نبذة عن حياة الكاتب
طريق الإيمان
الطبعة : الطبعة العاشرة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٣٣٦
تاريخ النشر : ٢٠١٠

القضَاء والقَدر
1. كيف نشأت مسألة القضاء والقدر.
2. المقصود بخير القدر وشرِّه وحُلْوِه ومرِّه.
3. معاني القدر.
4. معاني القضاء.
5. القضاء والقدر اصطلاحًا.
6. مراتب القضاء والقدر.
7. المشيئة والقدر.
8. الكسب والجبر.
9. الهدى والضلال.
10. انتهاء الأجل.
11. الرزق في يد الله تعالى.
12. فهم الصحابة للقضاء والقدر.

القضاء والقدر
1 ـــــــ كيف نشأت مسألة القضاء والقدر:
إن مسألة "القضاء والقدر" قد بحثَها الفلاسفة اليونان وأطلقت عليها ثلاث تسميات: "القضاء والقدر"، "الجبر والاختيار"، "حرية الإرادة"، وكلها تدور حول ما يَحدث من الإنسان من أفعالٍ، وهل هو حرٌّ في إحداثها أو عدم إحداثها، أم أنه مُجْبَرٌ على القيام بها؟...
وقد اختلف الفلاسفةُ اليونان في نظرتهم إلى هذه المسألة؛ فرأى الأبيقوريون أن الإِرادةَ حُرة في الاختيار، والإنسان يَفعل جميع الأفعال بإرادته واختياره من دون أي إكراه. أما الرِّواقيُّون فقد قالوا بأن الإِرادة مُجْبَرةٌ على السير في طريقٍ لا يمكنها أن تتعداها، والإِنسانُ لا يفعل شيئًا بإرادته وإنما هو مجبورٌ على فعلِ أيِّ شيء، ولا يملك أن يفعل أو لا يفعل.
وقد تأثر الفلاسفة المسلمون بالفلسفة اليونانية، وكانت أهم المسائل التي شغلت أفكارهم مسألة صفة العدل الإِلهي... فالله تعالى عادلٌ، ويترتَّب على العدل الإِلهي مسألةُ الثَّواب والعِقاب، كما يترتب عليه مسألة قيام العبد بأفعاله، وذلك جَرْيًا على منهج البحث الذي ساروا عليه في بحث المسألة وما يتفرع عنها، وتأثرهم بما درسوه من أفكار فلسفية تتعلق بالموضوعات التي انكبوا على درسها وتفنيدها والرد على الفلاسفة اليونان، أحيانًا، بشأنها. ويُعدُّ المعتزِلةُ هم الأصل في بحثِ مسألةِ القضاء والقدر بل في جميع أبحاث علم الكلام. فقد كانت نظرةُ المعتزِلة إلى عدلِ الله تعالى نظرةَ تَنزيهٍ له عن الظُّلم، ووقفوا أمامَ مسألة المثُوبة والعُقوبة الموقفَ الذي يتَّفق مع تَنزيه الله تعالى ومع عَدله. فَرأَوا أنَّ عدلَ الله لا يكون له معنى إلا بتقرير حُرية الإِرادة في الإنسان، وأنَّه يختار أعمالَ نفسِه، وأنَّ في إمكانه أن يَفعل الشيءَ أو لا يفعل، فإذا فعلَ بإرادته، وتركَ بإرادته كانت مَثُوبتُه أو عُقوبتهُ معقولةً وعادلة، أما إن كان الله سبحانه يخلق الإِنسان ويَضطرُّه للعمل على نحوٍ خاصٍّ، فَيضطَرُّ المطيعَ للطاعةِ، والعاصي للعصيان، ثم يعاقِبُ هذا ويُثيب ذاك، فليس هذا من العدالة في شيء.
والمعتزلة في هذا النمط من التفكير كانوا يقيسون المغيَّب على المشاهد، بمعنى أنهم حاولوا أن يقيسوا الله تعالى الذي لا يَرونه، على الإنسان، وأن يخضعوه سبحانه ـــــــ عزّ وجلّ ـــــــ لقوانين هذا العالم، تمامًا كما فعل فريق من فلاسفةِ اليونان الَّذين أَلْزَمُوا الله بالعدل كما يَتصوَّرُه الإنسانُ. فأصلُ البحثِ هو الثَّوابُ والعِقابُ من الله على فعلِ العبد، وهذا هو موضوعُ البَحثِ الذي أُطلِق عليه اسمُ "القَضاء والْقَدر" أو "الْجَبْر وَالاختيار" او "حُرِّيةِ الإِرادة". وبَحثوا في الإِرادة وفي خَلْقِ الأفعالِ... ففي مسألة الإِرادة قالوا: إِنَّا نرَى أن مُريدَ الخير خيِّر، ومُريدَ الشرِّ شِرِّيرٌ، ومُريدَ العدل عادلٌ، ومُريدَ الظلم ظالـــمٌ. فلو كانت إرادة الله جلَّ وعلا تَتعلَّق بكلِّ ما في العالَمِ من خيرٍ وشرٍّ، لكان الخيرُ والشرُّ مُرادينِ من الله تعالى، فيكون المريدَ مَوْصوفًا بالخيريَّة والشرِّية، والعدلِ والظلمِ، وذلك محال في حقِّ الله سبحانه. وهم يقولون بأنَّ الله لو كانَ مُريدًا لِكُفْرِ الكافر وعصيان العاصي ما نَهاهما عَن الكُفرِ والعِصيان. وكيف يُتَصَوَّرُ أَن يُريد الله من أبي لَهَبٍ أَنْ يَكفر ثم يأمُره بالإِيمان وينهاه عن الكفر؟ ولو فعل هذا أحد من الخلق لَكانَ ظالمــــًا... تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا. ولو كان كُفْرُ الكافِرِ وعصيانُ العاصي مُرَادَيْنِ من الله تعالى ما استحقَّا عُقوبةً، ولَكان عملُهما طاعةً لإِرادته. وهكذا يمضون في الاسْتِدلال في قضايا منطقيَّة، ثم يعقبون ذلك بأَدِلَّةٍ نَقليَّةٍ من القرآن الكريم، فيستدلُّون بقولِه تعالَى: {وما الله يريد ظلما للعباد} (غافر: 31) وبقوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم} (الأنعام: 148) وبقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7). وأَوَّلوا ما وردَ من آيات تخالف رأيَهم هذا، مثل قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة: 6) ومثل قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} (البقرة: 7). وقوله تعالى: {بل طبع الله عليها بكفرهم} (النساء: 155). وخَلَصُوا من ذلك إلى الرأي الذي اعتنقوه ودَعَوا له، وهو رأيهم المعروف من أن الإنسان له حُرِّيةُ الإرادة في أن يفعلَ الفعل أو يتركَهُ، فإذا فعل فبإرادته، وإذا ترك فبإرادته.
أما في مسألة خلْقِ الأفعال فقد قال المعتزلةُ: إنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ لهم، ومن عَمَلِهم هم، لا من عمل الله تعالى. ففي قُدرتهم أَنْ يَفعلوها وأَنْ يتركوها من غير دخلٍ لقدرة الله. ودليل ذلك ما يَشعر به الإنسان من التَّفرقةِ بين الحركة الاختياريَّة والاضطراريّة كحركة من أراد أن يحرك يده أو كحركة الْمُرتعِش، وكالْفَرق بين الصاعِد إلى منارة والساقط منها. فالحركةُ الاختياريةُ مقدورة للإنسان فهو الذي يُنْشِئها ويَفعلُها، والحركةُ الاضطراريةٌ لا دَخْلَ له فيها. وأيضًا لو لم يكنِ الإِنسان خالقَ أفعاله لَبَطَل التكليفُ، إذْ لَو لم يكن قادرًا على أن يَفعل، وألَّا يَفعل، ما صَحَّ عقلًا أن يقال له: إفعلْ ولا تَفعلْ، وَلَمَا كان هذا الفعل محلَّ المدحِ والذَمِّ، والثَّوابِ والْعِقاب. وهكذا يمضون في الدّلالة بقضايا مَنطقيَّةٍ على رأيهم، ثم يُعقِبون لك بأدلَّة نَقليَّة فَيستدلُّون على رأيهم هذا بآيات كثيرة كقوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} (البقرة: 79) {من يعمل سوءا يجزيه} (النساء: 123) وقوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر: 17)، وأوَّلُوا ما ورد من آيات تُخالِفُ رأيَهم هذا مثل قولِه تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} (الصافات: 95)، وقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} (الرعد: 16). وخلصوا من ذلك إلى الرأي الذي اعتنقوه في مسألة خَلقِ الأفعال، وهو أن الإنسانَ يَخلق أفعال نفسه، وأنه قادر على أن يفعل الشيء وقادر على ألّا يفعلَه.
هذه هي مسألة "القضاء والقدر" في رأي المعتزلة، وفَحواها أنها إرادة فعلِ العبد، وما يحدث في الأشياء من خاصيات نتيجة فعلِ الإنسان. وفحوى رأيهم أن العبد حُرُّ الإِرادة في أفعالِه كلِّها، وأنَّه هو الَّذي يخلق أفعالَهُ، ويخَلق الخواصَّ الَّتي تحدث في الأشياء من أفعالِه.
وهذا الرأي من المعتزلة أثارَ ثائرة المسلِمين، وكان رأيًا جديدًا عليهم، ورأيًا جريئًا في أساس العقيدة. ولذلك انبَروا يردُّون عليه. فقام جماعة يُسَمَّوْنَ "الجبريَّة"، ومن أشْهَرِهم جَهْمُ ابنُ صفوان، فقال هؤلاء الجبريون: إن الإنسان مُجْبَرُ، وليست له إرادةٌ حُرَّةٌ ولا قدرةُ على خلْق أفعالِه، وهو كالرِّيشة في مَهبِّ الرِّيح، أو كالخشبة بين يَدي الأمواج، وإنما يخلق الله الأعمالَ على يدَيه. فالله هو خالقُ فعلِ العبدِ، وبإِرادتِه وحدَهُ فعلَ العبدُ الفعلَ. ويرَون أن أفعال العبادِ واقعةٌ بقُدرة الله وحدها وليس لِقُدرةِ العبد تأثيرٌ فيها، وليس الإنسان إلا محلًّا لما يُجْريهِ الله على يَدَيْه فهو مُجْبَرٌ جَبْرًا مُطلقًا، وهو والجماد سواء لا يختلفان إلا في المظهر!. وهكذا يمضون في البرهان على رأيهم ويستدلون عليه كذلك بآيات من القرآن الكريم، مثلَ قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} (الإنسان: 30)، وقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (الأنفال: 17)، وقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56) وقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} (الرعد: 16).
القدرية: وهم أصحاب معبد الجهني، وقد زعموا أن علم الله تعالى لم يسبق وجود الأشياء عند حدوثها، لذلك عرف عنهم قول "الأمر أنُفٌ" أي يستأنف الله علم الأشياء عند حدوثها، ولا علم له بها قبل ذلك. وهذا قول باطل، وكفر صريح، لأنه ينسب إلى الله تعالى الجهل بالأشياء قبل حدوثها. ويقولون إن الله خلق أصول الأشياء ثم تركها فلا يعلم جزئياتها. ويقولون إنَّ أفعال الله ليست عن علم سابق، ولا عن تدبير سابق ـــــــ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ـــــــ وهذا كله يخالف ما ورد بنص القرآن الكريم من أن الله خالق كل شيء، صغيرًا كان أو كبيرًا، أصلًا كان أو فرعًا، وأنه تعالى قدَّر كل شيء قبل وجوده، أي كتبه في اللوح المحفوظ، أي عَلِمَهُ قبل أن يوجد. هذا والقدرية يتركون للإنسان تقدير أعمال نفسه بعلمه، ثم يتوجه إليها بإرادته، وينفذها بقدرته!.
على أن أتباع "القدرية" انقرضوا جميعًا، ولم يبق أحد من المسلمين، والحمد لله، على هذا المذهب الذي يقود إلى الكفر والإضلال.
الأشاعرة: وهم فريق من أهل السنّة والجماعة. يقولون: إن "القضاء" هو إرادة الله أزلًا المتعلقة بجميع الأشياء، خيرها وشرها، على ما هي عليه، أي في الواقع. وأما "القدر" فهو، في رأيهم، إنجاز قضائه تعالى، وإخراجه إلى حيز الوجود على قدر مخصوص.
الماتريدية: وهم فريق آخر من أهل السنّة والجماعة، يقولون: "القدر" هو تحديد الله تعالى أزلًا لكل مخلوق بحدِّه الذي يوجد عليه من صورة، وحسن وقبح، وغير ذلك، فيرجعون "القدر" إلى علم الله تعالى، ويرجعون "القضاء" إلى القدرة. ويقولون: القضاء هو إيجاد الله الأشياء مع زيادة الإِحكام والإِتقان.
ويتلخص قول الأشاعرة والماتريدية بما يلي:
يجب الإِيمان بأن الله تعالى علم وأراد جميع الموجودات وقضى بها، ثم تعلقت قدرته سبحانه بها فأوجدها على ذلك القدر المحكم: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 49). وليس للإنسان إلا الكسب الذي به يثاب وعليه يعاقب. والخالق لكل شيء هو الله سبحانه وتعالى.
والواقع أن المعاني التي أطلقها الأشاعرة والماتريدية حول كل من "القضاء" و"القدر" لا تؤدي إلى اعتقاد فاسد كما فعل المعتزلة والجبرية والقدرية...
2 ـــــــ المقصود بخير القدر وشرِّه وحُلْوِه ومرِّه:
إن القدر من حيث هو علم الله تعالى وقدرته ومشيئته لا شرَّ فيه بوجه من الوجوه، بل هو خير محض، وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في الشيء المقضي والمقدَّر، ويكون شرًّا بالنسبة إلى محل، وخيرًا بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيرًا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه، كما هو شر له من وجه آخر، بل هذا هو الغالب، وذلك كالقصاص فإنه شر بالنسبة إلى من يقام عليهم من وجه، وخير بالنسبة إلى غيرهم من وجه آخر، لما فيه من مصلحة الزجر والردع عن ارتكاب الجنايات.
أما الحلاوة والمرارة فتعودان إلى مباشرة الأسباب في العاجل، والخير يرجع إلى حسن العاقبة، والشر إلى سوئها. فالقدر حلو ومر في مبدئه وأوله، وخير وشر في منتهاه وعاقبته. وقد أجرى الله تعالى سنّته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارة في الآجل، وأن مرارتها في العاجل تعقب الحلاوة في الآجل، فحلو الدنيا مرُّ الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة، يؤيده قوله، صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث الصحيح: "حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات"، أي: إن احتمال ما تكرهه النفوس في العادة من مشاق الطاعات، والكف عن المحرمات هو الفاصل بين الإنسان والجنة فإذا اخترقه دخلها، وإن الانغماس في لذائذ الشهوات العاجلة هو المؤدي في العاقبة إلى النار. وقد قال تعالى عن الكافرين المغرورين بمتاع الحياة الدنيا: {متاع قليل ولهم عذاب أليم} (النحل: 117).
3 ـــــــ معاني القدر:
لكلمة "القَدَر" عدةُ معانٍ: يقال في اللغة "قدَر الأمرَ وقدَّره: دبَّره، والشيءَ بالشيء: قاسَهُ وجعلَه على مقدارِه. وقدَر الشيءَ قدارة: هيَّأه ووقَته. قَدَر قَدْرَ الله: عظَّمه. وقدَر الله عليه الأمرَ وقدَّر له الأمر: قضَى وحكم. قدَر وقدَّر على عياله: ضيَّق. وقَدَرَ الشيء أي قدَّرَهُ.
ووردت كلمة "قَدَرَ" في القرآن الكريم بعدة معانٍ. قال تعالى: {وكان أمر الله قدرا مقدورًا} (الأحزاب: 38) أي أمرًا مُبْرَمًا أو قضاءً محكمًا. وقال تعالى: {فقدر عليه رزقه} (الفجر: 16). يعني: فضيَّق عليه رزقه. وقال تعالى: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} (القمر: 13) أي: وفق أمرٍ محتومٍ قدَّره الله في سابق علمه وكتبه في اللوح المحفوظ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان. وقال تعالى: {وقدر فيها أقواتها} (فصلت: 10) أي: أقوات أهلها ومن هم عليها من إنسان وحيوان، بما يخرج منها من ماء وغذاء. وقال تعالى: {إنه فكر وقدر} (المدثر: 18) أي: فكَّر ذلك الكافر ماذا يقول حين يصف القرآن، وقدَّر في نفسه ذلك وهيَّأه. وقال تعالى: {الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى} (الأعلى: 2 ـــــــ 3) أي: خلَق كل شيء فسوّاه على شكله الخاصِّ به، وقدَّر لكل حيوان ما يُصلحه فهداه إليه وعرَّفه وجه الانتفاع به. يعني جعل في كلِّ حيٍّ من إنسان وحيوان حاجات تتطلَّب الإشباع وهداه إلى إشباعها. وقال تعالى: {وقدرنا فيها السير} (سبأ: 18) أي: جعلنا فيها سهولة السير وأمنه. وقال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} (الطلاق: 3) أي: تقديرًا وتوقيتًا. وقال تعالى: {إلى قدر معلوم} (المرسلات: 23) أي: إلى وقتٍ معلوم. وقال تعالى: {نحن قدرنا بينكم الموت} (الواقعة: 60) أي: جعلْنا تقديرَ الموت بينكم على تفاوت في الأعمار، فاختلفت أعماركم بين قصيرٍ وطويلٍ ومتوسط. وقال تعالى: {وما ننزله إلا بقدر معلوم} (الحجر: 21) أي: بمقدار معروفٍ معيَّن. وقال تعالى: {قدرنا إنها لمن الغابرين} (الحجر: 60) أي: كان تقديرنا أنها من الماضين على الضلال. وقال: {ثم جئت على قدر يا موسى} (طه: 40) أي: أتيت في الوقت المعينِ الذي سبق في علمنا.
يتبيّن من هذا كلِّه، أن كلمة "قدَر" من الألفاظ التي لها عدة معانٍ، منها التقديرُ والعلمُ والتدبيرُ والوقتُ والتهيئةُ. ولكن على تعدد هذه المعاني لم يرد فيها أن القدرَ معناه أن يفعل العبد الفعل جبرًا، بل إن هذه المعاني كلها لغوية ليس لها أي معنى شرعي، ولا يمكن أن يُبنى عليها أي حكم شرعي عن طريق التأويل أو التفسير لأن ذلك يؤدي إلى الابتعاد عن تلك المعاني اللغوية، والدخول في تفسيرات المتكلمين وتأويلاتهم بما لا يتفق مع نصوص القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.
4 ـــــــ معاني القضاء:
يقال في اللغة قضى يقضي قضاءً الشيءَ: صنعَه بإحكام. وقضَى بين الخصمَين: حكمَ وفَصَل، والأمرَ أمضاه.
وقد وردت كلمةُ القضاء في عدة آيات قرآنية فقال تعالى: {وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة: 117) أي: إذا أبرم أمرًا فإنه يدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقفٍ. وقال تعالى: {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا} (الأنعام: 2) أي: جعل لهذا المخلوق الذي خلَقه من طين، وهو الإنسان، أجلًا يموت فيه. وقال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء: 23) أي: أمر أمرًا مقطوعًا به أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره. وقال تعالى: {فقضاهن سبع سماوات} (فصلت: 12) أيْ أوجد السَّماءَ بإحكام حال كونها سبع سماوات، وقال تعالى: {ليقضى الله أمرا كان مفعولا} (الأنفال: 42) أي: ليمضيَ قضاءَهُ الذي لا رادَّ له. وقال تعالى: {وقضي الأمر} (هود: 44) أي: أُتِمَّ الأمر، وهو أمر إهلاك الظالمين وتدميرهم، وفُرغَ منه بإهلاكهم وتدميرهم. وقال تعالى: {قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم} (الأنعام: 58) أي: إنه أمر الله تعالى لنبيه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يقول للكفار المشركين أنه لا يملك من الأمر شيئًا، بل الأمر كله مردُّه إلى الله تعالى، ولو كان يملك شيئًا مما يستعجلون به من طلب العذاب أو إنزال العقاب بهم لكان انتهى الأمر، ولكنتم هلكتم أيها الكافرون، لكن الهلاك ليس بيدي، بل هو بيد الله تعالى. وقال: {كان على ربك حتما مقضيا} (مريم: 71)، والحتمُ مصدر حتمَ الأمر إذا أوجبه أي: مقضيًّا محكومًا به وكائنًا لا محالة.
وعلى هذا فإن كلمة قضاء من الألفاظ التي لها عدة معانٍ منها: صَنَعَ الشيءَ بإحكام، وأمضى الأمر، وجعلَ الشيء، وأمرَ بأمر، وأتمَّ الأمر، وحتم وجود الأمر، وأبرم الأمر، وانتهى الأمر، وحكم بالأمر، وأمر أمرًا مقطوعًا به.
وهكذا فكلمة "قضاء" لها معانٍ لغوية، استعملها القرآن الكريم في هذه المعاني، ولم يكن هنالك خلاف حول تلك المعاني التي وردت فيها، حتى جاء المتكلمون وبحثوا في "القضاء والقدر" بحثًا عقليًّا فحوَّلوا الآيات القرآنية عن معانيها اللغوية والشرعية.
5 ـــــــ القضاء والقدر اصطلاحًا:
لقد وردت كلمة "قضاء" وحدها في جميع النصوص، وكذلك وردت كلمة "قدر" وحدها. أما ورود مصطلح "القضاء والقدر" بجمع الكلمتين معًا كأنهما اسم واحد، وكون الأمرين متلازمين ولهما مدلول معيّن... فإن هذا المصطلح لم يظهر له في السابق أي أثر.
ومن تتبع أقوال الصحابة والتابعين ومَن أتى بعدهم من العلماء، ومن تتبع النصوص الشرعية واللغوية كذلك، يظهر أن الكلمتَين معًا لم يَجْرِ استعمالُهما مجتمعتين بهذا المدلول، لا في القرآن، ولا في الحديث، ولا في كلام العلماء. وكذلك لم يَجْرِ أي خلاف أو نقاش في هاتين الكلمتين كاسمٍ واحد، ولا في مُسَماهما، ولم يعرف المسلمون طوال عصر الصحابة، أي طوال القرن الأول، بحث "القضاء والقدر". وقد جرى استعمال تعبير "القضاء والقدر" بعد ترجمة الفلسفة اليونانية، وبعد وجود الفرق الكلامية.
وأما ما روي على لسان بعض الصحابة الكرام، مثل الإمام علي والخليفة عمر وأبي عبيدة، رضي الله عنهم، جميعًا، من أنهم قالوا بالقضاء والقدر بالمفهوم الذي طرحه المعتزلة، فغير صحيح، بل الحقيقة أن الذي ورد على ألسنتهم لم يخرج عن مفهوم ما ورد في الكتاب والسنّة.
قال تعالى: {وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} (الأنعام: 101). وقال تعالى: {ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام: 59).
وإن الخلاف أو النِّقاش الذي دار إنما كان في كلمة قدَرِ الله بمعنى علمِه. فالقدرية يقولون: إن الله يَعلم أصول الأشياء ولا يَعلم جزئياتها، والإسلام ينطق بأن الله يعلم أصول الأشياء وجزئياتها. فالنِّقاش في قدَر الله يكون إذًا في علمِ، أي في موضوع عِلْمِ الله تعالى. وهو موضوعٌ آخرُ غير موضوع القضاء والقدر، لأنه بحثٌ منفصلٌ عن بحث القضاء والقدَر، وواقعُه الذي حدَث فيه هو كذلك، أي هو بحث آخر غير بحثِ القضاء والقَدر.
وبهذا يظهر أن كلمتي "قضاء" و"قدر" قد وردتا، وكان لكلٍّ منهما معنًى معينٌ، فلا علاقة لما في بحث "القضاء والقدر". فكلمةُ "قضاء" بجميع معانيها اللغوية والشرعية التي وردت عن الشارع الأقدس، وكلمةُ "قدرَ" بجميع معانيها اللغوية والشرعية التي وردت عنه تعالى، لا علاقة لأي منهما ـــــــ لا منفردتين ولا مجتمعتين ـــــــ في بحث القضاء والقَدَر، وإنما يُقتصر فيهما على ما ورد من معنًى، لغةً وشرعًا لأيٍّ منهما.
ومن هذا المفهوم الاصطلاحي لكلمتي "القضاء" و"القدر"، يتبين أن المسألة كلها كانت عبارة عن أبحاث جاءت من الفلسفة اليونانية. وبما أن "للقضاء" أو "للقدر" معنى يتعلق بالعقيدة، فكان لا بد من إعطاء رأي الإسلام في هذا المعنى، علمًا بأنّ كثيرًا من الفرق التي بحثت فيه لم تتوصل إلى المفهوم الحقيقي الذي ينطبق على النظرة الإسلامية الصحيحة. فالمعتزلة أعطوا فيه رأيًا، والجبرية ردّوا على المعتزلة وأعطوا فيه رأيًا آخر، وأهل السنّة ردوا على الجميع وأعطوا رأيًا قالوا عنه إنه رأي ثالث خرج من بين الرأيين، ووصفوه "بأنه خرج من بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين".
والحقيقة أنه لا يجوز إرجاع مسألة "القضاء والقدر" إلى ما ورد عن معنى "القضاء" في اللغة والشرع، ولا إلى ما ورد عن معنى "القدر" في اللغة والشرع، ولا يجوز أن يُتخيَّل ويُتصوَّر للقضاء والقدر معنى يؤتى به من مطلق الفرض والتصور والتخيّل: فيقال إن القضاء هو الحكم الكلي في الكليات فقط، والقدر هو الحكم الكلي في الجزئيات، أو يقال إن القدر هو التصميم الأزلي للأشياء، والقضاء هو الإنجاز والخلق بمقتضى ذلك التقدير والتصميم... لا يقال ذلك، بل ولا يجوز أن يقال ذلك لأنه مجرد تخيّل وتصور ومحاولة للتمحُّل في تطبيق بعض الألفاظ اللغوية والشرعية، وهي محاولة فاشلة لأنها لا تدل على هذا المعنى، بل هي تدل على معانٍ عامة ولا يجوز تخصيصها بمعانٍ أخرى من غير دليل.
وكذلك لا يجوز أن يقال إن "القضاء والقدر" سرٌّ من أسرار الله وإننا نهينا عن البحث فيه. لا يقال ذلك لأنه لم يرد نص شرعي على أنه سرٌّ من أسرار الله، فضلًا عن أنه موضوع محسوس ويجب أن يعطى الرأي فيه، لأنه في الواقع بحث عقلي، وموضوع يتعلق بالأمور التي يبحثها العقل، لا من حيث كونها واقعًا محسوسًا فحسب، بل من حيث تعلقها بالإيمان بالله تعالى.
6 ـــــــ مراتب القضاء والقدر:
للقضاء والقدر، أي للأمور المقضية وللأمور المقدرة، أربع مراتب يجب الإيمان بها، وهي:
المرتبة الأولى: علم الله سبحانه وتعالى بالأمور قبل حدوثها.
المرتبة الثانية: كتابة الله تعالى لها قبل حدوثها.
المرتبة الثالثة: مشيئته تعالى وإرادته لها.
المرتبة الرابعة: خلقه تعالى لها.
أما المرتبة الأولى، وهي علمه تعالى بالأمور قبل وجودها، فقد اتفق عليه جميع الرُّسُل، عليهم الصلاة والسلام.
وقد أجمع على ذلك المسلمون من الصحابة والتابعين بإحسان من الأمة، ولم يخالف في ذلك سوى القدرية الذين نفوا علمه تعالى بالأمور والأشياء قبل حدوثها، وهم كفار بالإجماع بسبب اعتقادهم ذاك.
فالحق الذي لا ريب فيه أنه تعالى بكل شيء عليم، ولا يغيب عن علمه شيء، ولا تخفى عليه خافية، وما من شيء حدث ويحدث أو سيحدث إلا سبق في علمه سبحانه وتعالى. والآيات الواردة في بيان علم الله تعالى، آيات دالّة على إحاطة علمه سبحانه بكل شيء. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} (الحديد: 22). وقال تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة: 51). وقال تعالى: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (سبأ: 3).
إن منطوق هذه الآيات، ومفهومها، ودلالتها، ناطقة كلّها بأنها بيان لعِلْمِ الله تعالى، ولا علاقة لها ببحث "القضاء والقدر".
وكذلك الآية المباركة: {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} (النساء: 78)، فإنه لا دخل لها في بحثِ القضاء والقدرَ لأنها ردٌّ على الكُفَّار الذين يفرِّقون بين السيِّئة والحسنة فيجعلون السيِّئة من الرَّسول، صلى الله عليه وآله وسلم، والحسنة من الله تعالى، فيردُّ عليهم الله بأن الكلَّ من عند الله. والحديث ليس في الحسنة التي يفعلها الإنسان والسيِّئة التي يباشرها، بل الحديث في القتال والموت. والآيةُ نفسُها وما قبلَها تبين ذلك، فقد قال تعالى: {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا، أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا، من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} (النساء: 77 ـــــــ 80)، فالموضوع إذن يتعلق بما يصيبهم لا بما يفعلونه، ولهذا لا دَخْلَ لهذه الآيات في بَحث القضاء والقدرَ.
وأما المرتبة الثانية: وهي مرتبة الكتابة، فهذه أيضًا لا خلاف فيها، والنصوص عليها متضافرة، منها ما جاء في الحديث المتفق على صحته من قوله، صلى الله عليه وآله وسلم: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء". والذكر: هو اللوح المحفوظ، فكل كائن إلى يوم القيامة مكتوب فيه. وأما "أم الكتاب" فقد روي عن ابن عباس أنه اللوح المحفوظ، والصحيح أنه ما سبق في علمه تعالى. و"الكتاب" هو اللوح المحفوظ. فالله سبحانه وتعالى كتب وأثبت في اللوح المحفوظ كل ما سبق في علمه أنه سيكون من الوحي ومقادير الأشياء وأمور الخلق وأحوالهم. أي: كلّ شيء. وقد ذكرنا في المرتبة الأولى السابقة بعضًا من الآيات المبينة الدّالة على علم الله سبحانه وتعالى.
وأما المرتبة الثالثة: وهي مرتبة المشيئة فقد دل عليها إجماع الرسل، عليهم الصلاة والسلام، واتفاق جميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى، وكذلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والأدلة العقلية والعيان المشاهَدُ، فمما لا شك فيه أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا عمود التوحيد الذي لا يقوم التوحيد إلّا به، والمسلمون مجمعون على ذلك، والآيات والأحاديث الدالة على مشيئته تعالى المطلقة التي لا رادَّ لها كثيرة لا تحصى، فكل ما يقع بالفعل فهو بمشيئته تعالى، وما لم يقع فلعدم مشيئته ولو شاءه لكان. وهذه حقيقة الربوبية ومعنى كونه "رب العالمين"، و"القيوم" القائم بتدبير عباده، فلا مالك غيره ولا مدبر سواه. قال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} (القصص: 68). وقال {ونقر في الأرحام ما نشاء} (الحج: 5) وقال: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82).
وأما المرتبة الرابعة: وهي مرتبة خلقه تعالى الأشياء وإيجادها فهذا متفق عليه من جميع الرسل، عليهم الصلاة والسلام، وبه تنزلت الكتب السماوية؛ وكل ما يقوم به العباد من قول وفعل، وكسب وحركة وسكن، فإنه هو سبحانه الذي أقدرهم على ذلك، وشاءه منهم وخلقه لهم. ومشيئة العباد وأفعالهم تكون بعد مشيئة الله تعالى، فلا يشاؤون إلا أن يشاء الله كما سيأتي في فصل "المشيئة والأمر" التالي. فأفعال المكلفين داخلة تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه وكتابته.
وخلاصة هذه المراتب الأربع هي وجوب الإِيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما سبق في علمه أنه كائن، وأنه ما من شيء يحدث في الوجود إلا بمشيئته وإرادته وبخلقه وتكوينه، فلا خالق غيره ولا راد لمشيئته سبحانه وتعالى.


7 ـــــــ المشيئة والأمر:
لما كانت مسألة القضاء والقدر من أدق مسائل العقيدة، وقد يصعب على كثير من الناس أن يحيطوا بها علمًا على النحو الصحيح، فقد رأينا أن ننبِّه إلى نقطة مهمة في هذا الباب تزول بمعرفتها إشكالات كثيرة هي "المشيئة والأمر". وملخص القول فيها:
أن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر. وأمره تعالى نوعان: امر تكوين يعقبه الخلق، وأمر تشريع.
فأمر التكوين نافذ حتمًا: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82).
وأما أمره التشريعي أي الوارد في شريعته تعالى فقد يخالفه المكلف ويعصيه.
وإرادته تعالى نوعان كذلك: إرادة تكوين وإرادة تشريع، فما أراده من الخلق كان خلقًا، وما أراده من الشرع كان شرعًا.
فمشيئته تعالى متعلقة بخلقه وأمره التكويني كما هي متعلقة بأمره التشريعي، وبما يحبه ويكرهه، فكله داخل تحت مشيئته تعالى، ولا يوجد شيء إلا بإرادته سبحانه.
أما محبته تعالى ورضاه فمتعلقة بأمره الديني التشريعي فقط، فما وجد من أمره الديني التشريعي تعلقت به المحبة والمشيئة جميعًا فهو محبوب له تعالى، وهو واقع بمشيئته: كطاعات الأنبياء والمؤمنين، وما لم يوجد منه فقد تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته وإلا لكان.
وأما ما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي فهو مما تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته.
فلفظ "المشيئة" تكويني ولفظ "المحبة والرضا" ديني وشرعي. ومنه قوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7)، وقوله: {والله لا يحب الفساد} (البقرة: 205)، وقوله: {وإن تشكروا يرضه لكم} (الزمر: 7).
فمشيئته تعالى موجبة لكل موجود، كما أن عدم مشيئته موجب لعدم وجود الشيء. فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه. وهذا أمر يعم كل مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات.
أما المحبة فليست موجبة لشيء، فلا يلزم من محبته تعالى شيئًا أن يكون حتمًا، فالله يحب الهدى من كل ضال، لكن الهدى لا يكون إلا ممن شاء الله له ذلك.
8 ـــــــ الكسب والجبر:
معناهما لغة واصطلاحًا:
من معاني "الكسب" في اللغة: السعي والعمل، وهو المراد هنا، ومنه قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى} (النجم: 39 ـــــــ 40). وهذا السعي هو كسب العبد الذي يُسأل عنه، كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (البقرة: 286).
أما "الجبر" فإنه يرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول: أحدها: الإغناء من فقر وجبر العظم، وثانيها: العز والامتناع. وهذان الأصلان لا علاقة لهما بما نحن فيه. فما يهمنا هو الأصل الثالث لمعنى "الجبر" وهو: الإكراه والقهر، يقال: أجبرته على كذا إذا أكرهته عليه.
وقد أطلق كل من أصحاب الفرق لفظ "الكسب" على معنى يوافق مذهبه، فهو عند "القدرية" (نفاة القدر): وقوع الفعل بإيجاد العبد وإحداثه ومشيئته، على سبيل الاستقلال، من غير أن يكون الله شاءه أو أوجده. والكسب عند الجبرية ـــــــ نفاة الاختيار عن العبد ـــــــ لفظ لا معنى له ولا حاصل تحته، فلا كسب للعبد على الحقيقة عندهم لأنه مُجْبَرٌ على فعل ما يفعل، وهو كالريشة في مهب الريح. وهذان المذهبان ضلال لا يجوز اعتقادهما.
أما عند أهل الحق فالكسب هو فعل العبد لأفعاله حقيقة. فالله هو الذي جعل العبد فاعلًا بقدرته ومشيئته وأقدره على الفعل وأحدث له المشيئة التي يفعل بها. فالإنسان فاعل في الحقيقة بمعنى مكتسب، ويمتنع أن يكون محدثًا لأفعاله خالقًا لها. وألفاظ القرآن والسنّة كثيرة في نسبة الأفعال إلى العبد باسمها العام وأسمائها الخاصة. فالاسم العام كقوله تعالى: {تفعلون، تعملون، تكسبون}. والأسماء الخاصة كقوله: {يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويجاهدون} إلخ...
والكسب، كما هو واضح، يقتضي حتمًا وجود الاختيار لدى العبد في أن يفعل أو ألّا يفعل. ولذا فإن المدقق في أفعال العباد يرى أن الإنسان يعيش في دائرتين إحداهما يسيطر عليها وهي الدائرة التي تقع في نطاق تصرفاته، وضمن نطاقها تحصل أفعالهُ التي يقوم بها بمحض اختياره، والأخرى تسيطر عليه وهي الدائرة التي يقع هو في نطاقها، وتقع ضمن هذه الدائرة الأفعال التي لا دَخْلَ له بها، سواء أوقعت منه أو عليه.
والأفعال التي تقع في الدائرة التي تسيطر على الإنسان والتي لا دَخْلَ له بها، ولا شأن له بوجودها، هي قسمان: قسم يقتضيه نظام الوجود مباشرة، وقسم لا يقتضيه نظام الوجود مباشرة.
القسم الأول: هو الأفعال التي تقتضيها أنظمة الوجود، ويخضع لها الإنسان خضوعًا تامًّا، فهو يسير بحسبها سيرًا جبريًّا، لأنه يسير مع الكون ومع الحياة طبق نظامٍ مخصوص لا يتخلَّف. ولذلك تقع الأعمال في هذه الدائرة على غير إرادةٍ منه، وهو فيها مُسَيَّرٌ وليس مُخَيَّرًا. منها: أنه أتى إلى هذه الدنيا على غير إرادته وسيذهب عنها على غير إرادته. ومنها أنه لا يستطيع أن يطير بجسمه المجرد في الهواء، ولا أن يمشي بوضعه الطبيعي على الماء، ولا يمكن له أن يَخلق لونَ عينَيه، ولا أن يوجد شكلَ رأسه ولا حجمَ جسمِه. وإن الَّذي أوجد هذا كلَّه هو الله تعالى من دون أن يكون للعبد المخلوق أيُّ أثَرٍ، ولا أيُّ علاقة في ذلك. لأن الله هو الذي خلق نظام الوجود، وجعلَ هذا الوجود يسير بحسبه، ولا يملك الإنسان التخلُّف عنه.
القسم الثاني: هو الأفعال التي ليست في مقدور الإنسان، والتي لا قِبَلَ له بدفعها، ولا يقتضيها نظام الوجود. وهي الأفعالُ التي تحصل من الإنسان أو عليه جبرًا ولا يملك دفعها مطلقًا، كما لو سقط شخص عن ظهر حائط على شخصٍ آخر فقتلَه، أو أطلق شخصٌ النَّار على طير فأصاب إنسانًا لم يكن يعلم بوجوده فقتلَه، او تدهور قطارٌ، أو سيارةٌ، أو سقطت طائرةٌ، لخَللٍ طارئ لم يكن في الإمكان تلافيه فنجم عن هذا التدهور والسقوط قتلُ الرُكاب، وما شاكل ذلك... إن هذه الأفعال التي حصلت من الإنسان أو عليه على غير إرادة منه وليس في مقدوره تلافيها، هي داخلة في الدائرة التي تسيطر عليه، وليس له فيها أي اختيار، لذلك لا يحاسب الله العبد على هذه الأفعال مهما كان فيها من نفع أو ضرر أو حُبٍّ أو كراهية بالنِّسبة إلى الإنسان، أي مهما كان فيها من خيرٍ أو شرٍّ بحسب تفسير الإنسان لها، فالله وحده هو الذي يَعلم الشرَّ والخير فيها، لأن الإنسان لا أثَرَ له بها ولَا يَعلم عنها ولا عن كيفية إيجادها شيئًا، ولا يَملك دَفْعها أو جلْبَها مطلقًا. ولذلك لا يُثاب ولا يُعاقب عليها.
أما الأفعال التي تقع في الدائرة التي يسيطر عليها الإنسان فهي الأفعال التي يقوم بها مختارًا ضمن النِّظام الذي يختاره سواء أكان شريعة الله أم غيرها. وهذه الدائرة هي التي تقع فيها الأعمال التي تصدر من الإنسان أو عليه بإرادته، فهو يمشي ويأكل ويشرب ويسافر في أي وقت يشاء، ويمتنع عن ذلك في أي وقت يشاء، وهو يُحْرقُ بالنَّار ويَقطع بالسِّكين كما يشاء، وهو يُشبع جوعة غريزةِ النَّوع بالزواج، أو جوعة غريزة حُبِّ البقاء بالتملُّك، أو جوعة المعدة بالطَّعام كما يشاء، يفعل مختارًا ويمتنع عن الفعل مختارًا. ولذلك يُسْأَلُ عن الأفعال الَّتي يقوم بها ضمن هذه الدائرة، فيُثاب على الفعل إن كان مما يستحق الثَّواب، ويُعاقب عليه إن كان مما يستحق العقاب.
إن الإمام جعفرًا الصادق، عليه السلام، عندما سمع مقال الجبرية ومقال القدرية، قال: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين".
هذا هو الفهم الصحيح والصادق، الذي انطلق من الإمام الصادق، بإيجازه الرائع ليبين لنا معاني "القضاء"، و"القدر".
ونحن، والحمد لله، قد فصّلنا مضامين هذا العنوان العريض: "أمر بين أمرين" عندما قلنا بأن هناك مباشرة أفعالًا من الإنسان، وهناك خلق أفعال من الله سبحانه وتعالى. فالمباشرة من الإنسان يدل عليها قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى} (النجم: 39 ـــــــ 41).
وفي المباشرة أيضًا قال تعالى: {قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها} (الشمس: 9 ـــــــ 10). وقال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: 13 ـــــــ 15).
وأما خلق الأفعال فمن الله سبحانه. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى} (النجم: 43 ـــــــ 46). وفي هذا الخلق أيضًا الذي تختص به قدرة الله وحدها، قال تعالى: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها} (الشمس: 7 ـــــــ 8).
وهكذا فالآيات كثيرة وكلها تصب على هذين المعنيين: مباشرة الإنسان للأفعال، وخلق الله تعالى للأفعال. والإمام الصادق عندما قال: "أمر بين أمرين" كان قصده أن الأفعال التي تصدر عن الإنسان ليست من هذا الإنسان فحسب، بل هي منقسمة أفعالًا يأتيها الإنسان بصورة جبرية ومفروضة عليه، وأفعالًا فوَّضهُ الله تعالى وخيّره بين اتباعها أو تركها. وهذه الأخيرة هي التي تميّز الناس من بعضهم، وتبين حقيقة النوايا والسلوك الذي يسلكه كل فردٍ في حياته.
وبهذا المفهوم نصل إلى الحقيقة الجلية التي تمكن الإنسان من فهم واقعه كإنسان، وتعرفه حقيقة أفعاله وما يترتب عليها من نتائج.
وتتوضح لنا هذه الحقيقة أكثر بما أبانه لنا الإمام الحسن، عليه السلام، عندما قال: "من لم يؤمن بالله وقضائه وقدره فقد كفر، ومن حمَّل ذنبه على ربه فقد فجر. إن الله لا يطاع استكراهًا، ولا يعصى لغلبة، لأنه المليك لما ملَّكهم، والقادر على ما أقدرهم، فإن عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما فعلوا، وإذا لم يفعلوا فليس هو الذي أجبرهم على ذلك. فلو أجبر الله الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب، ولو أجبرهم على المعاصي لأسقط عنهم العقاب، ولو أهملهم لكان عجزًا في القدرة. ولكن له فيهم المشيئة التي غيَّبها عنهم، فإن عملوا بالطاعات كانت له المنَّة عليهم، وإن عملوا بالمعصية كانت له الحجَّة عليهم".
9 ـــــــ الهدى والضلال:
إنَّ الإنسان ـــــــ مهما كانت المثل التي يؤمن بها، أو القيم التي يسعى إلى تحقيقها ـــــــ قد يخطئ القول، وقد يخطئ في التصرف، وقد يكون ذلك عن قصدٍ ـــــــ أحيانًا ـــــــ أو عن غير قصد... فالمهم أنه يخطئ، لأنه محكوم بتصرفاته البشرية، إذ العصمة هي من عند الله تعالى يهبها لأنبيائه في دنيا الأرض... على أن الإنسانَ ـــــــ وفي محاولة تبرير أخطائه، إن كُشِفت له ـــــــ يحبُّ أن يُسند كل خطأ ارتكبه إلى غيره، أو إلى ظرف خارج عن إرادته، في حين أنه لو كان منصفًا لَلَجأَ دائمًا إلى الاعتذار وتمنى أن يُقبَل عذرُهُ... كل ذلك يفعله لأنه تواقٌ إلى تأمين الراحة الجسدية والاستقرار النفسي، ولأنه يحبُّ أن يبتعدَ عن كل ما يظنُّ أنه يسلُبُه راحَتَهُ واستقراره...
وانطلاقًا من هذه الميول عند الإنسان فإنك تجده، في الغالب، قد غَلَبَ عليه اعتقاده بأن لا إرادةَ له فيما يقوم به من عمل غير مَرْضي. وهذا ما يبدو واضحًا لك عندما تبدأ محاورته كي تصل به إلى إطاعة الله سبحانه، والسَّير وفق أوامره، والابتعاد عن نواهيه، لأنه يجيبك قبل أي تفكير أو تأمل، ومن غير تروٍّ: "أنا على ذلك، حتَّى يهديَني الله"... فتقول له: ولكن الله تعالى هداكَ ودلَّكَ على طريق الرشد، عندما بعث سيدنا محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزلَ عليه القرآن الذي يتضمن الهداية والإِرشاد... فيجيبك على الفور: كلا هذا غير صحيح... وإلَّا فكيف يقولُ الله في القرآن نفسه: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} (فاطر: 8)؟!...
ومنعًا لمثل هذا الالتباس الذي يقع فيه الإنسان، نقدم شرحًا موجزًا عن الهدى والضلال مؤيّدًا بقرائن عقلية وقرائن شرعية...
لقد عَرَضنا من قبل لمسألة القضاء والقدر، تلك المسألة التي أثارت جدلًا طويلًا في كثيرٍ من الفلسفات القديمة والحديثة، وكانت موضع دراسات من قبل المفكرين ورجال الدين، بل موضع نقاشٍ بين الإنسان وبين نفسه، كلَّما مرَّ معه، أو حصل أمامَهُ، حادثٌ لا يستطيع إدراك السِّر من حدوثه.
ولكن يبدو أن جميع الآراء توزعت حول الهدى والضلال في اتجاهين.
الأول: هو القائل بأن الإنسانَ مسيَّرٌ بمشيئة الله وقدره، وأن كلَّ ما يأتيه أو يقع عليه يكون محكومًا به، من غير أن تكون له إرادة أو اختيار فيه.
الثاني: هو القائل بأنَّ الإنسان هو الذي يملك الزمام في تسيير شؤون أموره وحياته، وإلَّا لماذا أعطيَ له سلطان الإرادة وقوة الإدراك والتمييز؟ وعليه فهو الذي يختار سلوكه وتصرفه بوحيٍ من ذاته، ودفعٍ من ملكاته وطاقاته...
وبمقتضى الاتجاه الأول، فإنَّ هدى الإنسان وضلالَهُ أمران من مشيئة الله، بينما هما، بحسب الاتجاه الثاني، حادثان من الإنسان، ونابعان من نفسه...
والحقيقة أنه وردت في القرآن الكريم نصوص كثيرة على الهدى والضلال، والتنسيق بين مدلولاتها جميعًا، يبيِّن المدى الذي يكون فيه الإنسانُ خاضعًا، شاءَ أم أبى، لقدر الله تعالى فيه. وفي الوقت نفسه يدلُّ هذا التنسيق أيضًا على المدى الذي تُرك فيه للإنسان أن يعمَلَ، ولكن ضمنَ ذلك القدرَ وحتميته... فالله ـــــــ سبحانه وتعالى ــــــــ خلقَ في الإنسان طاقات يمكنه بوساطتها أن يتعرف بعض الحقائق التي تتعلق بنفسه، وبحياته، وبوجوده، بل بقوانين الكون ونظمه... لكنَّهُ لم يؤتَ القدرةَ على إدراك الحقائق المطلقة ومعرفة كنهها، ولا على الإحاطة بأسرار الغيب التي تلفُّهُ من كل جانب، ومنها، على سبيل التذكير، حقيقة روحه... فالإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة، ومهما قد يبلغ، فإنه يظل عاجزًا عن إدراك السر الكبير الذي يتعلّق بالروح: ما هذه الروح؟... وأين مقرها في الجسد؟... وما دورها في حياة الإنسان، والكائن الحي؟... وإلى أين تصير بعد موته في هذه الدنيا؟... فهذه أسئلة سوف تظل تواجِهُ الإنسان، وسوف يظل عاجزًا عن الاهتداء إلى حقيقتها، بدليل قوله تعالى: {ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء: 85).
إذًا فالإنسان يقف حائرًا أمام حقائق كثيرة، منها ما يختص بكينونته وحياته وخَلقه، ومنها ما يتعلق بنظم الكون والوجود، وهو يحتاج فيها كلّها إلى هدى الله تعالى، وبهذا الهدى يمكن أن ينظِّم واقع حياته، وأن يكتشف ما في الكون من عوالم وأسرار، وأن يعمل بالتالي للقاء ربه راضيًا مرضيًّا...
وهذا الهدى الذي يحتاجُهُ الإنسانُ هو تعبيرٌ عن مشيئة الله التي يجري بها قدَرهُ في الكائن الحي، لأنه هو {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50).
وإنّ مشيئة الله هذه هي أن يخلق هذا الإنسان باستعدادٍ مزدوج: للهدى والضلال، وأن يودِع فيه الفطرة لإدراك حقيقة الرُّبوبية الواحدة والاتجاه إليها، مع إعطائه العقل المميِّز، الذي بوساطته يمكن أن يقدِّر كل أمرٍ، ويحكم على صوابه أو خطأه، هذا فضلًا عما بعثَ من رُسُلٍ بالبيّنات والآيات التي توقظ الفطرة إذا غفت، وتهدي العقل إذا ضلَّ...
إذًا فالإنسان أوتيَ جميعَ السُّبل التي تمكِّنه من أن يسير وفق مشيئة الله تعالى وإرادته، ولكن ضمن إطار استعداده المزدوج للهدى والضلال الذي فُطِرَ عليه. على أنَّ إرادة الله سبحانَهُ وتعالى، لا يمكن أن تهدف إلَّا إلى خير الإنسان، وأنَّ مشيئته لا يمكن أن تكون إلَّا لصالحه.
العقل والمنطق يقولان بذلك، وإلَّا فكيف كان خَلْقُهُ في أحسن تقويم؟ ولماذا كان منحه كلَّ تلك القدرات والطاقات والملكات التي تعزّز وجوده في حياته؟ ولماذا كان إيلاؤه لأجلِّ مهمة يمكن أن تسند إلى مخلوق باستخلافه في الأرض؟... أو ليست هذه كلها تثبت قطعًا بأن الله سبحانه وتعالى ما شاءَ إلَّا أن يكون الإنسانُ ذلك المخلوق المميَّز الذي يستطيع أن يعرف ما الهدى والضلال، وأن يفرِّق بينهما، ثم يختار وفقًا لاستعداده المزدوج للهدى والضلال الذي حمله معه حين خُلِق؟...
أوليست حكمةُ الله سبحانَهُ قد قضتْ بأن يعرف الإنسان قيمة خلقه، وقيمة ما منح له من عطاءات، وأهمية تخصيصه بالاستخلاف؟ وإلّا فما الفرق بين إنسان لا يدرك معاني هذه القيم وغاياتها، وإنسان آخر أدركها وعرفها، فعمل بوحيها؟ وما الفرق أيضًا بين إنسانٍ مهتدٍ وإنسانٍ ضالّ؟...
من هنا كانت مشيئة الله وإرادته أن يكون الإنسان مخلوقًا باستعداده المزدوج للهدى والضلال حتى يكونَ عدلُ الله سويًّا، فلا يؤخذ الجميع، بمبرَّة الهدى، ولا يؤخذ الجميع بمضرَّة الضلال، بل يكون لكل إنسان ما سعى...
على أنَّ ذلك لا يعني أن الإنسان مسؤولٌ عن الخلق، أي عن خلق الأشياء والأفعال، لأنَّ خلْقَ الفعل هو من الله سبحانه وتعالى، والإنسان ليس مسؤولًا عن خيره أو عن شرِّه. إلَّا إنَّ مباشرة الفعل هي من الإنسان، وبالتالي يكون مسؤولًا عن خير هذا الفعل أو شرِّه بعد تلك المباشرة... وبمعنى آخر، لقد أودَعَ الله سبحانه في الإنسان العقل، وأعطاه الأجهزة كافة للرؤية والسمع والإحساس... وذلك من أجل أن يميِّز، وأن يدرك الآيات المبثوثة في حياته، وفي الكون، وأن يعيَ رسالات الرُّسل التي توصي بالهدى... فبات عليه أن يعمل، بعد ذلك كله، وأن يجاهد للهدى... وقد قضت مشيئة الله سبحانه أن يجري قدرُهُ بهداية من يجاهد نفسه في سبيل الهدى، وأن يجري قدرُهُ بإضلال من لا يستخدمُ ما أودعَهُ فيه، وما منَحهُ وأعطاه، كي يهتدي...
إذًا، فالأمْرُ كلُّهُ يعودُ لمشيئة الله سبحانه، فلا يقع شيء إلَّا أن يوقِعَهُ قدَرُ الله، لأنه ليس في الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور، كما أنه ليس هناك قوة، إلا قَدَر الله، تُنشئ الأحداث. وفي إطار هذه الحقيقة يتحرك الإنسان بنفسه، ويقع ما يقع له من الهدى والضلال...
كما أن مشيئة الله هي في خلق كل شيء، وهي وحدَها التي تتحقق في كل الحالات ولا يتحقق سواها. وبمقتضى هذه الميشئة، من يهديه الله فهو المهتدي حقًّا، ومن يضِلُّهُ الله فهو الضالُّ حقًّا، ولا يملك الإنسان قدرة للاعتراض على حكم ربه، أو مشيئته... إن شاءَ هداه، وإنْ شاءَ أَضَلَّهُ... إلَّا إنه يبقى للإنسان استعداده للهدى والضلال، فمن عقل، وأدرك، ووعى واتَّعظ، اهتدى حتمًا... ومن عطَّلَ مداركه، وكذَّب بآيات ربه ورسله واتبع هواه، ضلَّ حكمًا، وإضلاله يكون نابعًا من نفسه، ومما زينت له من شهوات وأوهام وأباطيل...
وهكذا فإن مشيئة الله هي التي يعود إليها كلُّ أمر: لو شاءَ الله سبحانه وتعالى لهدى الناسَ جميعًا، وخلق فيهم الاستعداد للهدى أو لَقَهَرهُم على الهدى... ولو شاءَ الله سبحانه وتعالى لأضَلَّ الناسَ جميعًا وخلق فيهم الاستعداد للضلال أو لقَهَرَهُم على الضلال... ولكن تعالى الله وجلَّت عظمتُهُ أن يُضلَّ عبادَهُ جميعًا، وفيهم المهتدون، ولذلك خلقهم مستعدين للهدى أو الضلال، ولم يشأ بعد ذلك أن يقهرهم على الهدى ولا أن يقهرهم على الضلال، وإنما جَعَلَ مشيئته بهم تجري من خلال استجابتهم أو عدم استجابتهم لدلائل الهدى وموجبات الإيمان... ومن هنا كان عدلُ الله الشامل في عباده، وفقًا لتلك الاستجابة أو عدمها، لأنه بمقتضى هذا العدل، لا يمكن أن يتساوى المهتدي مع الضالّ، ولا المؤمن مع الكافر (بعد أن تبيّن لهذا الكافر طريق الهدى)، كما لا يعقل أن يُحاسَبَ العبادُ إلَّا عما يكون نابعًا من أنفسهم... وإذا كان الله سبحانه يُضلُّ من يشاء، فإنه يُضلُّ أولئِكَ الذين كان عندهم الاستعدادُ للضلال، وسلكوا طريقه بسوء اختيارهم وساروا عليه. وإذا كان الله سبحانه يهدي من يشاء، فإنه يهدي أولئك الذين كان عندهم الاستعداد للهدى، واتبعوه. فمن غلب عليه الاستعدادُ الأول، جرت مشيئة الله وقدَرُه بأنْ يكون من الضالين، ومن جعل الاستعداد الثاني هو الذي يغلب عنده، فإنَّ مشيئة الله وقدَرَهُ قد جرت بأن يكون من المهتدين...
وهكذا فإنه لا شيء يخرج عن مشيئة الله، فهي المشيئة التي شرعت سنَّتُه في الحياة. لكنَّه سبحانه أعطى للإنسان حريةَ الاختيار، ووهبه القدرة على الإدراك والتمييز، ليتمَّ عملهُ على أساس اختياره، ومدى إدراكه وتمييزه، ويكون الحسابُ الذي ينتظره على أساس ذلك... فالإنسان هو الذي يختار بحرية كاملة، وإنْ كان في اختياره لا يخرج عن المشيئة... فإن قام بالعمل الطيب، أو بقول الصدق، أو الإخلاص في العمل، أو اتباع الحق، أو رفض الانحراف إلى الهوى، والبعد عن إيذاء الناس والمخلوقات، فكل هذه الأعمال تكون من اختياره، وكلها تصبُّ في اتجاه الهداية... وعلى العكس، إن قام الإنسان بالعمل الرديء، أو بقول الكذب، أو اتباع الباطل، أو إشباع نزواته، وإيذاء غيره... فهذه أعمال قام هو باختيارها، وتدلُّ كلها على اتجاه الضلال... فاختيار الإنسان إذًا واقع، وقائم، وكل الأعمال الواقعة في دائرة الهداية محكومة بمشيئة الثواب... في حين أن جميع الأعمال التي تقع في دائرة الضلال محكومة بمشيئة العقاب... وهكذا الحال في كل ما يمكن أن يقوم به الإنسان أو يقدم عليه...
ولعلَّ أهمَّ ما يرمي إليه الإنسانُ في دنياه هذه هو الكسب، أو الحصول على الرزق، وهو من أجل ذلك، قد يسخّر طاقاته للحصول على رزق حرام، أو قد يستخدم تلك الطاقات لاجتناء الرزق الحلال... فهو إذًا، في أي من الحالتين، قد حصل على الرزق، لكنه في الحالة الأولى قد حصل على هذا الرزق وانطبقت عليه مشيئة العقاب، في حين أنه في الحالة الثانية قد حصل على الرزق ذاته، وانطبقت عليه مشيئة الثواب...
من هذه الأدلة يتّضح بأن الإنسان هو صاحب الاختيار، لكنه في هذا الاختيار، لا يخرج عن المشيئة، فلو شاء الله ـــــــ سبحانه ـــــــ أن يمنعه عن إتيان المال الحرام لكان قادرًا على ذلك، ولو شاءَ أن يحرمه المال الحلال لحرمه أيضًا، لكنه ـــــــ سبحانه ـــــــ ترك له أن يختار، ما دام قد أوجد فيه كامل الاستعداد لهذا الاختيار، وأطلق له الحرية التامة فيه...
وإن مشيئة الله هذه تتبدَّى في كونه تعالى، وحدَه القادر والفاعل، في حين لا يملك عبدُهُ الإنسان أن يكون فاعلًا وقادرًا، بل على العكس هو رهينة مشيئة ربه، بل مشيئة ما يتحكم به من عوامل تخرج عن إرادته... فالإنسان لا يستطيع مثلًا أن يقول بأنه فاعل غدًا أمرًا معينًا، ويجزم بأنه قادر على تنفيذ هذا الأمر. وما ذلك إلَّا لسبب وحيد ومعروف، وهو أنه لا يملك المشيئة القادرة على التحقيق، فهو قد يكون في أيّ لحظة متوفيًّا، وهو غير مالك لزمام الأمور والظروف التي قد تواجهه، فإن أصابَهُ مرض أقعده، وإن حصل له طارئ منَعهُ، وقد تتبدل المعطيات كافة التي بنى عليها تصوراته، وعلى ذلك فهو لا يملك القدرة على التسيير والتحكّم في ما هو آتٍ ومستقبل. على أنه وإن كان لا يستطيع الجزم بأنه فاعلٌ شيئًا، لا في اللحظة التي يعيشها، ولا في المستقبل القريب أو البعيد، إلَّا إنه يملك إمكانية القيام بالفعل، وحتى في هذه الإمكانية، لا يضمن النتيجة إلَّا بعد أن يحوزها... وهذا ما يجعله خاضعًا لمشيئة الله وقدَره، فهو وحدَهَ القادر، والذي لا تحده قيود، ولا تقف دونه ظروف، بل إنَّ كل شيء يخضع له، ويسير وفق مشيئته لأن كل شيء هو من صنعه. لذا فإنه سبحانه يقول لرسوله العظيم في قرآنه الكريم تعليمًا لنا وتنبيهًا: {ولا تقولن لشاء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} (الكهف: 23 ـــــــ 24)...
ولكن يبقى للإنسان، بعد أن يدرك مشيئة الله، وأنه لا يمكن أن يفعل شيئًا إلَّا إذا شاءَ الله له أن يفعله، أن يعزم على الفعل، وأن يختار منه ما يتوافق مع هدايته... ولا تتوقف نتائج هذه الهداية على صلاحه في الدنيا فحسب، بل على مصيره في الآخرة، حيث تكون له الجنة والنعيم... هذا بخلاف الإنسان الآخر الذي اختار الضلال فكان مصيره في النار والجحيم...
على أن حسابَ الإنسان في الآخرة لا يكون فقط على الأعمال وما ظهر منها، بل على ما يجري في دخيلة الإنسان، التي عبّر عنها القرآن الكريم بلفظة "السرائر"... فهذه السرائر هي كل شيء يتفاعل في وجدان الإنسان ويكوّن نواياه... وهنا، في داخل الذات، وخبايا النوايا، يكون الاختيار مطلقًا، ولا تقف في طريقه عوائق أو حدود، فليس من قوةٍ في الأرض يمكن أن تحولَ بين الإنسان وما ينشئُهُ في نفسه. فهو يعتقد بما يشاء، ويفكر كيف يشاء، ويشعر كما يشاء... وعليه فمن يقدر مثلًا أن يغير تفكير فرد بالقوة ولو كان من أعظم ملوك الأرض وسادتها؟ أو من يقدر أن يمنع فردًا من الاعتقاد بأن هذا الأمرَ أفضل من ذاكَ؟ وهل هنالك قوَّة تستطيع أن تبدل الكراهية بمحبة، إذا ظلت أسباب هذه الكراهية كامنة في النفس، أو أن تغيّر تكفيرَهُ في أمرٍ إذا كانت دوافع هذا التفكير لا تزال لديه؟!... فكل ما في القلب، أو ما في العقل، يبقى ضمن نطاق حرية الاختيار عند الإنسان، سواء أكان هذا الاختيار يتعلق بنفسه هو، أم بتعامله مع الآخرين. ولذا فإنَّ الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نأخذ بظاهر الأمور، أو ما تدلُّ عليه هذه الظواهر من خبايا، في حين أن ما عداها يظل خاضعًا لعلمه وحده سبحانه... ومن هنا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يحاسبُ الإنسانَ أيضًا على نواياه، وعلى ما أضمَرَ في سرائره... وذلك بدليل قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} (الطارق: 9)، أي يوم يكون الحسابُ على النوايا الخفية التي لا يعلمها إلَّا هو، وإنْ خفيت على الناس، أو أظهر صاحبها عكسها تمامًا... فلو أنَّ ملحدًا، خادَعَ الناسَ لغرض أو لآخر وأظهر الإيمان، أو أن شخصًا التزم في الظاهر بالعبادات التي يأمر بها دينُهُ، لا لشيء إلا ليقال عنه بأنه إنسان متديِّن، ورعٌ، تقيٌّ، في حين أنه هو في السِّر يرتكب المعصية، ويخالف أوامر الله تعالى ونواهيه، فهل إن مثل هذا أو ذاك يكون حسابُهُ على أساس ما تظاهر به، أم على أساس ما أخفى في نفسه من نوايا، وما قام به في السرّ من معصية؟!...
ومما لا شك فِيه، أنَّ من يقوم بالمظاهر الخادعة الكاذبة، وإن خفيت حقيقتها على الناس، لا يكون إلَّا مخادعًا نفسه، فإنَّ فوقه ربًّا يرقبه، وعلى نواياه وأفعاله الخفية يحاسبه... ومثل هذا الإنسان، يكون ولا شك قد اختار، لكن اختياره كان ضلالًا، فأَضَلَّهُ ربُّه الذي يعلمُ الجهرَ وما يخفى، والذي يطلع على ما تهمسُ به النفوسُ، وما تضجُّ به الصدور، فلا تفوته لفتة أو همسة، ولا يعوزُهُ علمٌ أو قدرة.
إذًا فما على الإنسان، إلَّا أن يدرك هذه الحقيقة، كي يتّقيَ الله، فلا يخادعُ نفسه، ولا يخادعُ الناس، بل يسلك الطريق المستقيم، الذي يرشده إلى الهداية والصواب...
ومن هنا وَجَبَ أن يكون واضحًا بأن كلمة الهداية لا تعني مجرد الإرشاد والعلم فقط، بل تعني الإرشاد مع توفيق الله تعالى إلى العمل، لأنه من دعا لك بالعلم فقد دعا لك بجزء من الخير، وأما من دعا لك بالهداية، فقد دعا لك بالخير كله، لأنه دعا لك بالعلم مع التوفيق إلى العمل، وهذا لا يكون إلَّا بإِذن الله سبحانه... وهذا الإذن لا يعطى، ولا يمنح، إلَّا لمن يستحقون رحمته وعفوه، لأنه هو البَرُّ الرحيم... فمن كان ضالًّا واهتدى، فعسى أن يثيبه الله على هدايته، ويعفو عنه. وليس أحق من المؤمنين، أن يدعوا إلى الهداية، لأنها طريق الخلاص من الذنوب والآفات...
وهذا الشاعر المؤمن، نراه وقد أدرك ذلك المعنى للهداية، بعد أن استعرض ذنوبه على نفسه، وأحبَّ أن يقلع عن الانغماس في ملذات الحياة الفانية، وأن يبتعد عن تيه الضلال الذي كان يسيطر عليه، رجاءَ أن يأذنَ له الله في التوبة... نراه يقول في ذلك:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تَقُلْ خلوتُ ولكن قل علَيَّ رقيبُ
لهونــــــا على الأيـــــام حـــتى تتــــابعـــــت ذنوبٌ عـــــــــلى آثـــــارهنَّ ذنوبُ
فيا ليــــــــــتَ أنَّ الله يغــــفرُ مــــا مــضى ويــــــــــأذنُ لي فــي توبـــــةٍ فأتـــوبُ
في حين أن الزمخشري أتى بمعنى أدق رحمه الله تعالى، عندما لفَّهُ الليلُ بسواده، وحامت فوق رأسِه بعوضةٌ فأسْهدتهُ، فلم يستطعْ رقادًا وهو يسمع صوتها، ولم يرها من حُلْكَةِ الظلام، فاستيقظ ضَعْفُهُ أمام هذه البعوضة، فاستعرض شريطَ حياتِه فعظمت عليه ذنوبه، فرجا ربه أن يهبه التوبة مِنَّةً منه لا استحقاقًا على أعمال قدَّمها، لأنه هو العبد الضعيف الذي يستحق الهبة والمنة، والله سبحانه وتعالى هو الوهاب الحنان المنان، فأنشد قائلًا:
يا من يرى مدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى منـــــــاط عروقـــــــها في نحرهــــا والمخَّ في تلك العظام النُّحَّلِ
أُمنــــن علـــــــــيَّ بتوبةٍ تمحـــــــــــو بهــــــــا ما كان مني في الزمان الأول
ثم لا بدَّ، بعد هذا، من بيان ما قاله الله تعالى في أولئك الذين يختارون طريق الضلال ويألفونه، ويبتعدون عن طريق الهداية ويمقتونه. لقد قال ـــــــ سبحانه ـــــــ بحقهم، بأنه يخصص لهم شياطين يزينون لهم السير على هذا الطريق القاتل، وذلك بالنص القرآني: {ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل} (الزخرف: 36 ـــــــ 37). فالله سبحانه يسلِّط، على الذين يختارون الكفر، أو الشر، أو الرذيلة، أو أي طريق يبعد من الهداية، شياطين، هم قرناء لهم، يوحون إليهم بالسوء ـــــــ وهل يوحي الشيطان إلَّا بفعل السوء ـــــــ ويصدُّونهم عن سبيل الله... فأي إنسان اتَّخذ هذا الطريق واختاره لنفسه، لا يمكنه بعده أن يقول: ماذا أفعل؟!... وقد جعل الله لي رفيقًا من الشياطين يزيِّن لي الإثم والفسوق، ولو ترك الأمر لي، لما اخترت مصاحبة الشيطان، ودعوته ليكون قرينًا لي!... فأمّا من يحتجُّ بذلك، ويدَّعي أن الله قد أوقعه في حبائل الشيطان، فإننا نقول له: عد إلى نفسِكَ أيها الإنسان، وكن بصيرًا، ألا تجد أنَّك أنت الذي اخترت طريق الضلال، يوم أن آثرت الابتعاد عن الرحمان، وتعاميت عن رؤية الهداية وعميت عن ذكْر الرَّحمان، الذي لا يريد بك إلَّا الرحمة؟... أو ليس هو خالقك، وقد منحك الإمكانيات كافة التي تجعلك تميِّز، وبالتالي تختار؟... فإن اخترتَ أنت طريق الضلال، فإنه سيكون لك رفيق وقرين من الشياطين، ما دمت آثرت هذه الرفقة، التي زينت لك زيفًا، ما تفعل... فالأمر إذًا بيدك أنت... وعليه فلا تقولنَّ أبدًا: ما ذنبي؟. بل قل: أنا الضالُّ، أنا الذي اخترت طريق الضلال، وقد نبَّهني ربِّي بأنه، في هذا الضلال، سيجعل لي قرينًا من الشياطين. أو ليست آيتُهُ المعبِّرة عن ذلك أمام ناظري في قرآن كريم، فكيف يهديني الله بعد هذا؟...
والعجيب في أمر هؤلاء الذين نسُوا ذكر الله، وابتعدوا عن السبيل القويم، أنهم يفعلون ذلك، على الرغم من كل ما يسَّرَ الله لهم من سُبل للهداية، إن في أنفسهم، أو في الحياة من حولهم، أو فيما بثَّ في الكون والوجود من آيات عظمته وقدرته، أو فيما بعث إليهم من رسالات سماوية تهديهم إلى الرشد وتصدّهم عن الضلال...
وكما بيّن القرآن الكريم بأن الله سبحانه وتعالى يجعل للشياطين ولاية على الكافرين والضالين، فإن القرآن نفسه يبيِّن أيضًا أنه لا يمكن أن تكون للشياطين أيّ ولاية على المؤمنين... وليس هذا البيان والتأكيد عليه بآيات دالّة، معبِّرة، إلَّا رحمة بالإنسان، وحبًّا بهدايته، إذ لعلَّهُ بعد الضلال أن يثوبَ إلى الله، ويعودَ إلى خالقه. ولكي لا تكون للإنسان أيضًا حجةٌ بأنه لم يكن له إرادة في الاختيار أمام مشيئة الله وقدره... وإنَّ رحمة الله قد وسعت كلَّ شيء، وهو سبحانه يحثُّ الفرد والجماعة على الرجوع إليه، والعودة إلى توجيهه، واللجوء إلى رحمته، وذلك بدليل قوله تعالى: {وإن عدتم عدنا} (الإسراء: 8)، {وإن تعودوا نعد} (الأنفال: 19)، {ففروا إلى الله} (الذاريات: 50)، {لا ملجأ من الله إلا إليه} (التوبة: 118)، {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11)... فإذا عادَ الإنسانُ عن ضلاله، وابتعَدَ عن غيه، وغيَّر مفاهيمه، فإن سلوكه سيتغيَّر حتمًا، وإن هو نهى نفسه عن الهوى، فإنه يكون قد غيَّر ما تكنّهُ هذه النفس... وعندها يرسل الله سبحانه وتعالى له أولياء من الملائكة يكونون له عونًا، وأخلَّاء أصفياء في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (فصلت: 30 ـــــــ 31)... فهل بعد ذلك توجدُ رحمة أوسع من رحمة الله، ويوجد إرشاد أكبر، وهداية أشمل؟!... إنها دعوة صريحة واضحة للإنسان، كي يكون من المهتدين؛ وإن ضَلَّ يومًا أو أضَلَّهُ غيره، فإن أبواب رحمة الله مشرعة أمامه كي يعود إلى الهداية، وإن خالقَهُ وربَّهُ خير معين له في هذه العودة، وهل أفضل وأكبر من هذا العون وهو ـــــــ سبحانه ـــــــ ينزل عليه ملائكة تأخذ بيده إلى سبيل الرشد؟...
وبعد ذلك كله أوَلَيس الإيمان بالله هو خيرُ عونٍ لنا في البعد من الضلال؟ إذ كم يكون عظيمًا إيمانٌ بالله الذي لا حول ولا قوة لأحد إلَّا به، ولا ملجأ منه إلَّا إليه، ولا تدبُّ نملةٌ سوداء على حجر أصلد في الليل إلَّا وهو يراها، وييسِّر أمرها... ولا ينبض عرق في جزء من كائن في أي مكان إلَّا بأمره... ولا يغفل عن شيء بآخر... ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تقوم الحياة إلَّا بأمره، وإذا أراد شيئًا فإنَّما يقُولُ لَهُ: {كن فيكون} إنَّ هذا الإيمان الذي يدعو إليه الإسلام، لكفيل بأن يمسَّ شغافَ القلب، وأن يملأ شعاب العقل، وأن يملك على المرء حواسه ومشاعره، فيعيش في حقيقة الله الكبرى، حقيقة الهداية التامة...
وهكذا نصل في النتيجة إلى أنَّه ليس من مشيئة تجري وفقها الأمور إلَّا مشيئة الله وقدَره. وقد كانت مشيئته في الهدى والضلال عندما خلقَ الإنسان في أحسن تقويم، وترك له الاختيار الحرَّ الطليق في أن يسيرَ إما وفق مشيئةِ الهدى، وإما وفق مشيئة الضلال، وصدَقَ الله العظيم حيث يقول: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف: 29).
وأما قوله تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشاء يجعله على صراط مستقيم} (الأنعام: 39)، وقوله: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (الأعراف: 43)، وقوله: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56) فمنطوق هذه الآيات فيه دلالةٌ واضحةٌ على أنّ الذي يفعل الهدايةَ والإضلالَ هوَ الله سبحانهُ وتعالى، لا العبدُ، وهذا يعني أنّ العبدَ، لا يهتدي مِنْ نفسِهِ إلّا إذا هداهُ الله... إن هذا المنطوقَ قدْ جاءت قرائنُ تصرفُ معناهُ، عنْ جَعْلِ مباشرة الهداية والضلال منَ الله، إلى معنى آخَرَ، هوَ جَعْلُ خلق الهداية وخلق الضّلال من الله، وأما المباشر للهداية والضلال والإضلال فهوَ العبدُ. وهذه القرائنُ شرعيّةٌ وعقليّةٌ.
القرينة الشرعية
جاءَتْ آياتٌ كثيرةٌ تنسب الهدايةَ والضلالَ والإضلالَ إلى العبد. قالَ تعالى: {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} (يونس: 108)، وقال: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105)، وقالَ {وأولائك هم المهتدون} (البقرة: 157)، وقال: {وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا} (فصلت: 29)، وقال: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم} (الأنعام: 144)، وقالَ: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي} (سبأ: 50)، وقال: {وأضلهم السامري} (طه: 85)، وقالَ: {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم} (آل عمران: 69)، وقال: {ويريد الشيطان أن يضلهم} (النساء: 60). فمنطوق هذه الآيات، فيه دَلالةٌ واضحةٌ على أنّ الإنسانَ هو الذي يَفْعلُ الهدايةَ والضلالةَ، فيُضلّ نفسَه ويُضِلّ غيرَه، وأنّ الشيطانَ يقوم بالإضلال أيضًا. فهذه قرينةٌ على أنّ نسبة الهداية والإضلال إلى الله ليستْ نسبةً مباشرةً، بلْ هيَ نسبة خَلْق. فإنّكَ إذا وضعتَ الآيات معَ بعضها، وفهمتَها فَهْمًا تشريعيًّا يتبيَّنُ لكَ انصرافُ كلّ منها إلى جهة غير الجهة التي هي للأخرى، كالآية التي تقول: {قل الله يهدي للحق} (يونس: 35) والآية الأخرى التي تقولُ: {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} (يونس: 108). فالأولى تدلّ على أنّ الله هُوَ الذي هدى، والثانية تدلّ على أن الإنسانَ هو الذي اهتدى. وهدايةُ الله في الآيةِ الأولى هيَ خَلْقٌ للهداية في نفس الإنسان أي إيجاد قابليّة الهداية فيه، ثم تركه يباشر الاهتداءَ بنفسه. والآيةُ الثانية تدلّ على أنّ الإنسان هو الذي باشرَ ما خَلَقَه الله من قابليّة الهداية.
فهذه الآيات التي تنسب الهدايةَ والإضلالَ إلى الإنسان قرينةٌ شرعيّةٌ دالَّةٌ على صَرْفِ مباشرة الهداية عن الله إلى العبد.
القرينة العقلية
إنَّ الله يحاسب الناسَ فيثيبُ المهتدي ويعذِّبُ الضّالَ، قال تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} (فصلت: 46). وقالَ تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء: 7). وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة: 7 ـــــــ8). فيكونُ الذي يُباشر الهدايةَ والإضلالَ هو العبدُ، ولذلك يُحاسَبُ عليهما.
وأمّا من ناحية الآيات التي تقترنُ فيها الهدايةُ والإضلالُ بالمشيئة مثل قوله تعالى: {تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} (الأعراف: 155) فإنَّ معنى المشيئة هنا هو الإرادة. ومعنى هذه الآيات هو أنّهُ لا يهتدي أحدٌ ولا يضلّ أحدٌ جبرًا، بل يهتدي مَنْ يهتدي بإرادة الله ومشيئته، ويضلّ بإرادته ومشيئته. وكانَ السلف الصالح يفهَم هذا المعنى ويُدْرِكُهُ إدراكًا حِسيًّا. ومما ذُكِرَ أنّ عليًّا، عليه السلام، بعدَ رجوعه من صفين سأله رجلٌ: هلْ كانَ ما حدثَ في صفّينَ بمشيئةِ الله وقضائه؟ فأجابه سلام الله عليه: "إن الله أمر تخييرًا ونهى تحذيرًا وكَلَّف يسيرًا، فلمْ يُطَعْ مُكْرَهًا، ولم يُعْصَ مغلوبًا، ولمْ يُرْسل الرُّسُل عبثًا، ذلكَ ظَنّ الذين كَفَروا".
وأمّا الآياتُ التي يذكر القرآن الكريم فيها أناسًا لا يهتدونَ أبدًا، كقوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة: 6)، وقوله: {كلا بل ران على قلوبهم} (المطففين: 14)، وقوله: {وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} (هود: 36)، فهذه الآيات أخبارٌ من الله لأنبيائه عنْ أُناسٍ مخصوصينَ بأنّهُمْ لمْ يُؤمِنوا، وهذا داخلٌ في علم الله، وليس معناه أنّ هناكَ فئة تؤمن وفئة لا تُؤمن، بل كلّ إنسانٍ فيه قابليّة الإيمان.
وأمّا قوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} (المائدة: 108)، وقولُه: {والله لا يهدي القوم الظالمين} (البقرة: 258)، وقولُه: {إن الله لا يهدي من هو كاذب} (الزمر: 3)، {لا يهدي من هو مسرف كذاب} (غافر: 28)، إنّ هذه الآيات تعني عدمَ توفيق الله لهمْ بالهداية، إذ التّوفيق للهداية هو منَ الله. والفاسق والظالم والكافر والضالّ والمسرف الكذاب... كل أولئك يتصفونَ بصفاتٍ تتناقضُ وتتنافرُ معَ الهداية، والله لا يُوَفّقُ للهدايةَ مَنْ كانتْ هذه صفتُه؛ لأنّ التوفيقَ للهداية تهيئةُ أسبابٍ للإنسان، ومَنْ يتّصف بهذه الصفات لا تتهيأُ له أسبابُ الهداية، بل أسبابُ الضلال. ونظير هذا قوله تعالى: {واهدنا إلى سواء الصراط} (ص: 22)، وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة: 6) أيْ وفقنا لأنْ نهتديَ، بمعنى يَسّرْ لنا أسبابَ هذه الهداية.
ثغرات في سلوك المسلمين
يُشاهَد، عندَ كثيرٍ مِنَ المسلمينَ، ظهور أعمالٍ تخالف عقيدَتَهمُ الإسلاميّةَ، ويشاهدُ، عند كثيرٍ من الشخصيّات الإسلاميّة، سلوكٌ يتناقضُ معَ الشخصيّة الإسلاميّةِ، فيظنّ بعضهم أنّ ما صدَرَ من أعمالٍ تخالفُ العقيدةَ الإسلاميّةَ قدْ اخْرجَتِ الشّخضَ عن الإسلام، وأن ما برَزَ منْ سلوكٍ يتناقضُ معَ صفاتِ المسلم المتمسِّك بدينِهِ يُخرجُ الشخْصَ عن كونه شخصيةً إسلاميّةً. والحقيقةُ أنّ وجودَ ثغراتٍ في سلوك المسلم لا يُخْرِجُهُ عنِ الإِسلام. ذلك أنّهُ قدْ يغفلُ الإنسانُ فيُغْفِلُ ربطَ مفاهيمِه بعقيدته، وقد يجهلُ تناقُضَ هذه المفاهيم معَ عقيدته، أوْ مَعَ كونه شخصيّةً إسلاميّةً، وقد يطغى الشيطانُ على قلبه فيُجافي هذه العقيدةَ في عَمَلٍ مِنَ الأعمال، وعلى الرغم من ذلك لا يصحّ أنْ يُقالَ: إنَّهُ في مثل هذه الحال خرجَ عن الإسلام، أو أصبح شخصيةً غير إسلاميّة، لأنّ العقيدة الإسلامية، وهي الأساسُ، تصونُهٌ، فهوَ مسلمٌ وإنْ عصى في عملٍ منَ الأعمال، وما دامت العقيدةُ الإسلاميةُ أساسًا لتفكيره وميولِهِ، يبقى شخصيّةً إسلاميّةً، وإن فسق في سلوكٍ معيّنٍ من أنواع سلوكه.
ولا يخرجُ المسلمُ عن الإسلام إلا بترك العقيدة الإسلامية قولًا وعملًا، فإذا طرأ خَلَلٌ على العقيدة خرجَ الشخصُ عن الإسلام بهذه الحال فقط، ولو كانت اعمالُه مبنيّة على أحكام الإسلام، لأنها لا تكونُ حينئذٍ مبنيّةً على الاعتقاد، بل على العادة، أو على مجاراة النّاس.


الفتنة أو التجربة
قد يمرّ على الإنسان حينٌ، فيه يتخلى الله عنه، ليَضَعَهُ في الفتنة، بعدَ أنْ يكون قد قدّم له البراهينَ والأدلّةَ الواضحةَ... هنا يظهر ضعف الإنسان وسيطرة شهوته عليه، فيحاول أنْ يُكافِحَ، ولكن من دون جدوى.
فإذا كانَ هذا الرجُلُ مؤمنًا حقًّا، ندم أشدّ الندم، وربما، أخذَ بالبكاء كما يبكي الطفلُ مِنْ فرطِ نَدَمِهِ، في حين أنك تراهُ في الملمات القاسيات ثابتًا كالجبل لا يتزعزع، لكنّهُ بعدَ البكاء المرّ والندم الشديد والاستغفار المقلقل (أيْ غير الثابت) يأخذ على نفسه بعزمٍ وتصميمٍ أنّهُ لنْ يعودَ إلى مثل هذه المعصية، فيبدأ بوضع وسائل الدفاع التي أمَرهُ الله بها. ولكن إذا ما بقيَ في النفس شيءٌ من الشهوة لهذا العمل الذي قامَ به سابقًا، فترى جميعَ الوسائل التي صَنَعَ منها جهازًا قويًّا للدفاع تبدأ بالانهيار تدريجًا أمام البقيّةِ الباقية مِنَ الشهوة الكامنة في النَّفس.
والنّصرُ النهائيّ لهذا المؤمن من الله سبحانه وتعالى، لا يكونُ إلّا إذا ذَكَرَ هذا المؤمنُ الأشياءَ على حقائقها، ومن ثمّ رأى العملَ الذي يقومُ بهِ لا يساوي شيئًا بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، وبالنسبة إلى العملِ نفسِه، ثم بعد ذلك، يحاول انتزاعَ هذه الشهوة من نفسه المؤمنة الحيرى.
لكنّ التوفيق لا يُوكِبُهُ إلّا إذا باشرَ بإبعادِ نفسِه عنْ فلكِ الشيء المشتهى، ليرهنَ، أمامَ الله وأمامَ نفسه، أنّهُ مؤمنٌ حقًّا، أو أنّ الله سبحانه بلطفه يُميت هذه الشهوةَ في النفسِ، أوْ يُعطّلُها بمرض أو غيره، أوْ يبعد الله هذا المشتهى فيكونُ، بذلك، الفضل لله وحده. قال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} (النساء: 28).
وقال سبحانه: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت: 2 ـــــــ 3).
الاستمرار في المعصية استسلام للشيطان
أَنَا لا ألوم الذينَ يُذنِبونَ، لكنني ألُوم الذين يُصرّونَ على ذنُوبِهمْ ولا يتوبُونَ إلى بارِئهمْ. ولا ألُوم الذينَ يُكرّرونَ الذنْبَ بِدَافع ضَعْفِهِم المُركّب، وجِبِلَّتِهم التي جَبَلَهُم الله عليها، لكنّي ألُوم الذينَ لَا يُحاولُونَ أن يتخلّصوا منْ هذه الآثام بعدَ معرفَتِهمْ لها وخوْفِهِمْ مِنَ الله في نهايتها، ومُشاهدَة مُراقبة الله لأعمالهم. والسؤال الذي ينبغي أنْ يُطرح: كَيْفَ تكون المحاولة بعدَ ما وَقَعَ الإنسان في شَرَك الشّيطان، وأصبَحَ هذا العمل لديه عادةً امتزجَتْ بدمه وحياته اليوميّة أو الأسبوعية؟! والجوابُ: المنْقِذُ هو الله سُبحانَهُ وتعالى. فعليكَ أنْ تدعوَه خَوْفًا وتضرّعًا لأنَّهُ هوَ الملجأ الوحيدُ، وعليكَ أنْ تَستعمِلَ الإمكانيّات التي وهبَكَ الله إيّاها، ومكّنكَ مِنْها، وستتغَلَّبُ بعدها بحول الله وقوّته، على قَطْع الشراك التي نَصَبَها لكَ الشيطان وأقامَها بمعونة المغريات التي مكّنه الله منها. وسَيَثْبُت إخْلاصكَ لله عزّ وجلّ ولنفسِك أيضًا. وإيّاكَ أنْ تَيْأَس من روح الله، وترْتَميَ نهائيًّا في أحضان الشّيطان لأن الرجْعَة تكون صَعْبةً عليك. {ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا} (النساء: 38).
{الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم} (البقرة: 268).
10 ـــــــ انتهاء الأجل:
هو السبب الوحيد للموت
يظن كثيرٌ من الناس أن الموت وإن كان واحدًا فإن أسبابه متعددة، ويقولون: تنوعت الأسباب والموتُ واحد. ويرَون أن الموتَ قد يكون من مرض مميت كالطاعون مثلًا، وقد يكون من طعن سكِّين أو ضرب رصاص أو حرق بالنار أو قطع رأس أو غير ذلك، فهذه كلها عندهم أسباب مباشرة تؤدي إلى الموت، أي يحصل الموت بسببها. ومن أجل ذلك يعلنون أن هذه الأشياء سببُ الموت. وبناء على هذا فإن الموت يحصل إذا حصلت هذه الأشياء، ثم لا يحصل إذا لم تحصل، فيكون الموت عندهم بوجود هذه الأسباب لا بانتهاء الأجل، ويكون المميت هو هذه الأسباب وليس الله تعالى، وإن قالوا بألسنتهم: إن المـُـحيي والمميت هو الله تعالى.
والحقيقة هي أن الموت واحد، وأن سببَه واحد أيضًا، وهو انتهاء الأجل، وأن المـُـميت هو الله تعالى وحدَه، وأن المباشر لإيجاد الموت هو الله سبحانه وتعالى. وذلك أن الشيء حتى يصح أن يكون سببًا لا بد من أن يُنتج المسبَّب حتمًا، وان المسبَّب لا يمكن أن ينتج إلا من سببه وحدَه. وهذا بخلاف الحالة فإنها ظرف خاص بملابسات خاصة يحصل فيها الشيء عادة لكنه قد يتخلف ولا يحصل. فمثلًا: الحياة سبب للحركة في الحيوان فإذا وجدت الحياة فيه وجدت الحركة منه، وإذا عُدِمت الحياة فيه عُدمت الحركة منه. ومثلًا: الطاقة سبب لِدوَران المحرِّك "الموتور" فإذا وجدت الطاقة تحرَّك المحرِّك وإذا لم توجد الطاقة لا توجد الحركة. وهذا بخلاف المطر بالنسبة إلى إنبات الزرع فإنه حالة من الحالات التي يَنبت بها الزرع وليس سببًا، وذلك أن المطر يُنبت الزرع، ولكن قد ينزل المطر ولا يَنبت الزرع، وقد يَنبت الزرع من رطوبة الأرض وحدَها، كالزَّرع الصيفي ينبت من دون نزول المطر. وكذلك مرض الطاعون وضرب الرصاص وغير ذلك قد توجد ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت من غير أن يوجد أي شيء من هذه الأشياء التي يحصل فيها الموت عادة. والمتتبع لكثير من الأشياء التي يحصل فيها الموت، والمتتبع للموت نفسه، يتأكد من ذلك واقعيًّا فيجد أنه قد تحصل هذه الأشياء التي يحصل منها الموت عادة ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت من دون حصول هذه الأشياء: فمثلًا: قد يطعن شخصٌ شخصًا طعنة قاتلة ويُجمِع الأطباء على أنها قاتلة ثم لا يموت فيها المضروب، بل يُشْفَى ويُعافى منها، وقد يحصل الموت من دون سبب ظاهر كأن يقف قلب إنسان فجأة فيموت في الحال من دون أن يتبيَّن نوع الحالة التي يحصل فيها وقوف القلب لجميع الأطباء حتى بعد الفحص الدقيق.
والحوادث الدّالة على ذلك كثيرة يعرفها الأطباء، وقد شهدت المستشفيات في العالم الآلاف منها. فقد يحصل شيء يؤدي إلى الموت عادة جزمًا ثم لا يموت الشخص، وقد يحصل موت فجأة من دون أن يظهر أي سبب أدَّى إليه. وفي بعض الحالات ربما يقول الأطباء جميعًا: إن هذا المريض لا فائدة من معالجته بحسب تعاليم الطب، لكنه قد يُعافَى ويكون ذلك فوق عِلْمنا. وربما يقولون كذلك: إن فلانًا أصبح معافَى وقد تجاوز دور الخطر، ثم ينتكس فجأة فيموت. وهذا كلُّه واقعٌ مشاهدٌ محسوسٌ من الناس ومن الأطباء، وهو يدل دلالةً واضحةً على أن هذه الأشياء التي حصل منها الموت ليست أسبابًا له. إذ لو كانت أسبابًا له لما تخلَّف ولما حصل بغيرها، أي لما حصل بغير محسوس. فمجرَّد تخلُّفها ولو مرةً واحدةً، ومجرَّد حصول الموت من دونها ولو مرةً واحدةً، يدل قطعًا على أنها ليست أسبابًا للموت، بل حالات يحصل فيها الموت. وسبب الموت الحقيقي الذي ينتج المسبّب هو غيرها وليست هي.
نعم قد يقال: إن هذه الأشياء التي تحصل ويحصل منها الموت عادة هي حالات وليست أسبابًا، لأنها قد تتخلف، لكن هنالك أسبابًا مشاهدة محسوسة يحصل منها الموت قطعًا ولا يتخلف فتكون هي سبب الموت. فمثلًا قطع الرقبة، أي إزالة الرأس عن الجسد، فإن الموت يحصل منها قطعًا ولا يتخلف، ووقوف القلب يحصل منه الموت قطعًا ولا يتخلف، فهذه الحالة وأمثالها من إزالة أعضاء جسم الإنسان مما يحصل منه الموت قطعًا هي سبب الموت.
ونقول ردًّا على ذلك: إن ضرب الرقبة بالسيف حالة من حالات الموت وليست سببًا للموت، وإن طعنة القلب بالسكين حالة من حالات الموت وليست سببًا للموت وهكذا... فقطع الرقبة وإزالة الرأس عن الجسم لا يحصل من ذاته أي من الرقبة ذاتها ولا من الرأس ذاته، بل إذا حصل فإنه لا يحصل إلا بمؤثّرٍ خارجي، وإذًا فلا يصلح حينئذٍ أن يكون قطع الرقبة سببًا لأن الذي فعل القطع هو مظنَّة السبب وليس القطع ذاته. وكذلك وقوف القلب لا يحصل من ذاته بل لا بد من مؤثِّرٍ خارجٍ عنه، وإذًا فلا يصلح حينئذٍ أن يكون وقوف القلب سببًا، بل الذي سبَّب توقيف القلب هو مظنَّة سبب الموت وليس وقوف القلب ذاته، لأنه لا يحصل من ذاته بل بمؤثِّرٍ خارجيٍّ. وعلى ذلك فلا يمكن لقطع الرقبة ذاته، أو لوقوف القلب ذاته، أن يكونا سببًا للموت مطلقًا، فلم يبق مظنَّة السبب للموت إلا المؤثِّر الخارجي.
وفضلًا عن ذلك فإن الله خلق للأشياء خاصيَّات فإذا عُدِمت الخاصيَّة زال أثرُها. فمثلًا خلَق سبحانه في العين الرؤية، وخلق في الأذن السمع، وخلق في الأعصاب الحس، وخلق في النار الإحراق، وخلق في الليمون الحموضة. وهكذا، فالخاصية للشيء نتيجة طبيعية لوجوده وهي بمنزلة صفة من صفاته. فالماء من صفاته الطبيعية الميوعة، ومن خاصياته الإرواء. والمحرِّك "الموتور" من صفاته الطبيعيَّة الحركة، ومن خاصياته الحرارة. والقلب من صفاته الطبيعية النبض، ومن خاصياته الحياة. وهكذا فالإرواء، والحرارة، والحياة، صفات من صفات الشيء الطبيعيَّة مع كونها خاصيّة من خواصِّه. فلا يكون وجود الخاصيَّة في الشيء هو سبب العمل الذي هو أثرٌ لها، ولا يكون حينئذٍ انعدام الخاصيَّة سببًا لانعدام العمل الذي هو أثرٌ لها. فإن وجود خاصية الإحراق في النار ليس كافيًا لإيجاد الإحراق، ولا يصلح أن يكون سببًا لإيجاد الإحراق، ويكون حينئذٍ انعدام خاصية الإحراق من النَّار ليس سببًا لعدم الإحراق. وكذلك ليس وجود خاصية الحياة في القلب كافيًا لإيجاد الحياة فلا يصلح، إذًا، أن يكون سببًا للحياة. وإذا كان وجود خاصية الحياة ليس سببًا لإيجاد الحياة فيكون حينئذٍ انعدام خاصية الحياة من القلب ليس سببًا لانعدام الحياة. وعلى ذلك لا يقال إن ذهاب الشيء سبب لذهاب خاصيّاته، بل الذي يكون سببًا لذهاب خاصيَّة الشيء هو أمر خارج عن الشيء ذاته يذهب خاصيته ويبقي الشيء ذاته من دون خاصيته، أو يذهب الشيء ذاته فيذهب معه خاصيته. ويكون الشيء الذي أذهب الخاصية أو أذهب الشيء وأذهب معه خاصيتَهُ هو سبب ذهاب الخاصيَّة، وليس الشيء بذاته سببًا لذهاب خاصيته. وعليه فإنه من هذه الجهة أيضًا أي من جهة كون الحياة خاصيةً من خواص وجود الرأس على الجسم، وخاصيةً من خواص نبض القلب، لا يقال إن إزالة الرأس عن الرقبة سبب الموت ووقوف القلب سبب الموت، بل مظنة السبب هو الذي أزال الخاصيّة من الرقبة بقطعها ومن القلب بوقوفه، وليس هو قطع الرقبة ووقوف القلب وعلى ذلك لا يكون سبب الموت الحقيقي هو إتلاف العضو، أي قطع الرقبة ووقوف القلب، لأنه يستحيل أن يحصل أي إتلاف للعضو إلا بمؤثِّرٍ خارجي، ولأن الحياة خاصية من خواصه ــــــ أي العضو ـــــــ فذهابه لا يكون منه وإنما بمؤثِّرٍ خارجي، أزالها ـــــــ أي الخاصية ـــــــ أو أزاله وأزالها معه. وكذلك لا يكون سبب الموت هو المؤثِّر الخارجي لأنه ثبت عقلًا وواقعًا أنه قد يحصل المؤثِّر الخارجي ولا يحصل الموت وقد يحصل الموت من دون أن يحصل هذا المؤثِّر الخارجي، والسبب لا بد من أن ينتج المسبَّب حتمًا. فلم يبقَ إلا أن سبب الموت الحقيقي الذي ينتج المسبَّب حتمًا ـــــــ وهو الموت ـــــــ هو غير هذه الأشياء.
وهذا السبب الحقيقي لم يستطع العقل أن يهتديَ إليه لأنه لا يقع تحت الحس، فلا بد من أن يخبرنا به الله تعالى وأن يثبت السبب الحقيقي للموت بدليل قطعي الدلالة، قطعي الثبوت حتى نؤمن به، لأن ذلك من العقائد التي لا تثبت إلا بالدليل القطعي. وقد أخبرنا الله تعالى في آيات متعددة بأن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وأنه جلَّ وعلا هو الذي يميت لا غيرُه. فالموت يحصل حتمًا بالأجل ولا يتخلَّف مطلقًا فكان الأجل سبب الموت لا غيره. والذي يُميت هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يباشر فعل الموت بدليل ورود ذلك في آيات متعددة كمثل قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} (آل عمران: 145) أي: إنه كتبَ الموت كتابًا مؤقتًا إلى أجل معلوم لا يتقدَّم ولا يتأخَّر. وقال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (الزمر: 42) أي: إنه يُميت الأنفس حين يكون قد قضى بموتها، فهو الذي يسلب ما كانت حيَّةً به. وقال تعالى: {ربي الذي يحيي ويميت} (البقرة: 258) أي: هو الذي يباشر خلق الحياة وإيجادها، وهو الذي يباشر فِعْلَ الموت وإيقاعَهُ. وقال تعالى: {والله يحيي ويميت} (آل عمران: 156)، قال ذلك سبحانه ردًّا لقول الذين كفروا، والآية الكريمة بكاملها هي: {يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض او كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير} (آل عمران: 156) أي: إن الأمر بيد الله قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد، يفعل ما يشاء. وقال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء: 78)، أيْ: في أيِّ مكانٍ تكونون فإنَّ الموت يأتيكم ويصل إليكم ولو كنتم في حصون حصينةٍ. وقال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة: 11). وهذا جواب للكفار أيضًا، فالله جلَّ وعلا يقول: إنهم راجعون إلى ربهم فسوف يُميتهم إذ يرسل لهم ملك الموت ليتوفّاهم، والآية هي: {وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أءنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون، قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} (السجدة: 10 ـــــــ 11) أي: يأخذ أنفسكم إليه، فالتوفي هو تَلَقِّي الروح من لدن بارئها. وقال تعالى: {قل إن الموت الذي تفرون منه فأنه ملاقيكم} (الجمعة: 8) أي: إن الموت الذي تهربون منه، ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تُؤْخَذُوا بوبال كفركم، لا تفوتونه، وهو ملاقيكم لا محالة. وقال تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) أي: إذا حَلَّ الأجلُ الذي قدَّره لهم لا يتأخرون عنه أقل وقتٍ مُمْكِن. وقال تعالى: {نحن قدرنا بينكم الموت} (الواقعة: 60) أي: نحن قضينا وقدّرنا بينكم الموت تقديرًا، وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتُنا، فاختلفتْ أعمارُكم بين عمر قصيرٍ وعمرٍ طويلٍ أو عمرٍ متوسط.
فهذه الآيات وغيرها مما هو قطعيُّ الثبوت، قطعيُّ الدلالة، تدل دلالةٌ لا تحتمل غير معنى واحد هو أن الله سبحانه هو الذي يُحيي ويُميت بالفعل من دون وجود أسباب ومسبِّبات، وأن الإنسان لا يموت إلا بانتهاء أجَلِهِ، وليس من الحالة التي حصلت وظن أنها سبب الموت. فيكون سبب الموت انتهاء الأجل فحسب، وليس الحالة التي حصل فيها الموت. ولا يقال إن إسناد الموت إلى الله باعتبار الخَلْق، أما المباشرة فهي من الإنسان أو من الأسباب التي نجم عنها الموت، كقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (الأنفال: 17)، وكقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} (الأنعام: 125)، وقوله تعالى: {فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} (إبراهيم: 4)... لا يقال ذلك لأن هناك قرائن تصرف مباشرة الفعل عن الله تعالى إلى الإنسان، وتجعل المعنى أن الله خلق الرَّمي، وخلق شَرْحَ الصَّدر، وخلق ضِيق الصدر، وخلق الضَّلال، وخلق الهداية، لكن الذي يباشر ذلك فعلًا ليس الله وإنما هو الإنسان. وهذه القرائن عقلية وشرعية لأن قوله "رَمَيْتَ" معناه حصل الرَّمي من الرسول، ولأن معاقبته على الضَّلال وإثابته على الهدى يدل على وجود الاختيار من الإنسان، يختار الإسلام أو يختار الكفر، مما يدل على أن المباشرَ للفعل هو الإنسان. ولو كان المباشرُ هو الله لما أثابه ولا عذَّبه. وأيضًا فإن الأمر المحسوس المعقول أن الرسول هو الذي كان يرمي، وأن الإنسان هو الذي يهتدي باستعمال عقله استعمالًا صحيحًا، وهو الذي يَضِلُّ بعدم استعمال عقله أو باستعماله استعمالًا غير مستقيم. كل ذلك بخلاف الموت فإنه لم تَرِدْ أي قرينةٍ تدل على أن مباشرة الموت من غير الله، وأنه حصل بغير إنهاء الأجل، بل على العكس، قد ثبت أنه لا يوجد سبب محسوس للموت، ولا يوجد نصٌّ يصرف الآيات عن معناها الصريح، ولا قرية تدل على أن المباشر للموت غير الله، فتبقى الآيات على المعنى الذي وردت به صراحة بحسب مدلول اللغة والشرع، وهو أن الآمِرَ المباشِرَ للموت هو الله تعالى.
ومن ذلك كله يتبيَّن أن الدليل العقلي يقطع بأن الأشياء التي يحصل فيها الموت عادةً هي حالات وليست أسبابًا، وأن السبب الحقيقيَّ هو غيرها مما لا يقع تحت الحس، وثبت بالدليل الشرعي أن هذه الأشياء التي يحصل منها الموت ليست هي التي توجِد الموت، ولا هي كانت أسبابًا للموت. وقد دلت الآيات القطعية على أن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وأن المـُـميت هو الله سبحانه وتعالى.
11 ـــــــ الرزق بيد الله سبحانه:
الرزق غير الملكية، لأن الرزق هو العطاء، فرَزقَ معناها: أعطى، وأما الملكية فهي حيازة الشيء عن طريق شرعي. ويكون الرزق حلالًا ويكون حرامًا، وكله يقال عنه رزق، فالمال الذي يأخذه المقامر من غيره في لعب القمار رِزْق، لأنه مال أعطاه الله إياه حين باشر حالة من الحالات التي يحصل فيها الرزق.
وقد غلب على الناس الظن بأنهم هم الذين يجلبون الرزق لأنفسهم، وهم يعدّون الأوضاع التي يحوزون فيها الثروة أسبابًا للرزق، وإن كانوا يقولون بألسنتهم إن الله هو الرزَّاق الكريم. فإنهم يرَون أن الموظف الذي يأخذ راتبًا معيَّنًا بكدِّه وجهده هو الذي رزق نفسه، وأنه حين يبذل مجهودًا منه أو يسعى بوسائل متعددة لزيادة راتبه هو الذي رزق نفسه هذه الزيادة، والتاجر الذي يربح مالًا بسعيه في التجارة هو الذي رزق نفسه، والطبيب الذي يعالج المرضى هو الذي رزق نفسه، وهكذا يرونَ أن كل شخص يباشر عملًا يكسب منه مالًا هو الذي رزق نفسه، فأسباب الرزق عند هؤلاء محسوسةٌ ملموسةٌ، وهي الأوضاع التي تؤدِّي إلى كسب المال. والذي يقوم بهذه الأوضاع هو الذي يُرزق هذا المال سواء أكان المرزوق نفسه أم غيره. وإنما جاء هذا القول للناس من كونهم لم يميّزوا بين السبب والحالة. والحقيقة أن هذه الأوضاع التي يأتي فيها الرزق هي حالات حصل فيها الرزق وليست أسبابًا للرزق، ولو كانت أسبابًا لما تخلّفت مطلقًا، مع أن المشاهَد حِسًّا أنها تتخلف. فقد تحصل هذه الحالات ولا يأتي الرزق، وقد يحصل الرزق من دون حصولها. فلو كانت أسبابًا لنجم عنها المسبَّب حتمًا، وهو الرزق، وبما أنه لا ينجم عنها حتمًا وإنما قد يأتي حين تكون، وقد يتخلف مع وجودها، فإن ذلك يدلّ على أنها ليست أسبابًا وإنما هي حالات. قد يشتغل الموظف طول الشهر ثم يُحْجَز قسمٌ من معاشه لسداد دين سابق، أو للإنفاق على من وجب عليه نفقته، أو لتسديد ضرائب للدولة، فيكون في هذه الحالة حصل الوضع الذي يأتي بالرزق، وهو عمل الموظف، ولكن هذا الرزق سُدِّد أو أُنفق من دون أن ينتفع به هو شخصيًّا. وقد يكون شخص في بيروت قاعدًا في بيته فيأتيه ساعي البريد برسالة مكتوب فيها بأنَّ قريبه فلانًا في أميركا قد مات، وأنه هو وارثُه الوحيد، وأن أمواله قد آلت إليه، فهذا رزق قد جاءه وهو لا يَعلمه. وقد يقوم شخصٌ بشراء كمية من السِّلع فَيرتفع ثمنها ارتفاعًا كبيرًا فيربح مالًا وفيرًا. فالأول رُزِق رزقًا جاءه ولم يَسْعَ هو إليه، والثاني نال رزقًا قد سعى هو إليه. وفي هذا الصدد قال علي بن أبي طالب عليه السلام: "الرزق رزقان: رزقٌ تَطلبُه ورزقٌ يَطلُبك".
وبناءً على هذا فلو كانت الأوضاع التي تحصل من الإنسان سببًا للرزق لما تخلَّفت، ولما جاء الرزق إلا إذا وجدت، لكن المشاهَد المحسوس أنها تتخلَّف. فهذا يدل على أنها حالات وليست أسبابًا. والحوادث التي يحصل فيها الرزق من دون سبب ظاهر أكثر من أن تحصى. فحوادث الأكل والسفر وترك الطعام المهيَّأ للأكل، وغير ذلك، كلُّها تدل على أن الأوضاع التي يحصل فيها الرزق عادةً هي حالات للرزق وليست أسبابًا.
وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن اعتبار الحالات التي يأتي الرزق بوساطتها، حين توجد، أسبابًا للرزق، ولا الشخص الذي قام بها هو الذي أتى بالرزق، لأن ذلك يتعارض مع نص القرآن القطعي الثبوت، القطعي الدلالة، وإذا تعارض أي شيء مع نص قطعيِّ الدلالة، قطعيِّ الثبوت، يتعين الأخذ بالنص القطعي من دون أي تردُّد، ويُرفض ماعداه رفضًا باتًّا، لأن ما ثبت بالدليل القطعيِّ أنه من الله تعالى يجب أن يؤخذ به ويُترك غيره. ولذلك فإن الحقيقة التي يجب على المسلم أن يُسلِّم بها هي أن الرزق من الله وليس من الإنسان. وقد وردت الآيات الكثيرة التي تدل على ذلك بصراحة لا تقبل التأويل، وصرَّحت بأن الرِّزق من الله تعالى وحده، وليس من الإنسان. وهذا ما يجعلنا نجزم بأن ما نشاهده من وسائل وأساليب يأتي فيها الرزق إنما هي حالات يحصل أن يأتي الرزق بوساطتها، أو يحصل العكس، فالله تعالى يقول: {الذي خلقكم ثم رزقكم} (الروم: 40). ويقول سبحانه: {إن الله يرزق من يشاء} (آل عمران: 37). ويقول تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء} (الرعد: 26). ويقول تعالى أيضًا: {فابتغوا عند الله الرزق} (العنكبوت: 17). ويقول تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود: 6). ويقول تعالى: {إن الله هو الرزاق} (الذاريات: 58). هذه الآيات وغيرها كثير، قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، ولا تحتمل إلا معنًى واحدًا لا يقبل التأويل وهو أن الرزق من عند الله وحدَه لا من غيره، وأن الله وحدَه هو الرزاق الكريم، وأنَّ الرزق بيد الله تعالى وحده.
إلا إن الله سبحانه أمر عباده بالقيام بأعمال، وجعل فيهم القدرة على الاختيار بأن يباشروا فيها الحالات التي يأتي فيها الرزق باختيارهم، لكنّ هذه الحالات ليست هي سبب الرزق، وليسوا هم الذين يأتون بالرزق، كما هو صريح نص الآيات، بل الله تعالى هو الذي يرزقهم في هذه الحالات، بغضِّ النظر عن كون الرزق حلالًا أو حرامًا، وبغضِّ النظر عن كون هذه الحالات قد أوجبها الله أو حرَّمها أو أباحها، وبغضِّ النظر عن كونها قد حصل فيها الرزق أو لم يحصل.
غير أن الإسلام قد بيَّن الكيفية التي يجوز للمسلم أن يباشر فيها الحالة التي يحصل فيها الرزق، والكيفية التي لا يجوز أن يباشر فيها الحالة التي يحصل فيها الرزق. لقد بيَّن الإسلام أسباب التملك لا أسباب الرزق، وحصر الملكية بهذه الأسباب، فليس لأحد أن يملك الرزق إلا بسبب شرعي، لأنه هو الرزق الحلال وما عداه فهو رزق حرام، وإن كان الرزق كله من الله سبحانه وتعالى.
بقيت مسألة واحدة وهي: هل رزق الشخص هو كل ما يحوزه وإن لم ينتفع به، أم أن رزقه هو الذي ينتفع به فقط؟ والجواب عن ذلك أن آيات القرآن تدل على أن رزق الإنسان هو كل ما حازه سواء انتفع به أو لم ينتفع به.
قال الله تعالى: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (الحج: 34). وقال تعالى: {يبسط الرزق لمن يشاء} (الرعد: 26). وقال تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} (الطلاق: 7). وقال تعالى: {أنفقوا مما رزقكم} (يس: 47). وقال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} (البقرة: 57). وقال تعالى: {وارزقوهم فيها واكسوهم} (النساء: 5). وقال تعالى أيضًا: {وارزق أهله من الثمرات} (البقرة: 126). وقال سبحانه: {كلوا واشربوا من رزق الله} (البقرة: 60). إن هذه الآيات صريحة في إطلاق اسم الرزق على كل ما حازه الإنسان، وهو بالطبع يُطْلَقُ على كل ما انتفعَ به، فلا يخصص الرزق فيما انتفعَ به فقط، لأن الآيات عامَّةٌ ودلالتها عامة. ولا يقال حين يأخذ أحد منك مالَك سرقةً أو غصبًا أو اختلاسًا إنه أخذ منك رزقك، بل يقال إنه أخذ رزقه منك، أو بعبارة أخرى اختلس أو سرق ما تملك أنت. فالإنسان حين يحوز المال قد أخذ رزقه، وحين يؤخذ منه المال لا يكون قد أُخِذَ رِزْقُه بل يكون مَنْ حاز المال قد أخَذ رزقَه منه، فلا يأخذ أحدٌ رِزْق أحدٍ، وإنما يأخذ الشخص رزقَه هو من غيره.
12 ـــــــ فهم الصحابة للقضاء والقدر:
إن فهم مسألة القضاء والقدر ليست بالأمر العسير على العاقل المتبصر، لأن النصوص من الكتاب والسنّة واضحة الدلالة على وجه الحق فيها، لكن الذين جادلوا في ذلك هم فئات من أهل الرأي والهوى المتَّبَع، قاسوا الأمور كما يتوهمون، فجاءت النتائج لديهم غير مطابقة للواقع.
إن الإيمان بالقضاء والقدر مبني في الأساس على الإيمان بأن الله على كل شيء قدير، وأنه تعالى أحاط بكل شيء علمًا. فبمقدار ما يكون هذا الإيمان قويًّا وصحيحًا يكون فهم القضاء والقدر كذلك.
والصحابة رضوان الله عليهم تلقوا العلم والإيمان من مصدره الأول سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا أقوى الخلق إيمانًا، وأرسخهم عقيدة، وأفهمهم لما جاء به النبي الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ذلك ما بلغنا عن نفر منهم من أقوال في القضاء والقدر تدل على دقة الفهم وسلامته وعمقه، وقوة الإيمان ورسوخه.
وها نحن نورد قصتين كمثل لما ذكرنا:
القصة الأولى: ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في القدر. فقد أخر البخاري ومالك في الموطأ عن ابن عباس، رضي الله عنه، أن عمر عندما خرج إلى الشام، في إحدى المرات، لقيه قرب تبوك أمراء الأجناد أبو عبيدة وأصحابه، فأخبروه أن مرض الطاعون وقع في الشام. فاستدعى عمر المهاجرين الأولين واستشارهم في أمر هذا الوباء، فاختلفوا، وقال بعضهم: معك بقية الناس، وأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. وقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. فقال عمر: ارتفعوا عني. ثم استدعى الأنصار فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. ثم استدعى من كان معه من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فلم يتخلف منهم أحد، فاستشارهم، فقالوا جميعًا: نرى أن ترجع الناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظَهْرٍ فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله؟ قال عمر: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! ـــــــ أي: لأدبته ـــــــ نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل هبطت واديًا له عُدوتان ـــــــ أي: له جانبان ـــــــ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟" فجاء عبد الرحمان بن عوف، وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا، فرارًا منه" فحمد الله عمر ثم انصرف.
وهذه القصة غنية عن التعقيب والبيان.
أما القصة الثانية فهي قول بليغ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، قاله لشيخ أقبل عليه بعد انصرافه من صفِّين يسأله.
قال الشيخ: أخبرني عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟.
قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النَّسمة ما وطئنا موطئًا، ولا هبطنا واديًا، ولا علونا تلعةً، ـــــــ أي: مرتفعًا من الأرض ـــــــ إلا بقضاء الله وقدره.
قال الشيخ: عند الله أحتسب خُطاي، ما أرى لي من الأمر شيئًا.
قال علي: مَهْ أيها الشيخ! عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين.
قال الشيخ: فكيف ساقنا القضاء والقدر؟...
قال علي: ويحك!!! لعلك ظننت قضاء لازمًا وقدرًا حتمًا ـــــــ أي: جبرًا ـــــــ لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولم تأت لائمة لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالمدح من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان، وشهود الزور، وأهل العمى عن الصواب. إن الله أمر تخييرًا، ونهى تحذيرًا، وكلف يسيرًا، ولم يُعْصَ مغلوبًا، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} (ص: 27).
فهل بعد هذا البيان من بيان؟ فتأمله أيها القارئ، وأعد قراءته وتأمَّلَه مرة تلو أخرى، فإنك واجد فيه ما ينشرح له صدرك، ويطمئن به قلبك. والحمد لله رب العالمين.
المعلوم من الدين بالضرورة
هذا العنوان باب مهم وخطير الشأن يدخل في أبواب العقيدة من حيث وجوب التصديق به، لذلك رأينا إثباته في آخر مباحث الإيمان، ونحن نسير في طريق الإيمان، فنقول:
المقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة، أو بما علم من الدين بالضرورة، تلك الأحكام الشرعية التي اشتهرت بحيث يعرفها المسلمون جميعًا، يستوي في ذلك العلماء والعامة، من دون توقف على تفكر أو تأمل، وذلك كوجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، وكحرمة الزنى وشرب الخمر، فإن هذه الأمور وأمثالها معلومة لدى جميع المسلمين، ولا يجهلها أحد منهم. فلو سئل أي مسلم عن الصلاة مثلًا لقال: هي فريضة واجبة، ولو سئل عن شرب الخمر لقال: شربها حرام، وهكذا... لذلك فمن أنكر حكمًا شرعيًّا من هذه الأحكام فقد خرج على الإسلام، ويطبق عليه حكم المرتد والعياذ بالله تعالى.
أما ما خفي من الأحكام على العامة مثل هل يجوز الإيصاء بالزواج؟ فلو أَنْكَرَ أحدهم معرفته لهذا الحكم الشرعي فلا يكون إنكاره كفرًا لأنه ليس من المعلوم من الدين بالضرورة.
ولا يدخل في هذا الباب الأحكام الفقهية الاجتهادية المختلف فيها بين الفقهاء، كاختلافهم في بعض أسباب نقض الوضوء مثلًا، أو في بعض مفطرات الصائم، فمن رد وأنكر ما يخالف مذهبه في مثل هذه المسائل فلا شيء فيه.
وملخص القول في هذا الباب: أنه يجب على المكلف الإيمانُ بمشروعية ما أوجبه الله وشرعه من الأحكام، وبحرمة ما حرمه من المحرمات، فيؤمن بوجوب النطق بالشهادتين لدخول الإسلام، وبالصلاة والزكاة والصيام والحج وأمثالها، ويعتقد جازمًا بتحريم شرب الخمر والزنى وأكل لحم الخنزير والنظر إلى عورة المرأة الأجنبية التي لا خلاف فيها، وأمثال ذلك.
الحلول الصحيحة
إنّ المشاكلَ المتنوّعة التي تقعُ على الإنسان، تحتاجُ إمّا إلى حلّ مادّي أو فكريّ. والحلولُ لنْ تكون حلولًا صحيحةً، إلّا إذا كانَ هناكَ اقتناعٌ يقينيّ بصلاحيّتها.
وإنّني لأرى أنّ أفضلَ الحلول هو قراءةُ القرآن الكريم. وربّ معترض على ذلك يقولُ: لقدْ قرأتُ القرآن كلّهُ ولمْ أجد حلًّا. فالجوابُ عن ذلك: أنه فاتَتْكَ الآيات التي تتضمّن الحلولَ، وبعدَ فواتها، اصطدمتَ بالمشكلة، فأكملت القرآن ولم تعثرْ على الآيات التي تحلّ هذه المشكلة. كرّرْ مراجعة القرآن ثانيًا وثالثًا، وتمَعّنْ في المشكلة، وبمعاني الآيات، وما تهدف إليه، فسوف تنتهي بحلول مُقْنِعَةٍ لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد: 24)، وقوله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء: 9).
وأخيرًا فإننا فهمنا من مضمون القرآن الكريم المرسل من عند الله سبحانه وتعالى، أنه يجب علينا أن نقوم بالتعاليم التي أنزلها الله، وأن نكيِّف أعمالَنا وظروفَنا ونسيِّر أنفسنا على خطَّة معيَّنة رسمها الرسول الذي أنزل عليه. لقد بيّنا عن طريق الفكر المستنير طريق الإيمان الصحيح، وأصبحنا نعتقد اعتقادًا جازمًا لا يعتريه شك ولا ريبٌ، بأن الله خلقنا، وأنه أرسل رسولًا للناس كافة وأمرهم باتباعه وطاعته، ثم دعاهم للتسليم بأحكامه تسليمًا كليًّا، فإن نفذوا أوامره ونواهِيَه كان المصير إلى جنة أعدّها للمطيعين، وإن خالفوه وابتعدوا عن سبيله كان المصير إلى نار أَعَدَّها للمستكبرين.
وأما ما يتعلق بجميع المفاهيم والأفكار التي يحملها الآخرون فنلاحظ أن الدعاة في العالم اليوم فريقان فِكريًّا وعمليًّا: دعاة الديمقراطية، ودعاة الاشتراكية الشيوعية. فدعاة الديمقراطية الرأسمالية لهم نظرة في أسباب وجودهم، والغاية منه، والمصير الذي سينتهون إليه، ودعاة الاشتراكية الشيوعية لهم نظرة تختلف كل الاختلاف عن النظرة الديمقراطية، فعلينا إذًا أن نعرف كل نظرة على حدة. ولقد وضعنا شرحًا موجزًا عن القاعدة التي قام عليها كل من الإسلام والديمقراطية والاشتراكية، وكيف نشأ كل مبدأ؟ وعلى أي أساس يقوم؟ وما نظرته إلى الحياة.
هذا ما تجده أيها القارئ الكريم في كتاب "الإسلام وأيديولوجية الإنسان" الذي أثبتنا فيه عمليًّا مختلف تلك النظريات المنبثقة عن المبدأ الاشتراكي والمبدأ الديمقراطي الرأسمالي وتعارضها مع الإسلام، فعسى أن نقرأها، لتكون إن شاء الله على بيّنة من الأمر، وتختار الطريق الصحيح في حياتك.


المصادر
5 الأبيقوري: هو المنسوب إلى أبيقورس الذي يقوم مذهبه على إسعاد الذات بلذة معنوية يكون الإنسان حاذقًا في اختيارها عارفًا في دقائق قيمها، إذًا، الإنسان هو الذي يختار.
6 سموا بالرواقيين لأن زينون الفيلسوف صاحب هذا المذهب كان يعلم تلاميذه في رواق. والرواقي يرى أن السعادة في الفضيلة وهو لا يفرح بشيء أتاه، ولا يحزن على شيء فقده، لأن الإنسان جزء من الكون، ويرى أن كل ما يقع في الطبيعة إنما هو بتأثير القدر أي بتأثير ما قدره العقل الكلي منذ الأزل، فإذًا هو مسير ولا دخل له في كل ما يجري له.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢