نبذة عن حياة الكاتب
الصوفية في نظر الاسلام

المقدمة
نحن والقارىء... وهذا الكتاب
إننا اليومَ نواجه تحدِّيات العصر واختلاطَ المفاهيم وفوضى المبادىء والنظريّات. وواجبُنا إمَّا الوقوف أمامها كمسلمين ينهضون بالدعوة على مستوى الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرسالة الكريمة السليمة، وإمَّا التقوقُع والاستكانةُ أمامَ مفاهيم سقيمةٍ ما فتئت تشوبها عبرَ العصور.
فمن أجل الإِسلام الصحيح الَّذي أنزلَه الله تعالى على رسولِه الكريم، ندعو المسلمين وغير المسلمين إلى قراءة هذا الكتاب بفكر وعمق، بعيداً عن الانفعالِ والتعصُّب، ليرَوا عدمَ تجنِّينا على الصوفية والمتصوِّفين، وليَلمسِوا أننا ناقشنا الفكرة بموضوعية وهدوءٍ من خلال القرآن العظيم والسُّنة الشريفة، بُغيةَ كشفِ الحقيقة ولمِّ الشَّمل على «كلمة الحق» التي تُعيدنا أمةً واحدةً كما أرادنا إسلامُنا، وكما أراد الله تعالى ورسولُه وصحابتُه الكرام.. ونحن لم نُنكر عمل بعض حَملة الصوفيَّة من المتزهِّدين الذين ذبُّوا عن الدِّين قديماً وحديثاً، ولكننا نحمل راية النَّكير على أصحاب الأفكار الملتوية من الذين أساؤوا فهم التزهُّد وفَهْمَنا، وانحرفوا عن جادَّة الحق ورمَونا بما لا يجوز للمسلم أن يرميَ به أخاه، مع أن الْبَون شاسعٌ بين ما هم عليه من أفكارٍ وعمل، وما هو عليه كتاب اللّه وسنَّة رسوله من رسمٍ وتشريع، لأنهم مَزجوا آراءهم بآيات قرآنيَّةٍ أوَّلوها، وبأحاديث نبويَّةٍ وضعوها، فتقبَّل ذلك الْبُسَطاءُ، ودخلَ ـــــــ بذلك ـــــــ في الدين ما ليس من الدِّين..
فيا أيُّها المسلمون، ما من أحدٍ منَّا مُعفىً من المسؤولية، والواجبُ على كل واحدٍ أن يرابط على ثغرٍ من ثغور الإِسلام فلا يُؤْتَيَنَّ من قِبَلِه، لأنَّ الأعداء لا يأتون من قِبَلِ الجنديِّ المرابط!. وبذلك نقف للآراء المنحرفة والأفكار المسمَّمة بالمرصاد من أيَّةِ جهةٍ صدَرتْ، ونحافظ على مصالح الأمَّة ورسالتها الخالدة، ونستعيد قوَّتنا ومِنْعَتنا، ونرجع إلى ارتقاء مركز الصَّدارة في عالَم التوجيه والعمل الحضاريِّ الذي فقدناه لمَّا تفرَّقنا وصرنا شِيَعاً، ثم تزول الْفُرقة بين الْفِرَق، وتتمُّ وحدةُ «الرأي» ووحدة «الهدف الخيّر».
وما كتابُنا هذا إلّا واضحٌ لأهم مذاهب الصوفيَّة والقائلين بها، ولجميع ما تفرَّع عنها. ولم نكن فيه مع هذا ولا ضدَّ ذاك، ولكنَّنا ناقشنا الصوفيِّين بمعيار الإِسلام النابع من الكتاب والسنة، وبَقينا ـــــــ إن شاء الله ـــــــ مع الإِسلام.. فنأمل من كل قارىءٍ كريمٍ يَعثرُ لنا على ما يظنُّه خطأً، أن يفكِّر ويتأمَّل ويزن الأمر بميزان الدِّين القويم، ثم ينبِّهنا إلى ما وجده عنده حقاً، لنشكرَه أَنْ هَدانا إلى ما يُرضي ربَّنا عزَّ وعلا، ونحن على استعدادٍ لتصحيح ما يمكن أن يكون قد فرَط منَّا، والعصمةُ لله وحدَه.











بسم اللَّه الرحمن الرحيم



{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} صدق الله العظيم [الأنعام: 153]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم
المقدمة
تاريخ الأمم وآثارها هما خيرُ الشواهد على حياتها ورسوخ أصولها في عمق الدهر، لأنهما يؤلِّفان تراثها الذي هو المقياس الدالُّ على مدى عراقتها ودرجات تقدُّمها ورقيِّها من جهة، أو الكاشفُ عن دركات انحطاطها وما تمرَّغت فيه من ضعفٍ وتخلُّفٍ من جهة ثانية، إذ تراث الأمم يعبِّر أصدق تعبيرٍ عن كل شأن من شؤونها الفردية والاجتماعية، ويبيِّن اهتمامها وعنايتها في التنشئة على صعيد الآحاد من أجل صُنع لَبِنَاتٍ صالحة لبناء أمة صالحة، وعلى صعيد الجماعات من أجل حفظ الكيان والاحتفاظ بالمركز السامي الذي تحتلُّه إن هي تدرَّجت في مراقي الحضارة، أو أنه ـــــــ على العكس ـــــــ يُنبىء عن فشلها إن هي عاشت في ظل الخمول والخنوع والمسكنة.. إذن فمّما لا يقبل الجدل، هو أن تراث الأمم مرآة حياتها التي تحدِّد هويتها، إذ تنعكس عليه صور نهضتها إن كانت ذات جهدٍ حضاريٍّ موضحاً خطواتها في مجال البناء والإنشاء، أو يُظهر وهنَها والخوَر الذي يدبُّ في أحشائها ويؤدِّي بها إلى الانحدار بعد السموِّ فيما لو أصيب بالتقهقر بعد التقدّم في فترةٍ من الفترات.
وبالمناسبة، يجب أن لا يغرب عن البال أن حياة الأمم لا تقاس بالشهور والأعوام، بل تُحسب بالقرون والأحقاب، لأن كلَّ دور من أدوار أعمار الأمم يَقصر ويطول بنسبة ما يَعرض لها من ضعفٍ أو قوَّة، وبحسب ما تكون حرةً سيدةً، أو مغلوبةً على أمرها، وبحسب ما تقدِّم من جهدٍ وكفاح، وما تبذل من عطاء وتضحيات في مراحل التغيير التي تتخطَّاها للنهوض بعد كبوتها وغفوَتها. وفي التواريخ التي بين أيدينا شواهد كثيرة على أن أُمماً كان لها سلطانها الواسع الذي يمتدُّ إلى جملة أقاليم في أنحاء المعمورة، وكان لها جيشها الذي يُرهب القاصي والداني، ومع ذلك انحدرت عن مكانتها وتقلَّص ظلُّها بعوامل مختلفةٍ توالت عليها، فقبعت في زوايا الإهمال حقبةً طويلةً قبل أن تعاود استئناف الترميم والنهوض، أو وقفتْ واستسلمت للخمول والاستكانة إذا ما عجزت عن ذلك وبين كلِّ مرحلة من هذه المراحل كانت تمضي أحقاب وأحقاب، لا أيامٌ وشهورٌ في معرض التقدير والحساب.
أمَّا عوامل الضعف التي تصيب كيان الأمة فعديدة ومتنوعة. ومنها ما هو داخلي كفساد الحاكم والسلطان، وفساد الرعية بفساد الراعي، أو كالركون إلى الدعة والانغماس في الترف والملذات، وترك العمل، والاعتماد على التواكل وما إلى ذلك من العوامل المعروفة؛ ومنها ما هو خارجي كأطماع العدوّ أو المستعمر في تقويض دعائم الأمم المستضعفة للسيطرة عليها، أو بحبْك المؤامرات لإضعافها، أو باعتماد سياسات ترمي إلى إحداث فتن تنخر في جسمها من أجل القضاء عليها، أو بغير ذلك من العوامل الكثيرة التي كانت وما تزال ـــــــ تلعب دوراً هاماً وحساساً في تاريخ الأمم والشعوب... ولعلَّ أهم عوامل الضعف، هي تلك التي تتداخل فيها العوامل الداخلية والخارجية، بحيث تظهر وكأنها نابعة من صميم الأمة، في حين أن مصدرها يكون خارجيّاً، ولكنه استعمل الأدوات والوسائل من الداخل، كما هو الحال في الحركات الدخيلة على حياة الأمم التي تتخذ طابعاً ثقافيّاً أو اقتصادّياً أو دينّياً تعبديّاً في بعض الأحيان..
والأمة الإِسلامية ـــــــ وهي موضوع كلامنا ـــــــ قد مرَّت بعهود القوة والمنعة منذ نشوء دولة الإسلام في قلب الجزيرة العربية، وفي المدينة المنوَّرة بالذات، أي عندما فرض رسول الله (ص) ـــــــ بأمر من الله تعالى ـــــــ مبدأ الإسلام كمبدأ شموليٍّ للإنسان والحياة والكون، فانطلق يومذاك بناء الدولة المثالية، وترسَّخت دعائم المجتمع المتماسك، وأمكن ـــــــ من ثم ـــــــ عبور حدود الجزيرة، وبلوغ أطراف بعيدة من الأرض، حتى القرن الحادي عشر الهجري الموافق للقرن السابع عشر الميلادي، ففتحت فارسُ والهند، والقفقاس، ثم وصلت حدود الدولة الإسلامية إلى الصين وروسيا وإلى ما وراء بحر قزوين شرقاً، بعد أن كانت قد فتحت بلاد الشام شمالاً، وبلاد مصر وشمالي إفريقيا وإسبانيا غرباً، كما فُتحت الأناضول والبلقان وجنوب أوروبا وشرقيُّها حتى شمال البحر الأسود، بما في ذلك القرم وجنوب أوكرانيا، وتقدمت جيوش الدولة الإسلامية حتى وصلت إلى أسوار فيينا في النمسا.. وفي هذه الفتوحات دان أغلب الناس بالإسلام، وأخذت تعاليمُه تنظِّم أوضاعَ حياتهم، وقِيَمُه تنشر العدالة في ربوعهم، فعاشت شعوب تلك البلاد والأمصار على اختلاف عاداتها وتقاليدها، وأنماط عيشها، بفضل الله إسلاماً صحيحاً، وكانت تنعم بالتقوى، والعدالة والسلام، وتعيش مؤمنةً آمنةً مطمئنة.
تلك كانت حالُ الدولة الإسلامية أيام عزها وقوتها، ولم تقعد عن الفتوحات ولا عن حمل الدعوة إلّا حين بدأ الوهم يدبُّ بأوصالها، أي في الوقت الذي بدأ يظهر فيها سوء فهم الإسلام وعدم تطبيقه بحذافيره، وكان ذلك بفعل الأحداث الداخلية التي شهدتها، والغزوات التبشيرية الخارجية التي فرضت عليها.
ولم يكن حصول تلك الأحداث الداخلية ناجماً عن دوافع غير إسلامية بالأساس، وإنما نشأ عن فهم إسلاميٍّ خاصٍّ للوضع الذي كان قائماً عند حصولها؛ ولقد سعى أولئك «الفاهمون» للوضع القائم من أجل تصحيح الأحداث تصحيحاً يتفق مع ما يفهمون وعلى الأصح مع ما يرغبون، وهم وإن أسميناهم «فاهمين» فقد كانوا بالحقيقة معترضين لسبيل الدولة، وكان كل واحدٍ منهم يعتبر نفسه مجتهداً، ولذلك فقد فهم معالجة الوضع بطريقة تختلف عن الطريقة الحقَّة القائمة، وهذا ما يجعلنا نعتبر أن كلا الوضعين ـــــــ القائم والمعترض ـــــــ كان يُبنَى على فهمٍ إسلامي، ورأيٍ إسلامي، ولكنَّ أحدهما كان غير سليم في كثيرٍ من الأحيان.
وإلى جانب ذلك الفهم الذي بدأ يحيد رويداً رويداً عن تعاليم الإسلام برزت في حياة الأمة الإسلامية حركات متنوعة توزعت في أنحاء شتى من بلاد الدولة، وقد أُلبست تلك الحركات أثواباً مختلفة، ظاهرها إسلامي، وباطنها فيه كيدٌ للإسلام والمسلمين، ولذا كانت من أهمِّ عواملِ الهدم وتقويضِ دعائم الدولة التي إن هي وهنَتْ، وهنت معها الأمة الإسلامية بأسرها... وهذا الذي كان بالفعل، فقد نشبت الخلافات بين البلدان الإسلامية، وتفاقمت عداوتها، ولكنَّ ذلك كله لم يؤثِّر على استمرارية وحدة الدولة الإسلامية التي كانت متمثلة بالخلافة، إلى أن تمكَّن أعداؤها من المستعمرين ـــــــ أخيراً ـــــــ من القضاء عليها في سنة 1924 ميلادية، حين أزيلت الخلافة الإسلامية من الوجود على يد بريطانيا بواسطة عميلها كمال أتاتورك، ومن ساندَهُ في ذلك الوقت من الذين فُتِنُوا بالثقافة الغربية، وتوهَّموا فيها الأمل والرجاء، أو من العملاء الذين أعمت العمالة أبصارهم وبصائرهم على حدٍّ سواء...
ومنذ ذلك الحين راح أعداء الإسلام يقسِّمون بلادنا ويفتِّــنون قوانا، ويقيمون على أنقاض الدولة الواحدة، دويلاتٍ متفرقة متنابذة، لا تتلاقى مع بعضها على أبسط الأهداف المشتركة، بل على العكس من ذلك، قد تتقاتل فيما بينها إلى حدِّ القضاء على الوجود أو الكيان القانوني الذي ظهرت فيه كل دولة، والذي تضافرت جهود العالم على الاعتراف به لتكريس الانقسام والتفرقة بين المسلمين.
وهذا الواقع نراه اليوم ونتألم ونعاني منه كثيراً حيث الحربُ ـــــــ إن سرّاً أو جهراً ـــــــ تقوم بين كثير من البلاد الإسلامية، وحيث يعمد أعداء الإسلام، في العالم كله، إلى مدِّ البلدان المتحاربة بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، لا لتدفع أخطاراً زاحفةً عليها من كل صوب، بل ليضرب المسلمون بعضهُم بعضاً، ولتبقى الدول الكبرى الظالمةُ هي المسيطرة المتحكِّمة بمقدرات العالم؛ وقد لا يكون مستبعداً اليوم الذي تقع فيه البلاد الإسلامية بالشَّرَك الذي يُنصب لها، وعندها تكون الكارثة الكبرى قد حلّت بالمسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها؛ ومن أجل هذه الغاية بالذات أقاموا دولة إسرائيل لتبقى المكائد قائمة، وليبقى وضعُ البلاد الإسلامية على كفِّ عفريت!..
ولكنَّ هذه الحالة التي نشهدها، قد لا يكون ميؤوساً منها، بحسب ما نرجو من الله تعالى ونضرع إليه، ما دام في المسلمين أناسٌ مخلصون، يعملون بكتاب الله وهدي رسوله، ولا يبتغون إلاَّ رضوان الله.. فأولئك هم الصادقون في إيمانهم وعملهم، وهم مناط رجاء الأمة ومحطُّ أملها في خطوات الخير ومحاولات القضاء على أسباب التفرقة والتنابذ، وإعادة اللُّحمة بين المسلمين، وتحقيق وحدتهم ولمِّ شملِهم، حتى تعود راية الإسلام خفاقةً، ترفرف بالسلام والأمان على ربوع بلادهم، وبلاد العالم أجمع.
ولئن كانت وحدة الدولة الإسلامية الجامعة قد زالت فعلاً وقانوناً، إلاَّ أنَّ ما يجب معرفته هو أن الأمة الإسلامية تبقى متميّزةً عن غيرها من الأمم الأخرى بخصائص كثيرة. منها: أن لها مبدأً واحداً يستقي من معين واحد هو كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله الكريم. وهذا المبدأ هو الشريعة نفسها التي لا تحول ولا تزول مهما اختلفت الأزمان، أو تعاقبت الأجيال، لأن حلال محمد (ص) حلالٌ وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة.. فكل ما يفعله المسلمون، وما قد يحققونه في شتى الميادين لا بدَّ أن يكون إسلاميّاً ويبقى إسلاميًّا لأنه لا يجوز إلاَّ أن يتوافق مع مبدئهم الإسلامي، وهذا ممَّا ينفع الأمة ويساعد على إعادة وحدتها إن عاجلاً أم آجلاً.. وأما إذا جاء فعلُها مخالفاً لمبدأ الإسلام، فإنه لا يكون من الإسلام في شيءٍ، وهو عندئذٍ يَضرُّ الأمَّةَ ويساعد على تفرقتها.. من هنا، فإن المذاهب الإسلامية المعروفة، المتبعة في أغلب بلدان المسلمين، والتي كان قد أنشأها فقهاء ومجتهدون مسلمون، لم تخرج في حقيقتها عن مبدأ الإسلام، وإنما جاءت على تعدُّدها مفسِّرة لأحكامه بحسب الاجتهادات المختلفة، التي كانت تضع قواعد حياتية للتعامل، يطبق بعضُها في هذا البلد، ويطبق غيرُه في غيره، بل قد نجد في البلد الواحد مجموعةً من تلك القواعد المأخوذة عن جميع المذاهب الإسلامية، بحيث لا تؤثر هذه القواعد على صحة المبدأ، ولا يمسُّ تطبيقُها جوهرَهُ.. ولذا فإننا نرى في هذه المذاهب غنىً للمبدأ وليست حجةً عليه، أو خروجاً على تطبيقه.. وإنَّ من رغب في تطبيق أحد هذه المذاهب فله حرية الاختيار في ذلك، وهو مسلم في كل حال، ومذهبه إسلامي طالما أنه يتوافق مع كتاب الله وسنة رسوله.. ومن هنا نجد أن الإسلام هو الإسلام دائماً، لا يحول ولا يزول، وأنه لا خلاف بين المسلمين أينما وجدوا حول أصول دينهم وحقائقه المطلقة.. وهذا هو بالذات ما يدعو للاستغراب حين نرى جماعات من المسلمين تقبل أفكاراً غربيةً عن دينها. مستوردةً من الخارج، كما هو حال الأفكار التي يطبقونها في الاقتصاد وغيره مثلاً، وكما هو الحال في أفكار التصوُّف التي غزت العالم الإسلامي منذ القرن الأول الهجري تقريباً، والتي ما تزال قائمة في أكثر البلاد الإسلامية حتى اليوم..
ولكن، مع حال كون الصوفية يعتبرون أن تصوَّفهم يقوم على أفكار إسلامية، فإننا نتساءل: هل هذا صحيح حقّاً؟ وهل إنَّ التصوُّف أحد المذاهب التي أسَّسَها فقهاء مسلمون وفقاً لكتاب الله وسُنَّة رسوله؟ أم أن الصوفية، على العكس، كان إحدى الحركات الفكرية التي اصطبغت بلون إسلامي وهي في الحقيقة دسٌّ على الإسلام، وغايتها ضرب وحدة المسلمين أو تجزئتهم وجعلهم طرائق قِدداً، وإبعادهم عن أصالة دينهم الحق؟
فلكَي تكونَ الحقيقة واضحة منذ البداية، نحن نرى بأن التصوّف كان دخيلاً على الإسلام وقد ساعد على إضعاف المسلمين، ولم يكن مصدراً وحيداً لهذا الضعف، وإن كان قد أثَّر كثيراً على انحطاطهم الفكري وتنابذهم وتقاتلهم، بل كان أحد أهم العوامل التي أدّتْ إلى ذلك بفعل الشعوبية التي حملها أعداء الإسلام وذلك عندما عملوا على إيهام العقول وإضعاف النفوس، بالأفكار الفلسفية حيناً، وبالشطحات وادِّعاء الكرامات حيناً آخر، أو بتأويل القرآن وصنع الحديث أحياناً، وبالافتراء على الإسلام، وتضليل الناس، عمداً وبهتاناً، فحققوا نجاحاً كان يكمن بالأساليب التي ابتدعوها، والتي جعلت الناس يتهافتون على التصوف، فينتشر انتشاراً واسعاً في أوساط العامة، ويُقبل عليه الناس بدون تمحيص أفكاره ومناقشتها..
من هنا رأينا لزاماً علينا أن نبحث في هذا الكتاب ماهية التصوف ومصادره، وكيف دخل إلى بلاد المسلمين ومَنْ هُمْ دعاتُهُ الأوائل، وما كانت معتقداتهم وآراؤهم، وما الأساليب التي اتبعوها لنشر تلك المعتقدات والآراء.. وبالتالي هل يتوافق التصوُّف، في ذلك كله، مع إسلامنا الذي يقوم على الكتاب والسنة أو بصورة شاملة نقول: ما هو التصوُّف في نظر الإسلام؟
هذا هو الذي يحاول كتابنا بطبعته الجديدة، الإجابة عليه، بعدما توخَّينا أن تأتي أبحاثه موضوعية بعيدة عن الانفعال أو التعصُّب لفكرةٍ معيَّنة، بل عن طريق الاحتكام دائماً، وفي جميع الأبحاث، وعند مناقشة الأفكار، إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة رسوله الكريم وهما خيرُ مرشد للحقيقة، لأنَّ أية حقيقة في الأصل، إن لم تلتقِ معهما، فهي ليست من الحقائق إلاَّ في ذهن صاحبها، أو في ذهن من انخدع بها، دون أن يدرك كنهها!!
اسم التصوف
لقد ردَّ الباحثون القدماء والمحدثون كلمة «التصوف» و«الصوفية» إلى أصول مختلفة:
ـــــــ فقال فريق: إنها تعود إلى أصل إسلامي، أي إلى «الصُّفَّة» وهي زاوية أقامها رسول الله (ص) خارج مسجد الصفاء بالمدينة، ذات حيطان ثلاثة، فكان بعض فقراء المسلمين ـــــــ وخاصةً من أولئك المهاجرين الذين لم تؤمَّنْ لهم بيوت في المدينة ـــــــ يأوون إليها اتِّقاءً للحرّ والبرد، وهؤلاء هُم الذين نزلت فيهم الآية الكريمة: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].
ومن أهل الصفة المستضعفين الذين عذَّبتهم قريشٌ وآذتهم يُذكر بلال، وعمار بن ياسر، وصهيب، وعبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وعكاشة بن محسن الأسدي، والعرباض بن سارية.. ومنهم أيضاً سلمان الفارسي، وجندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري)، وخباب بن الأرت، وأبو لبابة الأنصاري (بشر بن عبد المقدر) وغيرهم.. وقد ظَلَّ هؤلاء المسلمون ـــــــ وهم من الصحابة الأخيار ـــــــ مشمولين بعناية خاصة، ورعايةٍ تامَّةٍ من رسول الله (ص) إذ كان لا يتعشَّى إلاَّ إذا أطعمهم، ويهتم بشؤونهم كاهتمامه بشؤون كافة المسلمين من ذوي اليسار، وبقوا على هذه الحالة حتى جاءَ النصرُ من عند الله، فانطلقوا ينفضون غبار الفقر، ويعافون حالة الضعف التي كانوا عليها، لأنهم لم يكونوا ليرتضوا العيشة التي هم عليها والتي فرضتها ظروفٌ قاسيةٌ حاقت بهم.. فإنهم قوم ما خرجوا من ديارهم مهاجرين إلاَّ ونفوسهم توّاقةٌ للعمل الحلال، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، كما وصفهم الله عز وجلَّ بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
هذه هي صفاتهم في القرآن الكريم: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} أي عيشاً كريماً، لا ذُلاً وفقراً ومهانةً ـــــــ {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، لأنَّهم الصادقون، المخلصون، وفي كتاب الله، وسنّة رسولِهِ، أصَدَقُ النبأ عن حالهم، فإن أحدهم ـــــــ وهو العرباض بن سارية ـــــــ راحَ يبكي بنفس محترقة لأنه لم يجد دابَّةً تحمله كي يزحف مع إخوانه إلى غزوة تبوك، فكان من البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92].. وواحدٌ آخَرُ منهم، وهو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، يبيِّن لنا كيف كانوا يشتركون عند رسول الله (ص) من ضائقتهم، (على ما نجده في ترجمة ابن النعيم في الحلية) إذ يقول: «كنّا عند رسول الله (ص) فشكونا إليه الفقر والعُريَ وقلَّة الشيء. فقال لنا عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام: «اصبروا، فواللَّه لأنا من كثرةِ الشيء أخوَفُ عليكم من قلَّته، وإنه لا يزال هذا فيكم حتى تفتح لكم أرض فارس والروم وأرض حِمْيَر، وحتى تكونوا أجناداً ثلاثة: جندٌ بالشام، وجندٌ بالعراق، وجندٌ باليمن؛ وحتى لَيُعطى الرجلُ المئة دينار فيسخطها».
وبالفعل فقد شارك كلُّ من كان يأوي إلى الصفة في المهامِّ التي ندبَ المسلمون إليها أنفسهم، وتبوَّأ بعضهم مراكز هامّة كعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وغيرهما.
ومثل هذين الصحابيَّين الجليلَين، قد عمل جميعُ أهل الصفة ـــــــ على مد حياتهم ـــــــ للدارَيْن؛ فوفِّق مَن وفِّق في تحقيق الآمال التي يرجوها من راحةٍ وهناءة وغنىً وغير ذلك، ولم يندبْ أحدٌ منهم نفسه لجوعٍ أو قهرٍ أو عنتٍ أو ارتحالٍ في الأرض، يبتغي نزعةً تصوفية لا يعرفها، أو يُفني عمره في زهدٍ قاتلٍ لا يأمرُهُ به دينُهُ..
إذن فالتصوُّف لا يمكن إرجاعُ أصله إلى أهل الصُّفَّة، ومن قال بذلك فقد أرادَ أن يجعل لهذا التصوُّف مصدراً إسلاميّاً عريقاً، إلاَّ أنه أخطأ، ولم يُصبْ شيئاً من الحقيقة، وأبسط الأمور الدّالة على ذلك هو الدليل اللغوي أن النسبة إلى الصُّفَّة «صُفِّي» وليس «صوفي»..
ـــــــ وقال فريقٌ آخر من الباحثين: إن اسم الصوفي جاءَ من «الصفَويين» ثم تطوَّر فصار صوفيّاً، أو أنه جاء من كلمة «صفَوي» وصار صوفيّاً، أو أنَّ اشتقاق الصوفي من الصَّف، بمعنى أن الصوفيَّ، من حيث الروحانية، يُعتبر في الصف الأول بين يدَي الله تعالى أو لاتِّصاله به عزَّ وجلَّ.. وهذا طبعاً غريب عن الإسلام لأنه لم يرد في القرآن شيء من الصفَوي، ولا عن صاحب مكانةٍ متقدِّمة في روحانيته إلاَّ بمقدار ما خدم الإسلام وبمقدار ما عمل لإعلاء كلمة الله. وما يجب على المسلم أن يدركه هو أنَّ الله تعالى اختار ثلةً من عبادهِ الصالحين، واصطفاها لحمل رسالاته إلى الأرض، وليس أهل التصوف من الأنبياء ولا المرسلين ولا من أوصياء الأنبياء المقرَّبين، لأنَّ الرسالات السماوية ختمت بالنبيِّ محمد (ص) فكان خاتم النبيِّين صلوات الله عليهم بنَص القرآن الكريم إذ قال سبحانه وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] والله تعالى هو أصدق القائلين..
ـــــــ وهنالك فريق من العلماء ينسبون اسم الصوفي إلى الصَّفاء أو الصفو، بمعنى أن الصوفي هو أحد خاصَّة الله الذين طهَّرَ قلوبهم من كدرات الدنيا؛ أو أنه مَن صافى ربَّهُ، فهو صوفي.. «وهؤلاء العلماء قد خالفوا بذلك قواعد اللغة العربية، وبلغ بهم التحايل في اللغة إلى أن جعلوا الفعل المبني للمجهول اسماً تلحق به ياء النسب».
ـــــــ وعن اسم الصوفية قال ابن الجوزي: إن محمد بن ناصر روى عن إبراهيم بن سعيد الحبال، عن عبد الغني بن سعيد الحافظ أنه قال: سألتُ وليد بن القاسم إلى أي شيء ينتسب الصوفية، فقال: «كان قوم في الجاهلية يقال لهم «صوفة»، انقطعوا إلى الله عزَّ وجلَّ، وقطنوا الكعبة، فمن تشبَّهَ بهم فهم الصوفية ـــــــ ومضى يقول: ـــــــ إن هؤلاء المعروفين «بصوفة» هم من ولد الغوث بن مرة ابن أخي تميم بن مرة». ونقل عن الزبير بن بكار أنه قال: «كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مرة أو بن طابخة، ثم صارت له في ولده ويقال له صوفة، فإذا حانت الإجازة قالت العرب: «اجْزِ صُوفة».. وأضاف الزبيرُ بن بكار إلى ذلك أن أبا عبيدة كان يقول: «يقال لكل من وَليَ البيت شيئاً من غير أهله وقام بشيء من أمر المناسك صوفة وصوفان..» وروي كذلك قائلاً: «حدثني أبو الحسن الأشرم عن هشام بن محمد السائب الكلبي أنه قال: إنما سمي الغوث بن مرة «صوفة» لأنه لم يكن يعيش لأمه ولدٌ، فنذرت إذا عاشَ لها لتُعلقنَّ برأسه صوفة ولتجعلَنّهُ ربيط الكعبة، فلما فعلت قيل له ولولده من بعده: صوفة»..
وفي رواية ثانية للزبير بن بكار تنتهي بسندها إلى عبد العزيز بن عمران، تشبه في مضمونها الرواية السابقة، قال: «أخبرني عقال بن شبة: أن أم تميم بن مرّ كانت تلد البنات فقالت: لله عليَّ إن أنا ولدت غلاماً لأربطنه عند البيت، فولدت الغوث بن مرّة، فلما ربطته مرت عليه يوماً وقد أصابه الحرُّ حتى سقط واسترخى، فصرخت تقول: ما صار ابني إلاَّ صوفة، فسمِّي صوفة. وكان الحج وإجازة الناس من عرَفة إلى منى ومن منى إلى مكة لصوفة؛ ولم تزل الإجازة في عقب صوفة حتى أخذتها عدوان، وبقيت بيد عدوان إلى أن انتهت إلى قريش».
هذه مجرد روايات، وهي إن صحَّت فإنما تدلُّ على بعض معتقدات الجاهليين ولا يجوز للمسلمين أن يتشبّهوا بأهل الجاهلية في فِعال أو تقاليد لم يُقرَّها الإسلام.
ـــــــ ومن الباحثين في اسم التصوف الدكتور الشيبي الذي يردُّ أصل التصوف إلى الشيعة وإلى علي بن أبي طالب (ع) بالذات. فيقول: «إنَّ ابن خلدون قال: إن الصوفية قد تأثروا بالشيعة، وتوغَّلوا في الديانة بمذهبهم حتى جعلوا مستند طريقتهم في لبس الخرقة: أنَّ علّياً ألبسها الحسنَ البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة».. ولكنَّ هذا الرأي، إذا توقفنا عنده قليلاً، نجده يحمل مغالطاتٍ كثيرة أهمها:
أولاً: أن الحسن البصري عاش حوالي ثمانين سنة وتوفي سنة 110 هجرية، بينما كانت وفاة عليّ (ع) سنة 40 هجرية. بمعنى أنه كان للحسن البصري من العمر عند وفاة علي (ع) عشر سنوات، وهي سنٌّ مبكِّرة لا تسمح للبصري بتلقي الطريقة وفهمها، سيَّما وأن طريقة التصوُّف لم تكن معروفة أبداً في ذلك الزمن.
ثانياً: لماذا يختار علي (ع) ولداً من سائر الناس حتى يلبسه الخرقة، ويلقِّنه الطريقة، أفَما كان أبناؤه وشيعتُه أولى بذلك لو كان صحيحاً؟! والحسن البصري ليس من شيعته كما هو الواقع.
ثالثاً: إن علياً (ع) انتقل من المدينة إلى الكوفة في السنة التي بويع فيها بالخلافة، بعد معركة البصرة، ولم يكن البصري يسكن البصرة حتى نقول ـــــــ جزافاً ـــــــ بأنَّ عليّاً (ع) التقاه..
ـــــــ إن علياً (ع) كان من أشد الناس تعلقاً بالنبي (ص) وأقربهم إليه، وأحفظهم لسيرته وهداه، فإن نسبنا إليه أصلَ التصوف فكأنما ننسبه إلى رسول الله (ص)، وهذا منتهى الشطط في التفكير، والتجنِّي في الافتراء..
فالنسبة إذن بدعة ليس إلاَّ، وقد دحضَها كثيرون من أهل العلم والإنصاف؛ ومن هؤلاء محمد ابن السيد درويش البيروني الذي نقل دحضَهُ عن كلٍ من دحيّة وابن الصلاح اللَّذَين اعتبَرا مثل تلك الرواية حديثاً باطلاً، وأضاف ابن حجر: «إن ذلك الحديث غير ثابت ولم يرد عن علي (ع) أنه ألبس البصريَّ الخرقة على الطريقة الصوفية لا في خبرٍ صحيح ولا في ضعيف»..
ومثلما كان الافتراء على علي (ع) في إلباس الخرقة الصوفية للبصري، فكذلك ورد افتراءٌ مثلُه على أنبياء الله سلام الله عليهم.. فقد جاء في (التصوّف بين الحق والخلق) عن (عوارف المعارف) المطبوع على هامش الإحياء للغزالي: أن الصوفية قد أرجعوا لبس الخرقة إلى النبيِّ إبراهيم الخليل (ع) وحوَّروا حديث قميصه لمصلحة طريقتهم فقالوا: إنَّ إبراهيم عندما أُلقي في النار جُرِّد من ثيابه وقُذف فيها عرياناً، فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وألبسه إيَّاه؛ فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق، ولما مات ورثه يعقوب، فجعل يعقوب هذا القميص في تعويذة على عنق يوسف وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عرياناً جاءه جبرائيل وألبسه إيَّاه.. ويعتقد الصوفية أن القميص كان فيه ريحُ الجنة، ولأجل ذلك كانت الخرقة للمريد الصادق.. ويضيف المصدر المذكور بأن محيي الدين بن عربي كان يعتقد بأن الخرقة كان الخضر (ع) يُلبسها بيده إلى أولياء الله. وقد ادَّعى ابن عربي بأنه لبس خرقة الخضر من يد تقي الدين عبد الرحمن بن علي بن ميمون بن النورزي، ولبسها هذا من يد صدر الدين شيخ الشيوخ في الديار المصرية وهو محمد بن حموية، وكان جده قد لبسها من يد الخضر (ع).
أرأيت مثل هذه الخرافات التي كلها بدع مُبتدعة، كي يجعلوا للتصرف أصلاً دينيّاً يوهموا الناس به إما بنسبته إلى أنبياء الله الصالحين، أو إلى أحد الخلفاء الراشدين.
على أن غالبية الباحثين يردون أصل التصوف إلى اشتقاقه من الصوف الذي كان «لباس الأنبياء ورمز الأولياء» على حدِّ تعبير الصوفية كما جاء عند أبي نصر السراج مؤلف أقدم كتاب عربي في التصوف، أو كما جاء في عوارف العوارف للسهروردي حيث قال: «وإن الذين لبسوا الصوف قد اختاروه لرفضهم زينة الدنيا، وقناعتهم بسد الجوعة، وستر العورة، واستغراقهم في أمر الآخرة؛ ولم يتفرَّغوا لملاذ النفوس، والدنيا وراحتها، لشدة شغلهم بخدمة مولاهم وانصراف همهم إلى عبادته.. ويضيف قائلاً: وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق، ويصح أن يقال: (تَصَوَّفَ) لمن لبس الصوف، كما يقال (تَقَمَّصَ) إذا لبس القميص... كما يضيف إلى ذلك: «ولمَّا كان حالهم بين سير وطير (أي يطيرون في الهواء كما يسيرون على الأرض) لتقلُّبهم في الأحوال وارتقائهم من عالٍ إلى عال، لا يقيدهم وصفٌ ولا يحبسهم نعتٌ، فلما تعذَّر تقيُّدهم بحال (لكثرة تعدُّد آرائهم ومفاهيمهم والطُّرق التي ابتدعوها) نُسِبوا إلى ظاهر اللبسة وكان ذلك أَبْين في الإشارة إليهم، وأَدْعَى إلى حصر وصفهم، لأنَّ لبس الصوف كان غالباً على المتقدِّمين من سلَفهم»!!
وهكذا يتبيّن أن كلَّ الأسانيد التي ذهَبَ الباحثون إليها في أصل التصوف، إنّما هي مجرد آراء واجتهادات، أو روايات ومنقولات، ليس لها أساسٌ ثابت، وإن كان الغالبُ أن الصوفية قد اتَّخذوا لباسَ الصوف والخرقة شعاراً لهم حتى صاروا يُعرفون به.
ـــــــ أما المستشرقون فيردُّون أصل اللفظ الصوفي إلى مصادر غير عربية. فيقول «جوزف فون هامر» في كتابه (تاريخ البلاغة عند الفرس): إن الصوفية ينسبون إلى الهنود القدماء المعروفين باسم «الحكماء العراة». وإنَّ الكلمتين العربيتين: صوفي وصافي مشتقتان من نفس الأصل الذي اشتُقت منه الكلمتان اليونانيتان: سوفوس sophos وسافيس saphis ولذا فهو يعتبر أن كلمة «صوفي» مرادفة لكلمة «سوفوس». ولقد حدَّد ماسينيون أول تاريخ لظهور هذا اللفظ أي «الصوفي» بالنصف الثاني من القرن الثاني للهجرة مع جابر بن حيان الذي كان يسمى الصوفي، ومع أبي هاشم الكوفي الصوفي.. وأضاف أن جمع الصوفي على صوفية قد ظهر سنة 199 هجرية بمناسبة فتنة صغيرة قامت في الاسكندرية، بعد أن كان مقتصراً على مَن في الكوفة حتى إذا مرت على ولادته خمسون سنة فيها صار يطلق هذا الاسم على كل صوفية العراق؛ أما في خراسان وجِهاتِها فقد كان الاسم الغالب على الصوفية «الملامتية».
هذا ويعتبر الأستاذ جبور عبد النور في (التصوف عند العرب): أن لبس الخرقة لا أثر له في الإسلام، وقد أخذه الصوفية عن الديانة البوذية، التي من شروطها ـــــــ كما يقول ـــــــ الزهد في الدنيا، وحياة الفقر، وحلق الرأس، ولبس الخرقة الصفراء..
ويذكر الأستاذ عبد الرحمن بدوي: أن اسم الصوفية أصبح منذ القرن الرابع الهجري، علماً على جميع الصوفية المنتشرين في أنحاء العالم الإسلامي..
ماهية التصوف
لم يقتصر الخلاف عند الباحثين على الأصل الذي تعود إليه تسمية الصوفي، بل إنَّ تحديد التصوُّف هو مجال اختلاف كبير أيضاً حتى عند الصوفية أنفسهم، بحيث نجد تحديداتٍ لا حصر لها ظهرت على ألسنة الشيوخ والأقطاب الصوفية، وهي تختلف عن بعضها البعض، إن بالشكل أو بالجوهر..
فعن إبراهيم بن أدهم يُروى أنه تعلم الصوفية من راهب يقال له سمعان، إذ دخل عليه يوماً صومعته وسأله: منذ كم أنت في صومعتك هذه؟
قال: منذ سبعين سنة.
فعاد يسأله: ما طعامك؟
فإذا بالراهب يقول له: وما يدعوك إلى هذا السؤال؟
فقال إبراهيم: أحببت أن أعلم.
قال له الراهب: في كل ليلة حمِّصة.
قال إبراهيم: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمِّصة؟
فقال الراهب، وهو يعني الملائكة: «إنهم يأتونني في كل سنَة يوماً واحداً، فيزيِّنون صومعتي، ويطوفون حولها يعظمونني بذلك، وكلما تثاقَلتْ نفسي عن العبادة ذكَّرتُها تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعزٍّ ساعة» فيقول إبراهيم بن أدهم: «فوقر في قلبي المعرفة»..
والجنيد، وهو أحد أقطاب الصوفية يعطي عدة تعريفات للتصوف. فعندما سأله أحدهم عن ماهية التصوف قال له: «التصوف أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة».
وعن المتصوّفة يقول:إنهم أهل بيت واحد لا يدخل فيه غيرهم. ويَعتبرُ الصوفيَّ «كالأرض يُطرح فيها كل قبيحٍ ولا يَخرج منها إلاَّ كل مليح»، وعن التصوّف أيضاً يقول: «التصوف ذكرٌ مع اجتماع، ووجْدٌ مع استماع، وعملٌ مع اتباع»..
أما أبو بكر الشبلي فيرى في التصوف «أنه الجلوس مع الله بلا همٍّ... وأن الصوفي هو الذي ينقطع عن الخلق فيتصل بالحق.. وأن الصوفية هم أطفالٌ في حجر الحق»..
ويفرِّق الحسين بن منصور الحلاج بين الصوفي والمتصوف، عندما يرى أن «مَنْ أشارَ إليه فهو متصوّف، ومن أشار عليه فهو صوفي، فالأول لا يزال يفرِّق بين الرب والعبد، والثاني قد اتَّحد بالذات الإلهية حتى صار يتكلم عنها وباسمها»!!
وفي تلبيس إبليس لابن الجوزي أنه عثر مع أحدهم على كتاب مكتوب عليه: من الرَّحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان.. فلما سئل صاحبه قال هذا للحلاج؛ فلما جيء به قال: نعم هذا من خطِّي وأنا كتبته.. قيل له: كنت تدَّعي النبوة فصرت تدَّعي الربوبيَّة؟ فقال: «لا أدَّعي الربوبية، ولكن هذا عين الجمع عندنا. هل الكاتب إلاَّ الله، واليدُ آلةٌ لا غير؟».
وفي عوارف العوارف عن معروف الكرخي أنه قال: «إن سهل بن عبد الله قال: إن الصوفي مَن صفا من الكدر، وامتلأ من الفكَر، وانقطع إلى الله عن البشَر، واستوى عنده الذهب والمدَر»!!
وهكذا تبيَّن مما تقدَّم، ومن مجمل كتب التصوُّف، أن التصوُّف يقوم على تعذيب النفس بالجوع والسهر، وقلة الكلام، واعتزال الناس، واتِّباع المجاهدات، والتجوال في القفار، والإيناس بالوحوش والهوام، وما إلى ذلك مما يقهرُ الإنسانَ ماديّاً ومعنويّاً، بحيث يحيله كتلةً من التصوُّر قادرةً على الانسلاخ من دنيا الأرض حتى تصل إلى المعارج السماوية، وأحياناً يمكن لصاحب هذه الحال أن يرى الله تعالى بأم العين، أو أن يتحدَّ به، أو أن يحلَّ الله تعالى به، وما إلى ذلك من أفكار وتخيُّلات ابتدعَها الصوفية ولا تمتُّ إلى الحقيقة، ولا سيَّما إلى حقيقة وجود الله بشيء.. وهذا ما نلمسه مثلاً في ادِّعاءاتهم من أن طول الجوع يؤدي إلى فتح آيات الملكوت لهم، فتنكشف لهم قدرةٌ من الجبروت يتجلَّى الله تعالى فيها على الكيفية التي يشاؤون.. ومن قبيل هذا الادّعاء ما رواه السهروردي عن بعضهم عندما قال: لما انتهى جوعي إلى الغاية، فتَحَ الله عليَّ بعد أيامٍ بتفاحة، فتناولتها وقصدت أكلها، فلما كسرتها كوشفت بحوراء خرجت من التفاحة، فما إن نظرت إليها حتى حدث عندي من الفرح ما استغنيت به عن الطعام أياماً.. (أو ليس ذلك من خرافات ألف ليلة وليلة حيث تظهر الجنيَّات الحواري اللواتي نشَدَهن الرائي فينسى كل ما حوله ولا يعود يفكِّر بطعام أو شراب؟!).
ومن الباحثين المحدثين الذي أورد تعريفاً عامّاً للتصوف الدكتور طلعت غنام، في كتابه (أضواء على التصوف) إذ يقول: «يرى المسلمون أن المقصود بالتصوف في عمومه: هو السير في طريق الزهد والتجرد عن زينة الحياة الدنيا وشكلياتها، وأخذ النفس بأسلوب من التقشف، وأنواع من العبادة والأوراد، والجوع، والسهر في الصلاة أو تلاوة أورادٍ حتى يضعف في الإنسان الجانب الجسدي ويقوى فيها الجانب النفسي أو الروحي، فهو إخضاع الجسد للنفس بهذا الطريق المتقدِّم سعياً إلى تحقيق الكمال الأخلاقي للنفس كما يقولون، وإلى معرفة الذات الإلهية وكمالاتها، وهو ما يعبرون عنه بمعرفة الحقيقة».
ويعقّب الدكتور غنام على ذلك بقوله: «والإسلام يتفق مع هذا، إذ هو يدعو إلى إخضاع الجسد أو الحسِّ للنفس والدين والعقل، ولكن لا عن اتِّخاذ كل ما أشار به الصوفية.. ذلك لأن سلوك التصوف سلوكاً متزيِّداً مبالغاً يقهر في النفس الإنسانية معنوياتها، ويحاول في أحوال تطرفه أو مغالاته أو تفلسفه أن يباعد بينها وبين الحياة»..
هذا وقد ذهب غالبية الباحثين إلى أن للتصوف أسساً يقوم عليها، وأبرزها التجربة الباطنية، وبلوغ الصوفي مرتبة الاتحاد مع الله، ولكلٍّ منهما شرائطه وطرُقه التي يتحقق بها..
ويتوسّع الدكتور عبد الرحمن بدوي في تفصيل هذين الأساسَيْنِ (في كتابه تاريخ التصوف الإسلامي) فيعتبر بالنسبة للأساس الأول ما يُفيد بأن «التجربة الصوفية تقتضي أن تقوم على أساس ملكة خاصة بواسطتها يتم الاتصال بالله عن طريق رياضة النفس بالجوع والسهر والسياحة والتأملات العميقة، وغير ذلك من أحوالهم ومقاماتهم (الصوفية). وفي هذا النحو من السلوك تحصل المعرفة عند الصوفي بصورة تلقائية فيسيطر عليه شعور عارم بقوىً تضطرم فيه كفيض من النور الباهر حتى يغمره، أو يغوص فيها كالأمواج العميقة. ويبدو له بعد استمراره على هذا السلوك أو اتِّباع هذه الطريقة أن قوًى عالية قد غزته وشاعت في كيانه الروحي، يسمِّيها نفحات علوية. ويشعر صاحب هذه التجربة بإثراء في كيانه الروحي وتحرر في أفكاره وخواطره وانطلاق لطاقات حبيسة عميقة الغور في نفسه. وتصحب هذه الحالات عند الصوفي أحياناً ظواهر نفسية غير عادية كشعوره بأن ثمّةَ هواتف وأصواتاً يسمعها، ويتخيل رؤى خارقة وجذبات ومواجيد، قد تتعدى ذلك إلى أن تصبح وكأنها نوبات هستيرية أو صراعات حادة. وقد يستعين الصوفي على استدعاء هذه الأحوال بوسائل أخرى كالموسيقى وسماع الغناء والرقص وتحريك البدن بطريقة منتظمة وبإيقاعٍ متفاوت الشدة، ومن أجل ذلك كان للأحوال والمقامات وبقية الطُّرق دور أساسي في التصوّف».
وأما عن الأساس الثاني للتصوف فيقول الدكتور بدوي: «إن هذا الأساس (وهو يقوم على اتحاد الصوفي بالله) ضروري جدّاً في مفهوم التصوف وإلَّا كان مجرد أخلاق دينيَّة.. ويقوم في توكيد المطلق، أو الوجود الحق أو الموجود الواحد الأحد الذي يضم في حضنه جميع الموجودات، وفي إمكان الاتصال به اتصالاً متفاوتاً في المراتب حتى يصل المرء إلى مرتبة الاتحاد التام بحيث لا يبقى ثَمَّ إلاَّ هو؛ ومن هنا ـــــــ كما يمضي بالقول ـــــــ كان طريق التصوف سُلَّماً صاعداً ذا درجات نهايتها عند الذات العلية، وكان سفراً يرقى في معارج حتى يبلغ ذروة الاتحاد».
هذا وقد جاء في كتاب (تلبيس إبليس) أن السراج قال: «بلغني أن جماعة من الحلوليين زعموا أن الحقَّ اصطفى أجساماً حلَّ فيها بمعاني الربوبيَّة وأزال عنها معاني البشرية»..
هذه بالإجمال بعض التحديدات للتصوف، وبعض ما ذهب إليه عدد من الباحثين في الأسس التي يقوم عليها، ومنها نستخلص بأن التصوف يعني التخلِّي عن الدنيا بكل ما فيها عن طريق مجاهدة النفس إلى حدِّ القهر، وإضعاف الجسد إلى حدِّ التلف، ويقوم هذا على الفقر والحرمان، والجوع والسهر، والابتعاد عن الناس، والتجوال مع مصاحبة الهوام؛ واتِّباع ما أوجد الصوفية من أحوال وطُرق ومقامات حتى تحصل للصوفي المعرفة بصورة تلقائية، فيعيش في حالة روحية علوية يترقَّى فيها من مرتبة إلى مرتبة حتى يبلغ حالة الاتِّحاد بالله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ أو ادِّعاء الألوهية أو الربوبيَّة.. وهذا بطبيعة الحال ما لا يتفق والإسلام على الإطلاق، لأن مجاهدة النفس وقهر الجسد على ذلك النحو لا يؤدي فقط إلى قتل الغرائز، والقضاء على الطاقة الحيوية لدى الإنسان وحسب، بل ويقضي أيضاً على الذهنية المتفتحة والعقلية الواعية حتى يفقد الإنسان توازنه الفكري والروحي، ويفقد القدرة على الحكم على الأشياء حكماً صحيحاً بحيث لا يعود عنده أي أمل ليكون إنساناً سويّاً، وفق مفهوم الإسلام، ولا تعود عنده أية قدرة للسير على طريق التكامل الذي يعتبر هدفاً من أهداف الإسلام وفي تربية الإنسان والأخذ بيده إلى ما فيه خيره وخير البشرية جمعاء..
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن القول بكل بساطة وصراحة، أن التصوَّف يقوم برأينا على ناحيتين:
الناحية الفكرية التي تهدف إلى الاتصال بالله بأية طريقة من الطرق التي ابتدعها الإنسان ووسوس له بها الشيطان.
والناحية العملية التي تقوم على المجاهدات والرياضات ـــــــ حسب تعبير الصوفية ـــــــ وما تنطوي عليه من أساليب ووسائل متنوعة يتهافت الصوفية على استعمالها حتى يصل بهم الحدُّ إلى نوع من نوبات الصرَع أو الغشيان الذي يسمونه الفناء، بينما هو في الحقيقة إرهاق للجسم وتلف للأعصاب حتى لا يعود يقوى معها أحدهم على المتابعة فيخرُّ مغشيّاً عليه.
وهاتان الناحيتان، الفكرية والعملية، ينكرهما الإسلام جملةً وتفصيلاً، لأن التفكير الذي يوصل صاحبه إلى الاعتقاد بحلول الله فيه، أو الاتحاد بالله، أو بتحقيق الجمع به ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ أو بوحدة الوجود بينه وبين الله ـــــــ عز وجلَّ ـــــــ إنما هو تفكير كفر وإلحاد.. كما وأن اتِّباع الطُّرق والأساليب التي من شأنها قتل فطرة الإنسان، والقضاء على خصائصه كمخلوق مميَّز، هي أيضاً من القبائح التي يمقتها الإسلام عقيدةً ومنهجاً.. ولذلك كانت كلمة «صوفي» في عصور اليقظة والقوة الإسلامية، تعتبر مرادفة لكلمة «زنديق»، وعنواناً على الإلحاد والبُعد عن الحق، والإيغال في الباطل، ولذا كان أهل التصوف يسترون تصوُّفهم تحت مختلف الأسماء.. وكل ذلك من أجل إخفاء حقيقتهم الشعوبية والتعمية على أصولهم الأجنبية، الغريبة عن الإسلام، وهي الأصول التي أخذوها عن الهنود القدماء، والمجوس، وفلاسفة اليونان، وغيرهمم من أصحاب العقائد والمذاهب التي لا نجد لها أثراً في الإسلام...
مصادر التصوف
لم يكن اختلاف الباحثين مقصوراً على ماهيَّة التصوف والأسس التي قام عليها والطرق التي اتَّبعها الصوفية للوصول إلى غاياتهم، بل نجد هذا الاختلاف أيضاً في المصادر التي استقى منها التصوف في العالم الإسلامي أفكاره وتعاليمه، بحيث ردَّها البعض إلى أصل صيني أو هندي، ورآها البعض الآخر مصادر يونانية أو فارسية؛ في حين اعتبر فريق أن التصوف جاء من أفكار النصارى، وبخاصة ما يعود إلى الطرق التي كان يسلكها الرهبان في لباسهم ومأكلهم، وشتى شؤون معيشتهم، وفي دأبهم على حياة الزهد والتقشف.. هذا فضلاً عن أن الصوفيين يزعمون بأنَّ التصوَّف من الإسلام، وهم يعتمدون في زعمهم هذا تارة على عيش أهل الصَّفة، وتارة على آياتٍ من القرآن الكريم أوَّلوها، أو على أحاديث للرسول وضعوها.. فأمَّا نسبتهم لأهل الصفة من الصحابة الأخيار، فقد رأينا أن ظروف العيش القاسية، قد أجبرت أهل الصُّفة على الضعف والاستكانة ردحاً من الزمن، حتى إذا ما حانَ الوقت خرجوا للجهاد ومن ثَمَّ إلى الانطلاق في الحياة بصورة طبيعية يدعون لإعلاء كلمة الله دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا.. ولذلك بيَّنا خطل ادِّعاء الصوفية وأظهرنا كيف أن التصوّف لا يمتُّ إلى أهل الصُّفة بشيء لا من قريب ولا من بعيد..
أما اعتماد الصوفية على آيات من القرآن الكريم، فذلك لأنَّهم حرَّفوا تفسير بعض الآيات وأوَّلوها تأويلاً لا يتفق وحقيقة التنزيل، بما يماشي أغراضهم وطرقهم، حتى أن الباحث يجد أحياناً في تأويلهم ما لا يتفق مع أبسط القواعد العقلية، ويخالف تعاليم الإسلام مخالفة صريحة وواضحة، ومن قبيل ذلك تأويل ابن عربي للآية 15 من سورة فاطر، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.. إذ قال فيها: «فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه.. فأنت غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤُك بالوجود، فتعيَّن عليه ما تعيَّن عليك، والأمر منه إليك، ومنك إليه، غير أنك تسمَّى مكلفاً، وما كلفك إلا بما نظرت له ويقول:
فيحمدني وأحمده يعبدني وأعبده
أفرأيت هذا التأويل الذي جاء به ابن عربي ليخدم اعتقاده في «وحدة الوجود» مع أن الآية الكريمة من الوضوح بما لا يقبل أي تأويل؟ فهي تنطق بالحق الصريح بأنَّ الناس جميعاً مفتقرون إلى الله تعالى، وقد خاطبهم عزَّ وجل من عليائه بهذه الحقيقة كي يستمدُّوا العَون منه تعالى في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، بحيث لا تكون هنالك من صغيرةٍ أو كبيرةٍ تعينهم إلاَّ وهم مفتقرون فيها إلى الإله الواحد، العزيز، القادر؛ في حين أنه هو ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ غَنيٌّ عن الناس، وعن كل المخلوقات، وهو حميد بخلقه لهذه المخلوقات، وبما أنعَمَ عليها من وجود، أي يَقبل حمدَهم على عطاياه بأحسن قبول.. فهل يعقل أن يكون هذا الخالق عظيماً فقيراً إلى عبد مخلوق؟ وهل يقبل الإسلام الذي يقوم على التوحيد بتأويلٍ صوفيٍّ جاء على لسان ابن عربي كفراً باعتقاده أنَّ الله تعالى مفتقرٌ إلينا من حيث ظهوره لنفسه؟!...
هذا ولسوف نورد، في هذا الكتاب، بعضاً من تأويلات الصوفية لآيات الله البيِّنات، بمقدار ما يقتضي البحث ذلك، وفيها يتَّضح مدى الخطأ الذي ارتكبوه في هذه التأويلات حتى يصلَ بهم إلى حدِّ العبث بكلام الله، إن لم يكن للكيد لدينه وما شرع لعباده.
وأما وضعُهُم الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله (ص) فقد كانت غايتهم منها حشوَ رؤوس العامة حتى يجدوا آذاناً صاغية لهم، وعقولاً ضعيفة تقبل ترَّهاتهم؛ فمن قبيل ذلك ما ادَّعَوه زوراً على رسول الله (ص) من أنه قال: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور».. أما غاية الصوفية من هذا الحديث فهي إيهام البسطاء من عامة الناس أن شيوخهم وأقطابهم الجاثمين في بطون الأضرحة، والراقدين في القبور، لهم كراماتٌ عند الله، بوصفهم أولياء له، ومنهم يكون طلب العَون والغوث على النوائب وسدُّ الحاجات، مع أن الدعاء ينبغي أن يكون لله تعالى وحَدَه، والرجاء إليه، والطلب منه، وذلك لقوله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 ـــــــ 14].
فإذا كان الأحياءُ هم بحاجة إلى الله تعالى، فهل يُعقل بأن يلجأ حيٌّ إلى ميتٍ قضى حياته متقلِّباً في معاصي الله تعالى والكذب عليه وعلى رسوله (ص)، ثم يطلب منه الغوث والمدَدَ؟
من أجل ذلك نقول بصراحة: أيها الصوفيون! لا يحق لكم أن تعتبروا القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشريفة مصادر لتصوفكم، ونُعلن أن مصادر تصوفكم هي غريبة عن الإسلام وتعاليمه، وأن تعاليمكم ومعتقداتكم قد كانت دخيلةً على الإسلام وعلى بلاد المسلمين لأسباب عديدة ومتنوعة، كان وسيبقى أهمها على الإطلاق، الدسُّ على الإسلام، والنيلُ من المسلمين لإضعاف شوكتهم، وإبعادهم عن عقيدتهم، ولكي يظل هذا الضعف مستحكماً في نفوسهم، مفسداً أفكارهم، مقوِّضاً أركان مجتمعاتهم، مفكِّكاً وحدتهم، بما يحقق لأعدائهم، من وراء ذلك، أغراضَهم البعيدة والقريبة.
وما دام أنَّ الإسلام لا يمكن أن يكون مصدراً للتصوف، فإنَّ أهم مصادره تكون:
أولاً ـــــــ المصدر الصيني
يرى بعض الباحثين أنَّ الصلاتِ ما بين بلاد العرب وبلاد الصين قديمة جدّاً، وهي ترجع إلى بضعة قرون قبل الميلاد، ثم توثَّقت هذه العلاقات فيما بعد، إلاَّ أنها لم تدوَّن إلاَّ في أواسط القرن الخامس الميلادي؛ أما اتصال المسلمين بالصين فيرجع إلى بداية القرن الأول الهجري.
ولكنَّ تلك الصلات الجديدة لا تعني أبداً أن المسلمين الأوائل قد أخذوا عن أهل الصين تعاليمَ يمكن إدخالها على دينهم، أو بُغيةَ توضيح بعض مفاهيم هذا الدين على أساسها؛ لأنَّ المسلمين ـــــــ في فجر الدعوة ـــــــ كان همهم أن ينشروا الإسلام وأن يلقِّنوه للناس حتى يدخلوا فيه، لأنه الهدى ودين الحق، والأولى بالناس أن يعتنقوه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، ولذا حرصوا على حمل الدَّعوةِ إلى الله تعالى ونشر كلمة الحق.
وما دامت هذه آياتُ الله تعالى، وما دام الدينُ عند الله الإسلامَ، فإنَّهُ لا يمكن أن يأخُذَ الإسلامُ من دياناتٍ اختلَقَها بَشرٌ مهما كانت ساميةً أفكارُ هؤلاء البشر، ومهما كان فيها من عمقٍ وشمول!.. فإذا عرفنا بأن بعض تعاليم التصوّف التي استقيت من بلاد الصين تعود إلى قرون عديدة قبل الميلاد، حكمنا قطعاً بأن هذه التعاليم ليست من الإسلام، بل دخلت إلى بلاد المسلمين في أزمان لاحقة.. وعلى هذا يقالُ إنه عاش في بلاد الصين أيام الحكيم (كونفوشيوس) أي في القرن السابع قبل الميلاد رجلٌ يقال له «لاؤتسة»، وكان ذوي الاتجاه الصوفي البارز، يرفض متع البشر، ويريد الإصلاح في بني قومه، فلما يئس منهم، ارتحل عنهم فصادف في طريقه رجلاً كتب إليه كتاباً أودعَ فيه تعاليمه الصوفية التي تقوم على ترك العمل، وشؤون الحياة، والتخلي عن الشهوات وحاجات الجسم كي يستطيع الإنسان (الذي يقال له التآوي وفق هذه التعاليم) الاتصال بالتآوي (القدرة الغيبية التي يجب الإيمان بها).. ولكي يحقق التآوي هذا الاتصال عليه أن يمرَّ بمراحل ثلاث:
ـــــــ تزكية النفس وتطهيرها حتى يتحرر من شهوات الدنيا. والذي يستطيع هذا التحرر يمكنه أن يفهم (التآوي) في ذاتها الروحية.
ـــــــ الإشراق، وينال التآوي هذه المرتبة بعد أن يستغني عن التكلُّف في إتيان الفضائل، بحيث يصبح هذا الاستغناء سجيةً فيه، نابعةً من نفسه المتعطشة إلى الفضيلة.
ـــــــ الاتصال (بالتآوي) أو الاتحاد بها. وفي هذا الاتحاد تصبح للتآوي نفس صفاتها ونفس إدراكها.. فيفهم الموجودات كما تفهمه هي، وهذا ما يجعله يتحرر من القوانين الطبيعية كلها.. وقد عبَّر (لاؤتسة) عن ذلك بقوله: «إن الإنسان يستطيع أن يعرف كل ما في العالم من غير أن يخرج من باب داره»..
هذه التعاليم الصوفية التي ظهرت في الصين، نجدها هي نفسها أو ما يشابهها كثيراً في تعاليم الصوفية في العالم الإسلامي. ولذلك يعتبر الدكتور فروخ أن هنالك صلةً وثيقة بين التصوف الإسلامي وبين فلسفة الحياة الصينية، حتى أن الدارس ـــــــ كما يقول ـــــــ «ليعجب من ذلك. لقد اشترك العربُ والصينيون في تسمية هذا المذهب طريقاً أو طريقة، ونظروا جميعهم إلى الحياة على أنها سفر. ولقد رأى متصوفة الإسلام أن الله علة للوجود وإليه يتوق الوجود وأنه يتجلَّى للمتصوف في ما خلق. وهكذا رأى الصينيون في (تآوي)؛ واتفقوا جميعهم على أن العلة الأولى لا تدرك بالحواس ولا توصف بالتشبيه. وقد أصرَّ الجميع على أن يكون للسالك منهاج خاص، وأن لا يقلِّد أحداً في حياته الصوفية. والطرفان وضعوا لبلوغ الاتحاد بالعلة الأولى رياضةً خاصة ذات مراتب هي عبارة عن المقامات والأحوال؛ فتزكية النفس وتطهيرها عند الصينيين يشبه مقام التوبة والورع عند المسلمين؛ والإشراق الصيني يشبه الكشف عند صوفية المسلمين، والاتصال والاتحاد يشبه الفناء»... هذا بالإضافة إلى ما في فلسفة الصينيين حول النفس والروح وغير ذلك مما يتوافق مع أفكار الصوفية وفلسفاتهم في أكثر المواضيع.
من أجل ذلك وغيره استدلَّ بعض الباحثين على أن للتصوف في العالم الإسلامي مصدراً صينيّاً...
ثانياً ـــــــ المصدر الهندي
قد لا يكون من المغالاة في شيء إن قلنا: إن حياة التقشف والفقر، وحياة الحرمان والعذاب، بكل الألوان والأشكال، قد دعا إليها فلاسفة الهنود منذ أقدم العصور؛ وهذه المظاهر للحياة واتِّباعها إنْ هي إلاَّ تعاليم الصوفية أينما وجدوا، وإن تفاوتت آراؤهم أو تعابيرهم أحياناً، ولا سيما في نظرتهم الفلسفية إلى بعض القضايا..
فالتصوّف بكل اتجاهاته وأشكاله معروف في الهند، وهو يبرز أكثر ما يبرز في معتقدات البراهمة والبوذية..
أما عقيدة البراهمة فتتلخص بأنَّ على الإنسان أن يجاهد في حياته كي يخلص نفسه من استعباد الجسد لها، ثُمَّ يترقّى حتى يتمكن من الاتحاد بالروح الكليِّ أو (براهما) الذي هو عندهم الله؛ على ما سوف نرى من تفسير الفيلسوف الهندي (شنكارا) لدين براهما عند البحث في آراء ومعتقدات أبي يزيد طيفور البسطامي. ومع ذلك يمكن أن نشير هنا إلى أن الصوفية قد أخذوا عن البراهمة مذهبين من مذاهبهم الأساسية: وحدة الوجود، وطريق الهداية.. فأما عن وحدة الوجود عند البراهمة فيقول البيروني: «إنهم يذهبون في الوجود إلى أنه شيء واحد».. وبعد أن يذكر النصوص التي كتبوها حول هذا المذهب، ويبيِّن كيف أنه نشأ عن أسطورة لبداية الخلق والتكوين، فإنه يعود ويتعرض للصوفية كي يفنِّد أقوالهم بالحلول والظهور الكلي.. وأما عن المذهب الثاني فيرى الأستاذ محمد البهلي النيال (في كتابه: الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي) أن «مما أخذه الصوفية عن البراهمة وغيرهم من الأمم الأخرى، أن الهداية لا يصل إليها العقل بمنطقه، وأن الوصول إلى الحقائق لا يتأتَّى إلاَّ بمحض البصيرة. وهذا ما تورط فيه الإمام الغزالي. وإلاَّ فما هي البصيرة: أليست هي خميرة العقل في الإنسان؟»..
هذا ويعتبر الأستاذ النيال أن مذهب «اليوجا» هو أيضاً من تصوّف الهند. وأن اليوجا هم طائفة يفوق عددهم في الهند الثلاثة ملايين يعذبون أنفسهم من أجل أن يظفروا بسكينة «المعرفة». ولطريقهم مقامات شبيهة بمقامات صوفية الإسلام.
ومن هذه المقامات:
ـــــــ موت الشهوة وتحرير النفس من كل رغباتها، وتمني الخير للكائنات جميعاً.
ـــــــ النظافة والقناعة والتطهر والتقوى والدراسة.
ـــــــ إيقاف كل حسٍّ لدى الإنسان عن طريق تعويد الجسد على وضعٍ معين وتنظيم التنفُّس كي يتفرَّغ العقل من شواغله استعداداً للتأمل.
ـــــــ تأمل الغيبوبة بحيث يمحى من الذهن كلُّ تفكير، وينغمس في مجموعة الوجود.
ـــــــ تكرار المقطع «أوم» وهو مثل الذكر (هو، هو، هو) عند الصوفية.
ويعقِّب الأستاذ النيال عن ذلك بقوله: «وهل التصوف الإسلامي بعد هذا شيء آخر غير مذهب اليوجا؟».
وأما البوذية فهي مذهب ديني نشأ في الهند على يد «بوذا»، الذي كان أحد أبناء الملوك ولكنه تخلَّى عن العرش ليعتزل الدنيا وزخارفها، ويقبل على رياضة النفس والتفكير في أسرار الخليقة، حتى تحقق له الفناء المطلق أو «النيرفانا».. وكلمة «النيرفانا» هذه فسَّرها الدكتور فروخ بأنها تنطوي على معنيين سلبيين: الأول هو حال من الاضطراب والتشاؤم اللَّذين ينتج عنهما اعتقاد بأن هذا الوجود هو عذاب وشقاء؛ والثاني حال من النعيم النفساني يراها البوذي خيراً من كل وجوده مهما كان شَاقّاً، فهي أملٌ بالتخلص من الشقاء الحاضر ومن خوف الشقاء المقبل لأنه سيدخل بعد موته في «النيرفانا الكبرى» ثم لا يعود بعدها إلى الحياة أبداً.
وإن من شروط الانخراط في سلك الجماعة البوذية التخلي عن الدنيا، واتِّباع حياة الفقر، وحلق الرأس ولبس الخرقة الصفراء..
ومن النظريات التي تقول بها بعض الديانات الهندية «التناسخ» الذي يقوم على أن الأرواح لا تموت ولا تفنى بل تنتقل من كائنٍ حيٍّ إلى كائنٍ حيٍّ آخر إما بصورة اطِّرادية نحو الأعلى أو نحو الأسفل، فالأرواح الخيِّرة تنتقل من الحسن إلى الأحسن وترتقي في معارج الكمال حتى يتحقق شوقها ويتَّحد العقل والعاقل والمعقول فيصيروا واحداً... والأرواح الشريرة تنتقل من بدن الإنسان إلى النبات أو مرذول الهوام.. ونظرية «التناسخ» هذه أخذ بها الصوفية في الإسلام ـــــــ كما يقول البيروني ـــــــ حين قالوا: إن الدنيا نفسٌ نائمة والآخرة نفسٌ يقظَى..
هذا ونجد عند بعض الباحثين: أن جميع الفرق المذهبية من الهنود «كالجوكية» أصحاب الأنفاس والأوهام، وأصحاب الروحانيات، وأصحاب الحكمة وغيرهم، لكلٍّ من هؤلاء رياضات شاقة عملية لا تخلو من العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس... أي تماماً مثل رياضات الصوفية في العالم الإسلامي..
وفي ما يتعلق بتربية المريدين والأتباع، لا تختلف طريقة الصوفية عن الطرق التي اتَّبعها الهنود في ذلك، وخاصةً ما هو لدى البرهمية التي تفرض أن يتعلم البرهمي في سن معيَّنة علم الكلام والشريعة، من أستاذٍ يعيش معه ويقوم على خدمته بحيث يغتسل في اليوم ثلاث مرات، ليقدِّم في كل مرة قرباناً للنار ثم يجثو على قدمي أستاذه بعد القربان، ولا يخرج هذا البرهمي من بيت أستاذه إلاَّ لكسب القوت، وإنْ تسوُّلاً؛ فيأتي بما يحصل عليه ويقدِّمه لأستاذه كي يتخيَّر منه ما يشاء ثم يترك له ما بقي عنه.. وهل هذا غير ما يقوم به الصوفية إذ يجب أن يكون المريد طوعاً لشيخه، منفذاً لأوامره ورغباته، مسلوب الإرادة والتفكير أو على حدِّ تعبير أحدهم: «أن يكون بين يدي شيخه مثل الميت بين يدي الغاسل»؟
مما تقدّم يتبيَّن ما للتصوّف الهندي من تأثير بالغٍ على معتقدات الصوفية في العالم الإسلامي، بحيث أضحت التعاليم التي عرفها الهنود القدماء وطبقوها على شكل عبادات مصدراً يستلهمه الصوفية ويأخذون منه ما يشبع جوعتهم في المجاهدات وقهر الغرائز وإماتتها، للوصول إلى إحدى حالات الفناء أو الاتِّحاد، أو الحلول وما إلى ذلك من معتقداتٍ سخيفة..
ثالثاً ـــــــ المصدر اليوناني:
من المعروف أن الفلاسفة المسلمين أمثال الكندي، والفارابي وابن سينا والغزالي، وابن طفيل وغيرهم.. قد تأثروا بالفكر اليوناني، وبالفلسفة اليونانية تأثراً كبيراً، وذلك بفعل حركات النقل والترجمة التي قام بها نصارى النساطرة واليعاقبة والصابئة من الوثنيين..
وقد تركَّزت أبحاث الفلاسفة المسلمين، بشكل رئيسي على التوفيق بين الشريعة والفلسفة أو بين الإيمان والعقل فكانت لهم نظريات عديدة بهذا الخصوص وبغيره من مجال الفلسفة التي هي النظر في حقيقة الأشياء أو التي هي علم المبادىء الأولى. ونظرياتهم تلك معروفة على ما نجد في بطون الكتب والمؤلفات..
على أن ما تقتضي الإشارة إليه هو أن التصوف الذي استقي من مصادر يونانية إنما يعود بشكل أساسي إلى الأفلاطونية الحديثة، وهي مزيج من مذهب أفلاطون والنصرانية. بدأ بها (فيلون الإسكندري) وجدَّدها بعد ذلك أفلوطين فوجَدَ فيها الصوفية منهلاً لنظرياتهم في الذوق، والمواجد، والمكاشفة وما إلى ذلك..
ويرجع المصدر اليوناني في التصوف، لدى بعض الباحثين، في أساسه إلى (فيثاغورس) المعروف باتِّجاهه الصوفي وتقشفه، ومن نظرياته أن النفس تتصل بالملأ الأعلى، وذلك عندما يحسن الإنسان تقويم نفسه بالتبرؤ من العُجب والتجبر والرياء والحسد وما إلى ذلك، ومن شهوات الجسد، بحيث يصبح أهلاً لأن يلحق بالعالم الروحاني، النوراني فوق عالم الطبيعة، ويطَّلع في هذا العالم على ما شاء من الحكمة الأزلية. فتأتيه لذائذ النفس بصوره تلقائية مثلما تأتي الألحان الموسيقية إلى حاسة السمع.
ولا يختلف أفلوطين كثيراً عن فيثاغورس في نظرية اتِّصال النفس بالملأ الأعلى، إذ يعتبر أن النفس كانت قبل اتصالها بالجسد مع الله في الملأ الأعلى، ثم هبطت إلى العالم الأرضي وأصبحت خاضعة للتناسخ في البشر والبهائم والنبات، فإذا أرادت الرجوع إلى الله فلا بدَّ لها من أن تتحرر من شهوات الدنيا، وأن تدأب على التأمل في ذات الله. حتى تخسر وجودها الجزئي ويتم لها الاتِّصالُ بالعلة الأولى التي هي الله تعالى، فتشعر حينئذٍ بالسعادة لأنها أصبحت والله شيئاً واحداً!.
ويَعتبر (فورفوريوس) وهو تلميذ أفلوطين أن غاية الفلسفة تخليص الإنسان من الشرور عن طريق مجاهدة النفس والقضاء على حاجاتها وشهواتها، بحيث يتحقق له عن طريق هذه المجاهدة الاتِّصال بالله أو الاتحاد معه، وبمقتضى هذا الاتِّحاد تطَّلع النفس على ما تشاء من أسرار الكون..
ومن أفكار الأفلاطونية الحديثة نظرية «الفيض» التي تعتبر أن أوَّل فيض من الله كان العقل الأول ومنه استمدّت جميع الموجودات وجودها، وعنه تصدر الفيوضات الأخرى..
وهذه النظريات هي نفسها التي أخذ بها الصوفية؛ فهم يرون بأن المعرفة الحقيقية لا تحصل عن طريق الحس أو العقل بل بنور يقذفه الله في قلب العبد بعد أن يكون قد تخلص من كدر الدنيا وشوائب المادة، وتحقق له الفناء في ربِّه، والاستغراق في ذاته سبحانه وتعالى استغراقاً تزول معه الفوارق ويتحقق الجمع.. وما قال به (فورفوريوس) هو أيضاً ما اعتنقه ابن عربي في «وحدة الوجود»، وعمر بن الفارض في نظرية «وحدة الشهود».. أما نظرية الفيض فقد عبَّر عنها ابن عربي بالحقيقة المحمديَّة التي اعتبرها أول فيض من الذات الإلهية، والموجودات الأخرى هي فيوضات لها؛ وهي أيضاً نفس النظرية التي قال بها شهاب الدين السهروردي الحلبي (المقتول) في حكمته الإشراقية، التي يجعل الله تعالى منها نوراً فيَّاضاً بالأنوار القاهرة أي النفوس والعقول..
فهذه النظريات الصوفية (الاتّصال بالله أو الجمع، ووحدة الوجود، والفيض، والحقيقة المحمديَّة، ووحدة الشهود والمعرفة وما إلى ذلك...) نجد جذورها في الفلسفة اليونانية ولا سيما في الأفلاطونية الحديثة، مما يبيِّن العلاقة الوثيقة ما بين فلسفة اليونان وفلسفة الصوفية من المسلمين..
رابعاً ـــــــ المصدر الفارسي:
كان للفرس، قبل دخولهم في الإسلام، أفكارهم وآراؤهم الفلسفية مثل سائر الشعوب الأخرى. ويبدو أن ما عُرِفَ في فارس من «مانوية» و«زرادشتية» كان مأخوذاً في معظمه عن «البوذية» و«الإبراهمية» الهنديتَين، وخاصة في ما يعود إلى الجسد والروح، وترك الملذات ولبس المرقَّعات..
تلك المعتقدات الفارسية القديمة سوف تعود وتظهر في حقبة لاحقة على دخول الإسلام بلاد فارس، ولا سيما إبَّان العصر العباسي الذي كثر فيه المشتغلون بالعلوم والفلسفة والتفسير، كما كثر فيه أهل الكلام، وكانوا جميعاً في غالبهم من الأعاجم.
ومن مظاهر تلك المعتقدات المجوسية التي كانت سائدة مثلاً عبادة النار، والإرهاب النفسي، والانحلال الخلقي، وما تبعَ ذلك من فسادٍ في بناء المجتمع وكيانه.. فلما أثخن العربُ جراح فارس في القادسية، وتمَّ لهم بالاستيلاء على المدائن تعريب ملك كسرى، لاقت تعاليم الإسلام قبولاً رائعاً في عقول الناس ونفوسهم، حيث تجلّت لهم عقيدة التوحيد بأبهى مظاهرها، لما فيها من دعوة للإيمان الصادق، وحثٍّ للإنسان على العبادة الحقة، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر، فانضوت فارس تحت لواء الإسلام، طائعة مختارة، تظللها الرعاية السابغة وعدالة التشريع النابعتَين من جوهر العقيدة وسمو المبدأ..
وإذا كان الناسُ قد أقبلوا على الإسلام راضين، فإنَّ فئةً منهم كانت ما تزال تتقلَّب بين ما ورثتهُ من أفكار ورواسب وعادات وتقاليد مجوسية، وبين ما جاءَ به الإسلام من قيمٍ جديدة، وتعاليم سمحاء، مما جعل ذلك التقلُّب يحولُ دونَ اجتلاءِ الإسلامِ الصحيح في نفوسِ تلك الفئة، فأخذت منه ما يلائم طبائعها ويروق لأذواقها، وما تجده الأسهل على مداركها، بحيث لا تتخلى عن قديم معتقداتها بل تصله بحاضر دينها، حتى صارَ لإسلامها طابعاً خاصًّا يختلف كثيراً عن الإسلام الصحيح الذي أنزله الله تعالى وبلَّغه الرسولُ الأمين، وحَمَلَهُ الدعاةُ الصادقون.. وهكذا اختلطتْ على تلك الفئة المفاهيمُ مما أدَّى إلى تعطيل الإدراك، وتخدير العقول، والترخيص في الفضائل، والتلهِّي بالخيال، والولوع بالخوارق. ولقد أدرك الخليفة عمر بن الخطاب (رض) بثاقب نظره ما قد يؤول إليه الأمر في تلك الديار، فكان يُلحُّ في تحذير المسلمين بقوله لهم: «إياكم وأخلاق الأعاجم».. وقد كان يقصد بهذا التحذير كلَّ ما هو غريب عن جوهر الإسلام، ولا سيما المعتقدات المجوسية التي كان تبدو في ظاهرها نوعاً من الزهد، والتعفُّف، والعمل على تهذيب النفس، بينما هي في الحقيقة تُميتُ شخصيةَ الإنسان، وسلامةَ فطرتِهِ لما فيها من دعوة لتجويع البدن، وإرهاق الحواس، مما يجعل بالتالي الجماعةَ الإسلامية ضعيفة. منهوكة القوى، ويقضي بالتالي على ما عندها من تطلعات للعمل والتقدم..
إذن فقد أراد عمر (رض) أن ينبّهَ المسلمين إلى خطورة الأفكار الغريبة عن الإسلام، فيعملوا جميعاً على اجتثاث جذورها أينما وجدت، ولكن يبدو أن صرخته التحذيرية تلك لم تلقَ التجاوبَ المأمول، فظلت تلك الفئة المتردِّدة على حالها، إذ لم تستطع التخلِّي عن ميراث المجوسية بصورة نهائية، فكان لذلك أبعد الأثر على حياة المسلمين؛ فلما جاءت الصوفية استغلَّت هذا الوضعَ، وراحتْ تعملُ من خلالِهِ على نشر معتقداتها، وتزيين آرائها..
وإلى جانب تلك الجماعة التي ظلَّتْ مشدودةً إلى أخلاق المجوسية، ظهرت أيضاً جماعةٌ أخرى كانت تسعى وراء مآرب سياسية، فلم تحفل بتعاليم الإسلام السوية الواضحة، بل راحت تعمل على إشاعة الفوضى ونشر الخرافات بين صفوف المسلمين، حتى إذا ما أصيب العربُ المسلمون بداء الترف من عدوى الشعوب التي خالطوها، هبَّت تلك الجماعة المتربّصة في شعوبية لئيمة تعمل ـــــــ في ظل الغفلة والتسامح ـــــــ على تشويه مفاهيم الإسلام وإبعاد تعاليمه الحقيقية عن العقول والنفوس، فاستنبتوا لذلك التصوّف، وجنّدوا له الدعاة والمبشِّرين ثم وزعوهم في البلاد، يتظاهرون بالزهد والتقشف والعبادة، في حين أنهم كانوا يعملون في الخفاء على بذر سموم الشك في العقيدة، وهدم تعاليمها، ولعلَّ أبشع ما اتَّبعوه لذلك إغراءَ الناس بمظاهر الدروشة ونوبات الولاية، وإغواءَهم عن طريق الترخص بأوامر الله ونواهيه من حيث إباحة المحرمات، وتحريم الطيبات، وتأويل القرآن، ووضعِ الأحاديث تقوُّلاً على رسول الله (ص)، وادِّعاء رؤيةِ الملائكة ومخاطبتَهم، وعلمِ الغيب، والقدرةِ على ردِّ الغائب وشفاء المريض.. وهم في ذلك يحدثون طوائف الناس المختلفة بما يتوافق وأهواءَها وميولها، وبما يخدعُ البسطاء من العامة بالسحر والشعوذة، قائلين عنها: إنها كراماتٌ من الله ـــــــ سبحانه ـــــــ يمنحها للمخلصين من رجال التصوّف...
ولم يكتفِ الشعوبيون باستنباتِ التصوّفِ، والعملِ على تفشِّيه في صفوفِ المسلمينِ، بل راحوا يتقربون من الولاة والحكام بالمداهنة والمراوغة، عن طريق التظاهر بمحبتهم وتقديم فروض الطاعة والولاء لهم، حتى نجحوا في ذلك واتخذوهم بطانةً وأعواناً، ومع الوقت صار لهم الإشراف الفِعلي على مصالح البلاد، والكلمة النافذة في توجيه السياسة، ونشر الثقافة وفق ما يريدون.. وفي هذه الحقبة كتبوا التاريخ عن بلاد المسلمين، محشوًّا بالأغلاط والأكاذيب، ونقلوا إلى المكتبة الإسلامية الفِكرَ اليونانيَّ، وأخلاقَ المجوسية، وهكذا حَملَ الأحفاد، مع مرِّ السنين وتعاقب الأجيال، ميراثَ التاريخ مزوَّراً، وقاموسَ الفكر مضطرباً، مما جَعَلَ التصوُّف يلقى في النفوسِ الاستجابةَ والميلَ ويعيش إلى يومنا هذا..
على أن هذا الفعل التزويري لتاريخ المسلمين لم يحملْ إثمَهُ صوفية الفرس القُدامى وحدهم، بل يقَعُ وزرٌ كبيرٌ منه على الصوفيين من العرب كذلك. فكما كان لصوفية الفرسِ أمثال معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي وغيرهما.. تأثيرهم على الأفكار في العالم الإسلامي، فإنه كان نفس التأثير وأكثر لصوفية العرب أمثال سليمان الداراني في العراق (الذي توفي سنة 215 هجرية)، وذي النون المصري في مصر (الذي توفي سنة 245 هجرية)، ومحيي الدين بن عربي (الذي توفي سنة 632 هجرية) وشرف الدين عمر بن الفارض (الذي توفي سنة 632 هجرية).
وبمثل ذلك التزاوج بين الآراء والأفعال بين أعلام الصوفية من العرب والفرس، تفشَّى التصّوف في العالم الإسلامي يدعو الناس إلى الانكماش والعزلة باسم الدين، ويحبسهم في معتقلات الجهل، ويشغل أوقاتهم بتعاطي الخيال، وترويج الكلام في المقامات والأحوال، حتى صَرَفَ الأمة عن وحدة الكلمة ودفعَ بحيويتها المتدفقة إلى أغوار الخوانق (جمع خانقاه) والتكايا، وقيَّد نشاطها الطبيعي في دائرة الجدل العقيم حول التفسيرات المغلوطة، والتأويلات المدسوسة؛ فتكاثر في ذهن الأمة الميل إلى الضياع والعجز والرضى بالذل والمسكنة، وما إلى ذلك من ضروب التخلُّف والجهل والتعمية.. هذا فضلاً عن إشاعة الأوراد والأحزاب التي تشبه ترانيم الكهانة القديمة، التي ابتدعوها لصرف الناس عن تلاوة القرآن وتدبُّر معانيه..
وهكذا أغلقوا على عقول المسلمين، طريق التفتح واليقظة وصرفوهم عن تفُّهم حقيقة الإسلام، بعدأن قصرُوا دعوَتهُ ـــــــ التي جاءت أعظم دعوة من رب العالمين لهداية الناس جميعاً ـــــــ على الاعتقاد بكرامات أوليائهم، وإقامة حلقات الذكر في نواديهم، وتضليل الناس بأفكارهم ومعتقداتهم، في حين أن حقيقة هذه المعتقدات لا توصل إلّا إلى الكفر طالما أن غايتها مشاهدة الله تعالى والاتحاد به.. وما إلى ذلك من معتقدات الزندقة والكفر.
إذن ففي تاريخ الفكر الإسلامي زيف وخداع. وقد آن الأوانُ لأن ننفضَ غبارَ ذلك الماضي، وذلك التاريخ المزيَّف، أيًّا كان دعاتُهُ، والأسبابُ التي تكمن وراء استمراره وبقائه.. ولا نخال هؤلاء الدعاة من المستشرقين والحكام الذين هم عملاء للاستعمار الطامع بخيرات البلاد الإسلامية ومقدراتها إلاَّ أعداء الإسلام ومعهم أتباعهم أولئك الغافلون من المسلمين الذين اتَّخذهم الأعداءُ أدواتٍ ينفذون من خلالها إلى تنفيذ مآربهم وأطماعهم..
فالإسلامُ هو الدين الحق، ومصادره الكتاب والسنَّة، فمن عمِلَ بهما أرضَى الله تعالى ورسولَهَ الكريم، ومن خالَفَهما أغضبَ الله تعالى ورسولَهُ، ولن يكون له في الآخرة ـــــــ بعلم الله ومشيئته ـــــــ إلاَّ النار مأوًى، ليذوق عذابَ ما جنَى على الإسلام وأهله..
خامساً ـــــــ المصدر اليهودي
تدل كتب التاريخ على أن جزيرة العرب عرفت قبل الإسلام الديانتين اليهودية والنصرانية. فأما اليهود فقد عاشوا في اليمن حيث عملوا في الزراعة والحِرَف، وفي الحجاز حيث كانت أهم مواطنهم في يثرب وخيبر وتيماء ووادي القرى. وكانت أبرز عشائرهم وأظهرها قوة في هذه الديار تلك التي عاشت في يثرب من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة الذين تعاطوا أعمال الزراعة والصناعة، فكانت لهم ديار وأرزاق وفيرة..
وقد اشتهر يهود شبه الجزيرة بإتقانهم اللغة العربية وآدابها؛ ورغم ذلك لم يتخلَّقوا بأخلاق العرب البدو، بل ظلَّت صفاتُهم الغالبة الدسَّ وإذكاءَ نار الفتن بين القبائل، حتى تتأمَّن مصالحُهم من خلال تنابذ تلك القبائل وتفرقتها.
ولقد حاول يهود شبه الجزيرة بثَّ ديانتهم بين الناس، إلاَّ أن طباع العرب لم تألف نهجهم في الحياة، مما حالَ دونَ استمالة العرب هناك إلى اليهودية، فظلَّ أكثرهم على الشِّرك وعبادة الأصنام، لذلك لم يتمكن اليهود لا قبل الإسلام، ولا بعد قيام الدولة الإسلامية، من بناء وحدة دينية أو سياسية تفرض آراءَها وتكون لها السيطرة والسيادة، فاستمرُّوا مشتَّتين في البلاد، إلى أن ظهر ضعف الدولة الإسلامية، فكانوا من بين الشعوبيين الذين عملوا على تقويض أركان هذه الدولة، وتزوير تاريخها بما أدخلوا من تعاليم عرفت بالإسرائيليات استقَوها من التوراة، بل مما أدخلوه هُم على التوراة من تحريف، حتى يُلصقوه بالإسلام زوراً وبهتاناً..
من هنا كان تأثير الفكر اليهودي في التصوُّف تأثيراً محدوداً يُقتصر على ما عُرف بالإسرائيليات التي استغلَّت بعض نظريات الصوفية لتجعل لها طابعاً إسلاميًّا.. ومن هنا ـــــــ أيضاً ـــــــ يعتبر المستشرقُ (جولدتسيهر) بأن الصوفية المسلمين تأثروا باليهودية؛ وهذا هو نفسه الذي ذهب إليه الشهرستاني (في الملل والنحل) عندما يقول: «وجدوا التوراة ملأى بالمُشابهات مثل الصورة والمشافهة والتكلُّم جهراً مع الله، والنزول في طور سيناء انتقالاً، والاستواء على العرش استقراراً، وجواز الرؤية فَوْقاً.. ولما وجدوا (يعني بهم الصوفية) الفرق اليهودية اليوذعانية وغيرها تقول بأن للتوراةِ ظاهراً وباطناً، أكدوا ذلك على أساس المنهج الصوفي».. وكذلك يبيِّن الدكتور طلعت غنام المصدر اليهودي للتصوُّف فيقول: «وقد سجلت هذه المواقف التي عاشتها النظريات الصوفية في مجال الأديان الثلاثة ونص ترجمة التوراة هكذا: (جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلن في فاران).
ويفسَّر معنى تلك الترجمة بقوله: «ومعنى هذا كما تقول النصوص جميعها أن طورَ سيناء مظهر موسى (ع) في الوادي المقدس، وأن ساعيرَ (جبال فلسطين) مظهرُ عيسى (ع)، وأنَّ فارانَ إعلانُ الله رسالتَهُ الأخيرة حقيقةً ومظهر محمد (ص).. فإذا تفحَّصنا (فيلون) الفيلسوف الصوفي اليهودي، فإننا ندرك مدى تأثُّر الدوائر الصوفية في الإسلام بالمصدر اليهودي الشرقي الذي كان له الأثر في الأفلاطونية المحدثة والدوائر المسيحية وبالتالي في الدائرة الإسلامية والفكر الإسلامي»..
وإذا أخذنا بنظرية الدكتور غنام من أنَّ المستشرق (جولدتسيهر) هو يهودي، وهو حامل لواء راية تأثر الصوفية المسلمين باليهودية، فإنَّ ذلك كافٍ لأن ندرك كم كانت شهوة اليهود شديدة، وخاصة المستشرقين منهم، إلى تشويه الإسلام بإدخال الأفكار الغريبة عليه، ومنها الأفكار الصوفية التي كانت من أعتى الهجمات على الدين الحنيف، فأوقعت في صفوفها ضحايا كثيرين ما زالت تعجُّ بهم الأمصار ويا للأسف حتى اليوم!!
سادساً ـــــــ المصدر النصراني:
لقد عرفت جزيرة العرب النصرانية، كما قلنا، وانتشر أتباعها في عددٍ من النواحي والأطراف، فأقاموا في اليمن، وحُمِلتْ جماعاتٌ من الجاليات الرومية رقيقاً إلى مكة ـــــــ البلد الذي كان من أهله أعلامُ الأحناف..
وتشير بعض المصادر إلى أن حنظلة الطائي ترك قومه من أجل التنسّك، فأقام ديراً بالقرب من شاطىء الفرات قضى فيه باقي عمرِهِ حتى مات.. وأنَّ أميّة بن أبي الصلت لبسَ المسوحَ تعبّداً، وكانت له آثارٌ في الشعر والنثر تحمل طابعه الزهدي في الدنيا، ونظرته إلى الكون والحياة..
وقد ذكرت المصادرُ التاريخية أولئك الأحناف من مكة الذين نزعوا إلى النصرانية بأسمائهم وذلك لقلّة عددهم.. بينما تشير تلك المصادر إلى أنه قامت على أطراف الجزيرة قبائلُ من العرب دخلت كلها في النصرانية لأغراض سياسية، كالغساسنة وقبائل كلب وقضاعة وجذام في بلاد الشام الذين تنصَّروا مسايرةً لأسيادهم الروم. كما أن قبائل من العراق كانت قد اعتتنقت النصرانية قبل الإسلام كتغلب وأياد وبكر وغيرها..
ومثل هذا الوجود الضئيل للنصرانية في جزيرة العرب وبعض أطرافها لم يؤثر على حياة العرب الفكرية وما كان لهم من عادات البادية وتقاليدها، إلاَّ ما أخذه البعضُ من مظاهر العيش التي كانت للرهبان وسكان الأديرة وهي تدور في محورها على التقشف في الحياة ولباس الصوف وما شابه ذلك، وهي المظاهر نفسها التي اتَّبعها الصوفية في طرق عيشهم كما صارَ معروفاً.. على أنَّ عدم تأثير النصرانية على الفكر العربي لم يمنع المتصوفين الأوائل من الوقوف على أخبار الرهبان حول المجاهدات النفسية، وإقامة الخلوات، والانصراف إلى التعبُّد في الصوامع، بل إنَّ كثيراً منهم ـــــــ كما يدعي ابن عربي في محاضرات الأبرار ـــــــ كانوا يجتمعون إلى الرهبان النصارى ويستشيرونهم حتى في أمور الدين كما يروى عن عبد الواحد بن زيد، والعتابي، وأبي سليمان الداراني وغيرهم. وفي ذلك يقول بعض الصوفية الأوائل:
مواعظُ رُهبـانٍ وذكــــــرُ فِعالهـــــــم وأخبارُ صدقٍ عن نفوسٍ كوافرِ
مواعظُ تَشْفِيْنا فنــــحن نَحُوزُهـــــا وإنْ كانتِ الأنباءُ مِنْ كلِ كافِرِ
مواعظُ بِرٍّ تُورثُ النفسَ عِبرةً وتترُكُها وَلْهــــــــــــاءَ حــــــولَ المقابــــــــرِ
فإذا ما أضفنا إلى طرق العيش أو الموعظة تلك، ما كان للنصارى من اتجاهات روحية وفلسفية على ما تروي كتب الصوفية أنفسهم من قصصٍ وأقوال عن السيد المسيح (ع)، نجد أنَّ جميعها يؤلف مصادر هامة لبعض مذاهب الصوفية...
ومن تلك الاتجاهات الروحية في النصرانية: المحبة وهي أهم التعاليم التي نادى بها السيد المسيح (ع) (وإن كان الكثيرون اليوم لا يعملون بها كما أرادَها (ع) بذرة خيرٍ في القلوب والنفوس تدعو إلى التآلف والتسامح وإيثار الغير وما إلى ذلك من القيم السامية التي ترفع من قدر الإنسان الذي يتعامل بها).. هذه المحبة أخذها الصوفية عن أصلها المسيحي ولكنهم أوَّلوها بما يتوافق وأهواءهُم، فأنشأوا من خلالها، أو على منوالها مذهبهم المعروف بالحب الإلهي أو بالعشق الإلهي، وهو المذهب الذي كانت رابعة العدوية رائدته الأولى، وكان له أكبر الأثر في استمالة كثيرين من الناس إلى التصوُّف، فدخلوا فيه إمَّا متأثرين بمشايخه، وإمَّا تيمُّناً برابعة وتبرُّكاً بها، أو اقتداءً بنهجها عندما أحبَّت الله تعالى وأقبلت عليه بكل جوارحها طمعاً في مطالعة جماله، ورؤية وجهه الكريم، والاتصال به، على ما سنرى في هذا الكتاب...
ويتحدث الأستاذ عبدو حلو (أستاذ محاضرات في تاريخ الفلسفة العربية) عن الطرق العملية التي تأثر فيها الصوفية بالنصارى، فيرى بأنَّ ما أخذه الصوفية من تنظيمات إدارية ومسلكية في التكايا والزوايا وأماكن تجمعهم أشبه ما يكون بنظام الأديرة وتعرف عندهم بالخانقاوات. وقد أسست أول (خانقاه) في الرملة من بلاد فلسطين قبل نهاية المئة الثامنة ميلادية، وخلال النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وكان مؤسسها مسيحيًّا، ولكنَّ الذي كان يترأس نظامَها هو أحدُ شيوخ الصوفية..
ويضيف إلى ذلك: بأن موارد الالتقاء بين الصوفية والرهبان تقوم على أن نظام الأديرة كان يفرض على من يريدُ الرهبنة الفقرَ والعفافَ والإطاعة لرئيسه.. وأنَّ هذا الشرط بعينه هو ما اشترطَهُ الصوفية في المريد الذي يلتحق بأحد الشيوخ ليصبح صوفيًّا.
هذا ويذهب الأستاذ النيال في كتابه (الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي) إلى أن «الصوفيةَ ما كان لها أن تعيشَ لو لم يكن الصوفيةُ بين المسلمين من ضحايا شدَّة الحبِّ في الله، لا سيما والصوفية القدماء قد تركوا مجال الحياة فسِيحاً بين المتنافسين في هذه الحياة فهم لا يضايقونهم في شيء منها»..
ويضيف إلى ذلك قوله: «ومع ذلك فقد أنكر عليهم الفقهاءُ غلوَّهم، ونعتوهم بالرهبانية ـــــــ والرهبانيةُ قد ذمَّها الإسلامُ ـــــــ فنشبتْ بين الفريقين (أي الصوفية والفقهاء) خصومةٌ حادةٌ عاشت بعض الوقت إلى أن ظهر صلاحُ الدين الأيوبي على الفرنجة وعلى الجميع، فحمل الأمة الإسلامية على السنّة وعلى المذهب الأشعري، وقرَّبَ إليه الصوفيةَ فتكاثَرَ عددُهم، فأسَّسَ لهم التكايا وحَبَّسَ عليها. واشترط ـــــــ كما يقول المقريزي: ـــــــ أن لا يُقبلَ فيها إلاَّ من كان (سنيًّا أشعريًّا). وبذلك هدأت الخصومةُ الحادة التي كانت بين الصوفية والفقهاء، وأمكن للفقيه أن يتصوَّف، وللصوفي أن يتظاهرَ بالأشعرية، وفتحَ كلُّ فريقٍ من الفريقين أبوابَ دارِهِ في وجه الآخرين. وانطلقت الصوفيةُ بعد أن سار الحكام المسلمون على منوال صلاح الدين الأيوبي فتكاثَرَ عددُهم في البوادي (وتمشْيَخوا) بين سكانها، وأسَّسُوا فيها البيوت المعروفةَ بالزوايا للمريدين والأتباع. ومن هنا ينتقلُ التصوفُ إلى حرفةِ ارتزاقٍ وتكسُّب، إذ كثرت شيوخُهُ في كل مكانٍ حتى أنك لا تجد أحداً غيرَ منسوبٍ إلى طريقِ زاوية من الزوايا في البلاد التونسية والشمال الأفريقي كلِّه طيلة القرون السبعة الأخيرة»..
وهذا ويرى فريقٌ كبيرٌ من المستشرقين أن التصوُّف أخذ الكثير عن النصرانية، ويستندون في ذلك إما إلى وجود الرهبان والقسيسين في بلاد العرب، وإما إلى إيثار حياة الفقر والفقراء على الغنى والأغنياء، وإما إلى ما عند الصوفية من صمت وذكر، وما إلى ذلك.
وهكذا يتبيّن لنا من جملة ما تقدم، كم هي عديدة المصادر التي استقى منها الصوفية، وهي جميعها غريبة عن الإسلام.. ومجرد كونها من غير هذا الدين الحنيف الذي تكمن فيه الحقائقُ المطلقةُ عن الكون والحياة والإنسان، يعني أنها تحريفٌ لحقائقه، ولذا نجدها ظهرت بمذاهبَ فلسفية، غالبُها زيغٌ وإلحادٌ، أو بأنماط زيف وخداع معظمها مسايرة للحكام ونصرةٌ لهم في سبيل تحقيق مصالح ذاتية ومآرب أخرى شتى.
ونحن لا ننكر بأنَّ أية أمةٍ من الأمم لا بدَّ وأن يكون لها تراثُها الفكري والحضاري، وحقائقها التاريخية وأن تكون لها معتقداتُها، وأن تفاخِر بهذه المعتقداتِ بل بجملة ذلك التراث الذي يقومُ عليه وجودُها، وتبرز على أساسه كأمةٍ بين الأمم.. ولكن أن تأتي جماعةٌ من أمة المسلمين، وعندها الإسلامُ عقيدةً ومنهجاً في الحياة لتأخذَ بما يناقِضُ تعاليمَ العقيدة، وقوامَ المنهج، ولتُفسدَ على المسلمين صحة معتقداتِهم، ثم لتقول بأنَّ هذا من الإسلام، فهذا ما لا يَصُح أبداً، لأنه خلاف للحقيقة.
إذن يجب أن نعيَ هذه الأمور بكل إدراك، وأن نعرفَ الغاياتِ التي تكمنُ وراءَه، والتي لم تختلف اليوم عما كانتْ عليه في الماضي، ألاَ وهي الدسُّ على الإسلام والطعن في تعاليمه، ومحاربته بلا هوادة.. والأخطرُ من ذلك أن يتقبَّلَ المسلمون، في بلادهم المختلفة، تلك الأنماطَ الفكريةَ، على أنها تتوافقُ مع كتاب الله العزيز القدير وسنة رسولِهِ الكريم الأمين، في حين أنها بعيدةٌ عنهما بُعدَ السماءِ عن الأرضِ، وتخالفُهما شكلاً وجوهراً.
وعلى هذا، فنحن قد تحدثنا في كتابنا (الإسلام وثقافة الإنسان) في طبعته السابعة عن العوامل الأربعة الرئيسية لضعف المسلمين، وقلنا إنها تتلخص في:
1 ـــــــ الأحاديث التي دُست كذباً على الرسول (ص).
2 ـــــــ محاولة التوفيق بين الأفكار والفلسفات الأجنبية والإسلام.
3 ـــــــ فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية.
4 ـــــــ الغزو التبشيري.
وفي رسالة «عوامل ضعف المسلمين» تعرضنا للأسباب الرئيسية التي كانت سبباً في تأخر المسلمين والعقبات التي تحول دون نهضتهم، وفيها أشرنا:
ـــــــ للذين يطلبون العلم للارتزاق.
ـــــــ والذين يفهمون الإسلام مجرد طقوس روحانية فقط.
ـــــــ وتحدثنا عن الحركات القومية والانفصالية بين المسلمين.
ـــــــ وعن التبشير باسم العلم والإنسانية.
ـــــــ ثم عن الانتفاضات الارتجالية التي هي أشبه بحركة الطير المذبوح تنتهي باليأس والاستسلام.
وفي هذا الكتاب نعقد فصولاً عن «التصوف» بوصفه دخيلاً على الإسلام وعاملاً من عوامل ضعف المسلمين، ـــــــ وهدفنا هو تصحيح المفاهيم المتعلقة بالدين والحياة ودعوة الطيبين من أبناء أمتنا إلى أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الوهم والأباطيل لتحقيق الترابط الفكري على أساس المبدأ الإسلامي.
وقد اقتضانا ذلك تسليطَ قدر من الضوء على المتاهات والنزعات الصوفية التي تنتشر بشكل وبائي حول مفهوم الإسلام، فتصيب الأفراد والجماعات بالجمود والسلبية وتشل قوى الأمة وتعطِّل حركتها بحيث تدفعها إلى الانحطاط الفكري، وبالتالي إلى التأخر في جميع الميادين والحقول.
وكم يحز في نفس المسلم أن يرى الخاصة والعامة يهيمون في بُحرانِ التصوف، ويهيمون بكثيرٍ من صوره العديدة الخفية أو يسبحون في جو القداسة الزائفة لرجاله، والتخشع لطقوسه وهذيانه، حتى اضطربت بعض موازين الحياة والمجتمع، وتدهورت الأحوال السياسية والاقتصادية في البلاد، أو انتقلت مقاليدها إلى أيدي أعدائهم.
ولكَم يعزُّ على المسلم أن تسود الآراء المشوهة، والاتجاهات السلبية باسم الدين تحت ستار التصوف، حتى جاز لأقوام أن يرموا الدين ورجاله بالتخلف والجمود والرجعية. وأن يدرجوا الإسلام مع غيره من الأديان ـــــــ حين يقولون «بأن الدين أفيون الشعوب» في حين أن الأديان السماوية، وفي طليعتها الإسلام، لو عدنا إلى حقيقتها بلا تحريف ولا تزوير هي وحدها طريق الإنسان إلى الخلاص من كل مشاكله التي يعني منها، ومن الأخطار التي باتت تحدق به بفعل بُعده عن الدين.
ولقد يتوهم البعض أن التصوف مرتبة من المراتب العليا في الدين. فهل هذا صحيح؟ إن هذا لخطأ فادح، وهو أيضاً وهمٌ أدخلوه في رؤوس أبناء أمتنا حتى يصرفوهم عن دينهم، ولذا فنحن نبادر إلى القول بأن فطرة الوجود الإنساني الكامل تنتج الفكر الصحيح، والشعور الصادق، والعمل النافع. وأن السلوك الصحيح في الحياة لا يكون بغير الاستخدام الرشيد للطاقات العقلية والبدنية لتحديد المفاهيم الصحيحة عن الإسلام. ثم العمل بما طابق هذه المفاهيم. وإن الأمة التي تتخلى عن قواعدها العملية، وأفكارها السامية المحددة ينتظرها الشتات والانحطاط.
والحقيقة هي أن الخلاف بين الإسلام والصوفية، ليس خلافاً حول مسائل فقهية، أو اختلافاً حول اجتهادات في قضايا فرعية، وإنما هو نزاع حول خلاف رئيسي في فهم حقيقة الله تعالى، وفهم الكون والحياة والإنسان.
ويتركز الخلاف حول نقطتين أساسيتين:
الأولى ـــــــ موافقة الإسلام للفطرة ومخالفة التصوف لها
فإن الإسلام يدعو لحياة قوامها الاستخدام الأمثل لقوى العقل، وطاقات النفس والبدن، فيما ينفع الناس {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ولذا لم يجهد المسلمون الأولون ليكونوا مبتدعين، أو ليكونوا من الفلاسفة أو المتصوفين، وإنما اكتفوا بأن يكونوا من العابدين الخاشعين، ومن المجاهدين الصادقين، وقد أدركوا بالفطرة السليمة بعض الحقائق فالتزموها، دون أن يجدوا أنفسهم بحاجة إلى تعليلها أو حتى مجرد التحدث عنها وهذه الحقائق هي:
أولاً: إن المسلم لا يرضى بحياة الضعف مهما كلفه السعي للقوة. ولذلك لا ينفك عاملاً على استكمال أسباب القوة الذاتية لنفسه ولأمته، حتى يلقى الله وهو عنه راض.
ثانياً: إن العقل هو الخصوصية الأولى للإنسان، وإننا محاسبون أشد الحساب على استخدامه أو إهماله، وإنه إذا أهمل العقل ضلت الإنسانية.
ثالثاً: إن العمل الصالح هو السلوك الفطري الصحيح في الحياة في ظل عقيدة التوحيد.
فالمسلم يحصل على المال بالسعي الحلال ليسد به حاجته، ويعين به أخاه، ويبذله في سبيل الله من أجل خير أمته، ويأخذ الحق الذي له، ويعطي الحق الذي عليه. فإذا بغى عليه باغٍ ثار الجميع في وجهه لا يظلمون ولا يُظلمون، وإذا واجهت المسلم عقبة في طريق الحق الذي يسعى إليه جابهها للتغلب عليها لا تفتنه الدنيا فينزلق ولا يخشى إلاّ الله، فيقعده الخوف.
هكذا دون تعقيد أو التواء، يمضي المسلم في حياته اليومية، وفي كل أموره مسايراً لناموس الفطرة. والفطرة أَوجدَها الله سبحانه وتعالى صحيحة سليمة في بني البشر، وإنما يفسدها صاحبها بانحرافه عن فهم هدف الحياة.
فإذا علمنا بأن التصوف هو الحالة التي تُستل فيها من الأجسام عافيتها بالجوع والحرمان، ومن العقول جذوتها بتخدير القوى المدركة وتشتتها في متاهات الروحانية، بدعوى العمل للآخرة.. صحَّ لنا أن نقول بأن التصوف انتكاس في فهم الحياة يعارض الفطرة القويمة المستقيمة، وأنه نزعة طارئة على الإسلام غريبة عن طبيعته.
الثانية ـــــــ الفصل بين القول والفعل عند الصوفية والمطابقة بينهما في الإسلام:
فقد أراد الصوفية ـــــــ منذ البداية ـــــــ أن يتستروا بالإسلام، لتحقيق أغراضهم ومآربهم، وبذلك تساوى عربيُّهم وأعجميُّهم في الفصل بين القول والفعل، بحيث كانوا يقولون ما لا يفعلون، أو أنهم يفعلون خلاف ما يذيعون.. لقد نمَّقوا الكلام، وزينوا الأفعال، فادَّعوا الطهر والبراءة والعبادة، بينما انغمسوا في الفحشاء والمنكر ومخالفة الأحكام الشرعية حتى وصفهم الفقهاء بالزنادقة، وقامت بين الطرفين خصومة ما كان يمكن أن تتوقف لولا بعض الحكام وذوي الأمر.. ولذلك، ولكي يبعدوا الناس عن المفاهيم المحددة لكلمات الله وأحاديث الرسول (ص)، عمدوا إلى التأويل وانحرافات التفسير، والحيل والمخارج في الفقه، والتعطيل والتجسيم في العقائد.. حتى إذا أجهضت الكلمات من معانيها، قالوا بأن للكلمات معانٍ ظاهرة وأخرى باطنة، في حين كان منهج المسلمين في صدر الدعوة يقوم على فهم الكتاب والسنة فهماً عمليًّا ـــــــ لا يزيدون شيئاً ولا ينقصون ولا يتأولون ـــــــ أي فهماً واقعيًّا إيجابيًّا محدوداً للتكيف بالدين ومقوماته وتوجيهاته، وكل فرد يصح له من إسلامه بقدر ما يخلص النية، ويتحرى الصدق، ويسعى جاهداً للعمل على مقتضاه وليس بما يكثر من القول في موضوعا الدين.
فالكلمة كانت عندهم لا تنفصل عن معانيها ومسؤولياتها، والدين لا يفترق عن السياسة، والفرد لا ينشق عن الجماعة، وكل عمل صالح في الدنيا هو سعي في طريق الآخرة.
ثم دارت الأيام دورتها فأضيفت شروح وتصورات وزيادات اعتقادية ومنهجية، إلى المفاهيم الإسلامية، وتسلَّلت النظرة الفلسفية إلى محيط الصوفية تأثراً بالفكر الإغريقي المؤسس على الجدل التجريدي.. وافتتن فريق من رجال الكلام والفقه والحديث والتفسير بمنطق الفلاسفة فغرقوا في موضوعاتها، حتى أصبح الهدف من العلم والتعليم هو إثبات المهارة العقلية في حل المعضلات اللفظية وليس إثارة مفاهيم محددة أو استثارة الهمم للقيام بالعمل الواجب الذي تفرضه الظروف. وبدلاً من أن يكون القصد هو معرفة الحق واستبانة الطريق وإعداد الجماعة لحمل أمانة الدين، أصبح الهدف إظهارَ البراعة في الكتابة والخطابة واستعراض قوة الحافظة. إلخ..
وهكذا تلاشى سلطان الكلمة بعد أن أُفرغت من محتواها، وأصبح الإصلاح حرفة، والتعليم حرفة والسياسة حرفة.. وفي غمرة المغالطات النفسية فقد فريق من هؤلاء الرؤية الصحيحة لحقيقة الدين واستجرَّهم الجدل إلى الاكتفاء بتزويق العبارة وتكرار القول وإدارة المعنى على وجوه كثيرة ـــــــ في عملية تعويض ـــــــ يستبدلون بها مشقة العمل الجاد ومجابهة الواقع ويحسبون أنهم مهتدون.
بمثل هذا تمَّ نزع الإيجابية عن الدين بتجريد الكلمات عن شحنتها، وبالقعود عن مباشرة الأعمال الصحيحة الواجبة، وليس شرٌّ ومقتٌ عند الله أشدُّ من قول بلا عمل: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
وهكذا نخلص من ذلك كله إلى النتيجة الحتمية التالية، وهي: إن الإسلام والتصوف اتجاهان متعارضان:
ـــــــ فيما خص هدف الحياة لأن الإسلام عبارة عن فهم واقعي إيجابي لقانون السيادة في الحياة وممارسة العمل الواجب وفق فكر مستنير طبقاً لأوامر الله تعالى ونواهيه وصولاً إلى الغاية المثلى التي هي رضوانه. أما التصوف فيقوم على ادِّعاء تملُّك العالم روحيًّا، وتفسيره بأن الصوفية يستمتعون في الخيال بما عجزوا عن تحقيقه في حياتهم، لذلك عطَّلوا أداة العمل (وهي الجسد)، وحطموا مصابيح الهداية بإلغاء عمل العقل والحواس.
ـــــــ فيما خص نظرتهما إلى الواقع، فإن الإسلام يقوم على مباشرة الواقع بالسلوك الصحيح، بحيث يتم انطباق عمل الإنسان على الكلمة الخالدة من عند الله سبحانه والمفهوم الصحيح لحديث الرسول (ص)، في وحدة لا تنفصم. وفي القرآن الكريم حيث يذكر الإيمان يذكر العمل الصالح، إذ هو الترجمة الواقعية لمفهوم الإيمان. في حين أن التصوف يقوم على الهرب من الواقع والانسحاب من الحياة، والتلهي بالنظرة الفلسفية التي تقف عند مشكلات التفسير والرأي والخلافات المذهبية «للكلمة والعبارة» ثم الانتهاء إلى إحلال الجدل محل العمل.
هذا مضافاً إلى أن الإسلام يقضي باستخدام العقل في مواجهة الأحداث والمواقف، مع قوة التوجه إلى الله تعالى بالعمل الصالح. والتصوف يواجه المسائل بمنطق الكهانة، المتمثل بانتظار المصادفة السعيدة أو التماس الخير بالتمائم والرقى، ويدير ظهره لمشاكل الحياة عجزًا عن المواجهة الصحيحة بترك أسباب العمل وله بعد ذلك أن يصنع من العجز حكمة!!
أما في مسائل العبادات فيتعارض المفهوم الإسلامي مع التصور الصوفي، إذ فات الصوفية أن الإسلام ليس رياضات روحية، كما أرادوه، وإنما هو عبادات خاشعة يُبتغى بها وجه الله.
وإن شرَّ ما تُبتلى به أمة هو أن تنتشر فيها الضلالات، وأن تختلط فيها المفاهيم حتى تسودها الفوضى الفكرية، وأشد ما تكون الإصابة فتكاً عندما تتلبس الضلالات بالدين.
وإنا لنعقد الرجاء بالله سبحانه أن يثوب المشتغلون برعاية شؤون الأمة إلى استئناف الحياة الإسلامية، وحمل رسالة الإسلام الفكرية، بحيث يصبح الفكر الإسلامي موجهًا للعمل السياسي... فترتفع راية الحق ويعود الجميع إلى حظيرة الدين، وقد اتَّضحت لهم حقيقته العليا، وتحددت لديهم مفاهيم الإسلام الصحيح.. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ}[الروم: 3 ـــــــ 4 ]..


المصادر
[1] فصوص الحكم لابن عربي (جزء 1 ـ ص 83) طبعة الحلبي.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢