نبذة عن حياة الكاتب
المعاملات والبينات والعقوبات

القضاء في الإسلام
معنـاه:
للقضاء، في اللغةِ، معان متعددة، ومنها الإتمام، كقوله سبحانه وتعالى: {إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يُوسُف: 68] أي أتمَّها.
ومنها القتل كقوله عزَّ وجلَّ: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القَصَص: 15] أي قتله. ومنها الحكم كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غَافر: 20]. أي يحكم بالحق؛ وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسرَاء: 23] أي أمر.
والقضاء شرعاً، هو الفصل في المنازعات التي تحصل بين الأفراد، أو بين الجماعات، أو بين الدولة والأفراد والمؤسسات في كل ما يسمى نزاعاً. فهو إذاً الحكم بين الناس بما أنزل الله تعالى، لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاء: 105]. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المَائدة: 49]، وقوله سبحانه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المَائدة: 42].
ويفترق الحكم بين الناس بنتيجة التقاضي عن الحكم الشرعي الذي هو قاعدة أصيلة في الإسلام تقوم على الكتاب والسنّة قبل كل شيء، وسائر المصادر أو الأدلة الأخرى التي يعتمدها الفقهاء في تطبيق الشرع الإسلامي على الناس. ولذلك يُميَّز بين القاضي والمفتي والمجتهد والفقيه..
فالقاضي هو الذي يفصل في النزاع بين المتخاصمين. والمفتي هو الذي يبيّن الحكم الشرعي في مسألة من المسائل. والمجتهد هو الذي يستدل على الحكم. والفقيه هو العالم بالحكم عن دليله.
ولا يجوز أن يتولى القضاء إلا الشخص الذي يجمع بين صفات أولئك جميعاً إنْ من حيث نطقه بالحكم كقاضٍ، وإخباره عن الحكم الشرعي كمُفْتٍ، واستدلاله على هذا الحكم كمجتهد، وعلمه به كفقيه.
ولا يوجد في الإسلام قاضٍ شرعي، وقاضٍ نظامي، فذلك من مستحدثات الغرب حين بسط حكمه ونفوذه على البلاد الإسلامية، بل يوجد قاضٍ يحكم بين الناس بما أنزل الله تعالى حين يولَّى منصب القضاء. ولذلك فإن مفهوم القضاء في الإسلام أنه وحدة غير قابلة للتجزئة أو التعدد، وإن كانت له فروع ودرجات بحسب القضايا وسير الدعاوى للفصل بها بالصورة النهائية.
القضاء فرض كفائي:
اتفق جميع الأئمة على أن القضاء فرض من فروض الكفايات، تماماً كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إذا قام به البعض سقط عن الكل، وإن ترك أثموا جميعاً. فكان من واجب الإمام أو الحاكم تعيين القضاة في كل زمان، وحيثما دعت الحاجة إليه من كلّ مكان.. وقد يصير القضاء واجباً عينيّاً بالفرض، كما لو لم يوجد أهل للقضاء سوى هذا الشخص المؤهل، ودعت الحاجة إليه.
ويعتبر القضاء من أخطر وأهم المناصب التي يتولاها إنسان. فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) تولى بنفسه القضاء في المدينة، وقد بيّن أهمية القضاء، وخطورة مهمة القاضي بقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، قاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة، وقاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير علم فهو في النار أو بلفظ: فهو على شفير جهنم»[*].
وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحكم بين الناس بالبيّنة وفقاً للقاعدة: «البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر»، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلّم):«إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار»[*].
وجاءت عدّةُ أسانيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) منها قوله: «القضاة أربعة: ثلاثةٌ في النار، وواحدٌ في الجنة، رجلٌ قضى بجور وهو يَعلمُ، فهو في النار، ورجلٌ قضى بجور وهو لا يعلم، فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم، فهو في النار، ورجل قضى بالحقِّ وهو يعلم فهو في الجنَّة[*].
وقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت تبين أهمية القضاء وخطورته، ومنها قول الإمام جعفر الصادق: «إن عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لشريح: يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي، أو وصيُّ نبي، أو شقي»[*]. ومنها أيضاً أنه (عليه السلام) قال: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزَّ وجلَّ، ممن له سوط أو عصا، فهو كافرٌ بما أنزل الله على محمد»[*]، والمقصود بقوله (عليه السلام): «ممن له سوط أو عصا» هو القاضي لأن له السلطة التامة في فرض العقوبة والعمل على تنفيذها.
وعندما بعدت أطراف الدولة الإسلامية عن المدينة، عَهِدَ الرسول الأعظم بالقضاء إلى بعض الصحابة الأخيار، فكان عمله من هذه الناحية بوصفه رئيساً للدولة، فبعث عليّاً (عليه السلام) إلى اليمن والياً وقاضياً وكذلك بعث إليها معاذ بن جبل (رضي الله عنه)، وولَّى عتَّاب بن أسيد على قضاء مكة بعد فتحها.
وسار الخلفاء الراشدون على منهج الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) فتولوا القضاء بأنفسهم في المدينة ثم ولوا القضاء خارج مركز الخلافة من رأوا فيه الكفاءة للمنصب. وكان عمر (رضي الله عنه) هو أول من ولَّى القضاة في الولايات.
شروط تولية القاضي:
قدَّمنا أن للقضاء في الإسلام منزلةً سامية بين جميع أعمال الدولة. وليس لأحد - أيٍّ كان - سلطة على القاضي في ممارسة قضائه، بل إنَّ جميع الناس خاضعون للأحكام التي يصدرها، وملزمون على تنفيذها. ولا يتأثر القاضي بالسياسة، ولا بميول الحكام، بل هو مستقل في عمله، يمارس سلطته في الحكم بين الناس، بما يتوصّل إليه فهمه للحكم الشرعي، وخوفه من الله عزَّ وجلَّ، إذ القضاء في النهاية فهمٌ وعلمٌ وتقوى. والقاضي يكون حريصاً على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. وهو عندما ينطق بالحكم فإن حكمه يكون نافذاً على جميع الناس، لا فرق بين الخليفة أو أي واحد من الرعية، لأن القاضي يعطي كل ذي حقٍّ حقه.
من هنا وجبَ أن تتوفر شروط معينة في مَنْ يتولى منصب القضاء. وقد اتفق الأئمة جميعاً على بعضها واختلفوا في بعضها الآخر.
أما الشروط التي أجمع الأئمة عليها فهي:
1 - أن يكون القاضي عالماً، عاقلاً، بالغاً، فقيهاً كي يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية من أدلَّتها القطعية، والحكم بموجبها. وعلى هذا فلا يجوز تولية الجاهل، والفاسق، والمجنون، والصبي القضاء مطلقاً.
2 - أن يكون مسلماً، إذ لا يجوز لغير المسلم أن يتولى القضاء بين المسلمين. وقد استدلوا على هذا الشروط بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً *} [النِّسَاء: 141]. وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»[*]، فدل قوله: «منكم» على تأكيد الآية الكريمة بوجوب كون القاضي مسلماً. إلاَّ أنه يجوز أن يقلَّد غيرُ المسلم القضاء بين أهل دينه فقط، ليحكم بينهم في أحوالهم الشخصية دون غيرها.
3 - الضبط: فلا يكتفي فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف، بل يجب ألاَّ يغلب عليه الذهول والنسيان والغفلة، احترازاً من ضياع الحق على أهله. كما يقتضي أن يكون سليم الحواس من السمع والبصر والنطق، ولديه من الذكاء ما يؤهله لمعرفة الحق من الباطل، والقدرة على جمع وسائل الإثبات ومقارنتها وتحليلها، والتثبت من صحتها وبطلانها.
وأما الشروط التي تباينت أقوال الأئمة بشأنها فهي:
1 - طهارة المولد:
وهو شرط قال به فقهاء الشيعة الإمامية عندما اعتبروا أن ابن الزِّنا لا يجوز أن يتولى القضاء. واستدلوا على شرط طهارة المولد: بأنّ ابن الزِّنا إما كافر، وإما مسلم غير مقبول الشهادة، وإذا لم تقبل شهادته فعدم قبول قضائه أولى.
2 - العدالة:
- قال الشيعة الإمامية: العدالة من أهم الشروط، ولا يجدي العلم بدونها شيئاً، مهما بلغ شأنه. وقد استدلوا على ذلك بقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى شريح: «لا يجلس مجلسك إلا نبي، أو وصي نبي، أو شقي»[*].
كما استدلوا على العدالة بقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم العادل بين المسلمين، أو لنبي أو وصي نبي»[*]. بل ذهب بعض فقهاء الإمامية إلى تحريم الرجل أخذ حقه، ولو كان حقّاً ثابتاً إذا ترافع به إلى غير عادل، وحكم له به. هذا في حين قال بعضهم الآخر: لو توقف حصول حقه على مراجعة الحاكم الجائر جاز، كما يجوز الاستعانة بالظالم على تحصيل حقه المتوقف على هذه الاستعانة، والإثم حينئذٍ على الممتنع عن إعطاء الحق لصاحبه.
- وقال الحنفية: إذا أقيم الحدّ على أحد فلا تقبل شهادته ولا يعين قاضياً.
- وقال المالكية والشافعية والحنبلية: لا يجوز أن يتولى القضاء الفاسق، ولا مرفوض الشهادة بسبب إقامة الحد عليه، وذلك لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *} [الحُجرَات: 6].
3 - الحرية:
- قال الشيعة الإمامية: إن إطلاق أدلة تولي القضاء تشمل كل من له الأهلية حرّاً كان أم عبداً. والأظهر عندهم عدم اشتراطها إذا أذن مولى العبد.
- وقال الأئمة الأربعة: الحرية شرط لأنه لا تصح ولاية العبد على الحر. وعلى كل حال لم يعد هذا الشرط مدار بحث اليوم، لعدم وجود الرق.
4 - الذكورية:
- قال الشيعة الإمامية والمالكية والشافعية والحنبلية: لا تتولى المرأة القضاء لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النِّسَاء: 34] ولقول النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعليٍّ (عليه السلام): «يا عليّ، ليس على المرأة جمعة... ولا تُوَلى القضاء»[*]، ولحديث: «لا يفلح قوم وَلِيَتْهُمُ امرأة» أو بلفظ آخر: «لن يفلح قومٌ وَلَّوا أمرهم امرأة»[*].
- وقال الحنفية: يجوز أن تتولى المرأة القضاء في الأموال، لأن شهادتها تجوز فيها، أما في الحدود والقصاص، فلا تعين قاضياً.
5 - الاجتهاد:
- قال الشيعة الإمامية والمالكية والشافعية والحنبلية (وبعض الحنفية): الاجتهاد شرط لتولي القضاء، فلا يولاَّه جاهل بالأحكام الشرعية، ولا مقلِّد قد حفظ مذهب إمامه دون معرفة أدلته.
والمجتهد الذي يستنبط الحكم من مصدره، ويطبقه على مورده على نوعين: مطلق، ومتجزي، فالمجتهد المطلق من له ملكة الاستنباط والتطبيق لجميع الأحكام الشرعية دون استثناء، والمتجزي، من يستطيعهما في بعض الأحكام دون بعض.. ولا يجوز أن يتولى القضاء، ولا الإفتاء، إلا المجتهد المطلق. قال الإمام الصادق (عليه السلام): «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكماً»[*].. فلفظ «أحكامنا» جمع مضاف إلى المعرفة يفيد العموم.
- وقال جمهور الحنفية: لا يشترط الاجتهاد في القاضي، ولكن أهلية الاجتهاد شرط للأولوية والندب والاستحباب، فيجوز تقليد غير المجتهد القضاء، ويحكم بفتوى غيره من المجتهدين. ولكن قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام (أي بأدلة الأحكام) لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد يقضي بالباطل من حيث لا يشعر.
ونظراً لعدم وجود المجتهد المطلق، قد قال الدسوقي (من المالكية)، وبعض الشافعية، والإمام أحمد، «الأصح أن يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد، أو أن يولى الأصلح فالأصلح في العلم والدين، والورع، والعدالة، الفقه، والقوة».
تعيين القضاء:
يعين القاضي وينقل ويعزل من قبل رئيس الدولة مباشرة، فهو صاحب الصلاحية في ذلك. ولكن نظراً لكثرة أعمال رئيس الدولة، فله أن ينيب عنه في هذه الصلاحية شخصاً هو قاضي القضاة، كما قدَّمنا، ويشترط فيه أن يكون رجلاً مسلماً، عدلاً، من أهل الفقه والاجتهاد كي يمارس صلاحية تعيين القضاة، وترقيتهم، ونقلهم، وتأديبهم، وعزلهم.
وأما الإشراف على إدارة المحاكم، أي تسييرها من الناحية الإدارية أو المالية، وكافة الشؤون غير القضائية الصرف، مثل تعيين الكتبة والموظفين الذين يتولون هذه الشؤون، فهو لرئيس الجهاز الذي يتولى إدارة الشؤون الإدارية للجهاز القضائي والتي هي شؤون تنظيمية ولا علاقة لها بالقضاء (بمعنى الحكم بين الناس، أو الفصل في النزاعات المعروضة على السلطة القضائية) فكل هذه الأعمال لها طابع إداريٍّ وليس قضائيًّا.
أما بالنسبة إلى تعيين قاضي القضاة وأوضاعه الوظيفية، فذلك يُعد من أعمال الحكم لا من الإدارة، ولذا جُعل هذا الأمر متصلاً بالإمام مباشرة، مثل تعيين أعضاء الهيئة التنفيذية، والولاة.
اختصاصات القاضي:
يجب على القاضي أن يستوحي في عمله، وقبل كل شيء، تحقيق العدل، أي الالتزام بالأحكام الشرعية وبكل ما هو حكم لله تعالى، معتمداً في ذلك على الدليل القطعي من القرآن والسنَّة.
واختصاصاته شاملة تتناول:
أولاً: فض المنازعات التي تقع بين المتداعين أو المتنازعين، وتتناول سائر شؤون الناس، سواء أكانت المنازعات تتعلق بالمعاملات، أم بالعقوبات، أم بالأحوال الشخصية، فإن القاضي يحسم - بالحكم - التداعي ويقطع التنازع.
ثانياً: النظر في مقتضيات النظام العام، ويجب الفصل فيها بالسرعة والشدة، لمنع ما يضر بحقِّ الجماعة، أو الحق العام. وهي ما يطلق عليه اسم الحسبة، والقاضي الذي يفصل فيها هو المحتسب، كما سنرى بعد قليل عند البحث في تشكيل المحاكم.
ثالثاً: الفصل في النزاع الواقع بين الناس والدولة، من جراء تصرفات الموظفين والعاملين الذين يرتكبون في ممارسة مهامهم مخالفات تؤدي للإضرار بالأفراد أو المؤسسات أو الهيئات الخاصة ونحو ذلك.
والقاضي الذي يفصل في مثل هذه النزاعات يطلق عليه اسم قاضي المظالم. ويمكن أن ينظر في تلك الأمور إما قاضٍ ذو ولاية عامة، وإما قاضٍ ذو ولاية خاصة كالقاضي الذي يحكم في الأحوال الشخصية، وإما قاضٍ ذو ولاية مكانية، أي الذي يفصل في النزاعات التي تقع ضمن منطقة معينة من البلاد.
حكم المجتهد:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران»[*].
وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): «إذا حبس أحدكم للحكم بعث الله تعالى له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه»[*].
وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»، كما قال (عليه السلام): «في الجامعة كلُّ حلالٍ وحرام، وكلُّ شيء يحتاج إليه الناس، حتى الأرش (دية الجراحات) في الخدش»..
وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على وجوب الحكم بين الناس، وعدم جواز الامتناع عن الفصل في المنازعات، حتى إذا لم يوجد الدليل القطعي، كان على الحاكم أو القاضي أن يجتهد ويفصل بما أراه الله تعالى حقّاً وصواباً.
ومع ذلك فإن حكم المجتهد قد يكون عرضة للنقض من مجتهدٍ آخر، ما دامت الغاية هي العدالة بذاتها. ولذلك أقر جميع الأئمة إمكانية نقض الأحكام، سواء كان النقض من مجتهد آخر، أم من هيئة محكمة أعلى.
- قال الشيعة الإمامية: إن حكم المجتهد لا يغير الحكم الواقعي عما هو عليه، فلو ظهر لمجتهد آخر - جامع لشروط الاجتهاد - خطأ المجتهد الأول، بطريق القطع واليقين، لا بطريق النظر والاجتهاد، جاز له نقضه، والحكم بخلافه. فالمعيار لنقض الحكم هو العلم بمخالفته والواقع والأدلة، لا لمخالفته لاجتهاد هذا أو غيره..
ويجوز كذلك نقض الحكم لإهماله الموازين الشرعية. فلو فرضنا أنه حُكم لأحد المتخاصمين بغير حق، فلا يجوز للمحكوم له، العالم بذلك، أن يأخذ الشيء المحكوم به، فيما بينه وبين ربه تعالى، لأن حكم الحاكم لا يغيّر الواقع الحق عما هو عليه، ولا يعفي من الإثم مع العلم. وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): «من أفتى الناس بغير علم فليتبوَّأْ مقعده من النار»[*] وعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: «من أفتى الناس بغير علمٍ ولا هدى من الله، لعَنَتْهُ ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقَه وِزْرُ مَن عملَ بفُتياه»[*].
- وقال فقهاء المذاهب الأربعة: إذا كان الحكم الذي اجتهد فيه معتمداً على دليل قطعي من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس الواضح والجلي فلا ينقض. وأما إذا خالف هذا الحكم دليلاً قطعيّاً، فإنه يُنقَض سواء من نفس القاضي الذي أصدره، أو من قاضٍ غيره.
هذا فيما خص نقض الحكم المبني على الاجتهاد. أما فيما خص نقض الحكم، بصورة عامة، فقد أجازه الفقهاء إذا صدر سهواً، أو ظهر فيه خطأ، فإذا اكتسب الحكم الدرجة القطعية، في آخر درجة من درجات المحاكم فإنه لا ينقض. وكذلك فإن الحكم السابق في قضية مماثلة لا ينقض. فقد قال عمر (رضي الله عنه): «تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي».
التحكيم:
وهو أن يتراضى الخصمان على شخص آخر ليفصل النزاع القائم بينهما. ودليله قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النِّسَاء: 35] وقد حكَّم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) سعد بن معاذ (رضي الله عنه) في يهود بني قريظة كما هو مشهور في التاريخ الإسلامي، وقد وافق (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الحكم الذي قال به سعدٌ، وعمل به...
ويجب أن تتوفر في المحكَّم شروط، أهمها بحسب رأي المذاهب:
- قال الشيعة الإمامية: يشترط في قاضي التحكيم ما يشترط في القاضي الذي نصَّبه الإمام، عدا الإذن، أي ما عدا توليته من الإمام بالخصوص. قال الإمام الصادق (صلى الله عليه وآله وسلّم): «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإني جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»[*].
- وقالت المذاهب الأربعة: يشترط في المحكَّم أن يكون أهلاً للشهادة، رجلاً كان أو امرأة، وأن تتوافر فيه هذه الأهلية وقت الحكم، وأن يكون النزاع في غير الحدود والقصاص، لأنهما من صلاحيات الإمام.
وقرار التحكيم ملزم للمتحاكمين عند الحنفية والحنبلية. وقد أجاز الحنفية لكل منهما الرجوع عن التحكيم قبل صدور القرار. وفي الراجح عند المالكية، عدم اشتراط بقاء رضاهما حتى صدور قرار الحكم، فلهما أن يرجعا معاً قبل صدوره. أما إذا رجع أحدهما، فقد قال البعض: له حق الرجوع، وقال البعض الآخر: ليس له حق الرجوع.
تشكيل المحاكم:
الأصل في القضاء أنه قضاء منفرد. فيعين قاض واحد للفصل في الخصومات، بحيث يكون في كل مدينة قاضٍ منفرد، أو عدة قضاة يجلس كل واحد من هؤلاء منفصلاً، ومستقلاً، للنظر في الدعاوى التي تقام أمامه. أي أنه يجوز أن يخصص لكل محلةٍ قاضٍ ينظر في النزاعات التي تحصل، كما يجوز أن يعين في المحلة الواحدة، أو في البلد الواحد، عدة قضاة للنظر في القضايا بحسب أنواعها.
وللمدعي أن يختار القاضي الذي يرفع إليه الدعوى، وليس للمدعى عليه ذلك، إذا كان في البلد عدة قضاة. وإذا كان القاضي واحداً في بلدٍ ما، أو في محلةٍ ما، فقاضي بلد المدعي، أو محلته، يكون القاضي المختص. وهذا الانفراد بالقضاء هو في القضايا العادية، أو في القضايا التي يحددها النظام القضائي ويجعلها من اختصاص الحاكم المنفرد.
أما في القضايا الهامة، أو القضايا الأخرى - غير الداخلة في اختصاص القاضي المنفرد - فتشكل المحكمة من هيئة يكون فيها أكثر من قاض، وهي تتألف عادة من رئيس ومستشارين، لأن المناقشة في الرأي توضّح حلّ المشكلة أكثر من الانفراد.
وهكذا فإنه يجوز أن يُخَصَّصَ القاضي المنفردُ بقضايا معينة، وفي حدودٍ معينة لقيمة الدوعاى، على أن يوكل أمر غير هذه القضايا إلى محاكم مؤلفة من عدة قضاة. ومن هنا جواز تعدد درجات المحاكم، وتعدد أنواعها من مدنية، وجزائية، ومن بدائيةٍ، واستئنافٍ، وتمييز، ونقض وما إلى ذلك.
فكون المحاكم على درجات - أي ذات قاض منفرد، أو ذات قضاة متعددين - فإن هذا ليس من وجهة النظر، ولا من الطريقة، بل هو من الأسلوب الذي يعيّنه نوع العمل.
وقد أقرَّ الجمهور، ومنهم فقهاء الإمامية، والحنفية، وبعض فقهاء الشافعية والحنبلية نظام تعدد القضاة في المحكمة الواحدة، أو اشتراك أكثر من قاضٍ للنظر في القضية الواحدة، وذلك لأن هذه الأمور تدخل في باب علم تنظيم القضاء فيجوز اعتماد التنظيم الذي يراه الإمام أصلح للأمة.
أنواع المحاكم:
بالإضافة إلى القضاة المنفردين، فقد عرف المسلمون محكمتين أخريين وهما: الحسبة، ومحكمة المظالم. وهذه لمحة عن كل منهما:
الحسبة: الحسبة، كما قال ابن خلدون في مقدمته هي: وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأساسها قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عِمرَان: 104]. وهي في حقيقتها وظيفة قضائية يتولاها شخص يعينه الإمام ويسمى والي الحسبة أو المحتسب.
والمحتسب هو القاضي الذي ينظر في المسائل التي تضرّ حقوق الجماعة، وتحتاج إلى سرعة الفصل، والشدة على المقضيِّ عليهم، والتنفيذ العاجل. وهذا يكون في كافة القضايا التي هي من الحقوق العامة، والتي لا يوجد فيها مُدَّع، على أن لا تكون داخلة في الحدود أو الجنايات وما شابهها. وبعبارة أخرى المحتسب هو قاضي المخالفات التي تُشكِّل اعتداء على الحق العام. ويملك صلاحية الحكم في المخالفة، وتنفذ الشرطةُ هذا الحكم في الحال.
وللمحتسب الحق في أنْ يحكمَ بالتغريم، والضرب، والحبس، والنفي، وما شابه ذلك. وله السلطة في إتلاف البضائع الفاسدة وإراقة السوائل المحرّمة والممنوعة، كالخمور واللبن المغشوش الخ.
ومن صفات المحتسب أن يكون مسلماً عدلاً من أهل الفقه. غير أنه لما كان منصب المحتسب حساساً جدّاً، لأنه يتعلقُ بالأمور العامة، فمن المستحسن أن تكون له صفات كمالية تمكنه من إتقان علمه، إذ قد يتعرض للرشوات والمغريات، وتبذلُ له الشفاعات المسموعة.
ومن صلاحيته المراقبة والحكم والتنفيذ. وتتناول صلاحيته أهمَّ ما يلي[*]:
1 - الإشراف على نظام الأسواق، والكشف على الموازين والمكاييل، وتفتيش الأفران والمطاعم والفنادق والمقاهي وسائر الأمكنة العامة.
2 - المحافظة على حركة المرور في الشوارع والطرقات، ومنع أصحاب السيارات والقطارات والمراكب والحيوانات أنْ يحمِّلوا أكثر مما يجب حملُه من الناس والسلع.
3 - منع المنكر بكل أشكاله وألوانه والمحافظة على الآداب العامة.
4 - مراقبة العبادات: يأمر المسلمين بالصلاة، ويمنعهم من الإفطار في رمضان.
إلا أن الحسبة لم تأخذْ شكلها التنظيمي إلا في أوائل عهد العباسيّين. فقد ولى المنصور أبا زكريا (يحيى بن عبد الله) حسبة بغداد. ثم جاء الرشيد وعين القاضي المحتسب.
فقد جاء في كتاب «حضارة الإسلام في دار الإسلام»: «لما اتسع نطاق التجارة في بغداد، وأصبحت مورداً لأهل الإعواز من كافة البلاد، يتناولون فيها حاجاتهم من المال، وقع غشٌّ فاحش في التجارة، وصارت الصيارفُ من اليهود وغيرهم يعطون مالهم بالربا على أنْ يُعادَ عليهم المثل في آخر العام مثلين وأكثر. فأقام الرشيد محتسباً يطوفُ بالأسواق، ويفحصُ الأوزانَ والمكاييل من الغش».
وجاء في كتاب «التمدن الإِسلامي» عن الحسبة: «كان الموظف الذي يشغل هذا المنصب يُسَمَّى المحتسب. وهي وظيفةٌ أخذت شكلها التنظيمي الدائم في زمن الخليفة العباسي المهدي، وظلت من جملة التشكيلات التي أخذت بها الممالك الإِسلامية فيما بعد. وكان يضطلعُ المحتسب بمراقبة الأسواق، وحمل الناس على المحافظة على الآداب، كما يطوفُ مع توابعه في الشوارع ليلاً ونهاراً للتأكد من تنفيذ تعليمات الشرطة، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاقبة من يحاول الغش في المقاييس والمكاييل والموازين».
محكمة المظالم:
عرَّف الماوردي محكمة المظالم[*] فقال: «النظر في المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف في الرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة. فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر الفقه، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين».
إن القاضي في غير محكمة المظالم ينظر ويفصل في الخصومات والمنازعات الناشئة بين الناس في شتى القضايا التي تعرض عليه. أمّا القضايا التي تتعلقُ بأعمال الأشخاص الرسميين كرئيس الدولة، وأعضاء الهيئة التنفيذية، والولاة، وأعضاء مجلس الشورى، والموظفين، فإنَّ الذي ينظرُ فيها هو قاضي المظالم. وهو قاض يُعيَّنُ لرفع كل مظلمة تحصل على أي مواطن من الدولة أو أحد موظفيها. ويُرجع إليه لبيان معنى نص من النصوص الشرعية أو النصوص التشريعية.
ويشترط في قضاة المظالم أن يكونوا رجالاً مسلمين عدولاً من أهل الفقه والاجتهاد. ويجب أن يكونوا من أكثر القضاة عِلماً وفهماً وتقوى، لأنهم يتولون أعلى محكمة في الدولة. وهي تماثل ما يعرف بمجلس شورى الدولة في الأنظمة الحديثة، ولها اختصاصات المجلس الدستوري الذي ينظر في ملاءمة أو مخالفة القوانين والأنظمة للدستور.
صلاحيات محكمة المظالم:
تتألف محكمةُ المظالم من عدة قضاة، لأنها تنظرُ في الأمور الهامة، ويعين عددهم حسب الحاجة. ولها صلاحية النظر والفصل في الأمور الآتية:
1 - القضايا التي يقيمها الأفراد والجماعات من المواطنين، ضد رئيس الدولة، أو الهيئة التنفيذية، أو أعضاء مجلس الشورى، أو الولاة، أو أي موظف من موظفي الدولة، إذا كانت هذه القضايا تتعلق بأعمالهم في الدولة. أمَّا إذا كانت تتعلق بأشخاصهم أو بأفعالهم الشخصية فتقام أمام المحاكم القضائية الأخرى.
2 - رواتب الموظفين، وأجور العمال، وتقدير الأعمال، وأمور الضرائب.
3 - الفصل في معنى نص من نصوص التشريع الدستوري، أي حق إلغاء أي مادة من القانون إذا كانت مخالفة للشرع.
4 - الفصل في مخالفة رئيس الدولة للشرع في تطبيقه الأحكام الشرعية، أو عدم حملة للدعوة الإسلامية، أو إهماله لأمور الأمة، أو عجزه عن القيام بأعباء الحكم.
تعيين قضاة المظالم وعزلهم:
قضاة محكمة المظالم، من حيث تعيينهم، هم كباقي القضاة يعينهم قاضي القضاة. كما أن لرئيس الدولة صلاحية تعيينهم. أما عزلهم فهو ليس من صلاحية رئيس الدولة، ولا من صلاحية قاضي القضاة بل هو من صلاحية محكمة المظالم نفسها.
أصول التقاضي أو الدعوى:
تعريف الدعوى: هي مطالبة شخص لآخر بحق يدعيه عليه. وقد يكون هذا الحق عينيّاً، أو ديناً، أو خياراً، أو شفعة، أو بنوّةً، أو زوجية، أو جنابة، أو مخالفة، وما إلى ذلك.. وقد جرى تعريفها أيضاً على أنها «إخبار بحقٍّ لإنسان على غيره عند الحاكم»[*].
وأركان الدعوى ثلاثة: المدعي، والمدعى عليه، والمدعى به.
أما شروطها فكثيرة، وهي تعود إلى المدعي، والمدعى عليه، والمدعى به، كما تعود إلى طرق الإثبات.
وقد جرى تعريف كل من المدعي والمدعى عليه. فقال بعض الفقهاء: المدعي هو الذي لو سكتَ سُكِتَ عنه، أي إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها. أما المدعى عليه فهو من يجبر على الخصومة. وقال آخرون: المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حقٍّ في ذمته، والمدعى عليه من ينكر ذلك[*].
وقد يتحول المنكر إلى مدع، والمدعي إلى منكر، كما لو ادعى شخص على آخر بدين، فادعى هذا الأخير الوفاء والتسديد، فيكون مدعياً، ويكلف بالإثبات.
وفي الحالة التي يتحول فيها المدعى عليه إلى مدع، يطلق عليهما معاً: المتداعيان. كما لو اتفق صاحب بناء على تأجير رجلٍ الشقة رقم 3 في بنائه بملبغ كذا، وقبل الانتقال إلى المأجور، وقع الخلاف وقال المستأجر بل الشقة رقم 5، فيكون كل منهما في هذه الحال مدعياً ومنكراً في آن معاً. ويسمي الفقهاء هذين بالمتداعيين، ودعواهما بالتداعي. وعلى القاضي أن يطبق على كل منهما قاعدة المدعي والمنكر في آنٍ واحد. فإن كان لأحدهما بينة أقوى من الآخر أخذ القاضي بها، وإذا لم توجد، أو لم يكن لأحدهما بينة، عرض القاضي عليهما اليمين، فإذا حلف أحدهما، ونكل الآخر، أخذ بقول الحالف، وإن نكلا، أو حلفا كلاهما، فسخ الإيجار، مما يعني ردّ الدعاوى في مثل هذه الحالات لعدم ثبوت الأدلة أو البراهين من كلا المتداعيين..
آراء المذاهب في شروط الدعوى:
شروط المدعي:
- قال الشيعة الإمامية: يشترط في المدعي:
1 - العقل والبلوغ، فلا تسمع الدعوى من الصبي، حتى ولو كان مميِّزاً، لعدم صحة الإقرار منه، ولا حلف اليمين. وقد ذهب بعضهم إلى قبول الدعوى من الصبي المميِّز، إذا كان قادراً على المرافعة والمدافعة، وبخاصة إذا اعتدي عليه أو على ماله، وخِيفَ قرار المدعى عليه، وتفويت الحق على الصبي، فإذا حكم له بحقه لا يسلم إليه، بل إلى وليه.
2 - أن يكون رشيداً، فلا تسمع الدعوى من السفيه المحجور عليه في التصرفات المالية، وتسمع في غيرها، كما في حال الاعتداء عليه مثلاً.
3 - أن تكون له مصلحة في إقامة الدعوى، سواء أقامها بنفسه، أو من له حقُّ إقامتها عنه بالولاية، أو الوكالة، أو الوصاية، أو القيمومة، أو الأمانة.
4 - أن يكون جازماً فيما يدعيه كما ذهب إليه بعض الفقهاء. ولكن غيرهم قال: ليس الجزم شرطاً بل يكفي مجرد الخصومة، ولو كان سببها الظن، أو الوهم. وهذا هو الرأي الصحيح، وبخاصة في حالات الظن بالقتل، والسرقة، وما إلى ذلك..
- وقال فقهاء المذاهب الأخرى (ولا سيما الحنفية): يشترط لقبول الدعوى من المدعي أن يكون عاقلاً فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز، إذ يمارس الدعوى عن القاصر وليه.
شروط المدعى عليه:
- قال الشيعة الإمامية:
1 - يشترط في المدعى عليه العقل والبلوغ، فمن كان له حق على مجنون أو صبي، أقام الدعوى بوجه الولي. ويجوز للقاضي إدخال الصبي في الدعوى المقامة عليه، إذا كان مميِّزاً قادراً على المدافعة.
2 - أن يكون المدّعى عليه معيّناً بالذات. فلو قال المدعي: سرق مالي أحدُ هذَين الشخصين فلا تسمع دعواه. ولكن المحققين من فقهاء الإمامية قالوا: بجواز سماع الدعوى بحيث يحفظ القاضي جميع أدلتها وما يتعلق بها إلى أن يعرف المدعي غريمه بالذات.
3 - جواز إقامة الدعوى على الغائب، ويباع ماله من أجل قضاء ديونه بعد ثبوتها، إلاَّ أن الدفع إلى الدائن لا يكون إلاَّ بكفيل، ويكون الغائب على حجته.
- وقال الحنفية: يشترط في المدعى عليه، كما في المدعي، أهلية العقل والتمييز، فلا تصح الدعوى على المجنون والصبي غير المميز، ولا تسمع البيِّنة عليهما.
ويجب أن تكون الدعوى على خصم حاضر عند سماع الدعوى والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائب، كما لا يقضى على غائب، سواء وقت الشهادة أم بعدها، وسواء كان غائباً عن المجلس (أي المحكمة) أم عن البلد حيث يوجد القاضي.
- أما بقية المذاهب: فقد أجازوا أن يحكم القاضي على الغائب إذا أقام المدعي البيِّنة على صحة دعواه في الحقوق المدنية. أما في الحدود الخالصة لله تعالى فلا يحكم عليه لأنها مبنية على المسامحة والدرء والإسقاط.
شروط المدعى به:
اتفق جميع الأئمة على أنه يجب أن تتوفر في المدعى به الشروط التالية:
1 - أن يكون معلوماً، وذلك بتعيين صفاته المميزة ولا سيما في المنقولات، وبتعيين حدوده في الأموال غير المنقولة. وقد استثنى فقهاء الشيعة الإمامية الوصية، وأجازوها بالمجهول شرط إقامة البيِّنة على صدق الدعوى وترك الخيار للوارث في التعيين.
2 - أن يكون معقولاً أو مقبولاً: فلو ادعى فقير الحال على أحد بأنه أقرضه مبلغاً من المال. أو إذا ادعيَ على شخص بطلب صدقة، وهي تبرع لا يلزم به الإنسان. أو إن ادعى الأصغر على الأكبر منه سنّاً أنه ولده فلا تقبل مثل هذه الدعاوى عقلاً، ولعدم إمكانية إثباتها واقعاً.
3 - أن يكون المدعى به قابلاً للتملك، فلو ادعى أحدهم بدينٍ سببه القمار، أو الربا، أو أي شيء محرم، فلا تسمع دعواه.
وقد قسم الفقهاء، بالاستناد إلى هذه الشروط، الدعوى إلى عدة أقسام:
- الدعوى المنتجة، فلا تسمع إذا كانت عقيمة. كما لو تنازع اثنان في مساحة الكرة الأرضية أو الشمس، أو كما لو ادعى شخص الهبة قبل القبض، لأنها غير لازمة في هذه الحال، حتى ولو اعترف المدعى عليه.
- الدعوى المقبولة: وهي التي تتوفر فيها شروط الصحة، وفقاً للشروط المتقدمة بالمدعى به. ومن أحكامها: حضور المدعى عليه إلى المحكمة، وحلفه اليمين إذا أنكر المدعى به بعد ثبوت حق المدعي بطرق الإثبات المشروعة وفقاً لقاعدة: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر».
- الدعوى العقيمة أو المرفوضة، وهي التي لا تتوفر فيها الشروط لقبولها أصلاً، كما لو ادعى مثلاً أحدهم بشيء مجهول.
البيّنات أو طرق الإثبات:
تعددت أنواع البيّنات في كتب الفقه الإسلامي فجاءت في بعضها على الشكل التالي: الإقرار، والكتابة، والقرائن، والشهادة، واليد، والعرف والاستفاضة، وعلم الحاكم، واليمين. وجاء في بعضها الآخر أنها: الشهادة، الإقرار، اليمين، الكتابة، القرائن، العلم الشخصي للحاكم، الخبرة والمعاينة، كتاب القاضي إلى قاضٍ آخر.. واكتفى بعضها بالبحث في الشهادة، والكتابة، واليمين، فقط كطرقٍ للإثبات.
وفي رأينا أن طرق الإثبات التي يمكن الاعتماد عليها في مقام النزاع والتخاصم هي أربع فقط: الإقرار، والكتابة، والشهادة، واليمين. وما عداها وإن كان من وسائل الإثبات الشرعية إلاَّ أنها لا تشكل بيّنات حاسمة مثل الأربع المذكورة التي جاء الدليل عليها من الكتاب والسنة، كما سنرى.
وعلى الرغم من أن البيّنات الأساسية أربع - كما قلنا - إلاَّ أننا سوف نعدد آراء الفقهاء في هذه البيّنات، وفي وسائل الإثبات الأخرى توخياً للفائدة، وزيادة في الإيضاح:
1 - الإقـرار:
ودليله في كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله الكريم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ *} [البَقَرَة: 84]، أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته، فالله سبحانه وتعالى قد أخذهم بإقرارهم، فكان حجة عليهم. ولذلك كان الإقرار حجة على صاحبه.
- قال الشيعة الإمامية: الإقرار حجة على المُقِرِّ وحده، وهو الذي يؤخذ به دون سواه. وهذا يتفق مع القوانين الحديثة التي نصت على أن حجة الإقرار قاصرة على المُقِرِّ وحده.
ويفترق الإقرار بكونه حجة على المُقِرِّ عن البيِّنة التي هي حجة متعدية على الجميع، كما وأن الحق يثبت بمجرد وقوع الإقرار، بدون توقع صدور حكم عن القاضي، في حين أنه لا يثبت في البيّنة بمجرد حصولها، بل لا بد من حكم. قال جعفر الصادق (عليه السلام): «حدثني بعض أهلي أن شابّاً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأقرَّ عنده بالسرقة. قال: فقال له علي (عليه السلام): إني أراك شابّاً لا بأس بهبتك (بهيئتك) فهل تقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبتُ يدك بسورة البقرة..»[*]. ثم قال الإمام (عليه السلام): «إذا قامت البيِّنة فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقر الرجل عن نفسه، فذاك إلى الإمام، إن شاء عفا، وإن شاء قطع»[*].
وهكذا فإنَّ الإقرار حجة على المُقِرّ ما لم يُعلم كذبه، أو ما لم تقم حجة شرعية على خلافة، فإذا كان ذلك كان الإقرار لغواً. ومثله إذا قامت البينة الشرعية على أن الإقرار قد بني على الخطأ، أو الإكراه...
ولذا انعقد الإجماع عند فقهاء الإمامية على أن الشرط الأساسي لقبول الدعوى أن لا يكذّبها العقل أو الشرع، أو ما جرت عليه العادة، والمشهور عند الفقهاء أنه «لا إنكار بعد إقرار» فإن لم يقترن الإنكار بسبب معيَّن، أو لم يدَّع معه شيئاً، أو ادعى أمراً غير معقول، فلا يلتفت إلى الإنكار، ما لم يقر بالزِّنا مثلاً مرة واحدة، ثم ينكر فحينئذٍ يسمع منه الإنكار إطلاقاً ويسقط عنه الحد.
وقد اتفق فقهاء الإمامية أيضاً على أن الزِّنا لا يثبت بالإقرار مرة واحدة سواء أكان من الرجل أو المرأة، بل لا بد من تكراره أربع مرات، مع كمال المُقِرّ بالبلوغ والعقل والاختيار والحرية. كما اتفقوا على أن كل ما يوجب الحد - غير الزِّنا - من شرب المسكر، والسرقة، والقذف، لا يقام فيه الحد إلا بالإقرار مرتين مع العقل والبلوغ والاختيار.
- وقال الأئمة الأربعة: يصح الإقرار بالحق من الحر البالغ العاقل المختار. واشترطوا لصحة الإقرار ما يلي:
- العقل والبلوغ: فلا يصح إقرار المجنون، والصبي غير البالغ لقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»[*].
- الاختيار: لعدم صحة إقرار المستكره، وذلك لقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم):«وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»[*].
والإقرار عند الأئمة الأربعة، كما عند الشيعة الإمامية، هو حجة على المُقِرّ نفسه، فلا يتعداه إلى غيره، فإذا قال رجل: إن إبراهيم له عليَّ وعلى يوسف دين، فلا يثبت هذا الإقرار على يوسف.
2 - الكتابـة:
لقد فرض الله تعالى كتابة الدين محافظة على الحق، وذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البَقَرَة: 282]. ولم يفرق القرآن الكريم بين دينٍ قليل أو كثير، كما هو الحال في القوانين الوضعية التي ألزمت الكتابة إذا زادت الديون غير التجارية على حد معيَّن.. بل ألزم الكتابة في الدين لأنه حق، والحق لا يتجزأ، وإذا كان القرآن الكريم لا يوجب الكتابة في المواد التجارية، لأن طبيعة التجارة تستدعي السرعة في المعاملة، إلاَّ أَنه قيد التجارة بالحال، أي أن يكون البيع بالنقد لا بالنسيئة، ومع ذلك فقد فرض وجود شاهدين على الكتابة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البَقَرَة: 282].
أما الفقهاء فأكثرهم، ومن مختلف المذاهب، لم يوجبوا الكتابة في الدين، ولا في البيع، وما إليه، وحملوا الأمر بالكتابة في الآية الكريمة على الاستحباب، بل إن كثيراً منهم لم يتعرض في باب الدين لحكم الكتابة سلباً أو إيجاباً. أما حجتهم في ذلك فهي أن المدعى عليه إن اعترف بالكتابة دخلت في باب الإقرار، وإن أنكرها وكان عليها شهود كانت أيضاً شهادة الإقرار، وإن كانت بلا إقرار ولا شهود أهملها القاضي.
هذا وقد ذكر الفقهاء أن الوراث إذا وجد وصية من المورِّث مكتوبة بخط يده، أو مالاً مكتوباً عليه منه أنه وديعة، أو وجد كتاباً بخط يده على وقف.. قالوا: إن كل هذه الأمور ليست بشيء إلا إذا أقرَّ بها الكاتب (المورث) قبل موته، أو علم الوارث بصحتها علماً قاطعاً. وهذا يدل على أن الفقهاء كانوا ولا يزالون يتوقفون عن الحكم بالأموال والعروض استناداً إلى كتابة لم تثبت ببيِّنة ولا بإقرار.
- وقال فقهاء المذاهب الأربعة: إن الكتابة حجة من قبيل الإقرار لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البَقَرَة: 282]. وقد قال قال بعض فقهاء الحنفية: «يعمل بدفتر السمسار والصراف والبائع، لأن كلًّا من هؤلاء لا يكتب في دفتره إلاَّ ما له، وما عليه»[*].
3 - الشـهـادة:
أولاً: مشروعيتها ومعناها:
تأتي الشهادة بمعنى الحضور، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البَقَرَة: 185] وتأتي بمعنى الإخبار عن يقين، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [المجَادلة: 6].
وقد وردت في القرآن الكريم آيات بيّنات عن الشهادة، ومنها قوله عزَّ وجلَّ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البَقَرَة: 282]. وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطّلاَق: 2].
وقد جعل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) الشهادة حجة المدعي فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): «البينة على المدعي»[*]. وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) للشاهد:«هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد، وإلاَّ فدع»[*]. والشهادة واجبة التلبية عند الدعوة إليها، وهذا ما يقال له تحمّل الشهادة، ومعنى هذا التحمُّل أن يدعوك إنسان لتشهد له على شيء فيجب عليك أن تلبي، ولا يجوز لك الرفض من غير عذر.
قال تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البَقَرَة: 282].
أما معنى أداء الشهادة فهو الإدلاء بها أمام الحاكم إذا دعي لها، وهذا الإدلاء واجب، تماماً كالتحمل، لقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البَقَرَة: 283]. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ} [البَقَرَة: 140].
- وقد اشترط الحنفية لتحمل الشهادة ثلاثة شروط[*]:
الأول: أن يكون الشاهد عاقلاً، أي مميزاً، فلا تصح شهادة المجنون والصبي غير المميز.
الثاني: أن يكون بصيراً وقت التحمل، فلا يصح التحمل من الأعمى. إلاَّ أن الحنبلية[*] أجازوا شهادة الأعمى فيما يسمع كالبيع والإجارة ونحوها إذا تيقن من المتعاقدين وسماع كلامهما.
الثالث: معاينة المشهود به بنفسه، لا بواسطة غيره، إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع مع الناس والاستفاضة.
»وتصح الشهادة بالتسامع في النكاح، والنسب، والموت، ودخوله الرجل على امراته، وولاية القاضي، فللشاهد أن يشهد بهذه الأمور إذا أخبره من يثق به استحساناً».
- وقال المالكية[*]: تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة، منها: عزل قاض،أو وال أو وكيل، وكفر، وسفه، ونكاح، ونسب، ورضاع، وبيع، وهبة، ووصية.
ثانياً: شروط الشهادة:
- قال الشيعة الإمامية: يجوز تصحيح الشهادة والتغيير فيها لإثبات الحق إلى صاحبه. وقد روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إذا أردت أن تقيم الشهادة فغيِّرها كيف شئت، ورتِّبها وصحِّحها بما استطعت... وإن للشاهد إقامة الشهادة بتصحيحها بكل ما يجد له السبيل من زيادة الألفاظ والمعاني، وبالتفسير في الشهادة ما به يثبت الحق، ولا يؤخذ به زيادة على الحق، وإن له بذلك مثل أجر الصائم المجاهد بسيفه في سبيل الله تعالى:»[*] وهذا يعني جواز تصحيح الشهادة المؤدِّية إلى إحقاق الحق، وإبطال الباطل.
أما شروطها عندهم فهي:
1 - الوضوح: أن تكون صريحة، واضحة، ويكتفى بكل لفظ يدل عليها كأشهد، وأتيقن وما إلى ذلك..
2 - المطابقة: أي تطابق شهادة كل من الشاهدين مع شهادة الآخر في المعنى، فإذا اختلفا فيه ردت شهادتهما. وإذا شهد واحد بالإقرار بألف، والآخر بالإقرار بألفين، يثبت الألف بالشهادة التامة. أما الألف الثانية فلا تثبت إلا بضم اليمين إلى شهادة من شهد بألفين.
3 - النفي: أن لا تكون الشهادة على النفي المحض، لأن الشاهد يجب أن يكون عالماً بما يشهد به إذ إن النفي لا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى. وقد استثنى الفقهاء من ذلك الشهادة بالإعسار شريطة أن يكون الشاهد مطّلعاً على أحوال من شهد بفقره، وعارفاً بأموره الخاصة لمعاشرته الأكيدة له.
4 - العلم: فلا تقبل الشهادة إذا كان سببها الظن، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسرَاء: 36] وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم):«إذا رأيت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» - وقد تقدم ذكره - ويتأتى العلم ويحصل من المشاهدة والعيان، مثل أن يرى الشاهد فعل القتل، أو السرقة فيشهد بما رأى. وينشأ العلم أيضاً من التواتر والاستفاضة مثل أن يستفيض ويشاع بين الناس أن هذه المرأة هي زوجة فلان، وهذا الولد ابنه، فيشهد بما سمع وعلم.
ويشمل العلم أيضاً العلم المتولد عن علم آخر بحسب العادة مثل أن ترى رجلاً يتصرف في دار ببناء وهدم وإيجار، دون أن يعارضه أحد، فيحصل لك من العلم بأنها ملكه، فتشهد له بالملك[*].
- والمذاهب الأربعة متفقة مع الإمامية على الشروط المتقدمة للشهادة من حيث اللفظ والموافقة للدعوى، ومن حيث مكان الشهادة في مجلس القضاء، ومن حيث تعدد الشهداء (رجلين، أو رجل وامرأتين) والاتفاق في الشهادة في حال التعدد، أو الاختلاف في جنس الشهادة كأن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث، وما إلى ذلك[*].
ثالثاً: شروط الشاهد:
اتفق الأئمة جميعاً على أن الشاهد يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
1 - العقل: إذ من شروط الشاهد أن يميز المشهود به، والمشهود عليه، والمشهود له.
2 - البلوغ: فلا تقبل شهادة الصبي غير المميز.
3 - الإسلام: فلا تقبل شهادة كافر على مسلم. وتقبل شهادة كل أصحاب ملة على ملتهم وفقاً لمعتقدهم.
وقد أجاز الأئمة شهادة اثنين من أهل الكتاب على وصية مسلم في السفر، على أن يُستحلفا بعد الصلاة بحضور جمع من الناس أنهما ما خانا، ولا كتما، ولا اشتريا به ثمناً قليلاً، وذلك عملاً بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المَائدة: 106]. وقد أجاز الحنفية شهادة الكافر في الوصية في السفر، استناداً إلى نفس نص الآية الكريمة المذكورة.
وذهب بعض فقهاء الإمامية إلى أنه لا يشترط أن يكون ذلك في السفر والغربة، بل تجوز شهادة غير المسلمين من أهل الكتاب في الوصية إذا لم يجد الموصي شاهدين مسلمين يشهدان على وصيته. وحملوا قيد السفر في الآية الكريمة على الغالب.
4 - العدالة: لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطّلاَق: 2]، ولذلك انعقد الإجماع على عدم قبول أو صحة شهادة الفاسق..
ولئن اختلف الفقهاء في معنى العدالة، فإن المأثور عن المسلمين أن العادل هو الأمين، الملتزم بأحكام دينه بصورة فعلية، وليس بالقول فقط، والذي لا يؤثر دنياه على دينه بحال من الأحوال، ولأي سبب من الأسباب. ويستأنس لذلك بما جاء في بعض الآثار من أن المؤمن المتدين هو الذي لا يرتكب كبيرة، ولا يداوم على صغيرة. قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «أَشهِدوا من ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته»[*].
أما طريق ثبوت العدالة ومعرفتها فهو التجربة والمخالطة، أو شهادة عدلين، أو الشياع المفيد للعلم.
5 - العداوة: اتفق الفقهاء على أن شهادة العدو تقبل لصالح عدوه إذا كان عدلاً، ولا تقبل إذا كانت عليه. قال الإمام الصادق (صلى الله عليه وآله وسلّم): «لا تقبل شهادة ذي شحناء، ولا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غَمَرٍ (حقد) على أخيه. ويرد من الشهود الظنين والمتهم والخصم»[*].
6 - القرابة: وجلب النفع، أو دفع الضرر.
- قال الشيعة الإمامية: إن النسب وإن كان قريباً لا يمنع من قبول الشهادة. فتقبل شهادة الوالد لولده وعليه، والولد لوالده، والأخ لأخيه وعليه. وأحد الزوجين للآخر وعليه، والصديق لصديقه. وقد استدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *} [الأنعَام: 152]، وقوله تبارك وتعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النِّسَاء: 135].
وقالوا: لا تقبل أية شهادة تجر نفعاً للشاهد، أو تدفع عنه ضرراً كشهادة الشريك لشريكه فيما هما فيه من شركة. ولا تقبل شهادة الغريم بمالٍ لمديونه المفلس المحجر عليه، لأن حقه يتعلق بالمال الثابت. وتقبل شهادة الغريم لمديونه الموسر، والمعسر قبل الحجر. ولا تقبل شهادة الوكيل للموكل فيما هو وكيل فيه، ولا شهادة الولي والوصي في محل تصرفهما. وتقبل شهادة الوكيل على الموكل، والولي على المولّي، والوصي على الموصي[*].
- واتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أن شهادة المتهم ترد. والتهمة أن يجلب الشاهد إلى المشهود له نفعاً أو ضرراً، بسبب القرابة أو الخصومة أو العداوة. ولذلك قالوا: لا تقبل شهادة الأب لولده، ولا الأم لولدها، ولا الخصم لخصمه كالوكيل والموصى عليه وهو اليتيم، ولا العدو على عدوه لقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين»[*]، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غَمَرٍ على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع (خادم القوم وأجيرهم) لأهل البيت»[*] أي الذي ينفق عليه من قبلهم.
7 - شهادة الأعمى والأخرس:
- قال الشيعة الإمامية: تقبل شهادة الأعمى والأخرس فيما يمكنهما العلم به.
ويشهد الأخرس بالإشارة، فيكتفي بالظاهر منها، كما يكتفي بالظاهر من اللفظ. ويمكن للقاضي أن يستعين بعدلين عارفين ليترجما له إشارة الأخرس، تماماً كالترجمة من لغة أجنبية.
- قال أبو حنيفة، وتلميذه محمد، والشافعية: لا تقبل شهادة الأعمى، لأنه لا بد من معرفة المشهود له والإشارة إليه عند الشهادة، ولا يميز الأعمى ذلك إلاَّ بنغمة الصوت، وفيها شبهة. وأجاز المالكية والحنبلية وأبو يوسف شهادة الأعمى إذا تيقَّن الصوت، لأن السمع أحد وسائل العلم.
أما الأخرس فلا تقبل شهادته عند الحنفية والشافعية والحنبلية وإن فهمت إشارته، لأن الشهادة تتطلب اليقين. وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه.
8 - شهادة المتبرع: المتبرع هو الذي يدلي بالشهادة في مجلس الحكم قبل سؤال الحاكم واستنطاقه له. وقد اتفق فقهاء الإمامية على أن شهادة المتبرع تُردُّ إذا شهد بحق من حقوق الآدميين كالدين والهبة والبيع وما يوجب الدية والقصاص. أما شهادته في حقوق الله تعالى، كشرب الخمر والزِّنا والمصالح العامة، فقد ذهب المشهور عندهم إلى قبولها، لإطلاق أدلة قبول الشهادة، إذ هي شهادة الحسبة التي تبتغي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو واجب، وأداء الواجب لا يعدُّ تبرعاً، بل فرض كفاية.
الشهادة على الشهادة:
ومعناها أن يشهد عدلان عند القاضي بأن فلاناً شهد أمامهما بكذا..
وتسمى الشهادة المنقولة بالأصل، والناقلة بالفرع. وهي تثبت بالشروط التالية:
أ - أن يتعذر حضور شاهد الأصل لعذر مشروع.
ب - أن تكون في غير حدٍّ، فتقبل في القصاص، والنسب، وجميع العقود، وفي عيوب النساء والولادة، وفي الزكاة والوقف. ولا تقبل في ما يستوجب الحد كالزِّنا وشرب الخمر والسرقة، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
ج - أن يشهد اثنان على شهادة الواحد، ويجوز أن يشهدا على شهادة اثنين، أو جماعة. أما شهادة رجل على رجل فلا تقبل. وذهب المشهور عند الإمامية إلى أن شهادة النساء على الشهادة لا تقبل إطلاقاً، لأن النص جاء على الرجلين في الشهادة على الشهادة.
وإذا شهد الفرعان، وحضر شاهد الأصل بعد صدور الحكم ينفذ حتى ولو خالف الأصل. أما إذا حضر قبل الحكم سقط الفرع، ويؤخذ بقول الأصل، لأن العمل بالفرع مشروط بعدم حضور الأصل[*].
الاختلاف في الشهادة: اتفق فقهاء الشيعة الإمامية، والشافعية والحنفية: على أنه يشترط توارد الشاهدين على معنى واحد، وإن اختلف اللفظ، كما لو شاهد أحدهما أنه استدان مائة إلى شهر، وشهد الآخر أنه أخذها منه على أن يفيه بعد شهر.
أما إذا اختلف المعنى، كما لو شهد الأول بحصول الدين، وشهد الثاني بالإقرار بالدين، فلا يثبت الدين لعدم ثبوت واحد من المشهود به، لأن الدين غير الإقرار به، ولم تتم البينة عليهما ولا على واحد منهما فتلغى الشهادة.. أجل إذا حلف المدعي مع أحد الشاهدين حُكم له، حيث يُقضى بشاهدٍ ويمينٍ في الحقوق المالية.
وقال الحنبلية: إذا شهد أحدهما بالفعل، وشهد الآخر بالإقرار به، كملت الشهادة، وعُمل بها.
ويرى أبو حنفية أنه ينبغي اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى فإذا اتفقا معنىً لا لفظاً لم تقبل الشهادة.
والحقيقة أن البينة لا تتم وتكمل إلا بتوارد شهادة عدلين على فعل واحد، وزمن واحد، ومكان واحد، وصفة واحدة. ومن المعروف قديماً وحديثاً، لدى الفقهاء والقضاة، أن التناقض في أقوال الشهود مسقط للشهادة.
الحكم بشهادة الزور: جاء في كتاب فتح القدير، وكتاب الفروق:
«إذا شهد عند الحاكم شاهدا زور بطلاق امرأة، فحكم بطلاقها، جاز لكل من الشاهدين أن يتزوجها مع علمه بكذب نفسه، لأن حكم الحاكم فسخ لذلك النكاح».
وقال الشيعة الإمامية: إن حكم الحاكم لا يحلل حراماً، ولا يحرم حلالاً، وإنما هو لنصرة الحلال، ووسيلة لإحقاق الحق، وإبطال الباطل. فمن علم أنه خلاف الحق والواقع فلا يجوز له العمل به. ويجوز للمحكوم عليه أن يذهب إلى قاضٍ في آخر. ويدعي أمامَهُ بنقض الحكم، فإذا ثبت للقاضي أن الحاكم الأول قصَّر في الاجتهاد، أو خالف دليلاً قطعياً من الشرع، وجب عليه نقضه وإبطاله.
الرجوع عن الشهادة: لقد تبين آنفاً أن الشاهدين إذا شهدا زوراً وكذباً ينتقض الحكم، ولو بعد التنفيذ، لمكان العلم بمخالفة الواقع. أما إذا رجع الشاهدان عن الشهادة فينظر: فإن رجعا قبل الحكم أحجم الحاكم عنه، وإن رجعا بعد الحكم لم ينتقض، حتى ولو لم ينفذ، لأن الرجوع محتمل للصدق والكذب.
4 - اليميـن:
وقد اشترط الفقهاء في الحالف ما يشترط في مجرى العقود والموجبات من العقل والبلوغ والاختيار، ويُزاد عليه أن يكون له حق الإسقاط، والتبرع. ولا تصح اليمين من الوكيل والوصي والولي، ولا من السفيه في ما لا ينفذ تصرفه فيه.
والضابط لصورة اليمين هو أن يمين الحالف تأتي حسب جوابه فإن أجاب بنفي الواقع إطلاقاً حلف على البتِّ واقعاً، وإن أجاب بنفي العلم حلف على نفي العلم، من دون فرق في الحالتين بين أن يكون المحلوف لأجله من فعله نفسه، أو من فعل غيره.
وموضوع اليمن هو الحق المحلوف لأجله. ويشترط صحة الحكم به إثباتاً أو نفياً، بحيث لو حلف المنكر حُكِم ببراءته، أو حلف المدعي حكم بثبوت حقه. وهذا يعني أنه إذا حلف المدعى عليه، فصل القاضي في الدعوى، وانتهت الخصومة، ما لم يتمكن المدعي من إقامة بينة جديدة. وقوة اليمين أنها حجة المدعى عليه لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم):«واليمين على المدعى عليه»[*].
ويشمل اليمين جميع حقوق الآدميين، ولا يتعداها إلى حقوق الله تعالى، وهي الحدود، إذ لا يمين في الحدود. وقد اتفق جميع الأئمة على أن اليمين تكون «بالله عزَّ وجلَّ» لا بالقرآن، ولا بالرسل، ولا اليوم الآخر، ولا الملائكة، ولا الكعبة الشريفة، ولا بغيرها. وقد ثبت في الحديث الشريف: «لا تحلفوا بآبائكم، ومن حلف بالله فليصدق، ومن حُلِفَ له بالله فليرضَ، ومن لم يَرضَ فليس من الله»[*].
ويستحب التغليظ في اليمين عند الإمامية، مثل: «والله المُهلك المُدرك المنتقم الجبار»[*].
وقد قسم الفقهاء اليمين إلى حاسمة وغير حاسمة: فاليمين الحاسمة هي التي ينسدُّ معها باب النزاع والتخاصم، وغير الحاسمة هي التي يبقى معها هذا الباب مفتوحاً على مصراعيه. كما قسموا اليمين الحاسمة بنفسها إلى نوعين: يمين الإنكار ويمين الإثبات. وتندرج في هذه الثانية اليمين المردودة، والمنضمة، ويمين الاستظهار.
وهذه كلمة وجيزة عن كل منها:
- يمين الإنكار: إذا أنكر المدعى عليه، أحلفَهُ الحاكمُ بناء على طلب المدَّعي، لأنه لا يجوز له أن يحلِّفه من تلقاء نفسه، بدون طلب المدعي، فالحلف حق خاص به. كما لا يجوز للمنكر الإسراع والتبرع بحلف اليمين. فإن حلف بدون طلب الحاكم، أو تبرعاً كان يمينه لغواً.
ومتى حلف بسؤال المدعي والقاضي سقطت الدعوى. وليس للمدعي بعدها المطالبة بشيء. ما لم يثبت كذب الحالف بطريق من الطرق. وهذا ما أقرته القوانين الحديثة الوضعية عندما قالت بأن رضا الخصم بيمين خصمه يعتبر تنازلاً منه عن حقه.
- اليمين المردودة: إذا كان المدعي جازماً وردَّ المنكِرُ عليه اليمين، فإن حلف ثبتت دعواه، وحكم بحقه على المدعى عليه. وإن نكل المدعي وامتنع عن حلف اليمين المردودة عليه، سقطت دعواه عن المنكر.
وإذا نكل المنكر، وامتنع عن الحلف والرد على المدعي، فهل يحكم عليه القاضي بمجرد النكول، أو يرد القاضي اليمين على المدعي؟
المشهور عند فقهاء الشيعة الإمامية أن امتناع المنكر عن الحلف يشكِّل اعترافاً بثبوت الحق عليه، ولكن ذلك لا يمنعه من ردِّ اليمين على المدَّعي، فإن حلف المدَّعي ثبت له الحق. والصور هنا أربع:
1 - إذا حلف المنكر سقطت دعوى المدعي.
2 - إذا رد المنكر اليمين على المدعي، ونكل هذا خسر دعواه أيضاً.
3 - إذا حلف المدعي بعد الرد حكم له بما يدعيه.
4 - إذا نكل المنكر، وامتنع عن الحلف والرد معاً، حكم عليه بمجرد النكول.
- وقال الحنفية والحنبلية: يقضي عليه القاضي بمجرد النكول، ولا موجب لرد اليمين على المدعي إذا كانت الدعوى مالاً، أو كان المقصود منها مالاً.
- وقال المالكية: لا بد من الرد في الدعاوى المالية.
- وقال الشافعية: الرد لازم في جميع الدعاوى.
- اليمين المنضمة: وهي التي تضم إلى شهادة شاهد واحد، أو إلى شهادة امرأتين لإثبات الحقوق المالية، وتسمَّى أيضاً اليمين المتممة.
- يمين الاستظهار: لا تسمع الدعوى في وجه الورثة على مورثهم في حق من الحقوق المالية إلا إذا ترك المورث أموالاً في أيدي الورثة. وفي هذه الحال، أي إذا ترك بين أيديهم أموالاً، تسمع الدعوى على الميت، ولكنها لا تثبت إلا بالبينة، ويمين المدعي معاً. وهذه هي يمين الاستظهار، والقصد منها التثبت من بقاء الدين في ذمة الميت إلى حين وفاته، وأن الدائن لم يبرئه منه، ولم يستوفه، أو يعاوضه عليه.
وقد تفرَّد الإمامية بإضافة يمين الاستظهار إلى البينة في الدعوى على الميت. أما مالك فقد أوجبها في الدعوى بعين على الحي ولم يوجبها في دعوى الدين.. أما الشافعي فقد أوجب يمين الاستظهار في الدعوى على الصبي والمجنون[*].
- كذب الحالف: إذا تبين كذب الحالف، مدَّعياً كان أو مدَّعىً عليه، فإن الحكم هو أن يقر بكذبه ويعترف بحق خصمه، فينقض الحكم الذي بني على اليمين. وإن علم كذبه من أدلة وقرائن أخرى غير الإقرار فليس لأحد مطالبته بشيء ما لم يَنْقُض القاضي حكمه. أي بكلمة أخرى إن المدعي المحق يذهب حقه بعد يمين المبطل، حتى كأنه لم يكن، إلا إذا كذَّب الحالف نفسه، وأقر بأن الحق ثابت عليه.
هذه هي وسائل الإثبات الأربع التي نعتبرها، كما أشرنا إليه سابقاً، كافية للبت بالنزاع. ولكن بعض الفقهاء اعتمدوا وسائل أخرى للإثبات، وهي التالية:
1 - القـرائـن:
اتفق الفقهاء على أن القرائن منها «الشرعية» وهي التي نص عليها الشارع صراحة، وأوجب على الحاكم العمل بها إطلاقاً، سواء أحصل منها العلم أم لم يحصل كالإقرار، والبينة واليد، ومنها القرائن «الموضوعية» وهي التي ترافق الدعوى ووقائعها، وهذه على نوعين:
الأول: ما يحصل منه العلم باللزوم العقلي، كما لو ادعى شخص أن هذه الدابة ملك له منذ سنة، وكان سنّها يدل على أقل من ذلك. أو كما لو قال أحدهم: إن هذه الدار اشتريتها من محمد ثم ظهر أن محمداً لم يملك قط داراً في حياته. فمثل هذه القرائن تعتبر حجة متبعة استناداً إلى العلم بحقيقة الواقع، أو باللزوم العقلي.
والثاني: ما لا يحصل منه العلم والجزم. وهذه ليست بشيء، فلا يعتمدها الحكم والقضاء، ولكنها قد تدعم أصلاً من أصول الإثبات، كالخصومة الشديدة بين القتيل وبين المشهود عليه بالقتل وخاصة إذا كان بين المتهم بالقتل والقتيل ثأر. أو كالسوابق للمشهود عليهم بالسرقة..
وعلى كل حال إن القرينة القطعية يعتمدها القاضي كبيّنة نهائية من جملة الوسائل التي تمكّنه من تكوين رأيه النهائي لإصدار الحكم، لا سيما وأنه لا يجوز له أن يحكم بالقرائن إلا إذا حصل منها العلم باللزوم العقلي. أما القرائن الضعيفة فإنها تستدعي منه الزيادة في التثبيت والتحقيق.
2 - علم القاضي:
ـ قال الشيعة الإمامية: ينقسم علم القاضي بالواقعة المتنازع عليها باعتبار ظرفه،والزمن الذي حصل فيه، إلى قسمين: الأول أن يحصل العلم للقاضي في خارج المحكمة، وقبل التنازع والترافع، والثاني أن يحصل العلم له أثناء السير بالدعوى ومن وقائعها وملابساتها وظروفها. وهذا النوع الثاني يمكن أن ترد أسبابه إلى ما يلي:
1 - معاينة القاضي إذا كان المدعى به من الوقائع المادية، سواء قام بالمعاينة بنفسه أو بواسطة من ينيب عنه للمعاينة.
2 - القرائن الموضوعية، من غير الطب الشرعي، التي يستنتجها القاضي بذكائه ومظنته من خلال الحجج التي يدلي بها المتخاصمان.
3 - الأمور البديهية التي يشترك فيها جميع الناس: مثل أنَّ الأطرش لا يسمع، والأعمى لا يبصر. فلا يؤخذ بشهادة الأول في سماع الإقرار، ولا بشهادة الثاني برؤية الحادثة.
4 - الطب الشرعي، وأقوال الخبراء.
5 - القواعد الشرعية العامة، ومنها أن أقل الحمل ستة أشهر، وأكثره سنة. فمن ادّعى خلاف هذه القاعدة تُردُّ دعواه ابتداء، لأنه يدعي خلاف ما ثبت في الشرع.
وقدأجمعت القوانين الحديثة، وعدد من فقهاء الإمامية، على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه، ولا أن يستند إلى شيء من معلوماته في حكمه.
ويمكن القول، بالاستناد إلى ما تقدم، إنَّ أيَّة قرينة تتصل بالدعوى أثناء رؤيتها يجوز للقاضي أن يعتمدها، ويبني حكمه عليها، مع وجود العلم القاطع، سواء أكانت القرينة من نوع الطب الشرعي، أو اللزوم العقلي أو غيره، لأن العلم لا يفرَّق فيه بين سبب وآخر من أسبابه. أما مع عدم العلم فيترك تقدير القرينة إلى القاضي، إن شاء طرحها، وإن شاء عزَّز بها أحد الأدلة، وكل ذلك بحسب اقتناعه واطمئنانه بينه وبين خالقه عزَّ وجلَّ.
- وقال أبو حنفية: إذا علم القاضي بالحادثة قبل أن يتقلّد منصب القضاء، فلا يقضي به. أما صاحباه فقالا: يقضي به في غير الحدود الخالصة لله تعالى، قياساً على جواز قضائه فيما علم به في زمن القضاء.
وقد اتفق متقدمو الحنفية على أن للقاضي أن يقضي بعلم حدث له زمن القضاء، وفي مكانه بالمعاينة، أو بسماع الإقرار أو بالمشاهدة، أو رأي أهل الخبرة وما إلى ذلك. ويكون ذلك في الحقوق المدنية، والحقوق الشخصية، وفي بعض الجرائم وهي: القذف والقتل. ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في الحدود الخالصة لله عزَّ وجلَّ. إلا أنه في السرقة يقضي بالمال لا بحدِّ القطع، لأنه يقتضي الاحتياط في درء الحدود، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم القاضي.
- أما متأخرو الحنفية والشافعية فلم يجيزوا للقاضي أن يحكم بعلمه مطلقاً سواء قبل توليه القضاء، أو في زمانه. وحجتهم في ذلك فساد القضاة في زماننا.
- وقال المالكية والحنبلية: لا يحكم القاضي بعلمه لا في حدود الله تعالى، ولا في حقوق عباده، ولا فيما علمه قبل ولايته ولا بعدها. ولكن يجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء. وقد استدلوا على ذلك بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع...» وقد تقدم ذكره.
وقد اتفق المذاهب الأربعة على جواز أن يحكم القاضي بالاستناد إلى كتاب أرسله إليه قاضٍ آخر فيما ثبت عنده من الحقوق. واشترطوا لذلك شهادة عدلين على أن الكتاب مرسل من قاضٍ، وذلك في الحقوق المالية كالديون، أو الشخصية كالنكاح[*]. وأجاز الإمام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ آخر في حقوق الآدميين، وفي الحدود والقصاص أيضاً[*].
3 - العرف والاستفاضة:
- العرف: لقد جاء في العرف تعاريفُ أقربُها إلى الأذهان أنه: ما جرت عليه العادة بين الناس في سائر معاملاتهم...
والعرف بذاته ليس مصدراً من مصادر التشريع، ولا هو طريقٌ صحيحٌ لمعرفة الأحكام الشرعية. بل إن الاعتماد عليه يكون لمعرفة الموضوعات الشرعية، وتحديد المعنى الذي تعلق به الحكم الشرعي. وهذا ثابت في الموضوع الذي لا حقيقة خاصة فيه للشرع، فإذا قال الشارع: «لا ضرار ولا ضرار، والأعمال بالنيات» فإن المرجع في تشخيص الضرر والنية هو العرف، لأن الشك في نفس الحكم الشرعي لا في موضوعه. فإذا علمنا الحكم الشرعي واشتبه علينا موضوعه، كما لو علمنا أن الشارع حرم الخمر وأباح الخل، ثم اشتبه هذا المائع: هل هو خمر أو خل تكون الشبهة موضوعية، وسميت بذلك لأن الشك حصل في تشخيص موضوع الحكم، لا في الحكم نفسه.
وعليه، لا يكون العرف، في مطلق الأحوال، أصلاً في أصول الإثبات في القضاء، بل يكون أحياناً، وسيلةً لمعرفة الشيء الذي اختلف فه المتخاصمان في القضاء. وهكذا فإن العُرفَ لا يرجع إليه لتمييز الحق من الباطل، وإنما يعتمد عليه عند الحاجة لمعرفة معاني الألفاظ، وما يتبع هذه المعاني التي تنازع فيها المتخاصمان.
- الاستفاضة: الاستفاضة والشياع والتسامع بمعنىً واحد، وهو أن تسمع من جماعة يستبعد اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب، بحيث يحصل من قولهم الاطمئنان بالصدق.
وفي مجال القضاء يكون للاستفاضة أثرها في الشهادة. ونوجز هنا هذا الأثر بما يلي:
- قال الإمامية: إذا حصل العلم بالشياع جازت الشهادة إطلاقاً في كل شيء سواء أكان من الجنايات، أم الموجبات والعقود، أم الأحوال الشخصية أم غيرها، لأن العلم حجة من أي سبب حصل.
وإن لم يحصل العلم من الشياع (أو الاستفاضة) فلا تجوز الشهادة استناداً إليه، إلاَّ في أشياء خاصة، حددها الفقهاء بسبعة: النسب، الملك المطلق، الزواج، الوقف، العتق الولاء والموت. وقال بعضهم هي ثلاثة: النسب والموت والملك. وقال آخرون هي خمسة: النسب، الموت، الملك، النكاح والوقف.
- واتفقت المذاهب الأربعة على أن الشهادة في الاستفاضة تصح في النسب والولادة، واختلفوا فيما عدا ذلك:
- فقال الحنفية: تقبل أيضاً في الموت والنكاح والدخول.
- وقال الشافعية: تقبل في الموت والملك.
- وقال الحنبلية: تقبل في الموت والنكاح والملك المطلق والوقف.
ومتى ثبتت الاستفاضة عند القاضي حكم بها، سواء أحصل له العلم، أم لم يحصل، تماماً كما يحكم بالبينة والإقرار. وليس للمنكر أن يطعن أو يعترض.
4 - الـيـد:
وهي من أصول الإثبات التي اعتمدها الشيعة الإمامية، وأطالوا الكلام عليها في كتب الفقه وأصوله.
ومعنى وضع اليد على الشيء أن يستطيع صاحبها التصرف فيه تصرف المالك في ملكه بلا منازع أو معارض، كالسكن، والبناء والهدم في الدار، واستغلال الأرض وما إلى ذلك..
وليس من شك في أن وضع اليد دليل على الملك، والسر هو طريقة العقلاء، وتباني الناس على ذلك. وقد أقرَّ الشرع هذه الطريقة بأخبار كثيرة، ومنها خبر «فحص» عندما سأل الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا رأيت شيئاً في يد رجل أيجوز أن أشهد أنه له؟. قال: نعم»[*]. وقد تقدم ذكره من قبل. وأما الحكمة من أن اليد تستمد قوتها من تباني العرف على دلالتها على الملك فغايتها الاستقرار في حياة الناس، وسيرها في طريقها الطبيعي، وعدم اختلال النظام.
أثر اليد في الأموال والأعراض والأنساب:
إنَّ وضع اليد على الأموال هي - كما قلنا - دليل على الملك، سواء في ذلك الأموال المنقوله أم غير المنقولة. وكما يدل وضع اليد على ملكية الأعيان، فكذلك يدل على ملكية المنافع، ومثاله أن يسكن شخص في دار عباس، بحجة أنه مستأجر، فيأتي آخر ويقول له: أنا المستأجر، لا أنت. فالثاني يكون مدعيّاً وعليه البينة، أما الساكن فلا يكلف بالإثبات، لأن يده تشهد له.
وإذا اختلف المالك والساكن، فقال الأول: أنت تسكن في ملكي غصباً وظلماً. وقال الثاني: بل أنا مستأجر، فيكون الساكن مدعياً وعليه الإثبات، ويكون المالك منكراً وعليه اليمين.
أما في الأعراض والأنساب فلا أثر لليد أبداً. فإذا تنازع اثنان زوجية امرأة هي تحت أحدهما، فإن المرأة تكون للذي تحته، حتى يثبت العكس، ولكن ليس هذا بسب اليد، بل عملاً بظاهر حال المسلم، وحمل أفعاله على الصحيح. وكذلك إذا تنازع اثنان في بنوة صبيٍّ هو في بيت أحدهما، فإن اعترف الذي هو عنده وأقر أنه ولده قبل أن ينازعه أحد فهو أولى به، أما إن لم يكن أقرَّ به فالمتنازعان فيه سواء، فإن كان لأحدهما بيِّنة حُكم له، وأن أقاما معاً البينة أقرع بينهما، وبالتالي لا يكون لليد أي أثر.
ولا يدل وضع اليد في الأموال على الملك إلا بشرطين أساسيين:
الأول: أن نجهل كيف ابتدأ وضع اليد على العين، بحيث لا نعلم السبب لحدوثها... مثلاً: نعلم أن هذه الأرض كانت فيما مضى لعدنان، وبعد أمدٍ رأيناها في يد قاسم، يتصرف فيها تصرف المالك في ملكه، دون علم بأي سبب انتقلت إليه.. فوضع اليد - والحال هذه - يدل على انتقال الملكية إلى قاسم، ولا يجري الاستصحاب.. أما إذا علمنا أن صاحب اليد كان قد اشترى أو استأجر العين من صاحبها، وبعد أمدٍ شككنا: هل انتقلت إليه بمسوِّغٍ شرعي، أم لا، في هذه الحال لا أثر لليد في دلالتها على الملك، بل نستصحب حال اليد التي كانت عليها فيما سبق.
الثاني: أن تكون العين التي تحت اليد قابلة بطبيعتها للنقل والانتقال، والتملك والتمليك. أما إذا لم تكن قابلة لذلك، كالوقف الذي لا يقبل الملك إلا في حالات خاصة، فإن اليد تسقط عن الدلالة على الملك. وعلى هذا فإذا تنازع أصحاب الوقف مع صاحب اليد، فقالوا: إن هذا العقار وقف، وقال صاحب اليد: بل هو ملكي، وأنا المتصرف، فالقول قول أصحاب الوقف، وعلى صاحب اليد البيِّنة أن العقار انتقل إليه بناقل شرعي، ولا يفيده وضع اليد شيئاً[*].
وفي نهاية البحث عن القضاء لا بد من الإشارة أن هنالك مسلَّمات يجب أن يعتمدها القاضي، الذي هو في منصبٍ من أجلّ وأخطر المناصب في الإسلام، ومنها أن يسارع في إصدار الحكم بعد أن يتيقن من ثبوت الحق لصاحبه، وأن يصدر حكمه معللاً واضحاً لا يحتمل التأويل أو الجدل، وأن يكون المتخاصمان حاضرين، وإلاَّ جاز له أن يحكم غيابياً حفاظاً على مصلحة صاحب الحق، واستقرار الأوضاع بين الناس.
ويكون الحكم، عندما يكتسب الدرجة القطعية صالحاً للتنفيذ، وعلى الحاكم أن يسأل عن هذا التنفيذ بما له من سلطة وأجهزة، بقصد إشاعة الطمأنينة في النفوس، وتأمين النظام.
هذه هي أهم الأحكام المتعلقة بالقضاء، وقد توخينا فيها الإيجاز والاختصار بما يُيَسّر الفهم وسلوك الطريق الصحيح في إقامة الدعاوى والتقاضي.


مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢