نبذة عن حياة الكاتب
طريق الإيمان
الطبعة : الطبعة العاشرة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٣٣٦
تاريخ النشر : ٢٠١٠

الإيمان بالله عن طريق الفكر المستنير
1. الخلق والخالق.
2. أصحاب العقول المنحرفة يحبون التعقيد.
3. التغيُّر يثبت أن العالم ليس أزليًّا.
4. الماديّون أو ما قاله الشيوعيون.

الإيمان بالله
عن طريق الفكر المستنير
إن الأشياء التي يُدركها العقل هي الإنسان والحياة والكون، وهذه الأشياء محدودة فهي إذن مخلوقة. فالإنسان محدود، لأنه ينمو في كل شيء إلى حدٍّ لا يتجاوزه، ومن هنا كانت محدوديته... ولأن الإنسان جنس متمثل في كل فرد من أفراده، فكل فرد إنسان، ولا يوجد أي فرق بين فرد وفرد في الخواص الإِنسانية. فما يصدق على فرد من الإِنسان يصدق على الآخر، كأي جنس من الأجناس، مثل الذهب بين المعادن، والأسد في الحيوان، وحبَّة التفاح في جنسها من الفواكه... وهكذا، فأي جنس ينطبق عليه كلُّ ما ينطبق على كلِّ فرد من أفراده. ولذا يشاهد أن الفرد من الإِنسان أو الكائنات الحية يموت، وهذا يعني أن هذا الجنس محدود قطعًا. ومجرد التسليم بأن الإِنسان يموت، معناه التسليم بأن الإِنسان محدود. والحياة محدودة لأن مظهرها فردي فقط، والمشاهد بالحس أنها تنتهي في الفرد فهي محدودة. والحياة في الإِنسان هي عينُ الحياة في الحيوان، وهي ليست خارج هذا الفرد بل فيه، وهي شيء يُحَسُّ وإن كان لا يُلْمَس، ويُفَرَّق بالحسِّ بين الحي والميت.
فهذا الشيء المحسوس، والذي هو موجود في الكائن الحي، والذي من مظاهره النموُّ والحركة، هو ممثل كليًّا وجزئيًّا في الفرد الواحد لا يرتبط بأي شيء غيره مطلقًا. وهو في كل فرد من أفراد الأحياء كالفرد الآخر سواء بسواء. فهو جنس متمثل بأفراد كالإِنسان، وما دامت تنتهي هذه الحياة في الفرد الواحد فمعناه أن جنس الحياة ينتهي، فهي محدودة.
"والكون محدود لأنه مجموع أجرام، وكل جرم منها محدود، ومجموع المحدودات محدود بداهة. وذلك لأن كلَّ جُرم منها له أولٌ وله آخر، فمهما تعددت هذه الأجرام فإنها تظل تنتهي بمحدود. فالمحدودية محتَّمة للأجرام بدليل كونها لها أول ولها آخر، بل تثبت محدوديتها بمجرد وجود الأول. ولمجرد أن يقال في الشيء أو الكائن، أكثر من واحد، تتحتَّم حينئذٍ المحدودية، لأن الذي يزيد هو شيء محدود، فتكون الزيادة حاصلة، بمحدود لمحدود، ويكون الجمع محدودًا. وعليه فالكون محدود. وعلى ذلك فالإِنسان والحياة والكون كلُّها محدودة قطعًا.
"وحين ننظر إلى المحدود نجده ليس أزليًّا، وإلا لما كان محدودًا. وقد ثبت أن المحدود له أول ولذلك لا يكون أزليًّا، لأن مدلول الأزلي أنه لا أولَ له، وما لا أولَ له لا آخِرَ له قطعًا، إذ إن وجود آخِرٍ يقتضي وجود أول، كما أن مجرد البدء لا يكون إلا من نقطة، وهذا يعني أن النهاية لا بد منها ما دام قد حصل البدء من نقطة، سواء أكان ذلك في الزمان أم المكان أم الأشياء الحادثة أم غير ذلك.
فالمحدود ليس أزليًّا. وكونُ الكون والحياة والإِنسان محدودة معناه أنها ليست أزلية، وإلا لما كانت محدودة. وما دامت ليست أزلية فهي، إذًا، مخلوقة لغيرها.
فالكون والإنسان والحياة لا بد من أن تكون مخلوقة لغيرها. وهذا الغير هو خالقها، أي هو خالق الكون والحياة والإنسان. وعليه فإن العالم مخلوق لخالق، أزليٍّ هو الله تعالى.
وهنا يجب أن نلفت النظر إلى أمرين:
أحدهما: عندما نقول بأن الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق فهذا ليس أمرًا فرضيًّا وإنما هو حقيقة قطعية. وقد تناول كلامُنا السابقُ الأشياء المدركة المحسوسة، وأقام البرهان الحسيَّ على أنها مخلوقة لخالق، فأدركنا إدراكًا حسيًّا وجود مخلوقات لخالق، وتوصلنا بالبرهان الحسي إلى هذا القول، فكان القول نتيجة البرهان وليس فرضًا. أي إننا لم نُقم الفرضية أولًا ثم رتَّبنا عليها البرهان حتى نحتاج إلى إثبات الفرضية ليصحَّ البرهان، وإنما وضعنا الأشياء المدركة المحسوسة موضع البحث، فلفتنا النظر إلى أنها موجودة قطعًا كما هو مشاهَد ملموس، وأقمنا البرهان على أنها محتاجة قطعًا، وهذا يعني أنها محتاجة إلى من يوجِدُها، فهي مخلوقة.
وهذا يثبت وجود الخالق: لأن المخلوق إما أن يكون مخلوقًا لنفسه أو مخلوقًا لغيره ولا ثالث لهذين الفرضَين قطعًا. وهذا في الحقيقة ليس فرضًا وإنما الواقع المحسوس للمخلوق يدل عليه. أما كونه مخلوقًا فباطل، لأنه يكون مخلوقًا لنفسه وخالقًا لنفسه في آن، وهذا غير معقول، فلا بد من أن يكون مخلوقًا لغيره، وهذا الغير هو الخالق. وبهذا يَثبت وجود خالق...
ثانيهما: ما قيل عن كون الكون محدودًا وليس أزليًّا، فهذا القول ليس مبنيًّا على التعاريف وليس بحثًا لغويًّا، بل هو شرح لواقع محسوس. فليست المحدودية والأزلية اصطلاحًا وُضع له تعريف اصطلاحي، ولا مدلولًا لكلمة وُضع لها من اللغة لفظٌ يدل عليها، بل هما واقع معيَّن كالبحث في الفكر سواء بسواء. فنحن حين نقول إن الكون محدود إنما نُشير إلى واقع معيَّن وهو كونه "له بداية وله نهاية"، فالبحث كان في هذا الواقع وليس في كلمة محدود.
وكونه "له بداية وله نهاية" قد قام البرهان الحسي عليه، فيكون البرهان على واقع معيَّن لا على معنى الكلمة لغويَّا. أي إنه حين يقال إن الكون مجموع أجرام مهما تعدَّدت، فالكون يتكوَّن من هذه الأجرام، وكل جرم منها مهما بلغ عددها محدود، ومجموع المحدودات محدود بداهة، فالكون محدود. حين يقال ذلك لا يقام البرهان على كلمة محدود، بل يقام البرهان على أن الكون له أول وله آخر، فهو يبتدئ من نقطة وينتهي إلى نقطة، ولذلك كان القول بالمحدودية للكون وإقامة البرهان عليه ليس مبنيًّا على تعاريف ولم يكن بحثًا لغويًّا. بل هو بيان لواقع وإقامة برهان على واقع. وكذلك القول بأن الكون ليس أزليًّا، وأن الأشياء المدركة المحسوسة ليست أزلية، هو بيان لواقع، وإقامة برهان على واقع. وكذلك القول بأن هذا أزليٌّ ليس بيانًا لكلمة الأزليِّ بصفتها لفظة، بل هو بيان لواقع، وإقامة برهان على واقع، فهو بيان لما لا أولَ له، أي لما ليس له نقطة ابتدأ منها... وهذا الواقع هو الأزلي.
فيكون واقع المحدود غير واقع الأزلي. وهذا هو معنى قولنا إن المحدود ليس أزليًّا، فيكون الكلام عن واقع لا عن مدلولِ كلمةٍ لغويًّا.
هذان هما أمران لا بد من لفت النظر إليهما عند دراسة البرهان على وجود الخالق عزَّ وعلا.
الخلق والخالق:
قد يلجأ بعضهم إلى القول إن كون العالم مخلوقًا لا يعني أن هناك خالقًا، فإن كون الوجود كله لا يخرج عن خالق ومخلوق فرض نظري، فلا يصح أن يكون برهانًا على وجود الخالق. لذلك كان لا بد من بيان أن كون الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق ليس فرضية بل هو حقيقة قطعية.
وليس معنى هذا أن الخالق محسوس ملموس، بل وجود ما يدل على هذا الخالق هو المحسوس الملموس. والبرهان عليه في منتهى البساطة، وإن كان أيضًا في منتهى التعقيد. أما كونه في منتهى البساطة فإن الإنسان يحيا في الكون فهو يشاهِدُ في نفسه، وفي الحياة التي يحياها الأحياء، وفي كل شيء في الكون، تغيُّرًا دائمًا وانتقالًا من حال إلى حال، ويشاهِدُ وجودَ أشياء وانعدام أشياء، ويشاهِدُ دقةً وتنظيمًا في كل ما يرى ويلمس، فيصل من هذا عن طريق الإدراك الحسي إلى أن هناك مدبِّرًا لهذا التنظيم في الوجود المدرَك المحسوس. وهذا أمر طبيعي جدًّا، فإن الإنسان يسمع دويًّا، فيظن أنه دوي طائرة أو سيارة أو مطحنة أو أي شيء. وهو ـــــــ في أيّ حال ـــــــ يوقن أنه دويٌّ ناجم عن شيء، يوقن بوجود شيء خرج منه هذا الدويُّ أمرًا قطعيًّا ما دام البرهان الحسيُّ قد قام عليه. وكذلك فإن الإنسان يشاهِدُ التغيُّر في الأشياء، ويشاهد انعدام بعضها ووجود غيرها، ويشاهد الدقة والتنظيم فيها، ويشاهِدُ أن ذلك كله ليس منها، وأنها عاجزة عن إيجاده وعاجزة عن دفعه، فيوقن أن هذا كله صادر عن غير هذه الأشياء، ويوقن بوجود خالق خلق هذه الأشياء فهو الذي يغيِّرها ويُعدمها ويُنظِّمها، فكان وجود هذا الخالق الذي دل عليه وجودُ الأشياء وتغيُّرها وتنظيمُها أمرًا قطعيًّا عند مَن شاهد تغيُّرَها ووجودَها وانعدامَها ودقةَ تنظيمها. وقد قام البرهان الحسيُّ بالحس المباشِر على وجوده، وهو برهان في منتهى البساطة. فيكون الاعتقاد بوجود خالق لهذه الأشياء المخلوقة ـــــــ والتي تُعدم وتتغيَّر ولا تملك إيجاد ذلك لها ولا دفعَه عنها ـــــــ اعتقادًا جازمًا قام البرهان القطعيُّ عليه. ولذلك كان من الطبيعي جدًّا أن مَن يشاهد الأشياء المدرَكة المحسوسة وما يحصل لها وفيها ـــــــ مما لا تستطيع هي إيجاده لها ولا دفعه عنها ـــــــ أن يصل من هذه المشاهدة عن طريق الإدراك الحسيِّ إلى أن هناك موجدًا لهذا الوجود المدرَك المحسوس.
وقد جاءت أكثر براهين القرآن الكريم لافتةً النظرَ إلى ما يقع عليه حِسُّ الإنسان للاستدلال بذلك على وجود الخالق: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت} (الغاشية: 17 ـــــــ 19)، {فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب} (الطارق: 5 ـــــــ 7)، {أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} (الواقعة: 58 ـــــــ 59)، {أفرأيتم تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} (الواقعة: 63 ـــــــ 64)، {أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} (الواقعة: 71 ــــــ 72)، {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (البقرة: 164).
فهذه براهين قاطعة على وجود الخالق. فلينظر الإنسان إلى كيفية خلق الإبل، ورفع السماء، ونَصب الجبال على أديم هذه الأرض السابحة في الفضاء، ليُدرك وجودَ الله. ولذلك فإن تيتوف رائدَ الفضاء الروسيَّ حين قام برحلته الفضائية حول الأرض قال إنه رأى الأرض في الفضاء لا يمسكها شيء، لا من فوقها ولا من تحتها ولا عن جوانبها، فهي قائمة بنفسها هكذا في الفضاء من دون أن يمسكها شيء، وإنه تذكَّر ما تقولُه الدِّيانات. أي إنه استدل من هذه المشاهدة أنه لا يمكن للأرض أن تبقى هكذا في الفضاء لا يُمسكها شيء، وهو يدور حولها ولا يجد شيئًا يمسكها ومع ذلك فهي قائمة لا تسقط، فاستدل من ذلك على أنه لا بد من شيء يُمسكها ويمنعها من السقوط. لكنه قد هزمه الشيطانُ حين أتمَّ كلامه بأنه لم يرَ الله في أثناء رحلته!! {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدٍ من بعده} (فاطر: 41). أيْ إنه لا يُمْسِكُهما أحدٌ غيرُه جلَّ وعلا... فهذا برهان حسّي بالنسبة إلى الأرض شاهده تيتوف، وكل رواد الفضاء غيره، وهو من أصدق البراهين مع كونه في منتهى البساطة. ومنه كذلك سؤال الإنسان عن خلقه من الماء الدَّافق، ومنه سؤال الناس عمَّا يُمنون وعما يَحرقون وعما يُوقِدون، فمن الذي خَلق الأولادَ من هذا الذي يُمْنُون، والزرعَ من هذا الذي يزرعون، والشجر من هذا الذي يغرسون؟ فجوابهم القطعيُّ أنهم ليسوا هم الموجِدين بل إن لها خالقًا خلقها غيرهم هو الله سبحانه وتعالى. ومنه ـــــــ أي من البرهان الحسي ـــــــ لفتُ نظرِ العقول إلى خلق السموات والأرض، وإلى اختلاف الليل والنهار، وإلى الفُلْكِ التي تَجري في البحر، وإلى المطَر، وإلى ما بثَّ في الأرض من كل دابَّة، وإلى تصريفِ الرياح، وإلى السحاب، لتدرك العقول من هذه المحسوسات أن هناك خالقًا. فوجود الخالق تعالى ثابت بهذه البراهين القاطعة المحسوسة الملموسة.


أصحاب العقول المنحرفة يحبون التعقيد:
وأما كون البرهان على وجود الخالق في منتهى التعقيد فذلك أن هناك أناسًا من البشر يأبَون البساطة ويعقِّدون على أنفسهم الأمورَ فيبحثون في هذا الأمر البسيط بشكل معقَّد، فيصلون إلى أشياء جديدة تُعمي عليهم الأمور.
مِنْ ذلك أن بعض الناس في العصر القديم رأوا أن العالم متغيِّر بالمشاهدة والحس، وهذا أمر لا يستطيع أحدٌ إنكارَه، وهو يعني أن العالم حادث لأن كلَّ متغيِّر حادث، وما دام حادثًا فهو مخلوق، أي إنه وُجِدَ بعد أن لم يكن، لكنهم رأوا أن تغيُّره إنما هو في أجزائه التي يتكوَّن منها. أما هو ككلٍّ فرأوه كما هو، فالكواكب لا تزال كما هي كواكب لم تتغيَّر، والحياة لا تزال في الأحياء هي الحياة لم تتغيَّر، والإنسان لا يزال هو الإنسان لم يتغيَّر، فتوصَّلوا من ذلك إلى أن العالم ليس حادثًا، بل هو قديم أزليٌّ لا أول له فهو إذن ليس مخلوقًا لخالق، فضلوا بذلك ضلالًا بعيدًا.
ومن ذلك أن بعض الناس في العصر الحديث رأوا أن حوادث العالم متبدلة متغيرة كما يشاهَدُ ذلك بالحس، فهي تنتقل من حال إلى حال، ونقلُها هذا من حال إلى حال، وجعلُها في حركة دائمة، ليس ناتجًا منها، فإنها بذاتها ومفردها لا تستطيع ذلك ولا تملك دفعه عنها. وكان بديهيًّا أن يتوصلوا بذلك إلى وجود قدرة تنقلها من حال إلى حال وتحرِّكها، أي أن يتوصَّلوا إلى معرفة وجود خالق للعالم، لكنهم توصلوا إلى عكس ذلك تمامًا، إذ قالوا: إن العالم بطبيعته مادي، وإن حوادث العالم المتعدِّدة هي مظاهر مختلفة للمادة المتحركة، وإن العلاقات المتبادَلة بين الحوادث، وتكييف بعضها بعضًا بصورة متبادلة، هي قوانينُ ضرورية لتطوُّر المادة المتحرِّكة، وإن العالم يتطوَّر تبعًا لقوانين حركة المادة، فليس في حاجة إلى خالق يخلقه، لأنه مستغنٍ بنفسه.
ومن هذا يتبيَّن أنه، في القديم والحديث، لم يأت إنكار وجود الخالق طبيعيًّا. بل جاء مبنيًّا على مخالفةٍ للأمرِ الطبيعي، بتفسيرِ ما يُلْزِمُ بالاعتراف بوجود الخالق تفسيرًا مغلوطًا يؤدي إلى إنكار وجوده. فبالنسبة إلى القديم نجد أن تغيُّر العالم أمرٌ لا يمكن إنكاره، والتغيُّر ليس في أجزائه فحسب، بل فيه أيضًا ككل. غير أن التغيُّر لا يَعني أن حقيقته قد تغيَّرت، وإنما وضعُه هو الذي يكون في تغيُّرٍ دائم، فالبرتقالةُ ونبتةُ الزرع والحجرُ والحديدُ والإنسانُ والحيوانُ وغيرُ ذلك تتغيَّر من حال إلى حال بالمشاهدة، لكن تغيُّرها لا يَعني أن البرتقالة تصبح حجرًا والحجر يصبح حديدًا والحديد يصبح نبتة زرع... وهكذا... وإنما التغيُّر يكون بالصِّفات ويكون بالأحوال، وأما التغيّر من شيء إلى شيء آخر فهو تبدُّل، والتبدُّلُ ليس هو البرهان، وإنما البرهان هو وجود التغيُّر. وبناء على هذا ليس صحيحًا أن العالم ككل لم يتغير، وليس صحيحًا أن الكواكب لا تزال كما هي لم تتغير، وليس صحيحًا أن الإنسان كما هو لم يتغيَّر، وليس صحيحًا أن الحياة كما هي لم تتغير. فالعالم في مجموعه بكل ما فيه من كون وإنسان وحياة يتغيَّر، فالكواكب متغيِّرة بالمشاهدة ومجرد حركتها هو تغيُّر، والإنسان متغيِّر بالمشاهدة وانتقاله من طفل إلى شاب إلى هرم هو تغيّر، والحياة متغيِّرة بالمشاهدة، وبما أنها تظهر في الإنسان والحيوان والنبتة والشجرة فهذا دليل على وجود التغيُّر فيها، فهي متغيرة حتمًا، وبذلك يُنقَض ما ذهبوا إليه من أن العالم ليس حادثًا لأنه متغيِّر ككل وكأجزاء بل هو دائم التغير. وكل متغير حادث، فالعالم حادث، وإذًا فهو ليس أزليًّا، وما دام ليس أزليًّا فهو مخلوق لخالق لأن غير الأزليِّ مخلوق.
التغير يثبت أن العالم ليس أزليًّا:
إن كون العالم ليس أزليًّا يكفي لإثباته ما يشاهَدُ فيه من ربيع وصيف وشتاء وخريف، ومن تلبد غيوم وصفاء أجواء، ومن برق ورعود وريح عاصف ونسيم عليل، ومن موت وحياة، ومن انتقال الحبة إلى زرع فإلى هشيم، والغرسة إلى شجرة فإلى خشب وحُطام، والماء إلى بخار أو جليد، ومن انتقال النُّطفة إلى جنين فإلى طفل فإلى شاب فإلى شيخ هرم، إلى غير ذلك مما يحدث في العالم ككل، وما يحدث في كل جزء من أجزائه.
إن هذا كافٍ للبرهان على أن العالم حاد بصفته كلًّا، وأنه حادث بكل جزء من أجزائه. وكونه حادثًا يَعني أنه ليس أزليًّا، أي إن له أولًا قد ابتدأ منه، وهذا يعني أنه مخلوق لخالق. فكونه له ابتداء معناه أنه كان معدومًا وَوُجد. وكونه قد وُجد من عدم يحتِّم أن له موجِدًا أوجده. وهذا كاف لإثبات وجود الخالق، لأن وجود مخلوق لم يوجِدْ نفسه يَعني حتمًا وجود خالق أوجده من العدم، وبذلك يُنقض ما ذهب إليه بعض الناس في العصر القديم من أن العالم أزليٌّ قديم، ويَثبت أن العالم مخلوقٌ لخالق، وبذلك يثبت وجود الخالق جلّ وعلا.
ما قاله الشيوعيون:
وأما بالنسبة إلى ما قال به المادِّيون في العصر الحديث فإننا نجد أن موضع الإنكار عندهم هو أنهم يقولون إن العلاقات المتبادلة بين الحوادث، وتكييف بعضها بعضًا بصورة متقابلة، هي قوانينُ ضرورية لتطوُّر المادة المتحرِّكة، وأن العالم يتطور تبعًا لقوانين حركة المادة. هذا هو موضع إنكار وجود الخالق عندهم. فالتعقيد جاءهم من تفسير ما في العالم من تغيُّرٍ وانتقالٍ من حال إلى حال، وما فيه من وجود بعض الأشياء بعد أن لم تكن، وانعدام بعض الأشياء بعد أن كانت، أو على حدِّ تعبيرهم من تشكُّل المادة بأشكالٍ مختلفة، ومن تفسير ذلك بأنه إنما يحدث من قوانين المادة وليس من شيء غيرها، فقوانين حركة المادة هي التي تؤثِّر في العالم، وهو يتطور تبعًا لقوانين حركة المادة.
هذا هو موضع الإنكار، ولذلك كان المطلوب حلّ هذه العقدة عندهم، أي أن يكون محلُّ البحث هو قوانين المادة وليس تغيُّر العالم.
فإذا ثبتَ أن هذه القوانين لم تأت من المادة، ولا هي خاصَّة من خواصّها، وإنما هي مفروضة على المادة فرضًا من غيرها ومن خارجها، فإنه يكون هناك غير المادة ممَّا يؤثر فيها، وبذلك تبطُل نظريتهم وتُحل العقدة عندهم، إذ لا يكون العالم سائرًا تبعًا لقوانين حركة المادة، بل هو سائرٌ بتسيير مَن أوجد له هذه القوانين وفرضها عليه فرضًا، وسخَّره ليسير بحسبها.
أما كون هذه القوانين لم تأت من المادة فلأن القوانين هي عبارة عن جعل المادة في نسبة معيَّنة أو وضع معيَّن، فالماء حتى يتحول إلى بخار أو إلى جليد إنما يتحول بحسب قوانين معيَّنة، أي بحسب نسبةٍ معيَّنة من الحرارة. فإن حرارة الماء ليس لها في بادئ الأمر تأثير في حالته من حيث هو سائل، ولكن إذا زيدت أو أُنقصت حرارة الماء، جاء لحظة، تعدَّلت فيها حالة التماسك التي هو فيها، وتحوَّل الماء إلى بخار في حالةٍ، وإلى جليد في حالة أخرى. فهذه النسبة المعيَّنة من الحرارة هي القانون الذي بحسبه يجري تحوُّل الماء إلى بخار أو إلى جليد، وهذه النسبة، أي كون الحرارة بمقدار معيَّن لمقدار معيَّن من الماء لم تأتِ من الماء، لأنه لو كانت منه لكان في إمكانه أن يغيِّرها وأن يخرج عنها، لكن الواقع أنه لا يستطيع تغييرها ولا الخروج عنها، وإنما هي مفروضة عليه فرضًا فدل ذلك على أنها ليست منه قطعًا، وكذلك لم تأتِ من الحرارة، بدليل أنها لا تستطيع أن تغيِّر هذه النسبة أو أن تخرج عنها، بل إنها مفروضة عليها فرضًا، فهي ليست منها قطعًا فتكون هذه القوانين ليست من المادة.
وأما كون هذه القوانين ليست خاصِّية من خواص المادة، فإن القوانين ليست أثرًا من آثار المادة الناتجة منها حتى يقال إنها من خواصِّها، بل هي شيءٌ مفروض عليها من خارجها. ففي تحوُّل الماء ليست القوانين فيه من خواص الماء ولا من خواص الحرارة، لأن القانون ليس تحوُّل الماء إلى بخار أو إلى جليد، بل القانون تحوله بنسبة معيَّنة من الحرارة لنسبة معيَّنة من الماء. فالموضوع ليس التحوُّل، بل هو التحوُّل بنسبة معيَّنة من الحرارة لنسبة معيَّنة من الماء، فهو ليس كالرؤية في العين من خواصها، بل هو كون الرؤية لا تكون إلا بوضع مخصوص. هذا هو القانون. فكونُ العين ترى خاصية من خواصها، ولكن كونها لا ترى إلا في وضع مخصوص ليس خاصية من خواصها وبل هو أمر خارج عنها، وكذلك النار فإنّ من خواصها الإحراق، ولكن كونها لا تحرق إلا بأحوال مخصوصة ليس خاصية من خواصها بل هو أمر خارج عنها. فخاصية الشيء هي غيرُ القوانين التي تسيِّره، إذ الخاصية هي ما يعطيه الشيء نفسه وينتج منه كالرؤية في العين وكالإحراق في النار وما شاكل ذلك. لكن القوانين التي تسيِّر الأشياء هي كون الرؤية لا تحصل من العين إلا بأحوال مخصوصة، وكون الإحراق لا يحصل من النار إلا بأحوال مخصوصة، وكون الماء لا يتحوَّل إلى بخار أو جليد إلا بأحوال مخصوصة وهكذا...
وبهذا ثبت أنّ هذه القوانين ليست من المادة ولا هي خاصِّية من خواصِّها، بل هي آتية من غيرها ومفروضة عليها فرضًا من خارجها، وبذلك يَثبت أن غيرَ المادة هو الذي يؤثِّر فيها، وبذلك يَثبت أن غيرَ المادة هو الذي يؤثِّر فيها، وبذلك يَثبت بطلانُ نظرية الشيوعيين، لأنه ثبتَ أن العالم ليس سائرًا تبعًا لقوانين حركة المادة، بل هو سائر بتسيير مَن أَوجد هذه القوانين وفرضها عليه فرضًا، وهو في حاجة إلى من وضع له هذه القوانين وفرضها عليه. وما دام في حاجة إلى مَن فرض عليه هذه القوانين فهو ـــــــ أي العالم ـــــــ ليس أزليًّا، وما دام ليس أزليَّا فهو مخلوق. ذاك أن كونَه ليس أزليًّا يعني أنه وُجِدَ بعد أن لم يكن، فهو مخلوق لخالق. ومجرَّدُ ثبوت وجود المخلوقات لخالق يَثبت وجود الخالق.
هذه هي البراهين لأولئك الذين عقَّدوا الأمور على أنفسهم فتعقدت نظرتهم إلى العالم، وهي براهين مُسكتة كافية لَنقضِ نظريتهم وإثبات حقيقة وجود الله سبحانه... تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبيرًا...


المصادر
4 مفهوم الاحتياج هنا معناه: عدم الاستغناء. وأما مفهوم الاشتراط الماركسي فمتعلق بعدم فصل بعض الأشياء عن بعض.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢