نبذة عن حياة الكاتب
المعاملات والبينات والعقوبات

الرِّبَـا وأحكامـه
تعريف الربـا:
الربا في اللغة الزيادة والإضافة. يقال: ربا الشيء، يربو، إذا زاد.
قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الرُّوم: 39]. أي أن المال الربوي غير مقبول عند الله تعالى. وقال تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النّحل: 92]، أي أكثر عدداً.
والربا في اصطلاح الفقهاء: هو أخذ مال بمالٍ من جنسٍ واحد متفاضلين، أو هو: «زيادة أحد البدلَين المتجانسَين من غير أن يقابل هذه الزيادة عوض».
ويقسم الربا إلى قسمين[*]:
الأول: ربا النسيئة، وهو أن تكون زيادة أحد البدلين المتجانسين مقابل تأخير الدفع، كأنْ يشتري مائة كيلوغرام من الأرز مقابل أن يردها، بعد مدةٍ من الزمن، مائة وعشرين كيلوغراماً. فالزيادة، وهي عشرون كيلوغراماً، إنما كانت مقابل تأجيل التسديد، أو تأجيل دفع الثمن، ولذا سمي هذا النوع بربا النسيئة أي التأخير.
الثاني: ربا الفضل، وهو أن تكون الزيادة في البدلين مجردة عن التأخير، دون أن يقابلها شيء، كما لو اشترى خمسة كيلوغرامات من البن بستة كيلوغرامات من البن، أي من جنسه، وذلك على شكل مقايضة، وهي المبادلة بين البائع والمشتري باستلام كل منهما ماله. ويكون ربا الفضل أيضاً كما لو اشترى أحدهم قطعة ذهب زنتها عشرون مثقالاً بقطعة من جنسها وزنُها ثمانية عشر مثقالاً.
وربا الفضل يتم في أصناف البيوع الستة، وهي: الذهب والفضة، والحنطة والشعير، والتمر والملح وما يماثل اليوم هذه السلع الأربع الأخيرة من مختلف أنواع السلع التي يحتاجها الناس للإنتاج أو الاستهلاك.
تحريم الـربـا:
الربا حرام بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين كافة منذ عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى اليوم، وسوف يظل حراماً بدليل النص القرآني القاطع في قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ *} [البَقَرَة: 275-276]. وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ *} [البَقَرَة: 278-279]. ومن جوامع كلم رسول الله الموجزة التي لم يُسبق إليها، قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «شَرُّ المكاسب كسبُ الرِّبا»[*].
وعلى أساس هذه النصوص القطعية الثبوت فإن تحريم الربا لا يحتاج إلى دليل، لأن الدليل إنما يُستدل به على النظريات الاجتهادية، والمسائل الظنية، أما الأمور الواضحة النصوص، والبديهية التي يستوي في معرفتها العالم والجاهل، والمجتهد والمقلد، فلا حاجة بها إلى دليل. ومن هنا حكم الفقهاء بكفر من أنكر تحريم الربا، لأنه ينكر ما ثبت بضرورة الدين، تماماً كما ينكر وجوب الصوم والصلاة، والحج والزكاة.
قيل للإمام جعفر الصادق (عليه السلام): إن فلاناً يأكل الربا ويسميه اللبا؟ قال (عليه السلام): «لئن أمكنني الله تعالى منه لأضربنَّ عُنقَه»[*].
وكما يحرم أخذ الربا، فكذلك يحرم إعطاؤه، فقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «لعن رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهدَيه»[*]. ولا فرق في التحريم بين الدافع والقابض، حتى ولو كان لضرورة ملحة، لأن الشارع لعن الجميع، وهددهم بقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البَقَرَة: 279] ولم يستثنِ أحداً.
وعندما نقول: إن الربا حرام مطلقاً حتى ولو كان لضرورة ملحة، فقد يتبادر إلى الذهن التساؤل: كيف يكون ذلك وجميع الفقهاء اتفقوا على أنَّ الضرورات تبيح المحظورات، وقد أحلَّ الله تعالى بعض المحرَّمات لحالات الضرورة كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [البَقَرَة: 173]، فإن أحلّت الميتة من أجل الضرورة فلِمَ لا يحل الربا عندما يكون الإنسان مضطراً لمبلغ من المال يقضي به حاجته؟
ويمكن الإجابة على هذا التساؤل بما يلي:
أولاً: إن الضرورة المسوّغة شرعاً في الآية الكريمة المذكورة آنفاً، لا محل لها في الربا، لا بالنسبة إلى القابض، ولا بالنسبة إلى الدافع. لأن القابض الذي يأخذ المال من آخر، ليس محكوماً بالعدم، ويفترض أن لديه من المال ما يقيم به الأود، ولو يوماً واحداً، في حين أن الآية الكريمة أحلَّت الميتة والدم ولحم الخنزير لمن أشرف على الهلاك من الجوع. والحاجة إلى المال، مهما كانت ملحة، لا تدفع إلى الهلاك.. ولأن دافعَ المال، لا ضرورة تدفعه لأن يرابي لتزيد أمواله، فلِمَ لا يُقْرِضُ المحتاج، أو يداينه، ويعتبر عمله صدقة؟ أفلا يتّعظ بقول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البَقَرَة: 276]؟
وعلى كل حالٍ فإن القابض إذا سوَّغت له الضرورة أخذ المال، فإنها لا تسوِّغ له دفع الزيادة التي اشترطت عليه، وإذا أخذت قهراً عنه فلا تحل للآخذ، بل تكون أكلاً للمال بالباطل.
ثانياً: لا تلازم بين تحليل الميتة مثلاً للمضطر، وبين تحليل أموال الغير.. أجل، قال الفقهاء: إذا انحصر حفظ الحياة بأكل مال الغير جاز أن يأكل منه بمقدار ما يرفع الضرر، على شريطة أن يضمن الآكل بدل المال من المثل والقيمة، ويسدّد عند الإمكان، وبديهي أن هذا شيء، وأخذ الربا شيء آخر.. لا بل إن الفقهاء أجازوا مقاتلة صاحب الطعام لحفظ الحياة، على أن يضمن الردَّ عند الإمكان كما في الحالة السابقة..
ثالثاً: إن الاضطرار ليس سبباً من أسباب الملك، ولا لصحة المعاملة، بل يرفع التحريم والعقاب فقط، ولا تلازم بين الحكم التكليفي وهو التحليل، وبين الحكم الوضعي أي الفساد، فقد تكون المعاملة محرمة، وغير فاسدة كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وقد تكون فاسدة، وغير محرمة، كبيع الصغير والسفيه.
ويضاف إلى ما تقدم أن من أسباب تحريم الربا هو أن الفائدة، أو المنفعة التي يجنيها المرابي تعتبر استغلالاً بشعاً لجهود الناس، فهي زيادة بمثابة الجزاء من غير بذل جهد، بمعنى أن المال الذي أخذ عليه الربا مضمون الفائدة، وغير معرض للخسارة. وهذا ما يخالف قاعدة «الغنم بالغرم». ولذلك كان استثمارُ المال أو تنميتُهُ بالطرق الشرعية الأخرى جائزاً، كما هو الحال في المضاربة أو غيرها من الشركات الشرعية بشروطها. فتنمية المال بهذه الطرق تنتفع به الجماعة، ولا يتأتّى من تنميته استغلال جهد الناس، بل هو وسيلة تمكّنهم من الانتفاع بجهد أنفسهم. وهذا المال معرض للربح وللخسارة. بخلاف الربا الذي يتأتّى من غير جهد، ومن غير تعرّض رأس المال للخسارة. وقد قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): «إنَّما حرَّم الله عزَّ وجلَّ الرِّبا لئلا يذهب المعروف»[*].
وبكلمة مختصرة: إن الربا لا يحل أكله - أو أخذه - بشتى صوره وأشكاله. أما الاضطرار، وخوف الهلاك، فإنه يرفع الإثم فقط، ولا يكون سبباً للتمليك، وصحة المعاملة.
التفريق بين الربا والبيع والصرف والقرض:
لقد أوضحنا معنى الربا، أي الزيادة في المال بلا عوض ولا جهد، وقلنا إنه محرم شرعاً، والتعامل به ممنوعٌ منعاً باتاً مهما كان مقداره ومهما كانت نسبة الزيادة على المال. ولا حق لأحد في ملكية مال الربا، بل يجب أن تُرَدَّ الزيادة في المال إلى أصحابها إن كانوا معروفين.
- أما البيع فهو مبادلة مالٍ بمال تملكاً وتمليكاً. وهو جائز لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البَقَرَة: 275]، وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا»[*].
- وأما الصرف فهو أخذ مال بمال من جنس واحد ومتماثلين، أو من جنسين مختلفين متماثلين أو متفاضلين. وقد ورد تعريفه بأنه «بيع النقد بالنقد جنساً بجنس أو بغير جنس: أي بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة، مصنوعاً أو نقداً»[*].
وبالمقارنة بين الصرف والربا: فإن الصرف لا يكون إلاَّ في البيع، أما الربا فإنه يكون في بيعٍ، أو قرضٍ، أو سَلَمٍ.
- أما القرض فهو نوع من السلف، وهو أن يعطي رجل مالاً لآخر على أن يسترده منه بدون زيادة أو نقصان. فهو إذاً لقضاء الحاجة، وهو جائز لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «ما من مسلم يقرض مسلماً مرتين إلاَّ كان كصدقة مرة»[*] وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «رأيت ليلة أُسْرِيَ بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلت يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة»[*].
وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) نفسه يستقرض. فقد روى أبو رافع: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) استلف من رجل بَكْراً، فقدمت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إبلُ الصدقة، فأمرني (كما يقول أبو رافع) أن أقضي الرجلَ بَكره، فرجعت إليه وقلت: يا رسول الله لم أجد فيها إلاَّ خياراً رباعيّاً، فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): «أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء»[*] (البَكَر - بالفتح - الفتيّ من الإبل).
ونظراً للعلاقة الوثيقة ما بين الربا والقرض، فإنه من المفيد تبيان هذه العلاقة بينهما لأن الربا لا يتأتَّى عادة إلاَّ عن الاستقراض للحاجة إلى المال.
العلاقة بين الربا والقرض:
من الطبيعي أن تكون العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد، وخاصة بين أبناء المجتمع الإسلامي، قائمة على تقوى الله تعالى، والطمع في ثوابه والخوف من عقابه.. ولذلك كان التعاون على البر والتقوى أمراً إلهياً للمؤمنين. ومن مضامين هذا التعاون إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج. فصاحب المال الموسر مأمور بدفع الصدقة التي يستفيد منها الغارمون (المدينون) إذا طابت نفسه، ومأمورٌ بإقراض من يلجأ إليه في أمرٍ يحتاج فيه إلى المال، فإن إقراضه له مستحبٌّ وفيه ثواب كبير.
وفي أيامنا هذه تعدّدت الحاجات وتنوّعت، وصار الرّبا قوام التجارة والزراعة والصناعة. ولذلك وُجدت المصارف للتعامل على أساس الرِّبا، ولا توجد وسيلة غيرها، كما أنَّه لا توجد وسيلة غير المُرابين لسدِّ الحاجات، سواء أكانوا، أفراداً مرابين، أو مؤسسات مرابية.
وعلى الرغم من حاجة الناس بعضهم إلى بعض، وتعدُّد الحاجات، فقد أمر الله تعالى بتحريم الربا. ولا يمكن مخالفة الأمر الرباني إطلاقاً، خاصة ونحن نتحدّث عنِ المجتمعِ الذي تُطبّق فيه الأحكام الإِسلامية جميعُها، ومن ضمنها الأحكام التي تتعلق بالنواحي الاقتصادية، التي تلتصق بحياة الناس اليومية.. وليس عن المجتمع بوضعِه الحاضِر الذي يعيش على النظام الربويّ الرأسماليّ، والذي تعتبر المصارفُ فيه من ضروريّات الحياةِ. فصاحبُ المال الذي يرى نفسه حُرّاً في ملكه، ويرى أنّ لهُ حريّة الاستغلالِ بالغشِّ والاحتكار والقمار وغير ذلكَ دونَ رقابةٍ من دولةٍ أو تقيّدٍ بقانون، يرى أيضاً أنّ الرِّبا والمصرفَ ضرورة من ضرورات الحياة. مع أنه جاء عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) في وصيَّته لعليٍّ (عليه السلام) أنه قال: «يا عليّ، الرِّبا سبعون جزءاً، فأيسرُها مثل أن ينكح الرجلُ أُمَّهُ في بيت الله الحرام. يا عليّ، درهمُ رباً أعظمُ عند الله من سبعين زنية كلّها بذات محرمٍ في بيت الله الحرام»[*].
ولذلك وجب تغيير النظام الحاليّ برُمّتِهِ، على أن يوضع مكانه نظامٌ آخر وضعاً انقلابيّاً شاملاً، وهو النظامُ الإِسلاميّ للاقتصاد.
فإذا أُزيل النظام الرأسماليّ وطُبِّق النظام الإِسلامي ظهر للناس أنّ المجتمع الذي يُطبق تعاليمَ الإسلام لا تبقى فيه حاجةٌ إلى الرِّبا. لأنَّ المحتاج إلى الاستقراض إمّا أنه يحتاج المال لأجل العيشِ أو لأجل العمل. أما الحاجة لأجل العيش فقد سدّها الإسلام بضمان العيش لكل فردٍ من أفراد الرّعية عن طريق بيت المال، أو عن طريق صناديق الخمس والزكاة، في حال عدم وجود بيت المال؛ وأما الحاجة لأجل العمل فقد سدّها الإسلام بقرض المحتاج دون ربا من المصادر المذكورة ذاتها، قال (صلى الله عليه وآله وسلّم): «درهمُ الصَّدقَة بعشرة ودرهم الدَّين بثمانية عشر»[*].
وإقْرَاضُ المُحتاجِ مُستحبّ، وكذلك الاستقراضُ يُستحبّ أيضاً، لأنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانَ يستقرض. وما دام الاستقراض موجوداً، فقد ظهر للناس أنّ الرِّبا ضررٌ من أشدّ الأضرارِ على الحياة الاقتصادية، بل اتّضح للعيان أنّ الضرورةَ تقضي باستبعاد الرِّبا وإيجاد الحوائل الكثيفة بينه وبين المجتمع بالتشريع والتوجيه وفق نظام الإِسلام. وإذا انعدمَ الرِّبا لم تبق حاجةٌ للمصارف الموجودة الآن. ويبقى بيتُ المال وحده، وما له من فروع في جميع أنحاءِ الدولة الإسلامية، يقوم بإقراض المال بلا فائدة بعد التحقّق من إمكانيّة الانتفاع بالمال.
ومن المثال على الاستقراض لأجل العمل أن الخلفاءَ أعطوْا من بيت المال للفلاحين أموالاً لاستغلال أراضيهم، لأن الحكم الشرعيّ أن يُعطَى الفلاحونَ من بيتِ المالِ ما يتمكَّنون به من استغلال الأرض إلى أن تخرج الغِلال. ويمكن إعطاء كل محتاج قرضاً من بيت المال ليعملَ في الأرض أو في غيرها... فَقَد أعطى الرّسولُ (صلى الله عليه وآله وسلّم) رجُلاً حبْلاً وفأساً ليحتطب. ويقرض بيتُ المالِ الذين يقومون بالأعمال الفرديّة التي يحتاجونَ إليها لكفاية أنفسهم. ولذلك لا يُعطى الأغنياءُ من بيتِ المالِ شيئاً لزيادة إنتاجهم.
فالحكم الشرعيُّ هو أنّ الرِّبا لا يتوقف على وجود المجتمع الإِسلاميّ أو وجود من يقرض المال، بل الرِّبا حرامٌ ويجب تركُه سواء كان المجتمع إسلاميّاً أو لم يكن، ووُجِد مُقرضُ المال أو لم يوجد.
رأي ونـداء:
لا بد، بعد الذي رأيناه، من أن نتوجه إلى المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، لندعوهم إلى التخلي نهائياً عن كل معاملةٍ تؤول إلى ربا، وأن يُقلعوا عن التعامل مع النظام الربويّ الذي يسود عالمهم الحالي، وأن يوجدوا لأنفسهم المصارف التي تمكنهم من إنجاز معاملاتهم المالية وفقاً لأحكام شريعتهم الغرّاء، حتى ينجوا من الإثم الذي يقعون فيه حيث يتعاملون مع نظام يخالف دينهم، ويستغل أموالهم وجهودهم لمصالحه الخاصة فقط... أفلا ينظرون من حولهم، ليروا كيف أن العالم كله بات يشن على الإسلام حرباً شعواء، متهماً إياه بالرجعية، والتطرف، والتخلف وما إلى ذلك من الأوصاف الشنيعة التي لا يريد من ورائها إلا ضرب الإسلام والقضاء عليه، حتى يبقى لبعض دُوَلِهِ النفوذ، والسلطان، والتحكم في رقاب العباد؟!
أجل.. قد لا يكون هناك نظام إسلاميّ يطبق أحكام الإسلام، مع أن المفروض على المسلمين جميعاً أن يسعوا جادِّين لتطبيق الحكم الإسلاميّ في العالم الإسلاميّ كي يتخلصوا من النظام الربويّ الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي الرأسماليّ. أجل قد يحتاج المسلمون إلى النظام الإسلامي في عصرنا، ولكن ذلك لا يبرِّر تَعامُلَهم مع النظام الربويّ، بل إن المبررات والأعذار التي يوجدونها لأنفسهم هي التي تطيل أمد هذا النظام الجشع، والذي يأكل ثرواتهم من حيث لا يدرون.
شيء واحد يجب أن يؤخذ في المعيار: يكفي أن يكون الله عزَّ وجلَّ قد حرَّم الربا، حتى يقلع عنه المسلمون، وإِلاَّ فكيف سيواجهون ربَّهم العزيز الجبّار يوم الحساب وحين لا تُجدي الأعذار والمبررات؟
الأموال الربوية:
وفي العودة إلى الربا، نجد أن السنَّة النبويَّة قد ميَّزت الأموال الربويَّة عن غيرها، بحيث إن الربا لا يقع في البيع والسّلم إلا في ستة أشياء فقط: في التمر والقمح والشعير والملح والذهب والفضة. ولا يقع في القرض الذي يُردّ إليك مثل الذي أقرضت بنوعه ومقداره.
وقد سئل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن علة تحريم الرِّبا، فقال: «إنه لو كان الرِّبا حلالاً لترك الناسُ التجارات وما يحتاجون إليه، فحرَّم الله الرِّبا لتفرَّ الناسُ من الحرام إلى الحلال، وإلى التجارات من البيع والشراء، فيبقى ذلك بينهم بالقرض»[*].
فساد المعاملة الربوية:
هل فساد الربا موجب لفساد المعاملة من الأساس، أو أن الفساد يختص بالزيادة فقط، أما المعاملة فتكون صحيحة؟ أي بمعنى آخر: هل الربا فاسد ومفسد للعقد، أو فاسد غير مفسد؟
لنأخذ مثالاً على ذلك: إذا اقترض أحدهم عشرة دراهم من غيره على أن يردها ثلاثة عشر، أو إذا باع أحدهم مداً من القمح بمدين ونصف، فإن الزيادة في الحالتين محرَّمة وفاسدة بلا ريب. ولكن هل تكون المعاملة فاسدة فلا يصح للمستقرض أن يتصرف بقيمة أصل الدين (عشرة دراهم)، كما لا يصح للمشتري التصرف بمدّ الحنطة؟
والجواب: أن كل ما فيه شائبة الربا فهو فاسد ومفسد، لأن الأدلة التي دلت على تحريم الربا صريحة بأن كل معاملة تتصل بالربا، من قريب أو بعيد، هي باطلة بطلاناً تاماً.
وعلى هذا فإن من اقترض مع الزيادة، أو من اشترى جنساً بجنس مع الزيادة، يجب أن يرد المال الذي اقترض، والمبيع الذي استلم، ويحرم عليه التصرف فيه، مع العلم بالربا وفساد المعاملة، وإن أبقاه في يده، جرى عليه حكم المقبوض بالعقد الفاسد.
هذا هو حكم العين بيد المستقرض في ربا القرض، وبيد المشتري في ربا البيع، وحكمها بحكم المقبوض بالعقد الفاسد.. ولكن ما هو حكم الزيادة التي جرى قبضها؟ هل يجب عليه أن يردها على مالكها إن كانت قائمة، وأن يرد بَدَلها من المثل أو القيمة إن كانت تالفة، أو لا يجب عليه شيء من ذلك؟
إن الزيادة التي يقبضها المرابي تبقى على ملكية صاحبها الأول، لفساد المعاملة من الأساس، فيجب على المرابي ردها، سواء علم أن الربا محرم، أو لم يعلم، وسواء أكانت ربا القرض، أو ربا البيع، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البَقَرَة: 279]. وهو حكم عام يشمل العالم والجاهل.. وإن كان قبض الربا مع الجهل به أو بتحريمه قد يرفع الإثم والعقاب، أما الضمان ووجوب الردّ، فلا، لأن الحكم الوضعي يثبت مع الجهل كما يثبت مع العلم.
مذاهب الأئمة في علة الربا:
اتفق جميع الأئمة على أن الربا محرَّم في الأموال التي وردت في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم): «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد»[*]. وهذا يعني أنه لا يجوز بيع أحد تلك الأصناف بمثله مع زيادة، كما لا يجوز تأجيل التقابض فيها.
وللشيعة الإمامية في الربا رأي وقول، للأئمة الأربعة رأي وقول. ولكنهم جميعاً متفقون على تحريمه.
- قال الشيعة الإمامية: لقد دلت الأحاديث النبوية الشريفة، والروايات عن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن الربا يثبت في موردين: الأول في القرض مطلقاً من غير شرط سوى شرط الزيادة والمنفعة من ورائه، والثاني في غيره من المعاملات.
ربا القرض: وهو أن يقرض الإنسان شيئاً لغيره، ويشترط على المستقرض المنفعة من وراء القرض، سواء أكانت المنفعة من جنس المال، كمن أقرض عشرة دراهم على أن يستردّها أحد عشر درهماً، أو كانت المنفعة من غير جنس المال، كما لو اشترط المقرِض أن يقوم المستقرض بعمل له، أو أن يعيره شيئاً. وهذا الربا حرام لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «كل قرض جرَّ نفعاً فهو حرام». وروي عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس (رضي الله عنهم) أنهم «نهوا عن قرض جرَّ منفعة»[*]: وسئل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن رجل أعطى رجلاً مائة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر زيادةً عن المائة؟ فقال: «هذا الرِّبا المحض»[*].
أما إذا تبرع المستقرض بالزيادة من تلقاء نفسه، وعن طيب خاطر بدون شرط، كان له ذلك. فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اقترض بَكراً، فردّه بازلاً رباعيّاً، وقال: «إن خير الناس أحسنهم قضاء»[*]. وهذا ما لم يكن المقرِضُ غيرَ محتاج، فحرم هذه الزيادة مهما كان الدافع إليها.
وربا القرض لا فرق فيه بين عين وعين، ولا بين منفعة ومنفعة. وعلى هذا فإن الربا يثبت في القرض بشرط الزيادة والمنفعة إطلاقاً، سواء أكانت العين من نوع المكيل، أو الموزون، أو المعدود أو المذروع، وسواء أكانت المنفعة من نوع المال، أو من غيره.
ربا غير القرض: لقد ذهب المشهور - عند الشيعة الإمامية - إلى أن الربا يثبت في الصلح، وفي كل معاوضة يمكن التفاضل فيها بين العوضين. واستدلوا على ذلك بالأدلة الدالة على تحريم الربا الشامل بوجهٍ عامٍّ لكل زيادة، كما استدلوا بنصوص خاصة دلت على اشتراط المماثلة، وعدم الزيادة، مع اتحاد الجنس، ومنها قول الإمام الصادق (عليه السلام): «الفضة بالفضة مثلاً بمثْل، والذهب بالذهب مثلاً بمثل، ليس فيه زيادة ولا نقصان، والمستزيد في النار»[*]. وهو شامل للبيع وغير البيع. ومنها أن الإمام سئل عن الرجل يدفع إلى الطحان الطعام، فيقاطعه على أن يعطي لكل عشرة أرطال اثني عشر رطلاً دقيقاً؟ قال (عليه السلام): «لا»[*]. والمقاطعة غير البيع، فدل على أن الربا يثبت في غير البيع من المعاوضات، تماماً كما يثبت في البيع.
ويشترط لثبوت الربا في غير القرض (أو الدين) شرطان: الأول أن يكون العوضان من جنس واحد. الثاني أن يكون العوضان مما يكال أو يوزن.
وفيما يلي بيان ذلك:
الشرط الأول: اتحاد الجنس، والضابط فيه أن توجد النوعية في كل من العوضَين بجميع مقوماتها، كبيع الحنطة بالحنطة، أو بيع الحنطة بالدقيق، لأن الثاني متفرع عن الأول، أو بيع النشا بالدقيق، لأن الاثنين متفرِّعان عن أصل واحد وهو الحنطة. والدليل على شرط اتحاد الجنس قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم...»[*]. وقول الإمام الصادق (عليه السلام): «كل شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كانا من جنس واحد». وقال (عليه السلام): «لا يكون الرِّبا إلاَّ فيما يكال ويوزَن»[*]. وعلى هذا يخرج كل عوضَين تكون حقيقةُ كلٍّ منهما غير حقيقة الآخر في الصفة والنوع كالأرز والزيت، والبن والسكر ونحو ذلك.
وقد اتفق الفقهاء على أن الحنطة والشعير من جنس واحد، وكذلك الغنم والماغز، والخيل والإبل..
وبنتيجة هذا الشرط: إن غير المتجانسين كالتمر والحنطة يجوز بيع أحدهما بالآخر مع التساوي والتفاوت، نقداً ونسيئة.
الشرط الثاني: الكيل والوزن، أي أن يكون العوضان مما يكال أو يوزن، فلا ربا فيما يباع عدّاً كالبيض، ولا مشاهدة كالثوب والحيوان، فيجوز بيع بيضة باثنتين، وبيع ثوب بثوبين نقداً أو نسيئة. لقول الإمام الصادق (عليه السلام): «لا بأس الثوب بثوبين، والبيضة ببيضتين، والفرس بفرسين»[*]. ولقوله (عليه السلام): «كل شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كانا من جنس واحد، فإذا كان لا يكال ولا يوزن فليس به بأس اثنان بواحد»[*].
وفيما يتعلق بتحديد المكيل والموزون فقد قال الفقهاء: إن ما علم أنه كان مكيلاً أو موزوناً في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحرم التفاضل فيه، حتى ولو ترك الناس الكيل والوزن فيه، وكل ما علم أنه كان غير مكيل أو موزون في عهده (صلى الله عليه وآله وسلّم) جاز فيه التفاضل، حتى ولو صار مكيلاً أو موزوناً عند الناس فيما بعد.
هذا إذا ما اتفقت البلدان بكاملها على كيله أو وزنه فهو من الأعيان الربوية، وإن اختلفت بحيث يكون الشيء الواحد موزوناً في بلد، ومعدوداً في بلد، فلكل بلد حكم نفسه على ما هو المشهور بين الفقهاء، لأن الموضوعات يحكّم فيها عرف الناس وعاداتهم.
مما تقدم يتبين أن الأعيان الربوية هي كل ما كان من نوع المكيل والموزون، سواء كان حبّاً، أو معدناً، أو دهناً، أو طيباً، أو فاكهة، أو نباتاً، أو غير ذلك. فإن كان العوضان من غير المكيل والموزون جاز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً كما مر. أما في القرض فلا تجوز الزيادة إطلاقاً. وإن كان أحدهما يكال أو يوزن دون الآخر جاز البيع إطلاقاً مهما كان التفاوت نقداً ونسيئة، كبيع الثوب بالحنطة. وإن كان كل منهما يكال أو يوزن إلا أن أحدهما من غير جنس الآخر، كالأرز والسكر، جاز البيع متساوياً ومتفاضلاً، نقداً ونسيئة.
وإن كانا من جنس واحد فلا يجوز التفاضل بينهما لا نقداً، ولا نسيئة، كالسكر بالسكر، والأرز بالأرز. ويجوز بالتساوي نقداً، لا نسيئة، وهذا ما أجمع عليه غالبية الفقهاء، لأن للزمان قسطاً من الثمن.
لا ربا بين الوالد والولد:
المشهور بين الفقهاء أن لا ربا بين الوالد وولده - الوالد النّسبي لا الأب الرضاعي - ولا بين الزوج وزوجته، فيجوز لكل منهما أن يأخذ الفضل والزيادة من الآخر..
وأيضاً لا ربا بين المسلم وبين الحربيّ، على أن يأخذ المسلم الفضل دون العكس، أي أن المسلم يأخذ الزيادة من الحربيّ، ولا يعطيه. فقد روي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ليس بين الرجل وولده، وبينه وبين عبده، ولا بين أهله - زوجته - ربا»[*]، وقال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا، نأخذ منهم ألف ألف درهم بدرهم، ونأخذ منهم ولا نعطيهم»[*]، وهذا ما عمل به أبو حنيفة (رضي الله عنه)، حيث أباح للمسلم أن يأخذ الربا من الحربيّ[*].
والمشهور أيضاً بين الفقهاء أنه لا يجوز أخذ الربا من الذمي، وأن حكمه في ذلك حكم المسلم.
- وأما الأئمة الأربعة فقد اتفقوا على أنَّ الربا يدخل أيضاً في أجناسٍ أخرى غير التي ذكرت في الحديث قياساً عليها، ولكن تباينت آراؤهم في علة التحريم.
- قال الحنفية[*]: العلة في تحريم الزيادة هي الكيل والوزن؛ فكل ما تحققت فيه هذه العلة فإنه يدخله الربا، سواء كان مطعوماً أو غير مطعوم. فيقاس على القمح والشعير كل ما يباع بالكيل كالذرة والأرز والسمسم وغيرها.. ويقاس على الذهب والفضة كل ما يباع بالوزن كالنحاس والرصاص وغيرهما..
أما الذي لا يباع بالكيل ولا بالوزن، كالمعدود والمذروع، فإنه لا يدخله ربا الفضل، فيجوز أن يبيع الذراع من الثوب بذراعين من ثوب من جنسه بشرط القبض، كما يجوز أن يبيع البيضة ببيضتين والبطيخة ببطيختين وهكذا.. والضابط في ذلك أن المبيع إذا كان متحداً مع الثمن في الجنس كقمح بقمح، وكان يباع بالكيل والوزن فإنه لا يصح أن يوجد في أحد العوضين زيادة، سواء أكانت لأجل أو لغير أجل، فيحرم ربا الفضل وربا النسيئة، وذلك كالقمح والشعير والذهب ونحوها مما يباع كيلاً أو وزناً، لأنه قد يتحقق فيها القدر والكيل والوزن والجنس. أما إذا وجد أحدهما فقط فإنه لا يدخله ربا الفضل، وإنما يحرم فيه ربا النسيئة.
ومثال ما يتحقق فيه الجنس دون القدر: البيض والبطيخ ونحوهما من كل ما يباع عدّاً. ومثله ما يباع بالذراع. ومثال ما يتحقق فيه القدر دون اتحاد الجنس: القمح والشعير فإنهما يباعان كيلاً مع اختلاف جنسهما، فيحرم في هذا ربا النسيئة وهو البيع مع زيادة الأجَل، ولا يحرم ربا الفضل وهو البيع مع زيادة بشرط القبض. أما بيع الطعام بجنسه بدون زيادة فإنه لا يشترط فيه القبض.
وفيما يتعلق بالطعام قالوا: إن القدر الذي يتحقق فيه الربا هو ما كان نصف صاع فأكثر، أما إذا كان أقل من نصف صاع فإنه يصح فيه الزيادة. فيجوز أن يشتري حفنة من القمح بحفنتين يداً بيد أو نسيئة، وهكذا إلى أن تبلغ نصف صاع.
أما القدر الذي يتحقق فيه الربا من الموزون فهو ما دون الحبة من الذهب والفضة.
- وقال المالكية[*]: علة تحريم الزيادة في الذهب والفضة النقدية. أما في الطعام فإنَّ العلة تختلف في ربا النسيئة وربا الفضل. فأما العلة في تحريم ربا النسيئة في الطعام فهي مجرد المطعومية على غير وجه التداوي. فمتى كان طعاماً للآدمي فإنه يحرم ربا النسيئة سواء كان صالحاً للادخار والاقتيات أو لا. وعلى هذا فكل أنواع الخضار وأنواع الفاكهة، يدخلها ربا النسيئة ولا يدخلها ربا الفضل. فيصح بيع كل جنس منها بجنس آخر أو بجنسه مع زيادة بشرط التقابض في المجلس. أما بيعها كذلك لأجل فإنه ممنوع. فيصح أن يبيع الجزر بالخس بزيادة أحد الجنسين على الآخر بشرط القبض.
وأما العلة في تحريم ربا الفضل فهي أمران:
أحدهما: أن يكون الطعام قوتاً، بمعنى أن الإنسان يقتات به لتقوم عليه بنيته، بحيث لو اقتصر عليه، عاش بدون شيء آخر.
ثانيهما: أن يكون الطعام صالحاً للادخار، بمعنى أنه لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن لا حدّ لها، على ظاهر المذهب. والراجح هو ما جرى عليه العرف من كونه صالحاً للادخار. فكل ما وجدت فيه هذه العلة فإنه يحرم فيه ربا الفضل، كما يحرم فيه ربا النسيئة من باب أولى.
- وقال الشافعية: الأشياء المذكورة في الحديث تنقسم إلى قسمين: نقد وهو الذهب والفضة. ومطعوم وهو ما قصد ليكون طعاماً للآدميين غالباً.
وعلى هذا فكل ما وجد فيه النقدية «أي كونه ثمناً»، والطعمية «أي كونه مطعوماً» فإنه يدخل فيه الربا، ولا فرق في الثمن بين أن يكون مضروباً كالجنيه والريال والدينار والليرة، أو غير مضروب كالحلي والتبر، فلا يصح أن يشتري جنيهين بثلاث لأجَلٍ أو مقايضة.
أما عروض التجارة فإنه يصح بيعها ببعضها مع زيادة أحد المثلين على الآخر، لأنها ليست أثماناً فلم تتحقق فيها علة النقدية.
وأما المطعوم فإنه يشمل أموراً ثلاثة ذكرت في الحديث:
أحدها: أن يكون للقوت كالقمح والشعير، فيلحق بهما ما كان في معناهما كالأرز، والذرة والحمص والعدس.
ثانيها: أن يكون للتفكه، وقد نص الحديث على التمر فيلحق به ما في معناه كالزبيب والتين.
ثالثها: أن يكون لإصلاح الطعام والبدن، وقد نص الحديث على الملح فيلحق به ما في معناه من الأدوية كالسنامكي وغيرها من العقاقير المتجانسة. أما الجلد والعظم وإن كان يؤكل فإنه لم يخلق ليكون مطعوماً فخرج بذلك. ولا يدخل فيه أيضاً ما كان طعاماً للبهائم كالحشيش والتبن والنوى فإنه لا ربا فيه.
وخلاصة القول عند الشافعية أنهم قاسوا كل ما يصلح نقداً، وكل ما فيه طعم على الأشياء الستة المذكورة في الحديث. فأما ما ليس بطعم كالجبس فإنه يصح بيعه بجنسه متفاضلاً كعوض التجارة.
- وقال الحنبلية: العلة في تحريم الزيادة الكيل والوزن. فكل ما يباع بالكيل أو الوزن يدخله الربا، سواء كان قليلاً لا يتأتّى كيله كتمرة بتمرتين، أو لا يتأتّى وزنه كقدر حبة الأرز من الذهب، وسواء كان مطعوماً كالأرز والذرة، أو غير مطعوم كبذر القطن والبرسيم والكتّان، والحديد والرصاص والنحاس.
أما ما ليس بمكيل ولا موزون، كالمعدود فإنه لا يجري فيه الربا، فيصح بيع البيضة ببيضتين، والسكين بسكينين، وإن كانا من جنس واحد لاختلاف الصفة. وقيل: بكراهة ذلك.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢