهم الشهوات، والرغبات وحب الدنيا، فجعلوا تلك الأهواء بمثابة آلهةٍ يتعبدونها، دونها تلك الآلهة من الأوثان والأصنام التي توهموا أنها تقربهم - بعبادتها - إلى الله زلفى.
لقد طغت الجاهلية بكل تصوراتها المشوَّهة، وسيطرت المطامع والميول بكل نوازعها المنحرفة على النفوس الضّالّة، حتى باتَ محتوماً، على من انْقاد لها، أن يكون عبداً مملوكاً لهواه، فلا ينفعه هديٌ، لأنه غير قابل للهدى، ولا تجدي معه موعظة، لأنه غير مستعد لقبول الوعظ... إذاً فهل يكون الرسول عليه وكيلاً، حافظاً له من اتّباع هواه الذي أضلَّهُ؟ أبداً، لأنَّ ما على الرسول إلاَّ البلاغ المبين، إلاَّ أنه يبقى ثابتاً - وبالوحي الإلهي - خواء نفوس أصحاب الأهواء من أية قابلية لسماع، وتدبّر معاني ومقاصد الآيات التي يتلوها عليهم رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ومصاديق البراهين التي تقدمها لهم هذه الآيات الكريمة ولذلك يقول له ربّهُ تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفُرقان: 44]؟! أبداً، لا تحسب يا محمدُ أن أكثر هؤلاء الكفار والمشركين يسمعون أو يعقلون الحقَّ الذي أنزل إليك من ربك.. إذْ لو سايروا الفطرة، وقبلوا أنْ ينفذ الإِيمانُ، ولو إلى جزء من خواء نفوسهم، لكان من شأن آيات الله التي تتلى عليهم، أن تحيي نفوسهم الميتة بالكفر، كما يُحيي المطر الذي ينزل من السماء الأرض الميتة، فيخرج منها النماء والنضارة للحياة.. إلاَّ أنهم ليسوا على شيء من ذلك أبداً، إنْ هم إلاَّ صمٌّ، عميٌ عن مقومات الشفاء الذي يقدمه القرآن، لما في الصدور من أمراضٍ وعاهاتٍ دفينة، فهم لا يهتدون.. ومثلهم في ذلك كـالأنعام التي تسمع نداءً وصراخاً، فلا تميّز تعابيره، ولا تعقل غاياته؛ لا بل هم أضلُّ من الأنعام، فهذه تستجيب لصراخ الراعي الذي يقودها في المراعي، بفعل استعدادها الفطري لطلب الكلأ والماء، بينما الذين اتخذوا من أهوائهم آلهةً، انصاعوا لتلك الأهواء، فلم يعودوا ينتفعون بشيء من خصائصهم البشرية، حتى قادتهم أهواؤهم إلى الهلاك في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين..
ولعلَّ جمال هذا المثل القرآني - بل وكل الأمثال في القرآن - أنه يقدّم لنا منهاجاً لتربيتنا الإنسانية، وهو يرشدنا إلى تلك المعاني التي تسلط الضوء على الذات البشرية، لتقول لنا بأنْ لا شيء أضلُّ من الإنسان عندما يطغى هواه الضالُّ على عقله وقلبه، حتى ليفقده كلَّ قدرة على التمييز السليم، والاختيار الصحيح، وهذا ما يخرجه من طوره البشري ليصير كالبهيمة، أو أضلَّ سبيلاً!..
3 - من يتَّبع من الناس لهو الحديث ليضلَّ عن سبيل الله، ويتولّى عن آياته مستكبراً كأنْ لم يسمعها، أولئك لهم عذاب أليم
يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *} [لقمَان: 6-7].
من الأهواء الشائعة في حياة كثير من الناس حبُّهم للحديث اللاهي، حيث يغلّبون السخرية والاستهزاء على الجدّ والرصانة، ويسمون ذلك هزلاً وتفكهة.. وقد يستشري هذا الهوى في نفوس أولئك اللاّهين، حتى تصبح الثرثرة سمةً تميّزهم، وكثرة الحديث - ولو تخلَّله كلامٌ بذيء - بمثابة عادةٍ لا يستطيعون الإقلاع عنها، فكأنما إذا أعياهم القول، يريدون أن يشتروا لهو الحديث بالمال شراءً، لا بل وتجدهم - في الواقع - يسعون وراء كتب الفكاهة والتسلية، وجمع أشرطة اللهو والكوميديا - بأثمانها - حتى يحصلوا على ما يعتبرونه مشوّقات تجذب الناس إلى أحاديثهم، فضلاً عمّا تكسبهم، هم، تلك الوسائل من خبرةٍ زائدة في التندّر، وأسلوب جديد في المزاح!.. ولعلَّ ذلك ما يجرّدهم - في الأعراف الاجتماعية - من الذوق الرفيع، والخلق الحسن، ويمنع على الناس، الذين ليسوا على شاكلتهم، من الجلوس معهم، أو احترامهم!..
ومثل هذا اللهو بالحديث، وعلى النحو المشين الذي يمارسونه، هو مضيعة للوقت، وهدر للكرامة، لأنَّ من شأنه أنْ يبعد الإنسان عن ذكر الله تعالى والتأدب بأدب الطاعة والتعبّد، فضلاً عما يجرُّ إليه من إضلال الآخرين عن سبيل الله، وذلك بعلمٍ، أو بغير علم لآثاره السيئة، وعواقبه الوخيمة على الإنسان نفسه، وعلى محيطه من حوله، حيث يصبح الذين يتقبلون هذا الواقع، ولا يحاربونه، في حالةٍ من اللامبالاة، التي لا يعنيها الغثُّ من السمين!..
وإذا كانت الآداب في المجتمع تمجُّ عادةً التفاهة والقباحة، فما بال أولئك اللاهين، والعابثين يتطاولون على كرامات النبيين والمرسلين، بل وأحياناً على مقام العزة الإلهية؟! وأية جريمة نكراء أنْ يتخذوا سبيل الله جلَّ جلاله هزواً، ويجعلونها مادة للمزاح؟! فهذا ما لا يليق بالعبد تجاه ربّه، أياً تكن مذاهبه وأهواؤه، لأنه، بجهله وسوء أدبه، إنما يقع بالكفر والإلحاد، ويشيع السوء والفحشاء بين عباد الله.. فهذا العبد الفاسق وأمثاله لهم عذاب مهين..
ولعلَّنا نجد في استهزاء ذلك اللعين أبي جهل المثال الذي يعبّر عمَّن يضلُّ عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها موضوعاً للهزء والسخرية. فقد كان ذلك المشرك يأتي بالتمر والزبد ويقول: تزقَّموا يا سادة قريش، فهذا هو الزقوم الذي يعدكم به «محمد».. فنزل آي الذكر الحكيم يتوعده، ويتوعَّد ذوي الإثم الكبير جميعاً، بأنَّ شجرة الزقوم سوف تكون طعاماً لهم، وهي كـالزيت يغلي في بطونهم، كـغلي الماء الحار في ذروة غليانه، مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الأَثِيمِ *كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الْحَمِيمِ *} [الدّخان: 43-46].
... فتباً لمن يصرف حياته، ولا همَّ له إلا لهو الحديث الذي يضلّ به نفسه، ويضل الآخرين عن سبيل الله، وعاقبته بمقتضى العدل الإلهيّ، سوف تكون جهنم وبئس المصير، حيث يلاقي العذاب المهين الذي يتناسب ومهانتَهُ في الحياة الدنيا.. وإنَّ هذا اللاهي، الساهي، والمتهتك هو نفسه إذا تتلى عليه آيات القرآن المبين، من أجل إصلاحِهِ، وردِّهِ إلى جادة الصواب، ولَّى عن الاستماع لها مستكبراً كأنه لم يسمعها، أو كأنَّ في أذنيه ثقلاً يحجب الآي العظيم عن النفاذ إلى أذنيه وقلبه!.. وهذا للتدليل على مدى ضلاله، الذي يحول بينه وبين حواسه من تلقّي الهدى، والاستماع للحق، فكان توعده بالعذاب الأليم.. وقد بُشّر به «هزواً» - لأن البشارة تحمل الخير - بينما اللهو المقيت، والاستكبار البغيض عن سماع آيات الله، والانتفاع بها، لا يحمل إلاَّ الوعيد..
4 - من كان على بينة من ربِّه ليس مثلَ من اتَّبعوا أهواءهم
..وكذلك من الأهواء التي تجرُّ إلى الضلال، أنْ يرى الإنسان أعماله حسنة، بينما هي، في الواقع، وكما خبرها الناس، أعمالُ سوءٍ لا تجلب إلا الأذى والشر.. ولذلك يأتي المثل القرآنيّ ليميز بين من كان على بيّنةٍ من ربّه تعالى فرأى الحق وعرفه، فلا يأتي إلاَّ فعل الخير، والبر، والتقوى ونفع الآخرين، وبين من كان مخدوعاً بعمله، مفاخراً به، فيراه حسناً، وهو سيّءٌ بأصله ونتائجه.
يقول الله تعالى: {أَفَمَنَ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ *} [محَمَّد: 14].
لا! مستحيل أنْ يستوي من هداه ربُهُ تعالى بالبيّنة، أي بالحجة، والدليل، والموعظة الحسنة، مع من زيَّن الكفرَ لنفسه فرآه حسناً، فاتبع هو، وأمثاله من الكافرين، أهواءهم في عبادة الأوثان والأصنام، والولوغ في الشهوات وارتكاب المحرمات، دونما وازع من قلب يعقل، أو مانع من عينٍ تُبصر، أو رادع من أذن تسمع!..
ولذلك كان مِثلُ هذا التوبيخ أو التأنيب الذي يحمله النص القرآنيّ للكفار والمشركين الذين اتبعوا أهواءهم، فأعرضوا عن ذكر الله، واتباع سبيله القويم، وكان هذا التوكيد على أنَّ من كان على بينة من ربه، لا يمكن أنْ يكون كـمن أعجبه سوء عمله حتى ظنه حسناً؛ فهما لا يستويان حساباً وجزاءً، ولا يستويان مصيراً ومآلاً..
5 - الله خلق الناسَ وشدَّ قواهم، وإذا شاءَ بدّل أمثالهم تبديلاً
يقول الله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً * نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا * إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} [الإنسَان: 27 - 29].
وهذه هي حال أكثر الناس، أي هؤلاء الذين يحبون العاجلة - الحياة الدنيا - بما فيها من الشهوات والزينة ومتاع الغرور، ويذرون الآخرة، فيديروا ظهورهم لذلك اليوم الذي يأتي بعد الموت - حكماً - وكأنهم ينسونه أبداً، ويجهلون بأنه يوم ثقيل بأعبائه، فلا يحسبون له حساباً، ولا يتزوَّدون له بالزاد الذي يخفف عنهم تلك الأثقال والأوزار التي حمولها من دنياهم.. وذلك اليوم العظيم، هو يوم القيامة، والدينونة.. ويومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن خفَّت موازين صالح أعماله، فسوف يجده عسيراً عليه، لأنه أغفل قلبه عن تذكر ذلك اليوم الثقيل، فلم يستعدَّ له، ولم يعمل من الصالحات ما يخفف أثقاله.. وهؤلاء الذين يحبون العاجلة، ولا يسعون للآخرة سعيها، هم الذين يزاولون الحياة الدنيا بكل مهارةٍ وأنانيةٍ، وبكل ظلمٍ واستكبارٍ، لكي يحققوا ما يستطيعون تحقيقه من مطامع ومنافع، وأهواء ورغبات!.. وهؤلاء، هم من يفسدون - عادة - في الأرض مغترين بما لديهم من قوةٍ ونفوذٍ، أو بما ملكوا من الشركات والمال، أو بما يتمتعون به من صحة وعافية!.. ولكن من أين لهم ذلك كله؟
يقول ربُّ العالمين: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسَان: 28].
وهل من خالقٍ إلاَّ الله؟! فهو الذي خلقهم، وبمقتضى الحكمة التي يشاؤها، جعل فيهم قوة، بما شدَّ أبدانهم من تركيب متينٍ، وزوَّد نفوسهم من تفكير، وإرادةٍ وعزمٍ حتى يكونوا قادرين على الإنتاج، ثم آزرهم بمن حولهم، حتى استوت الحياة لديهم مليئة بالحركة، والكسب والوجاهة.. ولكن أليس كل ذلك بفضل الله تعالى، فهو المولى لعباده جميعاً، وهو الذي شدَّ أسر هؤلاء العباد، وأمكنهم من خوض غمار الحياة، ولولا مشيئته لما أمكن لهم أن يفعلوا شيئاً، أو أن ينتفعوا بشيء على الإطلاق.. ومع ذلك فإنَّ أولئك المغترّين بالدنيا، لم يعطوا نعمة الله التي أسبغها عليهم، ما تستحق من حمده سبحانه، وشكره والثناء عليه؛ لا بل وجحدوا هذه النعمة، وجعلوا أنفسهم عبيداً لأهوائهم، فضلّوا عن السبيل القويم، ولو شاء مولاهم، ومالك نواصيهم لأهلكهم، وبدَّل أمثالهم تبديلاً كاملاً، لا من حيث الخلقة، أو الصورة التي يخلق الناس عليها - ولو شاء الله تعالى ذلك لكان -، ولكن من حيث الطباع، وقبول الإيِمان، وطاعة ربهم، وعدم نسيان يوم الحساب الذي ينتظرهم.. وإذا كنا نرى في هذه الحياة نجاحاً ونفوذاً لمن يحبون العاجلة، ويذرون الآخرة، فإنَّ في القرآن الكريم من الآيات ما يبيّن لنا أنَّ ما يمدَّهم الله تعالى به، إنما هو استدراج لهم، فلا يحسبونه خيراً لأنفسهم، إذا لم يتذكرّوا ما يتوعدهم به ربّهم من الحساب والدينونة، فيتخذوا من جراء هذا التذكّر إلى ربّهم سبيلاً، أما من لم يشأ أنْ يتخذ إلى ربّه تعالى سبيل الهدى والتقوى، فسوف يجد نتائج أعماله، وحصيلة دنياه، كلَّها حاضرةً أمامه وبانتظاره، حيث ينال الجزاء الذي يستحق. وليتذكّر الناسُ جميعاً أنَّ الأمر بيد الله تعالى، وما يشاؤون من شيءٍ إلاَّ أن يشاءَ الله، أي فلا يتحقق، ولا يكون لهم شيءٌ إلاَّ بمشيئة الله تعالى، لأنه سبحانه كان عليماً بخلقه، حكيماً في هدايتهم، رؤوفاً رحيماً بهم، وبمقتضى رحمته الواسعة يدخل من يشاء الجنة؛ بينما أعدَّ للظالمين عذاباً أليماً، مصداقاً لقوله تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *} [الإنسَان: 30-31].
6 - نهيُ بني آدم بألاَّ يفتنهم الشيطانُ كما فَتَنَ أبوَيْهم (آدمَ وحوّاءَ).
يحذّر الله تعالى بني آدم بألاَّ يفتنهم الشيطان فيخرجهم عن الدين والاستقامة، كما أخرج بفتنته أبوَيْهم من الجنة.
يقول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [الأعرَاف: 27].
لقد جعل الله تعالى اللباس الذي يواري سوءات الناس خيراً لهم، مثلما هو لباس التقوى من العمل الصالح. خيرٌ لهم، وهذا ما تهدي إليه الآية (26) من (سورة الأعراف) التي أعقبها تحذير الله سبحانه لبني آدم من غواية الشيطان، كي لا يضلَّهم عن الدين، ويصرفهم عن الحق، فيقعوا في المكائد التي ينصبها لهم. بل ويأمرهم ربّهم بعدم الاستسلام لوسوسة الشيطان الذي يُزيّن لهم ارتكاب الفواحش والمعاصي، التي تميل إليها - عادةً - النفس الأمارة بالسوء. وقد قدَّم القرآنُ البرهانَ على ذلك بما أغوى الشيطانُ أبوَيهم - آدم وحواء (عليهم السّلام) - عندما دلَّهما على الشجرة التي نهاهما ربُّهما عن الاقتراب منها، مدَّعياً - كذباً واحتيالاً - بأنها شجرة الخلد.. فكان بسبب ذلك الإِغواء إخراجهما من الجنة، أي من المكان الآمن الظليل، المليء بالخيرات والثمرات، حيث جعلهما الله تعالى ينعمان فيه بالسعادة ردحاً من الزمن، وإلى أنْ يحين اختبارهما كما هو مقدَّر في سابق علم الله.. أما أنَّ النص قد نسب الإِخراجَ للشيطان، ففيه التأكيد على أنه هو مسبب الغواية، ومثير الفتنة التي فيها الابتلاء.. وهو نفس السبب لما نُسِبَ إليه من أنه نزعَ عنهما لباسَهما ليريهما سوءاتهما.. وهذا يدلُّ على أن الحياة التي ابتدأها آدم وحواء كانت صافية، خالصة من الشهوات والنوازع والأهواء، فلما وقعا في الإِغواء، كان لا بد من أنْ تتبدَّل نظرتهما إلى وجودهما، حتى بشأن اللباس الذي عليهما ارتداؤه، بحيث يأتلف ومشاعرهما التي استيقظت من كمونها في نفسيهما..
ولذلك جاء التوكيد على بني آدم بأن يحذروا، ويتقوا فتنة الشيطان {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعرَاف: 27] هذا القابع دوماً معكم، الذي يلاحقكم حيثما كنتم، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعرَاف: 27] قال ابن عباس: إنَّ الله تعالى جعلهم (أي الشياطين) يجرون من بني آدم مجرى الدم في عروقهم، فجعلوا من صدور بني آدم مساكنَ لهم، كما قال تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعرَاف: 27]، [النَّاس: 5]، أي من الشيطان وقبيله من الجن، الذين يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم..
وقال قتادة: «وَاللَّهِ إن عدوّاً يراك من حيث لا تراه لشديد المؤونة إلاَّ من عصم الله، وإنما قال ذلك لأنّا إذا كنا لا نراهم فلا نعرف قصدهم لنا بالكيد والإِغواء، فينبغي أنْ نكون على حذر فيما نجده في أنفسنا من الوساوس خيفة أنْ نخضع للشيطان، ونكون من أوليائه»..
{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [الأعرَاف: 27]، أي أَنّا قضينا بأنْ يكون الشياطين أسياداً للكافرين، لأنهم يتناصرون، مع بعضهم بعضاً، على الكفر والباطل. وإنما خصَّ «الذين لا يؤمنون» تنبيهاً إلى أنَّ الشياطين، مع اجتهادهم في الإِغواء، لا يتمكّنون من خيار المؤمنين المتيقظين، وإنما يتمكّنون من الكفرة الظالمين، والفاسقين، والمفسدين والمغفلين، الذين يتخذونهم بمثابة مملوكين، يستخدمونهم مطايا لنفث سمومهم وأحقادهم عليهم أولاً، بسبب خذلانهم هم لأنفسهم، ومن ثم لتطال الغواية كل جنس بني آدم، لو أمكن للشيطان وقبيله ذلك!..
الفقرة الرابعة - مثل الحياة الدنيا في فنائها
1 - إنما مثل الحياة الدنيا في فنائها كـالنبات الحصيد
يقول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [يُونس: 24].
إنَّ واقع الحياة البشرية يثبت مدى تعلق الناس بأهداب الحياة الدنيا، والسعي وراء ما زُين لهم من حُبّ الشهوات والرغبات، كما يهدينا إليه قول الحق تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ *} [آل عِمرَان: 14]! وهذا يعني أنَّ الإنسان مشدود إلى دنياه، غارقٌ في خضمِّها الواسع، ومستعداً لأنْ يفعل كلَّ ما يمكن أنْ يوصله إلى غاياته ومآربه، حتى ولو بالطرق غير المشروعة، إلا من عصم الله تعالى بالإيمان، فسار على طاعة ربِّه وتقواه، فلم يُفتن كغيره من الناس.. وإنَّ من أهم مظاهر الفتنة في الحياة، تلك الأفكار التي سيطرت على أذهان معظم الناس، وزيَّنت لهم القوة مقياساً لكل شيء، حتى أهل العلم فقد غرقوا في متاهات تحديد معايير النفع أو الضرر من العلوم، بحيث يعتبر المعيار الوحيد لدى كثير منهم هو إحراز التقدم تلو التقدم في مجالات اكتشافاتهم، دونما اعتبار للنتائج التي تترتب على ذلك، وعدم التطلع إلى كيفية تطبيق تلك العلوم، الذي يجعل حبَّ السيطرة والاستئثار هو الغاية القصوى لدى الذين يطبقون تلك العلوم في مختلف مناحي الحياة!!
ومثل تلك الرغبات التي تتحكم بالإنسان من جراء تقدم العلوم المادية، هي التي تحدوه إلى الظن بأنه قادر على أنْ يكيّف الحياة الأرضية برمتها، وكأنها عجينة ليّنة بين يديه، ومطواعة لإرادته وعزمه!.. وعلى الرغم من كل نظرياته وأهوائه ورغباته، فإنه لم يفطن - أو لعلّه يتناسى - ما كان لكل أشكال التمدن، وأنواع النظم والتشريعات والعلوم التي ابتدعها وجعلها بعيدة عن شرع الله، من آثار سيئة على صحته الجسدية والنفسية، ولا سيما ما ترهقه به متطلبات الحياة المستجدة التي نراها تزداد يوماً بعد يوم، فتعمّق جذور تعبه وشقائه وقلقه!..
والغريب في هذا الإنسان، ذلك التباهي بأنه أَغنى الدنيا بعلومه واكتشافاته، في حين يعرف مقدار عجزه أنْ يرد غوائل الطبيعة عنه، وعن كل ما حوله.. فكم من فيضانات، أو زلازل أو رياح عاتية، وقف مشدوهاً خائفاً أمام قواها العاتية وهي تدمر، وتخرب وتبيد منشآته ومبانيه!. وكم من أمراض تفتك بحياة الناس، ولم يتمكن من القضاء عليها لدرء غوائلها!. أو كم من أمراضٍ تجتاح مواسم الزروع والثمار ويقف عاجزاً عن تلافي أضرارها!.
إنها شواهد حية على ضعف الإنسان ووهنه في رد قضاء محتوم، أو قدر مقدور ينزل بساحه، فيسلبه كل ما يعتدُّ به.. وهو وحده قضاء الله تعالى الذي يُظهر عجز الإنسان، وهلعه مما قد يصيبه من المآسي، أو قد يؤدِّي به إلى الفناء، أو مما قد يحل بأشيائه وموجوداته من الخراب والدمار والضياع.. والمؤمنون، وحدهم من دون سائر الناس، يعلمون أنه الحق من ربهم فيما يشاء من الحكمة، والصنع والتقدير في حياة عباده لعلهم يخشون أو يتذكرون أو يعقلون.. ومن هنا كان تحذير القرآن الكريم للإنسان، وفي أكثر من موضع في آياته المبينة، من سوء فعاله التي قد تجلب له الويل، ونعيه عليه انشغاله بهذه الحياة الدنيا، وانصرافه إلى خدمتها حتى في أوضارها[*] وأوحالها.. ومن ثَمَّ توجيهه لهذا الإنسان بألاَّ يغترَّ ويزهو بفعاله وأمجاده، وألا يتفاخر بما قدَّم وأخَّر، وألاَّ يجعل هذه الدنيا غايته القصوى بحيث لا يكون همُّهُ إلا ما يريد الحصول عليه منها، دون الالتفات أو التذكر بأنه مهما بلغ من العمر، ومهما وصلت به الحال، فإنه فانٍ، ولا بقاء له في دنياه هذه.. إنَّ عظمة القرآن المجيد تتجلَّى هنا بما تربّي عليه الإنسان، كي لا يجعل همَّه الدنيا وحدها، وأنْ يعمل للدنيا والآخرة على حد سواء، وأنْ يبتغي من وراء ذلك كله الإقرار بإحسان ربّه تعالى إليه، كما يبيّنه هذا الدعاء المأثور من المؤمنين لربهم الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *} [البَقَرَة: 201].
فالإنسان عليه أنْ ينظر إلى الحياة الدنيا بروح إيجابية وبنّاءة، بحيث يجعل جهوده منصبة، فعلاً، على إعمار هذه الأرض، ولكن بشرط أنْ يتوسّل لذلك العمل الصالح، وفعل الخير، والدعوة إلى الحق، ونشر الهدى والسلام بين الناس؛ ودون أن يحرم نفسه مما أحلَّ له الله تعالى من الطيبات، ومن متع الحياة ومباهجها.. ولكن دائماً، ضمن الحدود التي لا يعصي فيها ربّه، أو يسيء إلى كرامته هو وإنسانيته، أو إلى كرامة الناس وإنسانيتهم. ولذلك فإن العزوف عن الدنيا يخالف أمر ربّنا تبارك وتعالى، لقوله الكريم: {وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القَصَص: 77]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعرَاف: 32]. وهو سبحانه في مخاطبته لرسوله الكريم يقول له: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ *} [الشَّرح: 7-8].. وقد ورد في بعض التفسيرات أنه إذا فرغت من الصلاة فاجهد في الدعاء إلى ربّك تعالى.. إلاَّ أن النص قد يحتمل معاني أبعدَ وأوسع، بحيث أنَّ على عاتق رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) شؤوناً كثيرة، ومنها شؤون الدعوة في إيصالها إلى الناس، ورعاية شؤون المسلمين، ورعاية شؤون أهله، والاهتمام بصحته وسلامته وراحته.. وما إلى ذلك من شؤون الحياة الدنيا، حتى إذا فرغ من ذلك كله جهد في الدعاء إلى مولاه الكريم..
وعلى هدي الوحي الإلهيّ كانت السنة النبوية الشريفة تحضُّ المؤمنين على عدم ترك الدنيا لنوال خيرها، مثلـما تحضهم على العمل للآخرة كي يفوزوا بثوابها، ومنها قول رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «ليسَ خيرُكُم مَنْ تَرَكَ الدُّنيَا للآخَرِة، ولا الآخرة للدُّنيا، ولكنْ خيرُكُم مَنْ أخذَ مَنْ هذِهِ وهذه» [*]. وقوله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «نعمَ المطيَّةُ الدُّنيا فارْتَحِلُوها تُبَلِّغْكُمُ الآخِرةَ» [*]. وقوله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «اعملْ لدُنياكَ كأنَّكَ تعيشُ أبداً واعمل لآخرتِكَ كأنَّكَ تموتُ غداً» [*].
فالتصور الإسلاميّ قائم على التوازن في العمل للدنيا والآخرة، مع ترجيح كفة الآخرة وحسابها، لأنَّ الدنيا هي المطية التي يرتحلها الإنسان للآخرة، حيث إنَّ الأعمال الصالحة في دنياه هنا، هي التي تقوده إلى الجنة، والأعمال السيئة إلى النار، فكانت الأعمال هي المطية، وهي الزاد.. فالدنيا - وكما هو مشاهد ومحسوس - دار ممر وفناء، والآخرة دار مقر وبقاء. ومن وعى هذه الحقيقة أدرك أنَّ النتائج التي تترتب على أعمال هذه الدنيا لا يمكن أنْ تذهب أدراج الرياح في الآخرة، فالعدل الإلهيّ يقيم الموازين الحق يوم القيامة ليجزي كل نفس بما كسبت. ولذلك كان على الإنسان، طالما هو موجود في هذه الحياة، أنْ يؤدي واجباته تجاه وجوده هذا، سواء فيما خصَّهُ بنفسه، أم فيما يعمل لنفع الآخرين وللصالح العام.. ولكن يبدو أنَّ من أغفل قلبه عن الهدى، قد ضلَّ عن هذه الحقيقة، فانصرف إلى متاع الدنيا وغرورها، وانغمس في شهواتها وملذاتها، وغرق في أطماعها ومكاسبها حتى أنسته الآخرة، وأعمته عن الحساب الذي لا بد أنْ يؤديه يوم يقف العباد لربّ العالمين.. فمثل هذا الإنسان، الذي غالباً ما يعمل السوء، وينشر الفساد في دنياه، قلما يدرك أنَّ ربّه تعالى يحصي عليه كل حركة من حركاته، وكل سكنةٍ من سكناته، وقد أوكل به مَلَكَيْنِ يسجلان كل ما يقوله أو يفعله.. فصار مثله في توجهه وعمله لامتلاك الدنيا وحيازتها - دونما عمل يذكر للآخرة - مثل هذا الماء الذي ينزله الله تبارك وتعالى من السماء، حتى إذا اختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، وأخذت الأرض زينتها من المروج الخضراء التي تمتلىء بالزروع والأزهار على اختلاف أنواعها، وألوانها، وبالأشجار التي أينعت ثمارها، وظن الناسُ أنَّ كل هذه الخيرات من الثمار والحبوب، وكل تلك المباهج من الألوان إنما كانت بجهودهم، وأنهم قادرون على التصرّف بها، إذا بأمر الله تعالى يأتيها ليلاً أو نهاراً فيجعلها هباءً منثوراً، وذلك بأنْ يسلّط عليها رياحاً هوجاء فتقتلعها، أو رياحاً حارة عاتية تحرق الغابات والبساتين، وتجعل المواسم والغلال يباساً، أو يبعث عليها الفيضانات التي تدمر كل شيء، أو يقيّض لها أمراضاً تفتك بالمواشي، وتفسد الثمار، وتتلف الزروع حتى يصير كل شيء كـالحصيد الهش تذروه الرياح في كل مكان، وكأنَّ الأرض لم تكن على حال من الزخرف والزينة، وكأنْ لم تَغْنَ بشيء مما كانت عليه بالأمس.. هكذا مثل الحياة الدنيا: لا متاع فيها دائم، ولا نعيم باقٍ، ولا جمال قائم، وكل شيءٍ فيها زائل، وذلك تقدير العزيز الحكيم..
وأهمية هذا المثل أنه يصوِّر لنا واقع الحياة بالمشاهد الحسية التي يراها الناس في مختلف بقاع الأرض، وعلى مدار المواسم والفصول، بحيث لا يلبث النباتُ في نهاية كل موسم أنْ يهمد، ثم ييبس، ويحين اقتلاع جذوره، بعد أن تكون الارض تعجُّ بالحركة النابضة، وتمتلئ بالغنى والثروة.. وذلك ليثبت في روع الإنسان أنَّ حياته إلى فناءٍ - لا محالة - مثل تلك المشاهد التي يمرُّ عليها كل يوم، وهو غافل عنها، ولا يعيرها أي التفات أو انتباه.. ولكنَّها في الحقيقة من آيات الله تعالى في خلقه، وقدرته على التصرف في ملكه، فخليق بالإنسان أنْ يعتبر، ويستدل على أنَّ الأمر كله لله تعالى، وأنَّ أَجَلَ هذا الإنسان سوف يأتي في موعده تماماً، فيذهب من هذه الدنيا، ويزول مثل هشيم تحمله الريح وتذروه فلا يبقى له أثر. كذلك يفصل الله الآيات الدالّة لقوم يتفكرون بمصائرهم بعد هذه الحياة الدنيا.
ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة عن الحياة الدنيا في آية أخرى، فيقول العزيز الحكيم: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *} [الكهف: 45].
إنه أمر الله جلَّ وعلا للـنبيّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنْ يضرب لهم مثل الحياة الدنيا في إيجادها وفنائها.. فالله القادر المقتدر ينزل الماء من السماء، فيختلط به نبات الأرض، ثم ينضج، ثم سرعان ما يصبح هشيماً تذروه الرياح.. أو قد تنبت بهذا الماء الزروع، وتطلع الثمار، ولكن قبل نضوجها يرسل الله تعالى عليها ما يجعلها بَدَداً..
فالسياق القرآنيّ يستخدم نفس العناصر من المطر ونبات الأرض، ونفس المشهد الحسيّ من الهشيم والرياح، تاركاً للناس أنْ يتفكروا في نهاية الحياة السريعة التى ينعدم بها وجودهم - أفراداً وجماعات - وفقاً لسنة الله في الخلق، لأنه سبحانه هو الذي يقدر الحياة والموت على عباده، كما يقدرهما على كل كائن حيّ، بحيث لا يغترُّ أي إنسان بهذه الحياة القصيرة الفانية، ولا ينساق وراءها، تاركاً الآخرة من غير أن يعمل لها.
ونلاحظ أنَّ القرآن الكريم قد استخدم النسق اللفظيّ في تقصير عرض المشاهد، في ثلاث جمل قصار، وبالتعقيب الذي تدل عليه «الفاء» - {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} [يُونس: 24] - {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ؛ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [يُونس: 24]، [الكهف: 45] لتوكيد فكرة قصر الحياة، وفنائها سريعاً، مثل النبات الذي ما إن يطلع حتى ييبس، ويصبح هشيماً. فما أقصرها حياة، وما أهونها على الله العليّ القدير!. والعبرة التي تكتمل بها المشاهد في الإِحياء والإماتة في الأرض، ثم بعث الموتى للحساب والدينونة، تتبين بقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [الرُّوم: 50].
2 - مثل الحياة الدنيا فيما تهوى الأنفس كمثل النبات ينمو ويزهو ثم يكون حطاماً.
ويوجهنا ربُنا تبارك وتعالى إلى الاعتبار بمِثل آخر عن الحياة الدنيا، ولكنَّ المثل هنا يتناول أعزَّ وأغلى ما في حياة الناس، أي الأموال والأولاد، فيقول عزَّ وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ *} [الحَديد: 20].
واضح في هذا المثل التشابه في الصور التي يوردها عدد من النصوص القرآنية حول الحياة الدنيا، وذلك للتوكيد على الغاية الأساسية التي ترمي إليها هذه النصوص، وهي إيقاظُ الإنسان من غفلته عن مصيره إلى الفناء، وحثُّه على العمل للآخرة، وما ينتظره هناك من الحساب والجزاء..
وتلك الصورة الحسية التي تتناولها الأمثال في القرآن الكريم، هي - كما بيّنا سابقاً - ممّا يشاهد الناس بأم العين من النبات في أبدع مظاهره وزهوه، ومن الحصيد الهشيم الذي يتبدد ويتناثر.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأفكار والمشاعر حول المتاع، واللهو والزينة التي تفتن الناس، ونراهم يتهافتون عليها تهافت الجياع على قصعة الطعام!.. وكلُّ ذلك قد يكون من مألوف الإنسان الذي اعتاد عليه من غير أنْ يعيره اهتماماً، إلاَّ أنَّ فضل القرآن الكريم أنه يشد أنظاره إلى كل ما يحيط به، ويدعوه للتأمل في كل شيءٍ من حوله، ولا سيما ما يتعلق بحياته، ويكون له تأثيره المباشر عليه، بل وله شأوٌ خاصٌ في حياتنا جميعاً، نحن البشر، نظراً لشدة أهميته وتأثيره على وجودنا الإنسانيّ بأسره، ونعني به كسب الأموال، وإنجاب الأولاد. وغنيٌّ عن التأويل أو التكهُّن فإنَّ القرآن المبين عندما يهدينا إلى قول الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، فأول ما يتبادر إلى الأذهان كيف أنَّ الناس يفنون العمر من أجل كسب المال، وحيازة الممتلكات والأرزاق، وكيف يجهدون لإنجاب البنين، والعمل على توفير متطلباتهم.. وهذا أمر طبيعي، لأنَّ أعزَّ الأشياء عندهم، وأحبَّها إلى قلوبهم هم الأبناء.. وهذا أمرٌ جليل في الحياة.. ولكنْ ما ينبِّه إليه القرآن الكريم هذا التفاخر في التملك والاقتناء، وهذا الاعتداد بوجود الأولاد والأحفاد، على ما هو مشاهدٌ في حياة الناس!.. مما يجعلهم حريصين على الدنيا، وقد ينسون الآخرة بسبب هذا التفاخر بينهم والتكاثر في الأموال والأولاد، بينما يرشدهم القرآن وفي نفس الآية المباركة إلى قول الحق تبارك وتعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً *} [الكهف: 46].
صحيح أنَّ الرغبة في اقتناء الأموال ليست إلا تعبيراً عن غريزة حب البقاء، التي تظهر لدى الإنسان بحب التملك والاقتناء، والطمع.. وصحيح كذلك أنَّ حبَّ الأولاد هو الشعور الذي أودعه الله تعالى في النفس البشرية ومنطلقه غريزة النوع التي تظهر بالحنان والعطف وغيرهما من مشاعر الأمومة والأبوة، بحيث إنَّ نزعة الإنسان إلى الاجتماع، وإلى تحقيق قيمته الإنسانية هي التي تدفعه إلى الزواج والإنجاب، ليكون الأبناء صورةً عن الآباء، وتعبيراً عن استمرارية وجودهم في هذه الحياة.. إلا أنَّ ذلك ليس من شأنه على ضرورته وأهميته ومحاسنه، أنْ يصرفهم عن الآخرة بحيث لا يولونها اهتمامهم، ولا يحسبون لها حساباً!.. فجاء المثل القرآني يشبِّه إيثارهم للحياة الدنيا الفانية على الدار الآخرة الباقية بالغيث الذي أعجب الكفّارَ[*] نباتُهُ، ثم يكون هشيماً فانياً.. ذلك أنَّ الزرّاع يكدون، ويكدحون، عادةً، في الفلاحة والغرس والبذر، ثم يأتي المطر فتؤتي زروعهم أكلها بإذن الله، ثم تأتي أوقات القطاف والحصاد، ثم يتوزع كل شيء على الاستعمال والاستهلاك ليصير، من بعدُ، حطاماً لا أثر له، وهذا في أحسن الأحوال.. أما إذا أراد الله تعالى غير ذلك، فقد تهيج الزروع والثمار، وتبدو في أحسن رونقها بما يعجب أصحابها، ثم يأتي ما يقضي عليها قبل أوانها، فتصفر، وتذبل وتموت، ثم تكون حطاماً لا نفع فيه.. هكذا شأن الحياة الدنيا، يصرف الاهتمامُ بمشاغلها الإنسانَ عن التفكير بأنَّ له أجلاً موقوتاً، لا بد أنْ يحل به ساعة موته، تماماً كما هو الحال في الزرع الذي يصير حطاماً، ثم يتبدَّد فلا يبقى له أثر.. ولكنَّ الأمر لا يقف عند نهاية هذه الحياة، بل هنالك الآخرة وفقاً لسنة الله تعالى في خلقه. وإنَّ في الآخرة عذاباً شديداً لمن آثر عليها الدنيا، فأبعدته عن طاعة ربّه ورضوانه.. وإنَّ في الآخرة مغفرةً من الله ورضواناً لأوليائه وأهل طاعته. فالدارُ الآخرة هي الحيوان، أي الحياة الدائمة، لأنها لا تنتهي كما تنتهي هذه الحياة الدنيا، ولا تصير إلى عدمٍ كـالنبات الذي صار حطاماً تذروه الرياح، بل هي حساب وجزاء، ثم ديمومةٌ وأبدية..
وما هذه الحياة الدنيا - بما فيها من اللذة واللهو، وبما فيها من التفاخر بين الناس، والتكاثر في الأموال والأولاد - إلا متاعٌ خادعٌ، وغرورٌ وجهلّ، إن لم تكن محصلةُ الأعمال فيها موصلةً إلى الفوز بالآخرة.. وهذا ما يريد المثل القرآنيّ أنْ يصحِّحه في أذهان الناس، ويربّي نفوسهم على الحقائق التي تبعدهم عن الغرور الخادع، والتفاخر الزائل، والتكاثر الفاني..
في كتاب (مقدمة المصحف المفسَّر) وتحت عنوان: «الدنيا في نظر القرآن»، يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: «ما من فيلسوف أو شاعر أو متأمل في الوجود إلا وحقّر الدنيا واشتكى منها لتوالي آفاتها وتتابع حسراتها. فلا لذة فيها إلا وهي مشوبة بألم، ولا راحة إلا وهي مصحوبة بتعب. فلم تَصفُ لِمَلِكٍ ولا عالمٍ ولا جاهلٍ. ولكنَّ الناس مالكهم ومملوكهم، وعالمهم وجاهلهم، ومؤمنهم وكافرهم، وإن اتحدوا في هذا الذم، إلا أنَّ طرائقهم فيها على غاية التناقض، اتحدوا كلهم في المقدمة، واختلفوا في النتيجة. فمنهم المتكالبون عليها، المتفانون في جمع حطامها، فكان ذلك التكالب مؤدياً إلى التقاطع والتنابذ، وتعمد الشرور التي تزيد دنياهم نقصاً، وحياتهم تنغيصاً. وهو حال شديد التناقض، الواقعون فيه أشد الناس قدحاً لأنفسهم وعجباً من حالهم. ومن الناس من عرف للدنيا هذه الحال، فانقطع عنها ونبذها ولم يعبأ منها إلا بما يسد الخَلَّةَ[*] ويقيّم الأَوَد[*]. ولكن إذا كان القسم الأول شديد التناقض، فالثاني مفرّط لا يلبث أنْ يقع تحت سيطرة القسم الأول، لأنَّ الدنيا لمن غلب، ولا غلبة إلا بمادة..».
وقد جاء الإِسلام والناس على هذين الاتجاهين، فأورد القرآنُ، الذي يحمل رسالة الإسلام للناس ، من العبر، والعظات ما يقتلع حبَّ الدنيا من نفوس المتهورين في حبها، ويريهم مقدار قصر النظر في التعلق بأهدابها، كما يتبين في قول الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ *} [آل عِمرَان: 185] - {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعَام: 32] - {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يُونس: 24] - {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا *} [الكهف: 32]...
وهذا البيان للحياة الدنيا مشفوع بما يجب على الحيّ أنْ يعمله في دنياه من سعي وراء الحصول على المادة، حتى لا يقع أهل الإسلام تحت أسر الأمم المادية، فقال تعالى: {وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القَصَص: 77]. وسمَّى المال «خيراً» ما دام المقصود منه طلب الحق، فقال تعالى: فـ{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البَقَرَة: 180] وسمَّاه «فضلاً» فقال تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجُمُعَة: 10]. والمال لم يكن خيراً، ولم يكن فضلاً من الله، إلا لأنه مكتسب من حِلّ، لا مأخوذ بقطع رحم، ولا بمنافسةٍ تجرُّ إلى خراب.
بهذه الحكمة العالية أشرَبَ القرآن نفوس أهله خصلتين ساميتين، أولاهما: ترك الدنيا لعشاقها، وثانيتهما: أخذ ما يقيِّم أَوَدَ حياتهم منها، ويحميهم من الوقوع في أسر جاذبيتها. ولا نرى ديناً من الأديان حل هذه المسألة على هذا النحو. وقد سار المسلمون على هذا المفهوم، فظهر على حركاتهم وسكناتهم - في أكثرهم - وأسسوا على قاعدته بناءَ أمةٍ فاضلة، قامت على أعدل أُسُسِ الفضيلة، حتى قال اللَّهُ تعالى فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عِمرَان: 110].
3 - هل من وعده ربُّهُ بالجنة، كـمن متَّعه متاع الحياة الدنيا
يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ *} [القَصَص: 61].
تبين هذه الآية الكريمة البَون الشاسع بين مصير المؤمن، ومصير الكافر..
..فالمؤمن الذي وعَدَهُ ربُّهُ وعداً حسناً بإدخاله الجنة، سوف يلاقي وعد ربّه جزاءً موفوراً على طاعته، وهذا محقَّق لا محال لأنَّ الله جلَّت عظمته لا يخلف وعده. أما من أتاح له ربُّهُ السبل لينال رونقَ الحياة الدنيا من نعمة الصحة، والأمن والأمان، ورزقه من البنين قرة عين، ومن المال ما يوفر له الوجاهة والنفوذ، وما إلى ذلك من متاع الحياة الدنيا، ولم يدرك أنَّ الله تعالى هو مصدر هذه النعم، وأنَّ عليه أن يعمل بما تستوجب عليه هذه النعم من الطاعة لله، ونصرة دينه، بل سخَّر كل ما آتاه الله من فضله لإشباع شهواته، ومطامعه وأهوائه - حتى ولو كان ذلك الإشباع على حساب غيره من الناس، وأكل حقوقهم بما يسخط الله عزَّ وعلا فإنَّ كلَّ ما يبلغُهُ مثل هذا الكافر أو الجاحد أو يعملُهُ، لن يكون إلاَّ وبالاً عليه يوم الحساب، ثم يكون من المحضرين إلى النار التي يساق إليها بالقوة مُكرَهاً، لينالَ الجزاء على جحوده فضل ربّه عليه، وسوء فعاله في معصية الله.. ومثل هذا الأسلوب القرآني الذي تورده الآية الكريمة بطريقة السؤال التقريري، إنما ليوقر في عقولنا وقلوبنا: أنَّ من فاز بوعد الله في الجنة، لا يستوي مصيراً، يوم القيامة، مع من يكون من المحضرين إلى النار، وهم يُدَعُّون إليها دعّاً وذلةً.. أبداً لا يستوي من وعده الله وعداً حسناً فهو لاقيه في الجنة، مع من كان محضراً إلى النار، لأنَّ نعيم الجنة يكون خالصاً وكاملاً، وهو دائم لا يزول؛ بينما جحيم النار يكون عذاباً أليماً، وهو باقٍ لا يحول إلاَّ ما شاء الله ربُّ العالمين.
الفقرة الخامسة - التربية والإرشاد في الأمثال القرآنية
ونتناول في هذه الفقرة بعض وجوه التربية التي ترشدنا إليها الأمثال في القرآن الكريم علَّنا نهتدي بأنوارها إلى ما فيه صلاح نفوسنا، وخير مجتمعاتنا. ومن المآثر التربوية في الإسلام، التي يمكن استنتاجها من بعض الأمثال القرآنية، القضايا التالية:
- الابتلاء في الحياة الدنيا.
- الإنسان مرهون بأعماله.
- التقليد والتبعية.
- توجه الإنسان إلى الله تعالى إذا مسَّهُ الضُّرُّ.
- مثل الإنفاق في سبيل الله، ومثله في غير طاعة الله.
- تأثير الربا على حياة الناس.
- حكم الإرث والرضاعة.
- علاقة الزوج بامرأته المطلَّقة.
- أحكام قتل الصيد في الإحرام.
- النهي عن نقض العهود والأَيمان.
- التحذير من الطعن بالأعراض، والنهي عن العودة لمثله.
1 - الابتلاء في الحياة الدنيا ومثاله ما أصاب أصحاب البستان المثمر
الإِنسان في هذه الحياة محلٌّ للابتلاء والشقاء، ومعرَّضٌ للفتنة والإِغواء. فقد يُبتلى المرء بصحته البدنية، أو بالأمراض النفسية، أو قد يبتلى بالتعرّض لكرامته، وحرماته.. أو قد يُمنى بالخسارة في تجارته، أو قد يضطر إلى بيع ممتلكاته، أو قد يكون رزقه ضيّقاً.. وما إلى ذلك من الحالات التي تصيب المرء، في أكثر الأحيان، بالأضرار المعنوية، أو المادية.. وهذا يعني أنَّ حالات الضرر والابتلاء كثيرة، وقد لا يفلت منها امرؤ على وجه الأرض. والحكيم الذي يقع في الابتلاء، هو مَنْ أقنع نفسه بوجوب التأسّي والصبر، ومَنْ ردَّ الأمور كلها إلى الله سبحانه وتعالى، الذي يهبه العزاء، والقدرة على الاحتمال، بما يخفف عنه بلاءه، ويقلّل من وقع المصيبة عليه!.
وبالمقابل قد يصيب المرء غنىً وثروة، وقد يتقلَّد منصباً أو مكانةً مرموقة. وقد يكون من ذوي الحكم والسلطان، أو الجاه والنفوذ.. وما إلى ذلك من النجاحات والامتيازات التي يحرزها في حياته، وكلها قد تكون نعمة أو نقمة!.. فهي نعمة عندما يعرف أنها مِنَّةٌ وعطاءٌ من الله تعالى، فيسلك سبيل ربّه، ويتَّبع طريق الرشاد والخير لنفسه، ولذويه وللآخرين؛ وهي نقمة عندما تبطره النعمة وتفتنه، فينقاد لهواه، ولغواية الشيطان ووسوسته، فيقع في مهابط التكبّر والتسلط، أو يزلّ في أوضار الفسوق والفساد غير عابيء بأوامر ربه، وغير مبالٍ بحلاله وحرامه - في كل قول أو عمل أو تصرف قد يقوم به - حتى يصير عبداً للدنيا، ساعياً، أبداً، وراء متاعها وزينتها وغرورها..
ولهذا عمدت الآيات الكريمة - وهي كثيرة - في القرآن الحكيم إلى تربية الإِنسان، بما تقدم له من القصص والأمثال الهادية، وبما تحفل به من الحكمة والموعظة الحسنة، التي تبيّن جميعها أنَّ ما قد يصيبه من خير أو شر، هو من قبيل الابتلاء والامتحان لاختباره في نفسه قبل كل شيء، ومدى إيمانه بربّه تعالى، لاسيما وهو يرى أنَّ الناس جميعاً، أفراداً وجماعات، هم مثله معرضون للابتلاء، ما داموا يعيشون على هذه الأرض.. فإن حلَّ سوء بحياة امريء، فقد حلَّ بغيره مثله، وإن وقعت دهماء بساح جماعة، فقد رأت مثلَها جماعاتٌ أخرى كثيرة، ولكن الفارق أنَّ الابتلاء لا يزيد المؤمنين إلاَّ إيماناً وتسليماً، ولا يزيد الكافرين إلاَّ فتنةً وضلالاً!..
وهذا ما يريد النص القرآنيّ بيانه بقول الله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *} [آل عِمرَان: 154]، أي ليختبر الله ما في نفوسكم من الطاعة والأخلاص، وليميّز ما في قلوبكم من الكفر والنفاق، وذلك بما تبدون وتظهرون.. والله عليمٌ بذاتِ كل نفسٍ وما في أعماقها، وإنَّما اختباره ليظهر الناس على حقيقتهم في التفكير، والشعور والسلوك، فيظهر فيهم المؤمن والكافر، الصادق والمنافق، الطائع والعاصي.. ولذلك جاء القرآنُ يبيّن خصائص كل من تلك الفئات - حتى يكون كل إنسانٍ على علمٍ بأحواله - ثم ليقدّم منهاجاً متكاملاً لتربيةِ الإنسان تربيةً صحيحةً سليمةً، تتوافق مع فطرته، ومع خصائصه، والغاية من خلقه؛ ومن الأسس التي تقوم عليها هذه التربية شعور الإنسان واعتقاده بأنه معرض دائماً للاختبار في هذه الحياة الدنيا، فما أصابه من خيرٍ أو شرٍّ، إنّما مردّه لأمر الله، ليختبر ما في نفوس عباده وما في تصرفاتهم، بما قد يتميزون به عن بعضهم البعض، فينكشف الغثُّ من السمين، لأنَّ الابتلاء - عافيةً أو مرضاً، راحةً أو قلقاً، عطاءً أو تضييقاً، وجاهةً أو ذلةً - أهم محكٍّ للناس في طباعهم، وتحرّكهم في ساحتي التفكير والشعور، والفعل ورد الفعل؛ وقد يكون في الابتلاء، لدى كثير منهم، عامل تربية نفسانية مؤثرة، إذ يستيقنون بأنَّ ربَّهم، وبما أعطاهم أو حرمهم - فوقعوا في الابتلاء - إنَّما يريد بهم الخير، إنْ أدركوا مقتضى حكمته السنيّة في هذا الابتلاء، فهو يعلم ما صدورهم، بل ويعلم السرَّ وأخفى، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولكنَّه سبحانه يختبر عباده ليمحّص الذين آمنوا وعملوا الصالحات، من الذين كفروا وعملوا السيئات، فمن اتّبع سبل الهداية والرشاد التي جاء بها القرآن الكريم، فذلك زيادة في رحمته، وفضله تعالى على عباده، ويكون خير معين لهم على احتمال البلاء، والصبر على الشدة حتى ينالوا جزاء الصابرين..
والمؤمنون يكونون، معنيين عادة أكثر من غيرهم، بالتوجيه الذي يزودهم به كتاب الله الحميد، لأنهم أصحاب رسالة يجب أنْ يوصلوها إلى الناس. ولذلك كانت تبعاتهم أخطر، ومسؤولياتهم أكبر. والحفاظ على عروة الإِيمان يستلزم دائماً مزيداً من البذل والجهد والجلد، حتى تكون للمؤمن المقوّمات التي تمكنُّهُ من التغلُّبِ على العقبات والصعاب التي تعترضه، فكان من مقاصد تربية القرآن الكريم أنْ تشدّ العزم، وتقوّم الاعوجاج، وتصقل النفس، وتقوّي الإِرادة لدى الإنسان.. والمؤمن الذي يعرف أنَّ المسؤولية هي تكليف، لما فيه إصلاح العباد، وأنَّ الابتلاء هو تمحيص لما في القلوب، ويعمل على هذا الأساس، فإنه يفوز برضوان الله تعالى، لأنه اختار طريق الصلاح في الدنيا، والطريق الموصل للفلاح في الآخرة.
ويضرب الله تعالى لنا مثلاً عن الابتلاء بأصحاب بستانٍ غلبت عليهم نزعةُ الطمع، فطاف على بستانهم طائف من عنده تعالى، فأحرقه ودمَّره، كما تبيّنه هذه الآيات المجيدة بقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ *وَلاَ يَسْتَثْنُونَ *فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ *فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ *فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ *أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ *فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ *أَنْ لاَ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ *وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ *فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَآلُّونَ *بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ *قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ *قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ *فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون * كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم * أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون} [القَلَم: 17-36].
في أسباب نزول هذه الآيات، كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج، أنَّ أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذاً فاربطوهم في الحبال ولا تقتلوا منهم أحداً، فنزلت: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القَلَم: 17] أي إنّا بلونا المشركين من أهل مكة، في عدم قدرتهم على هزيمة المسلمين، على الرغم من اعتدادهم بكثرتهم وقوتهم مثلما بلونا أصحاب الجنة (البستان) فلم يقدروا على رد ما أصاب جنتهم. إذاً فهنا إخبار على أنَّ ثمةَ بلاءً من الله تعالى أنزله بالمشركين، وأنَّ مثل هذا البلاء، كما في معظم الشدائد التي تصيب الناس، إنما تأتي من فعالهم هم، وتكون نتيجةً لنواياهم وأعمالهم السيئة.. فالبلاء الذي حلَّ بأهل مكة يوم بدر، أو في غيره من المواقف، والأحداث التي أذلهم الله تعالى بها، والمصائب التي حلَّت بهم بما كانوا يقترفون، كانت كلها بسبب عداوتهم للـنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ومحاربة الدعوة إلى دينه القويم. ولذلك يؤكد لنا النص أنَّ ربَّ العالمين قد ابتلاهم حقاً، كما ابتلى أصحاب تلك الجنة على سوء نيتهم..
والروايات التي تتحدث عن أصحاب تلك الجنة تقول بأنهم كانوا يعيشون في قرية من قرى اليمن الغنية، التي تكثر فيها الحدائق والبساتين والزروع على اختلافها (وقيل إنَّ بينها وبين صنعاء مسافة اثني عشر ميلاً)، وأنهم ورثوا تلك الجنة عن أبيهم، وقد كان رجلاً مؤمناً قد آتاه الله من فضله رزقاً كثيراً، فكان لا يمسك من ثمار بستانه الغنيّ إلا ما يكفيه وعياله، ثم يتصدَّق بالباقي على ذوي القربى، واليتامى والمساكين والفقراء. فلما مات آلَ ذلك البستان إلى أبنائه، وكانوا أصحاب طمع، لا يحبون التصدق على المساكين، أو الإحسان للمحتاجين، بخلاف ما كان عليه أبوهم المحسن الجواد.
فلما حلَّ الموسمُ، وحانَ وقت القطاف والحصاد، تواعدوا على أنْ يغدوا على حرثهم باكرين، وخُلسةً عن الناس، حتى لا تراهم الأعين، وهم يعتمدون على عزيمتهم في الجني، من غير أنْ يتوكلوا على الله، أي بأنْ يقولوا: إلاَّ أنْ يشاء الله. وهذا معنى: {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ *} [القَلَم: 18]، أي لا يقولون: إلاَّ أنْ يشاء الله ألاَّ نجني أرزاقنا؛ أو إلاَّ أنْ يشاء الله منعنا من ذلك، أو عدم تمكيننا من فعل ذلك.. إذ وفقاً لناموس الحياة، فإنَّ أيَّ عزم، أو أيةَ نية غيرُ قابلين للتحقق إلاَّ أنْ يشاء الله، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا *} [الكهف: 23-24].. فعلى الإنسان عندما ينوي فعل أي شيء أنْ يقول: إنْ شاء الله، وحتى إنْ نسيَ، فعليه، حال تذكّره، أنْ يعود ويذكر ربّه تعالى، ويتوكل عليه، ويستثني بقوله: سأفعل ذلك إنْ شاء الله.. أو: ولا أستطيع أن أفعل ذلك إلاَّ أنْ يشاء الله..
وهذا ما لم يكن في نيّةِ أصحاب ذلك البستان!.
فقد اتكلوا على عزمهم في الغدو على حرثهم وقطاف ثمارهم، بعد أنْ تواعدوا على حرمان الفقراء من التصدق عليهم، فناموا مطمئنين.. هكذا كانت نيتهم ومشيئتهم؛ ولكن العزيز الحكيم قد شاء غير ما يشاؤون، فبعث على جنتهم في الليل، وهم يغطُّون في أحلامهم، ريحاً حارَّةً أحرقتها، فأصبحت «كـالصريم»[*]، أي سوداء، كـالليل البهيم بظلامه الدامس. وطلع الفجر، فتنادى أولئك الأخوة: أن اغدوا مبكرين إلى ثماركم وأعنابكم وزروعكم إن كنتم تريدون قطافها!. وانطلقوا، وهم يتخافتون، ويُسرُّون الحديث فيما بينهم، لئلا يسمعهم أحدٌ من المساكين، فيلحق بهم، ويدخل عليهم البستانَ فيأخذ نصيبه!
«وغدوا على حرد» أي على قصدٍ بحرمان الفقراء، أو على حنق أو غضب أن يأتوهم، وهم يتوهمون أنهم قادرون على حرمانهم فعلاً..
وكانت المفاجأة التي لم ينتظروها.. فلا أشجار ولا أعناب، ولا فاكهة، ولا زروع، بل رماد أسود يغطي المكان برمته لأنّ جنتهم أصبحت «كالصريم»..
وظنَّ أصحاب تلك الجنة أنهم ضلّوا الطريق عنها، فقد تركوها بالأمس في أوج نمائها، ولم يغيبوا عنها أكثر من سحابة تلك الليلة!.. مما جعلهم لا يصدقون، لأول وهلة، ما يرون أمامهم. ولكنهم بعد أن استفاقوا من هول الصدمة، قالوا: كلا، لسنا بضالّين عن ملكنا، بل نحن محرومون. وقد حرمنا ربُّنا العليّ القدير جزاءً على سوء نوايانا، عندما عزمنا ألاَّ نتصدق من مال الله الذي يؤتيه من يشاء بغير حساب، وما الله بغافل عن النوايا، فأوقعنا في هذا البلاء، وفي هذه المصيبة الدهماء، عقاباً على ما سوَّلت لنا به نفوسنا من الطمع، وعدم الامتثال لأمر الله تعالى في الصدقة، والزكاة..
ولعلَّ أوسطهم رجاحةً في العقل، واعتدالاً في الرأي، كان أجدر على أن يبيّن لهم السبب فيما أصابهم، فقال: ألم أقل لكم لولا تسبحون الله تعالى، وقد آتاكم تلك الخيرات الوفيرة، فتقولوا: سبحان الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلاَّ بـالله العلي العظيم، فلولا كنَّا من المسبّحين، لما كنَّا محرومين؛ ولولا قدَّرنا أنَّ الرزق من عند الله، وهو يتفضَّل على عباده بالعطاء والمنّ، لكان خيراً لنا، بل ولولا طمعُنا وعزمُنا ألاَّ يكون في ثمارنا نصيب للسائل والمحروم، لما طاف على جنتنا طائف من ربّنا فأحرقها، فتبّاً لنا، إنْ كنَّا إلاَّ ظالمين!.. فاعترفوا بذنبهم، وما ظلموا به أنفسهم، وأهليهم والمحتاجين؛ ثم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وكلٌّ يلقي التبعة على غيره، وكأنَّما يريد أنْ يتنصَّل من وقع ذلك الظلم على نفسه، وما يعقبه من الشعور بالحسرة والندم.. ولكن ماذا يفيدهم ذلك، وماأصابهم قد حرَّك فيهم الإقرار بأنهم كانوا طاغين، متجاوزين حدود الله تعالى، وحقوق عباده.. ولذلك نجدهم يعودون إلى الصواب في الرأي والقول، فيتمنون على ربّهم تعالى أنْ يعوّض عليهم ما فاتهم، فيقولون: عسى ربّنا أنْ يمنَّ علينا بخيرٍ من جنتنا التي كانت مصدر رزقنا وعيشنا. إنَّا إلى ربّنا راغبون بالتوبة والإنابة، وطلب العفو والمغفرة، إنَّ ربَّنا لغفور رحيم.
فهذا المثل الذي ضربه الله تعالى عن الظالمين لأنفسهم، فيه توجيه منه سبحانه للناس أجمعين، بألاَّ يظلموا، وألاَّ يطغوا على الفقراء والمساكين، لأن ذلك من فعل المشركين، والعاصين، والمنافقين والكافرين..
وقد اختتم سبحانه ذلك التوجيه بالتحذير والوعيد، وهو: أنَّ من يظلم في هذه الحياة، فإنَّ له عذاباً مثل العذاب الذي أصابَ أهل تلك الجنة، بما تسبَّبَ لهم سوء تصرفهم من حرمان الرزق، وآلام النفس «كذلك العذاب» أي مثل ذلك العذاب لأصحاب البستان العذابُ لمن خالف أمرَ الله. ثم بعد الوعيد عقَّب سبحانه بقوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [الزُّمَر: 26]، وأين من عذاب الآخرة، مثل هذا العذاب في الدنيا، الذي يكون فيه تلف للمال أو الرزق، أو الوقوع في المرض والألم!.. فعذاب الآخرة أكبر بكثير لو كانوا يعلمون ماهيته، ونوعه، وديمومته؛ ولو كانوا يعلمون ذلك العذاب علم اليقين لعبدوا اللَّهَ تعالى، وانصرفوا بكليتهم، وطوال أعمارهم، لمرضاة ربِّهم حتى يُبعدوا أنفسهم عن ذلك العذاب الذي أُعِدَّ للمجرمين. أما المتَّقون، الذين يخافون عذابَ الله، فإنهم يسيرون في الحياة الدنيا على طريق الصلاح والتقوى، ولهم عند ربّهم في الآخرة جنات النعيم.. والمتَّقون هم المؤمنون الذين أخلصوا لله تعالى الدينَ، وصدَّقوا رُسُله فكانوا من أصحاب عقيدة التوحيد، من المسلمين الذين كمل إيمانهم: نيةً، وقولاًوعملاً.. واحتسبوا عملهم لوجهه سبحانه، وأحسنوا لأنفسهم ولغيرهم.
فهل يجعل اللَّهُ تعالى في الآخرة هؤلاء المسلمين المحسنين، كـالمجرمين العاصين؟ ما لكم أيها الكافرون!. وكيف تحكمون هذا الحكم الفاسد بأنْ تقولوا للمؤمنين: إنْ بَعَثَنا اللَّهُ فسوف نُعطى أفضل منكم. أو نكون مثلكم في المصير؟ لا! لا تتوهموا ذلك، ولا يظننَّ أحد بالله تعالى إلاَّ العدل والحق.. ولن يجعل العزيز الحكيم المسلمين كـالمجرمين، بل لكل منهم درجات في مستقرهم.. فمن أطاع واتَّقى كانت له جنات النعيم، ومن عصى وكفر كانت له نار الجحيم.
2 - الإنسان مرهون بأعماله وجزاء السيئة بـمثلها
يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ *} [غَافر: 40].
ما أعظم عدل الله تعالى على المسيئين! وما أعظم إحسانَهُ، وجودَهُ على المحسنين!
فمن يعمل سيئة أو يرتكب معصية، فلا يجازى عليها إلاَّ مثلها، أي بمقدار ما تستحق من العقاب، لا أكثر ولا أقل. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ومما رزقهم الله ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إلى خاتم النبيين محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وما أنزل من قبله، ولا يبتغون إلاَّ مرضاة الله تعالى، فأولئك يدخلون الجنة، ويرزقون فيها، من رزق الله الواسع، بغير حساب، أي لا قدر بقدر، بل بقدر ما يوسعهم الله سبحانه من الفضل العظيم. ولو كان هذا الجزاء بمقدار العمل فقط لكان بحسبه وكفايته.. إلاَّ أنه تعالى قد ارتضى أنْ تضاعف الحسنات، وألاَّ تضاعف السيئات، وذلك رحمة منه بعباده، وتقديراً لضعفهم، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة، فضاعف لهم الحسنات، وجعلها كفارة للسيئات. فإذا هم وصلوا إلى الجنة، رزقهم الله تعالى فيها بغير حساب.
ويقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [يُونس: 27]، أي والذين دأبوا على فعل السيئات، ولا يتخلّون عنها؛ بل يجدّون دائماً في طلبها، حتى تكون بمثابة الكسب الذي يرومونه - لأنَّ أعمال الإنسان هي التعبير الأمثل عما كسب من الحسنات أو اكتسب من السيئات[*]، - فجزاؤهم «جزاءُ سيئة بمثلها»، أي أنَّ العقاب الذي خرجوا به من صفقة الدنيا، لن يكون بمقتضى العدل إلالهي إلاَّ بمقدار السيئة التي اقترفوها؛ من غير زيادةٍ أو نقصانٍ.. وهؤلاء الذين ينالون جزاء ما كسبوا من السيئاتِ، لا بدَّ أن يقعوا تحت وطأة الذلِّ والهوانِ حتى ترهقهم شدة الذِّلة، لأنَّ العقاب في الأصل ثقيل على النفس، وغالباً ما يلازمه الشعور بالإهانة والانكسار.. فمن الجزاء (العقاب) إلى الشعور بالذُّل، ينشأ تراكم في العقوبات، يؤدي إلى ذلك الإرهاق، ثم لا يجدون ما يمنع أو يدفع عنهم شيئاً من ذلك، إذ من يمنعهم من الله العزيز القدير، والأمر بيده، ومرجع كل شيء إلى مشيئته؟ فهم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يُونس: 27]، فهم في تلك الحال، ولشدة ما يلاقون من الخزي، تصبح وجوههم سوداء قاتمة، فكأنما أُلبست قطعاً من ظلام الليل البهيم.. ويمكن أنْ نتصورها تماماً مثلَ هذه الأقنعة التي توضع على الوجوه في حفلات التنكّر،أو في جرائم القتل والسرقة، ولكن هنا - في الدنيا - سرعان ما تسلخ تلك الأقنعة عن الوجوه والأيدي، بينما هناك - يوم القيامة - فإنَّ الوجوه تصطبغ بالسواد الحالك من شدة الرهبة والخوف، وما يرافقهما من الذِّلة والهوان لتدلّ على الذين اكتسبوا السيئات، وأولئك هم المبعدون عن رحمة الله، وأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون.
3 - التقليد والتبعيّة
يقول اللَّهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ *إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البَقَرَة: 165-167].
لا ضير من القول بأنَّ التقليد يمكن أنْ يُعدَّ تعطيلاً لنعمة العقل، وأسراً لموهبة الإدراك، فالمقلّدون هم الذين يتّبعون غيرهم من غير أن يحثُوا ملكاتهم على تشغيل طاقاتها في التفكير، والبحث والاستقراء للتوصل إلى الاعتقاد الجازم، والإِيمان المكين بالقضايا والمسائل والمواقف التي قد تعنيهم هم أنفسهم، كما قد تعني غيرهم من الناس؛ فكأنهم بذلك يميتون خصائص تكوينهم الذهنية والنفسية التي تتأثر وتؤثر في المجالات الحيوية للإنسان، وفي طليعتها الإيمان أو الاعتقاد الديني.. وفي هذا الوضع يصبحون فاقدي الأهلية لسماع دعوة الحق سماع تدبُّرٍ، وتبصُّرٍ، وتفهُّمٍ، لتخلِّيهم - بفعل التقليد الأعمى - عن النعمة التي خصَّ بها الخالق العظيم هذا الإنسان بما وهبه من إرادة ذاتية وحرية للاختيار.. وهذا شأن المشركين الذين اتخذوا من دون الله أنداداً، وأولياء، فلا يتجاوبون مع دعوة الداعين إلى سبيل الله القويم، بل يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ *} [الزّخرُف: 22]، أي وإنَّا على معتقداتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، سائرون، وبهم مهتدون في عبادتهم الأصنام والأوثان، لأننا لن نخرج على ملة آبائنا، وما ورثنا عنهم من أَثَر!.. فكان ذلك الاعتقاد من جملة الأسباب التي جعلوها بمثابة الحجاب الذي أقاموه بينهم وبين النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عندما جاءهم بالإسلام، ليحجبوا عنهم نور هذا الدين، ويحولوا دون نفاذه إلى قلوبهم، فلا يهتدون، بعدُ، إلى دين الله القويم!.. وهذه هي حال الناس الذين لا يقبلون الإسلام ديناً، (وليس أولئك المشركون في زمن النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وحدهم)، لأنَّ النص القرآني جاء عموماً بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ} [البَقَرَة: 8].. وهؤلاء الناس الذين اتبعوا التقليد والتبعية دونما تمحيصٍ عن الحق، لا يقبل الله تعالى منهم مثل هذا التقليد والتبعية، ولذلك ضرب لهم في القرآن أمثالاً تدلُّ على معتقداتهم وآثارهم في كل زمانٍ أو مكانٍ وُجد فيه أناسٌ يتخذون من دون الله أصناماً، أو كائناتٍ يتعبَّدون إليها، أو أشخاصاً يتخذونهم أولياءَ يعتمدون عليهم، وعلى قدراتهم بمساعدتهم، ومدّ يد العون لهم، دونما إيمانٍ بالله أو توكّلٍ عليه سبحانه وتعالى!.. وهذا ما يوقعهم في الشرك والضلال، لأنَّ عبادتهم، وولايتهم لغير الله جلَّ وعلا كلها شرك خفيٌّ أو ظاهر، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله تبارك وتعالى؛ أو إذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله!.. فكيف إذا نزع المرء من قلبه حبَّ الله - والعياذ بالله - وأفرد تلك الأنداد بالحب الذي لا يجوز، بل ولا ينبغي إلاَّ أنْ يكون لله، الذي أوجده في أحسن تقويم، ومنَّ عليه بما لا يُحصى من النعمة؟!.. وتلك هي أحوال المشركين، وهم على آثارهم يهرعون!..
{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البَقَرَة: 165]، لأنهم آمنوا بـالله خالقهم، ومولاهم، وهاديهم، والمنعم عليهم، وكل واحدٍ من هذه الأقانيم يكفي بذاته لأن يجعلَ حبَّ المؤمنين لله أشدَّ من حبّهم لأنفسهم، وأهليهم، وسائر البشر مهما كانت مكانتهم.. فكيف إذا امتلأت نفوسهم بمعاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا[*]، أفلا تجعل حبّهم له جلَّ وعلا حبّاً مطلقاً؛ خلواً من كل موازنة أو مقاربة أو معادلة؟ لقد آمنوا - عقلاً وقلباً - بحقيقة وجود الله تعالى، فعبدوه حبّاً، وطاعةً واستسلاماً، وحمدوه شكراً، وامتناناً وثناءً، وأنابوا إليه خوفاً ورهباً، وطمعاً.. فكان حقاً أن يكون حبُّ المؤمنين لله عزَّ وجلَّ أشدّ من حبِّ الذين اتخذوا من دون الله أنداداً وذلك من وجهين:
الأول : علمهم اليقينيّ بحقيقة ألوهية الله تعالى وربوبيته، فأخلصوا له في العبادة والطاعة،ونزَّهوه عن كل شرك، فهو الله الذي لا إله إلاَّ هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمان الرحيم.
والثاني : إخلاصهم في حبّه عن علمٍ بأنه هو المنعم ابتداءً، وبأنَّ صلاح أحوالهم، وتدبير شؤونهم لا يكون إلاَّ بمشيئته، لأنه اللطيف الخبير، والودود الغفور؛ وأنه بمقتضى حكمته السَّنِيَّة يقبل من عباده القليل ويعفو عن كثير، فوجب عليهم أنْ يعبدوه عبادة الشاكرين، ويرجوا رحمته رجاء المتقين، وأنْ يكون حبُّهم لله تعالى، مولاهم وسيدهم، أشدَّ حباً من أي شيء آخر..
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ *} [البَقَرَة: 165].. ومن هم الذين ظلموا؟ هم الذين اتخذوا أنداداً من دون الله تعالى، فظلموا أنفسهم، وظلموا معهم غيرهم من الذين كانوا لهم تبعاً، وأشركوا بـالله تعالى مثلهم.. ولو يرى هؤلاء الظالمون عذاب الله الذي سينزل بهم، في يوم مشهد عظيم، حيث الذين كانوا يستكبرون في الأرض سودَ الوجوه، زرق العيون، في أعناقهم أغلالٌ فهي إلى الإذقان فهم مقمحون!.. ولو يرون ذلك واقعاً لا محالة، لأدركوا أن القوة والبأس، والشدة والجبروت، والعظمة والعزة كلها لله تعالى الواحد القهَّار. وأنَّ كلَّ ما كانوا يستندون إليه، أو يعوّلون عليه من دون الله فهو باطل، ولا شأن ولا قدرة له لحمايتِهم، أو نصرتِهم أو مدهم بأي عونٍ إلاَّ أن يشاء الله، والله لا يريد ظلماً للعباد!..
إذاً فتقدير المعنى: أنهم لو علموا في الدنيا - ويا ليتهم يرون ويعلمون - شدَّة عذاب الله، وأنَّ القوة لله جميعاً وحده، فلا يملك أحدٌ غيره سبحانه أية أسباب للقوة.. لما اتخذوا من دونه أنداداً، ولا أشركوا به شيئاً، ولتركوا تقليد آبائهم الذي يقوم على عبادةٍ باطلةٍ، وعلى معتقدات من خواء! ولما ظلموا أنفسهم وغيرهم بمثل ذلك الظلم العظيم!..
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البَقَرَة: 166]، إذ يوم القيامة، يوم يقوم الناس للحساب، هنالك يتبرّأ الآباء والرؤساء، والآلهةُ المزعومة، والأربابُ المتفرقة وسائرُ المتبوعين من الذين اتَّبعوهم في معتقداتهم، وساروا على منهاجهم.. ولا يقف الأمر عند حدّ التبرّؤ منهم، بل وينكرون عليهم ضلالهم وتقليدهم، وذلك حين رأوا العذاب جميعاً - التابعون والمتبوعون - يحلُّ بهم، ويساقون إلى جهنم زمراً، وحين تقطعت بهم (أي بنفوسهم وأفئدتهم) كل أسباب القرابة والأرحام والمودة، أو الحلف أو العهد، وكل الصلات التي كانت تربطهم في الدنيا، بحيث لم تعد تنفعهم بشيء في الآخرة، لأنَّ مدار النفع والثواب والأجر لن يكون إلاَّ عمل الإِنسان وحده، وما كسبت نفسه في حياته الأولى على هذه الأرض..
وبعد ذلك التبرؤ من المتبوعين، يأتي دور التابعين: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البَقَرَة: 167] أي لو أنَّ لنا عودةً إلى الحياة الدنيا، وقد رأينا من عذاب الله ما رأينا، فإننا نتبرَّأُ هناك من الذين اتبعناهم كما تبرَّأوا، هم، منا، ههنا، ولن نقتديَ بهم، ولن نعود إلى اتّباعهم أبداً..
فيا له من مشهد مؤثر: مشهد التبرّؤ، والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين!.. فكلٌّ يريد أن يتنصَّلَ من وزر الآخر، ومن إضلاله له.. ولكن هيهاتَ أنْ تكون لهم عودة، فقد صاروا في الآخرة - وأُحضروا إلى الحساب - حيث لا رجوع إلى دار الدنيا.. وكما بدت لهم سيئات أعمالهم، باتّباع الضالين المضلّلين، كذلك يريهم الله تعالى أعمالهم حسراتٍ، ملؤها الندم، واللوعة والقهر؛ فهم يتحسرون على أعمالهم التي ارتكبوها في الشرك والمعصية، وترك عقيدة التوحيد، والطاعة لله تعالى، لأنهم أدركوا يومئذٍ مقدار الثواب الذي ينالُهُ الذين فعلوا الطاعات، فكانت حسرتهم على ذلك الثواب الجزيل، الضائع منهم، حسرةً دائمة، لا تقل ألماً عن العذاب الذي يقعون فيه، إن لم تكن من جنس ذلك العذاب نفسه، على الرغم من شدته، وطول مقامه. لأنَّ الحسرة على الشيء، هي، عادةً، من جنس هذا الشيء فكانت حسرتهم في الآخرة، على أعمالهم في الدنيا من جنس تلك الأعمال، التي لا جدوى منها، ولا طائل، لأنها هي التي جعلت مصيرهم في النار، وما هم بخارجين منها.
4 - كما زُيّن للإنسان الإعراض عن الدُّعاءِ لله بعد كشف الضر عنه كذلك زين للمسرفين أعمالهم.
يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [يُونس: 12].
«إنها صورةٌ لنموذجٍ بشريٍّ مُكَرَّر. فالإِنسان يظلُّ مدفوعاً مع تيار الحياة: يُخطيء ويذنب، ويطغى ويُسرف، والصحة موفورة، والظروف مواتية. وليس من يتذكّر في إبّانِ قوته وقدرته أنَّ هنالك ضعفاً، وأن هنالك عجزاً، إلاَّ من هدى اللَّهُ ورحم، لأنَّ ساعات الرخاء تُنسي، والإِحساس بالغنى يُطغي».. ولكن هذا الإِنسان الذي كان يغترُّ بالقوة، تراه إذا مسَّهُ الضرُّ جزوعاً هلوعاً.. يضيق صدره بالشدَّة، فلا يجد إلا الدعاء لله ربه كي يذهب عنه البلاء الذي حلَّ به. فإذا استجاب له ربُّه، وكشف عنه الضّر، انطلق لا يعقّب، ولا يفكر، ولا يتدبّر، ثم هو لا يسأل نفسه: من أوقعه في هذا الضر، ومن كشفَهُ عنه؟ بل ولا يلبث أنْ يعود إلى ما كان فيه قبلاً من اندفاع واستهتار..
هذا النموذج من البشر الذي نجده يتكرر دوماً، تصوّره الآية الكريمة في حركاته وسكناته، في راحته وتعبه، في هنائه وشقائه.. فهو عامل، متحرك، مندفع على مسرح الحياة بلا هوادة. فإذا وقع في محنةٍ أو بلاء، أو حاقَ به أي مكروه، فإنه لا يجد إلاَّ الله تعالى، يلوذ إلى حماه بالدعاء والرجاء على أي حال كان، إنْ في تقلّبه على جنبيه من الأرق، وإن في قعوده أو قيامه اللذين يحرّكهما التشوش والاضطراب لشدة ما يكون عليه من القلق، وعدم الاحتمال على الضرّ..
ولا يزال ذلك الإِنسانُ مجتهداً في سؤاله لله تعالى، وفي طلب العافية منه سبحانه، لا ينقطع عنه ولا يحيد، وليس غرضُهُ إلاَّ زوال ما هو عليه من الكرب، وما ينتابه من الألم والشدة، دون أي تفكير في نيل الثواب أو الأجر في الآخرة.. فإذا ما كشف الله سبحانه وتعالى عنه الضرَّ، ودفع عنه البلاء، وأعادَ له الأمن والأمان {مَرَّ} [البَقَرَة: 259] على حالة الضرّ التي كان فيها مرور العابر، وأعرض عن الدعاء والرجاء، فكان مثله كـمن اعترضَهُ ظالمٌ أو جهول فالتجأ إلى من يخلّصه من شره، وهو يتذلّل، ويستغيث به، حتى إذا قدَّم له العون الذي طلب، ولّى معرضاً عنه من غير أنْ يلتفت إليه، أو أنْ يبدي بادرة شكرٍ له.. بل وقد لا يتأمَّل بما جرى معه، ليعتبر!. فإذا كان هذا النموذج من البشر مثالاً للإنسان الجاحد والمنكر لصنع الجميل، فما بالك بالذي يكشف اللَّهُ تعالى عنه الضرَّ الذي مسَّهُ، ثم لا يلبث بعده أنْ يعود إلى دأبه من الاندفاع وراء مظاهر القوة، وكأنه لم يستجر بالله تعالى، ولم يَدْعُهُ لأنْ يكشف عنه الضر. أو كأنه لم يسأله برجاءٍ وذلٍّ وانكسار أنْ يزيل عنه الشدة، وأنْ يذهب عنه الألم؟!.. وأسوأ من ذلك أنَّ فريقاً من الذين كشف الله الضرَّ عنهم، لا يلبثون بعد الإنابة إليه تعالى في الشدة، أنَّ يعودوا إلى سابق عهدهم في الشرك بالله، من خلال اندفاعهم مع تيار الحياة، دون كابح، ولا زاجر، ولا أَيّة مبالاة لطاعة أو إنابة، أو دعاء؛ يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ *} [الرُّوم: 33] فما شأن هذا الفريق من البشر الذي لا يعرف اللَّهَ تعالى إلاَّ وقت الشدة، وينساه فيما عدا ذلك؟ وما بال هؤلاء البشر الذين يجحدون فعل الخير، وينسون حسن الصنيع، ويتنكرون للمعروف؟ هل ينطبق عليهم وصفٌ من صفات الإِنسانية؟ لا، لأنهم من {الْمُسْرِفِينَ} [غَافر: 43] كما وصفهم ربُّ العالمين.. فهؤلاء هم الذين ينسون رحمة الله تعالى التي تكشف الضرَّ الذي يمسهم، لانقيادهم الأعمى إلى شهوات نفوسهم الأمارة بالسوء، وأهوائها، وابتعادهم عن الله تعالى، وإنكار فضله عليهم..
وعلى كل حال وكما تزيّن شياطين الإِنس والجن لأهل الغيّ الاستسلام لأهوائهم ونزعاتهم، فينصرفون إلى الباطل، وينغمسون في الشر حتى ينسوا ذكر الله، وكما يُزيِّنُ الضرُّ أو البلاءُ الدعاء لله تعالى وقت شدتهما على الإنسان، ثم يعرض عن ذكر الله وقت الرخاء، كذلك زُيّن للمسرفين الذين تجاوزوا حدود الله، ما كانوا يعملون من فعال منكرة، وتصرفات ضالّة، فتركوا الحق والخير والإِيمان، واستمروا في إسرافهم من غير أن يحسّوا ما فيه من تجاوز للحدود التي فرضها الله تعالى لصالح العباد!..
وفي هذه الآية الكريمة، وبما تحمل من تصويرٍ بشعٍ للنموذج البشريّ الجاحد، حثٌّ ضمنيٌّ - بالمقابل - للمؤمنين خاصة، وللناس عامة، بألاَّ ينسوا ربَّهم إذا منحوا الرخاء بعد الشدة، والعافية بعد البلاء. بل عليهم أنْ يتذكروا دائماً حسن صنيعه تعالى لهم، وجزيل نعمته عليهم، وأنْ يشكروه ويسألوه دوام النعمة، والصنيع الجميل، والفضل العظيم. كما أن فيها تنبيهاً من الله تعالى على وجوب الصبر عند المحنة احتساباً للأجر، وابتغاء للثواب، وأملاً في تغيير الحال بأحسن حال.
5 - جزاء الإنفاق في سبيل الله تعالى
أ - مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل
يقول الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البَقَرَة: 261-262].
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].. هذا ما يهدينا إليه القرآن المجيد.. فهذا المال الذي يجهد الإِنسان في جمعه، هو، في الأصل، عطاء من الله الجواد الكريم، الذي يرزق من يشاء بغير حساب، ولكنَّ الوسائل لكسب هذا المال قد تختلف بين إنسان وآخر، ولذلك قد يكون المال نعمةً من أعظم النعم، على صاحبه إنْ جاء عن طريق الكسب الحلال، أو قد يكون نقمةً من أعظم النقم إن جاء عن طريق الكسب الحرام؛ فإن وسَّع صاحب المال الحلال على نفسه وعياله بوجوه الانفاق، وأكثر من الحسنات سراً وعلانية، وساهم في مشاريع إنسانية، وأعطى الفقراء والمساكين.. إلخ ففي جميع هذه الوجوه يكون قد أنفق في سبيل الله، ويكون إنفاقه خيراً له وأبقى..
أما إذا طمع صاحب المال بماله، وغلب عليه الجشع بجمعه، وتكالب على اكتنازه وتكديس الثروة، ثم بخل على نفسه وعياله، ولم يدفع زكاة أو يتصدّق بصدقة، فإنَّ المال قد يكون نقمة تنزل عليه، ولا يناله إلاَّ التعب والشقاء في عدِّه وإحصائه، لأنه لم يراع فيه حقوق الله تعالى، وحقوق عباده. ثم تكون الطَّامَّة الكبرى إذا كان جمع ماله من حرام فهنا، يكون قد أسخط الله في جمعه، وسوف يكون مالُهْ ويلاً عليه، عند ملاقاة ربّه تعالى..
وقد زيّن القرآن الكريم للنفوس المؤمنة، الإِنفاقَ في سبيل الله، مبيّناً أنَّ هذا الإنفاق هو بمثابة قرض لله - مما يُقرضُ عادةً الدائنُ للمدين في دنيا الناس - وأنَّ من يقرض الله قرضاً حسناً - والله هو الغنيّ عن عباده، وهو الرزاق الوهاب - يضاعفه له يوم القيامة[*]. ولعلَّ في هذا المفهوم القرآنيّ العلاج الشافي لشحّ النفوس، وطمعها في حب المال؛ فهو يستل[*] منها الحرص والتقتير، ويدفعها إلى البذل والإنفاق بسماحةٍ، وطيب خاطر.
ويضرب لنا الحقُّ تبارك وتعالى المثل على الإنفاق في وجوه البرّ والخير - وهو الإنفاق في سبيل الله - بالنبات الجيّد المعطاء.. فالإِنسان يبذر الحبَّة، التي لا تنبت عادةً إلاَّ سنبلة واحدة، فإذا أنبتت الحبةُ سبعةَ فروعٍ، في رأس كل منها سنبلة، وفي كل سنبلة مائة حبة، فإن الحبَّة الواحدة تكون قد أعطت سبعمائة حبة.. هكذا يكون فضل الذين ينفقون في سبيل الله، كما يبرزه لنا التمثيل القرآنيّ.. ولا يستغربنَّ أحدٌ تصور مثل هذه السنابل بجذعٍ واحدٍ من حبةٍ واحدة، إذا كان الله جلت مشيئته هو المنبتُ، والحبَّة ليست إلاَّ سبباً أُسند إليها الإنبات، كما أُسنِدَ إلى التربة، والماء والهواء، وغيرها من العناصر ممّا يجعل هذه الحبة الواحدة تعطي كلَّ ذلك النماء الكبير.. فهل بعدُ من ينكر أنَّ الحنَّان المنَّان قادر على أنْ يضاعف لعباده المحسنين من الأجر بقدر ما يشاء، وخاصة عندما نعلم أنَّ مثل هذا التمثيل في القرآن ليس إلاَّ تصويراً للأضعاف كأنها ماثلة أمام أعيننا، وأنَّ كلَّ نفقة في سبيل الله قد يضاعف أجرها في الآخرة سبعين ضعفاً، أو أنه يمكن أنْ يُعطى المنفق رزقاً في الدنيا، يعادل نفقته الواحدة سبعمائة مرة.. فما أعظم كرمَ الله على عباده المحسنين، وقد استحقوه على بذلهم، وعلى ما في نفوسهم من بذور للخير تؤتي ثمارها كل حينٍ بإذن الله..
ومثل هذا الإنفاق في وجوه البرّ والخير لأجل مساعدة العباد للعباد، لا يقل عنه شأناً الإنفاق لإعلاء كلمة الله تعالى، ونشر دينه القويم، أما مضاعفة أجره، فالأمر فيه يعود لله تعالى؛ ولكنْ ما هو أعلى منه مقاماً في الأجر، الجهاد في سبيل الله، حتى بذل النفس، ونيل الشهادة، وهو الجهاد الذي أمر به ربُّ العالمين بقوله العزيز: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *} [التّوبَة: 73]؛ أما أجر المجاهدين فقد بيّنه القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات، ومنها قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ *يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} [التّوبَة: 20-22]. من أجل ذلك رأينا المسلمين الأوائل أحرصَ الناس على الجهاد في سبيل الله، إذ كانوا لا يتوانون عن بذل أموالهم لتجهيز أنفسهم، وتجهز الجيش الإسلاميّ لأداء واجبه المقدس، ثم الإقدام على خوض القتال، وبذل المهج والنفوس دون أي تثاقل أو تقاعس، من أجل نيل رضوان الله تعالى.. فـمثل هذه الحسنات في الجهاد تكون - إذا شاء الله - أضعافاً مضاعفة، وتصل إلى المئات، بينما تكون النفقة في غير الجهاد حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وكلُّ مضاعفة رهنٌ بما يريد مولانا وربُّنا الكريم..
ومن ينفق في سبيل الله تعالى، ومن أجل مرضاته عزَّ وجلَّ، ولا يُتبع هذا الإِنفاق بالمنّ، وبتعداد ما أنفق، وإذلال من يُعطي، أو لا يرافق هذا الإِنفاق أذىً في التطاول على كرامة من يُحسَنُ إليه.. أجل، فالذين ينفقون ابتغاء وجه الله، كان أجرهم عند ربّهم عظيماً، وهؤلاء لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون يوم القيامة، لأنهم يعطون أو يبذلون وقلوبهم مفعمة بالإِيمان والرحمة، وبحبِّ عمل الخير، فيخرج المال، حينئذٍ، من قلوبهم قبل خروجه من أيديهم، ومن غير جزع أو هلع من فقر أو حاجة، فهم يعلمون أنَّ المال مالُ الله، وأنَّ إنفاقه يجب أنْ يكون في سبيل الله..
وكم تكون الحياة جديرة بالتقدير والاحترام عندما تكون زاخرة بـمثل هذا العطاء الصادر عن قلب طيِّبٍ ونفسٍ سخيَّة.. ففي موكب الحياة يوجد كثيرون من ذوي الحاجة والعوز، والإِنسانُ الطيِّب يتَّجه فيها دائماً إلى البذل ومدّ العون للآخرين، وخصوصاً إذا كان كريماً بطبعه، متأثراً بعقيدته، وشاعراً بأحوال أمته، وأحوال أبنائها.. إنه - بلا شك - يحب أن ينفق لإعلاء كلمة الله، وتأمين مصالح الأمة، وسدّ حاجات المؤمنين من إخوته في الدين، ومن أبناء وطنه المحتاجين.
والإِنفاق الذي يقبله اللَّهُ سبحانه ويضاعفه في الدنيا والآخرة يرفع من قدر الإِنسان، لأنه لا يؤذي كرامات الناس أو يخدش مشاعرهم، ولأنه يكون منبعثاً، في الأصل، عن أريحيَّةٍ[*] ونقاءِ طويَّةٍ، ويكون متجهاً إلى الله تعالى وحده، وابتغاء مرضاته..
أما الإِنفاق الذي فيه منٌّ وأذى فهو مكروه عند الله تعالى. لأن المنَّ ظاهرةٌ كريهة فيها لؤمٌ وشعور خسيس منحط. والنفس البشرية لا تمنّ بما أعطت إلاَّ رغبة في الاستعلاء أو في إذلال الآخذ. فالمنّ إذاً فيه ضرر للمنفق وللآخذ على حد سواء. ضرر بما يثير في نفس المنفق من كبر وخيلاء، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام.. وما أراد الإِسلام بالإِنفاق مجرد سد الحاجة وملء البطون، وإنما أراد تطهيراً وتزكية لنفس المعطي، وربطاً له بأخيه في الدين،، ونظيره في الإِنسانية، وتذكيراً له بنعمة الله عليه في غير منعٍ عن المحتاجين، ولا منٍّ عليهم.. كما أراده الدين الحنيف ترضيةً وتندية لنفس الآخذ، وتوثيقاً لصلاته الطيبة بالمحسنين... وهكذا تسير الجماعة على أساسٍ من التكافل الاجتماعي والتعاون الجماعي، ويكون قوامها وحدة اتجاهها ووحدة أهدافها.. والمنّ يذهب بهذا كله، ويحيل الإِنفاق سمّاً زعافاً، وناراً محرقة. فهو أذىً وإنْ لم يصاحبه الإيذاء باليد، لأنه يحمل في ذاته وطبيعته الإيذاء الذي يمحق الإِنفاق، ويمزق وحدة المجتمع، ويثير السخائم والأحقاد بين الأفراد.
فمن ينفق في سبيل الله هو من يستحق الأجر والثواب، والله يضاعف الحسنات لمن يشاء، وهو سبحانه واسع الفضل لا ينقطع عطاؤه ولا ينضب. كما أنه عليمٌ بالنوايا، مثيبٌ عليها، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وكما في القرآن الكريم أمثلة دالة على الإِنفاق في سبيل الله، كذلك فيه أمثلة دالة على الإِنفاق رياءً، وفي سبيل حب الظهور والتعالي.
ب - مثل الإنفاق رياءً، ومثل الإنفاق ابتغاء مرضاة الله
يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [البَقَرَة: 264-266].
تلك مأثرة أخرى من المآثر التي يريد القرآن أن يربِّيَنا عليها، وهي أنَّ الرياء يبطل ثواب العمل، والأذى يحبط أجر الصدقة.. فالرياء مَرض من أمراض المجتمع البشريّ، يدل على ضعف في الشخصية، وسوءٍ في الخُلُق. وطريق هذا الرياء المراوغة التي يسلكها - عادة - كل متلوِّن مخادع يريد الوصول إلى منافع ومكاسب شخصية، دون أنْ يحسب، في المقام الأول، حساباً لكرامته، وعزة نفسه، وسجيّته[*] الإنسانية!..
والإِسلام عندما جعل الصدقة ركناً من الأركان التي يقوم عليها هذا الدين، إنما أوصى بها تزكية لنفس المتصدِّق وماله، وحرصاً على أخيه المسلم لكي يمنع عنه غائلة الجوع، ويرفع عنه وطأة الحاجة. ولذلك ينهى الله تعالى الذين آمنوا بألاَّ يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى على مستحق الصدقة، وأنْ يحافظوا على كرامته بأَلاَّ تمتهن بالمن، وعلى شعوره بألاَّ يمسَّه أذى، لئلاّ يسبب له ذلك ألماً نفسيّاً يجلب له التعاسة. وهذا ما يُسقط معنى الصدقة بل ويحيلها شقاءً ونقمةً..
وعندما يَنهى الله تعالى الذين آمنوا بألاَّ يبطلوا صدقاتهم بالمنّ والأذى، فذلك حتى لا يكونوا كـالذي ينفق ماله رياءً أمام الناس، وحباً بالظهور، ولفت الأنظار دون أدنى نيةٍ في نيل جزاء أو فضلٍ من ربّه.. ورياؤه في ذلك دليل على عدم إيمانه بـالله واليوم الآخر، فـمثله في إنفاقه وريائه كمَثَل حجرٍ أملسٍ عليه تراب، نزل عليه مطر شديد، فجرف ما عليه من تراب، وتركه صلباً أملس على أصله.. فالمنّانون الذين يُتبعون إنفاقهم أذًى، هم على شاكلة ذلك المرائي، يذهب إنفاقهم سدىً، لا يقدرون على شيء من فائدة أو منفعة لأنهم لا يجدون له أجراً أو ثواباً في الآخرة وفي هذا يقول رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) : «مَنْ أَسْدَى إلى مُؤْمنٍ معروفاً ثم آذاهُ بالكلام أو مَنَّ عليه، فقد أبطَلَ الله صدقَتَهُ» [*]؛ بل ويبيِّن الرسول الأعظم أنَّ المنَّان له عذاب أليم يوم القيامة بقوله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «ثلاثةٌ لا يكلِّمُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظُرُ إليهم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عذابٌ إليمٌ: المَنَّانُ بِمَا أَعْطَى، والمُسْبِلُ إزارَهُ، والمنفِقُ سِلعَتَهُ بالحَلَفِ الكاذِب»[*] . ولذلك كان التعقيب {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *} [البَقَرَة: 264]، الذين لا ينفقون ابتغاء مرضاة الله، فلا يستحقون أجراً على أعمالهم، بل ولأنَّ كفرهم، في الأصل، قد أحبط أعمالهم جميعها، وحال دون استحقاق الثواب عليها.
وبمقابل المثل على الإنفاق رياءً، فإن القرآن الكريم يسوق المثلَ على الإِنفاق المثاليّ، أي الإنفاق الذي يرتكز على دعائمَ من الإِخلاص والتقرب إلى الله تعالى، وتثبيت الإيمان في النفس. وهذا الإِنفاق، مهما كانت قيمته، فإنَّ مثوبته قائمة، وجزاءَه لا ينقطع، فالذين ينفقون أموالهم ابتغاءَ مرضاةِ الله سبحانه، وتثبيتاً من أنفسهم، هم أصحاب فضلٍ كبيرٍ عند ربّهم العليّ القدير. فهم ينفقون تصديقاً لوعده تعالى بالثواب، وتعبيراً عمَّا هم عليه في قرارة نفوسهم من الجود، وحب الإحسان، لأنَّ المال معادل للنفس - كما يقال - وقد يكون إنفاقه أو بذله أشق على النفس من القيام بالعبادات الأخرى، حتى تلك التي فيها مشقة مثل الصوم أو الحج.. فالإنفاق النابع من النفس قد يزيد الإِيمان فيها تثبيتاً، ويجعلها أشدَّ بصيرةً في الدين حتى لترى الثواب في الآخرة حق اليقين، ومَثَلُ إنفاق هؤلاء المؤمنين كمثل بستان في مكانٍ مرتفع مستوٍ. وقد سمَّاهُ التشبيه القرآني «ربوة» - أي المكان المرتفع المستوي - التي يكون نبتها،عادةً، أحسن، وريعها أكثر من الأرض المنخفضة التي يتجمع فيها الماء.. فإذا هطل المطر شديداً على بستانٍ في ربوةٍ، أعطى ثماراً وغلالاً تعادل ضعفين عمَّا تكون عليه في الموسم العادي، وإذا نزل المطر طلًّا، أي خفيفاً، فإنه يكون كافياً لبقاء البستان على رونقه وجناه: يثمر ويزكو.. وسواءَ كثر المطر عليه أم قلَّ.. فكذلك نفقات الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم على حب الصدقة والخير، فهؤلاء نفقاتهم تزكو عند الله سبحانه كثرت أم قلَّت. والله بما يعملون بصير، فيجازيهم به.
وهذا المثل يبيّن للناس أنَّ الإنفاق قد يكون إما إنفاقاً كثيراً مثل المطر الوابل، أو إنفاقاً قليلاً مثل الطل الخفيف، فالأول يعبر عن سعة الرزق، والثاني عن قلة الرزق، أي ما دون السعة، كما ذهب إليه صاحب المنار إذ يقول: «ووجه الشبه عندي أن المنفق ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفسه هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه، كـالجنةِ الجيدةِ التربة، الملتفة الشجر، العظيمة الخصب في كثرةِ بِرِّه وإحسانه. فهو يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أغدقَ ووسَّعَ في الإِنفاق، وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدر. فخيره دائم، وبرّه لا ينقطع، لأن الباعث عليه ذاتيٌّ لا عرضيّ كـأهل الرياء وأصحاب المنِّ والإِيذاء، فالوابل والطلُّ عبارة عن سعة الرزق، وما دون السعة»[*].
ثم تمضي الآيات الكريمة بعد ذلك لتبين عاقبة الرياء والأذى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البَقَرَة: 266].
أيود أحدكم أنْ تكون له جنة، غنية بأشجار النخيل والفواكه، والأعناب والزروع على أنواعها وألوانها، وتجري فيها المياه الدافقة لتؤتي أكلها كل حين بإذن الله، ثم أصابه الكبر فأصبح شيخاً فانياً، عاجزاً عن رعاية جنته، وليس له إلا ذريةٌ صغارٌ، ضعفاء لا يقدرون على شيء؟ أجل، أيودُّ أحدكم أنْ تكون له مثل تلك الجنة ثم أصابها إعصارٌ فأتى عليها كلها، ودمرها بناره المحرقة، دون أنْ تكون له - وهو الشيخ الهرم - أو لذريته - الصغار العاجزين - أيةُ حيلة في رد ما أحاق بهم، وفي وقت هم بأمسّ الحاجة إلى رزقهم الذي تلف، لأنهم وقعوا في الفقر، فلا يملكون شروى نقير؟
هكذا يسأل الله تعالى المؤمنين، بما يضرب لهم في هذا المثل من العظة، وبما يحمل هذا المثل من نذير مبين على التهاون في إعطاء الصدقة، وإيتاء الزكاة.. كما يجعله مثلاً للذين ينفقون أموالهم رياءً ومنّاً؛ فالذي لا يدفع نصيبه من الزكاة، ولا يحسن بالصدقة، وكذلك الذي ينفق ماله لِيُرائيَ الناس به، فهذا أو ذاك - ومن هم على مثاليهما - يذهب ماله هباءً، فلا يأجره الله عليه؛ فإذا كان يوم القيامة، واحتاج إلى أجر نفقته، وجدها قد أحرقها الشحُّ أو الرياء، وظلت في الحياة الدنيا بلا ثواب أو أجر.. إنَّ مثله كمثل صاحب تلك الجنة، الذي أفنى العمر في الإنفاق عليها جهداً ومالاً، حتى إذا كبر، وكثرت عياله واحتاجت لخيرها، أتاها أمر الله بريحٍ سمومٍ فأحرقتها، ولم يجد منها شيئاً وقت الحاجة.
هذا المثل يدل على الحسرة، بعد سلب النعمة، من عدة وجوه:
أولاً: إنَّ الذي يرائي في إنفاقه ربما ينتفع من ريائه عاجلاً بالتفاخر وحب الظهور، لكن سرعان ما تنقطع هذه المظاهر عندما يصبح كبيراً وعاجزاً عن التباهي بنفسه، مما يورث في نفسه الحسرة والأسى.
ثانياً: إنَّ الذي يهمل طاعة الله من أجل ملاّذ الدنيا لا يحصل في الآخرة إلا على الحسرة والندم. فهو يحتاج في آخرته إلى الأعمال الصالحة كـحاجة صاحب الجنة وذريته إلى ثمارها وخيراتها. ولعلَّ حسرة هذا الشيخ الفاني تكون أعظم بعدما يئس من الشباب الذي ولّى، فلم يعد لديه إمكانية على العمل والعطاء.
ثالثاً: إن هذا المثل يصور لنا نموذجاً من واقع الحياة البشرية حيث نجد مثل هذا الشيخ الكبير في ضعف جسمه، وقلَّة حيلته، وقد تكون له ذرية لا يعطفون عليه، أو قد يكونون فقراء لا يقدرون على نفعه بشيء، إنْ لم يكونوا عالَةً عليه دائماً، فكما يتحسّر هذا الشيخ على حياته السابقة، هكذا يتحسَّر الذي ينفق منًّا وأذىً، أو الذي ينفق رياءً في حياته الدنيا، لأنه لا ذخر له في عمل صالح يوم الدّين، مما يعني في النهاية أنَّ الإنسان أحوج ما يكون إلى العمل الصالح إذا انقطعت عنه الدنيا.
«كذلك» أي مثلما بيّن الله لكم ما ذكر عن الإنفاق، يبين الله لكم الآيات التي تحمل الأمثال وفيها العظات والدلالات لعلكم تتفكرون، وتنظرون، وتتدبرون.
ج - مثل إنفاق الكافرين كمثل ريحٍ سمومٍ أصابت حرث قومٍ فأهلكته
يقول الله وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [آل عِمرَان: 116-117].
إنَّ الذين كفروا لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً.. وهنا تظهر الحكمة من هذا النصّ القرآني، من حيثُ أنَّ الإنسانَ يمكن أن يدفع عن نفسه، وقت الخطر أو الشدّة، بأعزّ شيءٍ لديه، إمَّا بواسطة التضحية بالمال، أو عن طريق الاستعانة بالأولاد، والتي قد تعرّضهم للشدة!.. وهذا في الحياة الدنيا، أما يوم القيامة، فالأمر يكون مختلفاً تماماً حيث لا يطلب الإنسانُ، ولا سيما المجرم، إلاَّ النجاة بنفسه، حتى ولو ضحَّى بكل مَن في الأرض، بمن فيهم أبناؤه، يقول تعالى {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤيه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه} [المعَارج: 11 - 14]... إذاً فهل ينفع الكافرين يومئذٍ فداؤهم بأموالهم وابنائهم؟! كلاَّ ، فلا رادَّ لعذاب الله، وقد كتب في اللوح المحفوظ أنَّ الكافرين هُم وقود النار.
ولكن قبـل الوصول إلى ذلك اليوم المشهود، فقد يرى المؤمنون أنَّ الله تعالى يمدُّ في هذه الدنيا الكافرين من فضله، ويغدق عليهم من نعمه، فينفقون ما طاب لهم من الإنفاق على اللذائذ والشهوات، وعلى البطانة والأعوان؛ بل وربما يعطون المحتاجين، أو ينشئون المؤسسات الاجتماعية والخيرية، إلاَّ أنَّ ذلك لا يكون عادةً حباً بعمل الخير، وإنما خدمةً لمصالحهم، أو مصالح عقيدتهم في الكفر والشرك.. وحتى إنفاقهم، ولو كان بعضه في وجوه الخير، فلا عاقبة له في ميزان العدل الإلهي، لأنه لم يكن إنفاقاً لنيل رضوان الله، أو في سبيل الله، بل كان إنفـاقاً من أجل الدنيا، وفي سبيل الدنيا، طالما أنه من كافرين، سادرين في الكفر، أو من منافقين متلوّنين بالنفاق، فمثل إنفاقهم كمثل ريح فيها صِرٌّ - من حرٍّ أو بردٍ - يلفح الوجوه والأبدان، ويتلف الزروع والأشجار، لأنه ريح سموم، ما إنْ يصيب حرث قومٍ حتى يذوي ويموت.. وما ظلمهم الله تعالى بضياع نفقاتهم - كما يضيع ذلك الحرث - ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم عندما تجاوزوا حدود الله، وخالفوا أوامره ونواهيه بالكفر والنفاق.. فالانفلات من التمسك بحبل الله الممدود يضيع أجر عملهم كلَّهُ، حتى ولو كان في ظاهره الخير، وذلك جزاء كل الذين يتنكَّبون عن حدود ما أنزل الله جلَّ وعلا على لسان رسله الكرام (صلوات الله عليهم).
وهكذا يتقرَّر أنْ لا جزاء يجدي على بذل، وأنْ لا قيمة لعمل ينفع، إلاَّ إذا ارتبط بمنهج الإيمان، وإلاَّ إذا كان باعثه حبَّ الله وطاعته. وعندما يقرّر القرآن الكريم ذلك، وهو قول الله الحق، فلا تبقى بعده كلمةٌ لإنسانٍ، ولا يجادل في أمر الله، أو قوله، إلاَّ الذين يجادلون في آيات الله بغير علم، ولا هدى ولا كتابٍ منيرٍ.
6 - لا يتحرك المرابون إلاَّ كما يتخبط المجنون من مسِّ الشيطان
يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البَقَرَة: 275-279].
إنَّ كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإنفاق الطيب إنما تحمد الإِنفاق في سبيل الله، وإعطاء ذي القربى، واليتامى والمساكين وابن السبيل والغارمين، ودفع الفدية عن المظلومين، وما إلى ذلك من وجوه البر، وذلك في الوقت الذي تبيّن ما للمنفق من الأجر الكريم، عاجلاً في الحياة الدنيا، أو آجلاً في الحياة الآخرة، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [البَقَرَة: 274].
وبعد هذا البيان القرآنيّ للإنفاق يأتي حكم اللَّهِ في الربا، فيقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البَقَرَة: 275]. وهذا التشبيه الذي يعطيه سبحانه لآخذي الربا، يرسم لهم صورةً مهزوزةً، يحركها دافع شيطانيّ، بل يحركها الشيطان نفسه، بحيث إنَّ المرابين لا يقومون - من قبورهم يوم القيامة - إلا كما يقوم الذي يصرعه الشيطان من الجنون.. وهذه علامةٌ لآكلي الربا حتى يُعرفوا بها يوم القيامة. ويمكن أنْ تنطبق هذه الصورة على آخذي الربا في الحياة الدنيا، حيث نرى في تصرفاتهم ما يشبه، أحياناً كثيرةً، الجنون لشدة حبهم للمال، والحصول عليه بأية وسيلة، ولا سيما عندما يتخذون الربا، وهو الزيادة على مقدار المال في الحال أو الأجل، سبيلاً للكسب والعيش.
قال رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «لمَّا عَرَجَ بي جبرائيلُ إلى السَّماءِ رأيتُ أَقواماً يريدُ أحدُهُمْ أنْ يقومَ ولا يقدرُ مِنْ عِظَمِ بطنِه، فقلتُ: مَنْ هؤلاءِ يا جبرائيلُ؟ قالَ: هؤلاء الذينَ يأكلون الرِّبا لا يقومونَ إلاَّ كما يقومُ الذي يَتَخَبَّطَهُ الشيطانُ مِنَ المسّ»[*] .. فهذا التصوير لمن يتعاطى الربا هو تهديد واضح. وما كان أي تهديدٍ معنويٍّ ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة، الحية، المتحركة.. صورة الممسوس المصروع.. وهي صورة معروفة، معهودة للناس، إذا تذكروا رؤية المجنون وهو يتخبط بحركاته اللاواعية واللامسؤولة.. فالنص القرآنيّ يستحضرها لتؤديَ دورها الإِيمائيّ في إفزاع النفس لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزّة عنيفة تُخرجهم عن مألوف عادتهم، في نظامهم الاقتصاديّ، وفي حرصهم على ما يحققه لهم الربا من فائدة.
وذلك الصرع الذي يمسُّ المرابين، كان بسبب أنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا في الجواز، وفي الربح. فوقعوا في شبهةٍ خاطئة، وهي ظنُّهم بأنَّه كما يحققُ البيع فائدة وربحاً، كذلك الربا فإنَّه يحقق فائدة وربحاً. وهي شبهة واهية، لأنَّ العمليات التجارية قابلة للربح والخسارة، في حين تكون العمليات الربوية محققة الربح، في كل حالة، ولا خسارة فيها؛ وهذا هو الفارق بين البيع والربا، وهنا مناط التحليل والتحريم؛ بمعنى أنَّ الربا لم يحرّم في الإسلام إلاَّ لأضراره البليغة على الناس، ولعلَّ أهمها ما يؤدي من ظلمٍ للمدين، كما نعهد في كل حالات الربا التي تتراكم فيها الفوائد على رأس المال، والتي تربو وتتزايد طالما لم يجرِ التسديد، حتى يصبح المدين في حالة إفلاس.. ولا يكون الربا في أعمال التجارة وحدها، بل وفي كل حالةٍ يلجأ فيها المعسر، أو صاحب الحاجة إلى الاستدانة، حتى إذا لم يجد من يعينه، فإنه يضطرُّ للّجوء إلى المرابي، الذي يقرضه المال، مقابل نسبة مئوية على رأس المال، وقد تكون هذه النسبة مرتفعة إلى الحد الذي تشكل فيه إرهاقاً للمدين، بحيث لا يقدر على التخلص من براثن المرابي إلاَّ بشق النفس، هذا إنْ لم يضطرَّ إلى بيع بيته، أو مؤسسته، أو التنازل، للمرابي الذي يستغلّه، عن عقاره أو أي مالٍ غير منقول يملكه حتى لا يبقى له شيء من حطام الدنيا!.. وأما المحتاج الذي لا تكون لديه قدرةٌ على التسديد، فلا يلجأ أصلاً إلى الاستدانة، فمثل هذا المحتاج لا يجد من يمدُّ له يدَ المساعدة في النظام الربوي، فيبقى على حاجته؛ وقد تغلبه هذه الحاجة حتى توقعه في مشكلة اقتصادية أو معيشية أو اجتماعية قد تزعزع الاستقرار في حياته!..
هذا بعضٌ من ملامح النظام الربوي، أفلا يكون حكم الله تعالى في تحريم الربا ما يخلّص الناس من الآفات التي يخلّفها هذا المرض الاقتصادي في المجتمع؟! ومن هنا نفهم لماذا جاء الردُّ في القرآن الكريم على الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البَقَرَة: 275] بتحريم الربا تحريماً جازماً، وذلك بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البَقَرَة: 275].. فقد أحلَّ الله البيع الذي لا ربا فيه، وجعله كسباَ حلالاً، وحرَّم الربا الذي ينطوي - كما أشرنا قبل قليل - على سوءَيْن: الزيادة التي يفرضها المرابي على رأس المال الذي يقرضه، وقطع سبل المعروف بين الناس، الذي يؤدي إلى تحمل المحتاج عبئاً ثقيلاً؛ فالبيع، في مفهومه الشرعي، هو عقد على العين بِعوَض، بينما الربا زيادة في غير عِوَض للتأخير في الأجل، أو زيادة في الجنس. قال رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ إلى نَفْعٍ فَهْوَ رِبَا»[*] .
وإنَّ في علة تحريم الربا ما يوحي بأنَّ هذه الآفة الاجتماعية تعدُّ من أهم العوامل التي تؤدي إلى تعطيل المعايش والمتاجر بوجهٍ عامٍ، طالما أنَّ المُرابي لا يقرض المال إلاَّ بزيادة. وقد قال جعفر الصادق (عليه السّلام) : «إنما شدَّد اللَّهُ سبحانه في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس عن اصطناع المعروف قرضاً فيما بينهم أو رفداً»..
{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} [البَقَرَة: 275] أي فانزجر، وتذكر واعتبر، (فامتنع عن أكل الربا)، فله ما سلف قبل النهي، فلا يُستردُّ منه، وأمره في العفو عنه إلى الله تعالى. أما من عادَ إلى أكل الربا مُشبِّهاً إياه بالبيع في الحلال، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، لأنهم عصوا أوامر الله تعالى في النهي عن الربا، وظلوا متعمّدين تعاطيه،، فكان جزاؤهم البقاء الدائم في النار. وقال محمد الباقر (عليه السّلام): «من أدرك الإسلام وتاب ممَّا كان عليه في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف. فأمّا ما لم يُقبض بعد، فلا يجوز له أخذه، وله رأس ماله فقط. وأمره بعد مجيء الموعظة والتحريم إلى الله تعالى، إنْ شاء عصمه عن أكله في انتهائه عنه، وإنْ شاء خذله، أي عامله بما يستحق. ولذلك فإنَّ من عاد إلى أكل الربا بعد التحريم، فقد استحق أنْ يكون في النار خالداً فيها».
ثم يبيّن الله تعالى في محكم الآيات الكريمة أنه «يمحق الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم».. فهو سبحانه يمحق الربا بأن ينقص رأس المال الربوي، ويذهب ببركته. بينما بالمقابل، يزيد الصدقات وينمّيها ويضاعف ثوابها؛ ولأن الربا هو من عمل الإنسان العاصي لأمر الله فإنّه تعالى لا يحب أي عاصٍ لأمره، كافرٍ بتحريم الربا، فاجرٍ بأكله، وهو سينال عقابه إنْ عاجلاً أو آجلاً.
أمَّا أصحاب الصدقات فهم المؤمنون الذين أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، الذين لهم أجرهم العظيم عند ربهم، ولا خوف عليهم من العذاب، ولا هم يحزنون في الآخرة من العقاب الذي يطال الكافرين من آكلي الربا، وأصحابِ الفواحش..
ثم يخاطب اللَّهُ سبحانه المؤمنين مباشرة، ليأمرهم بترك ما بقي مستحقّاً لهم من الربا، إنْ كانوا صادقين في إيمانهم، لأنَّ من شأن المؤمن الامتثالَ لأمر ربّه (وقيل إن هذه الآية نزلت لما طالب بعض الصحابة - بعد النهي - بربا كان لهم من قبل).. وهذا النهي الربانيّ هو لجميع المؤمنين، لكي يحاسبوا أنفسهم في كل وقت، فيتخلَّوا عن الربا، إنْ وجد في حياتهم، ويتركوه إلى ما لا نهاية. فإنْ لم يفعلوا ما أمرهم اللَّهُ به، فإنه ينذرهم بحربٍ منه تعالى، وبحرب من رسوله الكريم. وهذا تهديد لهم، فإنْ تابوا، ورجعوا عنه، فإنَّ رؤوس أموالهم تعاد إليهم بلا زيادة، فلا يَظلمون غيرهم بزيادة يأخذونها منهم رباً، ولا يُظلَمون بنقصٍ في رؤوس الأموال التي تعاد لهم بتمامها..
فالربا، إذاً، ممقوتٌ من الله القوي المتين، وهو يجلب البلاء والعقاب، بخلاف الصدقات التي تزكِّي النفوس ورؤوس الأموال. قال رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «إنَّ الربا وإنْ كَثُرَ فإنَّ عاقبتَهُ إلى قِلٍّ {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البَقَرَة: 276]» [*].
هذا حكم الله تعالى، وسنة رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في الربا.. ولكن ماذا فعل الناس؟ لقد جعلوا الربا الوجه الآخر المقابل للصدقة، بينما الاختلاف بينهما بيّنٌ، ففي حين أنَّ الصدقة عطاء، وسماحة، وطهارة، وزكاة، وتعاون وتكافل، فإنَّ الربا سلبٌ وقذارة، ودنس وأثرة. ذلك أنَّ الصدقة تُعطى من المال بلا عوضٍ، ولا ردّ. والربا استرداد للدَّين ومعه زيادة محرّمة مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه. من جهده إنْ كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح هو نتيجة لعمله وكده، ومن لحمه إنْ كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للحاجة فأنفقه على نفسه وأهله، ولم يربح شيئاً...
ومن ثمَّ فهو - الربا - الوجه الآخر المقابل للصدقة - إنْ صحَّ ذلك - إنما هو الوجه الكالح! لهذا كان عرض السياق القرآنيّ للربا بعد عرض الصدقة مباشرةً. وقد عرضه عرضاً منفِّراً، يكشف عمَّا فيه من قبح وشناعة، ومن جفاف في القلب، وشرٍّ في الجشع، وفساد في الأرض، وهلاك للعباد. وأما الصدقة فهي الوجه الطيب ،السمح، الطاهر الذي يطرد الجشع، ويصلح الأرض، ويوطد الإِلفة والمحبة بين العباد، يقول الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ *} [الرُّوم: 39].
ولم يبلغ من تفظيع أمرٍ أراد الإِسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا.. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا. ولله الحكمة البالغة، فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن الجوانب القبيحة من وجهه الكالح، ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات البينات على ذلك النظام المقيت، الذي هو النظام الربوي، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى.
ومن يُرِدْ أنْ يتدبر حكمة الله، وعظمة هذا الدين، وكمال هذا المنهج في تحريم الربا، يدرك اليوم مما يجري في العالم ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة، وأمامه من واقع الحياة ما يصدّق كل كلمة تصديقاً حيًّا مباشراً واقعاً؛ فالبشرية الضالة التي تأكل الربا تنصبُّ عليها البلايا الماحقة من جراء هذا النظام الربويّ، في أخلاقها، ودينها، واقتصادها.. وتتلقى - حقّاً - حرباً من الله تصبُّ عليها النقمة والعذاب أفراداً وجماعات، وأمماً وشعوباً، وهي لا تعتبر ولا تفيق!..
والنظام الربويّ، والنظام الإِسلاميّ: هما نظامان متقابلان، متضادان لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس، ولا يتوافقان في نتيجة. إنَّ كلاًَّ منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف يناقض الآخر تمام المناقضة، وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.. ومن ثم كانت هذه الحملة على الربا المفزعة من القرآن الكريم، وكان هذا التهديد المرعب: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البَقَرَة: 279].
فالنظام الإِسلاميّ ينعش الإِنسان ويجعله رفيقاً رحيماً بالآخرين، فينفق ماله لا مِنَّةً، ولا حبّاً بجاهٍ، بل ابتغاءَ وجه الله سبحانه وتعالى، الذي جعل في مال المؤمن حقّاً معلوماً للسائل والمحروم.
أما النظام الربويّ فقد أفسد طبيعة الإِنسان في تشريعاته التي سحقت البشرية سحقاً، وأشقتها في حياتها أفراداً وجماعات، ودولاً وشعوباً، لمصلحة حفنةٍ من المرابين المنحطين أخلاقيّاً ونفسيّاً؛ وأحدثت خللاً في دورةِ المال، ونموِّ الاقتصاد نموّاً سويّاً.. وهؤلاء المرابون الذين لا يراعون في البشرية إلاًَّ ولا ذمةً، ولا يرقبون فيها عهداً ولا حرمة، هم وحدهم الذين ترجع إليهم الحصيلة النهائية لجهد البشرية كلها، وكدِّ الآدميين وعرقهم ودمائهم، وذلك في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم حبة عرق، ولا نقطة دماء من جهودهم، في تحصيلها...
فالمرابون، أفراداً وأصحاب بنوكٍ ربويةٍ، لا يملكون في ظل النظام الربوي، المال وحده، بل ويملكون - في الغالب - النفوذ أيضاً.. ولما لم تكن لديهم أفكار سليمة، ولا تصور دينيّ صحيح، بل لمَّا كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمُثل، فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم أية عوائق.. وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع فيها الكثيرون آخر درهم يملكونه، حيث تسقط جميع الأموال في المصائد والشباك المنصوبة. وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالميّ وفق مصالحهم اللامحدودة، مما أدَّى إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد، وإلى انحراف الإِنتاج الصناعيّ إلى مصلحة الممولين المرابين الذين تتجمع في أيديهم مفاتيح الثروة العالمية.
والكارثة التي تمت في العصر الحديث - ولم تكن معروفة بهذه الصورة البَشعة في الجاهلية الأولى - هي أن هؤلاء المرابين الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي بصورة أفراد أو بيوت مالية، قد أصبحوا يتمثلون الآن بصورة المصارف والمؤسسات المالية، بالإضافة إلى الأفراد الأغنياء الذين ما يزالون يرابون بأشكال متنوعة غالباً ما يداخلها الاحتيال وسرقة أموال الناس البسطاء.. وقد استطاع أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة، داخل أجهزة الحكم وخارجها، وعلى مستوى الدولة المتقدمة والنامية، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإِعلام في الأرض كلها، سواء في ذلك الصحف، والكتب، والجامعات والأساتذة، ومحطات الإِرسال التلفزيونية والإذاعية ودور السينما والمسارح وغيرها.. أجل بفعل ذلك كله، استطاعوا أنْ ينشئوا عقلية عامة تسوّغ أكل الربا بين جماهير البشر المساكين، الذين يأكل أولئك المرابون لحومهم، ويشربون دماءهم في ظل النظام الربويّ.. وجعلوا هذه العقلية خاضعة للإِيحاء الخبيث المسموم بأنَّ الربا هو النظام الطبيعيّ المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصاديّ، وأنه من «بركات» هذا النظام و«حسناته»، كان هذا التقدم الحضاريّ في الغرب!. وأنَّ الذين يريدون إبطاله جماعة من المتديّنين التقليديين الخياليين - غير العمليين - وأنهم يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات ومُثُل لا رصيد لها من الواقع؛ وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصاديّ كله لو سمح لها أنْ تتدخل فيه!. حتى لَيتعرض الذين ينتقدون النظام الربويّ للسخرية، ليس من صانعي النظام وحدهم، بل ومن هؤلاء البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته!. أجل ضحايا لهذا النظام، شأنهم شأن الاقتصاد العالميّ نفسه، الذي تضطره مجموعات المؤسسات المالية، والكارتلات الاقتصادية - وجميعها ربوية - لأنْ يجري جرياناً غير طبيعيّ ولا سويّ، ويتعرض للهزات الدورية المنظمة، بحيث لا تحصل فيه البشرية على نفع، لأن مداخيله تظل حكراً على حفنةٍ ملوثة من الذئاب، مصّاصي الدماء، وذلك باسم التنمية، والاقتصاد الحرّ، والعولمة!..
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة، فإن قيام النظام الاقتصاديّ على الأساس الربويّ يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة، علاقة مقامرة ومشاكسة مستعرة. فالمصارف الربوية تجتهد في الحصول على أعلى نسبة من الفائدة، ومن ثم تمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه، فيرتفع سعر الفائدة، وتستمر المصارف في رفعه حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنهم ليسوا سوى أُجراء يعملون لحساب أصحاب المال، إذ يجني ثمرةَ كدهم أولئك المرابون، وأنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم سوى ما يوفون به الفائدة، ولا يفضل لهم منه إلاَّ شيء زهيد.. عندئذٍ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشغَّل فيها الملايين، وتضيّق المصانع دائرة إنتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء، ويعم الكساد، ويحصل اضطراب في العلاقات. ويجد المرابون أنَّ الطلب على المال قد نقص إلى حد كبير أو كاد أنْ يتوقف، حينئذٍ يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطراراً، فيقبل على الاستدانة العاملون في الصناعة والتجارة والزراعة من جديد، وتعود دورة الحياة تعمل بخوفٍ من جديد.. وهكذا دواليك مما يؤدي إلى وقوع الأزمات الاقتصادية العالمية بصورة دورية، ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة.
ثم إنَّ جميع المستهلكين هم الذين يؤدون الضريبة للمرابين، ولكن بصورة غير مباشرة، لأنَّ الصناعيين والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية، فيتوزع عبئُها على أهل الأرض، لتعود وتدخل في جيوب المرابين في النهاية.
أمَّا الديون التي تقترضها الحكومات لتقوم بالإِصلاحات والمشروعات العمرانية، فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للمؤسسات الربوية كذلك، إذ إنّ هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها، وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه «الجزية» للمرابين في نهاية المطاف. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، إذ إنَّ النتائج المترتبة على الديون التي تُعطى للحكومات، إنَّما تكمن في الاستعمار السياسيّ والاقتصاديّ الذي يمسك بتلابيب الدول المستدينة، ثم تكون الحروب، في حال حصول التضارب في المصالح الدولية، بسبب هذا الاستعمار السرطانيّ الخبيث، الذي يتغلغل في شرايين الاقتصاد العالميّ بأسره!..
ونحن هنا نوردُ بعضاً فقط من عيوب النظام الربويّ، لأنَّ عيوبه لا تحصى، ولكن نكتفي بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه المسلمين إلى حقائق أساسية تتعلق بكراهية الإِسلام للنظام الربوي المقيت:
الحقيقة الأولى: التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوس جميع المسلمين، أنه لا أئتلاف أو توافق بين ما شرع الله تعالى في الإسلام ووجود نظام ربويّ، في كل زمانٍ ومكانٍ.. وما سوى هذه الحقيقة، ممّا يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال دين أو غيرهم، إنما هو دجل ومراءاة للتكسّب لا غير، دونما حاجة للدخول في جدلٍ عقيمٍ حول مختلف المبررات التي يفتون بها للتعامل بالفائدة، فالحلال حلال، والحرام حرام إلى يوم القيامة، لأنَّ أساس التصور الإِسلاميّ يصطدم اصطداماً مباشراً بالنظام الربويّ، ومن ثم بنتائجه العملية في علاقات الناس وتصوراتهم.
الحقيقة الثانية: أنَّ النظام الربويّ بلاء على الإِنسانية، لا في إيمانها وتصورها للحياة فحسب، بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية، وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشر محقاً، ويسحقها سحقاً، ويعطل نموها الإِنسانيّ المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهريّ الخدَّاع، الذي يبدو فيه هذا النظام وكأنه ضرورة للنمو الاقتصاديّ العام.
الحقيقة الثالثة: أنَّ التعامل الربويّ يفسد حياة الجماعة البشرية، وتضامنها بما يبثه من روح الشره، والطمع والأثرة بصفة عامة. والمال المستدان بالربا ليس همه أنْ ينشيء أنفع المشروعات للبشرية، بل همه أنْ ينشيء أكثرها ربحاً، ولو كان الربح متأتيّاً أحياناً من استثارة أبشع مظاهر الغرائز وأقذر الميول التي يتسبَّب بها أمثال دور الخلاعة، وأندية القمار، والملاهي، ومؤسسات الاحتكار على شتى أشكالها. كما هو مشاهد اليوم في أكثر أنحاء الأرض!.. وسببه الأول هو التعامل الربويّ.
الحقيقة الرابعة: أنَّ الإسلام نظام متكامل، فهو حين يحرم التعامل الربويّ، ينظم جوانب الحياة المجتمعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، وبدون مساس بالنمو الاقتصاديّ المطّرد. ففي النظام الإسلاميّ يوجد بيت المال الذي تتجمَّع فيه حصيلة الزكاة - وأحياناً الخمس - فيعاد إنفاقها على المشاريع العامة التي تؤمن فرص العمل لكل صاحب صنعة أو مهنة، أو صاحب اختصاص، أياً يكن مجاله الحيوي.. ومن مال الزكاة يجري أيضاً التوزيع على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وعلى الغارمين، أي المدينين الذين لا يقدرون على سدِّ ديونهم من أموالهم الخاصة أو من أتعابهم.. بحيث لا يبقى في المجتمع الإسلاميّ محتاجٌ، ولا يضطر المدين إلى التعامل بالفائدة والربا.. مما يعني أنَّ المال، عندما تُؤدَّى منه الزكاة بحقها، لا يكون دُولةً بين الأغنياء وحدهم، بل يجري توزيع جزء من الثروة، الذي هو حاصل الزكاة، على سائر أبناء المجتمع، وفي ذلك ما فيه من العدالة، وتنقية المجتمع من الأدران، وفي طليعتها هذا الربا الذي يفسد الحياة الإنسانية أصلاً..
مما تقدم يمكن أنْ نتبين بوضوح، كيف أنَّ في أمثال القرآن الكريم، تربيةً للنفس على الطاعة والإنفاق.. ذلك أنَّ في الحياة مقاييسَ وأوزاناً ملازمة في الأصل للفطرة، وإنْ لم تظهر في المجتمعات الإنسانية على شكل قواعد وأنظمة ملزمة.. فلو حاول الإنسان أنْ يجري مقارنة ما بين اللهو واللعب، وبمقابلهما الجد والرصانة، لتبين له أنَّ الأوقات التي يصرفها على المتعة والتسلية، والاسترخاء والكسل سرعان ما تنقضي ملذاتها، حتى ولو توهم أنَّ في لذَّتها فائدة، فإنَّها تكون عبارة عن مشاعر وقتية وآنية.. بينما تبقى، في الحقيقة، الأعمال والجهودُ التي يبذلها وتؤتي ثمارها، وقد تلازمه نتائجها الحسنة، إذا كانت من العمل الصالح، طوال عمره في هذه الحياة.. وهذا ما يريدنا النص القرآنيّ، مع مقاصد أخرى، أنْ ندركه في هذه الآية الكريمة، بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ *إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ *هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ *} [محَمَّد: 36-38].
إنها هذه الحياة الدنيا بكل ما تضجّ فيه من حركة على مختلف الساحات الشعورية والعملانية..
والإنسان وهو يذرع ساحات الحياة طولاً وعرضاً، قد يتقلّب في كثير من الحالات، بين المتعة واللهو، وبين العمل والجدّ، ثم لا يلبث أنْ يتحوَّل عنها إلى حياة أخرى، مهما ظنَّ أنه باقٍ، ومهما تلهّى وعبث، أو كدح واجتهد.. ونظراً لقصر عمر الإنسان - ولو كان من المعمّرين - فإنَّ الحياة الدنيا تبدو وكأنها ومضة عين، أي تماماً مثل أوقات اللعب واللهو للأطفال، أو مثل أوقات التسلية واللذة للكبار، التي تكون لساعتها، ثم تذهب إلى غير رجعة، ولو خلَّفت وراءها آثاراً معينة.. وهذا يعني أنَّ الإنسان محكومٌ عليه بمفارقة الحياة الدنيا لحظة يحلُّ أجله، الذي كتب له في اللوح المحفوظ عند الله تعالى.. ولكنَّ أعماله وجهوده خلال مسيرة حياته قلّما تذهب عبثاً، بل كثيراً ما تنعكس فيما يحقق من طموحات، ويقوم من إنجازاتٍ تعتبر نجاحاً له في حياته، مثلما تؤدي إلى فوزه في الآخرة.. إنّما هنالك مقومات لذلك، يحثُّنا عليها القرآن الكريم، وفي طليعتها الإيمان والتقوى، اللذان يخرجان الحياة الدنيا من مجرد أنْ تكون بمثابة اللعب واللهو، ويطبعانها بطابع الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه، التي هي في صالح العباد، سواءَ فيما أمروا القيامَ به، وفيما أمروا الانتهاء عنه.. وهذا ما يجعل حياة الإنسان مثمرة، ليس لنفسه وحده، بل وللآخرين من بني جلدته، الأقربين منهم والأبعدين، لأنَّ مقارنة بسيطة بين غلبة صالح العمل على السيء منه، تدلنا تماماً على نجاح الإنسان - كفرد - وعلى صلاح المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد الصالحون..
ولكن الأهم من ذلك كله سعي الإنسان لآخرته، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالقرآن الكريم يعده بالأجر والثواب، وما قد يضاعف له ربُّهُ تعالى من الحسنات، وجميعها مما يُرجّح كفة ميزانه للفوز في الآخرة..
ومن مقاصد التربية الإسلامية في هذا المجال، أنَّ من مضامين الطاعة لله تعالى، والقيام بصالح العمل، أنْ ينفق الإنسان المؤمن في سبيل الله، وفي وجوه البرّ والتقوى، ومع ذلك فإنَّ ربَّنا الكريم - وهو الرزّاق، وذو الفضل العظيم بما ينعم على الناس من الأرزاق والخيرات - لا يسأل الناس أنْ ينفقوا أموالهم كلَّها، لأنه إنْ يأمرهم بإنفاقها كلها فقد يحرك ذلك الشحَّ في نفوسهم، ويظهر البخل لديهم، وهذا ما يُخرج، بدوره، الأضغان والأحقاد لدين الإسلام، الذي جاء بأحكام فريضه الزكاة في المال؛ وهي فريضة أرادها الله تعالى تزكيةً للنفوس وعتقها من الشحّ والبخل، فضلاً عن أنها تؤدي إلى نماء المال - الذي جرت تزكيته - وزيادته، كما هو ثابت في حياة المؤمنين.. أما من الناحية الإنسانية، فإنَّ الزكاة تؤلّف - عادةً - بين القلوب، وتغسل عنها الشحناء والبغضاء، لأنَّ الفقراء عندما يُعطَوْن من أموال الأغنياء، فلا يسعهم إلاَّ الاعتراف بحسن صنيعهم، والدعاء لهم بالتوفيق والسعة، فوق ما يورث هذا العطاء في قلوبهم من محبة ومودةٍ للمتصدّقين.. فإذا لم يكن في أموال الأغنياء حق معلوم للسائل والمحروم - من زكاةٍ وصدقة - فمعنى ذلك الذهاب بمفاهيم التضامن والتآلف بين أبناء المجتمع، واستجلاب مشاعر الحقد والضغينة لبعضهم البعض.. وهذا ما لا يرضاه الله تعالى لعباده.. ومن هنا كان التوجيه القرآني لحثّ الناس، ولاسيما المؤمنين، على الإنفاق الزَّكيِّ والطيب، ومن وجوهه: الإنفاق في سبيل الدعوة إلى الإسلام، والإنفاق من أجل معالجة أوضاع الفقراء والمحتاجين، والإنفاق للقيام بالمشاريع الإنمائية التي تؤمِّن مصالح أبناء المجتمع كافة..
ولكن على الرغم من هذه المزايا والفضائل فإنَّ كثيراً من الناس تأبى طباعهم مثل هذا الإنفاق، ويحجمون عن بذل أي مال قد يكون فيه تعاون على البرّ والتقوى.. إنما عاقبة هذا البخل سوف ترتد على البخيل نفسه، فلا فضل له في هذه الدنيا، لا بل قد يكون مكروهاً في وسطه الاجتماعي، فضلاً عن أنه قد لا يدّخر من جراء هذا البخل، أيّ رصيدٍ قد يحتاجه يوم الحشر، يوم يؤدي الحساب، الذي لا مناص منه، وسيجد الحسرة راهنةً من جراء بخله، وعدم إنفاقه الطيب، ولو لجزءٍ من ماله في دنياه..
أجل، فمن الناس من يبخل، «ومن يبخلْ فإنَّما يبخلُ عن نفسه» والله تعالى غني عن العباد، وغنيّ عن أموالهم وإنفاقهم، وما يأمرهم به إنما هو لخيرهم في الدنيا، وانتفاعهم به في الآخرة، فهم، في الحقيقة، الفقراء - دائماً - إلى ما عند الله من الرزق، والخير والرحمة، لأنَّ بيده الخيرَ كلَّه، فلا يحتاج إلى إنفاق العباد، ولا إلى عطاء الناس، إنما هو الأمر بالطاعة لصلاح الأنفس، وكسب الأجر والثواب. فإن تولَّى هؤلاء الناس عن طاعة ربّهم، فإنه قادرٌ على أنْ يستبدل قوماً غيرهم، ثم لا يكونون أمثالهم في التولي عن الطاعة والبخل، وعدم الإنفاق، بل يكونون خيراً منهم، وأجدرَ لأنْ يرثوا أموالهم وأرزاقهم.
وفي التدليل على أهمية الإنفاق في حياة الناس، يورد القرآن في موضع آخر خطاب الله تعالى للمؤمنين بشيء من الاستنكار لعدم الإنفاق، وهم لا يملكون شيئاً، في الأصل، إلا من مال الله، ولا يجودون بشيء إلا من جود ربّهم وكرمه ورحمته، فيقول تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحَديد: 10].
أجل هذه هي الحقيقة، فميراث السماوات والأرض هو لله تعالى والناس إنما هم مستخلفون في هذا الميراث، ليؤدوا حقه في سبيل ربّهم، وكل ما استخلفوا فيه، وإنْ كان يجري تداوله وانتقاله من جيلٍ إلى جيلٍ فيما بينهم، إلاَّ أنه سيؤول إلى مالك الميراث الحق، وهو الله تعالى. فإذا كان الأمر كذلك فما بال الناس لا ينفقون في سبيل الله، وهو الذي يدعوهم إلى الإنفاق؟ أجل، وما لكم أيها الناس ألاَّ تنفقوا في سبيل الله وهو المالك للمال الذي جعله أمانةً بين أيديكم، والمالك أولى في ملكه من الوكيل، فكان عليكم أنْ تَعَوْا هذه الحقيقة، وتعملوا بهديها حتى تنالوا جزاء الطاعة والامتثال لأمر الله العلي العظيم.
فهذه الدعوة من الله تعالى للإنفاق في وجوه الخير، هي إحدى السبل التي يربي فيها القرآن المجيد النفوس على طاعة الله تعالى والخضوع لمشيئته، فإذا أمرهم بالإنفاق، فما عليهم إلاَّ الامتثال، والطاعة، والاستجابة لأمره سبحانه.. فكان جديراً أنْ تفعل هذه التربية الإسلامية فعلها في نفوس العباد، وأن تقودهم إلى الإنفاق في سبيل الله.
7 - حكم الإرث والرضاعة
أ - على الوالدات أن يرضعن أولادهن وعلى المولود له رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروف، وعلى الوارث مثلُ ذلك.
يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [البَقَرَة: 233].
لقد بيّنت سورة البقرة في القرآن الكريم كثيراً من الأحكام الشرعية، إذ بعد أحكام الطلاق، وردت الأحكام التي تتعلق برضاعة الأطفال بعد حصول الطلاق، بحيث تبقى هنالك علاقة قائمة، بين المطلَّقَيْن، من أجل مصلحة الأولاد، ما داموا في طور الرضاعة، وذلك تبعاً لعلاقة النسب التي تربط المطلَّقَيْنِ بأولادهما، والتي جاءت ثمرة العشرة الزوجية. فإذا تعذر العيش المشترك بين الوالدَيْن، فلا بدَّ أنْ يكون للرُّضع الصغار ضماناتٌ دقيقةٌ مفصَّلة، تستوفي كل حالة من الحالات. ومن يفرض هذه الضمانات إلاَّ الله العزيز الرحيم، الذي هو أولى بالناس من أنفسهم، وأبرُّ وأرحم بهم من والديهم.. وأولى الضمانات واجب الوالدة المطلقة تجاه طفلها الرضيع، حتى لا تنساق وراء عاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية، فيقع الغرم على الرضيع، وهذا الواجب هو حق مفروض له في عنق أمه، بأنْ ترضعه سنتين كاملتين، لمن يريد من الأزواج أنْ يتم الرضاعة. والقرآن الكريم يحدد هذه المدة، وبهذا المقدار، لأنها المدة المثلى لاشتداد بنية الطفل الجسدية، وتنشئته على الحنان، والرأفة، وغيرهما من المشاعر التي يمكن أنْ يسكبها ثدي الأم في فم رضيعها.. وهذا ما تثبته البحوث الطبية اليوم، عندما تعتبر أنَّ مدة العامين ضرورية لنمو الطفل نموّاً سليماً في صحته البدنية والنفسية.. ومِنَ النعم الجليلة على الجماعة الإِسلامية أنْ علَّمهم الله العليم الحكيم هذا الأمر قبل اكتشافه من أهل العلم، وقبل أنْ تُجري عليه الأممُ الأبحاثَ والتجارب!.. فقد قضى اللطيف الخبير بألاَّ يبقى الأطفال متروكين - وهم رصيد الإنسانية وذخرها - للجهل الذي كان يطبق على الناس قبل نزول الأحكام الشرعية التي جاء بها الإسلام، ومنها تبيان أهمية الرضاعة الطبيعية من الأمهات للأبناء؛ ولذلك كان الإِسلام رحمة للإِنسانية جمعاء، حيث يمكنها أنْ تغرف من معينه ما تشاء. وفي القرآن، كتاب الإسلام المجيد، ما يبيّن للناس كافة، كيف يصونون صغارهم، وكيف يعالجون نموهم، بأهمِّ علاجٍ خلقه لهم ربُّهم الكريم، ألا وهو الرضاعة من حليب الأم لمدة سنتين كاملتين، وتلك هي الرحمة التي شاءَ سبحانه أن يسبغها على الناس قبل أجيالٍ طويلة من بحوثهم العلمية، وقبل حقباتٍ من نزوع الأمهات نحو ترك الرضاعة، وإبدالها بالطرق الاصطناعية التي لا تلبي حاجة الرضيع بدنيّاً ونفسيّاً، بل على العكس ربما تخلّف على صحته آثاراً ضارة من ناحية أو أخرى.
إذاً فقد فرض اللَّهُ تعالى على الوالدة الحضانة والرضاعة، وفي الوقت نفسه فرض لها على المولود له - أي والد الرضيع - حقّاً بأنْ يقدم لها ما تحتاج إليه من الرزق والكسوة بالمعروف، وحسن المعاملة. وبذلك جعل الأم والأب - كليهما - شريكين في التبعة، ومسؤولَيْن تجاه طفلهما الرضيع: فأمه تمدُّه بالحليب والحضانة، وأبوه يمدُّها بالغذاء والكساء، والنفقة إجمالاً، لترعاه. وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البَقَرَة: 233]، فلا يرهق أحدهما الآخر، لأن القاعدة العامة هي أنَّ التكليف يكون على قدر الوسع أي الاستطاعة. ثم لا ينبغي أنْ يتخذ أحد الوالدين من الرضيع سبباً لمضارَّة الآخر: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البَقَرَة: 233] فلا يستغل الأب عاطفة الأم ولهفتها على طفلها، فيهددها بفصله عنها، أو تقبل بإرضاعه من غير مقابل.. ولا تستغل هي عاطفة الأب على ولده وحبه له، لتثقل كاهله بمطالبها، وبأعباء النفقة الباهظة.
وتمضي كفالة الله تعالى للولد، عندما يضع على عاتق الوارث للأب، في حال وفاته، مثل الذي كان على عاتق الأب في حياته.. فإذا كان الرضيع نفسه هو الوارث، فإن وليَّهُ يقدّم لأمِّه مثل الذي كان على أبيه أن يقدمه لها من الرزق والكسوة.. بل إنَّ الحكم الشرعي يفرض هذا الواجب على وارث الأب المُتوفى، أيّاً يكن الوارث لتركته، فهو المكلف أنْ يعطي الأم بالمعروف والحسنى لضمان التكافل العائليّ الذي يتحقق أحد طرفيه بالإِرشاد والرعاية، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال التبعات. وهكذا فإنَّ الطفل لا يتعرض لمخاطر الجوع إذا مات والده، طالما أنَّ حقَّهُ وحقَّ أمِّه مكفولانِ من تركة الأب، أو وارثه الشرعي..
وعندما يستوفي النص القرآني هذا الاحتياط، يعود إلى استكمال حالات الرضاعة: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البَقَرَة: 233].. فإذا شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين، لسبب صحيّ أو سواه، لدى الرضيع أو لدى الأم، «فلا جُناح»، أي فلا إثمَ عليهما إذا تم هذا الأمر بالرضى والتوافق بينهما، ومن خلال التشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته، والمفروض عليهما حمايته، مما يعني أنَّ اشتراط التراضي والتشاور إنما هو في مصلحة الرضيع لناحية الرعاية والتربية، وتكاليف العيش، وكل ما يلزم لإحاطة هذا الرضيع بالعناية وإبعاد الضرر عنه، وهذا لا يكون إلا بالتشاور؛ الذي لولاه ربما قد تضيع حقوقه التي فرضها الله تعالى على كافِلَيْهُ، بحيث لا يكون ثمةَ إثمٌ عليهما من التشاور والتراضي حول كل ما يؤمن مصلحة الطفل..
{وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ} [البَقَرَة: 233] أي إذا أردتم أنْ تطلبوا لأولادكم مراضع غير أمهاتهم، في حال امتناع الأمهات عن الرضاعة، لسببٍ من الأسباب، كأن يحصل مع الأم انقطاع للحليب، أو مرض أو غيره، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البَقَرَة: 233]، فلا خوف عليكم ولا عقاب أو مخالفة في هذا الإرضاع إذا سلمتم إلى المرضعات ما أردتم إيتاءه لهنَّ من الأجرة بالمعروف الجميل، وطيب النفس. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البَقَرَة: 189] في الوقوع بالمعاصي في مجاوزة ما حدَّه الشارع الأقدس لكم، وإنَّ تقوى الله والخوف منه تعالى يبقى الضمان الأكيد في النهاية، بل هو الضمان الوحيد للرضيع.. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [البَقَرَة: 233] يرى كل شيء تعملونه، ولا يزال يطلع على النوايا والخفايا، وعلى الأعمال والتصرفات، فلا يخفى عليه شيء مما تعملون..
ب - الميراث للأولاد، وقاعدته العامة: للذكر مثل حظ الأنثيين
يقول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [النِّسَاء: 11].
لقد وضع المنهج القرآنيّ نظام التوارث، وطهَّره من دنس الأفكار الجاهلية، ورفعه إلى ذلك الأفق الوضيء حيث يبدأ بوصية الله للأهل في الأولاد فيقول تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاء: 11]، فوصايا الله سبحانه وتعالى ما ألزم عباده وأوجبه عليهم، ومن وصاياه الجليلة بأن جعل في الميراث للذكر نصيبَ اثنتَين من أخواته إذا اجتمعتا معه، فيكون له نصف التركة، ولهما النصف الآخر. وليس في هذا التوزيع من ربِّنا تبارك وتعالى محاباةٌ لجنس، على حساب جنس كما يزعم أعداء دين الإسلام القويم، أو كما يفتري على هذا الدين الجهلةُ من الناس أجمعين، لأنَّ الأمر أمرُ توازن وتعادل، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في تكوين الأسرة، وفي النظام الاجتماعيّ الإِسلاميّ. فالرجل المسلم الذي يتزوج امرأة يصبح مكلفاً بإعالتها، وإعالة أبنائه منها في كل حالة، سواء وهي معه، أو وهي مطلقة منه، وذلك ضمن الحدود التي حددتها الأحكام الشرعية. أما المرأة المسلمة، فإنها قبل الزواج إمَّا أنْ تقوم بإعالة نفسها إذا لم يكن لها وليّ، وإمَّا أنْ يقوم بإعالتها رجل من ذوي قرابتها، من مثل والدها أو إخوتها أو أحد أرحامها، وأمَّا بعد الزواج فإنَّ الزوج يصبح هو معيلها وكفيلها.
أي أنَّ الأنثى قبل الزواج، يجب أنْ تكون موضع رعاية من قبل ذوي الأرحام الذكور، الذين تفرض عليهم صلة الرحم الإنفاق عليها حتى تبقى مصونةـ، وبحرزٍ من الاعتوار؛ أما بعد الزواج فالعبء في الإنفاق عليها ينتقل على عاتق الزوج، فهي ليست مكلفة بنفقة له، ولا للأبناء في أي حال، مما يجعل الرجلَ مكلفاً - على الأقل - بضعف أعباء المرأة تجاه عائلته.. فالزوج يتقاسم وزوجته - عادةً - الأعباء المعنوية في البيت الواحد، والأسرة الواحدة، بينما عليه وحدَهُ أنْ يتحمل الأعباء المادية كلها، حتى ولو كانت الزوجة تملك مالاً خاصاً بها، مما يُضاعف أعباءه مرتين بالنسبة للزوجة، مرةً من الناحية المعنوية، ومرة من الناحية المادية لأنَّ عليه واجبَ الإنفاق بينما لا تتحمل الزوجة، الأعباء إلا مرةً واحدةً لأنه ليس عليها أية نفقة مادية. ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم.
وقد أجمعت الأمة على أنَّ حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات، ففي الآية الكريمة بيانٌ لحكم البنتين فما فوقهما، ومعناه: فإذا كانت الوارثاتُ اثنتين فما فوق، فلهن ثلثا ما ترك المورِّث، إلاَّ أنه قدم ذكر «الفوق» على «الاثنتين» بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النِّسَاء: 11]. وهو ما يوضِّحه أيضاً الحديث الشريف حيث رُوي عن النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنه قال: «لا تُسافِرُ امرأةٌ سفراً فوقَ ثلاثةِ أيامٍ إلاَّ ومعها زوجُها أو ذو مَحْرَم لها»[*] ومعناه لا تسافر ثلاثة أيام فما فوقها.. وبعد أن ذكر الحكم في إرث النساء إنْ كنَّ فوق اثنتين، عاد يبيّن إرث المرأة عندما تكون واحدة {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النِّسَاء: 11] مما ترك المورث..
ثم ذكر ميراث الوالدَيْن: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11]، وفي كل تلك الأحوال لا يتوزع الميراث إلاَّ بعد إنفاذ الوصية التي يكون المورث قد أوصى بها، وبعد سداد الديون التي تكون متوجبة عليه..
على أنَّ تلك الأحكام المتعلقة بالوصايا والإرث يجب الرجوع فيها، ولاسيما في تفصيلاتها إلى آراء الفقهاء لدى مختلف المذاهب الإسلامية المعروفة؛ وغني عن البيان أنها تخرج عن نطاق البحث في هذا الكتاب، فكان لا بدَّ من الوقوف عليها في مظانِّها، وإنما لا بأس من التوقف، ولو قليلاً، عند اللمسة الأخيرة الواردة في الآية 11 من سورة النساء. وذلك بقوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [النِّسَاء: 11].. فهذه اللمسة هي لتطييب النفوس تجاه ما فرض الله تعالى من أحكام الوصايا والإرث؛ فهنالك من قد تحملهم الرحمة على إيثار آبائهم على أبنائهم، أو من قد تغلب عليهم الرأفةُ بالأبناء فيجعلون لهم النصيب الأكبر من الإرث حتى ولو كان فيه تجاوز النصاب؛ وفيهم من يحتار، وتتأرجح مشاعره بين الرحمة بالآباء، وحب الأبناء فيعدل في وصيته دون أي افتئات على هؤلاء أو هؤلاء.. وقد تفرض الأعراف والتقاليد اتجاهاتٍ معينة على المورِّثين، فيحاولون مراعاتها، مما يستدعي تحذيرهم للعمل بما فرض الله تعالى من الأحكام.. ولذلك نجد أنه سبحانه وتعالى قد أرادَ في هذه اللمسة الأخيرة من تبيان الإرث أنْ يسكب في القلوب راحة الرضى والتسليم لأمره تعالى، وأنْ يشعر الآباء والأبناء أنه وحدَه سبحانه الذي يعلم ما فرضه من أحكام لصالحهم جميعاً، وأنهم، هم، لا يدرون أيُّ الأرحام أقرب لهم نفعاً، ولا أيُّهم أقرب لهم مصلحة؛ فهو سبحانه لم يزل عليماً بخلقه، حكيماً فيما دبَّره لهم من شؤون وأمور حياتهم، مما يفرض عليهم العمل بتقوى الله، بعيداً عن أعراض الدنيا..
بقي أن نشير، ولو بصورة عاجلة، إلى حكم الكلالة، وفيها نزل قول الله تعالى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [النِّسَاء: 176].
لمَّا بيَّن الله سبحانه وتعالى في أول سورة النساء سهام الفرائض في الإرث، ختم هذه السورة ببيان ما بقي من ذلك، فقال سبحانه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النِّسَاء: 176]. أي إنْ طلبوا الفتوى منك يا محمد في الكلالة فقل: اللَّهُ يبيِّن لكم الحكم في هذه الكلالة.. فما هي الكلالة؟ هي معرَّفةٌ بقوله سبحانه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النِّسَاء: 176] أي إنْ مات شخص وليس له ابن ولا ابنة ولا والد، لأن الكلالة اسم للنسب المحيط بالميت دون اللصيق به، والوالد لصيق الولد، كما أن الولد لصيق الوالد، ولذلك جمعت الكلالة المحيطين من الإخوة والأخوات، (دون الأولاد والوالدَيْن اللصيقين) فإن مات هذا الشخص، وليس له أولاد {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النِّسَاء: 176] أي أنْ الأخت ترث نصف تركته، أما إنْ ماتت هي وليس لها ولد ولا والد، فأخوها يرث كل تركتها، {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النِّسَاء: 176] أخوهما. {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاء: 176]. أي إن مات وترك إخوة وأخوات فقط، فتقسم التركة فيما بينهم وفقاً لقاعدة الميراث الأساسية (للذكر نصيب أنثيين).
ثم تُختتم السورة كلها بالتعقيب القرآنيّ الذي يرد الأمور كلها لله تعالى، ويربط تنظيم الحقوق والواجبات بشريعته السمحاء، فيقول تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [النِّسَاء: 176] أي يبين الله لكم أحكام الإرث لئلاَّ تضلوا عنها، فإذا ضللتم ولم تراعوها، فإنه عليم بكل شيءٍ يفعلونه. كما هو عليم بجميع ما يحتاج إليه عباده من أمر معاشهم ومعادهم.
وكما أشرنا فقد تضمّنت الآية التي جاءت في أول سورة النساء بيان ميراث الولد والوالد، والآية التي تلتها بيان ميراث الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات من قبل الأم، وتضمنت الآية التي ختمت بها السورة بيان ميراث الإخوة والأخوات من أب وأم، والإخوة والأخوات من أبٍ فقط، عند عدم وجودهم من أب وأم، فيكون توزيع الميراث قد شمل جميع الحالات التي يمكن أن تقع في حياة الناس جميعاً.. وكل ذلك يمكن الوقوف على أحكامه وتفاصيله في مؤلفات العلماء والفقهاء.
8 - علاقة الزوج بامرأته المطلَّقة
أ - للمطلَّقات (والزوجات عامة) حقوق مثل الذي عليهنَّ من واجبات
يقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [البَقَرَة: 228].
لقد فرض الله تعالى على المطلقات أنْ ينتظرن قبل الدخول في زواج جديد، ثلاثة قروء تمضي من حين الطلاق (والقرء هو الطهر بعد الحيض)، ولا يحل لهنَّ أنْ يكتمن أو يخفين ما خلق اللَّهُ تعالى في أرحامهنَّ من الحمل.. فإنْ كنَّ مؤمنات بالله تعالى واليوم الآخر، فلا يفعلن ذلك، أي لا يكتمن حملهنَّ. وفي مدة التربّص تلك يبقى أزواجُهُنَّ أحقَّ بردِّهنَّ، إنْ أرادوا إصلاح الخلاف والعودة إلى حياة الزوجية المشتركة. وفي هذا الطلاق الرجعيّ، أو في مدة العدة، لا حقَّ لغير أزواجهن فيهنَّ. ولهن أي للمطلقات (والأولى أنْ يكون الحكم للنساء كافة) على أزواجهن حق بالمعروف[*]، مثل الذي للرجال عليهنَّ من حق بالمعروف. وكلمة «المعروف» هنا تعتبر من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة، أو للحقوق المتعددة، لأنها تجمع كل ما يتعلق بحسن العشرة وترك المضارة أو الضرر، والتسوية في الكسوة والنفقة. ومقابل ذلك يكون للرجل على المرأة حقوق الطاعة، وعدم الدخول في فراش غيره، وأنْ تحفظ ماءه (الجنين منه) فلا تتعمد إسقاطه، وأنْ تحفظ ماله فلا تهدره وتُنفقه بلا طائل.. إلى غير ذلك ممَّا فرضه الله سبحانه على الرجل والمرأة، كل منهما نحو الآخر، على أنْ يبقى للرجال درجةُ أفضليةٍ في حقوقهم على النساء، مقابل ما يترتب عليهم من حقوق تجاههن في المهر المعجَّل والمؤجَّل، وفي الإنفاق الدائم، أي العودة إلى القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الرابطة الزوجية، وهي أنَّ الأعباء التي تقع على عاتق الزوج من المهر والنفقة لا تفرض أبداً على المرأة في الإسلام.
ب - تعويض المسلمين الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مثل ما أنفقوا عليهنَّ
يقول الله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ *} [المُمتَحنَة: 11].
في صدر الإِسلام أسلمت نساء متزوجات، كنَّ في عصمة رجالٍ من المشركين، وبقيت زوجاتٌ مشركات في عصمة رجالٍ أصبحوا من المسلمين. فلما نزلت هذه الآية - وإنفاذاً لحكم الله تعالى - أدّى المسلمون نفقاتِ زوجاتهم المشركات، اللواتي أبين الدخول في الإِسلام، ثم طلقوهنَّ. ولكنَّ المشركين أبوا العمل بالمثل، ولم يعطوا مطلقاتهم المسلمات شيئاً.. فنزل حكم الله تعالى يبين هذه القضية من حيث أنه إذا ذهبت زوجات الرجال المسلمين إلى ديار أهل الكفر، لبقائهن على الشرك، أو إذا ارتدّ بعضهن بعد إسلامهن، وذهبن إلى المشركين، وأدَّيتم أيها المسلمون حقوقهن لهنَّ، ثم غزوتم وغنمتم في قتال المشركين والكفار، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم سهماً من الغنيمة، بمقدار ما كانوا قد انفقوا لزوجاتهم المشركات، أو الكافرات من المهور وغيرها، ولا تنقصوا على هؤلاء الأزواج المسلمين شيئاً من ذلك الذي دفعوه.. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ *} [المَائدة: 88]، والتقوى تكون باجتناب المعاصي، وعدم تجاوز أمر الله سبحانه، ومنها هذا الحكم بأن تُؤتوا، أيها المسلمون، إخوانكم الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مثل ما أنفقوا عليهنَّ.. ويبقى هذا الحكم سارياً ما دامت أسبابه قائمة، فإذا ارتفعت أسبابه ارتفع بحكم ارتفاعها..
9 - جزاءُ المُحرمِ للحجّ أو العمرة إذا قتل الصيد، مثلُ ما قَتَل
يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ *} [المَائدة: 95].
في هذه الآية الكريمة تحريمُ الصيدِ على المؤمنين، وهم مُحرِمون للحج أو للعمرة..
وقد اختلف في معنى الصيد، فقيل: كل حيوان أُكل أو لم يؤكل.
وقيل: «هو ما يؤكل لحمه».
ومن اصطاد متعمداً في نطاق البيت الحرام (ويشمل مكة كلها) وقت الإِحرام في حجٍّ أو عمرةٍ، فجزاؤه بأن يقدّم من الأنعام مثل ما قَتَلَ، أي ما اصطاد من طيرٍ أو حيوانٍ. واختلف في هذه المماثلة أهي في القيمة أم في الخِلقة.. فالذي اعتمده معظم أهل العلم أنَّ المماثلة معتبرة في الخلقة، ففي النعامة بُدنة، وفي حمار الوحش وشبهه بقرة، وفي الظبي والأرنب شاة. وقال إبراهيم النخعي: «يقوَّم الصيدُ قيمةً عادلة ثم يُشترى بثمنه مثلُهُ من النعم». فاعتبر المماثلة في القيمة..
والحكم في رأينا أنه عند إمكان المماثلة بالخلقة فيمكن تقديم الحيوان المشابه للحيوان المقتول، وعند عدم الإِمكان في الحصول على حيوانٍ مشابه، يمكن أنْ يقوَّم الحيوان المقتول ويُشترى بثمنه أيُّ حيوان آخر.. ويحكم في ذلك {ذَوَا عَدْلٍ} [المَائدة: 95] أي رجلان عادلان يميزان أشباه الأشياء، ويقدران قيمتها. {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المَائدة: 95] أي أنَّ الذي أصاب الصيد، وهو محرم بالعمرة يهدي ما حُكِمَ به هدياً، بحيث ينحره في مكة قبالة الكعبة؛ وإن كان محرماً بالحج ذبحه أو نحره بمنىً. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المَائدة: 95] أي أنْ يكفّر عن قتل الصيد بأن يقوَّم مثله من النعم، ثم يتصدق بقيمته على المساكين والمحتاجين؛ أو أن يصوم بمقابل ذلك عدداً من الأيام. ويكون الصيام يوماً واحداً عن كل ما توازي قيمته مُدَّين من القمح. وذلك جزاءٌ لمن قتل الصيد لينال عقوبة عمله..
وقد يسأل سائل: كيف يسمى هذا الجزاء الذي يدفعه أو يصومه المؤمن «وبالاً» وهو عبادة؟ فإذا كانت عبادة فهي نعمة ومصلحة!.. فالجواب إنَّ الله سبحانه شدَّد التكليف على قاتل الصيد بعد أنْ ارتكب فعله عمداً، فهو مأمور بألاَّ يقتل هذا الصيد وقت الإحرام، فَقَتْلُه بعد الأمر يعني ارتكابَ معصية تستوجب التكفير عنها، بما يثقل عليه، لأنَّ الصوم يثقل على النفس والجسد لما فيه من تعب وحرمان مؤقتين. وهذا الثقل يسمو النص القرآنيّ بما يعبِّر عنه، أي وكأنه يتذوق الوبال «ليذوق وبال أمره»، ومثاله ما حُرِّم على بني إسرائيل من الشحم لما اعتدوا في السبت، فثقل ذلك عليهم، وإنْ كان فيه مصلحة لهم.
{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المَائدة: 95] من قتل الصيد قبل تحريمه {وَمَنْ عَادَ} [البَقَرَة: 275] إليه {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ} [المَائدة: 95] غالب على أمره {ذُو انْتِقَامٍ *} [إبراهيم: 47] ممن عصاه وخالف أمره.
10 - النهي عن نقض العهود والأيمان
أ - مثل ناقض العهد كـالتي نقضت غزلها المنسوج
يقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *} [النّحل: 91-92].
من الفضائل التي يحرص عليها الإِسلام فضيلة الوفاء بالعهود، والحفاظ على المواثيق. ولذلك كان نقض العهد نقيصة مخجلة، لأنَّ الإِنسان يحيد بها عن حق الله تعالى، وحق عباده. ذلك أنّ من ينقض ما عاهد الله ربَّهُ عليه، من السهل أنْ ينقض عهود الناس، وألاَّ يلتزم بوفاء أو صداقة، مما يجعل المعاملات عرضة للمخاطر، التي تجلب الأضرار المادية والمعنوية، وتلحق الأذى والدمار بالصلات، والروابط، والمواثيق على اختلافها. من هنا نجد أنه لما تقدم - في سورة النحل - ذكر الأمر بالعدل والإِحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والعدوان[*]، أتبعه هذا التعقيب بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النّحل: 91]، وفيه توجيه للناس نحو الحق والخير، وأمرٌ لهم بالوفاء بالعهد، ونهيٌ عن نقض الأَيمان. فإنْ عاهد أحدٌ ربَّه تعالى على أنْ يفعل شيئاً حسناً، صار واجباً عليه فعلُهُ التزاماً بعهده مع ربّه، (ومنه الوفاء بالنذر)، وإنْ حلَف أحدٌ أو أقسمَ بـالله تعالى، فإنَّ هذا الحلف أو القسم فيه عقد وإبرام باسم الله تعالى، فلا يجوز بعده اللغو بأَيمانه، خصوصاً وأنه جعلَ اللَّهَ تعالى كفيلاً عليه في ذلك. والكفيل بالشيء يحفظه ويؤديه.
والإِنسان عندما يقسم بـالله تعالى، فإنما يؤكد على نفسه أنَّ الله تعالى يكفل ويحفظ هذا الأمر الذي أقسم عليه، وأنه سَيَفي به، ولا يحنث بوعده في وفائه، أو في الامتناع عن القيام به (إذا كان الأمر يتعلق بنفي الأمر أو الامتناع عنه). فعندما نقسم أو نحلف بـالله تعالى، فإنه سبحانه يعلم ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *} [النّحل: 91] من وفاءٍ بالعهود، أو نقض لها، لأنه السميع العليم فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
والوفاء بعهد الله يشمل بيعة المسلمين للـرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) . ويشمل كل عهدٍ على معروفٍ يأمر به ربُّ العالمين. والوفاء بالعهد هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع، ولا تقوم إنسانية. والنص القرآني يُخجل المتعاهدين إنْ نقضوا الأَيمان بعد توكيدها، وقد جعلوا الله تعالى كفيلاً عليهم، وأشهدوه على عهودهم، وجعلوه كافلاً للوفاء بها. ولذلك يهددهم النصُّ تهديداً خفيفاً: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *} [النّحل: 91]. فلا يغيب عنه أمر من أموركم، ولا يخفى عليه شيء في حياتكم، وهو يرقبكم، ويحصي عليكم حركاتكم وسكناتكم، فحاذروا من فعلٍ لا يرضاه، لأنه تعالى يعلم كل عمل، وكل فعل تقومون به..
ثم ضربَ سبحانه وتعالى مثلاً على من ينقضون العهود، فقال عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النّحل: 92]. فجاء هذا المثل من واقع حياة الناس، حيث يأمرهم ربّهم بألاَّ يكونوا مثل تلك المرأة الحمقاء التي تغزل صوفها بإحكام، ثم تعود وتحلّ ما غزلته أنكاثاً، أي قطعاً متفرقة أو خيوطاً مبعثرة لا تصلح في حياكة ثوب، أو صنع شيء للانتفاع بها. ويقال إنه كان لرجلٍ من مكة، وهو عمرو بن كعب بن سعد، بنت تدعى «ريطة». وكانت إذا غزلت الصوف عادت ونقضته لحماقتها، فكانت تلقّب بخرقاء مكة. ولكن ليست «ريطة» مكة هي المقصودة بهذا المثل، لأنه مثل عام يتناول أعمال الناس التي فيها نقض للعهود، فيأتي التشبيه ليرسم لهم صورة هذا النقض بواقعٍ من حياتهم قد يرونه كل يوم؛ أفلا ترون أن كل جزئية من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والتعجب، وتشوّه الأمر في النفوس، وتقبِّحه في القلوب؟ وهذا هو المقصود هنا: تقبيح عمل النقض، وتشويهه وتحقيره..
{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} [النّحل: 92]، فالدخل هو ما يُدْخَلُ في الشيء - ولا يكون منه - لإفساده، فقد كان بعض من القبائل يبرمون ميثاقاً، أو عهداً، أو يعقدون حلفاً مع قبائل أخرى، ويغلظون الأَيمانَ على الوفاء بما عاهدوا عليه؛ إلاَّ أنَّ أيمانهم تلك لم تكن إلاَّ نوعاً من المداهنة والمخادعة لطمأنة حلفائهم على صدق التزامهم!.. فإذا رأوا مصلحة لهم في نقض العهد، فإنهم لا يتورعون عن ذلك، إذْ يبادرون إلى ترك حلفائهم السابقين، لعقد اتفاق مع حلفاء جدد يرون فيهم أكثر عدداً، وأشدَّ قوةً ومنعةً، وهذا ما يدلُّ عليه قوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النّحل: 92]، أي أن تكون جماعة (قبيلة) أعزَّ نفراً، وأقوى شكيمةً على القتال، وأظهر في الدفاع عنهم، فإذا وجدوا مثل هذه الجماعة تعاهدوا معها في حلف جديد، دونما أي اعتبار للحلف الذي كانوا أقاموه مع الجماعة السابقة، ضاربين عرض الحائط بالأَيمانِ التي أغلظوها للحفاظ على التحالف والالتزام بشروطه، بل وغير آبهين بإشهاد الله جلَّ وعلا على الوفاء بالعهد. ولكنْ ما دروا أنَّ نكث العهود من شأنه أنْ يرتّب آثاراً سيئة جداً، بما يحط من شأن وكرامة الجماعة الناكثة، ويسيء إلى سمعتها لدى غيرها من الجماعات، وأقله وصمها بالخيانة والغدر..ومن أجل إبطال مثل تلك الأعمال المشينة، والأخلاق الذميمة أمر الله تعالى «الوفاء بالعهود»، وعدم نقض الأَيمان بعد توكيدها، وخاصة إذا جعلوا الله تعالى شاهداً على الالتزام بالوفاء، لأنَّ إشهادَ الله معناه أنَّ المتعاهدين قد جعلوه سبحانه كفيلاً بالوفاء، وهو تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *} [النّحل: 91]، فإنْ كان وفاءٌ فهو خير لكم، وإنْ كان نكثاً فهو شرٌّ لكم، وما على المتحالفين إلاَّ أنْ يُصغُوا إلى تهديد الله العلي العظيم لهم، إنْ كانوا يضمرون المصلحة الدنيوية فقط، دون الحفاظ على العهد كأساس لنجاح العلاقات بين الجماعات..
ويدخل في مدلول النص أنْ يكون نقض العهد متأتيّاً عما يرونه، في هذه الأيام، «مصلحة الدولة»، وذلك بأنْ تعقد الدول معاهداتٍ ثنائية - بين دولة وأخرى - أو معاهداتٍ متعددة الأطراف - بين مجموعة من الدول - ثم تبادر إحدى الدول المتعاهدة إلى نقض المعاهدة من طرفٍ واحدٍ، لعقد معاهد بديلة مع دولة أخرى تراها أربى قوةً من التي عاهدتها من قبل، أو أنها تنقض المعاهدة لمجرد إرضاء دولة أخرى، تحرّضها على النقض!..
وهذا ما لا نجده في الإسلام الذي يحتّم الوفاء بالمعاهدات والمواثيق وعدم نقضها من طرفٍ واحدٍ، مهما كانت المبررات، لأنَّ الأصل في المعاهدات توافقُ إرادة الطرفين سواء على عقدها، أو إلغائها، المعاهدة، أو تعديلها، وإلاَّ كان نقضُها من طرف واحد، تنصلاً من الوفاء، مع ما يحمل هذا التنصل من الغش، والخداع، والإفساد في العلاقات الدولية... وينطبق على مدلول {الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النّحل: 91] الأعراف، أو «اتفاقات الشرف» التي تتغنَّى بها بعض الدول، وتدعو لاقتباسها، أو الانفتاح على مضامينها، بينما تضمر في الخفاء خداعاً، وغشّاً ومراوغة، لتحقيق أهداف قد تكون قريبة أو بعيدة، وتتخذ من العرف الدولي، أو اتفاق الشرف سِتراً لها!.. «واتفاقات الشرف» أكثر ما عرفت بها بريطانيا مع علاقاتها مع غيرها، إذ كثيراً ما تداهن، وتتقرّب من جماعاتٍ أو دولٍ أخرى، وتبدي لها غير ما تبطن، للوصول إلى غايات غير منظورة، ثم تظهر تلك الغايات في المدى القريب أو البعيد، والمثال الأبرز في القرن العشرين، «وعد بيلفور» لليهود بإقامة وطنٍ قومي لهم على أرض فلسطين، وهو الوعد الذي ما زالت آثارُهُ تنتج مفاعيلها السيئة - منذ عام 1917م ميلادية وإلى اليوم - على ما يسمونه منطقة «الشرق الأوسط»، حيث تعيش الشعوب في هذه المنطقة حالة من عدم الاستقرار والاضطراب والقلق بصورة دائمة، من جراء الحروب التي يشنها «الكيان الصهيوني» - الذي أوجده وعد «بيلفور». وزير خارجية بريطانيا آنذاك - على الدول العربية المجاورة، وما يقوم به هذا الكيان العدواني من تحريض دائم للغرب - ولاسيما أميركا وبريطانيا - على معاداة أية دولة في منطقة «الشرق الأوسط» لا تتوافق سياستها مع مصلحة «دولة إسرائيل» كما هو ظاهر للعيان في سياسة العداوة ضد الفلسطينيين، ولبنان، وسوريا والجمهورية الإسلامية في إيران!... والمثال الآخر على «وعود الشرف» البريطانية، ما خدعت به هذه الدولة الشريف حسين في بلاد الحجاز، من خلال المراسلات التي جرت بينه وبين مكماهون، الذي كان يتعهد في تلك الرسائل بمساعدة العرب على نيل استقلالهم عن الدولة العثمانية، شرط أن يعلنوا الثورة على العثمانيين، ويقفوا بجانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى!.. وفي الوقت الذي قامت الثورة العربية ضد العثمانيين، كانت بريطانيا تعقد مع فرنسا، في الخفاء، معاهدة «سايكس - بيكو» التي أدت إلى تقسيم العالم العربي إلى دويلاتٍ زرعت فيها الدولتان المتآمرتان، زمنَ الانتدابِ، كلَّ عوامل الفتنة والتفرقة، حتى لا يقوم لأية دولةٍ في بلاد العرب قائمة من قوة أو عزةٍ، أو استقلالٌ فعليٌّ ناجزٌ، وهو ما تحقق فعلاً بنتيجة تلك المؤامرة - الخدعة، التي كانت ثمرة «وعد الشرف» الذي قطعه مكماهون للشريف حسين!.. بحيث إنه بدلاً من إنشاء دولة عربية موحدة في المشرق العربي، أنشئت الدول الحالية المعروفة، ثم أقيم في وجهها «الكيان الصهيوني» ليكون مجرد وجوده سبباً للخلاف فيما بين هذه الدول، وبالتالي بقاءها على حالة من الضعف، وعدم النمو والتقدم، بما يخدم مصالح اليهود، والعالم الغربي على حد سواء.. وهذه هي بعض نتائج «وعود الشرف» البريطانية، وهي لا تختلف عن الوعود التي تخادع بها معظم دول الغرب غيرها من دول العالم الثالث، لإبقائه تحت هيمنتها المباشرة، أو غير المباشرة!..
من هنا تتبين لنا أهمية المفاهيم الإسلامية التي تحملها النصوص القرآنية وهي تؤكد أمر الله تعالى على الوفاء بالعهود، وعدم نقضها، سواء كانت على شكل معاهدات، أو أعراف دولية، أو مواثيق شرف، لأنَّ الإسلام لا يقرّ، بل ويحرّم أي تعاهدٍ أو تعاونٍ على الإثم والعدوان، أو على الفسوق والعصيان، أو على استلاب حقوق الناس، واستغلال ثروات الشعوب والدول، بما يتناقض ومصالحها المشروعة على مختلف الأصعدة!.. فالإسلام يريد بناء العلاقات بين الجماعات والشعوب والدول على أسسٍ سليمة من الوفاء بالعهود، وعدم نقض شروطها وأحكامها، بل ويجعل الالتزام بها أمراً يكفله الله تعالى، لأنه لا يريد الإضرار بالناس من خلال العلاقات التي يقيمونها مع بعضهم بعضاً..
وهذا من جملة المقومات التي نشأت عليها الجماعة الإسلامية، وبناء الدولة الإسلامية، في العهد الإسلامي الأول.. وقد تجلَّى ذلك بمشاعر الطمأنينة والثقة، وبالصدق والنظافة في المعاملات والعلاقات بين الأفراد والشعوب في كل مكانٍ وصل إليه الإسلام، وكانت له القيادة، ورعاية شؤون الناس.. والله تعالى عندما يأمرنا بقوله الكريم: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ} [النّحل: 91]، فإنَّ هذا الأمر الربّاني يحمل اختباراً للمؤمنين أنفسهم، للنصرة فيما بينهم، ولمن يرغبون أنْ ينصروا المؤمنين في ضعفهم، وقلة عددهم، ومؤازرتهم على عدوٍّ يتربَّص بهم الدوائر، ولو بدا هذا العدو قادراً، مقتدراً..
ولا تقف آثار الوفاء بالعهود على العلاقات الدنيوية وحدها، بل تتعداها إلى مصير الناس في الآخرة.. فقد بيّن القرآن الكريم أنَّ الله تعالى قد جعل الوفاء بالعهود ابتلاء يختبر به العباد، ليبين لهم يوم القيامة عاقبة نقضهم لتلك العهود، ولاسيما إذا جرى نقضها بدون وجه حق، وما يجر إليه من الخلافات فيما بينهم، بحيث يكون لله سبحانه الحكم بأنْ يثيب الملتزمين بعهدهم إذا عاهدوا، ويعذب الذين نكثوا العهود بعد توكيدها. والرسول الأكرم قد بيَّن لنا أنَّ كل نقضٍ للعهد إنما هو، ولا ريب، غدر، فقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنافِقاً خَالِصاً. ومَنْ كانتْ فيه خِصْلَةٌ مِنهُنَّ كانَتْ فيه خِصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتى يَدَعَها: إذا أؤتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذا خَاصَمَ فَجَر» [*].
ب - دعاء الإخلاص لله تعالى، إذا غشيَ الفلكَ موجٌ كـالظُّلَلِ
يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} [لقمَان: 31-32].
..ومن لا يرى الفلك تجري في البحر؟ كل منا يراها.. ولكنَّ قول الله تعالى يوجِّهُ انتباه الإِنسان، ويحرك عقله وحواسه إلى آياته سبحانه التي خفيت على أفهام البشر، بعد أن اعتادوا على رؤيتها من غير أنْ تتحرك في نفوسهم أية مشاعر، أو يثور لديهم أيُّ استفهام حول تلك الآيات!.. فالفلك تجري في البحر، وجريانها فوق سطح الماء هو من آيات الله تعالى، لأنه لا يمكن أن يكون إلاَّ بنعمة من الله وفضله، ولو شاء العزيز القدير لما سخّر لنا البحر، ولما وهبنا العقل لنصنع تلك السفن، ثم نقذفها فوق اليمِّ لنحقق بواسطتها مصالحنا.
ولو أمعن الإِنسان التفكير في مشهد الفلك وهي تجري في البحر، لأدرك حقّاً أنها من الآيات الربانية، أي من الأدلة المبيِّنة لرحمة الله تعالى، بحيث توجب علينا ألاَّ ننظر إليها بنظرة سطحية وعابرة، بل نتأمل بها بنظرة اعتبارٍ وتبصرةٍ، من شأنها أنْ تقودنا حتماً إلى الإِقرار بأنَّ في جريان الفلك في البحر آياتٍ بيِّناتٍ للناس، وأقربها إلى علم الإنسان أنَّ الله تعالى جعل في كثافة مياه البحار ضغطاً ينبعث من أدنى إلى أعلى لكي يستطيع الماء أن يحمل ثقل الجسم الملقى على صفحته، وأن يجعله يطفو، بالغاً ما بلغ وزنه، إذا توفرت له شروط التوازن في الحجم والشكل والصنع.. ونتيجة لذلك القانون الذي أوجده الله تعالى في الماء، كانت تلك العمارات من الأساطيل التجارية التي تجوب البحار والمحيطات بين مختلف القارات، فتسهِّل عملية انتقال الأشخاص ومبادلات السلع، بما يحقق إقامة العلاقات بين أمم الأرض، وشعوبها.. أوليس في ذلك ما يستدعي من الإنسان الشكر لله تعالى على هذه النعمة الجزيلة، والثناء عليه سبحانه لهذا الفضل العظيم، ثم الإِقرار بأنه على كل شيء قدير؟
والعبرةُ من هذا البحر، ومن الفلك التي تجري فيه، كثيرة لمن فكَّر، وتأمَّل، فوعى!.. ومنها ما قد يصادف الذين يجوبون البحار من عواصف عاتيةٍ هوجاءَ، تهبُّ على الأمواج فتجعلها كـالظُّلل (أي مثل الجبال العالية التي تظلّل ما تحتها)، وعلى السفن فتزلزلها، وتتركها عرضةً للهلاك، تتقاذفها الأخطار من كل جانب، حتى ليظنَّ البحارة - والركاب على متنها - أنَّ لا نجاة لهم من الموت المحتوم... وغالباً ما يتعاونون جميعهم، ويبذلون قصارى جهودهم للحفاظ على السفينة لئلا تحطمها العاصفة، ويبتلعهم اليمُّ؛ إلاَّ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك، إلاَّ أن يشاءَ الله تعالى لهم الخلاص والنجاة.. ويلاحظ أنَّهم، أمام ذلك الخطر الداهم، ولا حول لهم ولا قوة، يتوجَّهون - كائناً ما كان اعتقادهم - بالدعاء إلى الله كي يلطف بهم، وُينجيهم إلى برّ الأمان؛ وهنا تكمن العبرة والعظة، فالإنسان تتعرَّى نفسه بصورة بديهية - في الحالة القصوى من الخطر والشدّة - من معتقداتها الموروثة؛ وتتجرّد من تلك «القدرات» الموهومة التي كانت تثق بها، أو من تلك «القوى» الخادعة التي كانت تطمئن إليها، بحيث تعتبرها كلها باطلة، لا تقدر على شيءٍ ممَّا كان يعوّل عليها، لتبقى وحدها، في داخل الإنسان، الفطرة التي فطره الله عليها، وبهذه الفطرة السليمة يكون انقياده طوعاً إلى بارئه، لأنه يجد ملاذه، وملجأه الأخير في رحمته تعالى.. فترى المؤمن بـالله تعالى يركع خاشعاً بالدعاء.. ومَنْ كانَ غير مؤمنٍ بحقيقة وجود الله تعالى، نجده يرفع بناظريه ويديْه إلى السماء، يدعو مَنْ هو في الأعالي، وكأنَّ نفسَهُ تقول له: ليس إلاَّ الله في السماوات العلى، فاستسلم لمشيئته كي تكون لك النجاة!.. وهذا أمر طبيعي بعد سقوط جميع الحوائل التي كانت تفصل ما بين نفس الإنسان وخالقه، إذ تتغلّب الفطرة في الظروف الحرجة لكي تعود وتستقيم نفس الإنسان بالتوجه إلى بارئها، طلباً للعفو والرحمة.. فعندما يتأمَّل المؤمن في مثل تلك الظروف أو الحالات التي يمرُّ بها الناس، سواء في البحر أو البرّ، يتبيّن له الأثرُ البالغ في الصدوع لأمر الله بقوله العزيز: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافر: 60]؛ فالدعاء هو التوسّل إلى ربّ العالمين في أي أمرٍ من الأمور، ولذلك كان كل دعاءٍ عبادةً.
أما الذين ضربَ الله تعالى مثلهم، عندما يغشاهم الموج كـالظلل، فدعوا الله مخلصين له النية والإيمان، نجدهم إذا نجّاهم، وعادوا إلى البرّ سالمين، قد تفرَّقت بهم الأهواء: فمنهم مقتصد، وهو الذي يبرُّ بالوعد الذي عاهد الله عليه، ومنهم جاحد، وهو الذي يتنكَّر للقادر الذي أمَّن له النجاة، فيغرق في جحوده وكفره.. فهما إذاً صنفان من البشر، صنف شاكر مقتصد، وصنف جاحد منكِر.. فأما المقتصد، فهو الذي يكون على طريقة مستقيمة، وصلاح في الأمر، وثبات في الإِيمان، ووفاء بالعهد، لا يدفع به الأمن والرخاء إلى النسيان والاستهتار، بل يظل ذاكراً، شاكراً، وإن لم يوفِّ كامِلَ حق الله تعالى على جميل صنعه به، بل ولم يوفِّ وفاءَهُ في الذكر والشكر حقَّهُ الذي يستأهل!. من هنا سمّاه تعالى {مُقْتَصِدٌ} [لقمَان: 32].. وأما الجاحد فهو الذي ينكر رحمة الله عليه بالنجاة، لمجرد زوال الخطر، والعودة إلى البرّ، فكأنه لم يقع في ضيق، وكأنَّ قلبَهُ لم يعاهد الله على الإيمان والتصديق والوفاء.. ومثل هذا الجحود بآيات الله تعالى، لا يكون إلاَّ من كل ختّار كفور. (والختَّار هو الشديد الغدر، والكفور هو الشديد الكفر). ومثل هذه المبالغة الوصفية تليق هنا بمن يجحد بآيات ربّه وتدبيره، وبمن يتنكر لفطرته التي جعلته يخلص لربّه الكريم في تلك اللحظات الحاسمة التي عاشها بين الأعاصير والأمواج، ثم لا يلبث بعد النجاة أن يعود إلى كفره المبين.
11 - التحذير من الطعن بالأعراض والنهي عن العودة لـمثله
يقول الله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [النُّور: 17].
هذه الآية الكريمة وإن جاءت تعقيباً على حدثٍ في موضوع الأعراض، إلاَّ أنها تحمل قاعدة إسلامية شاملة وهي عظة الله سبحانه وتعالى بعدم التعرض للأعراض والطعن بها، أو التقوّل على الناس بالسوء. ولا يتوقف النص القرآنيّ عند حدّ العظة المجرّدة، بل العظة المقرونة بالأمر الناهي لئلاّ تعودوا، أيها المجدّفون بالأعراض، إلى مثله أبداً، إنْ كنتم تؤمنون بالله، ورسله، وأنبيائه، وتتدبرون معاني ما يعظكم به ربُّكم تبارك وتعالى.
وهذا يُعدُّ من أجمل أساليب التربية، وأبلغه أثراً في النفوس، كون لفظ «العظة» لا يحمل هنا معنى التحذير وحسب، بل ومعنى الأمر، أي يحذّركم!.. وإيّاكم {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النُّور: 17]. ثم إن لفظة «أبداً» هي التي تحمل النهي الجازم، بصورة قاطعة، بحيث يختفي نهائياً التعرّض للأعراض، ويُصان أبناء المجتمع الإسلامي، ولاسيما النساء، من أهم السيئات التي تخرب الحياة الاجتماعية.. وكل ذلك مع تعليق إيمانهم على الانتفاع بالعظة والأمر {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [البَقَرَة: 91].. فالمؤمنون لا يمكن أن تتكشف لهم بشاعة ذلك العمل القبيح، وبهذه الصورة التي يوضّحها القرآن، وأنْ يتلقوا بشأنه الأمر الناهي، ثم يعودون إلى مثله، وهم أهل الإيمان والتقوى.
ومن محاسن التربية الربانية للمؤمنين كذلك، ما ينهاهم الله تعالى عنه بألاَّ يرفعوا أصواتهم بحضور النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بما يحجب صوتَهُ عن أسماعهم، ولا أنْ يجادلوا في مجلسه الكريم بـمثل ما قد يجادلون به فيما بينهم، فأدب اللياقة والكياسة أن يعرف المؤمنون ما لهذا النبي من مكرمةٍ عند ربّه تعالى، فيحسنوا الأداء بين يديه حتى وهم يخاطبونه، أو يخاطبون بعضهم بعضاً، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ *} [الحُجرَات: 2] فسبحان الله: رؤوفٌ بالمؤمنين، عليمٌ بمصالحهم، حليمٌ بالصبر عليهم، العفوُّ عنهم، الحكيمُ بما يوجِّه ويربَّي هؤلاء المؤمنين، وذلك كلُّهُ خيرٌ لأنفسهم، وللآخرين بانعكاساته الإيجابية على أبناء المجتمع الإسلامي..
الفقرة السادسة - الله يحب الذين يقاتلون في سبيله
1 - حب الله للذين يقاتلون في سبيله صفاً كـأنهم بنيان مرصوص
يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ *} [الصَّف: 4]، قد يكون الحب، بحسب فهمنا البشري، أسمى المشاعر التي أودعها الله تعالى في نفوسنا، فكان حبّنا - قبل كل شيءٍ - لله ورسوله... ثم للأهل والأقارب والأصدقاء.. ثم للذين يعملون الصالحات.. ومن ثم للكائنات الأخرى من حولنا.. وإنَّ من شأن هذا الحب أنْ يرقى بالإنسان - إذا اقترن بالنية الخالصة، والطاعة التامة لله تعالى - إلى مرتبة الملائكة، وهذا ما يجعله يختلف عن الهوى الذي قد يجنح بالإنسان حتى يطيح بإنسانيته!..
وإذا كان من مقومات صلاح النفس حبُّ الإنسان لله تعالى خالقِهِ، الذي أوجده، وأنعم عليه بما لا يقدر على إحصائه من النعم، بحيث يكون هذا الحب بمثابة طاعةٍ من الطاعات.. فإنَّ حبَّ الله تعالى لعبدٍ من عباده هو ذروة اللطف والرضى، ووسام الرحمة والرفعة.. وغيرها من المكرمات التي يمكن أنْ يحظى بها هذا العبد في دنياه وآخرته.. وقد بيّن لنا سبحانه وتعالى في قرآنه المجيد أنَّه يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً، أي متعاونين، كلُّ بحسب طاقاته وإمكانياته - سواء بمدّ المقاتلين بما يلزمهم من الدعم المعنوي والمادي، أو بالمشاركة في القتال - بما يقوي فيهم روح العزيمة والتضحية، ويجعلهم كتلةً متراصة في هدفهم السامي، ألا وهو القتال في سبيل الله، ولذلك يشبّههم سبحانه في هذا التعاون، والتلاحم، والتكاتف، كـأنهم بُنْيانٌ مرصوص، تضافرت فيه جهود المصمّم، والبنّاء، والمنفّذ، حتى شُدَّت أجزاؤه بعضها إلى بعض فتماسك صرحاً ممرَّداً يعجب الناظرين..
أما لماذا هذا التشبيه فلأنَّ «سبيل الله» هو السبيل الأوحد لنصرة دينه، ونشر البر والتقوى بين أبناء البشر، ورفع المظالم والمفاسد من حياتهم، ومن أحقُّ أنْ يختار هذا السبيل إلاَّ الذين آمنوا، فجاهدوا بأموالهم وأنفسهم حتى حظوا بحب الله العزيز الحكيم..
2 - واجب الردِّ على الاعتداء بـمثله
يقول الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ *} [البَقَرَة: 194].
إدَّعى المستشرقون، بل والغرب بأسره، أنَّ الإِسلام قام على القتال، وفي ذلك مطلق التجنّي الحاقد، الصادر عن سابق تصور وتصميم، لأنهم يريدون أنْ يظهروا للناس أنه لولا استعمال القوة، لما انتشر الإِسلام ذلك الانتشار الواسع في القارات التي وصل إليها. والحقيقة أن رسول الإِسلام محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، والمسلمين من ورائه، لم يبدأوا قوماً بقتال، ولا قاتلوا إلا دفعاً لأذىً أو رداً لظلم، ولم يقصدوا بلداً، أو اضطروا لخوض معركةٍ إلاَّ من أجل تعريف الناس على الإِسلام، وإزالة الحواجز المادية والنفسية التي تحولُ دون الناس للوصول إلى منهج «إعلاء كلمة الله».. فقد كانت غاية المسلمين تتلخص في عرض دينهم الحق على الناس، كما أمرهم بذلك ربُّ العالمين، فمن قَبِلَ هذا الدين دخلَ فيه مختاراً، ومن لم يقبله خلّوه على دينه، لأنَّ من القواعد الإيمانية في الإِسلام قول الله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البَقَرَة: 256]. فهذا نصٌّ قرآنيّ يفضح كذب الدسَّاسين على الإِسلام، والكارهين لدين الله الحق، لأنهم لا يريدون أنْ يسود العدل بين الناس، وتُؤدَّى الحقوق لأصحابها، وتصانَ الحرمات، والمقدسات، والقيم، والمثل والأخلاق بين الأفراد والجماعات.. وبكلمة وجيزة هم لا يريدون أنْ يسود الخير، وينهزم الشر في هذه الأرض، وإلاَّ لاختلَّ توازن وجودهم، وقضي على مطامعهم وشهواتهم.. ولذلك كانت حملاتهم المغرضة، التي ما تزال قائمة ومستعرة على الإِسلام، وضد المسلمين..
وأيّاً يكن أمر أعداء الإِسلام، وأياً تكن أفكارهم، أو دراساتهم ومخططاتهم، فالقرآن الكريم يقدّم الأمثالَ التي تتضمن بعض أحكام القتال، وهي تردُّ على المغالين والمنافقين في كل حين.. فعندما يقولُ الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البَقَرَة: 194] فمعنى هذا القول القدسيّ أنَّ من ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يُحرمَ الضمانات التي يكفلها له هذا الشهر من الأمن والأمان.. وقد جعل الله تعالى البيت الحرام (الكعبة الشريفة) واحةً للأمن والسلام في المكان، كما جعل الأشهر الحرم واحةً للأمن والسلام في الزمان، وذلك لتُصان فيها الحرمات، وتحجب الدماء، ولا يُمَسّ فيها أحد بسوء.. فمن أبى أنْ يستظل بهذه الواحة، وأراد أنْ يحرم المسلمين منها، كان جزاؤه أنْ يُحْرَمَ هو أيضاً منها.. فالذي ينتهك الحرمات، لا تصان حرماته، لأنَّ الحرمات قصاص - أي يقتص بـمثلها إذا انتهكت - ومع ذلك فإن هذه الإباحة بالرد، توجب على المسلمين أنْ يضعوها في حدودٍ لا يتعدونها. فلا يُباح مثلاً القتال في الشهر الذي حُرِّم فيه القتال إلاَّ للضرورة وبقدرها؛ فإذا قاتلكم أعداؤكم، أيها المسلمون، في الشهر الحرام فقاتلوهم بالشهر الحرام مثله، لأنَّ حرمة القتال فيه ارتفعت حتى لا يستغلَّها أعداؤكم، وتكون سبباً لنصرهم عليكم، وذلك امتثالاً لأمر ربكم تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البَقَرَة: 194]، أي فمن ظلمكم بالاعتداء عليكم، فجزاؤه على اعتدائه بـمثله، وعقابه على نفسِ قدر ظلمه لكم.. فقد سمَّى العقوبة التي تنالُ المعتدي «اعتداءً»، لأنَّ الاعتداء ينطوي في مفهومه على الضرر والأذى، ولكنَّ العدل الآلهي لم يجوّز العقوبة إلاَّ بقدر الاعتداء وبـمثله {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البَقَرَة: 194]، وإذا كان الاعتداء الأول جوراً، فالثاني عقوبة، ولكنها عقوبة عادلة. أما أنه مثلُهُ في الجنس، وفي مقدار الاستحقاق، فالعلّة لكونه ضرراً، كما أنَّ الاعتداء ضرر. ولذا فهو مثله في الجنس والمقدار والصفة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البَقَرَة: 189] فيما أمركم به ونهاكم عنه، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ *} [البَقَرَة: 194] بالعون والنصر..
وفي هذه الآية الكريمة دلالة أيضاً على أنَّ من غَصَبَ شيئاً أو أتلفه، يلزمه ردُّ مثله. ثم إنَّ المِثْل قد يكون من طريق الصورة في ذوات الأمثال (أي مقدارها في الكمية والجنس والنوع والخصائص) ومن طريق المعنى، كـالقيم فيما لا مِثْلَ له، ومن قبيله التعويض الأدبيّ أو التعويض عن الألم وما شابه ذلك.. فيا سبحان الله ما أروع تعاليم الإسلام وهو يقيم موازين العدل حتى في حالة الاعتداء والغصب!..
3 - تأسّي المؤمنين بـمثل الذين خلوا من قبلهم
يقول الله وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ *} [البَقَرَة: 214].
إنه لجدير بالمسلمين أنْ يعتبروا بهذه الآية المباركة من ناحيتين:
الأولى: أنَّ الحياة ابتلاء، لأنَّ أيام البأساء (البؤس والفقر والقلق والشدة..) وأيام الضَّراء (المرض والمحنة والاعتداء والظلم..) قد تكون ملازمة للناس أكثر من أيام الدعة والسلام، فكان خليقاً بهم ألاَّ يعوِّلوا على آمال كاذبة بسعادة أو راحة أو فرح، بقدر ما يتوقعون عذاباً وتعاسة وشقاء.
والثانية: أنَّ الصبر على البلاء فضيلة، والدخول إلى الجنة محفوف بالمكاره، فكان التأسّي بالمؤمنين السابقين، ولا سيما التأسّي برسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وأصحابه الميامين، ما يقوّي صبرَ المؤمنين - في أي زمانٍ ومكانٍ - عند نزول الشدائد والمصاعب بهم، إذ قد نزل بالمسلمين الأوائل، أولئك الأبرار الأخيار، كربٌ عظيمٌ، وبلاءٌ كبيرٌ في مواجهة الأعداء، فصبروا حتى جاء نصر الله.
وهذا الصبر والتأسّي لا بد وأنْ يقترنا بالتوجُّه إلى الله تعالى ورجائه بأنْ يخفِّف المصائب وآلامها. وفي تكوين هذه الحالة النفسية أول أَمارات النصر من الله لعباده المؤمنين، بما يهبهم من قوة على تحمل الشدة، واصطبار على المكروه، حتى يمكن السيطرة على الألم والانتصار عليه.
ذلك أنَّ الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) والمسلمون قد لقُوا في مكة أذىً شديداً من المشركين، ثم كانت من بعده الصراعات التي شنَّها هؤلاء عليهم، بما فيها المعارك القتالية، وحصار الأحزاب للمدينة، والغدر والمكائد التي وقف فيها، مع أولئك المشركين، الذين كفروا من أهل الكتاب، والمنافقون.. فكان نزول هذه الآية الكريمة تسريةً للآلام عن نفوس المسلمين، وتخفيفاً لثقل الأعباء عن قلوبهم، وذلك بما تعظهم به من أخبار الأمم الخالية التي لاقى فيها المؤمنون أمثالهم العداء والعذاب من الكفار الوثنيين، فصبروا على دينهم، وكان لهم الوعد بالجنة..
من هنا جاء الخطاب في مطلع النص موجهاً إلى المؤمنين مباشرة: «أحسبتم» - أيها المؤمنون - أنْ تقولوا أنَّ لكم الجنة تدخلونها وأنتم لا تُفتنون، وتُبتلون كما ابتُلي الذين من قبلكم؟ وأمَّا الحكمة من هذا الابتلاء فليعلمنَّ الله عزَّ وعلا الذين صدقوا - بالنية أو العمل الظاهر - وليعلمن الكاذبين من الذين يقولون آمنَّا وما هم بمؤمنين.. أم حسبتم أنْ تدخلوا الجنة ولم تصبروا كما صبر الذين خلوا من قبلكم، وليس بعد الصبر إلاَّ الفرج والنصر؟ فالذين سبقوكم من المؤمنين مسَّتهم «البأساء والضرّاء»، ولاقوا من الشدَّة، والمصاب والعذاب ما يكرهون، ولكنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكان حليفهم النصر من الله تعالى.. ومثل تلك «البأساء والضرّاء» قد أصابت المسلمين في غزوة «الأحزاب» لما لاقوا من الجهد، والتعب، والسهر، ومحاولات المشركين لاقتحام مواقعهم، وتأليب اليهود عليهم حتى بات كلُّ ما يحيط بهم ينذر بأوخم العواقب، فكان ذلك بمثابة الزلزال الذي أصابَ نفوسهم حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه، بعد تناهي ذلك البلاء والشدّة عليهم: «متى نصر الله» الذي وعدنا به؟ ونزل الوحي بأمر الله تعالى: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ *} [البَقَرَة: 214]، إلاَّ أنه مدَّخر بشروط استحقاقه، وأهمُّها موقف المؤمنين، بحيث لا يستحقون نصرَ الله إلاَّ إذا ثبتوا حتى النهاية في المعركة، وعزمهم ونيتهم نصرةُ دين الله، فإذا ثبتوا أمام تلك القوى العاتية التي جاءت تغزوهم وتقاتلهم[*] - على كفرها وشركها بالله تعالى - وإذا كان لديهم اليقين القاطع بأنْ لا نصْرَ إلاَّ من الله، يؤتيه من يشاء، ولمقتضى الحكمة التي يشاء، فإنَّ نصرَ الله آتٍ، وآتٍ قريباً.. وهذا يعني أنَّ المؤمنين، وحتى لو بلغت المحنة بهم أقصى ذروتها، فإنهم يتطلعون دائماً إلى النصر الذي وعدهم الله به {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً *} [الإسرَاء: 5]، وهذا اليقين بالله تعالى، وما يُبنى عليه من الوعي، والتخطيط، والاستعداد، والعمل الجدي والبلاء الحسن هو الذي يؤهلهم لدخول الجنة، أي أن مقوماته الأساسية: الجهاد، والثبات، والصبر والتوجّه الصادق إلى الله تعالى وحده، وإغفال ما سواه..
ويأتي التوكيد على هذه القاعدة الإسلامية التي تقول بأنْ لا نصرَ إلاَّ من عند الله، بقوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُِولِي الأَبْصَارِ *} [آل عِمرَان: 13].
وهذا بيان عمَّا حصل في موقعة «بدر» حين تقابل المسلمون مع المشركين. فالمسلمون كانوا أقلَّ عدداً، لا يزيدون على ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، وليس معهم من العدَّة إلا النزر اليسير، بينما كان عدد المشركين يربو على الألف، وقد خرجوا من مكة، مدججين بالسلاح، وهم يقولون: لا نرجع حتى نشرب الخمر، وننحر الجزور وتضرب لنا القيان، فيتسامع بذلك الناس فيهابوا قريشاً، وتبقى لها السيادة على العرب.. وكل ذلك ليصدوا عن سبيل الله، ويمنعوا الناس من الدخول في الإسلام.. فكان نهيُ الله تعالى، وبتوجيه سَنيٍّ للمسلمين، ألاَّ يكونوا مثل أولئك المشركين الذين خرجوا مغترين بأنفسهم، ومعتدّين بقوتهم، لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ *} [الأنفَال: 47] فهاتان الفئتان التقتا يوم بدر: فئة المسلمين وهي تقاتل في سبيل الله، وفئة الكفار من قريش، وهي تقاتل في سبيل البقاء على الشرك، والحفاظ على السيادة والحكم.. ونظر المشركون إلى المسلمين باستخفافٍ وصلفٍ لقلة عددهم وعدتهم، فبادروا إلى اقتحامهم وهم يقولون: عليكم بهم، فما هم إلا كـأكلة رأس!.. أما المسلمون فأراهم اللَّهُ سبحانه المشركين قليلي البأس، ضِعافَ القوةِ والتماسكِ، ضِعاف الهمم على القتال، فاجترأوا عليهم، واستهانوا أمرهم، كما يُنبيء بذلك ربّ العالمين، بقوله العزيز: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفَال: 44]. ومثل هذه الرؤية، كانت من أهم أسباب النصر للمؤمنين، والتخذيل للكافرين، لأنَّ النصر منه تعالى يمكن أن يكون:
إما بالغلبة في القتال، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 249]. وهذا على خلاف المجرى الطبيعيّ للأمور.
وإما بالغلبة بالحجة الدامغة، والبرهان القاطع، اللذين لا يتركان مجالاً للجدال، ويقطعان الخصام، والآيات عليها كثيرة في القرآن الكريم..
وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار، الذين ينظرون ببصائرهم، ويُعملون عقولهم، فيرون أنَّ الله سبحانه وتعالى، قادر على أنْ ينفذ حكمه في أي أمرٍ من الأمور، ويظهره خلافاً للسنن العادية التي يألفها الناس.. إذاً فلا بدّ من بصيرةٍ نافذةٍ، وعقلٍ واعٍ لإِدراك العبرة ومعرفة حقيقتها؛ وإلاَّ فالعبرة تمرُّ في كل لحظة من الليل والنهار، وليس من يعتبر بها، وليس من يعيها، أو من يقف على أبعادها ومراميها.
4 - أمرُ الله تعالى للمؤمنين بألاَّ يكونوا كـالذين كفروا في نَهْيِ أقاربهم عن الجهاد أو السفر طلباً للرزق
يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون} [آل عِمرَان: 156- 157].
ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أنْ يكونوا كـالمشركين، والمنافقين الذين كانت تربطهم بالمسلمين صلات القرابة بالدم، أو صلات الجوار والصداقة، وذلك بسبب أنّه إذا مات أحد من المسلمين في أسفارهم ابتغاء التجارة وطلب الرزق، أو إذا استشهد بعضهم في غزواتهم، أو في أي قتال دفاعاً عن دينهم أو وجودهم، فكان المشركون من أقاربهم، أو أصدقائهم يبدون الحسرة، ويقولون: لو كانوا عندنا، أي بين ظهرانينا، ومن جماعتنا، ونحن وإيّاهم سواء في العيش، من غير مشقة الأسفار، وخطر القتال، ما ماتوا، وما قتلوا.. فيحذِّر الله تعالى المؤمنين، وينهاهم عن أنْ يقولوا كـقولهم، ليجعلَ قولَ المشركين في عاقبة أمرهم، حسرةً في قلوبهم، أياً تكن نواياهم أو الغاية التي يرمون إليها، سواء أرادوا من وراء ذلك تثبيط عزائم المؤمنين ليبقوا فقراء محتاجين، أو لتخذيلهم عن الخروج للغزو في سبيل الله!.. وحتى إذا كانوا يتحسرون فعلاً على من يقتلون من أقاربهم وصحبهم - فرضا - فالحسرة، على كل حال، كانت تملأ قلوب الذين كفروا، وهم يرون عزة الإسلام تتعاظم يوماً بعد يومٍ، والمسلمين يزدادون منعةً وغنائمَ، وهم يخوضون ميادين الجهاد، ويحققون نصراً تلو نصرٍ على أعدائهم.
وبعد هذا البيان للحسرة في قلوب الذين كفروا يأتي التعقيب: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [آل عِمرَان: 156] من يشاءُ من عباده، وفي الأجل المضروب له، فلا مقدّم لما أخَّر، ولا مؤخّر لما قدَّم، ولا رادَّ لما قضى، ولا مناص مما حكم. فالله هو الذي يملك أسباب الموت والحياة، وهو وحده القادر على أن يميت الناس في السفر والحضر، وفي أي حالٍ أو زمانٍ أو مكانٍ، فلكلٍّ أجلٌ محدود، وموعدٌ مضروب سواء أكان الناس في بيوتهم وبين أهليهم، أو في ميادين الكفاح للرزق، أو في ساح الحرب دفاعاً عن العقيدة: إذ يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة.
وإذا كانت أعمال الناس لا تخفى، عادةً، على الناس، إلاَّ أنَّ كثيراً من تلك الأعمال قد يبقى طي الكتمان، سواء في العلاقات الشخصية، أو المجتمعية أو الدولية، ولا بدَّ أنْ يظهر، أو تظهر خفاياها، أو آثارها ولو بعد سنين عديدة؛ هذا بالنسبة للناس.. أما عند الله تعالى فكلُّ شيء مكشوف، وكل أمر معلوم لأنه سبحانه عالم الغيب والشهادة؛ فعندما يدرك الإنسان، ويشعر في قرارة نفسه أنَّ ربَّه أقرب إليه من حبل الوريد، فهو سميع لأقواله، بصير بأعماله وأفعاله، عليم بنواياه[*]، فإنَّ ذلك سيكون - ولا ريب - عاملاً قوياً لترغيبه في الطاعة، وترهيبه من المعصية. فإذا ما جاهد الإِنسان في سبيل الله، ذوداً عن حياض دينه؛ أو استشهد في سبيل هذا الدين، أو دفاعاً عن عرضه، وكرامته ووجوده؛ أو إذا ما راح يضرب في الأرض سعياً وراء الكسب الحلال، ومات في سفره، فإنَّ له في مثل تلك الحالات مغفرةً لذنوبه، ورحمةً من ربِّه. ذلك أنَّ الله تعالى لا يكل المؤمنين - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية، ولا إلى اعتبارات بشرية، ولكنه يكلهم إلى ما عنده من رحمة ومغفرة، ويعلق قلوبهم بطاعته طمعاً بعفوه ورضوانه. فطلب العفو، والمغفرة، والرحمة - والعمل لنوالها - خيرٌ مما يجمعون من الأموال، ويحوزون من الأمجاد، وخيرٌ مما تتعلق به القلوب من أعراض الحياة الدنيا، لأنَّ العاقبة الحسنى التي يجب أنْ تكون مدار اهتمام المؤمن، قبل أي شيء آخر، فوزه في الآخرة حيث النعيم المقيم..
5 - لا يستعظم المسلمون أية مصيبة قد أصابوا مثْلَيْها من أعدائهم.
يقول الله عزَّ وجلَّ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [آل عِمرَان: 165].
إنَّ في التربية الربّانية للمؤمنين حقائقَ لا ينبغي أنْ يفرّطوا بشيء منها، فإذا رأوا النعم تتدفق عليهم وفيرة، فذلك لتجاوبهم الصادق مع العقيدة، ولاستجابتهم المخلصة مع أوامر الله ونواهيه. وإن انصرفوا قليلاً أو كثيراً عن هذا التوجه، فلا بدَّ أنْ يروا انعكاسه عليهم مباشرة...
وفي الآية الكريمة تظهر هذه الحقيقة بوضوح، عندما يواجه العزيز الحكيم المؤمنين بحقيقة ما أصابهم يوم «أحد»، وبأنه من عند أنفسهم.. ذلك أنَّ مصيبة المسلمين يوم «أحد» كانت شهادة سبعين رجلاً منهم؛ بينما كانت مصيبة المشركين يوم «بدر» قتل سبعين رجلاً، وأسر سبعين آخرين، أيْ مثلَي المصيبة التي أصابت المسلمين.. ويوم «أحد» قال بعض المسلمين: كيف يحصل لنا هذا وفينا رسولُ الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي يتلقى الوحيَ من الله تعالى، ونحن نجاهد في سبيل مرضاته؟!.. فيوجِّه آيُ الذكر الحكيم النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لأن يقول لهم: إنما هو من عند أنفسكم، وليس من عند الله تعالى.. أما تلك الدهشة، وهم يتساءلون كيف يُهزمون فإنَّ السبب المباشَر والقريب، فقد كان في مخالفة الرماة لأوامر رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، التي كانت تفرض عليهم ملازمة أماكنهم، أياً يكن سير المعركة لصالح المسلمين أو ضدهم. ولكنهم أهملوا هذه الأوامر، واندفعوا وراء المغانم والمكاسب العاجلة، فالتفَّ من ورائهم الكفار، وأوقعوا بهم الهزيمة المادية، بعد أنْ كان النصر محققاً للمسلمين في بداية المعركة منذ الصباح.. إذاً فهاجس الكسب، وإغراء المغانم كانت مشاعر من الطمع الذي داهم نفوس الرماة في ساعة غفلة، فكانوا مسببين للمصيبة التي حلت بهم وبإخوانهم أجمعين.. وهذا ما عليهم أنْ يعلموه، أي أنه كان من عند أنفسهم، فلا يستغربون ما حلَّ بهم!. وقد وجَدَ المسلمون في تلك المصيبة الدرسَ والعظةَ البالغين، وهما من مقاصد التربية التي يريدها الله تعالى للمؤمنين، ولكنْ يبقى كلُّ شيء بيده سبحانه وتعالى، فإذا أرادَ أنْ ينصرَ المسلمين نَصَرَهم، وإذا شاء أنْ ينزل بهم الهزيمة هَزَمَهم، سواء في تلك المعركة أم في غيرها، وسواء في عملٍ أو آخر، حاضراً أو مستقبلاً، لأنَّ الأمور كلها بيد الله، ولا يملك المؤمنون، ولا الناس أجمعون، لأنفسهم شيئاً إلاَّ أنْ يشاء الله، لأنَّ أمره يجري وفق السنن التي أقام عليها الكون، والحياة، وأجرى بها الأحداث، فكان حقاً أنْ تمضيَ الأمور وفقاً لقضاء الله وقدره، لأنَّ الله على كل شيء قدير.
بل ومن الدروس[*] التي جاءت بها معركة «أُحُد»، أنه فقد من بين الغنائم التي حازها المسلمون قطيفة حمراء (دثار مُخمَل) فقال بعضهم: لعلَّ النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) استعملها لحاجة، أي وكأنه نوع من الاتهام في توزيع الغنيمة، فنزل قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [آل عِمرَان: 161]. ولكن آي الذكر الحكيم لم يدحض فقط تلك التهمة الشنيعة (أن يغلّ في الغنيمة) عن النبي محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وحده، بل وعن كل نبيٍّ، لأن الأنبياء معصومون عن الخيانة أو الخطأ.. بل وأتبع الذكر الحكيم بقاعدةٍ أساسٍ من قواعد العدل الإلهي، وذلك بأنّ من يتبع رضوان الله تعالى بطاعته ليس مثل من يرجع بسخط من الله لمعصيته. فقال تبارك وتعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *} [آل عِمرَان: 162]، بحيث يستحيل أن يكون مصير الطائع مثل مصير العاصي الذي مأواه جهنم وبئس المصير الذي سيلقاه..
6 - المسلمون الذين يخشون القتال كـما يخشون عذاب الله
يقول اللَّهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً *} [النِّسَاء: 77].
وهذا بيان لحال فريق من المسلمين في مرحلة ظهور الدعوة في مكة؛ فقد كانوا يبدون استعدادهم للقتال. فيقولون للـنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): لِمَ نبقى ساكنين يا رسول الله على هذا الأذى من المشركين، ولا نقابله بالمثل؟! فكان النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يقول لهم: «لم أؤمر بالقتال بعد» ، ثم يحضّهم على ما فيه تزكيةُ نفوسهم، وصلاحُ أحوالهم وذلك بأنْ يحافظوا على صلواتهم، وأنْ لا يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنْ لا يخالفوا أيَّ أمر يعطي المشركين حجةً ليزيدوا من أذى إخوانهم، حتى يتحقق أمر الله في هذا الدين.. فلما فرض القتال على المسلمين وهم في المدينة، إذا بالفريق من الذين كانوا يبدون الاستعداد للقتال في مكة، يكرهون المواجهة مع قريش، تماماً كما كرهوا الهجرة من ديارهم، وكما كرهوا إخراج النبيّ عنوةً من بيته، بعد أنْ تآمر المشركون على قتله، فأوحى الله تعالى إليه بالهجرة التي كانت خيراً على الإسلام والمسلمين.. يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ *} [الأنفَال: 5-6].. أمَّا المناسبة التي أبدى فيها أولئك المسلمون كراهيتهم للقتال، فقد كانت عندما خرج النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بحوالي ثلاثماية وثلاثة عشر رجلاً لملاقاة عير قريش وقد بلغهم أنَّ أبا سفيان، صخر بن حرب قد عاد بها من بلاد الشام، وهو في طريقه إلى مكة، فأرادوا أن يغنموها ليخففوا عنهم غائلة الفقر والجوع، التي أوقعهم بها المشركون في الهجرة، بعد أنْ خلّفوا وراءهم كل أموالهم وممتلكاتهم، وكل متاع يحتاجونه.. وتناهى إلى قريش نبأ المسلمين، فخرجت بكامل عديدها وعتادها للدفاع عن قافلتها التجارية، وفي الطريق جاءها الخبر بأنَّ أبا سفيان غيَّر وجهة سير العير إلى طريق الساحل، فنجت من الهجوم عليها.. فأراد غالبية المشركين الرجوع إلى مكة، دون مواجهة المسلمين، إلاَّ أنَّ قائدهم أبا جهل أبى إلاَّ المتابعة لقتال المسلمين واستئصالهم من الوجود، فتابعوا سيرهم حتى وصلوا محلة «بدر».. وهنا كان على النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) اتخـاذ أحد موقفين: إما العودة إلى المدينة، وذلك معناه الهروب من المواجهة، ودلالة على ضعف المسلمين، وبالتالي إغراء المشركين بمتابعة خروجهم لغـزو المدينة.. وإما مواجهة قريش، وإثبات قدرة المسلمين على القتال، على الرغم من كثرة المشركين، وتفوقهم بالسلاح.. فشاور أصحابه في الأمر، فوافقوه على القتال.. وكان لا بدَّ أنْ يبيّن الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) للمسلمين الوضع الذي هم عليه، وأنْ يحضّهم على القتال، وقد وعدهُمُ الله تعالى إحدى الحسنيين: إما الشهادةُ ودخولُ الجنة، وإمَّا النصرُ وعزُّ الإسلام، وهنا برز جدال ذلك الفريق الذي كره المواجهة لأنهم لم يستعدوا لها، يقول تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *} [الأنفَال: 7]. ويأتي البيان القرآني في «سورة النساء» ليكشف عن الحالة النفسية التي سيطر فيها الخوف على الفريق الذي كان يكره خوض القتال، فهم بين أمرين:
- إما عدم الامتثال لأمر الله تعالى، وعدم طاعة النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في قتال المشركين، وهذا فيه عذاب الله..
- وإما قتال المشركين، وهذا فيه عذاب القتل والموت..
ويبدو أنَّ الخوف الذي يلازم طبيعة البشر قد جعل هؤلاء يخشون قتال المشركين من قريش كخشية عذاب الله، أو أشد خشية من هذا العذاب لشدة ما داهمهم، في تلك الحالة من الضيق والهمّ جزعاً من الموت، حتى وصَلَ بهم الحال إلى أنْ يناجوا ربّهم، قائلين: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النِّسَاء: 77]؟! أو يتمنون على ربّهم الأماني، فيسألونه أنْ يؤجل عنهم الموت، ولو إلى حينٍ من الزمن، قائلين: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النِّسَاء: 77]!.. وهذا يعني أنهم كانوا يدركون بأنَّ الموت حق على رقاب العباد، وأنَّ كل بني آدم ميتون، سواء في القتال أو غيره، ولكنَّ مفاجأتهم لخوض قتالٍ مع أناسٍ أكثر منهم عدداً، وفي أول تجربة لم يخوضوا مثلها سابقاً، قد جعلهم يشعرون بالتخاذل عن القتال.. ولعلَّ أهم من ذلك كله، ما مردُّهُ إلى تعلق الإنسان بمتاع الحياة الدنيا، وما فيها من الأطايب واللذائذ والمنافع التي تشدُّه إليها وتُغريه.. ولذلك يوجّه الله تعالى نبيَّه محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنْ يقول لهم: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النِّسَاء: 77] مهما بدا في أعينكم كبيراً، وسوف يؤول إلى الفناء مثلـما أنكم فانون، والآخرة في الجنة خير لمن اتقى، وعمل بأمر ربّه وطاعته.. وأنتم يا معشر المؤمنين سوف لا تُبخسون حقوقكم يوم الحساب، ولا تُظلمون ولو بمقدار فتيل (أي ولو بقدر شق النواة، وقد سمي فتيلاً لأنه كالخيط المفتول) فهل ترغبون عن أجر الآخرة العظيم إلى متاع الدنيا القليل؟ بل ويوجه الوحيُ النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لأن يلفت أنظارهم إلى أنَّ الموت يمكن أن يدرك الإنسان ليس في القتال حتماً، بل في أي حين، وفي أي مكان وجد، فلا يخشون القتال خوف الموت، وذلك هو قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النِّسَاء: 78].
إذاً فالعظة المؤثرة التي تتوخاها الآية الكريمة في «سورة النساء» هي: تصوير للنفس المؤمنة في تقلّبها بين الإِيمان، والخوف من المكروه. فقد يكون أشدُّ الناس حماسةً واندفاعاً وتهوراً - كما يظهرون في الأحوال العادية - أشدَّهم جزعاً وانهياراً وهزيمةً - عندما يجدُّ الجدّ ويحين القتال - فالحماسة والاندفاع الذين تظهر فيهما مبالغة، قد يكونان عن عدم التقدير الفعليّ والعقلانيّ للمواقف والتكاليف، وليس عن شجاعة وإصرار على القتال أو غيره، وقد يكون الباعث عليهما قلة الاحتمال لوطأة الضيق والأذى، مما يدفع الإنسان إلى طلب الحركة والانتصار بأي شكل، دونما اعتبارٍ لتكاليف الحركة والانتصار. حتى إذا واجهته هذه التكاليف، وكانت أثقل مما قدَّر، وأشقَّ مما تصور، كان أشدّ الناس فزعاً وجزعاً، وأكثرهم نكولاً وانهياراً.. ويَثبُتُ فقط، أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى، وهم يعدّون للأمر عدّته، لمعرفتهم مقدار ما يكلفهم النصر، ومقدار ما تحتمل نفوسهم في سبيله. وهذا في الوقت الذي كان المندفعون والمتهورون يعتبرونهم ضعافاً، ولا يعجبهم تمهلهم، ووزنهم للأمور. ولكن في المعركة يتبين أيُّ الفريقين كان أبعد نظراً، وأشدّ تحملاً، وأكثر إقداماً في سبيل تحقيق النصر.
7 - من قتل نفساً ظلماً فـكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فـكأنما أحيا الناس جميعاً.
وفي معرض التربية للمسلمين، يخبر القرآن الحكيم عن الاختلاف في العقيدة والرأي والتصرف بين ابَنْي آدم، كما يظهر في هذا التوجّه، الإيمانيّ على لسانِ هابيلَ لأخيه قابيل، فيقول الله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ *فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ *فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِي سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} [المَائدة: 28-32].
إنها حكاية أول جريمةِ قتلٍ وقعت على وجه الأرض، وارتكبها قابيلُ بن آدم (عليه السّلام) بحق أخيه هابيلَ، لأنَّ الله سبحانه تقبَّل قربانَ هابيل المؤمن، ولم يتقبَّل قربان قابيل الجاحد.
ويبيِّن لنا السياق هنا ذلك الحوار الذي دار بين الأخوين، وقد عزم قابيل على قتل أخيه، فيقول له هابيل: لئن مدَدْتَ إليَّ يدك لتقتلني ظلماً وعدواناً، من غير أنْ أرتكب خطأً بحقك، ومن غير أنْ افتريَ على الله كذباً، أو أقترف معصية بحقِّه تعالى، أو بحق والديَّ، فلن أمدَّ يديَ إليك لأقتلك، ولن أبادئك بظلمٍ، إني أخاف الله ربَّ العالمين. إني أريد أنْ ترجعَ إلى ربّك بإثم قتلي، وبإثمك ظلماً لنفسك، وظلماً لي، بهذا تحمله على عاتقك، فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين.
وبذلك صوَّر هابيل لأخيه إشفاقه من جريمة القتل، ليثنيَهُ عما تراوده به نفسه، وليحذّره من هذا الذي يدفعه إليه هواه، خصوصاً تجاه أخٍ، مسالمٍ، وديعٍ وتقيٍّ. فقد عرض له وزر جريمة القتل، لينقذه منها، ثم زيَّن له الخلاص من الإِثم المضاعف بالخوف من الله تعالى، وبلغ من هذا وذاك أقصى ما يبلغهُ إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان. ولكنّ أخاه قابيل، ذلك النموذج الشرير، من الجنس البشريّ، لم يأبَهْ للنصح والتحذير، فأصرَّ قابيل على ارتكاب جريمته، وزيَّنت له نفسه قتل أخيه، فقتله وأصبح من الخاسرين في الدارين، لأنه خسر بذلك الدنيا والآخرة وذهب عنه خيرهما، وذلك هو الخسران المبين.
وبعد أنْ قتل قابيل أخاه لم يدرِ ما يصنع به، لأنَّ دافع القتل لم يكن مركوزاً في جبلَّته، بل سوَّلت له نفسه الأمَّارة بالسوء هذا القتل فابتدعه، مما اضطره إلى حمله على ظهره، والدوران به من مكانٍ إلى مكان، حتى صار جسد أخيه جيفةً نتنةً، شكلاً ورائحةً - وهي السوأة - فبعث الله غراباً أمامه، راح ينبش التراب بمنقاره وبرجليه حتى حفر حفرة، جرَّ إليها غراباً ميتاً، ثم أهال التراب عليه حتى واراه، وذلك ليُريَ قابيلَ كيف يستر جيفة أخيه، التي حملها، ولا يعرف ما يفعل بها!.. فقال عندها قابيل: يا ويلتى أعجزت أنْ أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي؟ فأصبح من النادمين. وربما لم يكن هذا الندم منه على الوجه الذي تكون فيه التوبة إلى الله تعالى، لأنَّ جريمته كانت مع سبق الإِصرار والعمد، بل كان ندماً على التعب أو القلق الذي أصابه حين كان حائراً، متنقِّلاً بجثمان أخيه بعد أنْ قتله، حتى بعثَ اللَّهُ تعالى ذلك الغرابَ، وعلَّمهُ طريقة دفن الميت.
وقد قال رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلْماً إلاَّ كانَ على ابْنِ آدَمَ الأول كِفْلٌ مِنْ دَمِها، لأنه أوَّلَ مَنْ سَنَّ القَتْل»[*] . من أجل ذلك، أي وبسبب تلك الجريمة البشعة، وكان أول من ارتكبها قابيل، وتحريماً للقتل على العباد، لفداحة جرم القتل وحرمته، فقد حكم اللَّهُ تعالى على بني إسرائيل - لعلمه سبحانه بأنهم أكثر الناس حباً للقتل، بل وأكثرهم تسبُّباً، أو قتلاً مباشراً، للآخرين، ظلماً وعدواناً - بأنه من قتل نفساً بغير استحقاق للقتل - أي ظلماً واعتداءً عليها - أو من قتل شخصاً بغير فسادٍ أتاه في الأرض من كفرٍ، أو زنى، أو خيانة الوطن أو الأمة وغيرها من القبائح والشرور التي تفسد النفوس، وتزري بالناس.. «فـكأنما قتل الناس جميعاً»، أي فـكأنما عاقبته مثل عاقبة من قتل الناس جميعاً، ومن أحيا نفساً محترمة، فخلَّصها بعد أنْ كانت على وشك الموت، أو ساعد نفساً على أنْ تتحرر من الكفر أو الشرك، أو ردَّها عن نشر الفساد في الأرض، «فكأنما أحيا الناس جميعاً» من القتل، أو فكأَنَّما حررهم جميعاً من تلك الموبقات التي كان يمكن أن يوقعهم بها الفاسدون.. أي فكأنما جزاؤه مثل جزاء من خلّص الناس جميعاً من القتل أو الفساد.. من أجل ذلك فإن من يقتل إنساناً ظلماً وعدواناً، فإنَّ الناس جميعاً يصيرون وكأنهم خصماء للقاتل، لأنهم يشعرون وكأنما القاتل لا يتورع عن أنْ يقتل أياً منهم، إذا واتته فرصته لذلك.. وبالمقابل فإنَّ من يستنقذ إنساناً من غرق، أو حريق أو مرض، أو أية شدة أخرى قاتلة، أو من يهدي إنساناً من ضلال أو كفر، أو من يصلح فاسداً أو فاسقاً أو فاجراً فيبعده عن زلل أو معصية.. فإنَّ له، في كل من تلك الحالات، من الأجر ما يوازي أجره لو أنقذ الناس جميعاً، أو لو أصلح الناس جميعاً؛ لأنه بإحياء النفس المحترمة، أو بإصلاح النفس السيئة يكون وكأنه قد أسدى معروفاً لهم جميعاً. وهو ما يهدي إليه قول رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنةً فَلَهُ أجْرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِها إلى يومِ القِيَامة، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَلَهُ وِزْرُها وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِها إلى يومِ القِيَامةَ»[*] .
والقتل في كل حال، ليس القضاءُ على حياةٍ خلقها اللَّهُ تعالى وحسب، بل وهتك لحرمتها، ولا فرق بين الواحد والجمع في ذلك.. وفي هذا تعظيم لشأن الأنفس، ووجوب امتناع الناس عن الإساءة لها، والرغبة في المحاماة عن حرمتها، لأن المتعرِّض لقتل نفسٍ واحدةٍ، إذا تصور أنه بهذا القتل، كأنما قتل الناس جميعاً، عظُمَ عليه ذلك فثبَّطَهُ، وكذلك من أراد إحياءها عظم في عينه ذلك فشجَّعَهُ؛ وعلى كل حال فإنَّ قاتل النفس ظلماً جزاؤه جهنم، فـكأنَّما قتل الناس جميعاً.
قال رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «إذا تَواجَهَ المسلمان بسَيْفَيْهِما فالقاتُل والمقتولُ في النار. قالوا: يا رسولَ الله هذا القاتِلُ، فما بالُ المَقْتُول؟ قالَ: إنَّه كانَ حَريصاً على قَتْلِ صاحِبهِ» [*]..
من هنا يتبيّن لنا حكم الله على بني إسرائيل الذين جاءتهم رسلُ الله بالمعجزات الكثيرة، ولكنهم كانوا كلما جاءتهم معجزة ألحُّوا في طلب المزيد، ولجّوا في الكفر، وتمادوا في القتل، وفي التعدي على حقوق الناس، فكانت فعالهم تجاوزاً لحدود الله تعالى، وإسرافاً في الظلم، ونشر الفساد في الأرض..
8 - العقاب يكون بـمثله، والصبر خيرٌ للصابرين
يقول اللَّهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ *} [النّحل: 126].
إنه التوجيه من ربّ العالمين لعباده في كيفية إنزال العقاب بالمعتدين. فإن أراد أحَدٌ معاقبة الذي اعتدى عليه، فليعاقبه بـمثل ما عوقب به ولا يزيد عليه: النفس بالنفس، وفي القصاص حياة يا أولي الألباب. وهذا العقاب لا يكون من المعتدى عليه مباشرةً، بل يرفع أمره للحاكم الذي يقضي بالعدل، وفقاً لما أنزل الله تعالى، تطبيقاً لقاعدة المماثلة القرآنية في العقاب.
وقيل إنَّ هذه الآية نزلت بعد معركة «أحد».. ذلك أنَّ المشركين لما مثَّلوا بقتلى المسلمين، ومنهم حمزة بن عبد المطلب - عم النبيّ، وأسد الوغى في سبيل الله - حيث شقَّت هندُ بنتُ عتبة بطنه، وأخذت كبده ولاكتها، ثم جدعت أنفه وأذنه، جاشَ الغضب في نفوس المسلمين فقالوا: لئن أمكننا اللَّهُ تعالى منهم لَنُمثِّلَنَّ بالأحياء منهم قبل الأموات، فنزلت الآية المباركة تنهى عن التمثيل، وأن يكون عقاب القتل بالقتل فقط..
ثم إن الآية الكريمة هي حكم عام في كل ظلم، أو اعتداء، أو غصبٍ أو نحوه. فالمعتدي، أو الظالم، أو الغاصب إنما يجازى فقط بـمثل فعله.. ولكنَّ ترك القصاص أو العقاب، والعفو مع المقدرة فذلك عمل الصابرين الذين يصبرون على ما أصابهم من ألم ومرارة. وفي هذا العفو مع الصبر على البلاء، خير للصابرين لأنه ينيلهم جزيل الثواب، بسبب ما يحتاجه الصبر من مقاومةٍ للانفعال، وضبط لهيجان الغضب، وهو ما يستدعي جهوداً نفسية تكون غالباً مضنية، فلا يمكن احتمالها لولا نعمة الصبر على الإنسان.
إذاً فالقاعدة هي القصاص بالمثل. ولكنَّ القرآن الكريم يدعو إلى العفو كلما كان الإنسان قادراً على هذا العفو. كما يدعو إلى الصبر على البلاء والشدة، ولا سيما في حالة استعداد الجماعة المسلمة، أو ترقبها لدفع الشر ووقف العدوان، فيكون الصبر - في مثل هذه الحالات - أعمقَ أثراً، وأكثرَ فائدةً للدعوة.. فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر الصبر، أو إذا كانت مسيرتها تستدعي العفو، فكان لزاماً عليهم الاحتمالُ من أجل ذلك، أمَّا إذا كان من شأن العفو والصبر الاستهانة بالدعوة إلى الله، أو التفريط بأحكامها، فالقاعدة بالدفع - أي القصاص بالمثل - هي الأَولى. وفي جميع الحالات فإنَّ الصبر على الابتلاء لهو خير للصابرين.
وفي حالة من عاقب بمثل ماعوقب به، ثم بُغي عليه من جديد، فإنَّ حكمه أنْ ينال نصرَ الله، كما يبيّنه لنا قوله الكريم: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ *} [الحَجّ: 60].
أي أنَّ ذلك الأمر الذي بيّناه لك يا «محمد» مِنْ أنَّ الذي اعتُديَ عليه من المؤمنين، ظلماً، وعاقب وجازى الظالم بـمثل ما ظلمه، أو قاتل المشركين كما قاتلوه، ثم بُغيَ عليه بزيادة الظلم والعدوان، فإنَّ الله لينصُرَنَّهُ على من بغى عليه.. وهذا ما حصل مع المسلمين الذين أخرجوا من ديارهم ظلماً وبغياً عليهم لا لشـيء، إلاَّ لأنهم آمنوا بـالله ورسوله.. ولكن إذا كان الله سبحانَهُ قد حرَّم الظلم والبغي على عباده، إلاَّ أنه تعالى أوجب عليهم حق الدفاع عن النفس، وصون الحرمات والمقدسات، فإنْ مارس المؤمنون هذه الحقوق - حتى القتال في الشهر الحرام - دفاعاً عن دعوتهم وأنفسهم، فإنه تعالى عفوٌّ عن المؤمنين، غفور لهم على قتالهم..
ولا يقف عفو الله العزيز الحكيم عند هذه الحدود، بل ويشمل التائبين المنيبين، الذين فارقوا الشرك، ودخلوا في الإِسلام، فأصلحوا أنفسهم، وأمورهم في هذه الحياة الدنيا، ولا سيما مع الذين كانوا قد بغَوْا عليهم وظلموهم، فالإِسلام يَجُبُّ ما قبله.. وما يجب الانتباه إليه أنَّ نصر الله لمن بُغي عليه، شرطه أنْ يكون العقاب قصاصاً على اعتداء، لا عدواناً ولا بطراً، وأن لا يتجاوز العقاب ما وقع من العدوان، فيكون بلا زيادة أو مغالاة..
وإذا كان الله تعالى هو العفوُّ الغفور، فما جزاء العبد الذي يعفو عمن ظلمه؟ إن الله تعالى الحكم العادل لا يترك شاردة ولا واردة في قرآنه المجيد، وقد جعل سبحانه أجراً عظيماً للعافين بالمعروف، فقال تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *} [الشّورى: 40].
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشّورى: 40] يعني القصاص في الجراحات والدماء. وقد سمَّى سبحانه الثانية سيئة لأنها في مقابلة الأولى كما قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البَقَرَة: 194]؛ فالسيئة هي المكروه، ومن نال غيره بمكروه، فعقابه بمكروه مثله..
ثم ذكر سبحانه العفو، فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشّورى: 40] أي فمن عفا عمَّن له عنده حق، وأصلح الأمر فيما بينه وبين المعفوِّ عنه، فثوابه على الله، والله سبحانه يأجره، لا محالة، وهو تعالى لا يحب الظالمين، البادئين بالظلم فيرتب عليهم عقابه. والله اللطيف بعباده، يحبُّ من عبده المؤمن أن يملأ قلبه باللطف، والرحمة، ولذلك فإنه يحثه على العفو، لا ترغيباً للمظلوم في العفو عن الظالم ولكن ليُنعم على المظلوم من خلال عفوه عن الظالم، بجزيل الثواب، ولكي يحضّه على حب الإحسان والفضل. وقد روي عن النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنه قال: «إذا كانَ يومُ القيامةِ نَادَى مُنادٍ: مَنْ كانَ أجرُهُ على الله فليُدْخُلِ الجنَّة؛ فَيُقالُ مَنْ ذا الذي أجرُهُ على الله؟ فيُقالُ: العافونَ عَنِ النَّاس، فيدخلون الجنةَ بغيرِ حِساب» [*] فهذا هو ثواب من أجره على الله تعالى الذي ورد في الآية الكريمة، وبيّنَهُ رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بحديثه الشريف، ليعلمَ الناسُ، والعافون منهم خاصة، مقدار ذلك الأجر، إذ يدخلون الجنة بغير حساب، فهل أعظم من ذلك أجراً وثواباً ورحمة؟
9 - الخوف من القتال يجعل عيون المنافقين تدور كـالذي يُغشى عليه من الموت
يقول الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا} [الأحزَاب: 18-20].
يبدأ هذا النص بتقرير علم الله بما في نفوس المعوِّقين، الذين يسعون بالتخذيل في صفوف الجماعة المسلمة، وهم يدعون إخوانهم الذين هم مثلهم من أهل النفاق إلى القعود في منازلهم، وعدم الخروج إلى القتال، فيقولون لهم: هلمُّوا إلينا ولا تحاربوا، وخلُّوا «محمداً» وأتباعه إلى سبيلهم، فإنّا نخاف عليكم الهلاك!..
{وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً *} [الأحزَاب: 18] أي لا يشهدون الجهاد إلاَّ لِماماً.. وإنْ أتوهُ، أحياناً، فإنّما يأتونه خوفاً على أنفسهم، أو رياءً وطلباً للغنيمة، فهم مكشوفون لعلم الله، ومكرهم غير خافٍ عليه تعالى.
ثم يأتي البيان لإبراز سمات مثل هؤلاء الناس بقوله عزَّ وجلَّ: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزَاب: 19] بخلاء، قلّما يعينونكم بمال أو بمساعدة، بل وفي نفوسهم كزازة بالتعاطف والمشاعر معكم، فإذا جاء القتال، وحلَّ معه الخوف في قلوبهم، رأيتهم ينظرون إليك - يا محمَّدُ - وأعينهم تدور كـالذي تدور عيناه إذا يُغشى عليه من سكرات الموت. وهي حالة مكرورة يعرفها الأطباء تمام المعرفة عند الذين يشارفون على الموت، إذ تدور أعينهم في محاجرها، بحركة غير عادية، وغير مألوفة، يستدلون بها على أن الموتَ حالّ بهم لا محالة. أما عند المنافقين فهي دليل على شدة الخوف من الموت في القتال.. ولكن هذا الخوف، سرعان ما يتبدّد من نفوس أولئك المنافقين، بعد أنْ يتبدَّل الوضع، ويجيء الأمن: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزَاب: 19] إذ ترونهم، حينئذٍ، خرجوا من القعود والاختباء، وقد ارتفعت أصواتهم بعد الخفوت، وانتفخت أوداجهم بعد الحشرجة، وبدَّلوا كل ارتعاش بالحركة، مدّعين - بغير حياءٍ - البلاءَ في القتال، والشجاعة والاستبسال في المعركة.. وكل ذلك ما يثير السخرية منهم فعلاً!.. ثم لا يقف بهم هذا الغرور الفارغ عند حدِّ الاعتداد بأنفسهم، والتشوُّف على المؤمنين الصادقين، بل يذهبون إلى إيذائهم بالكلام، ومجادلتهم بألسنة سليطة ذربة.. فـمثل تلك التصرفات من المنافقين لكونهم أشحةً على المسلمين بالخير، بخلاء في أيِّ بذلٍ أو عطاءٍ، بل ويشاقُّونهم عند قسمة الغنائم.. {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزَاب: 19] حقيقة، وإنما كان إظهارهم للإِيمان نفاقاً، فأحبط الله أعمالهم، لأنها لم تكن أعمالاً يستحقون عليها الثواب، ولم يقصدوا بها وجه الله تعالى. وكان ذلك الإِحباط على الله يسيراً، هيّناً.
أما ما يكونون عليه - كـدأبهم في كل مرة تحزب الشدة على المؤمنين - فهم كما وصفهم اللَّهُ سبحانه وتعالى بقوله العزيز {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً *} [الأحزَاب: 20]، وهذا ما ظهرت عليه حالُ المنافقين في غزوة الأحزاب، إذ ظلَّ الخوف يأخذ بمجامع قلوبهم، على الرغم من تفرّق المشركين شتتاً، بما سلَّط الله تعالى عليهم من الرياح فهزمتهم.. فقد بقي الوهم يسيطر على المنافقين وهم يظنون أنَّ الأحزابَ لم يتركوا حصار المدينة، ولم يذهبوا بعد إلى مكة.. أما أمانيهم التي يكشف عنها النصُّ القرآني، فتكمن في رغبتهم، بالاَّ تأتي الأحزاب لغزو المدينة، «وإنْ يأتِ» الأحزابُ كرةً أخرى يودون، لو أنهم كانوا في البادية، يلتجئون إلى مضارب الأعراب، بعيدين عن أجواء القتال، حتى وهم هنالك، فإنهم لا ينفكّون عن القلق، والسؤال عن أخباركم، وماذا حلَّ بكم من هزيمة أو نصر، ليرسموا على أساسه ماذا يدَّعون، وماذا يقولون!.. ولو كانوا بينكم، فيما لو أتى الأحزاب من جديد،ما قاتلوا إلاَّ قدراً يسيراً، دفاعاً عن أنفسهم، لا حباً بنصر دين الله!.. ولذلك كان قتالهم، في كلِّ مرةٍ يشاركون في قتال، رياءً، وخوفاً من التعيير ليس إلاَّ .. وأولئك المنافقون الذين كانوا يعيشون مع الجماعة الإِسلامية الناشئة، وينخرطون بين صفوفها في المدينة المنوَّرة، إنما يشكلون المثال المعبّر عن النفاق البشري، الذي نجده في كل جيل، وكل قبيل، وهو يتكرر مع أناسٍ بنفس الملامح من الخوف والجبن، وذات المواصفات من التلوّن، والخداع!..
الفقرة السابعة - ما يصيب المؤمنين ألمٌ إلاَّ وأصابَ أعداءَهُم ألمٌ مثلُهُ
يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} [آل عِمرَان: 139-140].
ما أعظم هذه المواساة من العزيز الحكيم للمؤمنين!. إنه سبحانه ينظر إليهم بعين الرأفة والرحمة على ما يصيبهم من جهدٍ في قتال الكفار، ولكن ينهاهم عن الوهن واليأس، لأنَّ النصر سيكون في النهاية لهم، وهو وعدٌ مؤكد: {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الرُّوم: 6].
{وَلاَ تَهِنُوا} [آل عِمرَان: 139] فهو أمرٌ منه سبحانه وتعالى بألاَّ تضعفوا عن قتال الكفار.. {وَلاَ تَحْزَنُوا} [آل عِمرَان: 139] على ما أصابكم أو ما قد يصيبكم وأنتم تجاهدون وتقاتلون في سبيل الله؛ فإنْ لاقيتم الشدائد، وويلات القتال، فأنتم دائماً {الأَعْلَوْنَ} [آل عِمرَان: 139]، أي أنتم المنتصرون، الظافرون لأنكم على الحق، وهم على الباطل. وستكون لكم الغلبة بإذن الله، إنْ كنتم مصدّقين وعْدَ الله لكم بالنصر والثواب..
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عِمرَان: 140] أي إنْ يصبكم جراحٌ، أو ألمٌ أو نصَبٌ،فقد أصاب القومَ المشركين قرح مثلُهُ... وقيل إنَّ هذه المواساة قد نزلت من ربّ العالمين على ما أصاب المسلمين في يوم «أحد»، عن ابن عباس قال: «لما كان يوم «أحد» صعد أبو سفيان الجبلَ يريد التباهيَ على المسلمين، فقال رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «اللَّهم لا يَعْلُنَّ علينا، اللَّهم لا قُوَّةَ لنا إلاَّ بك» .. فنادى أبو سفيان بملء صوته: يوماً بيوم، وإنَّ الأيام دول، والحرب سجال.. فقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) : «أجيبوه.. فقولوا: لا سَوَاءَ، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النَّار» . فقال أبو سفيان: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «قولوا: الله مولاَنا ولا مَوْلَى لكم» . فقال أبو سفيان: أعلُ هُبَل. فقال النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «الله تَعَالى أَعْلَى وأجلُّ»[*] ... وانصرف أبو سفيان.. ولكنَّ الأمر لم يتوقف عند «أحد» بل دارت الأيام وتمَّ فتحُ مكة، ثمَّ تحقق للمسلمين النصرُ المؤزر في كل أنحاء شبه الجزيرة، ليكون ذلك النصر مقدمةً لانتشار الإِسلام في مشارق الأرض ومغاربها..
{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عِمرَان: 140] وذلك بتصريف الله تعالى للأيام بين المسلمين والكافرين، بتخفيف المحنة على المسلمين أحياناً، وتشديدها عليهم أحياناً أخرى، وليس بنصرة الكفار عليهم، لأنّ الله تعالى لا ينصر الكافرين على المسلمين، إذ إنَّ النصرة تدل على المحبة، والله تعالى لا يحب الكافرين، ولا الظالمين أو المعتدين، فلا ينصر هؤلاء على المؤمنين الذين يحبون الله ورسولَه، ويحبهم الله ورسولُهُ؛ فـالله سبحانه وتعالى وليُّ الذين آمنوا، أما الذين كفروا، ومن دار في فلكهم، فمولاهم الشيطان.. ثم إنَّ القاعدة في الإسلام بـ«أنَّ النصر من عند الله»، هي قاعدة ركنيّة، لأنَّ الله تعالى هو وحده الذي يملك أسباب القوة والسلطان، وأسباب الغلبة والنصر. وهو سبحانه دائماً في جانب من يجاهد لإِعلاء كلمته وجعلها هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.. ولكنَّ أمره قضى بأن تكون أيام الدنيا متقلبة، ومتداولة بين الناس في النصر والهزيمة، وفي القوة والضعف، وذلك كي لا يطمئن إليها المؤمن دائماً، ولتقلَّ رغبته فيها وحرصه عليها، إذ يهون شأنها وعَرَضُها في نظره، فينصرف إلى مرضاة الله تعالى ليفوز بنعيم الآخرة الذي يعلو مقاماً، أكثر بكثير عمَّا كان عليه حاله في الدنيا..
وإنَّ في مداولة الأيام بين الناس، ما يجعل الدّولة حيناً للمؤمنين، وحيناً عليهم، ليدخل الناس في الإِيمان على الوجه الذي يدعوه هذا الإِيمان، لا على أساس النفع والفائدة، لأنه لو كانت الدولة أبداً للمؤمنين، لكان الناس يدخلون في الإِيمان على سبيل اليُمْنِ والفأل والمنفعة، وبذلك لا يتحقق الدافع الإِيمانيّ الصحيح.. أما إذا وجد هذا الدافع في وقت الشدة، كما هو في وقت الرخاء، فذلك هو الإِيمان الحق الذي يعلي شأن المؤمن، ويجعله عند ربّه من المقرَّبين..
وهذا مع الإشارة بأنَّ كل موضع حضره النبيُّ الأعظم لم يخلُ من ظفرٍ، إما من ابتداء الأمر، وإما في نهايته، ليتأكد للمؤمنين على مدار الزمان أنَّ الإخلاص لله في الجهاد، والذود عن حياض الدين، إنما نتيجته المحتومة تحقيق وعد الله بالنصر، وهو الوعدُ الحقّ الذي لا تغيّره الأزمان..
ثم إنَّ في مداولة الأيام بين الناس سنّةً لله تعالى في خلقه البشري، وهي أنَّ الدولة تكون لهؤلاء أو لهؤلاء من الناس وفقاً للنوايا والأعمال. فإنْ صفت النوايا، وطَهُرَتِ القلوب، صلُحَتِ الأعمالُ وارتفعتِ الأفعالُ، أمَّا إذا انطوت السرائر على المخادعة وطلب المنافع الذاتية، دون الإيمان الصادق بعقيدة التوحيد، والتطلع إلى تأمين مصالح الجماعة، فإن الجهود تتفرّق، والإِرادات تتبعثر، وتهزم الجماعة لتحلَّ في الدولة جماعةٌ غيرها..
يضاف إلى ذلك، أنَّ في مداولة الأيام أمراً أراده اللَّهُ تعالى من عباده وقد بيَّنه بقوله الكريم: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عِمرَان: 140]، وليعلم الله المؤمنين من الكافرين - فاستغنى بذكر أحدهما (المؤمنين) عن الآخر أي عن ذكر الكافرين - وليعلمهم الله بما يظهر من صبرهم على الشدة والبلاء، وبما يتفانون فيه إبّانَ الجهاد في سبيله عزَّ وعلا،وهم على يقين بأنَّ ما يصيبهم من خيرٍ إنما هو بإذن الله، وما يصيبهم من كربٍ إنَّما هو بعلم الله، وعِلْمُ الله تعالى بالمؤمنين - كما يبيّنه قوله الكريم: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عِمرَان: 140]، لا يعني إنه لم يكن سبحانه عالماً بهم، فهو يعلمهم قبل إظهار إيمانهم وبعده.. واللَّهُ تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، هو الذي خلق الإنسان، ويعلم جِبِلَّةَ وطبعَ كل فرد بشريّ، وما تنطوي عليه نفسه، فكان علمه كائناً بالمؤمن والكافر قبل أنْ يظهرا للناس بالأقوال والأفعال والأعمال، فإذا ظهر المؤمن على حقيقته، وظهر الكافر على حقيقته، أمكن للناس أن يميزوا بينهما، وأنْ يدلّوا على المؤمن بإيمانه، وعلى الكافر بكفره..
وإذا كان اللَّهُ تعالى يعلم المؤمنين، ويعلم الكافرين، في طبائعهم وقلوبهم، وفي أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم، فإنَّ في مداولة الأيام بين الناس - جميعاً - حكمةً أخرى، وهي أنْ يتَّخذ من المؤمنين شهداء على الآخرين كلما استدعت أيام المداولة الشهادة والتضحية في سبيل الله؛ ففي كل حين يبقى الحق متصارعاً مع الباطل، يكون المؤمنون هم أنصار الحق، والكافرون والمنافقون - وأمثالهم - هم أنصار الباطل. وتتقلّب الأيام بين هؤلاء وهؤلاء، وتنشب النزاعات، وقد تصل إلى مستوى القتال والحروب، ويسقط القتلى من المؤمنين، ولكنَّ هؤلاء ليسوا أمواتاً بالمعنى المتداول بين الناس، بل إنَّ قتلهم في سبيل الله هو البينّة على عباده، ليتخذ سبحانه منهم شهداء على الظالمين والمجرمين، سواء في تلك المعارك القتالية، أم في تلك المعركة الدائمة، الدائرة ما بين الحق والباطل. وشهادتهم تكون على ما عاينوا من طاعة أو عصيان، نظراً لما لهم عند ربّهم تبارك وتعالى من مرتبة عالية، ومقام رفيع على غيرهم من الناس. فالشهداء الصرعى في القتال من أجل نُصرة دين الله، والشهداء للحقِّ في وجه الظالمين والجائرين، هم الذين يبذلون عادة المهج والأنفس، بل وكلَّ غالٍ ونفيسٍ ابتغاء مرضاة الله، وهي غاية آمال المؤمنين، فحقيق على الله عزَّ وجلَّ أنْ يختارهم ويكرمهم على غيرهم بالشهادة قتلاً في الدنيا، وبالإشهاد في الآخرة على المجرمين والظالمين، يوم يقف الناس للحساب بين يدي ربّ العالمين.
وفي النتيجة {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *} [آل عِمرَان: 57] على ظلمهم، أو كفرهم، أو فسادهم، أو عصيانهم.. ففي فاتحة كتاب الله التي يرددها المؤمنون في صلواتهم، وفـي كل مناسـبة تعتمر فيهـا قلوبهم بالإيمان والتقوى، يكون دعاؤهم إلى ربّهم الكريم أنْ يهديهم «الصراط المستقيم»، كما يبيّنه قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفَاتِحَة: 6-7]؛ وهؤلاء المغضوب عليهم، والضَّالُّون كانوا من الذين لا يحبهم الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. فإذا رأينا للظالمين، غلبةً أو ظهوراً في تـداول الأيام بين الناس، فذلك يكون استدراجاً لهم، لا تأييداً ولا محبة من الله تعالى، لأنَّ العاقبـة الحسنة للمؤمنين المتقين، فإن لم تكن في هذه الحياة الفانية، فهي لهم في الحياة الآخرة، لأنه في ميزان العدل الإلهيّ: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ *} [الحَشر: 20].
وهكذا فإنَّ القرآن الكريم يردُّ المسلمين هنا إلى سنن الله التي تتحرك بها الأمور في الأرض؛ فأمور الناس جارية لا تتخلف، ومقدَّرةٌ لا تمضي جزافاً، وفي خلال ذلك تجري الأحداث، وتظهر الوقائع، وتستبين الغايات، فإذا استشرف المؤمنون خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، وتقيدوا بالسنن التي تتحرك فيها الأحداث، وأخذوا بأسباب النصر الذي يريدونه، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، حازوا فعلاً النصر والتمكين، لأنهم يكونون في الحقيقة قد ساروا على طاعة الله وطاعة رسوله، وعملوا على إعلاء كلمة الله.
ومن السنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه الأبصار إليها هي عاقبة المكذبين على مدى التاريخ. فمن مداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر لدى المؤمنين على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين، لا بد وأنْ يكون من نتائج ذلك كلِّه محقُ المكذبين، قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *} [آل عِمرَان: 137].، حيث كان آخر أمرهم إلى الهلاك؛ وهو الهلاك عينه الذي يحيط بالظالمين، قوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ *} [يُونس: 39].
ومن استعراض تلك السنن التي تحفل بها النصوص في الآيتين 139 و140 من سورة «آل عمران» يتبين بوضوح كيف أنَّ هذه النصوص تعبق بأريج الحق، وهي تشجع المؤمنين على الاحتمال في الشدة، والمواساة في تحمُّل القرح، الذي لم يصب المؤمنين وحدهم، وإنما أصاب أعداءهم كذلك، وهم - على كلِّ حالٍ - أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً، وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً، والعاقبة الحسنة ستكون حتماً لهم بإذن الله والدائرة ستدور بإذن الله على الظالمين لأية فئة أو طائفة انتسبوا، أو لأي مبدأ أو عقيدة انتموا.
الفقرة الثامنة - اليهود في عداوتهم للإسلام
1 - بئس مثلُ القوم من اليهود، الذين كذَّبوا بآيات الله
يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [الجُمُعَة: 5].
من خصائص التشبيه القرآنيّ دقته في انتقاء التعابير لإِعطاء صورة جلية، واضحة وأخَّاذة عن المعنى، أو المعاني التي يريد إبرازها، وإظهار الدروس والعبر التي يتوخَّاها؛ بحيث لا يسع العاقل، العارف والمنصف إلاَّ أنْ يقف خاشعاً لقول الله عزَّ وجلَّ، مبهوراً ببلاغة الأداء وعظمة البيان. ومن تشابيه الأمثال القرآنية، وصورها الحسية، ما يعبّر عن حقيقة ظلم اليهود لأنفسهم - وغيرهم - في عدم الأخذ بالتوراة التي تضمنت الشريعة التي نزلت على موسى (عليه السّلام)؛ فاليهود أُخذ عليهم العهد بأن يحملوا التوراة، ويؤمنوا بما فيها من عقيدة التوحيد، ويعملوا بما احتوت من الشرعة الصالحة للمعاش والمعاد، كما أنزلها ربُّ العالمين. ولكنَّ اليهود لم يقدِّروها حق قدرها، ولا اهتدوا بها، أو انتفعوا بما فيها من خير وصلاح، بل عملوا بعكس ذلك، فغَيّروا كثيراً مما أنزل فيها، وبدَّلوه.. بل وتعدَّوا حدود الله، فزوَّروا ما شرع لهم من الدين، بما أُشربوا في قلوبهم من حب العجل، وهو الكفر الصراح، حتى استحوذت عليهم الوثنية، وكان ذلك لمجرد أنْ فارقهم النبيُّ موسى مدة أربعين يوماً، لملاقاة ربّه تعالى.. ثم جرَّتهم تلك الوثنية، التي لم تفارق قلوبهم، إلى الطمع في زخرف الدنيا، والابتلاء بحب المال، فكان في ذلك عوامل إضافية ساعدت على ضلالهم عن الحق، وتعمية بصائرهم عن الهدى، فاستمروا في مطامعهم وأهوائهم لاهثين وراء المال، والتعدّي والتسلط على مقدرات الناس وحقوقهم!.. أي أنهم رضوا بالدنيا عن الآخرة حتى صار مثلهم في حمل التوراة - كتاب الله الكريم، الذي أنزل لهديهم - كمثل الحمار، يحمل على ظهره الكتب القيمة في الحكمة والمعرفة والعلم، من غير أنْ يحسَّ أو يشعر إلاَّ بالتعب، لأنه غير مخلوق أصلاً للمعرفة، فلا يمكن أن ينتفع بأدنى شيء من الكتب التي يحملها!
وينطبق هذا المثل ليس على اليهود وحدهم لأنهم لم يعملوا بالتوراة، بل وعلى كل من يقتني القرآن الكريم مِنْ غير أنْ يخصّص وقتاً لتلاوته، أو أن يبذل جهداً لفهم معانيه، والتفكُّر في تدبّر آياته.. فكيف بمن أَعْرضَ عنه إعراضَ من لا يحتاج إليه، أو حمله كما حمل اليهود التوراة؟! فلا ينبغي على المسلمين أن يكونوا كـاليهود الذين هجروا كتابهم السماويّ، وعملوا بخلاف ما فيه، حتى حقَّ عليهم قول الله تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجُمُعَة: 5]، فذمَّهم الله سبحانه على ذلك، وأبعدهم عن واسع رحمته، ونور هداه، لأنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين، وهم قد ظلموا أنفسهم باختيارهم الضلالة على الهدى، وبتكذيبهم لآيات الله، فكان جزاؤهم غضباً ولعنةً من العزيز الحكيم، يحلاَّن بهم إلى يوم الدين.
2 - قلوب اليهود قاسية كـالحجارة أو أشدُّ قسوةً.
يقول الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} [البَقَرَة: 74].
يورد السياق القرآنيّ قبل هذه الآية الكريمة المعجزة الكبرى التي رآها اليهود بأم العين، والتي تدل على قدرة الله تعالى في إحياء الموتى، وذلك عندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرةً، ويضربوا بجزء منها قتيلاً اختلفوا في قاتليه، اختلافاً شديداً كاد يودي بهم إلى الاقتتال الجماعي، فأحياه اللَّهُ الذي يحيي ويميت، فدلَّ على الذين قتلوه من أبناء عمومته، ثم أماته الله لساعته.. ولم تكن تلك المعجزة هي الوحيدة التي أتاها العليّ القدير لبني إسرائيل ليَثْبُتوا على صدق الإِيمان.. فهم قد رأوا معجزات غيرها كثيرة: كـانفلاق أمواج البحر الأحمر وجعل الممرات التي يعبرون منها من ناحية مصر إلى أرض سيناء يابسة، فينجوا من ظلم فرعون وطغيانه.. كما رأوا تفجّر الماء من الصخرة، لمجرد أن ضربها موسى بعصاه، وانبثاق اثنتي عشرة عيناً منها، يشرب من كل عين سبطٌ من أسباطهم الاثني عشر.. وكذلك ما شهدوا من دكِّ الجبل حين تجلَّى عليه نور الله العظيم فخرَّ موسى (عليه السّلام) صَعِقاً هو ومن رافقه من أحبار بني إسرائيل عندما ذهب لميقاته مع ربّه تعالى.. ومن المعجزات التي عايشوها أيضاً إنزال المنّ والسلوى عليهم من السماء، ليأكلوا منهما هنيئاً مرئياً، أثناء التِيْه في صحراء سيناء القاحلة المقفرة..
كل تلك المعجزات - وما أعظمها - رآها بنو إسرائيل بأم العين وتحققت منها أجيالهم، ومع ذلك لم يكن أكثرهم مؤمنين!. فلما حصلت معجزة البقرة المدهشة، وظلّوا على ضلالهم، أظهر اللَّهُ تعالى ما تكنُّه قلوبهم من الأهواء والنزعات التي أبعدتهم عن الهدى والإِيمان، فقال سبحانه مخاطباً إياهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 74] أي من بعد معجزة البقرة، حتى صارت في قساوتها كـالحجارة أو أشد قسوة.. وهذه الصفة التي أورثهَا العليم الحكيم لقلوبهم إنما هي مثلٌ لنبوِّ وابتعادِ تلك القلوب عن الاعتبار، وعن الاتعاظ، فلا يؤثر فيها شيء.. فما دامت المعجزات العظيمة لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل، فلا شيء يؤثر فيها بعد ذلك!.. فجاء تشبيه قلوبهم بالحجارة لكونها صلبة قاسية، بل هي أشدّ قساوة من الحجارة لأنَّ من الحجارة، ما قد يلين ويرقّ بفعل عوامل الطبيعة، ومنها ما فيه شقوق أو ثقوب يتسرب منها الماء، ومنها ما ينشقّ، طولاً أو عرضاً، حتى تنبجس منه العيون أو تتفجر الينابيع والأنهار، وإنَّ منها الجبال الصخرية الصمّاء التي تُدكُّ وتهبط من خشية الله تعالى، ومن ذكره العظيم.. فإذا كانت الحجارة والصخور والجبال على صلابتها وقوتها أقل قساوة من قلوب اليهود، فأنَّى لهذه القلوب أنْ تخشع أو تلين لذكر الله، ولآيات الله، مهما رأت من معجزاته الدالة؟! وأنَّى لها أنْ تؤمن وقد أُغلقت على قسوة الضلال؟! وأنَّى لها أنْ تعبد اللَّهَ العزيز الجبار وقد امتلأت بالبهتان والنفاق، والمكر والخداع؟!.. وأنَّى لها أنْ تصدِّقَ ببعث محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وبنو إسرائيل قد قتلوا الأنبياء بغير حق، وكذَّبوا المرسلين؟!
نعم أيَّ قلوب قاسية تلك التي يحملها اليهود في صدورهم؟ لقد وصفها ربُّ العالمين بأنها كـالحجارة في قساوتها أو أشد قسوة!.. وفي الحديث النبويّ الشريف: «لا تُكْثِرُوا الكلامَ بغيرِ ذِكْرِ الله، فإنَّ كِثرةَ الكلام بغيرِ ذِكرِ الله قسوةٌ للقلبِ، وإنَّ أبعدَ النَّاسِ مِنَ الله القلبُ القَاسِي»[*] . وقوله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «أربعٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُحودُ العَيْنِ، وقسَاوَةُ القَلْبِ، وطُولُ الأَمَلِ، والحِرْصُ على الدُّنْيا»[*] .
ولأنَّ قلوب اليهود قاسية، لا تنبض بخشية الله، فهي قلوب مجدبة كافرة، ولذلك كان تهديده عزَّ وجلَّ لهم: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} [البَقَرَة: 74] من التمرد والفسوق، والالتواء واللجاجة، والقسوة، وغيرها من أعمال الضلال والباطل، فأعمالكم هذه، أيها اليهود، ليس اللَّهُ تعالى بغافل عنها، أو مهملها، ولكنه سبحانه يؤخركم إلى الأجل الموعود، لتروا عقاب ما كنتم تضمرون، وما كنتم تعملون..
3 - من عادات اليهود الموروثة أنهم يأخذون المتاع الدنيء وأيَّ متاع مثله
يقول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [الأعرَاف: 169].
لقد خَلَفَ، من بعد قوم موسى (عليه السّلام)، الذين عاش بين ظهرانيهم، خلفٌ ورثوا التوراة عن أسلافهم.. ولكنهم لم يعملوا بهذا الكتاب، وما أنزل الله تعالى فيه من أحكام الحلال والحرام، بل انصرفوا عنه إلى أعراض الدنيا من المتاع، والزينة والزخرف، يأخذون منه ما تعجَّل، وقرُبَ لمجرد أنْ يقعوا عليه، أو يصلوا إليه، أيّاً كان نوعه، ولو كان دنيئاً، أو من حرامٍ، كما أنهم كانوا يتّبعون الزائف من القول والفعل، ولو كان عرضياً وفيه سفاهةٌ ونقيصةٌ، مما جعلهم يرتكبون المعاصيَ ويسلكون طرق السوء مثل الغش والخداع، والربا والرشوة، والفتنة والدسِّ، والظلم والعدوان.. إلى آخر ما هنالك من المنكرات، وكلها من أعراض هذا العالم الأدنى، الذي هو الدار الفانية، كما عبَّر عنها ابن عباس فقال: «الدنيا عَرَضٌ حاضرٌ يأكلُ منه البَرُّ والفاجرُ، وجميعُ متاع الدنيا عرضٌ».. إذاً فاليهود قد فتنوا بمتاع الدنيا فأخذوه دائبين، مصرّين، وهم يقولون: سيغفر لنا! أي أن اللَّهَ سيعفو عنَّا. وقد اختبأوا وراء هذا الظن الكاذب، ليتمادوا في الإِقبال على هذه الدنيا، فكلما يأتيهم عرضٌ مثل الذي كانوا يفعلونه يبادرون إلى أخذه، والعمل به، حتى ولو علموا أنَّ فيه معصية، ثم يقولون من جديد: يغفر الله لنا!... وهذا مما يدلُّ على أنه لم يكن يشبعهم شيءٌ من فسادٍ أو فسوق، أو عصيانٍ.. بل يأتون بكل ما تسوِّل به أنفسهم من منكرٍ، على أمل المغفرة!... ولكن ألم يؤخذ على هؤلاء - الذين يرتشون في الأحكام - الميثاقُ في التوراة بألاَّ يكذبوا على الله، وألاَّ يحرّفوا الكتاب، وألا يضيفوا إليه خلاف ما أنزل الله تعالى على رسوله موسى (عليه السّلام) من تلك الأحكام، ومن الوعد والوعيد؟! ثم ألم يعلموا أنه ليس في التوراة وعدٌ بالمغفرة، مع الإِصرار على الذنوب؟!
لقد درسوا التوراة وعرفوا ما فيها، ولكنهم تركوها وراء ظهورهم، وعملوا بخلافها. فكان من الطبيعي أنْ ينتفي تأثيرها في قلوبهم، وألاَّ تستقيم بعدها نواياهم وفعالهم.. وهذا هو شأن العقيدة حين تتحول إلى مجرد ثقافة تدرس، وعلم يحفظ، دون رعاية حق الله تعالى، أو العمل بما أنزل فيها من أحكام الهدى والإِيمان، والعلم، وهو - ويا للأسف - حال كثير من الدارسين للقرآن الكريم، وقلوبهم عنه بعيدة!.. إنهم يدرسونه ليتأوَّلوا حقائقه، ويحرّفوا معانيه، وصولاً إلى المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا، بينما الآخرة خير وأبقى.. إذ لا شيء يعدِّل في النفس البشرية الرغبةَ الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض، أو يحجزها عن الطمع والجشع، أو يكفها عن الظلم والبغي، أو يهدّىء فيها هياج الرغائب والشهوات، إلا اليقين بالآخرة، وأنها خير للذين يتَّقون. ولذلك قال تعالى: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [الأعرَاف: 169]؟ فذلك هو الذي يجب أنْ تتفكَّروا به وتعقلوه أيها الناس، حتى تؤثروا الآخرة على أعراض هذه الدنيا ومتاعها العاجل...
4 - قول المشركين الأميين مثل قول اليهود، ومثل قول النصارى
يقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ *} [البَقَرَة: 113].
وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء يمكن أنْ يُعتدَّ به في العقيدة، ولن يدخل الجنة إلاَّ اليهود! وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء يمكن أنْ يُعتدَّ به في الدين، ولن يدخل الجنة إلاَّ النصارى! كما يبيّنه قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [البَقَرَة: 111]. فكان كل أهل ديانة منهما يدّعون أنهم على حق، وغيرهم ليس على شيء. وهذا يعني أن اليهود لم يعترفوا ببعث النبيّ عيسى ابن مريم (عليهما السّلام)، ولا بالإنجيل الذي أنزل عليه؛ وأن النصارى لم يؤمنوا بكل ما جاء في التوراة، وبالتعاليم والأحكام التي يعمل بها اليهود.. مع أنهم جميعاً من أهل الكتاب، وكل يتلون كتابهم الذي يوجب عليهم التصديق بالرسالات السماوية التي أنزلها ربُّنا تبارك وتعالى على النبيين والمرسلين جميعاً. ولعلَّ في هذا الإنكار من أهل الديانتين لبعضهما البعض ما ينبِّه المؤمنين، وأهل الإسلام عموماً، بألاَّ تدخل عليهم الشبهة منه بشيء، لا بل إنَّ إيمانهم بالأنبياء والمرسلين - الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم - أو أشار إليهم هذا الكتاب المجيد، هو من صلب العقيدة الإسلامية لقول الله وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *} [البَقَرَة: 285].. فهذا إيمان أهل الإسلام الذين لا يفرقون بين أحد من رسل الله؛ {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البَقَرَة: 285] بحيث يُبعد عنهم أية شبهة في الإيمان ببعض الرسل، والكفر ببعض، كما فعل اليهود والنصارى. وإيمانهم هو الحق من ربّهم الذي يسمعون آياته فيطيعونها، ثم يسألونه الغفران، ويوكلون إليه مصيرهم في الآخرة..
وكما أنكر اليهود حقيقة ما أنزل في الإنجيل فقالوا: ليست النصارى على شيء، وكما أنكر النصارى حقيقة ما أنزل بالتوراة فقالوا: ليست اليهود على شيء، كذلك قال الأميون الذين لا يعلمون شيئاً عن أحكام التوراة أو الإنجيل، أي قال المشركون من عرب الجاهلية مثل قولهم: لن نؤمن بآيات القرآن التي تتلى علينا، لأننا لم نؤمن أنَّ «محمَّداً»، نبيٌّ ولم نصدّقه!.. وذلك لأنَّ الجهل نأى بهم عن قبول الإسلام - بدايةً - والعلم بهدى هذا الدين وحقائقه الحياتية والغيبية، فقالوا مثل قول أهل الكتاب. وهذا يعني أنَّ النصَّ القرآنيّ قد ساوى بين الذين كانوا يعلمون صفة النبيّ الأُميّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ولكنهم عاندوه (كاليهود والنصارى) وبين المشركين الذين لم يكونوا يعلمون شيئاً عن دين الله وهو الحق المبين (مثل عرب الجاهلية).
والنصُّ القرآنيُّ لا يمكن تخصيصه بيهود المدينة، أو نصارى نجران، لمّا جاؤوا يريدون أنْ يتناظروا مع رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم).. وبعد حجاج طويل، ولمّا لم يقنعوا بالأدلّة التي تقدمها الآيات القرآنية التي يتلوها على مسامعهم، دعاهم للاحتكام إلى المباهلة إلاَّ أنهم أبوا أن يباهلوا، وذهبوا لا يلوون على شيء.. فالنصُّ القرآني لم يكن نصّاً خاصاً لتلك الحادثة، بل جاء نصاً عاماً يواجه مقولات اليهود والنصارى، ويَجْبَهُ هؤلاء بهؤلاء، ثم يحكي رأي المشركين في الطائفتين معاً. والمشركون هم الذين وصفهم القرآن بأنهم لا يعلمون: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 113]، أي مثل أقوال أولئك من أهل الكتاب، قال الأميّون من العرب، الذين لم يكونوا على دين معين، ولم يكونوا من أهل الكتاب.. فكانوا يرون ما هم عليه اليهود والنصارى من الفرقة والاتهام، ومن التمسك بخرافات وأساطير لا تبتعد كثيراً ولا ترتفع عن خرافاتهم هم، وأساطيرهم في الشرك، ومن قبيل ذلك اعتقادهم الخرافيّ الذي ينسبون فيه البنات لله؛ تعالى الله عما يصفون علوّاً كبيراً!..، ولعلَّ تلك الخلافات بين أهل الكتاب هي التي جعلت المشركين العرب يزهدون في معتقداتهم، فقالوا مثل قولهم: ليست اليهود، ولا النصارى على شيء، أي كما كانت كل طائفة منهما تقول بحق الطائفة الأخرى.
والقرآن الكريم يسجل على الجميع مقولات الخلاف بين بعضهم البعض، وذلك عقب تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البَقَرَة: 111] .. ثم يبيّن أنَّ أمر الحكم فيهم إلى الله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ *} [البَقَرَة: 113]. وهذه الإِحالة إلى حكم الله جلَّ وعلا هي وحدها مصداق الحق في مواجهة قوم لا يستمدون براهينهم من منطق، ولا يعتمدون بحججهم على دليل، بسبب دعواهم الباطلة بأنهم وحدهم أهل الجنة، وبأنهم وحدهم الذين هداهم الله، فكان له الحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا، فيريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً.
5 - الطلب إلى النبيّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الإتيان بالمعجزات مثل ما أوتي موسى
يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ *قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [القَصَص: 48-49].
.. لمَّا جاءهم الإسلامُ، الدينُ الحقُّ من عند الله تعالى، وراح النبيُّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يدعو إلى هذا الدين، على هدى ونور من ربّه تعالى، أنكر عليه أهل الجزيرة نبوَّته - في بداية الأمر - ولم يصدّقوه. ثم قالوا: لو أنه أوتي مثل ما أوتي موسى من المعجزات، وأرانا إياها بأم أعيننا، لكنا نفكّر بأنْ نصدّقَهُ! أو قالوا: لو أنَّ القرآن تنزَّل عليه جملة واحدة كـما تنزَّلت التوراة على موسى، لكان ذلك أجدرُ حتى نعلم أنه نبيّ! فأنزل الله تعالى الحجةَ عليهم، وعلى دعواهم بقوله المبين: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القَصَص: 48]؟، فلم يصدّقوا بالبيّنات التي جاءت بها التوراة، كما لم يؤمنوا بآيات الله التي تتنزَّلُ قرآناً عربياً غير ذي عوج!.. فقد كفروا بالتوراة من قبل، ثم كفروا بالقرآن من بعدها، عندما قالوا عن هذين الكتابين المقدَّسين: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القَصَص: 48]، أي أنهما متشابهان، ومكملان لبعضهما البعض بما فيهما من السحر الذي يسلب الناس عقولهم.. ولم يكتفوا بدعوى السحر الكاذبة يحمِّلانها لكتابين منزلين من ربَّ العالمين، بل {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ *} [القَصَص: 48] أي، إنا بكلٍّ من موسى ومحمد كافرون، فلا نؤمن بنبوّتهما، وإنّا بكلٍّ من التوراة والقرآن كافرون، فلا نؤمن بأنهما كتابان منزلان من الله!..
وقد ادّعى المشركون هذا الإنكار في وجه النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من جراء ما حرَّضهم اليهود عليه من الكفر. فقد بعثَ رؤوس الشرك من قريش إلى أحبار اليهود في يثرب، يستفتونهم في خبر محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وصدق رسالته، مما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، فأنكر اليهود أنْ يكون هو النبيّ الموعود، وأوعزوا إلى قريش أنْ تطلب منه معجزاتٍ مثل التي أوتيها موسى (عليه السّلام)، فنزل الذكر الحكيم يرد عليهم، ويبين خطل دعواهم: أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل فزعموا أنه سحر، كما يزعمون أنَّ هذا القرآن الذي يتنزَّل على محمّد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) هو سحرٌ؟! فكأنَّ الكتابين جاء أحدهما يدعم الآخر بالسحر - حسب ظنهم - ولذلك قالوا: {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ *} [القَصَص: 48] فلا نؤمن بكتاب «موسى»، وندخل في دينه، ولا نؤمن بالآيات التي يتلوها علينا «محمَّدٌ» وندخل في دينه..
ومع ذلك فالقرآن الكريم، يسير مع الكافرين والمشركين، خطوة أخرى في الإِقناع والإِحراج. وذلك عندما يبين لنا بأنَّ اللَّهَ تعالى أمر نبيَّهُ محمَّداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنْ يقول لهم ما معناه: إنْ كنتم لا تصدقون بالقرآن، ولم تصدقوا بالتوراة من قبل، فأتوا بكتاب منزّلٍ من عند الله يكون أهدى من هذين الكتابين، فأتّبعه إنْ كنتم صادقين في دعواكم أنهما غير منزَّلين؟ وهذا اشتراط لم يكونوا يتوقعونه، بل وهو مستحيل التحقيق عليهم!.. فمن أين لهم أنْ يأتوا بكتاب من عند الله، وهو جلَّت مشيئته يجعل رسالته حيث يشاءُ.. ثم إنَّ هؤلاء كافرون ومشركون، يستنكفون عن الحق، ويأبون الهداية، ويصرّون على تكذيب كتب الله، وتكذيب أنبيائه فهل يُؤتى أحدٌ منهم كتاباً من عند الله؟ بل من أين لهم أنْ يأتوا بكتاب أهدى من هذا القرآن المجيد الذي لا ريب فيه هدى للمتقين؟!
لقد كان ذلك معتقد أهل الجاهلية، فلم يؤمنوا بدينٍ من عند الله تعالى: بسبب هيمنة الكفر والشرك على عقولهم، فلمَّا بعث الله عزَّ وجلَّ لهم رسولاً من أنفسهم، ودعاهم إلى الهدى، تصدّوا لدعوته في باديء الأمر بكل أشكال التصدّي!.. ثم انقلب أكثرهم بنعمة الله مسلمين، وقادوا الجيوش وحققوا الفتوحات المباركة في دنيا الأرض.. أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد ظلوا على معتقداتهم، وما تزال العداوة في الدين قائمة فيما بينهم، على الرغم من اتفاقهم على عداء الإسلام والمسلمين، كما هو ثابت من الحروب الظاهرة والخفية التي يشنونها بين الحين والآخر، على الأمة الإسلامية: دولاً، وحركاتٍ وأفراداً متوسلين لذلك مختلف الذرائع والأكاذيب الباطلة!.
6 - حسد اليهود أنْ يُؤْتى أحدٌ مثل ما أوتي أنبياؤهم من الكتاب والحكمة
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَو يُحَآجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *} [آل عِمرَان: 72-73].
يروى أنَّ اثني عشر رجلاً، من أحبار اليهود في خيبر وقرى عرينة، تواطأوا على أن يدخلوا في الإِسلام ظاهرياً، ويحضروا اجتماعات المسلمين في وضح النهار، ثم يرتدوا آخره، من أجل أن يشيعوا في الناس القولَ: لقد دخلنا في الإِسلام، وعرفنا ما فيه، ثم نظرنا في كتبنا، وتشاورنا فيما بيننا، فوجدنا أن «محمَّداً» ليس بنبيٍّ، وظهر لنا أنه كاذب، وأنّ دينه باطل.. فلئن فعلنا ذلك فقد يساور الشك أصحابَ «محمّدٍ»، ويقولون عنّا إننا أهل كتاب، وعندنا علم أكثر منهم.. وربما يؤثر ذلك عليهم، فيرجعون عن دينهم، ويلوذون بنا، بل ربما يعودون إلى ما كانوا عليه من الشرك...
وكذلك روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: «قال جماعة من اليهود - منهم عدي بن زيد والحارث بن عوف - بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمّد وأصحابه غُدوةً، ونكفر به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عِمرَان: 71] - الآية.. إلى قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ *} [البَقَرَة: 115]».. كذلك أخرج ابن أبي حاتم عن السدي عن أبي مالك قال: كانت اليهود تقول أحبارهم للذين دونهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأنزل الله: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عِمرَان: 73].
ذلك بعض من الدسائس الخبيثة، التي كان اليهود يبتدعونها، ليصرفوا الناس عن النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ودينه، فكانت أحبارهم توصيهم بألاَّ يثقوا إلاَّ باليهود أمثالهم، وألاَّ يركنوا إلاَّ لمن تبع دينهم...
ولم تكن تلك الحملةُ لتخفى على ربّ السماوات والأرض، فكانت الآيات القرآنية تكشف نوايا أولئك الأحبار، الذين كانوا دهاقنة في الكفر والنفاق من بني يهود، ولا سيما في تآمرهم على المؤمنين حتى يرجعوا عن دينهم، وفي الوقت نفسه كانت الآيات الحكيمة تحمل التوجيه الربانيّ للنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ومن شأنه تمكينه في مواجهة كلِّ الأضاليل، والافتراءات التي تشكل اعتداءً صارخاً على صدقية وقدسية الآيات القرآنية التي يتلوها على الناس.. ومن قبيل ذلك التوجيه الربانيّ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عِمرَان: 73]..
قل لهم يا «محمد»: إنَّ الهدى هدى الله، وقد أنزل سبحانه بيّنات هذا الهدى بآياتٍ قرآنيةٍ واضحة المعاني والمفاهيم والدلالات.. فلا تجحدوا، أيها اليهود، ولا تنكروا على أحدٍ سواكم أنْ يُؤتى مثل ما أوتيَ أنبياؤكم، ولا تعجبوا أنْ يحاجَّكم المؤمنون من أهل الإسلام، ويغلبوكم عند ربّكم، يومَ القيامة!.. وإلاَّ كان عليكم القبول والإِذعان لما أدعوكم إليه، وهو الحقُّ من ربّي، وهو سبحانه الذي أرسلني بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون... ولو كره الكافرون.. فإنْ لم تؤمنوا لي، وتدخلوا في دين الله، فإنَّ الله تعالى يحكم بيننا وبينكم فيما تخالفوننا به..
ويدعم هذا الاتجاه ما قاله الضحّاك، وهو «أنَّ اليهود قالوا: إنَّا نحاجُّ عند ربّنا من خالفنا في ديننا، فبيّن الله تعالى أنهم هم المغلوبون الذين لا حجة دامغة لهم، وأنَّ المؤمنين هم الغالبون، وذوو الحجة الدامغة والحقّ الصريح»..
أما قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *} [آل عِمرَان: 73]، فالتقدير: أنَّ النبوَّة والهداية، وسائر نِعم الدنيا والآخرة، إنّما هي فضل من الله تعالى، ودليل هذا الفضل أن يختار ويصطفي من يشاء من عباده للنبوة والرسالة، لأنه عليم بمن هو أهل وجدير بحملها.. وهو واسع الرحمة، جوادٌ، عالم بمصالح هؤلاء العباد، فيجعل رسالته حيث يشاء
وتستوقفنا النصوص الواردة في «سورة آل عمران» - كما تستوقف كلَّ باحثٍ مدقّقٍ من ذوي الألباب - لندرك بأنَّ الإسلام الذي أُنزل قرآناً على قلب محمّدٍ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) هو دين الله، وهو الدين الذي ارتضاه ربُّ العالمين للناس كافة، فكان من رحمته تبارك وتعالى أنْ يبيّن في كتابه ما يتعرض له هذا الدين من الدسائس والمؤامرات التي كان يحيكها أهل الشرك والضلال لمنع هذا الدين من الظهور، أو الغلبة أو الانتشار!.. وقد تبدَّى ذلك بما قام به أعداء دين الله، خلال القرون المتطاولة، ليُدخلوا في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه - إلاَّ بجهدٍ جهيدٍ - ومن ثم إلباس الحق بالباطل بما صدر، ويصدر، من المؤلفات والدراسات، وما يُشنُّ من الحملات الإعلامية، وكلها تهدف إلى تشويه الإسلام، لا لشيءٍ إلاَّ لإبعاد الناس عنه.. ولا يُنكر أحدٌ أنَّ تلك المؤمرات والافتراءات على هذا الدين وأهله قد أفلحت في كثيرٍ من المجالات، اللَّهُمَّ إلاَّ في الافتئات على القرآن المجيد، الذي تكفل الله بحفظه إلى يوم القيامة، فالحمد لله على فضله العظيم. أجل لقد دسّوا وحرفوا في التاريخ الإِسلاميّ، وغيروا فى أحداثه وفي سير رجاله الكبار، ووضعوا وعبثوا في السيرة النبوية الشريفة حتى قيّض الله للحديث الشريف رجالاً حقَّقوه، وحرروه، إلاَّ ما ندَّ عن الجهد الإِنسانيّ المحدود.
بل ودسُّوا أيضاً في التفسير القرآنيّ حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق! وكل ذلك من فعل المستشرقين، أو تلامذتهم الذين يحتلون مكانة فكرية مرموقة في بلاد المسلمين، والذين يُصنَعُون على عين الصهيونية والصليبية، ليؤدوا لأعداء الإسلام الخدمات التي لا يملك تأديتَها الأعداءُ الظاهرون.. ثم ما يزال هذا الكيد، إلى يومنا هذا، قائماً ومطرداً. وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي: التمسك بهذا القرآن المحفوظ، والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون. من هنا نرى أن القرآن الكريم يعرض لنا بعض تلك المحاولات التي كان يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة الإسلامية في دينها وردِّها عن الهدى، والتي ما تزال هي الطريق نفسها، التي كان يتبعها أسلافهم عبر القرون، لإِضعاف المسلمين، والنيل منهم..
7 - شاهد من بني إسرائيل يشهدُ على مثل قول النبيّ بأنَّ القرآن من عند الله تعالى.
يقول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [الأحقاف: 10].
يخاطب اللَّهُ سبحانه نبيَّه محمّداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنْ يقول لليهود: أخبروني أيها اليهود ماذا حالكم إنْ كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل - من الأحبار الذين يعلمون التوراة، وما أنزل فيها من الحق على صدق نبوتي ورسالتي - وقال مثل ما أقول لكم بأن القرآن هو من عند الله تعالى، ثمَّ صدَّق به فآمن، واستكبرتم أنتم عن هذا الإيمان، أفلا تكونون ظالمين؟! فإنْ آثرتم الظلم لأنفسكم، فـ{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [المَائدة: 51].
وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام، فهو الشاهد من بني إسرائيل الذي آمن بالقرآن أنه من عند الله تعالى، وقد أنزله على قلب خاتم النبيين محمد ابن عبد الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ليكون هدى للمتقين. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن سلام أنه قال: «نزلت فيَّ».
وعلى الرغم من شهادة الحق التي واجه بها ابن سلام أحبارَ اليهود، الذي كان أعلمهم بأمور الدين، فقد أنكروا عليه إسلامه، وإيمانه واستكبروا عن الإقرار بحقيقة القرآن، وحقيقة بعث محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، فكانوا من الظالمين الذين نأوا بأنفسهم عن الهداية، فلا يقعون إلاَّ على الضلال!.. والدليل ما كان من موقف كبار أحبار اليهود في المدينة، وما دعاهم إليه رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) للإيمان بالقرآن، وشهادة عبد الله بن سلام[*] على أنه كتاب الله، وعلى أنَّ محمداً رسول الله إلا أنهم استكبروا فحق عليهم قول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [المَائدة: 51].

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢