نبذة عن حياة الكاتب
الصوفية في نظر الاسلام

الكرامة والولاية عند المتصوفين
لقد لعبت فنون السحر دوراً هاماً في المجتمعات القديمة عندما اتخذها الكهان ورجال الحكم وبطانته وسائل لإخضاع الناس



الكرامة والولاية عند المتصوفين
لقد لعبت فنون السحر دوراً هامّاً في المجتمعات القديمة، عندما اتَّخذها الكهان ورجال الحكم وبطانته وسائل لإخضاع الناس، وإرهاب عقولهم ونفوسهم، لتبقى لهم السيطرة المطلقة على خيرات المجتمع ومقدراته، ويبقى أولئك الناس يرسفون في أغلال الأوهام والضلال..
وإذا كان فقراء الهنود أكثر من اشتهروا بفنون السحر هذه، فإننا نجد اليوم أشخاصاً كثيرين في المجتمعات المتخلفة والمتقدمة على السواء، ما يزالون يتقنون هذه الفنون، ويقيمون لها البرامج والحفلات، أو يشتركون في (السيركات) وغيرها، ليقدموا الألاعيب التي تدهش العقول، وتطغى على المشاعر، بحيث لا يجد لها المشاهدون تفسيراً عقليّاً، ومع ذلك فإنهم يندفعون لمشاهدتها، ودفع أموالهم للتسلية بحضورها..
وإذا كان السحر واقعاً لا يمكن لنا نحن المسلمين إنكاره، ما دام قد ورد ذكره في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]، فإنَّ من الحقائق الثابتة لدينا أيضاً أن السحر يبقى شعبذة تغري العوام، وقد تفتن الخاصة أيضاً.. إلاَّ أن السحر مع ذلك لا يمكن أن يحقق أغراضه الدنيئة، وأن الساحر مهما بلغ من قوة التسلط على العقول، ومن إتيان الخوارق التي لا تخضع للنواميس الطبيعية، والتي تخرج على القاعدة العامة التي تربط الأسباب بالمسببات، فإنَّ سحر الساحر يبقى عبثاً، ولا يفلح الساحر أبداً حيث أتى، كما أبانَ لنا ربُ العالمين...
ومما يفعله هؤلاء السحرة أن يظهر أحدهم أمام الجموع وكأنه يقطع يده بسكين ثم يردها إلى مكانها، أو كأنه يجلس في نار متأججة دون أن يحترق، أو يحبس أنفاسه في مكان مغلق بإحكام ثم يغادره دون أن يكسر أقفاله، أو يبدو كأنه يرتفع في الهواء بغير سُلَّم، أو يوقف في الجوّ حبلاً يصعد عليه ومعه غلام، والحبل ساكن في الهواء، أو أنه يذبح إنساناً ويفصل رأسه عن جسمه ثم لا يلبث أن يعيده إليه.. وما إلى ذلك ممَّا يسحرون به أعين الناس من التخيلات والأوهام التي تخالف النواميس الطبيعية المألوفة..
والحقيقة أن السحرة قد يصلون إلى هذا الحدّ من قوة التأثير على الآخرين بفعل التدرُّب الذي يجهدون فيه أجسامهم ونفوسهم، بما يقومون فيه من رياضة شاقة وطويلة؛ فهم يمنعون أجسامهم عن الماء والطعام والنوم لأيام عديدة ولا يتناولون إلاَّ ما يقيم أودهم من القوت اليسير أو العقاقير؛ ومنهم من يدفن نفسه تحت أكداس الأتربة والرمال بلا وقاء أو ثبات مدة طويلة؛ ومنهم من يتحمل الأثقال التي تنوء تحتها أكبر الحيوانات وأثقلها بحيث يمكنه أن ينام ويصعد عليه فيلٌ ضخم دون أن تتكسَّر عظامه...
وكل هذه الرياضات والتدريبات من أجل تطويع الجسم وإخضاعه لعامل الإرادة، إلاَّ أنها تؤدي بهم إلى حالة من اللاشعور التام، فلا يعود أحدهم يحس معها ببردٍ أو حرّ، وجوع وشبع، وراحة وألم، وهذا ما يؤدي بطبيعة الحال إلى هلاك الحواس والغرائز وإفساد عملها، وشل مفعولها!
أما عن ترويض نفوسهم، والتحكم بقواهم العقلية، فهم يمارسون بالإضافة إلى تلك الرياضات طرقاً شتَّى مثل قطع العلائق والروابط المجتمعية، والخلوة الطويلة في مكان مقفر، وحبس الشهيق في الصدر وتحديق النظر في شيء ثابت لا تبارحه العين، وترديد كلمة معينة على نغم واحد، وحصر الذهن في موضوع معين لا يتعداه الفكر.. إلى غير ذلك من الممارسات والتجارب التي يتوصلون بها إلى طرد كافة المؤثرات والمشاغل عن الأذهان، وإخراج الطاقات البدنية والعقلية عن وظائفها الأساسية وتجميعها لحساب غرض واحد: هو الخروج عن المظهر العام للناس في كل شيء، واختراق القوانين المألوفة للحياة الطبيعية؛ والعجيب في أمر هؤلاء السحرة الذين يتبعون تلك الرياضات البدنية الشاقة، والانتحارات الذهنية المتكررة، أنَّ أحدهم يصير بعدها وكأنه قد تلاشت فيه حدود الأشياء، وتساوت في نظره الأضداد؛ فهو لا يحب ولا يكره، ولا يعرف ولا ينكر، ولا يُسرُّ ولا يحزن، وهو يذهل عن نفسه حتى لا يشعر بما يصدر عنه من انفعالات أو يدخل عليه من مؤثرات؛ ولعلَّ بفعل ذلك تتولَّد عنده القدرة على الإتيان بأعمال السحر أو التخييل أو التنويم، فيراه الناس قادراً على أن يهدىء الأسد الغاضب بنظرة، ويلاعب النمر الجائع فلا يأكله، ويختفي عن أنظار المشاهدين وهو في وسطهم يحادثهم ويسائلهم، ويقرأ الأفكار في الأذهان حتى يتوهم البسطاء أنه يرى البعيد ويعلم الغيب..
وتنتشر أفانين هؤلاء المشعوذين بين الناس فيهرعون إليهم لاسترجاع ضائعٍ أو قضاء حاجة بعيدة، أو استرداد حبيب مفقود، أو جذب إنسان وامتلاك حبه، وما إلى ذلك من أفانين السيطرة الحسية على العوام، وأحياناً كثيرة على الخاصة من الناس!!
ولئن كان حذقة السحر والشعوذة قد أفلحوا في إيهام بعض العقول بقدرتهم على الإتيان بما لا يأتيه غيرهم، إلاَّ أن أحداثاً كثيرة أثبتت خداعهم وتزييفهم، وفضحت كذبهم واحتيالهم، فتعرَّضوا للضرب المبرح ممن كذبوا عليهم، ولإقامة الدعاوى عليهم أمام المحاكم ممن سلبوهم أموالهم بالخداع والتزوير، وطبعاً بعد أن لم يتحقق لهؤلاء وأولئك الذين لاذوا بهم أي رجاء قصدوهم بشأنه!!.
ولقد شاعت تلك الأفانين السحرية في أوساط المتصوفين، وراجت حول شيوخهم الأعاجيب المختلفة، فانبروا يروون للأتباع من الخوارق ما سلب عقولهم، وجعلهم يخضعون لرغبات الشيوخ وأوامرهم..
ولقد اتبع بعض المتصوفين في تلك الأفانين الطرق نفسها التي يتبعها السحرة والمشعوذون، وسمَّوا ذلك مجاهدة للنفس ورياضة للعقل والجسد، فكثُر عندهم الصمت، والجوع والسهر، والعزلة، والتشرد في الأرض، وغير ذلك من الأفعال التي كانوا يقومون بها، كما رأينا في بحث «المجاهدة»..
ولقد كانت غاية أولئك المتصوفين الذين سلكوا طرق المجاهدات والرياضات إماتة الأحاسيس والقضاء على نوازع النفس حتى تتحقق لهم مرتبة «الفناء المطلق» التي يتدرجون فيها من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، بحيث يذهلون فيها عن أنفسهم، ولا يعودون يفرّقون بين حق وباطل، وبين فضيلة ورذيلة، وبين هدى وضلال.. وعندها ينادون بحلول الإله في أبدانهم، أو يعلنون اتحادهم بالعوالم، وتأثيرهم في قوى الكون، وقدرتهم على تسخير جميع الكائنات العليا والدنيا لمشيئتهم... فالملائكة تهبط إليهم بالطعام والشراب، والوحوش الكواسر تخافهم وتطأطىء رؤوسها لهم، والأرض تطوى لهم فيطوفون في أرجائها بمثل لمح البصر.. ويدَّعي هؤلاء المتصوفون أنَّ كل ذلك يحصل لهم بعد زوال الحجب عن بصائرهم، وانكشاف الغيب أمام أعينهم، فيرون الماضي السحيق، أو المستقبل المغيَّب البعيد، ويحيلون عناصر الأشياء بلا قانون: فيقلبون التراب ذهباً، والحصى فاكهة ونقداً، ويطفئون النار ببصقة، ويفكون العاني والأسير، ويحضرون الغائب والمفقود، ويشفون المرضى والمقعدين، إلى غير ذلك من المزاعم التي حشيت بها أدمغة بعض المتصوفين وكتاباتهم..
وهكذا انتشرت تلك الخوارق بين أتباع الصوفية، ففعلت في العقول الخاوية مثل فعل السحر وأكثر، وأصابت عدواها العامة فصدَّقوا بها، حتى أصبحت عند الناس الميزان الذي توزن به أقدار الرجال!
وفطن شيوخ الصوفية لشدة تأثير أفانينهم تلك في مختلف الأوساط التي دخلت إليها، فاتخذوا منها دليلاً على صحة دعواهم، وتحدَّوا بها المعترضين والمناوئين لأفكارهم.. ولكن الأذكياء منهم رأوا فيها ما يحقق لهم ميزة التفوق في ابتداع الكرامات، فأرادوا أن يبرزوا على أنهم هم أصحاب تلك الكرامات، فبذلوا من أجل ذلك الغالي والنفيس.. ومنهم من سافر إلى بلاد الهند كي يلتقي المهرة ممن يمارسون فنون السحر، فيأخذ عنهم ما يحقق له غايته؛ ومن هؤلاء كان الحسين بن منصور الحلاج، الذي سافر إلى الهند أكثر من مرة، وقضى فيها بضع سنوات، حيث تعلَّم وتدرب، وعاد يظهر للناس ما يبهر العيون، ويجمع الأتباع والمريدين.. فمن الأعمال التي كان يقوم بها، أنه كان يدخل تنوراً يضطرم بالنار، فيجلس في ناحية منه، والخباز يخبز في ناحية أخرى، ثم يخرج دون أن تمسَّ جسمَهُ النارُ؛ أما في الواقع فإنه كان يعمد قبل دخوله التنور إلى دهن جسمه بمادة الطلق التي لا تؤثر فيها النار، وهي مادة الأسبستوس المعروفة اليوم والتي تصنع منها ملابس خاصة لرجال الإطفاء، يرتدونها عند مكافحة الحرائق...
ومن أساليبه أيضاً في تضليل الناس واستقطابهم، كما جاء في تلبيس إبليس لابن الجوزي «أنه كان يخرج أحياناً إلى البرية فيدفن الخبز واللحم والحلوى في الأرض، ويخبر بعض خواصه بذلك، ثم يقول لأصحابه: إذا رأيتم أن نخرج للسياحة.. فيخرجون معه، فإذا بلغوا المكان، قال له صاحبه الذي أطلعه على ذلك: نشتهي الآن أن نأكل الخبز واللحم والحلوى، فينزوي الحلاج عنهم ويصلي ركعتين، ثم يقول لصاحبه: احفر هنا.. فيحفر المكان ويستخرج منه ما دفنه فيه، فيعتقد من معه بأن ذلك لكرامته على الله».. ومن أساليب الحلاج أيضاً في المخادعة أنه كان يستعمل الحمام الزاجل، ليأتي بأخبار البلاد البعيدة، من أصحاب له هنالك، بينما يروي أمام الناس أنه عرف أخبار تلك البلاد بفعل ما له من مكرمة عند الله تعالى.
ولقد استطاع الحلاج بفعل حيل الذكاء هذه أن يوهم عقول السذج بأنه صاحب كرامات، حتى وصل به الحال، لأن يدعي بسبب تلك الكرامات، الألوهية، ويطلب من أتباعه السجود له، والتوجُّه إليه بالعبادة!!..
ومن أخبار الكرامات التي تتناقلها كتب التصوف ما جاء في نور الأبصار للشبلنجي في معرض حديثه عن كرامات عبد القادر الجيلاني، أن رجلاً من أهالي بغداد قال له: إن ابنتي اختطفت من سطح داري وهي عذراء، فقال له الشيخ عبد القادر: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ واجلس عند التل الخامس وخط عليك دائرة في الأرض وقل وأنت تخطها: بسم الله الرحمن الرحيم على نية عبد القادر، فإذا كانت فحمة العشاء مرت بك طوائف الجن على صور شتى فلا يرعبك منظرهم، وفي السحر يمر بك ملكهم في جحفل منهم، فيسألك عن حاجتك، فقل له: بعثني إليك الشيخ عبد القادر واذكر له ما جرى لابنتك؛ قال: فذهبت وفعلت ما أمرني به، فمرت بي صور مزعجة المنظر، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يمر في الدائرة التي صنعتها بأمر الشيخ، ووقفت في وسطها وما زالوا يمرون زمراً زمراً إلى أن جاء مليكهم راكباً فرساً وبين يديه أمم منهم، فوقف بإزاء الدائرة وقال: يا إنسي ما حاجتك؟ فقلت له: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر، فنزل عند ذلك عن فرسه وقبّل الأرض، وجلس خارج الدائرة هو ومن معه، ثم قال: ما شأنك؟ فذكرت له ما جرى لابنتي، فقال لمن حوله: عليّ بمن فعل هذا، فأتي بمارد ومعه ابنتي وقيل له: إن هذا مارد من مردة الصين، فقال له: ما الذي حملك على أن اختطفت هذه البنت من تحت ركاب القطب؟ فقال: إنها وقعت في نفسي، فأمر به وضربت عنقه؛ ثم قلت له: ما رأيت مثل هذه الليلة من امتثالك أوامر الشيخ عبد القادر، فقال: نعم إنه في داره ينظر إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فيفرون من هيبته وإن الله تعالى إذا أقام قطباً مكنه من الإنس والجن وسلطه عليهم».
ومن أخبار كرامات الصوفية أيضاً ما حكاه الشعراني في طبقاته عن يوسف العجمي الكوراني من أنه «كان يسكن بلاد العجم، ويلتزم في تصوفه طريقة الجنيد، فجاءته الأوامر من السماء بالانتقال إلى مصر أولاً وثانياً فلم يلتفت، وفي المرة الثالثة قال: اللَّهم إن كان هذا الطلب حقّاً وصدقاً فاقلب لي عين هذا النهر لبناً حتى أشرب منه بقصعتي هذه، فانقلب النهر لبناً وشرب منه، ثم غادر بلاد فارس إلى مصر وتولَّى بها شؤون الطريقة، وتنازل له عنها حسن التستري أحد شيوخ الصوفية، وتولَّى مع ذلك خدمته، وظهرت له في مصر، كما يدعي الشعراني في طبقاته، الكرامات والخوارق التي تبهر العقول ولم يتيسر نظيرها لأحد من الأنبياء»!!
ومضى الشعراني في طبقاته يحدث عن الصوفي العجمي ويقول: «إنه اتفق للشيخ يوسف أن خرج من خلوة الأربعين فوقع بصره على كلب فانقادت له جميع الكلاب وصار الناس يهرعون إلى الكلب في قضاء حوائجهم، فلما مرض ذلك الكلب اجتمع حوله الكلاب يبكون وعليهم مظاهر الحزن، فلما مات ارتفع صراخهم وعويلهم فسخَّر الله لهم بعض الناس ودفنوه، فكانت الكلاب بعد دفنه تزور قبره واستمرت على ذلك حتى مات كل من كان في عصره من الكلاب».
وقد قال الشعراني في طبقاته: و«لما مات الشيخ العجمي قام من بعده بمهمَّات الطريقة تلميذه الشيخ حسن التستري وانتهت إليه رئاسة الطريقة، وكان السلطان، كما يدعي الشعراني يتردد عليه لزيارته، غير أن حساده من أعضاء الدولة استطاعوا أن يصرفوه عنه، ويغيروا رأيه فيه، وهمَّ بحبسه أو نفيه، كما أرسل وزير الدولة ليسد باب زاويته. وكان الشيخ التستري خارج مصر مع حاشيته، فلما رجعوا ووجدوا باب الزاوية مسدوداً وأخبروا الشيخ بأن الوزير قد قام بهذا الأمر بأمر من السلطان، قال: ونحن نسد أبواب بدنه وطبقاته، وبمجرد أن نطق بذلك أصيب الوزير بالعمى والطرش والخرس، كما انسد أنفه وقلبه ودبره ومات في ساعته، ولما بلغ السلطان ما جرى لوزيره بواسطة الشيخ ذهب إليه وصالحه وفتح له باب الزاوية، وكان عسكر السلطان كله قد أعلن العصيان وانقاد إلى الشيخ التستري على حدِّ تعبير الشعراني».
وحدث الشعراني في صفحة 95 من المجلد الثاني من طبقاته عن «الشيخ محمد بن أحمد الفرغلي وكراماته الكثيرة في جملة من تحدَّث عنهم وعن كراماتهم من الصوفية. وجاء فيما نسبه للفرغلي أن امرأة اشتهت الجوز الهندي فلم يجدوه لها في مصر ولما أخبروه بذلك قال لأحد أتباعه ونقبائه: ادخل هذه الخلوة واقطع لها خمس جوزات من الشجرة التي تجدها داخل الخلوة، فدخل الخلوة ووجد فيها شجرة من الجوز الهندي فقطع لها خمس جوزات ورجع، ثم دخل بعد ذلك فلم يجد شيئاً.
ودخل عليه بعض الرهبان فاشتهى بطيخاً أصفر في غير أوانه فأتاه به في الحال وأقسم بالله بأنه لم يجده إلاَّ خلف جبل قاف.
ومضى الشعراني يقول: «إن التمساح قد اختطف بنتاً لمخيمر النقيب، فجاء إلى الشيخ الفرغلي باكياً وأخبره بما جرى لابنته. فقال له: اذهب إلى الموضع الذي خطفها منه وناد بأعلى صوتك: يا تمساح تعال وكلم الفرغلي، ولما فعل ذلك خرج التمساح من النيل كالمركب ومشى والناس بين يديه يميناً وشمالاً يمشون معه إلى أن وقف على باب الشيخ الفرغلي. فاستدعى الفرغلي الحداد وأمره بأن يقطع جميع أسنانه ثم أمره بأن يلفظ البنت من جوفه فلفظها وخرجت منه حيةً كالمدهوشة، ثم أخذ عليه العهد بأن لا يخطف أحداً فرجع التمساح باكياً إلى الماء. واستطرد الشعراني في حديثه عنه يقول: «إن الشيخ الفرغلي ادَّعى بأنه كان يمشي بين يدي الله تحت العرش ويتحاور معه فيقول له الله كذا، ويقول هو له غيره!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً».
ومن طرائف كراماتهم ما رواه الدكتور مبارك في كتابه التصوف الإسلامي عن الشيخ حيدر الصوفي: «إن هذا الشيخ كان يقيم في بلاد خراسان، وقد أقام زاوية في الجبل مكث فيها أكثر من عشر سنين، فاشتد الحرُّ عليه ذات يوم فخرج منفرداً إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور لم يعهده به أصحابه من قبل. وأذن لأصحابه بالدخول عليه، فلما رأوه منشرحاً بعد إقامته تلك المدة الطويلة في خلوته منعزلاً عن الناس سألوه عن سبب ذلك، فقال: بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي أن أخرج إلى الصحراء منفرداً فخرجت ووجدت كل شيء من النباتات ساكناً لا يتحرك من شدة الحر، وبينما أنا أسير مررت بنبات له ورق فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرك من غير عنف كالثمل النشوان فجعلت أقطف من أوراقه وآكلها فحدث عندي من الارتياح والنشوة ما ترونه، ثم هدى أصحابه على هذا النوع من الحشيش وأوصاهم بكتم سرها عن العوام وقال:إن الله قد خصكم بسرِّ هذا الورق ليذهب بأكله همومكم ويجلو به أفكاركم، ثم أمرهم بزرع هذا الحشيش حول ضريحه بعد موته، وقد ذكر الشعراء هذه الحشيشة وسمَّوها مدامة حيدر، وفي ذلك يقول محمد الدمشقي:
دعِ الخمر واشربْ من مدامة حيدرٍ مغيــــرَّةً خضــــراء مــــثل الــــزبـــرجـــــــدِ
يعـــاطيكـــها ظبــــيٌ مـــن التـــرك أغيـــــدٌ يميس على غصن من البان أملدِ
فتحسبـــــها فـــــي كفِّـــــه إذ يُـــــديــــرهــــــــا كــــرقـــــم عـــــذار فـــــوق خــــــد مــــــــورَّدِ
وقال الدكتور مبارك: لقد شاع الحشيش في البيئات الصوفية، وكان للصوفية أياد في نشره بين الجماهير الصوفية الفارسية والمصرية، ويقال: إن بعض شيوخ المنابر في مصر لا يزالون يستعملونه.. إلى غير ذلك من حكايات الكرامات التي شحن فيها الشعراني طبقاته وغيره من مؤلفي التصوّف الذين ملأوا بطون كتبهم منها، بحيث تظهر وكأنها من وحي السماء بينما في الحقيقة تبقى لطخة في تاريخ المسلمين وسخرية للأجيال ومعول هدم وتخريب بيد أعداء الإسلام».
ومما جاء في كتاب (التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق ـــــــ المجلد الثاني) نفسه للدكتور زكي مبارك: «أن أحد الصوفيين خطب امرأة ذات جمال، وقبل زفافها إليه أصابها الجدري، فاشتد حزن أهلها لذلك خوفاً من أن يستقبحها، فأراهم الرجل أن عينيه أصابهما رمد وأنه فقد بصره، وزفت إليه وذهب عن أهلها الحزن، وبقي عشرين سنة مطبقاً عينيه لا يفتحهما لا سرّاً ولا علانية، وبعد مضي عشرين سنة على زفافهما توفيت ففتح عينيه كما كان قبل زفافها؛ فسأله إخوانه عن سرِّ رجوع بصره بعد عشرين عاماً، فقال: إن بصري لم يذهب ولم ترمد عيناي، ولكني تعمَّدت ذلك لأجل أهلها حتى لا يحزنوا»!..
هذا وتذكر كتب الصوفية قصة أحد شيوخ بغداد، وقد وقف أمام أتباعه على شط الفرات وقال: لئن لم تخرج إليَّ الساعة سمكة فيها ثلاثة أرطال، لا تزيد عليها ولا تنقص لأرمينَّ بنفسي في النهر! ثم زعموا أنه خرجت له السمكة كما اشترط! فلما بلغ ذلك «الجنيد» سأله إن كان حقّاً يرمي بنفسه لو لم تخرج؟ فقال: نعم!..
ومن حكايات الصوفية في باب الكرامات حكاية إحياء «البدوي» فتاة ميتة سخر أبوها من البدوي ومن هيئته وقد تقدم للصلاة عليها؛ فأراد البدوي إظهار كرامته، فمد يده إلى الفتاة فانبعثت واقفة!!.. ومثلها حكاية إخراج الدسوقي لغريقٍ قضى في بطن الحوت سبعة أيام.. أما شفاء المرضى فأمر يدَّعيه أهون الصوفية شأناً، وأمثلة هذا الادعاء في زماننا لا تعدُّ ولا تُحصى، نجدها كل يوم في تلك الأيام التي تهرع إلى الشيخ الصوفي ترجوه أن يعيد العافية إلى وحيدها الذي يذوي، بدل أن تذهب إلى عيادة الطبيب، أو إلى مستوصف القرية لفحصه وإجراء الاختبارات لكشف علته، أو تلك الزوجة التي تلجأ إلى شيخها كي يداويها من العقم، أو أن يعدَّ لها حجاباً أو تميمة لابنتها الحولاء حتى تشفى عينها من الحول.. وما إلى ذلك من الأحجبة والتمائم والرُّقى والتعاويذ التي يستعملها الطُّلاَّب، أو يلجأ إليها المشغوفون بالحب، وهي تشكل في مجتمعاتنا داءً وبيلاً ينخر في أذهان البسطاء منا، وكل ذلك «باسم الدين وكرامات الشيوخ، وتقوى العابدين السائحين..»!! فأي مسلمين هؤلاء الذين يوهمون هذه العقول، وأي مسلمين هؤلاء الذي ينخدعون بمثل تلك الأوهام؟ ومتى كان المجتمع الإسلامي يبنى على الخزعبلات والترهات والأضاليل، ومتى كان كتاب الله، القائم فينا أبداً، يدعو إلى غير التفكُّر، والتعقُّل، والتبصُّر، ويخاطب دائماً أصحاب الألباب أن الحقائق، والحقائق وحدها هي مبتغانا، لأنها هي السبيل إلى الهدى والإيمان، والعيش السويِّ، والحياة الفاضلة!..
هكذا استعمل بعض الشيوخ المتصوفين تلك الخرافات والأكاذيب والمخادعات، التي لا تختلف بشيء عن الشعبذات السحرية، للوصول إلى المآرب التي كانوا يخططون لها، كالحصول على الجاه والثروة، وكاستقطاب الأتباع والمريدين ولكن الأهم من ذلك كله، هو نيلُ الشيخ لقب «الكرامة»، وعدُّه من أصحاب «الكرامات».. على أن بعضهم كان، إذا تحقق له ذلك، سيطرت عليه حالة من الغرور والإحساس بالتفوق، قد تبلغ في بعض الأحيان من التعاظم والتكبر على مخلوقات الله ما يجعله «مريضاً بجنون العظمة».. فيترفع الشيخ المريض عن مجالسة الأتباع لأنهم دونه شأناً، ويميل إلى العزلة عن الناس لاتّقاء خطرهم؛ وقد يشتدُّ به «مرض العظمة» حتى يتوهم أنه بلغ من علو القدر ما لا يدانيه فيه وفي عظمته إنسان، وأنَّ الناس يجب ألاَّ ينغِّصوا عليه حياته الرفيعة، أو يقلقوا مكانته الممتازة، ليعيش في جو خيالي لا وجود له إلاَّ عنده، ولا مكان له إلاَّ في نفسه..
ومن هذه الأحوال والأنماط ما نقرؤه في ترجمة الرفاعي «شيخ الطريقة المعروفة» من أنه كثيراً ما كان يتجلَّى عليه الحق بالعظمة فيذوب حتى يصير بقعة ماء، ثم تدركه الرحمة فيجمد شيئاً فشيئاً حتى يرجع إلى بدنه كالمعتاد! وفي هذا يقول الرفاعي لأتباعه: «لولا لطف الله ما عدت إليكم».
ومن هذه الأحوال أيضاً ما نقله الشعراني عن ابن عربي في الفتوحات المكية من أن «الحلاج كان يدخل بيتاً يسميه (بيت العظمة)، وكان إذا دخله ملأه بذاته! وأنهم لما دخلوا عليه ليأخذوه للصلب كان مقيماً في ذلك البيت، فما قدر أحد أن يخرجه منه، حتى جاءه الجنيد وقال له: «سلم إلى الله تعالى...»!
هذا غيض من فيض من الحكايات والروايات التي تتناقلها كتب الصوفية، أو الكتب التي تبحث في التصوف عند المسلمين، ومنها يظهر للعيان كيف استخدم شيوخ الصوفية «الكرامات» التي ادَّعوها لتحقيق مآرب شتى؛ بل لقد اعتبرت الكرامات ركناً من أركان التصوف عندما يستغرق الصوفي في الأحوال والمقامات، ولذلك قيل: إن الكرامة عند الصوفية معناها «كل عمل خارق للعادة يجريه الله على أيديهم إكراماً وتعظيماً لهم. وهي تقابل المعجزة التي كانت تجري على أيدي الأنبياء. والفرق بينهما كما يدَّعي القشيري في رسالته أن الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة في الظروف التي تضطرهم لذلك، بينما لا يجب ذلك على الصوفية وأوليائهم.. ويدَّعي القشيري أيضاً في رسالته أن الكرامة لا تظهر في المقدرات على حدِّ تعبيره، كإيجاد إنسان بدون أبوين، وتحويل الجماد كالحجر مثلاً إلى حيوان ونحوه، وكل شيء فيما عدا ذلك يدخل في نطاق إمكانياتهم»!.
وإن الرَّد البسيط على هذه «الإمكانيات» التي لا تعدو في حقيقتها الخرافاتِ والأوهام التي هي من نسج خيالات الصوفية، هو أنه إذا كانت المعجزات حقيقةً مسلَّماً بها في حق الرسول، فلا ضرورة لأمثالها ونظائرها في حق مدَّعي الصلاح من الصوفية! ثم ما فضل المتصوفين على الناس، وهم ممن لا يهتمُّون إلاَّ بأنفسهم، ولا يعملون شيئاً في سبيل الصالح العام؟! وإذا كانت الكرامات دليل صلاح وتقوى ـــــــ كما يقولون ـــــــ لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أحق بها من هؤلاء المتمشيخين المتأخرين الذين تنسب إليهم الكرامات بغير حساب..
ولقد حار الصوفية في دفع هذا الاعتراض حتى لم يجدوا آخر الأمر بدّاً من اختراع بعض الكرامات ينسبونها إلى الصحابة الأطهار، ليتناقلها الناس عنهم، وتكون لهم حجةً على صحة ادِّعاءاتهم هم، ولكن فاتهم أن حياة الصحابة والتابعين قد تزكَّت بالجهاد والشهادة، وليس بعدها مرتبة لا في الكرامة ولا في الولاية، وليست بطولاتهم الصادقة بحاجة لأن يلصق بها شيء من الالتواء لرفع أقدارهم، أو التغني بالكرامة، بشيء غير الإسلام.. أما شيوخ التصوف فليس لهم شيء يفخرون به غير ادِّعاء الكرامات، فإذا ما نزعت عنهم فماذا يبقى لهم؟ بل وبماذا يوهمون البسطاء من أبناء أمتنا للالتجاء إليهم حتى يقنصوا دُريهماتهم؟ من أجل ذلك يحرص أتباع التصوف على الدفاع عن كرامات الشيوخ حتى يبقى باب الرزق مفتوحاً، ويكون لهم ذلك التأثير في سحر العقول، وتسخيرها لأغراضهم ومنافعهم.. أما فيما ينفع الأمة ـــــــ وهو أول واجب ديني يقع على عاتق كل مسلم ـــــــ فلا شيء منه عند شيوخ الصوفية، وأتباع التصوف.. وهذه التعاليم الصوفية هل تجد فيها دعوة إلى الرشد، أو ثورة على الضعف، أو نزعة إلى العمل؟ أم أنها تدور حول السُّبل التي تؤول إلى حلول الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ في أبدانهم والطُّرق التي تؤدي إلى اتحادهم بالحق، أو المشاهدة العينيَّة للخالق الأعلى، هذا فضلاً عن الإثم والعدوان في ادِّعاء الألوهية، والقدرة على تسيير شؤون الكون وإخضاع العوالم لمشيئتهم؟!! وبعيداً عن هذا ماذا يفيد المسلمين حكاية إحياء البدوي للموتى، أو مقدرة الشاذلي على إحالة التراب تبراً؟ أو إرشاد الشيخ حيدر أصحابه إلى الحشيش، أو إحضار الفرغلي ثمرة جوز الهندي إلى امرأة.. وغيرها من حكايات أهل «الكرامات» التي امتلأت بها بطون كتبهم؟ نعم ماذا يفيد المسلمون من هذه الأخبار فهل تغني من جوع أو تسد من حاجة، أو تورث غنىً؟ وهل هي تاريخ مشرِّف للمسلمين يتفاخرون به أمام غيرهم من الشعوب، بينما هؤلاء يدفعون إليهم بالكتب العلمية والأدبية التي يفاخرون بأنهم أنشأوا على أساسها الحضارات، وأقاموا المدنيَّات وسبقونا أجيالاً بعيدة في مضمار الرقي والتقدم!!
إن جلَّ ما تفعله تلك الحكايات الصوفية أنها قد تهيج أناساً أغلقوا أفهامهم دون الحق بحكم ما ورثوه اضطراراً من تقاليد لم يعنوا بامتحانها؛ ولو زادت درجة الوعي عندهم قليلاً لرفضوا مثل هذه الحكايات، ولقالوا: لا، ليست هذه من الإسلام في شيء، وهي تبعدنا عن حقيقة ديننا وصدق إيماننا.. ألا فلْيتقِ هؤلاء الله تعالى في دينه المتين، ولْيعلموا أنَّ الله ـــــــ جلَّ وعلا ـــــــ يمهل ولا يهمل، وكل نفس بما كسبت رهينة.. وإنا لنرجو أن يرجع هؤلاء المنهوكون، المترددون إلى صدق الشعور في فهم حقيقة الإسلام خالصة من شوائب التصوف، وغبار الوهم، وضلال الاستكانة!!
الولاية
ولا يرتبط بالكرامات إلّا الصوفيون الذين يدَّعون «الولاية» ولذا قالوا: إنها لا تتحقَّق ولاية بغير كرامة، ثم قالوا: إن الكرامة لا تكون إلّا نتيجة للعمل بالكتاب والسنَّة، وهي أمارة للصدق على صحة السلوك. ومعنى الولاية في كمالها عند الصوفية تسخير قوى الكون للولي بقوة روحانية، فتصير له القدرة على إتيان المعجزات والخوارق، والإخبار بالغيب، والتلقِّي من الهاتف، والنطق بالسريانية دون تعلُّم؛ أي أنَّ الولي يصبح في منزلة، أو مقام لا يمتنع فيه عليه عسير، ولا يستحيل أمام إرادته أمر، حتى أنه يقول للشيء: «كن فيكون»! ومن مشهور ما وضعه الصوفية من الأحاديث في هذا المعنى قولهم: «عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون»!!.. ولذلك فقد اتخذوا شعاراً لهم «كل ما كان معجزة لنبيٍّ جاز أن يكون كرامةً لوليّ».
وطريق الوصول إلى الولاية هو «العلم اللَّدُني» الذي يدَّعون تلقِّيه عن الله تعالى بلا واسطة، ويقولون: إنه أصح وأحكم من العلوم المكتسبة المحصلة بالتعليم، وفيه غناء عنها. أما موضوع هذا العلم فهي: الفيوضات والتجليات والكشف والكرامات. وتتألف مادته من تفسيراتهم الغريبة لما يقع تحت سمعهم وبصرهم، ومن أقوالهم التي يلقونها في المناسبات ويسمُّونها «فتوحات العارفين وبُشريات الواصلين». والتحقق بهذا العلم معناه الولاية.. وفي فروع هذا العلم استخدامهم الطِّلسمات والحروف والأرقام في شفاء الأمراض وكتابة التعاويذ؛ ويرجع الصوفية أصل هذا العلم إلى صاحب موسى (ع) الخضر (ع)، فهو عندهم إمام الأولياء والسالكين، يلتقي به الشيوخ عياناً كما يزعمون، ويتلقون عنه الأسرار، لأنه لم يمت، ولن يموت إلى آخر الزمان؛ وهو يقيم بالمسجد الأقصى، ويطوف بالأكوان، ويحضر في كل مكان، ولذلك فهو يلقى الصوفية عند ذكره (ع)!!
وهكذا فإنَّ الولي عند الصوفية هو من «توالت طاعته وتحقَّق قربه واتَّصل مدده». وقد جاء في الرسالة القشيرية أن الوليَّ له معنيان:
أحدهما: فعيل بمعنى مفعول وهو من يتولَّى الله سبحانه أمرَه، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} فلا يكله إلى نفسه لحظة واحدة بل يتولَّى هو رعايته.
والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولَّى عبادة الله تعالى وطاعته؛ فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان لله تعالى.
وكلا الوصفين واجب حتى يكون الوليُّ وليّاً، فيجب قيامه بحقوق الله سبحانه على الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله له في السراء والضراء؛ ومن شرائط الوليِّ أن يكون محفوظاً، كما أن من شرائط النبي أن يكون معصوماً.
وجاء في دائرة المعارف وجدي، كما قال أبو علي الجوزاني بأن «الولي هو الفاني في حالة البقاء في مشاهدة الحق سبحانه، وقد تولَّى سبحانه سياسته فتوالت عليه أنوار التولي ولم يكن له من نفسه خِيار ولا مع غير الله قرار».
وجاء في الرسالة القشيرية أيضاً أن الخزاز كان يقول: «إذا أراد الله تعالى أن يوالي عبداً من عبيده فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذَّ الذكر فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس به، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو، فحينئذ صار العبد زمنيّاً فانياً ووقع في حفظه سبحانه وبرئ من دعاوى نفسه»..
وجاء في طبقات الشعراني «أن من الأولياء الشيخ أبا علي وكان من أكمل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى وهو كثير التطورات تدخل عليه في بعض الأوقات فتراه جنديّاً وفي بعض الأحيان تجده سبعاً، ثم تدخل عليه فتراه فيلاً، وأحياناً تدخل عليه فتجده صبيّاً. وهكذا يظهر في أكثر أوقاته بأشكال متباينة وصور مختلفة». وجاء في الطبقات أيضاً: «إن الشيخ محمد شعيب دخل الخلوة على الشيخ محمد الغمري فرآه جالساً في الهواء له سبع عيون..» ويقول الشعراني: «إن الشيخ علي أبو خوذة كان من أرباب الأحوال ومن الملامتية ، وكان يتعمد الأعمال التي توجب الإنكار عليه، فإذا أنكر عليه أحد أعماله عطبه.
ويقول الجنيد: لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الأولياء حتى يشهد عليه ألف صديق من علماء الرسوم بأنه زنديق، لأن أحوالهم وراء العقل والتقل»؛ ثم يضيف إلى ذلك: «ولا يكون الولي وليّاً عند الصوفية حتى يثبت لأشد الأهوال وأعظمها خطراً، ولا يتزعزع من مكانه حتى ولو فوجئ بما لا يطيقه أحد من الناس، لأن الولي يجلسه الله على كرسي التوحيد ويرفع عنه الحجب ويدخله دار الفردانية، ويكشف له عن الجلال والعظمة فإذا وقع بصره عليهما يبقى بلا هو ويفنى في الله»..
ومن قبيل هذا ما زعمه (ابن عربي) في صدر كتابه (الفتوحات المكية) من أنه نُصب له كرسي بين يدي الله تعالى وحوالَيه عظماء الملائكة والأنبياء لاختياره لختم الولاية. وقد توهم الدسوقي وغيره من مشايخ الصوفية ذلك، وأعجبوا به!.
ومظاهر الولاية عندهم تكون في قذارة الثياب، وإطالة الشعر، ولباس الخرقة والمرقعة، والتشرد في الأرض، وذهول الولي عن نفسه، وفساد عقله ونكران وجوده..
على أن تلك البدع التي يُرجعون الولاية إليها، لم يقيِّض الله تعالى لها رجالاً يقضون عليها إلى الأبد، ويميُتونها من حيث أتت، فكان أن نجح الصوفية فيما ابتدعوا، وحسبوا بذلك أنفسهم غاية الله في خلقه، وصفوة الصفوة من عباده، وأنهم وحدهم مختصُّون بالولاية عن سائر الناس؛ ولذلك ـــــــ ولما أصبحت الولاية لهم وحدهم شكَّلوها بما يناسب أهواءهم ـــــــ وأخرجوها من مراد الله منها، وساروا بها في طريقها الهندي القديم: من تعذيب النفس بالرياضات والمجاهدات، وسمَّوا ذلك «طريق الوصول إلى الله»، وجعلوا لهذا الطريق مراحل يقطعها «السالك» مرحلة إثر مرحلة، حتى يصل في نهايته إلى مرحلة «الفناء» التي هي غاية الغايات عند الصوفية!!
وهكذا قسَّموا الولاية على أساس الكرامات إلى مراتب، أعلاها مرتبة «القطب» وهو كبير القوم، ومهبط الرحمة، ومصدر البركات، ولا يتعدَّد صاحبها، حتى يخلفه غيره. ولهم في القطب نظريات واسعة، فقد جاء في الفتوحات المكية وغيرها أن للأولياء عند الصوفية ثلاث مراتب: الأولى هي الأقطاب وأنواعهم ثلاثة:
القطب الأول وهو بنظر محيي الدين بن عربي روح محمد (ص).
والثاني: قطب العالَم الإنساني ويعنون به أن الأرض لا تخلو من رسولٍ حيٍّ بجسمه. ويدَّعون أن الله قد أبقى بعد محمد (ص) من الرسل الأحياء في هذه الدنيا بأجسادهم وهم: إدريس (ع) وقد أبقاه الله حيّاً بجسده وأسكنه في السماء الرابعة. وأبقى في الأرض الياس وعيسى (ع) وكلاهما من المرسلين القائمين بالدين الحنيف الذي جاء به محمد بن عبد الله (ص) وأبقى الخضر (ع) وهو الرابع من هذه الأقطاب وأحد أركان بيت الدين وهو ركن الحجر الأسود؛ وأضاف إلى ذلك (يقصد ابن عربي الذي ينقل عنه) أن اثنين من هؤلاء الأربعة إمامان وأربعتهم أوتاد الأرض.
والقطب الثالث: هو قطب الغوث، وجاء في الفتوحات المكية في وصفه، أن هذا القطب لا يكون منه في الزمان إلا واحد، وهو قد يكون ظاهر الحكم ويجوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وعمر بن عبد العزيز، وقد يحوز الخلافة الباطنة لا غير، ولا حكم له في الظاهر كأحمد بن هارون الرشيد، والسبتي وأبي يزيد البسطامي، وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر».
فأولى مراتب (الولاية) إذن وأعلاها مرتبة القطب، ويليها رتبة «الإمامة» وتكون لاثنين عن يمين القطب وشماله بمنزلة الوزراء منه أحدهما عبد الرب، والآخر عبد المُلك، ويخلفه أحدهما عند موته. وتأتي بعد ذلك مرتبة «الأوتاد» وهم أربعة في كل زمان، يحفظ الله بأحدهم المشرق، وبالثاني المغرب، وبالثالث الجنوب وبالرابع الشمال.
ثم يلي ذلك مرتبة (الأبدان) وهم سبعة، ويحفظ الله بهم الأقاليم السبعة «وهم عارفون بما أودع الله سبحانه وتعالى الكواكب السيارة من أمور وأسرار في حركاتها ونزولها في المنازل المقدَّرة، وسُمُّوا(أبدالاً) لأن أحدهم إذا فارق موضعاً ترك فيه شخصاً روحانيّاً على صورته» وبعد الأبدال تأتي مرتبة (النُّقباء) وهم اثنى عشر على عدد بروج الفلك؛ وكل نقيب يكون عالماً بخاصية كل برج وما فيه من أسرار، وهؤلاء أودع الله فيهم علوم الشرائع المنزلة واستخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها».
وتأتي بعد ذلك مرتبة (الأنجاب أو النجباء) وهم ثمانية، ومقامهم الكرسي، ولهم قدم راسخة بعلم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع.
وأخيراً يأتي مقام «الشيوخ» وهم أربعون، وهؤلاء يعقدون الجلسات الروحية ليلة الأربعاء من كل أسبوع فتعرض عليهم فيها أمور الناس وأحوالهم، فيقسمون فيها الحظوظ والأرزاق، ويكتبون المواليد والوفيات ويهبون لمحبّيهم وزائري قبورهم العافية والبركة والنجاح، ويقدرون العقوبات والمناصفات على العصاة والمذنبين والمعترضين!! يقضون في هذا كله ثم يبعثون بقراراتهم إلى «النجباء» و«النقباء» فيخبرون بها الناس.
أمَّا من الناحية التاريخية فيكاد يجمع مؤرخو التصوف على أن ذا النون المصري ـــــــ وهو من أعلام الصوفية الأوائل ـــــــ كان أول من تكلم في مراتب الأولياء. ويرجحون أن نقل هذا النظام من الوثنية الفرعونية التي كانت جارية على تقسيم درجات الكهنوت إلى مراتب ودرجات؛ ويدللون على ذلك بأن هذا الصوفي كان يقضي أكثر أوقاته في بَرِّ أبي أخميم متنقلاً بين آثارها وكاشفاً عن أسرارها، وساعياً وراء الذهب والكيمياء فيها؛ ويرى بعضهم أنه نقلها مما كان شائعاً بين رجال الكنيسة في الإسكندرية. وسواء أصح هذا أم ذاك فليس بذي بال، لأن المقطوع به أن الصوفية هم غلاة دُخلاء على الإسلام، وأن تقسيمهم الولاية إلى مراتب، وادِّعاءهم بأنهم الأولياء من دون سائر الناس ـــــــ ذلك كله ـــــــ لا يمت بأية صلة إلى الإسلام الصحيح، البعيد عن كل ما دُسَّ فيه وأدخل عليه زوراً وبهتاناً.
ويقسم الصوفية، على أساس مراتب الولاية، الديار إلى مناطق نفوذ ودوائر اختصاص للأولياء؛ فمن مكان كذا إلى مكان كذا يقع في دائرة الولي فلان، ومن حدود كذا إلى حدود كذا في دائرة الولي الآخر فلان؛ فلا يليق أن يتقدَّم سائلٌ قليل الذوق برجاء إلى البدوي بطنطا إذا كان بحكم مولده وإقامته يقع في دائرة نفوذ الدسوقي بدسوق!.. وقس على ذلك..
أما لجهة تقدير الأولياء وتقديس ذكرهم، فتقام لهم ـــــــ وهم في قبورهم ـــــــ الموالد في المواسم المعيَّنة من كل عام، حيث يلتقي في محيطها خلق كثير، فيولم الصوفية هذه الموالد على حب أصحابها، وينحرون المواشي نذوراً لأربابها، ويرجعون منها ـــــــ بالمقابل ـــــــ بالأموال الوفيرة التي ينزعونها من أقوات الفقراء وحُليِّ النساء، مقابل السماح لهم بالنوم في سرادقاتهم، وحضور مجالس الذكر، التي تكتب فيها الاستغاثات بماء الزعفران والورد، يتفضل بها الشيوخ الأحياء على من حولهم زاعمين أن توجيه هذه الاستغاثات إلى من في القبور والأضرحة هو أقرب الطُّرق ليرفعوا عنهم الضرّ، ويكشفوا عنهم الكرب والبلاء، ويستنزلوا عليهم البركة، ويستمدُّوا المال والولد، ويدفعوا عن حقولهم آفات الزرع، ويكيدوا لخصومهم، وسارقي أرزاقهم، ويقتصوا من أعدائهم في أبنائهم وأموالهم.. إلخ..
ويضاف إلى ذلك ما ادَّعَوه بأن الولاية هي المرتبة التي ينتفي فيها الأخذ بالأسباب، فيكفي أن يدور الأمر برأس الولي ليكون قدَراً مقدوراً!.. ثم بالغوا في تعظيم أصحاب الولاية فأنزلوهم منزلةً فوق منازل النبيِّين والصدِّيقين والشهداء وذلك بقولهم: إن للأولياء في حياتهم قوة قدسية ينالون بها العلوم من غير علم؛ فعندهم سرّ اسم الله الأعظم، وعلم اللوح والقلم، وما في أم الكتاب... ويكفيهم ذلك قدراً حتى يكونوا فوق مستوى البشر، الذين تجب عليهم طاعتهم وطلب المدد منهم (ولذا تسمع أتباعهم ـــــــ عند نزول الشدائد بهم ـــــــ يستغيثون بقولهم: المدَدْ.. الْمَدَد..)، وأنهم معصومون من الذنوب، فإن أذنبوا احتجوا بالقدَر، أو اعتذروا بأن الشرائع لم تنزل من أجلهم! إلى غير ذلك من أوهام جنون العظمة، وترَّهات الادِّعاء الفارغ.. ويقولون: إن الأولياء لا يموتون وإنما يرفعون، وإن أجسادهم لا تبلى في القبور، وإنهم في حياة البرزخ يُشرفون على شؤون الخلق كما كانوا في الدنيا!!
ولم يقتنع الصوفية بما ذهبوا إليه من الشطح والادِّعاء في تفسيرات الولاية وردّ مصادرها إلى الرسول محمد (ص) بل راحوا يقرنون بين الولاية والنبوَّة، فجعلوا للولاية خصائص ومميزات من جنس خصائض النبوَّة ومميزاتها، إذ جعلوا الكشف في الولاية نظير الوحي في الرسالة، وقالوا: إن الأولياء يتلقَّون «الفيض» و«العلم اللَّدُني» عن الله تعالى مباشرة، فلا حاجة بهم إلى الرُّسل لأنهم يأخذون من المورد نفسه الذي يأخذ منه الرُّسل! ويضعون الكرامات التي لا تخرج، كما رأينا، عن كونها نوعاً من القصص والتصورات الخرافيَّة، في منزلة معجزات الرسل. ثم يُتْبِعون هذا الادِّعاء بانتحال معجزات الرُّسل واحدة واحدة!!.
وينعت محيي الدين بن عربي الولاية بالنبوَّة فيقول: «نبوَّة الولاية» و«نبوَّة الشرائع».. ويقول هو وسائر الصوفيين: هما من مصدر واحد!
ومن الصوفية من يقول بتناسخ النبوَّة وظهورها في الأولياء. وقد أشار إلى ذلك عبد الكريم الجيلي في تعريف (الإنسان الكامل) إذ قال: «إنه القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود، وإنه واحد لا يتعدَّد، وإنما يظهر في الأنبياء والأولياء في صوَر وملابسات مختلفة».. ولذلك كان يسيراً على بعض الصوفية أن يدَّعوا لأنفسهم، جهراً وسرّاً، صفة النبوَّة والرسالة، فكان الشبلي يقول لتلميذه: «أشهد بأني أنا رسول الله»، ويحكون أن تلميذه هذا كان صاحب كشف، ولذلك أقرَّ له بالرسالة، فقال: «أشهد بأنَّك رسول الله».. وليس هذا بغريب ولا مستبعد على قومٍ انتحل بعضُهم لأنفسهم «صفة الربوبيَّة».
ولمَّا هام غلاة الصوفية بالولاية عشقاً، صرَّحوا بأن الولاية أعظم وأجل خطراً من النبوَّة، وأن الأولياء يفضَّلون على الأنبياء!! ثم اصطنعوا الأحاديث اللازمة لتأييد هذا الفضل المزعوم من مثل قولهم: «الأولياء على منابر من نور، وأنهم في مقام يغبطهم عليه الأنبياء والشهداء. بل لقد زادوا في غلوائهم تلك حتى نطقوا بعبارات يتطاولون بها على مقام أنبياء الله ورسله الكرام. فقال أبو الغيث بن جميل الصوفي: «خضنا بحراً وقف بساحله الأنبياء»!! وقال الجيلاني: «أنتم معشر الأنبياء أوتيتم اللَّقب، وأوتينا ـــــــ أي نحن الأولياء ـــــــ ما لم تُؤْتَوا»! ويقول ابن عربي في تفضيل الولاية على الرسالة والنبوَّة: «إنَّ الله لم يتسمَّ بالنبيِّ ولا بالرسول، ولكن تَسَمَّى بالولي». وهذا القول على المعنى المقصود، إلحادٌ في أسماء الله الحسنى..
وحول هذا المضمون قال ابن عربي في كتابه (فصوص الحكم): «لما كان كل نبيٍّ وكل رسولٍ وليّاً كانت النبوَّة والرسالة مرتبتَين خاصَّتَين تلحقان بالولاية وتزولان عنها بزوال أسبابها كما تزول عن الملك صفة الملكية فيرجع إلى ما كان عليه. والنبوَّة والرسالة من شؤون هذا العالَم لاتصال أصحابهما به، أما الولاية فلا صلة لها بشأن من شؤون العالَم ولذلك لم يكن لها زمان ولا مكان. وأضاف أن النبوَّة وهي إحدى مراتب الولاية فقضي عليها بالانقطاع لأنها من الصفات التي تزول عمَّن يتصفون بها، أمَّا الولاية فلا زوال لها»..
»ومما يشير إلى أن الولاية الصوفية عندهم أعظم شأناً من النبوَّة ما جاء في صفحة 117 من المجلد الثاني من (فصوص الحكم) لابن عربي: «إن الولي يطلق على العبد إذا اكتملت فيه حقّاً صفات الولاية، وأخصُّ صفات الولاية الإسلامية هي الفناء في الله والتحقق بالوحدة الذاتيَّة بين الحق والخلق، فإذا وصل العبد إلى هذا المقام فقد وصل إلى غاية الطريق الصوفي، وحق له أن يسمِّي نفسه لا باسم الوليِّ وحدَه بل بأي اسم من الأسماء الإلهيَّة!! فالعفوَ والمغفرةَ نطلب منك يا ربّ لهذا الكفر باسم الإسلام، وباسم «الولاية الإسلامية» من رجلٍ مثل ابن عربي، ادَّعى بأنه من المسلمين!! ثم يأتي قول ابن سبعين شاهداً على تزويرهم لحقيقة النبوَّة، وصدق الرسالة التي حملها محمد (ص) عندما يقول ذلك الشيخ الصوفي بكل صلافة وجرأة وبهتان: «لقد غالى ابن آمنة بقوله: لا نبيَّ بعدي».
ولقد كان الترمذي الصوفي (وهو غير الترمذي المحدِّث) أول من عقد مقارنة بين النبوَّة والولاية متأثراً بما اطَّلع عليه من مسائل اللاهوت والفلسفة، وقد انتهت أبحاثه ومقارناته إلى اختراعٍ بل افتراءٍ ضخم هو القول بوجود ما يسمَّى «خاتم الأولياء»، ولذلك وقفت الولاية بجوار النبوَّة بهذا اللقب الذي يعادل صفة «خاتم النبيين»؛ وقد احتاط الترمذي فاختار لمقام ختم الولاية عيسى (ع)!.
ولم يكد هذا الاختراع يستقر في أذهان الصوفية حتى تهافتوا عليه تهافت الجراد على الأخضر، مدعياً كلٌّ منهم حقه أن يكون هو «خاتم الأولياء» هذا! وقد خشي ابن عربي أن تفلت منه هذه الدرجة، فلم ينقطع عن التأكيد لأتباعه بأنه المختصُّ من دون الناس بهذا المقام، الذي قال عنه: «لم يكن الحق ـــــــ أي الله تعالى ـــــــ أوقفَني على ما سطَّره لي في توقيع ولايتي أمور العالَم حتى أعلمني بأني خاتم الولاية المحمديَّة»!!
وفي هذا المجال أيضاً يحكي الشعراني في طبقاته عن إبراهيم الدسوقي أنه كان يقول: «أنا موسى في مناجاته، وأنا عليٌّ في حملاته، أنا كل وليٍّ في الأرض، أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته»... وهكذا، إلى أن زعم أن رسول الله (ص) قال له: «يا إبراهيم أنت نقيب على الأولياء»!!..
فهل نظرت أيها القارىء الكريم إلى تلك المزاعم والأباطيل التي يشوهون بها حقيقة الإسلام، والإسلام منها براء؟!
إنه ما من مسلم يُنكر الأولياء، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم، لقوله سبحانه وتعالى: {وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]. وقوله عزَّ وجلَّ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 62 ـــــــ 63]، وقوله عزَّ من قائل: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] فالله جلَّ وعلا يقرن الولاية بالإيمان، وبالتقوى، ويصف نفسه سبحانه بأنه ولي المؤمنين والمتقين، وأن أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتَّقون، في حين أنه ـــــــ من ناحية ثانية ـــــــ يجعل الظالمين بعضَهم أولياء بعض.. والفارق كبير بين المؤمنين والمتَّقين، وبين الظالمين.. ولا نحسب الصوفية، وقد حرَّفوا آيات الله تعالى وأوَّلوها وفق أهوائهم وشهواتهم، إلاَّ أنهم هم الظالمون الذين توالوا على الظُّلم كابراً عن كابرٍ وكان بعضهم يتولَّى الظلم عن بعض ويعمل ما يكسب به عداوة الله تعالى ورسولِهِ والمؤمنين!!.
نعم إن الإيمان بالله، والامتثال لأوامر الله ونواهيه هي طريق المسلم لنيل مرتبة الولاية التي لا تكون إلاَّ لله تعالى أو لمن ولاَّه إياها من قِبَلِه كقوله سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ذاك أن الولاية منزلة الرضا والعَفو والمغفرة، ومنزلة الرحمة والثواب..
أما ادِّعاء القدرة على تصريف شؤون الكون، ومشاركة الله تعالى في الألوهية، ونيل مرتبة أعلى من النبوَّة والرسالة، فهذا كفر واختلاق، وليس من الإسلام في شيء، لأنَّ الإسلام جعل الألوهية والربوبية لله تعالى وجعل العبودية لخلق الله أجمعين، ومحالٌ أن يتطاول عبدٌ على مقام خالقه، وأن يدَّعي لنفسه قدرةً مثل قدرته، ومشيئةً مثل مشيئته، لأنه أنقص وأحقر من أن تكون له تلك القدرة، وتلك المشيئة، وهو الضعيف الذي لا يستطيع أن يتحكم في لحظة من مسار وجوده إلاَّ إذا شاء له الله ذلك.. فما هذا العمى الذي أصاب بصيرة أهل التصوُّف، وما هذا الضلال الذي ركب عقولهم حتى ادَّعَوا بأنهم أولياء الله، وأن ولايتهم أفضل من نبوَّة الأنبياء؟!
وهكذا صارت كلمة «الولاية» في القرون المتأخرة وبحسب تعاريف الصوفية لها ـــــــ علَماً على تحلُّل مَن يدَّعيها من ربقة الدين بعد أن كانت فيما مضى من التاريخ الإسلامي المشرق تدل دلالةً صادقةً على حَمَلَةِ الهدى والاستقامة، والعزة وكمال الرشد في الحياة، وإن كلمة «الولاية» ذات معنىً واسعٍ شامل، وليس لها مدلولٌ خاصٌّ يستقل بها، لأنها تحمل المعاني الكثيرة المشتركة، وتكون بحسب القرينة التي تُنسب إليها، كما نلاحظ من استعمالها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم. وكذلك شرفُ «الولاية» فإنه شرف عظيم سبيله الإيمان والدعوة إليه، وطريقه الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته وبذل المال والنفس في طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل، بحيث تصبح الولاية منزلة يظفر بها من قام بحقها من صالح الأعمال. أما الادِّعاء بصالح الأعمال والعبادات، والإتيان في الواقع بخلافها، بل وبخبيثها وشرها، فهو أبعد ما يكون عن شرف الانتماء إلى الإسلام، فضلاً عن الانتساب إلى الولاية الحقة، فإن مَن ادَّعى ذلك كان أَولى بولاية الشيطان التي فيها الكفر والمروق والزندقة..
والصوفية لم يدلِّلوا على أن الولاية سبيلُها الإيمان بالله، والانتساب إليه بالعبودية والإخلاص والطاعة، أي بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، بل فهموا «أنها الفناء في الله والتحقُّق بالوحدة الذاتيَّة بين الحق والخلق»، كما قرَّروا أنها أعلى مرتبة من النبوَّة والرسالة فضلُّوا بذلك عنها وعن مفهومها الدينيِّ، بل ضلوا عن الدين بكامله ضلالاً بعيداً!! فهل ترى أن مثل هذا التطاول على قدسيَّة الله وعزَّته سبحانه وتعالى، وعلى أنبيائه ورسله يكون من صالح الأعمال، أو من هدي الإيمان؟!.. لا، فإننا لو أخذنا بعض أفعال هؤلاء الصوفية مثالاً للتدليل على معنى الولاية، لَوجدنا الدليل الصارخ أن أساسها كان مبنيّاً على الشطح والضلال، فهم ـــــــ من حيث لا يفهمون موارد بذل المال في المكرمات ـــــــ ذمُّوا المال ودعَوا إلى تركه مخافة الافتتان به وقالوا: تلك مرتبة كبيرة في الولاية. ثم اعتبروا الرياضات والمجاهدات من أكبر القربات، وعدُّوا الذل والخمول من أمَّهات الفضائل، وقياساً على هذه الأحوال وضعوا أصحابها في الذروة وسمَّوهم «الأولياء»، وفضلوهم على المؤمنين، المتقين والشهداء، في حين أنهم فسَقةٌ مَرَقةٌ من الدِّين قد تعدَّوا على قُدس الأقداس وادَّعَوا مشاركة الله تعالى في ألوهيته!!
والضلال المبين الذي ارتكبوه حقّاً، هو تفضيلهم الولاية على النبوَّة والرسالة، في حين أن مدلول الرسالات السماوية، والغاية من بعث الرسل، إنما هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، بقوله تعالى إلى نبيه الكريم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1]. أما كيفية الخروج من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية فهي عند ذوي العقول المستنيرة، وأصحاب الفطرة السليمة، وتكون في الاستقامة بعد الانحراف، وفي الاعتدال بعد الإسراف، وفي الوقوف عند حدود الله تعالى، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، والقيام بسائر الفروض التي شرعها سبحانه لعباده المؤمنين، وقد شهد التاريخ الإسلامي هذه الكيفية في الخروج، عندما خرج العرب من الجاهلية إلى الإسلام واتَّبعوا النبيَّ الأميَّ (ص) وآمنوا برسالة الإسلام، ثم خروجهم بعد ذلك في هذا الإسلام، وفي خير عزم ونظام، لبسط ولاية الحق على الشعوب الأخرى، وإخراجها من الظلمات إلى النور.
وهناك خروج آخر أمرَ الله تعالى به، وهو أنه إذا عمَّت الفتن، وهانت الأعراض، واستبيحت الحرمات، وضاعت الكرامات، ولم يبق من سبيل إلى درء هذه المخاطر، ولا لاتِّقاء مضارِّها، وإذا لم يكن من مجال للعصمة من الضلال، فلا بدّ من خروج الطيِّبين عن ديار الفاسقين؛ ومثل ذلك خروج موسى ومن تبعه من بني إسرائيل من مصر، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 5]، على أن هذا الخروج يجب أن يكون الطريق لإعادة بناء النفوس مما علق بها، وإنشاء عقليَّات جديدة تكون قادرةً على الانقضاض على مواطن الفتن، والقضاء عليها، لإعادة الأمور إلى نصابها، ولإعادة الإيمان إلى الربوع التي طرد منها.. وهذا كلُّه ممّا لم يأخذ به الصوفية ولم يفعلوه، بل آثروا اتِّباع نهج آخر بنوه على الاستكانة، والإقامة في محيط الفتن والضلالات، مع ادِّعاء المحافظة على الدين بالقدر المستطاع.. وهذا لعمري غفلةٌ منهم كبيرة، وحيلة لجأ إليها أولئك العاجزون، وقد انتهت بهم إلى واحد من أمرين:
إمَّا الفسوق والعصيان، بعد أن غرَّتهم الحياة والشهوات، فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم.
وإمَّا التردي في مهاوي التصوف في صورةٍ ما من صوره العديدة، بعد أن ظن أحدهم أنه، وهو في خضم الفسوق بمنجاة من الغرق، فانكمش على نفسه، وأقام على الهوان والضيم، وبذلك انحرفت تصرفاته نتيجة عدم انفعاله بالأحداث الخارجية التي لا مفر له منها، ضالاً ـــــــ بذلك ـــــــ عن الطريق القويم، ومنتهياً إلى فساد الذوق بالنسبة لنظام المعيشة المحيطة به، فساداً يورث الزيغ والإلحاد، ويؤدي إلى ابتداع رياضات ومنكرات ما أنزل الله بها من سلطان، كما هو معروف في التصوف من تلك الحيل والأحابيل..
وأما بالنسبة إلى الفئة القليلة من المتصوفين، التي تدعي المشيخة، فإن الحال عندهم قد ينتهي بالشيخ ـــــــ في أحسن الأحوال ـــــــ إلى معركة كلاميَّة تستمر بالوقوف عند استظهار الأسانيد والأقوال، وترجيح الروايات والخلافات، ووضع الشروح والحواشي والتفسيرات، وهذا هو عين الجهل! فتزول بذلك حقيقة الإسلام، ويبقى الكلام بأقواله بعيداً عن حقائقه، فيتبدَّل الإسلام من العمل إلى الجدل، ومن الجد إلى المهاترة، ومن المضاء إلى الالتواء، ثم تتصدع وحدة الأمة بقيام الفرق والجماعات المتنابذة حول مسائل الخلاف حتى يغيض معين الحق.
تلك هي «الكرامات» الصوفية، وتلك هي «الولاية» التي ادَّعوها لنفر منهم بلغوا مراتب العلم الإلهي والتفوق على الجنس البشري، حتى صاروا «أولياء» فوق «الأنبياء»..
وقد آن لنا أن نعيَ حقيقة الإسلام وأنه الدين المتين، الذي لا يقبل ضلالات المضللين، ولا يستكين أمام هفوات المنافقين، بل يهدي إلى الحق المبين، والصراط المستقيم، وفق ما أمَرَنا الله تعالى ورسوله الكريم (ص) ثم آن لنا أن نعيَ أن هؤلاء الذين ادَّعَوا «الولاية» قد عملوا على عكس ما تُملي الولاية الحقَّة.
فلنعدْ إلى الإسلام.. ولنؤمنْ به إيماناً خالصاً.. والله تعالى ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.



المصادر
(3) يدعي الصوفية أن السريانية هي لغة الملائكة وأهل الجنة، وبها يكون سؤال القبر. وهي عند الصوفية شيء آخر غير لغة السريان الذين قاموا بترجمة الفلسفة اليونانية وغيرها في عصور انحطاط الدولة العباسية.

(4) يورد الدكتور طلعت غنّام نقلاً عن الدكتور أبي العلا عفيفي عن الصوفية الملامتية بأنهم «يدَّعون أنهم مع الله أشبه بمحمد صلوات الله عليه. لم يؤثر باطنه في ظاهره: بعد الذي ناله من القرب والدنوّ، عندما رفع إلى المحل الأعلى، فلما رجع إلى الخلق تكلَّم معهم في أمور دنياهم كما لو كان واحداً منهم، وهذا أكمل العبودية، ولذلك فهم قد قاموا مع الحق تعالى على حفظ أوقاتهم، ومراعاة أسرارهم فلاموا أنفسهم، على جميع ما أظهروا من أنواع القرب، والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه، وكتموا عنهم محاسنهم، فلامهم الخلق على ظواهرهم، ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم».
ويورد الدكتور طلعت غنام في الردِّ على الملامتية ما يقوله ابن تيمية: «وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك ما أحبه الله فهو لوم يحث بحق، وليس من الحمود العبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وبهذا يحصل الفرق بين الملامة على ما يحبه الله ورسوله، ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين الملامتية الذين يفعلون ما يبغض الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك».
ويضيف إلى ذلك الدكتور غنام رأي الدكتور أبي العلا عفيفي في الأسس التي شكلت مذهب هذه الطائفة بأنه يقول: «ويخيل إليّ أن الأساس النظري العام الذي يقوم عليه المذهب الملامتي هذا، هو التشاؤم الذي نظر به شيوخ هذه الفرقة إلى النفس الإنسانية، وبنوا عليه مذهباً كاملاً، في تذليلها وتحقيرها، ولومها واتِّهامها، وحرمانها من كل ما نسب إليها من علم أو عمل، أو حال أو عبادة، وهي وجهة نظر قد يكون للبيئة الزرادشتية في فارس أثر فيها، ومن زعماء هذه الطائفة أبو عثمان الحيري، وهو من مؤسسي هذا المذهب».
ويضيف الدكتور غنام قائلاً: «ويبني الدكتور أبو العلاء المبادئ التي تتنافى مع القرآن الكريم والسنَّة فيقول: ومن المبادئ الأساسية التي صدر عنها المذهب الملامتي أن العالم شرّ لا خير فيه، وهو في هذا يتفق مع حمدون القصار ـــــــ ولذلك يوجب على الملامتي التزام الحزن والكمد ورؤية التقصير في جميع أفعاله.
وقد كان ذلك سبباً دعا بعض الصوفية (كأبي بكر الواسطي) إلى وصف مذهب أبي عثمان بأنه مجوسي.. وإذا كانت الدنيا شرّاً محضاً، يجب التخلص منه، فالزُّهد فيها أول ما يُلزم به المتشائم نفسه، ولذلك كان أبو عثمان يرى وجوب الزهد المطلق في كل شيء، وليس من المستبعد أن يكون التشاؤم الزرادشتي والهندي قد وجد طريقه إلى بعض صوفية خراسان وإلى البيئة الثقافية التي عاش فيها أبو عثمان الحيري، بل ليس هناك من شك، في أن نظرة أبي عثمان خاصة، والملامتية عامَّة، إلى النفس الإنسانية إنما هي نظرة رجال متشائمين تحمل طابعاً غير إسلامي».

(5) الكشف عند الصوفية درجة من درجات المعرفة التي لا تحصل بالعقل، وقد يسمونه «الفيض»، ونظرية الفيض أو الإشراق مقتبسة من الأفلاطونية الحديثة التي توسعتْ في شرحها بعد أن أخذت فيها بآراء أفلاطون وحكماء الهند.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢