نبذة عن حياة الكاتب
عالمية الإسـلام وماديـة العولمـة

الفصل الثاني - العولمة: مقـدماتها وأهـدافـها ومـا نشأ عنها وكيف نشأت
الحـداثـة
التطور
العولمة
أضواء على منطلقـات العولمة
تعريف واقع العولمة
العولمة ومخاطرها
الخصخصة
الأصولية
الإرهاب
الحوار بين الأديان?
العولمة

الحداثة: رَجْعٌ قديم قادر على التشكّل.. سلباً أو إيجاباً
يتباهى أتباعُ الفكر الغربيّ من المسلمين، ممن تغذَّوا بالثقافة الغربية، بأنماط الحياة المعاصرة التي يحياها الغربيون، وهم يعتبرونها نموذجاً راقياً ومتقدماً لما ينبغي أن تكون عليه الحياة، وذلك من منطلق إيمانهم أنه لولا الثورة الفكرية التي أحدثها مفكرو الغرب، لما تمكن الغربيون من تحقيق إنجازاتهم العلمية والتكنولوجية، التي مكّنتهم من التفوُّق على غيرهم، حيث نجح أولئك المفكرون في تحويل مجتمعاتهم من دائرة التخلف إلى قمة التقدّم، وذلك إنما تحقق بعد نَبْذِهم الماضي ومعتقداته الدينية التي عجزت عن معالجة مشاكل الحياة وتسيير أمور العيش بالطريقة الفضلى، وهو ما أدى إلى ظهور ما أصبح يُعْرَف بالحداثة التي تعني الأخذ بنظرية التطور وقطع الصلة بالماضي، أي بالدين، واعتباره غير قادر على استيعاب ما تفرزه الحياة من مظاهر.
ولذلك نرى بعض المسلمين يَدْعون إلى انتهاج منهج الغربيين في تهميش الدين، والإقبال على مجابهة المستقبل بنظرية الحداثة التي لا تعير اهتماماً للماضي وتنظر إليه باعتباره غير قادر على الثبات بوجه التحديات. وهم من خلال ما يطرحون من أفكار عن الحداثة أو العلمنة بدَعْوَى الانبعاث والتقدم إنما يقصدون قطع الصلة بالموروث الدينيّ، من منطلق اعتبارهم إياه حائلاً دون قيام مجتمع عصريّ. وينظرون إلى الدين نظرة اتهام، وكأنه وقف موقف المُعاقب للتجديد، أو الرافض لتطوير المفاهيم بما يلائم مقتضيات الحضارة وحق الإنسان في الإبداع وإثراء المجتمع بما يفيد.
فقد انزل مفكّرو الغرب نقمتهم على الماضي القديم، بسبب أحداث مُحْبِطَة، ظلامية، أنتجتها ممارسات شاذّة في مراحل تاريخهم الذي ينتمون إليه، وعملوا على قطع الصِّلات بماضيهم الدينيّ، والبحث عن مبادىء وأشكال جديدة ينظّمون حياتهم على أساسها فحاربوا الدين وأبعدوا رجاله عن التدخل في شؤون حياتهم..
هذا في الغرب... بينما لا يوجد في الإسلام رجال دين، بل يوجد علماء مسلمون أجلاّء، علينا أن نقدرهم ونحترمهم، لأنهم قاموا ويقومون بخدمة هذا الدين الذي هو قوام حياة المسلمين، وجميل مَعادِهم عند لقاء ربّهم. وعلى ذلك فإنه ليس من حق المتغرّبين من المسلمين إصدار إدانةٍ تنصَبُّ على ماضيهم الدينيّ برمّته، والنقمة على القديم لمجرد قِدَمِه. ولكي لا تتحول نقمتهم إلى اتجاه علميّ مشروع، لا بدّ من إعطاء الحكم على الماضي مساحةً تتيح للملاحظة أن تأخذ دوراً في تتبّع أحداث هذا العصر ومقارنتها بمثيلاتها في الأعصر الماضية، إذ ذاك يتبين إلى أي مدى يمكنهم المضيّ في جعل الحديث ـ الجديد ـ العصريّ هو الأفضل، ومن ثَمَّ مؤهلاً لمحاكمة الماضي القديم والنقمة عليه.
هذا المدخل لا بد من إقرار أحقّيته لمن يريد بالفعل وضع العربة خلف الحصان، وليس العكس، لتسير المناقشة في مسار طبيعيّ، وليكون الحكم على الأشياء مستوفياً شروطه.
الحداثـة... مصطلحـاً:
إنه من خلال ما ظهر في المراجع من شروح وتعبيرات لمعنى الحداثة يُلحظ أن هذه اللفظة كمصطلح تتركز في محورية تعريفية، هي:
1 ـ حديث. ذو عهدٍ قريب. عصريّ. مستجدّ. مستحدَث. Modern (+);
2 ـ تحديثية. اتباع الاتجاهات الحديثة (في الفكر أو الحركة الأدبية والأمور الاجتماعية). إقبال على كل شيء حديث. توفيق بين الدين ومتطلبات الاتجاهات الحديثة Modernism .
3 ـ مُحْدَث. مستحدَث. شخص متجدد في آرائه وأساليبه (متحرر في القضايا الدينية) Modernist .
4 ـ حداثة. جِدّة. شيء حديث مستحدَث. Modernity .
5 ـ تحديث الشيء. جعل الشيء على صفة حديثة. Modernization (+).
إننا نميل إلى إعطاء هذا المصطلح تعريفاً خاصاً يناسب نظرتنا، هو: «التعاصر»، بمعنى ادعاء العصرنة.
دفع الموروث بالاستنباط.. لا بالانقلاب عليه:
ثمة ناحية ينبغي التوقف عندها في تناول مفهوم الحداثة وهو عدم المزج بين أفكار الحداثة، والوسائل الحديثة، إذ إن البحث يتناول الحداثة بمفهومها من حيث كونها اتجاهاً أو مبدأً أو منهجاً لمراحل حياتية يراد من خلاله دفع الموروث الثقافيّ ـ الدينيّ ـ الفكريّ برمته إلى مناخات إبداعية تطويرية. وذلك من موقع انتمائنا إلى دين وتبنّينا الإسلام عقيدة ومبدأً ومرجعاً أساسيّاً لحركتنا في الحياة ومع الحياة.
فإذا كان القصد من الحداثة معالجة الواقع على ضوء القواعد المتفق عليها في المنظومة الشرعية الإسلامية، فإن ذلك لا لَبس فيه، أما إذا كان القصد إيجاد قواعد حديثة تنزلق في الابتداع تحت مسمّى الإبداع فإن المسألة تصبح ليس انحرافاً بالقصد عن الجوهر فحسب وإنما تُعَدُّ انقلاباً عليه، وينبغي إذ ذاك بحثها على أساس القواعد الفقهية والقائمة على نصوص واضحة، أو أفكارٍ لا تعوزها الحجة أو الدليل.
وإنه باستقراء حركتنا للتاريخ يمكننا تقديم شاهد صارخ على خَطَل الحداثة عند ادّعائها التجدد لمجرد المُغَايَرَة، وانجرافها في التعلُّق بكل ما هو مضادّ للقديم، دون النظر إلى ما يؤول إليه تبنّيها للمُسْتحدَث الجديد.
مثال على ذلك: ما حدث من ردّةٍ فكريةٍ في العصر العباسيّ، ويُقصد بذلك: ثورة الزنج والحركة القرمطية، هاتان الظاهرتان اللتان اتَّسَمَتا بالتطرّف، وبالتحديث في مفهوم ذلك العصر، وانتَهَتَا إلى الزندقة والإلحاد.
كل من هاتين الحركتين أرادت ليسَ فقط إيجاد وضعٍ مغايرٍ للواقع السُلْطَويّ، وهو ما يروّج له مفسّرو الظواهر التاريخية المتباهون بفلسفة التحديث، بل سَعَتْ إلى إحداثِ زلزلةٍ في ناحيتين مهمتين: في طريقة التفكير، وفي الممارسة، وذلك بدَعْوَى مقاومة السلطان الجائر، وهي مسألة تقتضي التأمل والاستقراء وعدم الانجرار خلف عنوان مبهم المضمون فضفاض المعنى، لأن ذلك يحمل من خَطَر الهَدْم ما يتجاوز بمراحل قصدَ البناء، ومن الانحراف عن المبدإ أكثر بكثير ممّا يَدَّعي من النزوع إلى التصويب والإصلاح وإفشاء العدالة.
هاتان الحركتان سَعَتا إلى إحداثِ فهم جديد للموروث، مغاير كل المغايرة للأصول. ويمكن إيجاز منطلقاتهما باتجاهاتٍ ثلاثة:
1 ـ العقل قبل النص: أي فوق النص الدينيّ.
2 ـ الحقيقة قبل الشريعة: أي فوق ما شرع الله.
3 ـ الإبداع قبل الإتباع: أي نفي الإقتداء بالسنة.
لقد جَعَلتا حكمَ العقل هو المقدَّم، فإذا كان ثمة تعارض بين حكم العقل والنص أوَّلَتا النص بمقتَضَى العقل، ما نتج عنه تفسيرات فلسفية (غيبية) أسقطتهما في هوّة تحميل النصوص أكثر من طاقتها.
الشطط العقليّ.. سقوط في شهوات الذات:
هذا التهويم الفكريّ باستحداث أساليب تأويلية من طريق استنطاق باطني النصّ تحت مظلة الادعاء أن العقل هو القائد ـ المرجع ـ الحقيقة، هو خروج من إطار الشريعة ـ الدين ـ النبوة، وهو مُصْطَنَع شيطانيّ، أي نزوع إلى تجريد الكون والإنسان والحياة من الصبغة الإلهية؛ إذ يُنَصَّبُ العقلُ إلهاً، وتالياً: يُجْعَلُ الإنسان الإلَه الجوهر ـ والعياذ بالله.
والثابت بالدليل (دليل العقل إياه) ومن طريق الحواسّ، التي هي قنوات الإنسان للوصول إلى المعرفة، وجودُ خالق، مدبر، رازق، هو الذي خلق هذه السلسلة المخلوقة التي من ضمنها الإنسان ـ العقل، هذا الثنائيّ المنصهر مع الروح في جَسَدٍ أُعْطِي أعلى ما في الكون من نِعَم: نعمة التفكير، وهو تميُّز متفرّد لا يتوافر لدى مكوَّنٍ محسوسٍ آخرَ إلاّ في هذا الإنسان المتميز بهذه النعمة الموهوبة وهو في حالة خضوع دائم للاختبار، اختبار اختياراته. وبما أنه قادر على الاختيار، فهو إذن مالكٌ حرية الحركة في مساحةِ اختياراته..
وهنا تبرز هِزَّةُ الخُيَلاء التي تعتري النفس البشرية نتيجةَ امتلاكها هذه الميزة التي لا تتوافَّر في المكوَّنات الأخرى، فيتدخل المكوَّن الشيطانيّ في مساحة الاختيار تلك ليشوّش عليها الحقائق ويدفعها أكثر نحو الاعتداد بذاتيتها المتميّزة. وبمجرد استجابتها لدافع التشويش وميلها إلى سماع ما يتحرك في ذاتيتها من اعتداد، فإنها تقع في فخ تفسير الأشياء على غير حقيقتها، وتستمرىء من ثَمَّ لذّة السقوط في شهوات النفس.
وهنا نستدرك فنقول: إنه لكي نفرّق بين الحداثة في اتجاهها الإيجابيّ الاستنباطيّ الذي ينبني عليه الفقه والذي يستعمله المجتهد لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أي العمل بالنص ومن داخل النص، باستحداث الوسائل والأساليب لمعالجة أمور الحياة وما ينشأ فيها من متغيّرات، وبين اتجاهها السلبيّ العَدائيّ الذي يُقْصَدُ به تأويلُ النصوص بإخضاعها للعقل واستجلاب مفاهيمَ على قواعدَ جديدة مبتَكَرة، وضعيَّة، من الضروريّ أن تناقش أولاً: مَن المؤهَّل لإرساء القواعد وتأسيس النصوص، وبالتالي: الاستنباط؟.
إن إنساناً ما، مهما بلغت قدراته العقلية ومواهبه الفكرية لا يحق له أن يضعَ مرجعية نصيّة يفرضها على الناس، أو أن يطلبَ من الناس اعتبارها حقيقة مُسلَّماً بها. وإذا حدث هذا فمعناه تَفَرُّدٌ في الفهم لا يُعْقَل تصوّره أو قبوله من إنسان مخلوق، عدا أنه احتقار لقدرات ومواهب الآخرين، وفي حال إملائه فرضاً فإنه يندرج في سياق الطغيان. فليس لإنسانٍ ادّعاء امتلاكه الحقيقة المطلقة، أو أهليّة نصيّة يُرْجَع إليها في تنظيم حركة المجتمع الإنسانيّ، وتفسير كل ما في الكون. إنّ ادّعاءً على هذا القَدْر من الشمولية يُنْسَب إلى إنسانٍ مخلوق لا يمكن وضعه إلاّ في دائرة التألّه ـ والعياذ بالله ـ، ولو لم يدَّعِ ذلك.
لا بدَّ إذن ليكون النصّ صحيحاً، حقيقياً، أن يكون مَأْتاهُ من خارج الإنسان.. ممَّن يملك الحقيقة، من خالقها ومكوّنها وجاعلها وجوداً. ولا يستطيع إنكار ذلك إلا مُعاند، مكابر، يتذاكى في صناعة الألفاظ، ويتعمَّد تغييب العقل بفصله الأفكار عن الواقع، بنزوع واضح إلى إنكار وجود إله خلق الأشياء وقدَّر فيها خاصّيّاتها ووضع لها قوانينها، وأرسل من عباده رسلاً برسالات واضحة النصوص، لتنظيم حركة الإنسان في الحياة، على أسسٍ صحيحة، وليس على أساس ادّعاءات معرفية بشرية تنفي تدخّل الخالق في تنظيم حياة خلقه، كما يدعو إليه الحداثيّون.
لذلك، فإن الرسوليّة أو النبوّة أمر بديهيِّ عقلاً، وواقع لا بد من حدوثه، وهو قبل كل شيء اصطفاء من الله لمخلوقٍ إنسانيِّ جَمَعَ من حميد الصفات ما أهَّلَه لأن يكون النموذَجَ الإنسانيّ الأمثل والأرقى، صِدْقاً وأمانةً وخلقاً وسلوكاً مستقيماً تفرد به عن سائر الناس، مبرَّءاً من الأهواء، مُتَّجِهاً بكُلّيّته إلى الحق. وإن سِيَر الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً تُظهر أنهم من هذا المعدن الخاص. والأدلة على ذلك واضحة جلية، لا ينكرها غير متعسّف حاقد يتخبط في الأهواء، متحلّلٍ من التزام جانب الصدق، مُغْرِضٍ في القفز فوق الحقيقة.
فضلاً عن ذلك فإن الاصطفاء من الله العزيز الحكيم للرسل والأنبياء هو إيمانٌ أساسيٌّ في العقيدة الإسلامية، وأي خروجٍ عن هذا الإيمان هو ردَّة وخروج من الإسلام. قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}.
هذا من ناحية إثبات أن الرسولية أو النبوة ضرورة لا بد منها. أما من ناحية التأويل، بمعنى تحميل النصوص فوق طاقتها، فمن المتفق عليه أن لكل علم خصائصه، وأهله، ولا يحق لمتعوْلمٍ تنصيب نفسه قيماً على استنطاق النص، فكيف إذا وهب نفسه حرية استِنْباطه بِغَيْرِ سُلطانٍ ولا بَيِّنة.
ويلحق بمفهوم الحداثة مفهوم آخر، ونعني به: مفهوم التطور، فما هي حقيقته وملابساته؟
التطـور
من المفاهيم المغلوطة التي تسربت إلى الأذهان عند كثير من المسلمين ـ حتى أولئك الذين يقدِّمون بحوثاً ودراسات إسلامية ـ تفسيرهم للتطور بمعنى النشوء والارتقاء، فيما التطور لغةً، يعني ضروباً وأحوالاً مختلفة، أو التحول من حال إلى حال، أو من طور إلى طور.
والتطور بمعنى التحول من طور إلى طور، يتمثل في المفهوم الإسلاميّ، بقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا *}، أي خلق الإنسان طوراً: نطفةً، ثم طوراً: علقة، ثم: مضغةً، ثم: عظاماً، ثم: كسا العظام لحماً(+)، ثم أنشأه خلقاً آخر، نبتَ له الشعر، وكملت الصورة، ثم يمرُّ بعد اكتمال صورته على أحسن تقويم بأطوار جديدة أخرى: الطفولة، الصبا، الشباب، الكهولة، الشيخوخة.. ويقف مفهوم التطور في الإسلام عند حدود هذه الأطوار، ولا يتعداها إلى غيرها. فلم يعرف عنه، من ثَمَّ، أَكثر مما فُهِمَ منه، إلى أن غزت مفاهيم النشوء والارتقاء الأجيالَ الصاعدة، وساد الانقلاب الصناعيّ، ولمس الإنسان التحسُّن في بعض الميادين، ولا سيما وسائل النقل والاتصالات التي أذهلته، فانقاد انقياداً أعمى إلى جميع ما نتج من الغرب من تقدم في مجالات الحياة المدنية، ومن مفاهيم، بما في ذلك اصطلاح «التطور» الذي اعتبره الناس أنه هذا التحول في الاختراعات والاكتشافات إلى عصر يختلف عما سبقه..
ولكن لو اعترضتَ أحد هؤلاء الذين بهرهم الغرب بأشيائه الجديدة، وقلتَ له: إن هذا المفهوم للتطور يخالف الشريعة الإسلامية، أجاب بسرعة، وبدون تروّ أو تفكير: أتعود بنا إلى الوراء؟
وأما إذا كان من الذين يؤمنون بالإسلام، ويغارون عليه أجاب: إنَّ الإسلام مَرِنٌ، ومتطور يسير مع الأفكار التقدمية وهو مع التطور والتجديد حيثما وجدا، وينسى، أو يتناسى أن الأهداف العليا لصيانة المجتمع الإسلاميّ ليست من وضع الإنسان، بل هي من أوامر الله تعالى ونواهيه. وهذه الأوامر والنواهي ثابتة لا تتغير، ولا تتطور، فهي تحافظ على النسل، نسل الإنسان (بفرض حد الزنى)، وعلى العقل (بحد شارب الخمر)، وعلى الكرامة الإنسانية (بحد القذف)، وعلى نفس الإنسان (بعقوبة قتل العمد)، وعلى الملكية الفردية (بحد السرقة)، وعلى الدين (بحد المرتد)، وعلى الأمن (بحد قطاع الطرق)، وعلى الدولة (بحد أهل البغي).
إِذن فقد كان للاكتشافات العلمية والتقدم في الوسائل والأدوات والآلات في ميادين شتى أثرُها على إيجاد إشكالية في مفهوم هذا التقدم فسماه الغرب: تطوراً. وقد نشأت هذه الملابسة عند المسلمين أواخر القرن التاسعَ عشر، أي أيام الانحطاط الفكريّ لديهم، فشاع في صفوفهم عن الإسلام أنه مرنٌ ويساير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في كل زمان ومكان. ووجد الاستعمار الفرصة المناسبة للقضاء على التشريع الإسلاميّ، وطمس معالمه، فقام بتغذية هذه الملابسة حتى طغت على أفكار بعض المسلمين، وطُبعت في أذهانهم، وأصبحت تتحكم في تصرفاتهم.. وهذا بخلاف الإسلام الذي لا يُحل للمسلمين أن يتكيفوا مع الزمان ولا مع المكان خلافاً لعقيدتهم، بل عليهم معالجة المستجدات، وكل المتغيرات التي تحصل على ضوء كتاب الله تعالى وسنة نبيه (ص) ، وفيهما ما يجعل الحياةَ في ظل الإسلام ذاتَ طراز خاص متميز عن غيره كل التمييز، فلا يمكنهم بالتالي أن يخرقوا الأحكام الشرعية التي تنظم حياتهم، بل هم مقيدون بها لأنها من الله تعالى، وبذلك فإنهم لا يطمئنون فكرياً ولا نفسياً إلا بالأنظمة المبنية على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وهي وحدها التي تكفل لهم السعادة.
العـولمـة
بتخطيط من أميركا، وهي القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الكبرى، يتجه العالم ببطءٍ أحياناً، وبخطًى متسارعةٍ أحياناً أخرى، بحسب ما تقتضي الأوضاع نحو ما أصبح يُعْرَف بالعَوْلَمة.
والعَوْلَمَة: لفظٌ مستحدثٌ، ولذلك يُعتبر من المصطلحات الجديدة، ويقتضي شرحاً يبين ماهيته وأهدافه ومقاصده والغاية التي يسعى واضعوه للوصول إليها، كما يقتضي النظر فيه، لا كما يطرحه ويروّج له واضعوه ومهندسوه، بل كما يقتضي اعتباره مشروعاً شرعوا بتطبيقه ويراد له أن يعمَّ العالَم بأسره ويقيد الحركة السياسية والاقتصادية العالمية بقوانين وأنظمة ومواثيق ومعاهدات تنفرد بصياغتها أميركا وتوافق عليها معها أوروبا، ومن ثَمَّ ترضخ لأحكامها الدول التي تدور في فلكهما أو التابعة لهما التي لا تملك من أسباب ووسائل القوة ما يجعلها قادرة على الصمود والمجابهة.
ولذا، فإن العَوْلَمَة، هذه اللفظة، تحجب ما تُخفيه لتحقيق ما تنطوي عليه. فهي اسم مستحدث في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية منذ حوالي عشر سنوات، وهي تُطْلَق لا لوصف شيء بأنه عالميّ لوجوده أو تحققه في معظم أنحاء العالم، بل لتعيين أن فاعلاً أو فاعِلَيْن أو دولة أو دولتين أو شركة أو شركتين، أرادوا جعل هذا المسمَّى أو هذا الشيء عالمياً. ومثاله أن تتبنّى شركةٌ ما سياسةً إنتاجية تنظر إلى العالم كله بأنه صالح لأن تنتج فيه سلعها، ثم تباشر إنتاجها بالفعل في دولةٍ أو دولٍ تكون كلفةُ الإنتاج فيها أقل مما هي في سواها، وعندها يُقال عن هذه الشركة بأنها قد عَوْلمتْ إنتاجها.
ومن هنا وجب علينا المقارنة بين هذا الغزو الجديد وبين الغزو التبشيريّ الذي انطلق من مالطا في بداية القرن التاسع عشر الميلاديّ، والغزو الثقافيّ الذي هَدَفَ إلى صياغة أفكار المسلمين صياغة تكون تابعة لحضارة الغرب. وقد حقق الغربيون نجاحاً باهراً في ذلك، وتمكنوا من إحداث شرخ عميق في البِنَى الفكرية الإسلامية وخلخلتها عند المسلمين حينما زيَّفوا الوقائع التاريخية مُفْرِغين تلك البِنَى من محتواها. وقد تم ذلك بتمويهات مُتَأَنْسِنَةٍ تحت شعار العلم والإنسانية. وبهذا الشعار الذي ظاهره التحضُّر وباطنه التمكن من مصادرة العقول نجحوا في السيطرة على إدارة الفكر ووضعه في القنوات التي تخدم مصالحهم، وتحقق أهدافهم، من خلال الجامعات التي أغروا المسلمين بالانتساب إليها، ما نتج منه قَوْلَبةٌ ثقافيةٌ وبِنى فكريةٌ أبعدتهم عن الانتماء إلى الفكر الإسلاميّ الأصيل، وجعلتهم يتبنَّون تلقائياً ما يطرح من جرعات فلسفية أدت بهم إلى جعل الغرب النموذج الأمثل في إقامة المجتمعات.. الأمر الذي ساعد على احتلال بلاد المسلمين واستعمارها بعد احتلال عقولهم..
وبعد أن تبين للمسلمين زيف شعارات التحضر والأنسَنَة أخذوا يعيدون النظر في مدى صحة الأفكار والثقافة الغربية، ولكنهم ظلوا متخبطين في إيجاد طريق الإنقاذ: فمنهم من أرهقه البحث فاكتفى بالرفض، ومنهم من وجد في الماركسية إمكانية للخروج من المأزق، ومنهم من زاوج بين الاشتراكية والإسلام الاقتصاديّ. ولكن القاعدة الشعبية العريضة من المسلمين بقيت هي الخزان الأعرض بموروثها العقائديّ المجذَّر إيمانياً، والذي لا يقبل الجدل في أهلية الإسلام لقيادة العالم. تلك القاعدة الشعبية هي التي احتضنت نواة الدعوة إلى صحوة إسلامية نشاهد إشراقاتها هنا وهناك على امتداد العالم الإسلاميّ.
وفجأة تفتق عقل الغرب عن مبدإ تطويقيّ جديد يركز فيه غزوه واحتلاله بلاد المسلمين فجاء بالعولمة الاقتصادية التي ما هي إلا تكريسٌ لوجوده وقرصنةٌ مُقَونَنةٌ لنهب ثروات العالم الإسلاميّ، وإبقاء المسلمين أُجَراء في بلادهم، غير مالكين لثرواتهم، غرباء في مواطنهم وبين أهليهم.
أضواء على منطلقات العولمة:
قبل الاسترسال في تعداد وتفنيد مخاطر العولمة وتأثيرها السلبي والمدمر سياسات واقتصاديات الدول والشعوب الضعيفة، وما تحمل في طياتها من هدم للقيم الثقافية والاجتماعية، لا بد من إلقاء الضوء على المنطلقات الأساسية التي تقوم عليها.
مما لا جدال فيه أن العولمة هي وليدة المبدإ الرأسماليّ وإحدى إفرازاته الفكرية، ويمكن القول إنها أخذت بالتبلور بعد نجاح الولايات المتحدة الأميركية بمؤازرة الدول الرأسمالية الرئيسية في الغرب في تفكيك الاتحاد السوفياتي والإجهاز على نظامه، وبالتالي، على أنظمة الدول الأخرى التي تدور في فلكه وتدين بالمبدإ الشيوعيّ. كما أنها تجلّت، بكثير من الوضوح والتحدي إثر حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من إحكام السيطرة على أهم منابع النفط في العالم، وبعبارة لا تحتاج إلى دليل: بعد حسم الصراع الأيديولوجيّ لصالح الرأسمالية العالمية والإطباق على الطاقة المحركة للاقتصاد العالميّ إطباقاً كاملاً ولأمدٍ طويل ـ إن لم نقل ـ بشكل يكاد يكون نهائياً.
هذه مسلَّمة يعرفها كلّ من يتعاطى الشأن السياسيّ ومَن له دراية ولو متواضعة بمجريات الأوضاع السياسية والاقتصادية، إنْ محلياً أو إقليمياً، أو على المستوى العالميّ.
إن النظر إلى العولمة ينبغي فيه التركيز على أساسيتين تكمل إحداهما الأخرى؛ أولاهُمَا: أن العولمة فكر مبدئيّ شاملٌ كل مناحي الحياة، وإن كان المنحى الرأسماليّ مقدمتَه الأبرز فيه، ثانيتهما: أنها رديف للسيطرة على المناخات الفكرية وما ينبثق عنها من ثقافات وسلوكيات وأخلاقيات سياسية واقتصادية واجتماعية. وكلتا الأساسيتين تحركهما هجمة شرِسَة متمرّسة بالتخطيط لاحتواء شعوب العالم، ومنها الشعوب الإسلامية التي قدر الله تعالى لها أن تمتلك من الثروات الطبيعية ما جعلها محط أطماع الدول الكبرى التي تخشى أن يفلت زمام الأمور من يدها لوجود تلك الثروات، وتطمع في إحكام قبضتها عليها، ولا سيما بعد تزايد موجات العودة إلى استئناف الحياة على أساس الإسلام والدعوة إلى إدارة شؤون الحياة على منهاجه. ونذكّر في هذا المجال بما حدث من تخريب متعمَّد في اقتصاد كل من ماليزيا وأندونيسيا.
وجديرٌ أن نلمّح هنا إلى معلوم يُتجاهَل أحياناً، وهو أن المال الذي هو عصب الحياة في المبدإ الرأسماليّ هو المعوَّل عليه أولاً وأخيراً، وهو القيمة الأساسية لأي عمل أو تحرك أو إنجاز على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. وكل قيم الحياة في السياسة والثقافة والسلوك إنما تُردّ إلى تلك القيمة، وأي عمل لا يقيَّم على أساس هذه القاعدة ـ في المنظور الرأسمالي ـ هو مجرد نفخٍ في الهواء.
تعريف واقع العولمة:
في مجال التعريف بالعولمة، من المهم الإشارة إلى ما يلي:
1 ـ إن العولمة اشتقاق لفظيّ محمول على معناه المترجم من لغته الأصلية، وهو آتٍ من العالمية. والعالمية (Globalization) المقصودة في هذا المبنى هي عالمية المبدإ الديمقراطيّ الرأسماليّ (بنظر مبتدعيه)، أي جعله مبدأ العالم وحضارته. واحتكار لفظ العالمية هنا وتخصيصه بالديموقراطية الرأسمالية وترسيخه في الأذهان على أنه مبدأ العالم وحضارته هو نوع من التعالي والفَوْقية، بقدر ما هو احتقار للمبادىء الأخرى وتجاهل لوجودها.
2 ـ والعولمة أيضاً هي عبارة عن دمج وتطويع الاقتصاديات المحلية ضمن الاقتصاد العالميّ. وقد بدأنا نسمع عن دمج المصارف الكبرى المحلية في أميركا، وعن دمج الشركات الكبرى لصناعة السيارات بين أميركا وألمانيا. وهذا إنما يتم بحكم العولمة من طريق الاقتصاد المتخصص وربطه بالاقتصاد العالميّ وجعل عمليات التصدير في كل بلد تستهدف السوق العالميّ كما تستهدف السوق المحليّ سواء بسواء. ولذا فإن أميركا تسعى بالعولمة إلى تفكيك القطاع العام وتحويله إلى قطاع خاص، وذلك بغرض إزالة الحواجز والقيود لتسهيل انتقال الأموال والمنافع، وبالتالي لجعل الدول الضعيفة مجرد هياكل تتحرك بإرادة خارجية لا حَوْل لها ولا قوة، حتى أنها لا تملك من أمرها شيئاً، لأن مقدرات البلاد تصبح حينئذٍ بيد القطاع الذي تتحكم فيه المصارف العملاقة والشركات الكبرى الموجودة في أميركا والدول الأوروبية.
3 ـ إن السوق العالميّ والاقتصاد العالميّ في نظام العولمة لا يعنيان اقتصاديات الدول المُقْفَلة، أو المحميّة، بل يعني البلدان التي تتبع الانفتاح الاقتصاديّ. وأما الاقتصاد المُقْفَل والمَحْميّ فستجعله أميركا مهيَّأً ليسهل عليها الدخول إلى هذه البلدان، وذلك عن طريق تفتيت الدول إلى كيانات صغيرة، كما فعلت في يوغوسلافيا، مثلاً، وكما تحاول أن تفعله في ألبانيا. وينبغي أن لا يغيب عن البال أن أميركا عندما تندب نفسها لحل مشكلة ما فهي لا تتدخل لحلها، وإنما لتعقيدها، وغالباً ما تكون هي مثيرتها في الأساس.
فالسوق المفتوح عالمياً يعني إبقاء مجتمعات الدول الضعيفة مجتمعات استهلاكية لصالح الشركات الضخمة المموَّلَة من مصارف الدول الصناعية الكبرى. وهو ما ينتج عنه، حكماً، إحكام السيطرة على مجتمعات الدول الضعيفة والتي لن تقوى على مجاراة الدول الكبرى، أو حتى مجرد التفكير بمجاراتها إنتاجياً أو صناعياً.. الأمر الذي يبقيها خاضعة لإراداتها في كل اتجاه، وبالتالي يجعلها غير قادرة على استغلال ثرواتها وتوظيفها فيما يعود على شعوبها بالنهوض أو الخروج على الأقل من دائرة التخلف الاقتصاديّ.
4 ـ يُلاحَظ في العولمة تركيزها بشكل رئيسيّ على نظام الخَصْخَصَة، وذلك بتحويل القطاع العام إلى قطاع خاص، بدعْوَى عدم قدرة القطاع العام على أداء دوره بنجاح، وبدعْوَى سوء إنتاجيته وقصوره عن تلبية احتياجات السوق نتيجة فساد القائمين على إدارته، كونهم مؤدّين لمهمات وظيفية يعوزها العامل الاندفاعيّ الذي يميز أصحاب رؤوس الأموال ويجعلهم أكثر حزماً في إنماء ثرواتهم وأكثر حرصاً على تحسين نوعية الإنتاج وتطويره نحو الأفضل.
5 ـ المؤسساتية (مؤسسات الشركات والمصارف): ـ من المعلوم أن المصارف والشركات في دول مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية هي مصارف وشركات عملاقة، وبعض هذه المصارف شريك في شركات، وبعضها مؤسس ومالك لها، وبعضها داعم رئيسيّ لمشاريعها ومنشآتها، ما يعني قدرة مالية هائلة على إنتاج كمٍّ هائلٍ ومتميزٍ من السلع والخدمات والمشاريع التي لا سبيل إلى مقارنتها بقدرات المصارف والشركات في الدول الضعيفة، التي لن يكون لها حتى مجرد طموح في المنافسة مع تلك المصارف والشركات.
6 ـ أما بالنسبة للأسواق المالية، مثل أسواق الأسهم والسندات والعملات، والتي يجني أصحاب رؤوس الأموال من ورائها الأرباح الطائلة، فإن الشركات في الدول الكبرى هي التي تتحكم في تقويمها وقيمتها، علوّاً أو انخفاضاً، وذلك نظراً لتمرسها بالمضاربات المالية، كما فعل (سوروس) في شراء الأسهم بماليزيا. وفي هذا المناخ فإن الدول الضعيفة ستكون خاضعة لقانون العرض والطلب الذي تتلاعب فيه تلك الشركات العملاقة، تبعاً لسياسة الدول المسيطرة والتابعة لها. وما على الشركات في الدول الضعيفة إلا الرضوخ لواقع السوق ولواقع العرض والطلب وحرية التجارة تجاوباً مع نظام العولمة، الذي يُدار من قبل الدول الكبرى.
7 ـ إن نجاح أميركا في إدخال العولمة إلى الدول الأوروبية هو ما حثها على أن تسعى جاهدةً إلى تفتيت كيانات الدول الأخرى بتقسيم الدولة الواحدة إلى كيانات ودويلات، بغية تمهيد الطريق لإدخال العولمة إلى البلدان الرافضة لها أو تلك التي تحاول المحافظة على استقلاليتها ولو بحدودها الدنيا، ولا سيما في المناطق الاقتصادية الحسّاسة والزاخرة بالنفط والثروات الطبيعية والتي تعتبر ذات تأثير حضاريّ ـ اقتصاديّ ـ سياسيّ ـ ثقافيّ في محيطها.
وبإمعان النظر في ما يجري في العالم الإسلامي كله من مناورات سياسية، وما يُدار فيها من توتيرات تصل أحياناً إلى حد المجابهة العسكرية، ومن ثَمَّ تشهد تراجعاً يوحي بالبرمجة بعد تحقيق ما تصبو إليه، ندرك قصد أميركا وحلفائها من تقسيم اندونيسيا ـ التي تعتبر من أكبر دول المسلمين ـ إلى جزر لا حول لها ولا طولَ. ومن خلخلة كيان دولة مثل العراق والعمل على تمزيقها إلى دويلات. ويُلمح في هذا المجال محاولات أميركا في تحريض الأكراد والشيعة والسنّة على الانفصال، وفي إبقاء العراق في حالة عدم استقرار، وصولاً إلى هدف التفتيت. وما الضربات الأميركية الأخيرة التي وقعت على العراق إلا بداية دلالة على تقسيمه.
8 ـ وثمة عوامل ناتجة من العولمة تتمثل في اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء اتساعاً متزايداً، وذلك يجعل نمط الحياة في كل بلد مطبوعاً بالازدواجية والانشطار على جميع المستويات، وهو ما يُودِي بالشعوب إلى السقوط في القيم المادية البَحْتَة ويدخلها غيبوبة اللاإنتماء إلى أي بُعْدٍ إنسانيّ، حتى تصل على غير لإرادة منها إلى تبنّي أخلاقيات مَكْيَافِيليَّة، لعل أخطرها أن الغاية تبرر الوسيلة.
العولمة ومخاطرها:
إن تصور عالم منقاد لإدارة دولة تملك مفاتيح السيطرة على جميع القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية على وجه الكرة الأرضية، فارضةً عولمةً مادية لا أثر فيها لأي قيمة إنسانية، سوف يصبح، بلا ريب، عالماً غابيّاً، متوحشاً، يتحول فيه تسعة أعشاره إلى محتاجين يتكففون العيش على ما تبقى من موائد أباطرة المال؛ ويصادر نزوع الإنسان إلى الحياة السوية: في أن يكون مالكاً لإرادته، كريماً في عيشه، عزيزاً في مجتمعه ووطنه، غير مسحوق أو مُهان.
إن عالماً مَوسوماً بمادية ظالمة خالية من أي بعد إنساني سوف يكون استقراره هشاً، ممهوراً بالاضطراب، وهو ما سيؤدي به لا محالة إلى اندلاع أنواع من الحروب الخفية والمعلنة التي لا يعلم إلا اللّه تعالى أخطارها ونتائجها.
الخصـخصـة
الخصخصة من مكملات العولمة، وهي جزء منها، ولكن أفردنا لها عنواناً خاصاً لما فيها من خطورة على الملكية العامة. وهي فكرة رأسمالية، ظهرت في الثمانينيات من القرن العشرين، ومن وضع مستشار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق السيد ريغان، ومستشار رئيسة وزراء بريطانيا السالفة السيدة تاتشر. وتُعْرف الخَصْخَصَة بالليبرالية النقدية، أي بتحرير رأس المال، أو بعبارة أخرى، هي تحويل المؤسسات العامة والمنشآت والمصانع والمرافق الاقتصادية من ملكية الدولة، أي الملكية العامة، إلى الملكية الخاصة للشركات الرأسمالية وذلك عن طريق إفساح المجال لدخول الشركات العالمية الكبرى في هذه المصالح العامة كشريك. ويُسَمّى هذا الشريك الأجنبيّ بالشريك الاستراتيجيّ، مما يتيح أيضاً للدول الكبرى الاستيلاء على هذه المرافق الاقتصادية كالكهرباء والبريد والمياه والتلفون وغيرها، وتبرير ذلك أمام الشعوب بالخسارة الفادحة التي تنتج عن سوء الإدارة لهذه المرافق. وهذا التخلي عن المرافق العامة للأجانب يجعل من الحكام في الدولة هياكل لا عمل لهم، لأن جميع المصالح تصبح في يد الأجنبيّ التي يسيّرها بما يؤمِّن له الفائدة والربح عن طريق الرسوم التي تزداد مقاديرها بصورة مطردة.
الأصوليـة
,الأصولية وصف دخيل على الإسلام:
الحرب النفسية التي يشنها الغرب على الإسلام والمسلمين بقصد الإيذاء والتشويه ليست وليدة عصرنا الذي نعيش فيه، فقد تعرض الإسلام لمثلها منذ بدء دعوته، وعمل كفار قريش على النيل من النبيّ (ص) حين عجزوا عن مجابهة العقيدة الإسلامية فكرياً، فاتخذوا أسلوب التجريح والتهجم على شخص الرسول ليصرفوا الناس عنه وعن الاستماع إليه، والاستجابة لدعوته.
قالوا عنه إنه شاعر، وكاهن(+)، ومجنون(+) وساحر(+).
ورد عليهم القرآن مبيناً بطلان ما يدّعون، وما يهدفون إليه بنشرهم تلك الأراجيف، مثبِّتاً قلوب المؤمنين، واعداً من اتقى وصبر بالنعمة والفضل، وأنه سبحانه وليّهم(+) في الدنيا والآخرة.
فالمسلمون المتدبرون لقرآنهم لا يستغربون ما يذهب إليه الغرب في ترويج حربه النفسية على دين الله، وذلك من طريق إطلاق مقتبسات لفظية، أدخلها في السياسة الدولية، يرددها الإعلام وكأنها حقائقُ مسلَّمٌ بها، بغرض دمغ الإسلام والمسلمين بوصمة العداء للإنسانية والتقدم.
والواقع أن الساسة الغربيين نجحوا حتى الآن في صبغ المسلمين بتلك العدائية، وفي تصنيع مجموعة من التوصيفات الشاذة يثيرون من طريقها الرأي العام الدوليّ ويهيؤونه ليستقبل برضىً أيَّ إجراءات زجرية تُتخذ ضد أي دولة في البلاد الإسلامية التي لا يرضَون عن سياستها، أو يرغبون في إبقائها أسيرة نفوذهم.
هذا النهج السياسيّ الغربيّ الذي أصبح مألوفاً، ومفضوحاً بشكل سافر، يدخل ضمن استراتيجية تحددت منطلقاتها عقب انهيار الشيوعية وتراجعها الفكريّ. والغرب بنزوعه للاستئثار بالسيطرة على العالم وامتلاك ثرواته يدرك أن ليس ثمة من يقاوم أطماعه غير الإسلام، كونه المبدأ الوحيد الذي بإمكانه مناهضة الفكر الرأسماليّ، ليس من الناحية الإنسانية وحسب، بل وفي شتى مناحي الحياة، لشموليته الفكرية وأهليته لقيادة العالم، وقيام نظام دوليّ عادل.
لذلك فإنه بعد النجاح الذي حققه الغرب الرأسماليّ على الشيوعية بدأ الغربيون التمهيد لضرب المسلمين حتى في عقيدتهم، يشجعهم على ذلك نجاحهم في هدم نظام الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى. وقد وجدوا الطريق اليوم أمامهم سهلة وممهدة، نتيجة ما طرأ على الأفكار الإسلامية من تغشية لدى عامة المسلمين، فأخذوا ينشرون من خلال وجودهم القويّ في الإعلام وفي مراكز التأثير على الرأي العام افتراءاتهم على الإسلام والمسلمين تحت مسمّيات ابتدعوها، مثل: التطرف، والتشدد، والإرهاب. وأخيراً استقروا على جمعها تحت مصطلح «الأصولية»، وهو ما أصبح اليوم متداولاً باعتباره نهجاً إسلامياً. وقد تمكنوا من تكوين رأي عام يضع معظم الحركات الإسلامية إن لم يكن جميعها في هذا الإطار.
ومما يدعو للاستغراب أن تكون ردود الفعل عند المفكرين والعلماء المسلمين مقصِّرة، في دحض هذه المفتريات وإزالة اللبس المقصود حين يُنْعَتُ الإسلام بمصطلح دخيل هو الأصولية، إذ لم يسبق التعريف بالإسلام على أنه أصوليّ، ولكنها مغالطة يُراد إلصاقها بالإسلام كرهاً به وإمعاناً في محاربته، ومنع المسلمين من الكفاح السياسيّ لتحرير شعوبهم من السيطرة.
فبدلاً من أن يعمل مفكرو الأمة وعلماؤها للتركيز على بيان عدم انطباق مفهوم الأصولية على الإسلام، ومن ثم بيان أن الإسلام هو الإسلام، وأن المسلمين هم المسلمون، وأن هذاالوصف هو الوصف الصحيح، ولا ينطبق عليهم أي وصف آخر، نَجِدُهُم متخبطين بين متقبّلين للتوصيف الغربيّ ظناً منهم أن الأصولية هي العودة إلى (الأصول) فيدافعون عن الأصولية باعتبارها إسلاماً، وبين متبرِّئين من هذا التوصيف باعتباره اتهاماً مغرضاً يندرج في خط التمرد على الحضارة الحديثة والوقوف في وجه الرفاه البشريّ والتقدم العلميّ والصناعيّ والتقنيّ. والأدهى أن ثمة حكومات (في المحيط الإسلاميّ) وقعت في هذا الخلط بين الإسلام والأصولية فاعتبرتهما شيئاً واحداً، واعتبرت كل متمسكٍ بإسلامه وعقيدته، داعٍ إلى استئناف الحياة على أساس المبدإ الإسلاميّ، ذا نزعة أصولية.
فأين وجه الحقيقة في هذه المغالطة؟ ثم ما هي الأصولية التي يعنيها الغربيون، ومن أين أتى هذا المصطلح المتداول على ألسنة الناس؟..
منشأ الأصولية:
برزت الأصولية باعتبارها حركة بروتستنتية لها وجهةُ نظرٍ معاديةٌ للعلوم والفلسفة الحديثة مع أواخر القرن التاسع عشر الميلاديّ في أوروبا، وكان ذلك تحت شعار الالتزام التام بالتعاليم النصرانية. وترجمت الحركة موقفها إلى مبادىء بانعقاد مؤتمر (نياجرا) الإنجيليّ عام 1878م، ثم المؤتمر العام البروسبتيري عام 1910م. ونتج من هذين المؤتمرين مجموعة أفكار مبدئية مؤسسة على العقائد النصرانية، حملت لواء معارضة التقدم العلميّ الذي يفرزه تطبيق المبدإ الرأسماليّ في غرب أوروبا، والمؤسَّس أصلاً على عقيدة فصل الدين عن الدولة، وبالتالي منع الكنيسة من التدخل في الشؤون الحياتية.
وعلى الرغم من عجز هذه الأصولية عن التأثير تأثيراً فاعلاً في محيطها، فإن مبادئها لدى الأوروبيين الغربيين وُصِمَت بالتخلف العقليّ، وهو تعبير شاع واستعمل بطريقة فيها الكثير من التهكم. واعتبرت الأصوليةُ منذ ذلك الحين عدوةَ التقدم العلميّ وآفةً يجب محاربتها واستئصالها، بل وإزالةُ جميع آثارها ومظاهرها من المجتمعات، وذلك نظراً لما عانته أوروبا من تخلف وظلامية حين كانت سيطرة رجال الدين سائدة وموجِّهة للملوك والقياصرة قبل بزوغ ما يسمونه عصر النهضة والتقدم التكنولوجيّ أو قيام مجتمعات وأنظمة تطورت إلى ما أصبح يعرف بالأنظمة الديموقراطية الرأسمالية. وتشكّل رأي عام اعتبر الأصولية ظاهرة فظّة لا تتلاءم مع نزوع المجتمعات إلى التقدم في عصر النهضة، وهو العصر الذي مكَّن الدول الصناعية الكبرى من تحقيق إنجازات مادية في ميادين العلوم والصناعة والفنون، وأطلق فيها ملكات الإبداع. ولكن عصر النهضة أفرز إلى جانب إنجازاته تلك سلوكياتٍ أخلاقيةً وعلاقاتٍ اجتماعيةً فاسدة، وفي الوقت نفسه قلَّص سلطة الكنيسة ورجال الدين، ما دعا الغيارى على نصرانيتهم إلى رفض مبدإ الرأسمالية ككل ومعاداة نتاجها، والمناداة بالعودة إلى أصول النصرانية. وجاراهم في منحاهم هذا اليهود، ولعل هذه المجاراة ليست على سبيل المصادفة، فمن المعلوم أن نصرانية الغرب، والبروتستنتية منها على الأخص، تُظهر العطف على اليهود وتُردد بحرارة تفسيراتهم ونبوءاتهم التوراتية. ودلالة ذلك واضحة في تأييدها اللامحدود للدولة العبرية ودعمها بكل أسباب القوة.
ولكن، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية بدا من المستحيل أن تأخذ الأصولية النصرانية دوراً بين أزيز الطائرات وقصف المدافع، فضاعت مبادئها وأفكارها مع دخان الحرائق وجثث ملايين القتلى، وغدت في سجل التاريخ خبراً يذكر بامتعاض، وينظر إليه الغرب باعتباره شبحاً من الماضي.
فالأصولية إذاً بذلك المضمون المتخلف هي مولود أوروبيّ، نشأ في أحضان الغرب. وبالرغم من أن هذا المولود لم يصل إلى مرحلة البلوغ، فقد تركز في أذهان الغربيين أن الأصولية مناقضة لمبدإ الارتقاء بالحياة، وعاجزة عن تقديم حلول لمشكلاتها.
وهنا ينبغي الإقرار بصوابية هذا الحكم على الأصولية بمعناها الخاوي من إيجاد الحلول والمعادي للتقدم العلميّ والصناعيّ. ويجب أن يُلْحظ في هذا السياق أن البرتستنتية في منحاها الأصوليّ، إنما استقت أصوليتها من نصرانيتها، ومعلوم أن النصرانية عقيدة تعنى بالروح، ولا تتضمن قواعدَ ينبثق منها نظامُ حكمٍ ينظم علاقات الناس في ما بينهم على أساسٍ قابلٍ للقَوْنَنَة، وهو ما جعل الناس في الغرب يفصلون الدين عن الدولة، وينشؤون أنظمة وضعية تنظم مجتمعاتهم، واقتصروا على إبقاء سلطة الدين في الكنائس، تاركين حرية الاعتقاد للأفراد يعتقدون ما يريدون.
ومن هنا أيضاً نشأ اعتقاد الغربيين بضرورة محاربة أي حركة توصف بالأصولية، بسبب خصوصية هذا المصطلح في جانبه التاريخيّ المستقر في أذهانهم. ولذلك نجد أن الشعوب الغربية تؤيد مواقف دولها في وجه ما أطلقوا عليه الأصولية الإسلامية، ولا سيما أن شعوب الغرب لا تعلم عن الإسلام غير ما زرعه في ثقافتها معظم المستشرقين المغرضين من اللاهوتيين، والذين لا ينظرون بِحَيْدةٍ إلى الإسلام، ولا يقدمونه لشعوبهم على حقيقته. وزاد الأمرَ بلبلةً انكفاءُ الدول في العالم الإسلاميّ عن تقديم النموذج الصالح، وتراجعُ المسلمين عن أداء دورهم في بناء الحياة على أساس عقيدتهم ومنهاجهم، وهو ما يجعل الغربيين مذعورين عندما يسمعون بأن ثمة من يدعو إلى إقامة دولة بحاكمية دينية.. الأمر الذي انعكس سلباً على الحركات الإسلامية جميعها، وأدخلها زوراً في نفق مصطلح الأصولية وإيحاءاته التاريخية.
وشاهدُ ذلك تأييدهم الواضح للإجراءات القاسية التي تنفذها حكومات في بلدان إسلامية في من يوصفون بالأصوليين الإسلاميين، ووقوف منظمات حقوق الإنسان في الغرب موقف المتفرج إزاء تنفيذ أحكام الإعدام، وإجراءات التنكيل التي تنفذ في الإسلاميين نتيجة دمغهم بالأصولية واتهامهم بارتكاب جرائم بشعة، مثل قتل السياح، والاعتداء على نصارى محليين، وزرع المتفجرات في الأماكن الآهلة، والتسبب بإزهاق أرواح بريئة.
وإن كنا لسنا في صدد تقديم الملابسات حول خلفيات هذه الأعمال وما تنطوي عليه من دسيسة، فإن من الضروريّ أن نلحظ تمكن الاستخبارات الغربية من إدارة هذه المكيدة بكفاية، حتى غدا أيُّ عمل أو تحرك سياسيّ أو حقوقيّ إسلاميّ في نظر الرأي العام الدوليّ واقعاً تحت مطرقة ممارسة الإرهاب وصادراً عن الأصولية الإسلامية.
نخلص من هذا إلى أن الحرب النفسية التي نشهد فصولها، هنا وهناك، إنما تحركها استراتيجية أدرك واضعوها مبلغ الخطر الذي يهدد مصالحهم وأطماعهم في السيطرة إذا قيض الله للمسلمين إعادة الإسلام إلى منطق الدولة. وربما كان الساسة الغربيون أكثر وعياً من كثير من ساسة الشعوب الإسلامية بقدرة المبدإ الإسلاميّ على تغيير الواقع، وقلب معادلات القوة في العالم، وبالتالي إيجاد نظام يعيد للإنسانية كرامتها، ولقيم الحضارة وجهها الأصيل.
ويُشار في هذا المنحى إلى أن المغالطة في وصف الحركات الإسلامية بالأصولية هي مغالطة مقصودة لم تطلق جزافاً من قبل الاستراتيجية الغربية. فدُهاتها يريدون إيجاد مبرّرات أدبية أمام شعوبهم كي يتمكنوا من القيام بأعمال سياسية أو عسكرية مستقبلاً، في حال وصول حركة إسلامية إلى الحكم في بلد ما، أو في حال سكوتهم عن إجراءات قمعية تمارسها سلطة حكومية على تلك الحركات في بلد يدور في فلك السياسة الغربية، أو خاضع لها، أو متظاهر بتطبيق نوع من ديموقراطيتها.
أما تنسيب الأصولية إلى الإسلام على أساس أنها رجوع إلى أصل الدين أو أصول الفقه، فهو تنسيب مردود ولا ينطبق على واقع، لأن أصل الدين الإسلاميّ هو العقيدة الإسلامية، أي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، والأصول فيه متعلقة بفقهه، أي بالقواعد التي يبنى عليها الفقه، والتي يستعملها المجتهد لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
وفي تاريخ الدولة الإسلامية ظهر الكثير من الحركات والمدارس، ولكنها لم توصف بالأصولية، ولم يوصم أحد من أفرادها بالأصولية بل اعتبرت حركات إسلامية. كما أنه لا وجه للمقارنة بين ما دعت إليه الحركة البروتستانتية والحركات الإسلامية التي قامت على أساس إيجاد حلول لمشاكل الحياة على معايير فقهية، وكذلك معظم الحركات الإسلامية المعاصرة التي تعمل هي أيضاً بظهير فقهيّ لمواجهة متغيرات الحياة بإيجاد حلول شرعية عملية لها، دون معاداة التقدم العلميّ والصناعيّ.
لقد انقسَمَ علماءُ المسلمين قسمين تجاه الأصولية: القسم الأول يدافع عن الإسلام ويحاول أن يبرئه من الجمود والتخلف ويقول بأن الإسلام ليس عدواً للتقدم العلميّ والصناعيّ والفنيّ، والقسم الثاني قبل التهمة وألصقها بدينه ظناً منه أن الذين يتمسكون بالإسلام هم أصوليون، مع أن الإسلام ليس بحاجة إلى من يدافع عنه أو إلى مَن يبرئه لأنه ليس متهماً، بل هو بحاجة إلى مَنْ يبلّغه ويدعو إليه بأمانة وإخلاص، لأن الدعوة إلى الإسلام هي كالجَرَيان بالنسبة للماء، فكما أن الماء يَرْوي ويَسْقي ويعطي الخير للناس، ولكنه بحاجة إلى مَن ينقله وينقل خيره من غير أن يلوثه، فكذلك الإسلام هو أيضاً يحتاج إلى مَن ينقله وينقل خيره، دون تحريف، لكي يَرْويَ ويسقيَ العطاشى إلى الحق، ويَهْديَ، ويُرْشدَ من يريد الارتواء من معين الله الرحمن الرحيم.
وهنا تبرز الصلة الوثيقة بين الإسلام والدعوة إليه، وبناءً على هذا يقول الرسول (ص) : «بلِّغوا عني ولو آية»(+)؛ وقال: (ص) : «نَضَّر الله عبداً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فربَّ حاملِ فِقْهٍ ليس بفقيه، ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أفقه منه»(+) . وعن عمر بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قام رسول الله (ص) بالخِيف من منىً فقال: «نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فبلّغها، فربَّ حامل فقهٍ غير فقيه، ورُبَّ حَامِل فقهٍ إلى مَن هو أَفقه منه»(+). وكما أن الله أنزل الماء من السماء ليحييَ به الأجسادَ الأَكِلة، كذلك أنزل ـ سبحانه ـ الوحيَ من السماء ليحييَ به النفوس العاقلة. والشريعة في اللغة هي مورد الشارِبَة، وكذلك الشريعة هي ما شرع الله لعباده من الدين.
الإرهـاب
إن شيوع لفظ الإرهاب وتداوله بمدلوله السياسيّ بقصد وصف عمل عنفيّ تشجع عليه دولة ما، أو تقوم به مجموعة، أو فرد، يوحي على الفور بممارسة همجية.
وإنه لكذلك فعلاً.
ولكن يُلْحَظ أن استعماله اتخذ مساراً استنسابياً، يُسَيَّر بحسب ما تقتضيه مصالحُ مَن يطلقونه، ويخضع لرؤية سياسية خاصة تنطوي على تحقيق أهداف سياسية من قبل دولة ضد دولة، أومن قبل المخطِّطين في دولة ضد مجموعة معارضة، أو ضدّ شعوب مقاومة تعمل على إزاحة محتلِّي أوطانها باستعمال حقها في الدفاع عن كياناتها وبلدانها من طريق الكفاح المسلَّح، بعد يأسٍ من الوسائل الأخرى، أو نتيجة وجهة نظر خاصة بها.
وإذا ما أُريد تعريف هذا اللفظ من الناحية اللغوية، ثم من ناحية صيرورته مصطلحاً يتبين الآتي:
1 ـ من الناحية اللغوية:
رَهَبَ يَرْهَبُ رَهْبَةً ورُهْباً ورَهَباً: أي خاف. وترهَّب غيرَه: إذا تَوَعَّدَه. والرَّهْبَة: الخوف والفزع، وأرْهَبَهُ: أخافَهُ وفَزّعَهُ(+).
2 ـ ومن الناحية الاصطلاحية:
الإرهاب، مصدر أرْهَبَ. وهو رُعْبٌ تحدثه أعمال عنفٍ كالقتل وإلقاء المتفجرات أوالتخريب.
والإرهابيّ: مَن يلجأ إلى الإرهاب بالقتل أو إلقاء المتفجرات أو إطلاق الصواريخ أو قنابل الطائرات والمدافع أو التخريب في العقول والنفوس والممتلكات لإقامة سلطة أو تقويض أخرى.
والحكم الإرهابيّ: نوع من الحكم الاستبداديّ يقوم على سَوْسِ الشعب بالشّدة والعنف بغيةَ القضاء على النزعات والحركات التحررية أو الاستقلالية(+).
وفي اللغة الإنجليزية فإن الفعل Terror يعني: ترويع، رعب، هَوْل. وكلمة Terrorism تعني: إرهاب، أي استعمال القوة والتهديد للإخضاع، وأيضاً: إخضاع بالإرهاب. وعبارة Regime of terror تعني: حكم الإرهاب (في فرنسا القرن الثامن عشر الميلاديّ)(+).
وقد عرّفت كلٌّ من الاستخبارات الأميركية والبريطانية الإرهاب أنه (استعمال العنف ضد مصالح مدنية لتحقيق أهداف سياسية)، وذلك في ندوة تمَّ عقدها عام 1979م بغرض بحث ظاهرة الإرهاب ودرسها .
ثم إنه بهدف الوصول إلى محاصرة التحركات السياسية المناهضة لتسلط الغرب، وعلى رأسه أميركا وبريطانيا، قامت هاتان الدولتان بتكثيف جهودهما في هذا الاتجاه فَدَعَتا ودعمتا انعقاد مؤتمرات وندوات دولية لسن تشريعات وقوانين باسم المجتمع الدوليّ تجيز اتخاذ الإجراءات اللازمة بحق الدول والجماعات التي تقوم بأعمال عنف، أو تساعد على القيام بها. وقد ظهر بالممارسة أن المقصود بذلك هي الدول والجماعات التي تشق عصا الطاعة وتتمرد على سياستهما. وقد أجازت كل منهما لنفسها تحديد الأعمال التي يمكن وصفها بالإرهاب، بل وتسمية الدول والجماعات التي تُدرجانها في لائحة الإرهاب،.ويتّضح من مجمل تلك القوانين والتشريعات النيات المختبئة وراءها، وكذلك مدى تمكن الدولتين من إخضاع الاتجاهات السياسية التي تخدم مصالح دول الغرب عموماً، ومصالح كل منهما على وجه أخصّ.
وإذا استرجعنا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ حادثة تفجير مكتب الاتحاد الفيدراليّ بأوكلاهوما نتبين كيف تعاملت أميركا مع هذا الحدث بادىء الأمر. فقد وسَمَته على الفور بالعمل الإرهابيّ، وذلك بقصد توظيفه ولَصْقه بجهة ما. ولكن انكشاف ظروفه وافتضاح معالمه لدى الرأي العام اضطر الإدارة الأميركية للسير في اتجاه إجراء تحقيق على ضوء ما تكشف من خبايا. وعندما تبين أن وراء التفجير ميلشيات أميركية، إذ ذاك تحول وصف الحادثة من عمل إرهابيّ إلى عمل إجراميّ. والفارق بين العمل الإرهابيّ والعمل الإجراميّ كبير جداً، لأن العمل الإجراميّ يطال منفذيه فقط، أما العمل الإرهابيّ فيطال منفذيه ومَن وراءهم.
كذلك إذا استرجعنا حادثة إحراق ثلاثة أطفال عمداً في إيرلندا، حين أقدمت مجموعة من الـ(أورانج أودا) على إلقاء قنبلة حارقة على منزل تسكنه سيدة كاثوليكية لمجرد كونها غير بروتستانتية تربّي أطفالاً من أب بروتستانتيّ. فعلى الرغم من كون هذا العمل ذا طبيعة سياسية قصد به تخريب الاتفاق الذي أبرم مؤخراً بين الطائفتين المتناحرتين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا برعاية الحكومة البريطانية، فإنَّ وصف المسؤولين الحكوميين له في كل من بريطانيا وأميركا لم يوسم بالإرهاب ولم يتفوَّه بلفظه لا من قريب ولا من بعيد، وغاية ما استعمل في وصفه أنه عمل بشع، وجريمة شنيعة.
ولو أن مثل هذا العمل حدث من قبل مجموعة مناهضة للسياسات الغربية لقامت الدنيا وما قعدت، ولشاهدنا شاشات التلفزة في أنحاء المعمورة تندّد به مستصرخة الرأي العام الدوليّ واضعة إياه في دائرة الإرهاب، ولسمعنا تصريحات المسؤولين وتلميحاتهم بضرورة الاقتصاص وتنفيذ القوانين والتشريعات الفورية بمَن يقفون وراءه، بينما لم نسمع ولم نشاهد شيئاً من ذلك عندما دمّرت أميركا مصنع الأدوية في السودان..
ومن الأمور العجيبة التي تدعو إلى التقزّز أن هاتين الدولتين لا تعتبران الأعمال التي تقوم بها إسرائيل في فلسطين من مذابحَ وتدميرٍ للبيوت على أصحابها بواسطة الطائرات والدبابات أعمالاً إرهابية. وحتى في حال وقوع حدث خطير وبدا للرأي العام الدوليّ إرهابياً كما وقع في مقتل الطفل محمد الدرة وهو مُحْتَمٍ بأبيه، وكما وقع سابقاً في مجزرة قانا بلبنان حين قامت إسرائيل بأقذر عمل عسكريّ فقصفت بالصواريخ والقنابل الحارقة مدنيين احتمَوْا بالقوات الدولية، فإن أميركا بالذات بذلت ضغوطاً سياسيةً واسعةً لمنع صدور قرار من مجلس الأمن يضع هذا العملَ في دائرة الإرهاب، ووقفت ضد كل مشاريع القرارات التي تقدمت بها أكثرُ من دولة لاتخاذ ما يلزم من عقوباتٍ ضد إسرائيل، وتمكنت من إملاء إرادتها على مجلس الأمن باستصدار قرار إدانة خجول ومُصوغٍ صياغة هشة يردُّ أسباب تلك المجزرة الوحشية إلى طبيعة الصراع في المنطقة، ويطلب من الفرقاء ممارسة ضبط النفس، ويساوي بين المدافعين عن أرضهم والمعتدين عليها، وبعبارة قاسية يساوي بين الجلاّد والضحية.
ولنا أن نتصور كيف يكون الحال لو أن مثل هذا العمل قامت به دولة عربية على مدنيين إسرائيليين.
وإذا تتبعنا تصرف الإدارة الأميركية حيال مثل هذه الأعمال نجد العجب العجاب. فهي تصف وبوضوح حركة الثوار في نيكاراغوا بأنها حركة شعبية، وكذلك وصفها لجيش التحرير الإيرلنديّ، بل وتعتبر الذين يقاتلون معهما ويقعون في الأسر أسرى حرب على أساس بروتوكول عام 1977م بحسب ملحق اتفاق جنيف. أما حركات التحرير الأخرى المضادة لمصالح أميركا وعملائها فإن أميركا لا تتورع عن وضعها في قائمة الإرهاب، وتطلب من المجتمع الدوليّ معاقبتها. وأميركا تنظر إلى معظم الحركات الإسلامية كحركات إرهابية، وهو ما يبدو جلياً من خلال تصريحات المسؤولين الأميركيين ضد الجماعات والحركات الإسلامية العاملة في مصر وباكستان وفلسطين والجزائر وغيرها، وعبر تشجيع المسؤولين في هذه الدول على سحق تلك الحركات، وسكوتها عما يمارس ضدها من إجراءات قاسية تصل إلى حد تطبيق أحكام الإعدام أو السجن سنوات دون محاكمة حقيقية.
وتعصب أميركا لمصالحها يدفعها إلى تعميم صفة الإرهاب على الدول التي لا تماشيها في رعاية مصالحها مثل كوريا والصين والعراق وليبيا، بل وعلى كثير من الحركات الإسلامية التي تدافع عن أرضها وإنسانها وشرفها وكرامتها، مثل حزب الله في لبنان، والجهاد وحماس في فلسطين، وجبهة الإنقاذ في الجزائر. وقد استغلت أميركا التفجيرات التي حصلت في فلسطين ضد اليهود، والتفجيرات والأعمال التي حصلت في الجزائر، فوظفتها في سياق محاربة الأعمال الإرهابية. كذلك استغلت أعمال التفجير وقتل السياح التي حدثت في مصر وألصقتها بالجماعة الإسلامية لتجاهر بعدائها للإسلاميين، ولكل حزب يعمل لإعادة دولة الخلافة الإسلامية، على الرغم من كون تلك الأعمال مدسوسة على الإسلاميين ولا دخل للأحزاب الإسلامية فيها. غير أن ماكينة الاستخبارات الأميركية بإمكاناتها الضخمة ووكالات أنبائها الواسعة الانتشار قادرةٌ على إلباس ثوب الإرهاب وتهييج الرأي العام ضد من يهددون مصالحها ويناهضون مخططاتها السياسية.
ولذلك نرى كيف تمكنت أميركا، بموجب المعاهدات والقرارات التي انتزعتها من المجتمع الدوليّ، من تأسيس أحقية شرعية تستطيع من طريقها ملاحقة وضرب كل من تصفه بالإرهاب كما فعلت في شهر آب 1998م عندما ضربت بصواريخها المدمرة أفغانستان، والسودان، وكما فعلت وتفعل كل يوم ربيبتها إسرائيل التي تقذف المدنيين من أطفال انتفاضة الحجارة في فلسطين وفي جنوب لبنان بحمم الصواريخ والمدافع الثقيلة، والتي يهدد باستمرار وزراؤها وقادتها العسكريون بضرب منشآت البنية التحتية في لبنان ولا سيما منشآت الكهرباء والماء، لردع المقاومين عن ضرب المحتل لأراضيهم. وذهب وزراء شارون إلى أبعد من ذلك فهم يهددون مصر اليوم بضرب السد العالي. وبواسطة إعلامها وعملائها هيأت أميركا العالم لتقبُّلِ ما تقوم به من عقوبات وإجراءات تصل إلى حد فرض حصار اقتصاديّ وشن حملات عسكرية على بعض الدول التي تصفها ـ من منظارها ـ بأنها داعمة لأعمال إرهابية. ولعل أوضح تعبير عن نية أميركا ما صرح به شولتز وهو أحد وزراء خارجيتها السابقين حيث قال: «إن الإرهابيين مهما حاولوا الفرار فلن يتمكنوا من الاختباء». وهذا القول في حد ذاته ينطوي على ما هو أكثر من الإرهاب، لصدوره عن وزير دولة كبرى لديها من إمكانات التدمير وتدبير المؤامرات ووضع الخطط وتزييف الوقائع ما لا تملكه الدول الأخرى، فما بالك بالحركات والأحزاب السياسية الإسلامية التي لا تملك غير الكفاح الفكريّ في حربها مع مالكي الصواريخ العابرة القارات وعمالقة القوة النووية في العالم.
لذلك نرى أن وصف أميركا للإسلام بالإرهاب والمسلمين بالإرهابيين وصف مغرض، ولا ينطبق على واقع، ويهدف إلى منع المسلمين من ممارسة حقهم في الحياة السياسية على ضوء عقيدتهم ومبدئهم. فالإسلام رسالة رحمة وليس رسالة إرهاب، وإذا كان ثمة من يدعي غير ذلك فليقرأ التاريخ بوعيٍ وتجردٍ ليزداد يقيناً. أما أن يقال عن الإسلام إنه دين حرب، وإنه فتح البلدان بالقوة والسيف فهو قول يفتقر إلى المعرفة للتفريق بين وجود دولة إسلامية تقوم بحمل رسالة وتجاهد في سبيل إشاعة العدل وإقامة الحق بين الناس كافة، وبين مجموعات إرهابية أو ميليشيات مسلحة تقوم بحرق الأطفال كما حصل في إيرلندا وترويع الآمنين وقتلهم كما حصل في تفجير مبنى مكتب الاتحاد الفيدراليّ في أوكلاهوما بأميركا، وتعمد إلى إحراق عشرات المدنيين بالصواريخ والقنابل الإسرائيلية الحارقة كما يحصل في فلسطين وكما حصل في مجزرة قانا بجنوب لبنان.
الحِـوار بين الأديـان
الدعوة إلى الإسلام من الأمور التي فرضها الله تعالى على المسلمين، وهي تكليف من التكاليف الشرعية التي لا خلاف عليها. والمسلمون منذ بدء الدعوة لم يتخلفوا عن القيام بهذا التكليف انصياعاً لأمر الله تعالى ورسوله (ص) ، باعتبار ذلك طاعةً من الطاعات، إذ قال عز من قائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال الرسول في كتابه إلى هرقل عظيم الروم: «... فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتك الله أجرَك مرتين، فإن توَلَّيت فعليك إثمُ الأريسيين».
فالدعوة إلى الإسلام لم تتوقف على مدى أربعة عشر قرناً، وستظل قائمة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. أما أنها أقل بروزاً اليوم، فذاك أمر طبيعيّ، لعدم وجود الدولة التي تحملها إلى العالم وتتحمل أعباءها، وما يقتضي ذلك من رعاية، إلى جانب ما طرأ من تحوُّلاتِ ضعفٍ عند المسلمين، وما يعانونه في واقعهم العام من تدهور، مما جعلهم غير قادرين على القيام بهذاالتكليف خير قيام.
ولكن، على الرغم من ذلك، فإن الدعوة إلى الإسلام يقوم بها هنا وهناك أفرادٌ في الأمة، وتمارسها هيئات ولجان ومنظمات في بلادٍ إسلامية وغير إسلامية، ولو أنها لا تصل إلى الدرجة المرجوة في ظل دولة تحملها. وهذا كلُّه ينعكس سلباً على تقديم الإسلام بصفته عقيدةً، ومبدأ، ونظامَ حياة.
وعلى الرغم من ضغوط هذا الواقع، فإنه لا يغيب عن الملاحظة أن خط الإقبال على الإسلام خارج نطاق العالم الإسلاميّ هو في حالة صعود، ولو بدرجه بطيئة. ومردّ ذلك إلى ما تعيشه مجتمعات غير إسلامية من فراغٍ في العقيدة، وبسبب غلوها في المادية، وخوائها من فكرٍ سَوِيّ يبين علاقة الإنسان في دورته مع الحياة الدنيا بربطها بما قبلها وما بعدها، وبسبب التباسات في مفاهيم دينية مشوشة، ولا سيما بعد أن غدت النظرة إلى الإنسان في تلك المجتمعات قائمةً على أساس أنه منتج مستهلك، وأنه القوة الأعظم في السيطرة على كل مظهر من مظاهر الوجود، لا يشاركه فيها أحد. وهذا يناقض الفطرة التي فطر الله تعالى عليها هذا الكائن البشريّ، كما يناقض حقيقة جميع ما في الوجود من مخلوقات وأشياء، وأن هذا الإنسان هو من ضمن المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وميّزه عليها. والفطرة عندما تصطدم بما يناقضها، وهي تتلمسه نتيجة إعمال الفكر ووجود معلومات صحيحة، فإنه لا مفرّ للإنسان من البحث عما يناسب فطرته، لتستويَ فيطمئن. فإذا قيَّض الله له مَن يهديه ويأخذ بيده إلى الإسلام، أو تمكن بطريقة ما من الاطلاع على هذا الدين الكريم، استجابت الفطرة، فلبّى داعيَ الإيمان فيها، قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *}. فأكثر الناس لا يعلمون حقيقة هذا الدين الكريم الذي يأخذ بيدهم إلى مراقي المعرفة لكل شيء، ويرسم لهم كيف يتعاملون مع الحياة بما يشعرهم بقيمة وجودهم، ويقودهم إلى السبل الصحيحة لتعاملهم مع بعضهم البعض، بما يحقِّقُ لهم الخير والصلاح.
الفرق بين الدعوة والحِوار:
إن الفكرة من الحوار بين الأديان الجاري على الساحة العالمية والمحلية هي من المشاريع التي تنطوي على الكثير من الشك، إن من ناحية الأهداف، أو من ناحية طرحها اتجاهاً غرضه التقريب بين الأديان. وكلتا الناحيتين لا تتفقان مع الدعوة إلى الإسلام على أساس أنه خاتم الرسالات، وأنه الدين المهيمن على سواه من الأديان، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *}(+).
إن معنى (مهيمناً) في الآية: الحاكم، الشاهد، الأمين، الحافظ، الرقيب، فأي معنى أُخذ من هذه المعاني يُفضي إلى أن الإسلام أحق أن يُسْتَمَع ويُحْتَكَم إليه. وتمام المعنى أن الإسلام له المركز الأرقى، وهو من موقعه هذا الأقوم على أن يُدْعَى إليه، لا كما يريده مهندسو فكرة الحوار بين الأديان في موضعٍ مقارب، بحيث يؤخذ منه ما يتفق مع ما يؤمنون به، ويُتْرَك ما لا يتفق، وفي ذلك خروج عن خط الإسلام الصحيح. ولا يجوز التنازل عن شيء في الإسلام قلَّ أم كثر، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}.
ثم إن الحوار بين الأديان على أساس العقيدة، فكرة شجع عليها الإسلام، قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *}، فالغرض من فكرة الحوار في الإسلام أن يتم على قواعد لا بد من التأكيد عليها وهي: التوحيد، نفي الشرك، إفراد العبادة لله وحده، أن لا يُطيع أحدٌ أحداً من الناس في معصية الله. وهو ما يدل عليه نص الآية دلالة لا لبسَ فيها.
فهل الحوار الجاري الآن قائم على هذا الأساس؟. وإذا كان الجواب بالنفي، وهو قطعاً كذلك، فإن من الواجب التدليل على بطلانه، ومن ثم تبيين بواطنه وما يدور من شكوك حوله. وذلك أقل ما ينبغي على مسلم أن يفعل، تبرئةً لذمةٍ، وتبصرةً لمتوهّم منخدع..
نشأة فكرة الحِوار:
من الملاحظ أن فكرة الحوار بين الأديان عند الغربيين(+) نشأت بعد انهيار دولة الخلافة الإسلامية في تركيا. أما بروزها بشكل دوليّ فبدأ في العام 1932م بإرسال فرنسا ممثلين عنها لمفاوضة رجال الأزهر في فكرة توحيد الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية. وتَبِعَ ذلك مؤتمرٌ عقد في باريس في العام 1933م شارك فيه مستشرقون ومبشرون من جامعات أوروبية وأميركية إلى جانب علماء من تركيا وغيرها.
وفي العام 1936م عقد مؤتمر الأديان العالميّ، وهو آخر مؤتمر للأديان عقد قبل نشوب الحرب العالمية الثانية. وبنشوب هذه الحرب انشغل الغربيون عن عقد مثل هذه المؤتمرات.
غير أنه أُعيد إحياءُ فكرة الحوار مجدداً في العام 1964م، فقد وجه بابا روما بولس السادس رسالة يدعو فيها إلى الحوار بين الأديان. عقب ذلك صدرَ كتاب عن الفاتيكان بعنوان: «دليل الحوار بين المسلمين والمسيحيين» في العام 1969م.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين الحاليّ عقد أكثر من ثلاثة عشر لقاءً ومؤتمراً للحوار بين الأديان والحضارات، كان أبرزها: المؤتمر العالميّ الثاني للدين والسلام، الذي عقد في بلجيكا وحضره حوالي 400 مندوب من ديانات مختلفة، ومؤتمر قرطبة في إسبانيا، وحضره ممثلون من المسلمين والنصارى، من ثلاث وعشرين دولة، ثم الملتقى الإسلاميّ المسيحيّ الذي عقد في قرطاج بتونس عام 1979م.
وفي تسعينيات هذا القرن عادت الحيوية إلى عقد مثل هذه المؤتمرات، فعقد مؤتمر الحوار الأوروبيّ العربيّ عام 1993م في الأردن، ومؤتمر الخرطوم للحوار بين الأديان عام 1994م، ومؤتمران أحدهما في استوكهولم والآخر في عمان عام 1995م، ثم مؤتمر الإسلام وأوروبا في جامعة آل البيت في الأردن عام 1996م.
سقطات الحِوار:
لقد نجح الغربيون من خلال المؤتمرات التي دعَوْا إليها، وتلك التي عملوا على عقدها، في توجيه دفة الحوار وضبط مساره بما يخدم مخططاتهم ويتفق مع معتقداتهم. وقد حملوا لتحقيق هذا الغرض لافتة كتبت خطوطها بعناية، إذ تمكنوا من وضع عناوين توحي بالحرص على حماية الأديان السماوية بالوقوف في مواجهة الكفر والإلحاد اللذين كانت تمثلهما شيوعية الاتحاد السوفياتي قبل انهياره وبعد انهياره. ومن أهم التوصيات التي كانت تصدر عن المؤتمرين هي:
1 ـ إيجاد جوامع مشتركة في الأديان الثلاثة تشمل العقيدة والأخلاق والثقافة، وتأكيد على المشترك الإيجابيّ بين الأديان، لأن جميع أهل الكتاب مؤمنون يعبدون الله.
2 ـ بلورة ميثاق مشترك لحقوق الإنسان من أجل إحلال السلام والتعايش بين أصحاب الأديان لإزالة مفهوم العدو في ثقافات الشعوب وسياسات الدول.
3 ـ إعادة صياغة التاريخ ومناهج التعليم على أساس هذه الثقافة المستحدثة لتكون بعيدة عن الإثارة والأحقاد.
4 ـ اعتبار التعليم الدينيّ(+) من الدراسات الإنسانية التي تُكَوِّن شخصية منفتحة على الثقافات الإنسانية ومتفهمة للآخرين، ولذلك يجب استبعاد البحث في بعض العقائد والعبادات، والاهتمام في بحث الموضوعات التالية:
ـ العدالة
ـ السلام
ـ المرأة
ـ حقوق الإنسان
ـ الديموقراطية
ـ التعددية
ـ السلام العالميّ
ـ التعايش السلميّ
ـ الانفتاح الحضاريّ
ـ الحرية
ووضع مفاهيم موحدة لها.
وخلطوا بين مفهوم العلم والثقافة والحضارة والمدنية ليتخذوا من هذا الخلط مسوّغاً لمهاجمة الذين يتمسكون بوجهة نظرهم في الحياة ولوصمهم بالرجعية والتخلف، وبأنهم ضد العلم وضد المدنية الناشئة عن الحضارة الغربية.
وكان للديموقراطية الغربية بهوَسها المعروف بالعَدَدية القِدحُ المعلّى في تسيير قرارات وتوصيات ومناقشات تلك اللقاءات والمؤتمرات، حيث اعتبرت العددية (أي رأي واختيار الأكثرية) هي القاعدة في الوصول إلى الحقيقة وتعريفها وليس لديانة ما ادّعاء احتكارها.
وكان هذا أولى سَقطات الحوار بالمنظور الإسلاميّ.. إذ كيف يصح إخضاع حقائق إيمانية في الإسلام لتجاذبات الأكثرية وآرائها انطلاقاً من مبدإ الديموقراطية؟ ثم كيف يصح شرعاً إعطاء تعريف للكفر أو الإلحاد أو الشرك من خارج دلالات الإسلام وتعريفه لهذه المعاني؟ وهل من الإسلام في شيء أن يكون رأي الأكثرية هو الأقرب إلى الحقيقة في أمور هي من المسلمات في الكتاب والسنة التي لا يصحّ بحال من الأحوال إخضاعها لرأي الأقلية أو الأكثرية أو لأي رأي مطلقاً لأنها أحكام من الله العليّ الحكيم.
لذلك ومن منطلق إيماننا بأن الدين عند الله الإسلام، فإن الحوار يجب أن يقوم على أساس طرح الإسلام عقيدةً، ومنهج حياة، فإذا وجد الناسُ فيه ما يلبي تطلعاتهم، وحاجاتهم الدنيوية والأخروية، وضعت المواثيق التي تنبثق عن المؤتمرات المعقودة التي تطرح على المستوى العالمي مواثيق شرف تلتزم بها الدول، ولا تحاربها، وتترك من ثم للناس الحكم عليها إن كانت تصلح لحياتهم.
هكذا نريد الحوار القائم على دعوة التوحيد، وعن هذه الدعوة تنبثق جميع المفاهيم، والمناهج والأنظمة التي تؤَمِّن خير الإنسان.


مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢