نبذة عن حياة الكاتب
طريق الإيمان
الطبعة : الطبعة العاشرة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٣٣٦
تاريخ النشر : ٢٠١٠

أركان الإيمان
1. الإيمان بالله عزّ وجلّ.
2. الإيمان بالملائكة.
3. الإيمان بالكتب السماويّة "القرآن الكريم".
4. الإيمان بالرسل عليهم السلام.
5. الإيمان باليوم الآخر.
6. الإيمان بالقدر.

أركان الإيمان
لقد بينا في أول هذا الكتاب معنى الإيمان ووجوب معرفة الله سبحانه وتعالى على كل مكلَّف، وأتبعنا ذلك ببيان معنى الفكر وأقسامه، وقمنا بجولة فكرية على أساس الفكر العميق في بعض آيات الله تعالى في الكون، وفنَّدنا بعد ذلك مزاعم القائلين بالديالكتيكية والماركسية. وننتقل إلى بيان لب الموضوع وأساسه، نعني به تفاصيل الإيمان الذي قصدنا أن يكون هذا الكتاب، إنْ شاء الله اللطيف بعباده، طريقًا واضح المعالم يقود القارئ إليه.
المراد بـــــــ "أركان الإيمان": المسائل الاعتقادية التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها جميعها والتي لا يتم الإيمان ولا يصح من دونها كلها. وهذه الأركان جاءت ملخصة في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم، جوابًا عن سؤال جبريل (عليه السلام) عن الإيمان حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقَدَر خيره وشرَّه". وهذا الإجمال لمعنى الإيمان من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأركان الأربعة الأولى في قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة: 285).
وجاء الإيمان بالقدر في قوله تعالى حكاية لما يقال للكافرين وهم يعذبون في النار: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر، إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 48 ـــــــ 49).
أما الإيمان باليوم الآخر فإن الآيات فيه كثيرة جدًّا.
ولما كان الإيمان واجبًا عينيًّا على كل مكلف، فقد حدد الله تعالى على ألسنة رسله جميعًا معناه وأركانه ومفهومه الصحيح وتفاصيل مسائله، وخصوصًا على لسان سيدنا محمد خاتم الأنبياء جميعًا (عليهم الصلاة والسلام). لذا فالمكلَّف مأمور بالإيمان كما أمره الله تعالى لا كما يهوى هو ويتخيل. وها نحن نبين تفاصيل الإيمان الحق محاولين جمع أكثر مسائله ليكون القارئ على بينة من أمره.
أولًا: الإيمان بالله عز وجل:
لقد أمر الله تعالى عباده بأن يؤمنوا:
1 - أنه تعالى واحد لا شريك له، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ليس كمثله شيء، منزه عن مشابهة الخلق {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} (الأنعام: 103). تعالى عن أن يكون له ولد.
2 ـــــــ وأنه تعالى خالق كل شيء ومالكه ومدبر أمره، فلا خالق غير الله تعالى، بل إن ما سواه عاجزون عما هو أهون من الخلق كما قال سبحانه: {يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} (الحج: 73).
3 ـــــــ وأنه تعالى قادر على كل شيء، يخلق ما يشاء بقدرته، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي خلق ويخلق، فخلق الناس من أبوين وآدم بلا أب ولا أم، وعيسى من أم بلا أب، والكل عنده تعالى سواء في الخلق.
4 ـــــــ وأنه تعالى فعّالٌ لما يريد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رادَّ لما أراد، ولا مانع أعطى، ولا معطي لما منع.
5 ـــــــ وأنه تعالى الحي القيوم، السميع البصير، الرقيب على عباده، أنزل كلامه على رسله وحيًا مباركًا ليرشدهم إلى الطريق القويم، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
6 ـــــــ وأنه تعالى أحاط بكل شيء علمًا، ووسع علمه كل شيء، فهو العالم بما كان وما هو كائن وما سيكون {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام: 59).
7 ـــــــ وأنه تعالى متصف بسائر صفات الكمال، ومنزه عما لا يليق بذاته تعالى من صفات خلقه، سبحانه وتعالى عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.
ثانيًا: الإيمان بالملائكة:
مجمل الإيمان بالملائكة هو: أن نعتقد جازمين بأن الله تعالى خلق من جملة مخلوقاته عالَمًا أسماه "الملائكة" وهم: أرواح قائمة في أجسام نورانية لطيفة، تستطيع أن تتمثل في صور حسنة بإذن الله تعالى، لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة، لا يأكلون ولا ينامون، وليس فيهم طبائع البشر {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} (التحريم: 6) عملهم التسبيح والطاعة وتنفيذ أمر الله تعالى. أفضلهم جبريل منزِّل الشرائع والوحي على الأنبياء والمرسلين، وميكائيل، وإسرافيل النافخ في الصور يوم القيامة، وعزرائيل ملك الموت، عليهم السلام. هم جماعات وأصناف: فمنهم حملة العرش، وخزنة الجنة، وخزنة النار، والموكلون بكتابة أعمال بني آدم وأقوالهم، والموكلون بحفظ ابن آدم من المضار بإذن الله، ومنهم القرين الذي يدل الإنسان على الخير.
ونذكِّر مرة أخرى بأن الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، فإنكار وجودهم كفر وضلال قال تعالى: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} (النساء: 136).
عالَم الجن:
لا بد لنا ونحن نتكلم عن الملائكة ووجوب الإيمان بهم من أن نذكر عالماً آخر من عوالم الغيب هو عالم "الجن" أو "الجان". إن الإيمان بوجودهم واجب كذلك، لأن الله تعالى أثبت وجودهم في آيات متعددة، كما جاء ذكرهم في كثير من صحاح الأحاديث. قال تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار} (الرحمان: 14 ـــــــ 15) ومارج النار: هو اللهب المختلط بسواد النار، أو هو اللهب الخالص من الدخان... بل إنَّ في القرآن الكريم سورة اسمها "سورة الجن" ذكر الله تعالى فيها استماع نفر منهم القرآن، وإيمان أولئك النفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به فصاروا مسلمين. ومطلع تلك السورة قوله تعالى: {قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} (الجن: 1 ـــــــ 2). إلى آخر الآيات.
فلذلك وجب الاعتقاد الجازم بوجود الجن، وأنهم عالم حقيقي ليس وهميًّا ولا تخييليًّا، وأنهم ليسوا ضربًا من النفوس البشرية الشريرة أو القوى البشرية الخبيثة، ولا هم نوع من الجراثيم الضارة كما زعم بعضهم، فهذه التصورات والأوهام حول عالم تعارض صريح القرآن الكريم والسنّة الشريفة، والعاقل لا يترك قول الله تعالى ليتبع هواه فيضلّه عن سبيل الله.
ونحن يجب أن نؤمن بأن الجن أرواح قائمة في أجسام لطيفة نارية، قادرة على التشكل بصور شتى بإذن الله تعالى، يأكلون ويشربون، وفيهم الذكر والأنثى، يتناكحون ويتناسلون ويموتون، ثم يوم القيامة يبعثون، منهم المؤمنون ومنهم الكافرون، لا نستطيع أن نراهم على صورتهم التي خلقهم الله عليها لقوله تعالى في الشيطان الرجيم: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} (الأعراف: 27). وأما رؤيتهم إذا تشكلوا في غير صورهم فهي محققة الوقوع، وحاصلة بالفعل، ويمكن أن تحصل في أي وقت.
ثالثًا: الإيمان بالكتب السماوية:
الإيمان بالكتب السماوية يشمل الإيمان بكل وحي أنزله الله تعالى على نبي من أنبيائه، سواء عرفنا عنه شيئًا أم لا. هذا على وجه العموم، أما على جهة التفصيل والتخصيص فنحن نؤمن بالكتب السماوية الأربعة وهي: التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى، عليه السلام، والإنجيل الذي أنزله على عيسى بن مريم، عليهما السلام، والزَّبور الذي أنزله الله على داود، عليه السلام، والقرآن المنزَّل على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم. وكذلك نؤمن بصحف إبراهيم وموسى، عليهما السلام.
والإيمان بالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها ـــــــ سوى القرآن الكريم ـــــــ هو إيمان بها كما أنزلها الله تعالى قبل أن تمتد إليها يد التحريف والتبديل. فمما لا شك فيه أن التوراة والإنجيل المنزَّلين من عند الله تعالى قد دخل عليهما التحريف، وهذا معلوم من الناحية التاريخية ـــــــ بالإضافة إلى النصوص القرآنية المثبتة له ـــــــ حيث حرّف اليهود التوراة جتى صارت على هواهم، تدعم عنصريتهم وتؤيد غرورهم وتَمَيُّزَهم من سائر الناس. أما الإنجيل فيكفي للتدليل على تبديله صيرورته أناجيل بعضها مقبول لدى النصارى وبعضها الآخر مرفوض. ولولا هذا التحريف في الكتابين المذكورين لما كان هذا التشتت في المعتقدات، ولما نفر كثير من اليهود والنصارى من الإسلام، وكفروا بما جاء به رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي هو دين موسى وعيسى وسائر النبيين، عليهم الصلاة والسلام.
أما القرآن الكريم فقد جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، جامعًا لأحسن ما فيه، ومهيمنًا على ما تقدمه. وهو كتاب حفظه الله تعالى من التحريف والتبديل. قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9) فكان بذلك كتابًا محفوظًا مصانًا {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت: 42).
فإليك أيها القارئ نبذًا عن هذا الكتاب العزيز، عن: معناه، نزوله، كتابته، رسمه، إعجازه، بعض آياته.
1 ـــــــ معنى القرآن:
"القرأن"، أو "الفرقان"، أو "الكتاب" أو غير ذلك من الأسماء التي أطلقت على هذا الكتاب العزيز يعني كل واحد منها عند استعماله أو إطلاقه المفهوم التالي: هو: وحي الله تعالى المنزل على رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا بلا شبهة.
2 ـــــــ نزول القرآن وكتابته:
نزلَ القرآنُ على النبيّ محمّدٍ، صلى الله عليه وسلم، مُفرَّقًا في مُدّة ثلاث وعشرينَ سنةً.
فالقرآن الكريم إذًا لم يُنْزَل دفعةً واحدةً بل نزل مُنجَّمًا، أي في أوقات معينة لحكمة ذكرها الله تعالى في قوله العزيز: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك} (الفرقان: 32)، أي كذلِكَ أنزل مُفرّقًا نُقوّي بتفريقه فؤادكَ حتى تعيَهُ وتحفظه.
وقالَ تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} (الإسراء: 106). أي على مهلٍ وتؤدَةٍ وتَثَبّتٍ نزلناهُ تنزيلًا أي بحسب الحوادث.
وكانَ القرآنُ ينزلُ على رسولِ الله فيأمرُ بحفظهِ في الصّدورِ وكتابتِهِ في الرّقاعِ مِنْ جِلْدٍ أوْ رِقٍّ أو كاغدٍ، وفي الأكتاف والعسبِ واللخافِ، ( أيّ على العَظْم العريض وعسب النّخْلِ والحجَارَةَ الرقيقةِ). وكان يقولُ كلما نزلتِ الآياتُ أوْ بعضُها: الحَقوا هذه الآيةَ في سورةِ كذا، بعد آية كذا، فيضعونَهَا في السّورَةِ.
3 ـــــــ رسم القرآن الكريم:
رسم القرآن الكريم توقيفي لا تجوز مخالفته، والدليل على ذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان له كُتّابٌ يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن فعلًا بهذا الرسم وأقرَّهم الرسول على كتابتهم. وانتقل الرسول الكريم إلى جوار ربه والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير أو تبديل ولم يُرْوَ عن أحد أنه خالف هذه الكتبة. وعندما جاء عثمان، رضي الله عنه، في خلافته استنسخ الصحف المحفوظة عند حفصة أم المؤمنين، رضي الله عنها، في مصاحف على تلك الكتبة، وأمر أن يُحرق ما عداها من المصاحف، وأقرَّه الصحابة على ذلك، رضوان الله عليهم جميعًا.
ولذلك لا يقال لماذا كتبت كلمة "الربا" في القرآن بالواو والألف "الربوا" ولم تكتب بالياء أو الألف. ولا يقال لماذا كتبت "بسطة" في سورة البقرة بالسين، و"بصطة" في سورة الأعراف بالصاد مع أن المعنى واحد. ولا يقال ما سبب زيادة الألف في "مائة" من دون "مئة" وزيادة الألف في "سعوا" بالحج ونقصانها من "سعو" بسورة سبأ، وزيادتها في "عتوا" حيث كان ونقصانها من "عتو" في الفرقان وزيادتها في "آمنوا" وإسقاطها من "باءو"، و"جاءو" و"فاءو"، وزيادتها في "يعفوا الذي" في البقرة ونقصانها من "يعفو عنهم" في النساء. ولا يقال كذلك ما وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة من دون بعض: كحذف الألف من "قرءنا" بيوسف والزخرف، وإثباتها في سائر المواضع، وإثبات الألف بعد واو "سموات" في فصلت وحذفها من غيرها. فهذا الاختلاف في كتابة الكلمة الواحدة بين سورة وسورة، من حيث الرسم مع عدم اختلاف المعنى واللفظ، دليل على أنه فعل مرده إلى السماع لا إلى الاجتهاد والفهم، وكل ما كان مرده إلى السماع فهو توقيفي. ولم ينقل خلاف في رسم المصحف على هذه الكتبة، كما لم ينقل خلاف في ترتيب الآياتِ، مما يدل على أن الرسم توقيفي عن الله تعالى، ولا يكون بالرأي والاجتهاد. فإقرار الرسول على هذه الكتبة وإجماع الصحابة عليها، وواقع الاختلاف في رسم الكلمة الواحدة بين سورة وسورة مع اتحاد اللفظ والمعنى، كل ذلك دليل واضح على أن هذا الرسم الذي عليه المصحف هو رسم توقيفي يجب أن يُلتزم وحده. ويحرم أن يكتب المصحف على رسم غير هذا الرسم، فلا يجوز العدول عنه مطلقًا. ولا يقال إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان أميًّا فلا يُعدّ تقريره لها، لا يقال ذلك لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان له كتّابٌ يعرفون الخطوطَ فكانوا يصفونها له، وأحيانًا كان يناقش في كتابة بعض أحرف القرآن الكريم، علاوة على أنه كان يعرف أشكال الحروف كما ورد في بعض الأحاديث. على أنَّ كِتابةَ كُتَّابه للرسائل التي كان يرسلها للملوك والرؤساء، كانت على رسم الكتابة العادية وعلى غير الرسم الذي كانوا يكتبون به الصحف التي يكتبون فيها القرآن حين نزوله، مع أن المـُــملي واحد والكتَّاب هم هم. على أن التزام الرسم العثماني للقرآن إنما هو خاص بكتابة المصحف كله. أما كتابة القرآن استشهادًا، أو كتابته على اللوح للتعليم، أو غير ذلك مما يكتب في غير المصاحف، فهو جائز لأن الإقرار من الرسول، عليه الصلاة والسلام، والإجماع من الصحابة حصل في المصحف وحده من دون غيره، ولا يقاس عليه غيره، لأنه أمر توقيفي عن الله تعالى كما تقدم.
4 ـــــــ إعجاز القرآن:
إن من أبرز مزايا القرآن الكريم إعجازه... فهو يختلف في واقعِه ووجودِه عن غيرِه، سواء من ناحية اللفظ، أو من ناحية المعنى، أو من ناحية الوقع على النفس. وبهذا الاختلاف يظهر إعجازه، وأنه من عند الله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 82). والاختلال لم يتطرَّق إليه قطّ منذ نزوله حتى اليوم، ولن يتطرَّق إليه أبدًا.
ومما يدل على أنَّ القرآن من عند الله:
أولًا: القرآن واقع محسوس، وهو بين أيدينا وليس من الغيبيّات، إذًا فلا جَدَل حول واقعه ووجوده. وهو بهذا الواقع المحسوس كلام عربي في ألفاظِه وجُمله...
لكنَّ العرب نَطقوا بكلامٍ منه الشعرُ بأنواعه، ومنه النثرُ بأنواعه، وكلامُهم مدوَّنٌ في الكتب، ومنقول عنهم استظهارًا (نقله الخلف عن السلف، ورواه بعضهم عن بعض)... وبقياس كلام العرب على القرآن الكريم، ومقارنته به، لا بدَّ من أن يكون إمَّا من طراز كلامهم، فيكون الذي قاله عربيًّا بليغًا، وإمَّا أن يكون من غير طراز كلام العرب، فيكون الَّذي قاله من غير العرب... وهو إمَّا أن يَقْدِرَ العربُ على قول مثله، وإمَّا أن يعجزوا عن أن يقولوا مثله، وفي كل من الحالتين نظر... فإن قَدِرُوا وقالوا مثله، فيكون كلامَ بشرٍ مثلهم، وإن عجزوا عن الإتيان بمثله، مع أنه كلام عربي عند العرب ـــــــ فصحائهم وبلغائهم ـــــــ لم يكن كلام بشر... والناظرُ في القرآن، وفي كلام العرب، مع قدرته على التبصُّر والتدقيق، يجد أن القرآن طرازٌ خاص من القول لم يسبق للعرب أن قالوا مثله، ولا أتَوا على هذا النمط الذي هو فيه من القول بشيء، لا قبل نزول القرآن ولا بعده، فإنْ كان العرب لم يقولوا قولَ القرآن، فهو إذًا كلام غيرهم... وقد ثبت بالتواتر الذي يفيد القطع واليقين، أن العرب عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن مع أنهم حاولوا مرارًا، وجرّبوا كثيرًا، وعقدوا لذلك الندوات والاجتماعات، وجمعوا أهل البلاغة والنظم والنثر. وكان عجز العرب ثابتًا، وهذا العجز أكده وواجهه القرآن الكريم نفسه بتحديه لهم، وهو التحدّي الذي كان، وما زال قائمًا بقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} (البقرة: 23)... وقوله سبحانه وتعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} (يونس: 38)... وبقوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} (هود: 13). إنه التحدي الصارخ من الله سبحانه وتعالى، وإنه العجز الفاضح من العرب أمام التحدي... وقد عجزوا حقًا عن أن يأتوا بمثله...
وكانوا إذا سَمِعوا القرآنَ أقبلُوا عليهِ مأخوذين بسموِّ بلاغَتِهِ، حتى إنّ الوليدَ بنَ المغيرةِ قالَ للناسِ، وقدْ سمعَ النبيّ، صلى الله عليه وسلم، يقرأ القرآن: "والله ما مِنْكُم رجلٌ أعرَفُ بالشعر منّي، ولا أعْلَمُ برجَزِهِ وقصدِهِ منّي، والله ما يُشْبِهُ الذي يقُولُهُ شيئًا منْ هذا. والله إنّ لقولِهِ الذي يقولُهُ لحلاوةً، وإنّ عليهِ لَطلاوةً، وإنّهُ لمورقٌ أعلاه، مغدَقٌ أسْفَلُهُ، وإنّهُ ليعلو ولا يُعْلى عليه". معَ أنّ الوليدَ لمْ يؤمنْ وأصرّ على كُفـــرِهِ.
وإذًا لقد ثبت أن القرآنَ لم يَقُلْهُ العرب، وأنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله... فمن أين هو إذًا؟ إنه من عند الله تعالى، ولا أحد، كائنًا من كان، سواء من أهل الإنس أو الجن، قادر على أن يثبت عكس ذلك!
ثانيًا: القرآنُ هو كلامُ الله، وقد استحالَ على العرب أن يقولوا مثله مع أنه كلام عربي، فيستحيل على غير العرب أن يقولوا مثله كذلك. ولا يقال إنه كلام محمد، صلى الله عليه وسلم، لأنَّ محمدًا عربيٌّ ومن العرب، فإذا ثبت العجز على محمد نفسه، صلى الله عليه وسلم، لأنَّ محمدًا عربيٌّ ومن العرب، فإذا ثبت العجز على جنس العرب، فقد ثبت العجز على محمد نفسه، صلى الله عليه وسلم، لأنه فردٌ من الجنس، وما يسري عليهم يسري عليه، وخصوصًا أنه، صلى الله عليه وسلم كان أميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وقومُهُ يعرفون ذلك عنه ولا يشكون فيه، لأن أمية الحرف، أي أمية القراءة والكتابة، كانت منتشرة في العرب ذلك الحين، فلا يتأتى لأميٍّ أن يأتي بكلام بليغ فصيح، يعجز عن مثله الشعراء والخطباء من مشاهير العرب. فما كان يتلوه محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قرآنًا، إن هو إلّا وحيه تعالى إليه.
يضاف إلى ذلك، أن جميع الشعراء والكتّاب والفلاسفة والمفكرين في العالم، يكون لكل منهم نمطٌ أو منهجٌ، أو أسلوبٌ معيّن، في التفكير والتعبير... وهم عادة يتقلبون في أفكارهم وتعابيرهم بين القوة والضعف، فلا يكون نتاج أحدهم على الوتيرة ذاتها، بل لا بدَّ من أن يكون فيه ضعف وقوة، ولا بدَّ من أن تمرَّ في كتاباتهم بعض الأفكار السخيفة، وبعض التعابير الركيكة... هذا، في حين نجد القرآن من أول يوم نزلت فيه أول آية: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1)، إلى آخر يوم نزلت فيه آخر آية، نجده في الذروة من البلاغة، والفصاحة، وسمُوِّ المعاني، وقوة التعبير، حتى إننا لا نجد فيه تعبيرًا واحدًا ركيكًا، بل هو قطعة واحدة، وكله في الأسلوب، جملةً وتفصيلًا، كالجملة الواحدة... فهل بعدُ، أكبر وأبعد دليلًا، على أن القرآن فوق كلام البشر المعرَّض للاختلاف في التعبير، وفي المبنى والمعنى؟ وما دام كذلك فهو إذًا كلام ربِّ البشر، ربِّ العالمين.
لقد اعتمد القرآن في الدَّعوة على أساس فطري، ثم خاطب الناس بما يتفق ومداركهم، لأنَّ في الناس العالِمَ والجاهلَ، والذكيَّ والبسيطَ، وهؤلاء جميعًا مدعوُّون ليؤمنوا بالله إيمانًا عقليًّا، وعن طريق القرآن نفسه... ولذلك كانت مخاطبته للجميع، بما يتوافق مع مدارك الجميع.
وحين نزلت آيات القرآن الكريم على رسول اللّه، صلى الله عليه وسلم، وبلّغها للناس، آمن بها المسلمون وحفظوها عن ظهر قلب، ولم يروا هم، ولم يرَ المشركون، فيها أيَّ تناقض يحتاج إلى تدقيقٍ، بل فهموا جميعهم كل آية في الجانب الذي جاءت تصفه أو تقرِّره... فأمَّا المؤمنون، فكانت الآياتُ منسجمةً بالنسبة إليهم في واقعها، وفي نفوسهم، وقد آمنوا بها وصدَّقوها وفهموها فهمًا مجملًا، واكتفوا بهذا الفهم، واعدّوها وصفًا لواقع أو تقريرًا لحقائق {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك: 14)... وأما المشركون فعلى الرغم من فهمهم للآيات وإعجابهم بفصاحتها وبلاغتها وعجزهم عن معارضتها، واقتناعهم بانسجامها مع الواقع، ومع ما تقرِّر أو تصف، فقد أبت عليهم نفوسُهم إلَّا معاندة الإيمان، لأسباب وغايات شتَّى، فكفروا بها واستغرقوا في ضلالهم.
وليسَ القرآن معجزًا للعربِ الذينَ كانوا في أيّامِ الرّسولِ، صلى الله عليه وسلم فقطْ، ولا للعرب وحدَهم في كلّ مكان وزمانٍ، بل هو معجزةٌ للنّاسِ أجمعينَ لا فرْقَ في ذلكَ بين قبيلٍ وقبيلٍ، لأنَّ الخطابَ فيه موجّهٌ للنّاسِ أجمعينَ. قالَ تعالى: {وما أرسلناك إلا كآفة للناس} (سبأ: 28) وقال سبحانه: {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (الأعراف: 158), ولأنَّ آياتِ التّحدّي عامَّةً تقولُ: {وادعوا من استطعتم من دون الله} (يونس: 38) وذلكَ يَشمُلُ النّاسَ جميعًا، ولأنَّ القرآنَ أخبرَ عَنْ عَجْزِ الجنّ والإنس، فقالَ تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} (الإسراء: 88) فَعَجِزَ العربُ عَنْ أنْ يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ، وعجزَ الناسُ جميعًا عن أن يأتوا بمثلِهِ، فكان هذا الإعجاز هو المعجزة الحسية الماثلة أمام الأسماع والأبصار والأفئدة والعقول جميعًا، وكانت هي الدليل القطعي على أن القرآن هو قول الله تعالى، وهو {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} (فصلت: 3).
وإليك بعضًا من آيات القرآن الكريم.
5 ـــــــ من القرآن الكريم آيات بيِّنات:
حلَّق الإنسان في آفاق الاكتشافات العلمية، وحلَّل المواد والعناصر، وأرسى القوانين والنُّظم، وتعلَّم فعَلِمَ، واستقرأ فاستنبط، وجرَّب فاستنتج، وبحث فاكتشف، ونظر فتأمل، وفكر فوصل، وجدَّ فوجد. كل ذلك صحيح، يدلُّ على قدرة الإنسان وقوَّة مداركه وأحاسيسه، ولكن مهما علم الإنسان ومهما اكتشف أو صنع أو اخترع، فإنَّ معرفته لا تُعدُّ شيئًا يذكر، بل تظل ضئيلة، وضئيلةً جدًّا بالنسبة إلى علم الله جل وعلا الذي أحاط بكل شيء علمًا. وهذا ما بيَّنه الله لنا في القرآن الكريم على سبيل التقدير، فقال سبحانه وتعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر مانفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} (لقمان: 27)... وقال تعالى في مكان آخر: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} (الكهف: 109).
فهذه الآيات تعرض للناس البحر بسعته وغزارته في صورة مداد ـــــــ أيْ حِبْرٍ ـــــــ يكتبون به كلمات الله، عزَّ وجلَّ، التي تدل على علمه، وتعرض لهم الأشجار في صورة أقلام يستعملونها لتلك الكتابة، فإذا المعجزة أنِّ كل ما في الأرض من شجر، لو قُطِعَ وتحوَّل إلى أقلام، وكلَّ ما في الأرض من بحار، لو تحوَّل إلى حبر، بل لو أنَّ البحر نفد ثم جيء بمثله... أيْ لَو أمكن حصول كل ذلك كي يكتب الناسُ كلمات الله، الدالة على علمه، لَنَفِدَت الأشجار، والبحار، وكلمات الله، لا تنفد لأنها ليس لها نهاية... وما ذلك إلَّا لأن عِلْمَ الله لا يُحدُّ، ولأنَّ إرادته لا تُكف، ولأنَّ مشيئته ـــــــ سبحانه ـــــــ ماضية نافذة لا مَرَدَّ لها.
ولقد ثبت للإنسان، من خلال اكتشافاته العلميَّة، أنَّ كل ما في الوجودـ، من أصغر ذرة في المكان الذي وجدت فيه، إلى أكبر جرم يسبح في الآفاق، إنَّما يسير وفق نظام دقيق، عجيب، كامل الدقة والإحكام، من أبسط دلائله أن هذا التسيير لا يمكن أن يكون من دون خلق الله تعالى وتقديره... وهذا ما يؤكده القرآن الكريم في أكثر من سورة وآية، وفي مواضع متعددة، طبقًا للسياق والمنهج والغاية. {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 49). {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} (الفرقان: 2). {وكل شيء عنده بمقدار} (الرعد: 8)... {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} (الحجر: 21). {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل:88)...
ومثل هذا الصنع، وهذا التقدير، جاءت الأبحاث والدراسات تؤكده في كل شيء تناولته، سواء تعلق بحياة الإنسان، أو بحياة النبات والحيوان، أو كان يعود إلى الماء والهواء، أو الجبال والرياح، أو إلى الكون كله، وبما في هذا الكون من عوالم، لا يعلم عددها وكُنهها إلا الله سبحانه...
فما من عالم أو باحث، أمكنه معرفة القرآن والوقوف على بعض جوانبه، إلَّا وتأكَّدَ له، بما لا يقبل الشك، أن في القرآن المجيد إشارةً إلى علْمه أو بحثه، وأنَّ ما يشير أو يلمح إليه القرآن الكريم لا يتعارض مع ما توصلت أو قد تتوصل إليه الاكتشافات العلمية القطعية.
فهذا "ألكس لوازمن" يقول: "خلَّف محمد للعالم كتابًا هو آيةُ البلاغة، وسجلُّ الأخلاق، وهو كتابٌ مقدَّس. وليس بين المسائل العلمية المكتشفة حديثًا أو المكتشفات الحديثة، مسألة تتعارض مع الأسس الإسلامية، فالانسجام تام بين تعاليم القرآن والقوانين الطبيعية".
ويقول "غوته": "إن تعاليم القرآن عملية ومطابقة للحاجات الفكرية".
أما عن بعض مزايا القرآن في تفرُّده بخصائص ذاتيَّة، لا يشاركه فيها شيء، فيقول "جيمس متشنر" في مقال له: "لعلَّ القرآنَ هو أكثرُ الكُتُبِ التي تُقْرأ في العالَمِ، وهو بكل تأكيد أيسرُها حفظًا وأشدُّها أثرًا في الحياة اليوميَّة لمن يُؤمن به، فليس طويلًا كالعهد القديم... ومن مزاياه أن القلوب تخشع عند سماعه وتزداد إيمانًا وسموًّا... ومن الملاحظ أن القرآن يتَّسم بطابَعٍ عمليٍّ فيما يتعلق بالمعاملات بين الناس. وهذا التوفيق بين عبادة الإله الواحد، والتعاليم العمليَّة، جعل القرآن كتابًا فريدًا، ووحدة متماسكة"...
فالرأي الذي بدأ يسود مع تقدم الاكتشافات العلمية وتعاظمها، أن التوافق تامٌّ بين أحكام القرآن ومعطيات العلم الحديث المتعلقة بخلق الكون والإنسان والحياة، وأن في القرآن الكريم أشياء وأمورًا متعلقة بخلق وتدبير هذا العالم، لم يتوصل العلم إلى كنهها، ولم يزل قاصرًا عن حلِّ مبهماتها.
كلُّ ذلك يبيِّن حقيقة القرآن الكريم، بل بعض ما تضمَّنه كتاب الله: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} (سبأ: 6)...
ومع هذا فإنّ ما يجدر التنبيه إليه، هو أن القرآن ليس كتابًا علميًّا، ولا موسوعة علميَّة، وأنَّ كلَّ ما ورد فيه من آيات تشير إلى الحقائق التي تتعلق بالخَلق، وبالحياة، والإنسان، والكون، إنما ورد بقصد التَّنبيه إلى ما في تلك الحقائق من آثار الإرادة، والقدرة، والعلم، والحكمة، والتوازن، والإتقان، وهذه كلُّها تدل على وجود الله حقًّا، وتنفي كل الفلسفات المادية والجدلية، التي تجعل من المادة وحركتها أصلَ الوجود، وتدور في حلقة مفرغة وعلى شفا جُرف هارٍ سوف ينهار بما تبنيه من أوهامها وأباطيلها.
فكل ما في القرآن تنَزَّلَ ليؤكد حقيقة وجود الله سبحانه، ويدعو إلى التأمُّل والتفَكُّر في عظمته، وجلال قدرته. ومن دلائل آياته في الخلقِ، قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} (النحل: 17). {وربك يخلق ما يشاء ويختار} (القصص: 68)... {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} (الحجر: 85)...
وإنَّ القرآن الكريم، يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المتكررة، قضايا كونيَّة كبرى، يكشف فيها عن القوانين الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة، وتصورًا كاملًا لهذا الوجود. كما يجعل منها منهجًا للنظر والتفكير، وحياةً للأرواح والقلوب، ويقظةً للمشاعر والحواس... وإنها يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع النّاس صباحَ مساءَ، وهم غافلون عنها، ويقظة لأنفسهم وما يجري فيها من العجائب والخوارق...
ومن أبسط الدلائل، وأقربها إلى واقع الإنسان ووجوده، ما يتعلق منها بخلقه... أفلا ينظر الإنسان إلى نفسه، ويتساءل مَن خَلَقَه... ومِمَّ خُلِقَ، وكيف خُلِق؟!... إنَّ الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان، بقوله الحق: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون، أفرءيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} (الواقعة: 57 ـــــــ 59).
أيُّ دورٍ للبشر في هذا الخلق، سوى أن يُودِعَ الرجلُ ماءً مهينًا، في رحم المرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، لتستمر قدرة الله تعالى وحدها، في هذا الماء المهين: تعمل في خَلْقِه، وتنميتِه، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، ليستويَ بعد ذلك إنسانًا على هذه الصورة الكاملة، وهذا الخلق القويم! {ألم نخلقكم من ماءٍ مهين، فجعلناه في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدرنا فنعم القادرون} (المرسلات: 20 ـــــــ 23). {أيحسب الإنسان أن يترك سدًى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} (القيامة: 36 ـــــــ 39)... {ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين} (البلد: 8 ـــــــ 10)... {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4)... إذًا فَلينظر الإنسان ممّا خلق، وليتفكر في آيات هذا الخلق، التي هي أقرب الأدلة إليه، مبثوثة في جسده وفي نفسه، فيقع عندئذٍ على قدرة الخالق، وما أتاه من عجيب الصنع، وقوة التدبير، وجمال الخلق والتقويم...
والأدلة والشواهد، على ذلك، في القرآن الكريم، أكثر من أن تُعدَّ وتُحصى، فهو يروي لنا أخبار الأمم الغابرة، وما صادفَها في علاقتها الإيمانية، من اهتدائها إلى الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، أو ضلالتها الشيطانية، وابتعادها عن الحق إلى الزيف والبطلان... وإذا كانت تلك الأدلة والبراهين، التي يسوقها القرآن الكريم عن أخبار الماضين، مما لا يقع عليها الحسُّ، أو لا تظهر لنا في الواقع المحسوس، فإنَّ القرآن يستدرك ذلك، ويرينا من الإثباتات والحقائق، ما نقع عليه في كل لحظة من حياتنا، وما نتعايش وإيّاه، في أيّ حال في هذه الحياة الأرضية... فكل شيء قريب منا، وكل شيء يقيم أودَ حياتنا، وكل شيء نتعامل معه، وكل شيء يمكن أن ندركه بفكرنا، ونستدل عليه بعقلنا، كل ذلك إنما هو من صنع الله سبحانه، وهو يدلُّنا على هذا الصنع، ويشكل الدليل الثابت أمام حواسنا ومداركنا... ونحن نرى جميع الأشياء، ونرى صنعَ الله فيها، لكننا غافلون عن عظمة هذا الصنع، وعن مواضع الإعجاز فيه، لإلفتنا للأشياء، وتعودّنا المتكرّر عليها... ومن هنا فضلُ القرآن الكريم علينا بأنه يفتح عيوننا على هذه الأشياء، ويدلّنا عليها، حتى نطّلِعَ على السرّ الهائل المكنون فيها، بأدق تعبير وأصدق تصوير.
ومن الآيات المبثوثة في وجود الإنسان، والَّتي هي من بديهيَّاتِ حياة البشر، ومن مشاهداتهم المحسوسة، ما يشير به القرآن إلى ما يقع بين أيديهم، وعلى مرأى من أعينهم، لكنهم غافلون عنه: الحرثُ، وما ينبت منه من شجر ونبات، فيقول سبحانه وتعالى: {أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاما} (الواقعة: 63 ـــــــ 65).
إنَّهم يحرثون ويُلقون الحبَّ والبذورَ التي صنعها الله، ثم ينتهي دورهم. وتأخذ الحبة أو البذرة طريقها لإعادة نوعها بإذن الله تعالى، تبدأه وتسير فيه سير العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق، الذي لا يخطئ مرة، كما يخطئ الإنسان في عمله، ولا ينحرف عن طريقه، ولا يضل عن الهدف المرسوم.
أو ليس الله ـــــــ سبحانه ـــــــ هو الذي يتولى تلك الحبة، أو البذرة، بالعناية، حتى تستوي نباتًا أو شجرًا فيراها الإنسان في صورة من الصور، وفي نوع من الأنواع؟

ولولَا أننا نرى ذلك واقعًا محسوسًا أمامنا، فهل كان يمكن لعقل أن يصدق، أو لخيال أن يتصوّر، أن حبة القمح الميتة، مثلًا، يكمن فيها هذا الْعُود وهذا الورق، وهذه السُّنبلة وهذا الْحَبُّ الكثير؟... أو أن النواة الجافَّة تكمن فيها هذه الشجرة من النخيل أو الزيتون أو التين... وما في كل منها من جذوع وأطراف وأغصان وأوراق، وزهر وثمر؟!...
أو ليس هذا ما يشاهد في كل حين، ويتكرر على مرأى من جميع الناس؟!...
فهل يمكن لأي إنسان أن يدعي بأنه صنع شيئًا من ذلك سوى الحرث وإلقاء البذور التي صنعها الله وكما عَلَّمه الله؟
ويقول الناس: زرعنا!... وهم لم يتجاوزوا الحرث وإلقاء البذور... أما الزرع والإنبات والنمو والارتفاع فكلها من صنع الخالق الزارع... ولو شاء لم تبدأ حبة أو بذرة رحلتها، ولم تعرف طريقها... ولو شاء لجعلها حطامًا قبل أن تؤتي ثمارها... لكنها، بمشيئته، تتمسك بالأرض وتتغذى من العناصر التي تمدُّها بالحياة، ثم من الموات يبدأ الخلق الحي، فتبارك الخالق الصانع رب العالمين!.
وفي ذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت} (الأنعام: 95)...
يخرج الحي من الميت!...
نعم... فهذه حبة الحنطة، أاو نواة الثمر، إذا وضعت في الأرض، انفلقت من أسفلها وأعلاها، وخرج من الشق الأسفل عروق تأخذ طريقها في باطن الأرض وتتشبث فيها لتستمدّ منها غذاءها، ومن الشق الأعلى تنبت النبتة ثم تصعد فوق سطح الأرض، لتكون نباتًا متفرعًا، أو شجرًا باسقًا، وذلك بعد أن تكون الحبة أو النواة الأم قد تلاشت وانتهى شكلها وحجمها...
فهذه الحياة التي خرجت من الجسم الميِّت، بفضل اجتماع عوامل معيَّنة، أليست كلها من تقدير الله العزيز الحكيم؟
وعن النبات أيضًا ورد قول الله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به نبات كل شيءٍ فأخرجنا منه خضرًا تخرج منه حبًّا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابهٍ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} (الأنعام: 99).
إنها دعوة الخالق للنظر إلى هذا الثمر الذي نأكله من دون أن يثير فينا أيّ هزة تفكير، إنها الدعوة للنظر إلى خروج هذا الثمر نظرَ اعتبار وتفكرٍ وتأمل، كيف كان ابتداء خروجه حين أثمر، ثم اكتماله حين نضج وأينع، وإدراك الكيفية التي اختلفت فيها الأحوال عليه في الصِّغر والكبر، وفي اللون والرائحة والطعم... أليس في ذلك استدلال على أن لهذا الثمر صانعًا مدبرًا؟ فالمؤمنون بالحقائق، به يستدلون، وبمعرفة مدلولاته ينتفعون...
ومن آيات الله تعالى التي يذكرها القرآن الكريم كثيرًا، وَيُردِّد ذكرها، لِمَا لَها من أهمية في حياة الإنسان، بل وفي حياة كل كائن حي: الماءُ، الذي يشربُه الإنسان، ويرتوي منه الحيوان والنبات، وبه تمتلئ الأنهار والبحار...
ألا تقع عليه أبصارنا كلَّ يوم، وهو يشكل المادة الرئيسية والحيوية لأجسادنا، ولجميع مقومات حياتنا؟...
هذا الماء الذي نشربه، يسألنا ربُّنا القادر عنه، هل نحن أنزلناه أم هو خالقه ومنزله، وذلك بقوله تعالى: {أفرءيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون} (الواقعة: 68 ـــــــ 70).
نعم هذا الماء، الذي هو أصل الحياة وعنصرها، والذي لا تنشأ الحياة إلَّا به، كما قدَّر الله، ما دور الإنسان فيه؟ دوره أن يشربه، وأن يسقي منه زروعه وأنعامه، أما تركيب هذا الماء، وضرورة وجوده في جسم الإنسان، وفي جسم كل كائن حي، وأما إنشاؤه من عناصره، وتنزيله من سحائبه وغمائمه، فذلك كلُّه يعود إلى الله سبحانه... ولقد قدَّر تعالى أن يكون هذا الماء عذبًا حتى تستوي الحياة في جانب منها بعذوبته، كما قدَّر أن يكون أُجاجًا مِلْحًا، حتى تستوي الحياة في جانب آخر منها (في البحار) بملوحته... ولو شاء لجعله مِلْحًا كله لا يُستساغ ولا ينشئ حياة، فهلَّا يشكر الإنسان فضل ربه الذي أجرى مشيئته بما كان؟!...
ونُبيّن آيات القرآن الكريم قدرة الله سبحانه ـــــــ في خلق الماء، بقوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا، وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قدير} (الفرقان: 53 ـــــــ 54). وقوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} (الزمر: 21)...
وقوله تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} (الجاثية: 12)... {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام، إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور} (الشورى: 32 ـــــــ 33).
{ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون} (العنكبوت: 63).
{وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} (الأنبياء: 30).
حتى الأرض الصلبة الجافة، فإنها تكون هامدة مواتًا، لا حراك فيها، ولا نضارة أو نماء، فإذا خالطَها الماءُ اهتزَّت وتحرّكت بعد سكون، وزهت بعد ذبول، ونمت بعد يباس، فغدت بهجةً بعد كمون، وحركةً بعد همود، بما ينبت فيها من نباتٍ وزهرٍ وشجر... فسبحان من يذكّر الجاحدين بنعمه، وينذر المنكرين لبعثه، عندما يقول جلَّ وعلا: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير} (الحج: 5 ـــــــ 6). لا إله إلا الله، له الحمد والشكر، والنعمة والرضا، على خلقه، وعلى تنزيله، وعلى إحيائه لكل شيء، عندما جعل من الماء كل شيء حي.
ومثل الماء، يضربُ الله تعالى المثلَ للناس بالنار التي يوقدون، فيسألهم جَلَّ وعلا: {أفرءيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون، نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين} (الواقعة: 71 ـــــــ 73).
لقد كان اكتشاف الإنسان للنار حدثًا عظيمًا في حياته، وربما كان أعظم حدث بدأت منه حضارته. لكنَّ هذه النَّار أصبحت أمرًا مألوفًا لا يثير الاهتمام. والإنسان يوري النار ـــــــ أي يُشْعلها ـــــــ من دون أن يعلم عن سرّها شيئًا... أما مَنْ أنشأها، ومَنْ أنشأ الشجر الذي توقد به، فإنه لا يتفكَّر فيه، ولذلك يشدّه القرآن، إلى هذا الشيء المألوف في حياته، حتى يتذكر خالقه، وخالق النَّار والشجر، وكلِّ شيء، ثم ليتذكَّر، ـــــــ وهو يرى ما في هذه النار من حرارة وقوة ـــــــ نار الآخرة، وما ينتظره، إن لم يكن من المؤمنين، الصادقين، الذي يسيرون وفق أمر الله تعالى وميشئته، يهتدون بهداه، ويعملون بما يأمرهم به... فالله سبحانه وتعالى هو الذي أنشأ الشجر، ومنه أتى الوقود، فكانت النار المعجزة التي ما زال سرها عند العلماء الباحثين مجالًا للبحث والنظر والاهتمام... لكنَّ العلم يؤكد ما جاءت به الآية القرآنية عن مصدر الاحتراق الذي تنشأ عنه النار، فيقول العلماء بأن النَّار هي عبارة عن ظاهرة لتزايد الحرارة الناجم من احتراق الأجسام. وإن الاحتراق ـــــــ بمعناه العام ـــــــ هو عبارة عن ظواهر كيماوية تحصل عند اتحاد جسم من الأجسام مع الأوكسيجين. لكن الاحتراق الذي يولد الحرارة إنما يحصل من اتحاد الأوكسيجين مع الكربون. وهذا الكربون موجود في الطبيعة في أجسام مختلفة من الجمادات والأحياء، لكن أعظم وجوده وأيسره في النباتات. فأنسجة النبات، كلها من الكربون، بل يكاد يكون الكربون العنصر الوحيد في تركيب جسم النبات وغذائه وثماره.
والنَّار من أعظم الضروريات لحياة الإنسان، في دفئه وطعامه وصناعته. ولو وجدت مكوَّنة كالماء والهواء لأهلكت الحياة، وكانت خطرًا دائمًا عليها. فلينظر الإنسان كيف أعدَّ الخالق عناصرها، وجعلها كامنة في الشجر الأخضر كمونًا بالقوة، وسلَّطنا على تَوْريتها (إشعالها) عند الحاجة، وبقدر اللزوم، وجعلها لنا متاعًا (أي وسيلة فائدة ومتعة عيش)، وتذكرةً (نتذكر بها حينما نستخرجها من مكمنها في الشجر الأخضر الطري المائيّ الذي لا نتوقع كمون النار فيه، نتذكَّر قدرة الله تعالى وحكمته في خلق ذلك وإنشائه).
وهذه الحيوانات، من الدواب والطير، قد ذكرها القرآن الكريم في آيات كثيرة، وأشار إلى اختلافها على الرغم من أنها خُلقت من أصل واحد هو الماء والتراب... وفي خلق هذه الحيوانات، وتكوينها، واختلاف أنواعها وأشكالها، وأقدارها وأعضائها وقواها، وألوانها وأصواتها، ومنافعها ومضارها، يقول الله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير} (النور: 45)...
{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} (الأنعام: 38)...
{ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)... {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} (الغاشية: 17)...
يقول العلم إن العناصر التي تتألف منها أجسام الحيوانات معلومة، وإن كل حيوان نشأ، في الأصل، من تراب هذه الأرض ومائها، ثم تنوَّع بأمر الله وقدرته، وفقًا للقوانين الإلهية التي تدل على التصميم والإرادة والحكمة... ولقد تبيّن، من جراء هذه القوانين، ما كشفه العلم، من أن لكل نوع من الحيوانات مخطَّطات أصيلة خلقها الله في البيوض وفي الكائن الْمَنوي. وبهذه المخطَّطات العجيبة يتميَّز كلُّ جنس من الآخر بصفاته وخواصه، مع أن كل الحيوانات قد خُلقت من الماء كما يقول القرآن الكريم.
ومن الدلائل التي أشار إليها القرآن الكريم على خلق الله وهداه، ووحيه وإلهامه، ما ذكره عن النحل بخاصة، وذلك بقوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} (النحل: 68 ـــــــ 69)...
وإنه لَيأخذنا العجَبُ لَو عرفنا حياة النحلة التي يشير إليها القرآن، وهي في خَلِيَّتها تقسم بيتها إلى غُرَفٍ وفقَ نظام هندسيٍّ عجيب، منها الصغيرة للعمال، ومنها الكبيرة لليعاسيب (جمع يعسوب) ومنها غرف للملكات الحوامل... ثم إنها تقتسم الأعمال كما تتقاسم المساكن، فمنها ما يقوم بِجَنْيِ الرحيق من رؤوس الأزهار، ومنها ما يقوم بإعداد الغِذاء للصغار فيمضغ لها العسل ليسهل هضمه عليها، فإذا بلغت صغارُها الحدَّ الذي به تستغني عن هذه المساعدة، كفَّت العاملاتُ الطابخاتُ عن المضغ... ويستمر هذا التعاون الجماعي، من دون أن يتبدل أو يختل، على كَرِّ الأيام والسنين، بدقة لا يتيسر لنا أن نراها، في أحسن مؤسسة اجتماعية يديرها الإنسان العاقل.
هذا بالنسبة إلى سير حياة النحل وطرق عيشها...
أما بالنسبة إلينا فلنتأمل بما تقدمه إلينا من الرزق الحسن، من شراب العسل اللذيذ الطعم الذي جعل الله فيه شفاءً من بعض الأمراض... أو ليس الله سبحانه وتعالى، كما يقول لنا في محكم كتابه العزيز، هو الذي ألهم النحل أن تتخذ لها خلايا في الجبال والشجر وفي أماكن أخرى؟!... فلننظر إلى النحلة وهي تنقلُ رحيقَ الزهر من مساقطهِ بأفواهها، وتحملُهُ من أوراق الشجر وأضغاث النبات، وكل موقع تصلُ إليه، ولنتأمّل كيف تسقطه سقوط الندى في أماكن مخصوصة، وعلى أوصافٍ معلومة، حتى يكونَ عسلًا صافيًا، فيه لذة للشاربين، وفيه نماءٌ وشفاءٌ للآكلين...
وإنَّ هذا العسل الذي تجنيه رحيقًا، من أزهار النبات والشجر، يأتي بألوان مختلفة، فمنه ما هو شديد البياض، ومنه الأصفر، ومنه ما يميل إلى الحمرة أو السمرة، كأنه مزيج من ألوان الأزهار التي تقع عليها. نعم إنَّ هذا العسل يخرج من بطونها، إلَّا إنها تلقيه من أفواهها كالريق، وإنما قال الله سبحانه "من بطونها"، ولم يقل من أفواهها، لئلا يظن السامعُ أنها تلقيه من فيها ولم يخرج من بطنها، أو أنها تُخْرِجُه من جَوفها كفَضَلات الحيوان. وإنَّ هذا الخروج للعسل من أفواه النحل، هو من خصائصه التي تدعو للاعتبار، لأن جميع الحيوانات النافعة الأخرى تخرج منافعها من غير أفواهها (كالدجاج أو البقر، أو الماعز... وما إلى ذلك من حيوانات نافعة). ومن عِبَرِ النحل أو العسل الذي فيه شفاء أنه يخرج من موضع السم، ومن مكان اللسع نفسه عند النحل...
ومن عجائب وبدائع النحل ما ركَّب الله في فطرتها من التدبير والتنظيم بحيث جعل لكل فئة يعسوبًا هو أميرها الذي يتقدمها، ويحامي عنها ويدير أمورها، وهي تتبعه وتقتفي أثره، ومتى فقدته انحلَّ نظامها، وزال قوامها وتفرقت شَذَرَ.
إنَّ في ذلك كلِّه لَحُجَّةً دامغةً، ودلالةً واضحةً على وحدانية الله، وجليل قدرته لقومٍ يتفكرون...
ومثل النحل العنكبوت التي تبني بيوتها من لعابها بذلك التنسيق الهندسي العجيب، لتجعلها شباكًا وحبائل لصيد طعامها.
ومن عجيب خلق الله سبحانه تلك الطيور التي يروى أنها تداوي نفسها، إذا كسرت أرجلها، بالتجبير، فتجمِّع على محل الكسر الطينَ والعشب وتقفُ في الشمس حتى يجفّا، فيتكوَّن رباط قوي متين كالجبيرة، تبقيها على العضو المكسور حتى يلتحم ويجبر.
فبأي دافع، بل بأيّ غريزة، تقوم هذه الحيوانات الضعيفة بأعمالها المدهشة تلك، التي يعجز عنها الفيل، والحصان، والأسد، بل والقرد؟ وما العلاقة بين النحلة والعنكبوت حتى يكون عند كل منها ذلك العلم من الهندسة، والتنسيق في البناء؟ أو ليس ربك يخلق ما يشاء؟! أو ليس ربك الذي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى؟!...
والأنعام التي ذكرها القرآن الكريم في آيات كثيرة، فأي خالق غير الله ـــــــ سبحانه ـــــــ قادر على أن يجمع في هذه الأنعام الضعف والذلة والانقياد، إلى جانب القوة الكافية للحرث والجرِّ والحمل، وأن يجعل فيها ـــــــ في الوقت نفسه ـــــــ طعام الإنسان، ولباسه ودفئه، ومسكنه وأثاثه، وربما قضاء كل حاجاته، من دون أن تكلِّفَهُ سوى أن يقدم لها بعض الطعام والشراب، أو أن يُطلِقها تقتات العشبَ وحدَها فتأكل من رزق الله وتشرب من مائه؟!... نعم أي خالق غير الله قادر على أن يخلق هذه الأنعام، ويجعلها على هذه الشاكلة كما في قوله تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا انعاما فهم لها مالكون، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} (يس: 71 ـــــــ 73)... وقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} (النحل: 66).
وفي هذه الآيات البيِّنات يقدِّم الله ـــــــ سبحانه ـــــــ من عجائب الصنعة، وبدائع الحكمة، ودلائل القدرة للمفكِّرين، ما يجعلهم يعترفون ويُقرُّون بوحدانيَّته، ويُعدّون حقًّا بأن القرآن هو كتابه المبين الذي أراده أن يكون نورًا للناس أجمعين... فلنتأمل قوله تعالى: {نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} (النحل: 66)... نعم الدم يجري في العروق، واللَّبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو ليخرج فضلات. فاللَّبن، بلونه الأبيض وطعمه الخاص، لا يشوبه لون الدم الأحمر ولا رائحته، ولا لون الفرث الأصفر ولا رائحته... ولقد جاء العلم يوضِّحُ من خلال عملية الهضم التي تحصلُ عند الحيوان، كيف أنَّ طعامَهُ من النبات ـــــــ في الغالب ـــــــ يتحوَّلُ إلى دمٍ يغذي جسمه، وإلى لبنٍ خالصٍ سائغٍ نشربه، في حين تخرج الرواسبُ والبقايا فرثًا... طبعًا هنالك عملية الأعضاء الداخلية عند الحيوان، وما لكل عضو من وظيفة يقوم بها، وبنتيجة أداء تلك الأعضاء لوظائفها على الوجه الأكمل، يخرج من طعام الحيوان اللبن السائغ الذي يمُدُّنا بالغذاء الكامل...
ذلك هو التدبير الإلهي. فتأمل أيها الإنسان، في هذه الألوان المختلفة المتنوِّعة من أحمر قانٍ إلى أبيضَ ناصعٍ، ومن أصفر فاقعٍ إلى أصفر قاتم. أيها الإنسان اللاهي السامد المتَّبع لأهوائه، القريب البعيد المنشغل بإشباع شهواته، انْظُرْ إلى ما يحيط بك من قدرة الله العظيم!. وفكِّر في تدبيره، ودقائق خلقه، وعجيب صنعه.
ولو أنّا أمعنّا النظر والتدقيق في آيات القرآن، لوَجدنا أنه يحضُّ على النظرة الشاملة الكاملة حين يقول: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} (الأعراف: 185). وفي هذه النظرة الشاملة دعوة إلى ما في آفاق الكون من آيات دالَّة ومعبِّرة، وما في النفوس من آيات تقدِّم الأدلة والبراهين، وكلها تبيِّن للناس أنه الحقُّ من رب السماوات والأرض، ورب الخلق والعباد، ألا إنه هو الخالق القدير، وهو رب العالمين...
إن النظر بالعين المبصرة في هذا الكون العجيب، وفي هذا الملكوت الهائل الواسع، يكفي البشرية كي تدرك الحق الكامن فيه، والإبداع الذي يشهد به، والإعجاز الذي يدل على البارئ الواحد الأحد... كما أن النظر إلى ما خلق الله من شيء يدلُّ على قدرة الخالق، وإحكام صنعه. قال تعالى: {الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير، ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} (الملك: 3 ـــــــ 5).
فكل ما في هذه الآيات دليل على مظاهر الهيمنة المترفة في المـُـــلك، والقدرة التي لا يقيدها قيد... والقرآن يوجه النظر إلى خلق الله في السماوات بصفة خاصة، وفي كل ما خلق بصفة عامة، ويَلفتُه إلى خلق الله بكماله حتى ليرد البصر عاجزًا كليلًا مبهورًا مدهوشًا لفرط هذا الكمال. فليس في الكون كله خلل ولا نقص ولا اضطراب. ويتحدَّى القرآن الإنسانَ أن يرجع البصر مرة أخرى للتأكد والتثبت، فهل يرى من فطور؟ وهل يقع نظره على شق أو صدع أو خلل؟ ولو أنه أعادَ البصر كَرَّتَينِ، بل ألْفَ كَرَّةٍ، فإِنه سيجد ما وجده في أول مرة من دقة الصنع، والإحكام، ممّا يبهره، ويثير فيه الرهبة والخشوع...
إن أسلوب التحدي هذا الذي يأتي به القرآن الكريم ليس من غاية له إلَّا أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السَّماوات، وإلى خلق الله كله. وهذه النظرة الحادة الفاحصة، المتأملة المتدبرة، هي التي يريد القرآن أن يبعثها، فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق... والذي يعرف شيئًا عن طبيعة هذا الكون ونظامه ـــــــ كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها ـــــــ يدركه الدهش والذهول... فالجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة. فالكمال يبلغ درجة الجمال، والجمال يبلغُ درجةَ الكمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} (الملك: 5).
وبمثل هذا الكمال والجمال رفع الله السماوات بغير عَمَدٍ يَراها الناس، فلينظروا إذًا إلى السماء فوقهم {كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} (ق: 6) {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} (الفرقان: 61). إنه الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وهو الذي قال: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} (يس: 38 ـــــــ 40)... {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون، إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون} (يونس: 5 ـــــــ 6).... {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير، ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} (لقمان: 29 ـــــــ 30)...
{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} (آل عمران: 190 ـــــــ 191).
هذه آيات من القرآن تدل على ملكوت السماوات والأرض، التي هي بيد الله، صاحب الملك، يصرِّفها كيف يشاء بقدرته التي لا تُحَدّ...
وإذا كان القرآن الكريم، قد بيَّن لنا بعضًا من حقيقة هذا الكون، وما فيه من اتساع وشمول، وما يقوم عليه من دقة الصنع، وعجيب الإتقان والإبداع، بما شهد عليه أهل العلم، ولا سيما أولئك الضالعون في علم الفلك، فإنَّ الدراسات لا تزال إلى الآن بعيدة من إدراك نهاية الكون، أو ما يمكن أن يسمّى حقيقة الانقلاب الكوني؟
فالسؤال: هل إن هذا الكون باقٍ، وإلى أي أجل؟
ما من شك، في أن القرآن قد دلّنا على أن الانقلاب الكوني سيحصل لا محالة، ولكن متى، وفي أي دهرٍ، فهذا ما لا يستطيع أحدٌ الإجابة عنه، لأنه في علم الله وهو عالم الغيب فلا يظهر عليه أحدًا.
أما الانقلاب الكوني، فهذه الآيات تدلُّ عليه: {إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت، وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت، علمت نفس ما أحضرت} (التكوير: 1 ـــــــ 14).
ويبدو الانقلاب الكوني، في مطلع سورة التكوير هائلًا مروِّعًا، يشمل الشمس التي بردت وانطفأت شُعلتها، والنجومَ التي اندثرت وانطمس ضياؤها، والجبالَ التي نُسِفَتْ وذرِّت هباءً في الهواء، وسيِّرت كالسراب، وتَعَطُّلَ حَمْل الإِناث من كل نوعٍ من المخلوقات، والوحوشَ الشاردة في الشعاب، وقد تجمعت من الهول وتلاصقت منها الجنوب... والبحارَ التي التهبت مياهها حتى تفجرت بالنيران، وفاضت بالحمم والمحرقات... والأرواحَ المتجانسة وقد انضم بعضها إلى بعض، في زمر وأزواج، والأنثى التي وئدت في غلظة، وهي وَحدَها التي يسألها خالقها، ويخُصّها بالسؤال، لأنها كانت مظلومة فعلًا، ولم تراعَ حكمةُ القادر من خلقها، ولا إرادته في بثِّ الحياة فيها كنفس بشرية، فلأجل ذلك يسألها الله تعالى: ما الذي فعلوه بك أيتها الموءودة، وبأي ذنب قتلوك... ألا يعلمون أنهم تعدَّوا على حُرمة الله في خلق الله، ولم تكن لديهم أي موازين للحقّ الذي أراده في خلقه؟!... وها قد جاء اليوم ليكون لهم الحساب على ما أقدموا عليه!...
ويشمل هذا الانقلاب الكوني، أيضًا، نشر صحف الأعمال حتى لا تخفى يومئذٍ خافية، وإزاحة السقف المرفوع في القبة السماوية، وتسعير الجحيم، وإذكاء حرها بوقودها من الناس والحجارة، وتقريب الجنة من السعداء، حتى لتبدو كالعروس في زينتها، مليئة بالرونق والجمال، ومحفوفة بالسعادة والهناءة... كلّ ذلك سوف يكون يوم هذا الانقلاب، يوم تحين الساعة التي لا ريب فيها... وفي ذلك اليوم تعلم كل نفس ما قدَّمت وأخَّرت، وما أحضرتْ معها من زاد يخفف عنها العذاب، أو ما حملت من معصية تذيقها مرَّ الذل والهوان...
تلك هي بعض آيات من القرآن، بما احتوت عليه من حقائق مطلقة، حول الكون والحياة والإنسان، وفيها الدعوة الخالصة للإيمان الصادق، بما يُضرَبُ من الأمثال والعِبر والعظات، حتى يهتدي الناس، وخصوصًا أولئك الذين يلجؤون إلى غير الله ويتخذون من دونه أولياء، فمثلهم {كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (العنكبوت: 41)، أو الذين لا يستشعرون الضعف، فيناديهم الله وهم غافلون، بقوله تعالى: {يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} (الحج: 73 ـــــــ 74)...
فهل بعدُ أبسط من هذا المثَلِ، مثَلِ الذباب، الذي ضربه القرآن على ضعف المخلوق، وقدرة الخالق؟ إنه حشرة الذباب، إذا سلطها الله تعالى على الإنسان، الذي يدَّعي القدرة والجبروت، سلبَتْ منه كل تلك القوة، وكل ما لديه من جبروت... ألا فليتّقِ الإنسانُ ربهُ، وليعلم أن مرجعه إليه، ليحاسبه على كل شاردة وواردة، بحيث لا يضيع في علم الله، وفي حساب الإنسان، مثقال ذرة من خير، ولا مثقال ذرة من شر...
وهكذا نجد أن القرآن الذي نزل على النبيِّ الأميِّ، صلَّى الله عليه وآله وسلم، في الجزيرة الأميَّة، يتناول جميع الحُجج العقلية البالغة، والبراهين الساطعة الدامغة، التي قضى العلماء والحكماء أعمارهم حتى توصلوا إلى بعضها وتلاقوا على النزر القليل منها، بهدي القرآن بل بهدي الله الذي أنار عقولهم، فيقررها بأبلغ عبارة، وأوجز إشارة، وأصدق تشبيه، بحيث يمكن للإنسان العادي أن يلتقط منها ما يتوافق مع فطرته، كما يمكن للإنسان العالم أن يدرك منها ما يقوده إليه فكره، ويستوعبه عقله... هذا في حين يبقى القرآن الكريم، كتاب الله الرحيم للإنسان، على مَرِّ الدهور والعصور، كلما جاءت أجيالٌ، كان فيها عالمون يغوصون في أعماق القرآن، وينظرون في لججه، عما يكشف عن الجديد والتوافق مع العصر الذي يعيشون فيه. وصدق الله العظيم حيث يقول: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت: 43).
إنه القرآن الكريم الذي هو كتاب الله الحق، وهو الحقُّ من الله... {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران: 18)...
رابعًا: الإيمان بالرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام:
الرُّسُل: بشر اختارهم الله سبحانه وتعالى إلى الناس كي لا تكون لهم حجة يوم القيامة. والإيمان بالرُّسُل يشمل الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين من أولهم الذي هو أبو البشرية آدم إلى ختامهم وآخرهم محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيجب الإيمان بكل نبي ورسول سواء بلغتنا أسماؤهم وقصصهم أم لم تبلغنا. والذين قص الله خبرهم في القرآن الكريم ليسوا كل المرسلين بل هم بعضهم، وهناك أنبياء ورُسُل لم يذكر عنهم شيء في كتاب الله، وهم كثير لقوله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} (غافر: 78).


النبوة اصطفاء لا اكتساب:
من المجمع عليه لدى أهل الحق أن الرسالة والنبوة منحة من الله تعالى، وفضل ورحمة يختص بها من يشاء لقوله تعالى في هذه الآية: {الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس} (الحج: 75) وفي آيات أخرى بذات المعنى. ولا تكون النبوة بالاكتساب من قبل العبد، مهما فعل من الصالحات أو مارس من الرياضات الروحية وغيرها، لأنها فضل الله تعالى آتاه من شاء من عبادة الذين اصطفى {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: 124). وهذا الاعتقاد واجب، فمن زعم أنَّ النبوة بالاكتساب والرياضة فقد كفر لمعارضته صريح القرآن والسنّة وإجماع الأمة الإسلامية.
النبوة والرسالة:
الرسول: هو رجل من بني آدم أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه للناس، والنبي: كذلك، لكنه مأمور بتبليغ شريعة الرسول الذي سبقه أو هو في زمانه، فكلّ من النبي والرسول مأمور بالتبليغ، لذلك كان الأنبياء يتعرضون للأذى وللقتل أحيانًا. (الرسول معناه أعم من معنى النبي فكل رسول نبي وليس كلّ نبي رسولًا).
صفات الرسل:
إن الإِيمان بالرسل يعني وجوب اعتقاد معنى الرسالة والنبوة على النحو الشامل الجامع لجميع الصفات التي يجب أن يتصف بها الرسول، ولا يجوز بحال اعتقاد خلوه عنها. وهذه الصفات تميز الرُّسُل عن سائر الخلق، وبها فضّلهم الله على غيرهم حيث منحهم العصمة، وحفظهم، وأدبهم وخلَّقهم بأحسن الأخلاق، وأنبل الصفات، وأخصها أربع هي:
1 ـــــــ الأمانة:
فيجب في حقهم، عليهم الصلاة والسلام، الأمانة، فهم أمناء الله تعالى على الوحي تنزل عليهم، وأمناء على تبليغ رسالات ربهم، مبشرين ومنذرين الناس، فلا يرشدونهم إلا إلى الهدى والخير، ولا يحذرونهم إلا من الضلال والشر. ومعنى الأمانة واسع يشمل كل شيء من أمور الدين والدنيا، ولذلك يكونون منذ ولادتهم، وطوال حياتهم قبل اصطفائهم، أبعد الناس من المساوئ والشرور، وأقربهم إلى فطرة الخير التي فطرهم الله تعالى عليها... لكن ذلك لا يمنع، قبل اختيارهم للرسالة، من ارتكابهم بعض الأخطاء أو حتى المعاصي، وذلك لتأكيد صفتهم البشرية، وأنهم بشر مثل سائر الناس، وتسري عليهم قوانين الطبيعة الإنسانية، كما تسري على أي فردٍ بشري آخر... وقد بيّن الله تعالى لنا ذلك فيما قصّ في قرآنه الكريم من أخبار النبيين والمرسلين، كما في خبر أبينا آدم، عليه السلام، عندما عصى ربَّهُ وأكلَ من الشجرة التي نهاه عنها. إلَّا إنه بصدق إيمانه عاد واستغفر ربَّهُ (ثم أجتباه ربه (نبيًّا) فتاب عليه وهدى) (طه: 122)، ألا إن الله هو التواب الرحيم.
وكذلك الأمر في قصة موسى، عليه السلام، إذ عندما دخل إلى المدينة على حين غفلة من أهلها {فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته (من بني إسرائيل)، وهذا من عدوه (من أتباع فرعون) فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه} (القصص: 15). وأنكر موسى على نفسه ما فعل، {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} (القصص: 15). وراح يستغفر رَبَّهُ {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} (القصص: 16).
هذا كله يؤكد أن الإنسان يمكن أن يخطئ أو يرتكب معصية قبل اصطفائه رسولًا، أما بعد الاصطفاء فجميع الرُّسُل والأنبياء معصومون عن الخطأ وعن المعاصي، صغيرة كانت أو كبيرة، وبذلك تستقر صفة الأمانة فيهم، لتلازم نفوسهم في القول والفعل.
2 ـــــــ الصدق:
الصدق في اللغة ضد الكذب، والصدق: مطابقة الخبر للواقع، فيجب في حق الرُّسُل عليهم السلام الصدق، لأنهم مبلغون عن الله تعالى، فلو لم يصدقوا للزم الكذب في خبره تعالى. وقد صدَّقهم ربهم بالمعجزات؛ ليؤكد للناس صدقهم. وإن تصديق الكاذب لكذب، والكذب على الله تعالى محال، فيستحيل على الأنبياء الكذب، فهم لا يكذبون في دعوة الرسالة، ولا في الأحكام الشرعية، ولا في سوى ذلك، ووجب بالتالي صدقهم.
3 ـــــــ الفطانة:
الفطانة: هي سرعة الفهم، وحدّة العقل وذكاؤه، وقوة النباهة. وهذه صفة ملازمة للرُّسُل، لأن مهمتهم نشر الدعوة وتبليغ الرسالة، وإبطال العقائد الفاسدة، وتلقين العقائد الصحيحة، وهم يكلمون الناس، وفي الناس الغبي والذكي، واللين والجلف، والهادئ والصخَّاب، وهذا الخليط المتفاوت من البشر يحتاج إلى الذكاء والتيقظ، فلو كانت في الرُّسُل ـــــــ والعياذ بالله ـــــــ بلادة في الفهم لضاعت الحكمة من إرسالهم، ولما استطاعوا إقامة الحجة على خصومهم. وبما أن الواقع يشهد أنهم قد أقاموا الحجة على المعاندين في نشر الدعوة كما أمروا، فقد ثبت أنهم، عليهم الصلاة والسلام، في كمال الفطانة، وسرعة البديهة، ورجاحة العقل، وحدة الذكاء والنباهة.
4 ـــــــ التبليغ:
التبليغ: هو إخبار الناس بالوحي الذي أنزله الله تعالى وأمر بتوصيله إليهم، فالرُّسُل مبلغون عن الله تعالى، ولو كتموا شيئًا لخانوا الأمانة وخيانتهم مستحيلة، ولو كتموا لكنا نحن أيضًا مأمورين بكتم العلم، وكاتم العلم ملعون، بدليل قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة: 159)...
المستحيل في حق الرسل:
يستحيل في حق كل نبي ورسول أضداد الصفات الأربع الواجبة المتقدم بيانها، وهي: الخيانة والكذب والبلادة والكتمان، وكذلك يستحيل عليهم كل نقص بشري يؤدي إلى النفور منهم كالأمراض المنفرة والعادات المشينة، فهم لا يصابون مثلًا بمرض كالجذام أو البرص أو العمى أو الجنون، ولا بما نسبه بعض جهلة القصاص إلى أيوب، عليه السلام، من تآكل لحمه وخروج الدود منه، فالأنبياء معصومون عن هذا وأمثاله، وكذلك هم معصومون عن الاتصاف بما يؤدي إلى نفور الناس منهم كالفظاظة وغلظة القلب.
ما يجوز في حقهم:
بما أن الأنبياء والمرسلين جميعًا بشر فإنه يجوز في حقهم كل ما لا يؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية، من الأغراض البشرية، فهم يأكلون ويشربون وينامون، ويحزنون ويفرحون ويتألمون، ويتزوجون، ويمرضون مرضًا غير منفر كالحمى. وإن ما يصابون به من بلاء في الدنيا إنما هو لبيان خستها وحقارتها عند الله تعالى، ولذلك لم يرتضِها سبحانه دار بقاء لأنبيائه ورُسُلِه، بل جعلها دار ابتلاء لهم وللصالحين المؤمنين لرفع درجاتهم في الآخرة التي هي دار القرار، ومهوى أفئدة الأبرار.


المعجزة:
المعجزة: هي أمر خارق للعادة المألوفة يجريه الله تعالى على يد الرسول تحديًا للمنكرين، ليكون تصديقًا له في دعواه، ويكون بمنزلة قول الله سبحانه: صدق عبدي في كل ما يبلغ عني.
والمعجزة تأييد من الله تعالى لرسله، عليهم الصلاة والسلام، تفضل بها عليهم حتى تسهل مهمتهم وتقوم الحجة على معارضيهم، وهي تفيد اليقين لمن شاهدها وعاينها فآمن، وكذلك تفيد اليقين لمن آمن بها عن طريق النقل الصحيح.
ومن المعجزات المشهورة القطعية الثبوت: انقلاب عصا موسى حية، وناقة صالح التي خرجت أمام القوم من الصخرة، وإحياء عيسى للمتوفى، وإبراء الأبرص والأكمه بإذن الله تعالى. ومعجزات محمد، صلى الله عليه وسلم، كثيرة: أعظمها القرآن الكريم، فهو معجزته الخالدة، لأن التحدي به لا يزال قائمًا إلى أن تقوم الساعة بقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (الإسراء: 88).
ثم إن القرآن ليس مرتبطًا بالرسول، صلى الله عليه وسلم، كبقية معجزات الأنبياء، فعصا موسى لا تنقلب إلى حية إلَّا في يد موسى، وهكذا سائر المعجزات. أما القرآن الكريم فكل من تلاه ونقل ألفاظه كما فعل محمد، صلى الله عليه وسلم، فإن الهداية به قائمة، والتحدي موجود، وهو دال على الرسالة من غير حاجة إلى بقاء الرسول ليحمل المعجزة بنفسه، ويتحدى المعاندين. وكل مسلم في استطاعته أن يتحدى بالقرآن، وهذا ما يحصل ولله الحمد.
خامسًا: الإِيمان باليوم الآخر:
اليوم الآخر: هو آخر يوم قبل دخول أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النّارَ، ليس بعده يوم آخَر له أول وآخِر، وهو يوم الحساب وليس يوم العمل، وما بعده فثواب أو عقاب.
وهو يوم القيامة، ويوم الدِّين أي الجزاء، ويوم البعث من القبور، وله أسماء أخرى كثيرة. واليوم الآخر حق لا مراء فيه، أمر رب العالمين التصديق به على ألسنة جميع الرُّسُل، وصدق به العاقلون ذوو الفطر السليمة، ولم ينكره سوى الماديين والمستكبرين الذين عميت بصائرهم. ولو لم ترد به النصوص لأدركه العقل السليم وحده، فإننا نجد بعض المحسنين الصالحين يموتون من دون أن يلقوا جزاء إحسانهم وصلاحهم، كما أن كثيرًا من الظالمين يموتون من دون أن يلقوا جزاء ظلمهم، أو أن يقدر أحد من الناس على محاسبتهم، فلو لم يكن هناك يوم يلتقي فيه الخصوم كلهم، ويلقى فيه الصالحون ثوابهم، لكان ما أشرنا إليه واقعًا يرفضه العقل السليم. لذلك كان لا بد شرعًا وعقلًا من وجود يوم للحساب والجزاء، فكان اليوم الآخر الذي جعله الله تعالى مجمعًا للخلق جميعًا، يحاسبون فيه ثم يجزون ما كانوا يعملون في الدينا.
والإِيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإِيمان، لا يقبل الإِيمان ولا يصح من دونه. والدليل على ذلك مئات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ذكرت اليوم الآخر وصورت ما فيه من أهوال، وحثت الناس على الاستعداد له حق الاستعداد.
فماذا يحدث في ذلك اليوم؟.
1 ـــــــ البعث من القبور:
بعد نفخة الفناء الأولى في الصُّور، ينفخ فيه تارة أخرى للبعث من القبور. قال تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر: 68). أي: يخرج الموتى من قبورهم أحياء استعدادًا للحشر والحساب. وقد ثبت هذا البعث بنصوص القرآن الكريم.
2 ـــــــ البعث بالروح والنفس والجسد معًا:
ومما يجب الإِيمان به أيضًا أن البعث يوم القيامة ليس بعثًا للروح وبالروح فقط كما قال بعض الفلاسفة، بل الواجب اعتقاد كونه بالجسد والنفس والروح معًا. فالناس يبعثون يوم القيامة بأجسادهم وأنفسهم وأرواحهم وذلك بعودة كل من النفس والروح إلى جسدهما ليحيا بهما من جديد، ومن اعتقد أن البعث بالروح فقط فهو كافر لأنه يناقض صريح الآيات القرآنية. والحساب يكون للنفس، فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، لقوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (المدثر: 38).
3 ـــــــ الحشر والحساب:
بعد الخروج من القبور، وانبعاث الناس أحياء مرة أخرى كما بدأهم الله تعالى أول مرة، يساقون جميعًا إلى المحشر وهو الموقف الذي سيحاسبون فيه، حيث يجمعهم الله تعالى في صعيد واحد ثم يحاسبهم على أعمالهم خيرًا أو شرًّا. وهذا ما يصوره قوله تعالى في سورة الزلزلة حيث قال تعالى: {يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة: 6 ـــــــ 8).
ويكون الحساب لجميع المكلفين من إنس وجان مؤمنين وكافرين، إلا من أمر الله الكريم بدخولهم الجنة من غير حساب تكريمًا لهم. وإذا كان من المؤمنين من يدخل الجنة بغير حساب، فهناك من الكافرين من يدخل النار بغير حساب لشدة غضب الله تعالى عليهم ولعظيم إجرامهم. فالمكلفون ثلاث طوائف: طائفة يدخلون الجنة بغير حساب، وطائفة يدخلون النار بغير حساب، وسائرهم يوقفون للحساب وهم الأكثرون.
والحساب يتفاوت بحسب الذين يحاسَبُون، فمنه الحساب اليسير، ومنه العسير، ومنه في السر، ومنه في العلن. والحكمة من الحساب إظهار تفاوت المراتب بحسب العمل تحقيقًا للعدل الإلهي في الحكم، وتبيانًا لفضله تعالى على المؤمنين، وفي ذلك ترغيب في الإِيمان وعمل الصالحات، وترهيب لترك الكفر والمنكرات.
4 ـــــــ الصِّراط:
ثم بعد الحساب يساق المؤمنون إلى الجنة زمرًا، ويساق الكافرون إلى النار كذلك زمرًا. فيمرون على الصراط، فمن اجتازه وصل إلى الجنة وإلا وقع في النار، فهو جسر ممدود على متن جهنم، يمرّ عليه ويعبر فوقه جميع المكلفين. وقد ورد ذكر الصراط في القرآن الكريم كقوله تعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} (يس: 66). كما ورد في السنّة الصحيحة ذكر الصراط وأوصافه.
ويختلف الناس في المرور على الصراط: فمنهم من يجتازه بأسرع من طرفة عين، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، أو كالريح، أو كالطير، أو كالجواد السابق، ومنهم من يجتازه سعيًا أو مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا. وسبب هذا التفاوت في العبور تفاوتهم في هذه الحياة بالأعمال.
وهكذا فإنَّ من الخلائق من هو ناج، ومنهم من هو واقع في النار وهالك فيها. والحكمة من الصراط أن يفرح المؤمنون بنجاتهم، ويتحسر الكافرون لوقوعهم في النار وهم يرون المؤمنين يمرون سالمين جزاء بما كانوا يعملون.
5 ـــــــ الجزاء:
الجنة والنار
الجنة جزاء المؤمنين، والنار جزاء الكافرين.
و"الجنة" في اللغة العربية هي: البستان، وفي الاصطلاح الشرعي: هي دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين من عباده لتكون دار قرار لهم خالدين فيها أبدًا.
والجنة درجات ومراتب بعضها فوق بعض، لكل درجة منها أهلها حيث تتفاوت مراتبهم فيها بحسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة في الدنيا، فأعلى أهل الجنة منزلة هم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. ومن أصحاب المراتب العالية الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله لرفع راية الإِسلام ولتكون كلمة الله هي العليا. وبالإجمال فمن دخل الجنة فهو سعيد منعَّم ينال فيها ما تشتهيه نفسه وتلذه عينه.
أما النار في اللغة فهي جسم لطيف محرق، وفي الاصطلاح الشرعي هي: دار العذاب التي أعدها الله للكافرين، ولمن يستحق العذاب من المؤمنين بذنوبهم إلى حين، لأنَّ المؤمنين غير مخلدين في النار.
والنار دركات بعضها أسفل من بعض. وأشد أهلها عذابًا هم المنافقون. قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء: 145). وهنيئًا لمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة.
الجنة والنار حقيقتان:
مما يجب اعتقاده شرعًا كون الجنة والنار من الأمور الحقة الموجودة فعلًا بعد بعث الناس، وأنهما ليستا من نوع الخيال ولا المجاز، وأن النعيم في الجنة نعيم حقيقي محسوس، يتنعم به المؤمنون بحواسهم، ويتلذذون به حقيقة، فهم يأكلون من ثمارها، ويشربون من أنهارها، ويتمتعون فيها بكل الطيبات التي أعدّها الله تعالى لهم، وأن العذاب في جهنم عذاب حقيقي أيضًا، فهي نار حقيقية تحرق الجلود والأكباد وتؤلم من يلقى فيها أشد الألم. وقد ثبت ذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، من ذلك قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} (محمد: 15).
ومما يجب الإِيمان به أيضًا كون النعيم والعذاب دائمين، لا ينتهيان ولا ينقطعان ولا يفنيان، فالنعيم في الجنة دائم لأهلها إلى ما لا نهاية، وكذلك العذاب لأهل النار دائم إلى ما لا نهاية. قال تعالى: {والذين أمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا} (النساء: 122).
وقال تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا} (الأحزاب: 64 ـــــــ 65). والخلود في النار يكون للكافرين فقط. أما عصاة المؤمنين الذين أُدخلوها بسبب ذنوبهم فإنهم لا يخلدون فيها، بل يُخرجون بعد ذلك، ويُدخلون الجنة ليخلدوا فيها.
لذلك كان زعمًا كاذبًا قول الزنادقة: إن النعيم والعذاب معنويان، وتفسيرهم العذاب بأنه الحجب عن الله تعالى، وقولهم إن ما جاء في الآيات من أصناف النعيم والعذاب ما هي إلا تعابير مجازية. ففي قولهم هذا كفر بواح يعارض صريح الآيات والأحاديث، ويخرج عن إجماع المسلمين على فهم تلك الآيات، مع أنها من الحقائق المطلقة، ولم ترد على سبيل المجاز، كون زعمهم ذاك يؤدي إلى تعطيل اللغة وصرفها عن معناها الأصلي من دون صارف.
فنسأل الله تعالى الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ به تعالى من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
سادسًا ـــــــ الإيمان بالقدر:
لا ريب في أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان. والقدر يعني أن كل شيء يوجد، أو فعل يفعل، إنما هو بتقدير الله تعالى، سواء أكان من أفعال العباد وكسبهم أم لم يكن، لقوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 49)، وقوله تعالى: {وكان أمر الله قدرا مقدورا} (الأحزاب: 38). وقوله تعالى: {والذي قدر فهدى} (الأعلى: 3)...
وعلى كلّ مسلم أن يؤمن، شرعًا، بقضاء الله وقدره، إلَّا إذا كان من أولئك المضلَّلين، الذين تاهوا عن معنى الإيمان ومعرفة أركانه، وقد انقسم المضلَّلون هؤلاء فئتين، بشكل عام: فئة تبطل أمر الله تعالى بقضائه وقدره كالذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا} (الأنعام: 148). وفئة تنكر قضاء الله وقدره السابق. وهاتان الفئتان خصماء لله رب العالمين. قال عوف بن مالك: "من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، إن الله تبارك وتعالى قدر أقدارًا وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى". وقال الإمام أحمد بن حنبل: "القدر قدرة الله". واستحسن ابن عقيل هذا الكلام وقال: "هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهذا حق لأن إنكار القدر إنكار لقدرة الله على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها".
وفسَّر عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) بقوله: هم الذين يقولون: {إن الله على كل شيء قدير} (آل عمران: 165).
وقد دار حول القضاء والقدر ومعانيهما جدل كبير، وذلك منذ زمن بعيد. وكان محور ذاك الجدل "أفعال الخلق الاختيارية"، فتفرق الناس في ذلك فرقًا، وذهبوا مذاهب شتى.
ونحن في كلامنا عن القضاء والقدر لن نسترسل في بيان مذاهب الفرق المتعددة وأقوالها، لعدم الجدوى من ذلك، لكننا سوف نبين بعضًا ممن اشتهر أمرها، لأن الغاية التي نتوخاها هي تحذير الناس من الضلال وأهله، ودلالتهم على الطريق الصحيح للإيمان بهدي الله تعالى الذي ينجي من الانسياق مع تيارات الكفر، ومعتقدات الإلحاد، التي تؤدي بأصحابها إلى الانزلاق في مهاوي الجحيم الأبدي، في الدار الآخرة.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢