نبذة عن حياة الكاتب
الصوفية في نظر الاسلام

العشق الإلهي في التصوف
تركيب الإنسان العضوي والنفساني
هذا الكائن البشري، الذي هو الإنسان، لقد أوجد الله تعالى فيه غرائز وحواس، كا أودع فيه ملكات وطاقات لا تحدد ماهية وجوده فقط، ولا تعطيه ذاتية خاصة وحسب، بل ترتبط بها علاقاته جميعاً: بخالقه وبنفسه، وبالآخرين من بني جنسه وبكل ما يحيط به من كائنات حية وغير حية..

العشق الإلهي في التصوف
تركيب الإنسان العضوي والنفساني
هذا الكائن البشري، الذي هو الإنسان، لقد أوجَدَ الله تعالى فيه غرائز وحواسَّ، كما أودع فيه ملكات وطاقات لا تُحدّد ماهية وجوده فقط، ولا تعطيه ذاتيةً خاصة وحسب، بل ترتبط بها علاقاته جميعاً: بخالقه، وبنفسه، وبالآخرين من بني جنسه، وبكل ما يحيط به من كائنات حية وغير حية..
ويتبيّن من خلال فحص دقيق لهذا الإنسان أن تركيبه العضوي أو تركيبه النفساني، ليس كمثلهما تركيب في مخلوقات الأرض كافة، لأنه تركيب، في شِقَّيه، منَحَهُ الله تعالى خصائص كثيرة هي التي مكّنَتْهُ من أن يترقَّى في مسيرة حياته، وأهَّلته لأن يتبوّأ مركز السيادة على سائر كائنات الكوكب الذي يعيش بين أحضانه..
وإنَّ من أبرز خصائص هذا المخلوق المميَّز: من حيث هو إنسان ـــــــ فِكرهُ الذي يحصل به التمييز أو الإدراك، والذي يمكنه من الحكم على الأشياء، وذلك طبعاً، بعد نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس الخمس، ووجود معلومات سابقة تُعين على تفسير هذا الواقع.
وإلى جانب هذا الفكر، تبرز لدى الإنسان: الطاقة الحيوية التي هي في الأصل عبارة عن مجموعة الغرائز والحاجات العضوية لديه..
فأما الغرائز فهي ثلاث، ليس إلاَّ: غريزة النوع ـــــــ وغريزة حب البقاء ـــــــ وغريزة التقديس (التي هي منتهى الاحترام القلبي).
وأما الحاجات العضوية فتبرز أكثر ما تبرز بما يُقيم أوَدَ الجسم، وينمّي حركته، كالحاجة إلى الطعام والشراب، وإلى النوم والراحة، وإلى الحركة والنشاط، وما يحتاجه كل عضو من أعضائه كي يقوم بوظيفته، بحيث تصبح تلك الحاجات، بتنوعها وتعددها، لا تقع تحت حصر، وبحيث تختلف هذه الحاجات بتفاعلها بين جسم وآخر..
على أن كل الغرائز والحاجات العضوية إنَّما تتبدّى بمظاهرها التي تعبّر عنها، فلا تظهر الغريزة ولا الحاجة العضوية من حيث هي، بل مظاهرها فقط هي التي تبرز لنا بصورة واضحة؛ ومن هنا لم يفرق كثيرٌ من الناس بين الغريزة ومظاهرها، أو بين الحاجة العضوية ومظاهرها؛ في حين أنه في الحقيقة حالة الغريزة شيء ومظهرها شيء آخر، وكذلك الحاجة العضوية فإنَّها شيءٌ غيرُ مظهرها.
فبالنسبة إلى غريزة النوع نجد مثلاً أن الميل إلى المرأة عن حنان، أو الارتياح إلى الصديق أو النظر إلى الولد بعطف، أو الشعور بالشفقة على المريض، أو الاندفاع في حب مساعدة الغير.. فهذه كلها ليست غرائز، وإنما هي جملة مظاهر لغريزة واحدة، هي غريزة النوع وفي ممارستها إشباع لهذه الغريزة، وهي الإشباع اللازم لبقاء النوع الإنساني إذا نظرنا إليه في العمق. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الشعور الجنسي، أي النظر إلى المرأة بشهوة أو الإحساس بالاجتماع إلى المرأة، فهو أيضاً مظاهر غريزة النوع؛ ومن هنا فإنه لا توجد غريزة خاصة تدعى غريزة الجنس لا عند الإنسان، ولا حتى عند الحيوان، بل ذلك الشعور الجنسي إنما هو مجرّد مظهر من مظاهر غريزة النوع؛ غير أن هذا الشعور له مظاهره لدى الإنسان التي لا يظهر فيها لدى الحيوان. ففي حياة الإنسان نجده يقوم على الاحترام، والتهذيب، والاحتشام، بينما يتبدَّى عفويّاً، وعلنيّاً ومباحاً لدى الحيوان.. على أن هذا لا يعني أن الحيوان يمارس الجنس بطريقة شاذة، تخرج عن الحدود التي رسمت له في وجوده، بل على العكس إن هذه الممارسة تأتي بصورة طبيعية بحيث لا تكون لأحد الحيوانات علاقات جنسية إلا مع حيوان آخر من جنسه فقط، وفي فترة معينة من السنة لا تتعداها إلى غيرها من الفترات..
وأما غريزة حب البقاء فهي التي دفعت الإنسان لأن يحرص على حماية نفسه منذ أن وجد، فصارع قوى الطبيعة، وقاوم الحيوانات المفترسة، وقهر الصعابَ، وعالج الأمراض.. أي أنه بالإجمال قد تصدّى لكل المخاطر التي اعترضت سبيل استمراره وبقائه، لكي يذود عن وجوده ويحمي حياته..
وما من شك بأن سعي الإنسان للتملك والاقتناء، ثم ما ينبعث عنه من مشاعر الخوف، والاندفاع، والشجاعة، والتهوّر، والتروّي، والحب، والبغضاء، وما إلى ذلك من مشاعر تنتج عن انفعالات داخلية، أو عن مؤثرات خارجية، فإنها كلها تصبُّ في غاية واحدة، وهي: بقاء الإنسان.. وهي عندما تظهر لديه = ككائن يدفع الأذى عن وجوده، ويعمل للحفاظ على حياته = إنما تحرّكها غريزة أصيلة هي غريزة حب البقاء، وما إشباع مظاهر هذه الغريزة كافة إلاَّ أمثل التعبير عن فكرة استمرار بقاء الإنسان..
وتبقى غريزة التدين، أي «التقديس»، وهذه أيضاً غريزة طبيعية، ثابتة لدى الإنسان، وجدت معه منذ عاش على هذه الأرض، وأحسَّ بأنه محتاج في بقائه، وفي نوعه إلى قوة تفوق كل القوى التي تحيط به، لكي يلجأ إليها في المهمّات والملمات، ويأوي إلى كنفها عند مداهمة الأخطار، وذلك نظراً لما هو عليه من ضعف حيال القوى الأخرى، ولما لديه من حاجة إلى دفعها، أو إبعاد أذاها عنه = على الرغم مما عنده من قوّة وقدرة = ولذا لم يأبه لنوع تلك القوة وشكلها، سواء كانت مادية محسوسة تتمثل بالنار أو الشمس، أو القمر، أو حتى الشجر أو الحجر؛ أم كانت قوة غيبية مجرَّدةً عن واقعِه، خَلَعَ عليها اسم الألوهية وأعطاها أسماء مختلفة، مثل إله الحرب، وإله الخير، وإله الشرّ، وإله الحب.. نعم لم يأبه لذلك، لأنَّ همه الأول والأخير كان الاحتماء بقوة ما، فاخترع هذه القوة بخياله أو بتصوّره، ثم خلَعَ عليها صفة القداسة، فآمن بها وعبدها.. ولكنه وما أن سمت مداركه، ونضج فكرُهُ حتى وَجَدَ أن تلك الكائنات التي عبد لم تُشبع فطرتَهُ الإيمانية، فتطلَّع ببصيرته إلى أبعد مما تخيَّل أو تصوَّر، ثم رأى التغيير يجري على ما عَبَدَ من كائناتٍ، فأيقَنَ بأنَّ هنالك قوةً أقوى منها جميعاً، وهي التي تتحكَّم بوجودها، وبوجوده على حدٍّ سواء، فآمَنَ بتلك القوة على أنها هي التي تخلق كل شيء، وتدبر كل شيء، ولكنه لم يعرف سرَّ هذه القوة، ولم يقدر على إدراك كنهها، حتى جاءت الرسالات السماوية، فعرفها بأنَّها الله، وكان إيمانه به على أنه وحده أحق بالتقديس وبالعبادة..
ومثلما لغريزة النوع، وغريزة البقاء مظاهرها، كذلك لغريزة التقديس هذه ـــــــ بوصفها منتهى الاحترام القلبي ـــــــ مظاهرها أيضاً. وأبرز هذه المظاهر العبادة، والخشوع، والتقرُّب إلى الله عند المؤمنين، لأنه هو الخالق القوي، المدبّر، القادر؛ وهي المظاهر نفسها التي نجدها عند الجماعات الأخرى التي لا تدين بالوحدانية، ولكن بأشكال أخرى عديدة حسب معتقدات كل جماعة، وتقاليدها الموروثة.. على أنَّ أهمَّ مظاهر غريزة التديّن كانت العبادات وما تزال، والإنسان على طول امتداد تاريخ وجوده الأرضي، عَرَفَ أنواعاً عديدة من الشعائر والطقوس في تلك العبادات، بحيث لم يخْلُ عصرٌ من العصور إلاَّ وعرف أناسهُ عباداتٍ دينيةٍ معينة.. وقد مرَّت شعوبٌ، وجماعات كثيرة بفتراتٍ صعبة كان يلجأ زعماؤها أو حكامها إلى القوة لإجبارها على التخلّي عن عباداتها، من أجل اعتناق معتقداتهم الدينية التي يؤمنون بها؛ ولئن كانت تلك الضغوط قد نجحت في تحويل الكثيرين عن معتقداتهم السابقة، إلاَّ أنها لم تنجح أبداً في إرغام الإنسان على ألاَّ يكون متديناً، بصورة أو بأخرى.. كما أن نجاحها في تحويل الإنسان إلى معتقدٍ جديد كان قليلاً ونسبياً، لأنَّ الجماعات المتدينة إجمالاً، أبت إلاَّ أن تبقى على تديّنها، مهما كان الأذى الذي تتعرض له، أو العذاب الذي ينزل بها... فكانت النتيجةُ عجْزَ أية قوة، مهما كانت ظالمة أو غاشمة، عن أن تنزع من نفس الإنسان غريزة التدين، أو أن تستأصل من قلبه إيمانه بتقديس خالقِهِ (أو إلهِهِ)؛ كما وأنَّ تلك القوة لم تستطع أن تمنَعَ المتديّن من القيام بعباداته سراً أو جهراً، لأنها وإن كانت قد قدرت على أن تكبت مشاعرَهُ الدينية فلا يصرّح بها، أو أن تمنعه من القيام بعباداته فلا يمارسها، لكنها لم تقدر أبداً من السيطرة على دخيلته، أو النفاذ إلى أعماقه، وبالتالي فقد فشلت في منعه من تلاوة صلاته في قلبه، وفي حبس شعوره بالخشوع إلى معبوده.. كل ذلك لأن التديّن غريزة أصيلة في الإنسان، والعبادة هي مظهرها الطبيعي بل وأهمُّ مظاهرها كافة.. على أنَّ هنالك ظاهرةً جديدة قد تستوقف المفكّر، وهي ظاهرة الإلحاد التي استشرت في نفوس الكثيرين بحيث لم تبعدهم عن دين الله وحسب بل دَفعتْ بهم إلى الاستهزاء بعبادات المؤمنين بالوحدانية، ونَعْتِ هذه العبادات بأنها سبب التخلّف والمشاكل التي يعانون منها.. وهذه الظاهرة الإلحادية هي في بلاد الغرب ـــــــ المتقدم تكنولوجياً ـــــــ أكثر منها في بلاد الشرق ـــــــ الذي يوصف بالتخلّف..
هذه الظاهرة لا مسوّغ لها، في نظرنا، بعد أن بلغ الإنسان ما بلغ من النضوج الفكري، الذي أهَّلَهُ لأن يؤمن بالله إيماناً عقلانياً، ناتجاً عن إدراك ما يحيط به من آيات تدلُّ على حقيقة وجود الخالق، والإقرار بقدسيته وعبادته..
على أنَّ هذه الظاهرة أيضاً، لا تعني أن قلوب أولئك الملحدين قد خلت من الإيمان الديني، بل هي تحويل لمظهر غريزة التديّن عن عبادة الله الخالق، إلى عبادة بعض «المخلوقين»، من خلال مغالطات فكرية، أو شعورية، لا تتوافق وحقيقة فطرتهم الإنسانية، التي فطَرَهم الله سبحانه وتعالى عليها، كما وأنها في الوقت نفسه تفسيرات خاطئة لمفاهيم عبادة الله الواحد الأحد.. ومن هنا فإن الإلحادَ أو الكفر بعد الإيمان قد يكون صعباً جداً على الإنسان، لأنه تحويلٌ له عن فطرته، ووقوفٌ بوجه مظاهر هذه الفطرة أن تظهر كما يجب.. ولذلك نجد أن مثل هذا التحويل غالباً ما يحتاج إلى جهدٍ كبير يبذلُهُ الإنسانُ، وهو يصارع فيه نفسَهُ صِراعاً مريراً، لأنَّ من أصعب الأمور التي يواجهها الإنسان في قرارة نفسه هو انصرافه عن تلك الفطرة، وعن خصائص ما طُبع عليه طبعاً.. ولمّا كان الأمر كذلك، فإننا نجد أن الملحدين عندما ينكشف لهم الحق الذي تاهوا عنه، ويشعرون بوجود الله في أعماقهم، ثم يدركونه بالعقل إدراكاً يقينياً = لأنَّ رجوعهم إلى حظيرة الإيمان لا يكون إلاَّ بهذا الإدراك وذاك الشعور = سرعان ما يملأُ الإيمانُ بالله قلوبَهم، فتنبعث مشاعر الطمأنينة في أعماقهم، ويحسُّون براحةٍ لم يعرفوها قبل ذلك، وبأنسٍ لم يألفوه يوم كانوا في الفراغ.. ذلك أن الكابوس الذي كان يؤرّقهم قد زال عن نفوسهم، والهاجس الذي كان يقلقهم قد اختفى من داخل كيانهم، فأحَسُّوا بالإلحاد قد ولّى عنهم، وهم لا يتمنون له رجعةً أبداً، وأيقنوا بأنَّ الذي كان قد حصلَ لهم، لم يكن ليحصل إلاَّ لأنهم كانوا يحملون أنفسهم على الاقتناع بسلوكٍ مخالفٍ لغريزة التدين، وهو الذي كان يقف حائلاً بينهم وبين اتباع مظاهر هذه الغريزة، أما بعد الاهتداء فغالباً ما يكون إيمان هؤلاء المهتدين إيماناً ثابتاً وراسخاً، لأنه ينبع من الإحساس الذي أدَّى إلى اليقين، والمعرفة الحقّة.. وما ذلك إلاَّ لأن عقلهم قد ارتبط بوجدانهم، فأدركوا وجودَ الله تعالى إدراكاً يقينياً، وشعروا بحقيقته شعوراً دقيقاً، والتقت فطرتهم بعقيدتهم، فانبعثت قوة الإيمان انبعاثاً جديداً يتجلّى فيه دفء الراحة النفسية التي يُحسُّ بها من يأوي إلى حَرَمِ الأمنِ وكنفِ الأمان...
تلك هي الغرائز الثلاث ومظاهرها، فبات علينا أن نفرِّق بين غريزة هي في صلب تكوين الإنسان، وبين ما تظهر عليه هذه الغريزة سواء كان على شكل تصرفٍ يصدر عن الإنسان، أو شعور ينبعث منه، لأنَّ لهذا التفريق أهميته إن من ناحية معرفة تكويننا، أو من ناحية معرفة السلوك الذي علينا أن نسلكه في حياتنا..
وكما ينطبق هذا التفريق على الغرائز ومظاهرها، فقد قلنا بأنه ينطبق أيضاً على الحاجات العضوية ومظاهرها.
ومن الأمثلة على مظاهر الحاجات العضوية إحساسنا بالجوع أو بالعطش عند حاجتنا إلى الطعام أو الشراب، أو شعورنا بالنعاس عند حاجتنا إلى النوم، أو بالتعب عندما نحتاج إلى الراحة وما إلى ذلك..
وفي حال البحث العميق عن غرائز الإنسان وحاجاته العضوية، نجد أن تلك الغرائز والحاجات تحتاج إلى الإشباع؛ بل إنَّ طاقة الإنسان الحيوية التي ينتج عنها السلوك لا يمكن أن تؤدِّي مهامَّها، ولا أن تقوم بالوظائف المعدَّة لها، إلاَّ من خلال ذلك الإشباع.. ولذا كان لزاماً أن نحتاج، في كل أمور حياتنا = ولا سيما تلك التي لها تأثير هام على سلوكنا = إلى نوع معينٍ من الإشباع، سواء كان إشباعاً غريزيّاً أم إشباعاً عضويّاً..
ومن الأمثلة على الإشباع الغريزي ما يظهر لدى الإنسان من ميل إلى الاقتناء أو الإثراء الذي يقوم في أساسه على حب التملك، أو ما ينزع إليه من حرص على الأنس أو الاجتماع الذي يدفعه إلى الزواج وتكوين العائلة، والعيش في بيئة معينة، أو ما يتوق إليه من رجاء لتحقيق الأمان الذاتي، والاستقرار النفساني. وهذان الأخيران = الأمان والاستقرار = هما بالذات ما يحثانه على التعلق بالعبادة، والتمسك بالقيم، وممارسة الشعائر الدينية، والتحلّي بالأخلاق الكريمة..
ومن الأمثلة على الإشباع العضوي الاكتفاء بتناول كمية معينة من الطعام أو الماء بعد جوع أو عطش أو الانقياد إلى النوم بعد نعاسٍ، أو الركون والاستكانة بعد نصبٍ..
ومما لا شك فيه بأن السعيَ الدائمَ لتحقيق الإشباع بنوعَيه (الغريزي والعضوي) وأَخْذَ الإنسان بكافة الوسائل والأسباب المؤدِّية له، إنما يؤلف السلوك الذي يسير عليه الإنسان بالقول أو بالفعل، أو ما يمكن أن يأتي به من تصرُّف، أو ما قد يَنتج عن تصرُّفه من أثر.. ومن هنا، كان هذا السلوك هو الذي يؤدِّي إلى تكوين الشخصية، أو يدلُّ على الشخصية.. ذلك أن لدى الإنسان الفكر، وهو ما يحتاج إلى الأعمال ومعنى الإعمال الإشباع.. ولديه الطاقة الحيوية وهي ما بمجموعه تحتاج إلى الإشباع أيضاً فإنْ تحقَّقَ الارتباطُ ما بين الفكر والطاقة الحيوية، وحصلَ التوافقُ ما بين السلوك والأفكار، تتكوَّنْ شخصيةُ الإنسان التي تتصف بالذاتية، أو الشخصية الخاصة به، والتي تنفرد عن غيرها من الشخصيات الأخرى.. أما إذا انعدم ذلك الارتباطُ، ولم يتحقَّق ذلك التوافُق، فإنه ينتج عن ذلك ميولٌ وأفكارٌ فحسب، إلَّا أن هذه الأفكار وتلك الميول، في حال عدم توافقها أو الارتباط فيما بينها، لا يمكن أن تؤدِّيَ إلى وجود سلوك مميّز عند الإنسان. وبانعدام مثل هذا السلوك، تنعدم معه الذاتية المستقلة، أو الشخصية المميّزة..
وقد يحصل أن تكون ميولُ الإنسان مخالفةً لأفكاره، فيأتي سلوكه = حتماً = مخالفاً لفكره، وعندئذٍ يبرز صاحب هذا السلوك ذا شخصية فوضوية. وهذه الشخصية التي توجد عند كثير من الأفراد، هي التي تجعلهم لا يُقيمون للقوانين والنُّظم، ولا للقيم والمُثل، أيَّ وزنٍ أو اعتبار، بل يسلكون طُرقاً ملتويةً غالباً ما تؤدِّي إلى الإضرار بهم وبغيرهم، وقد لا تسلم من أذاها، مصلحة الجماعة، بصورة عامَّة..
وليست الغاية من التوافُق ما بين الفكر والطَّاقة الحيويَّة = وبالتالي تكوين الشخصية المميّزة = إلاَّ تحقيق إنسانية الإنسان. فالإنسان وإن كان يتوق إلى إعمال فكرِه، وإلى بذل أقصى جهوده لإخراج تلك الأفكار إلى حيّز الوجود، وجعلها واقعاً محسوساً، أو إن ظلَّ على تمسّكه ببعض القيم التي آمن بها، ولم ينزع من نفسه بعض المثل التي اعتنقها، إنه وإن كان كذلك أي هذا الإنسان العقلاني، الذي يتطلع دائماً نحو الأحسن والأكمل، فإنه في الوقت نفسه يحب أن يعيش مشاعرَهُ وأحاسيسَهُ، بحيث لا يكبت عواطفَه، ولا يُهمل انفعالاته، خاصةً وأن الإنسان يتأثر كثيراً بما قد يتراءى له من تصورات، وبما تقع عليه حواسه من الأشياء، أو بما قد يتفاعل في داخله من الكوامن الدفينة، فيشدّه هذا التأثر إلى الانطلاق من كبته، وإلى معايشة أحداث الواقع بما يتوافق مع مشاعر النفس وأحاسيسها.. وهذه المعايشة هي من واقع حياته، وليست غيباً فيه، لأنَّهُ في الحقيقة عبارة عن جوهر من روح ونفس، كما أنه كتلة من لحم ودم.. أي أنه لا يمكن أن تستويَ حياتُهُ صحيحه بتغليب بعض عناصر تكوينه على العناصر الأخرى، بل يجب أن يتوفر بينها جميعاً التوافق والانسجام حتى تتحقق له إنسانيته؛ ومن هنا كانت أهمية العواطف، أو ما ينبعث عن نفس الإنسان من مشاعر على أن يعرف كيف يكبح جماح تلك العواطف إنْ وَجَدَ أنها ستطغى عليه، وكيف يسيّر مشاعره في الوجهة السليمة إن رأى أنها ستخدعه، وذلك بِنَهْي نفسه عن الهوى والزلل، وقيادتها على طريق الخير والحق، وتجنيبها الزيف والباطل، فإنه بهذا، وبما يكون لديه من وعي، وقدرة في الحكم على الأشياء، يستطيع أن يكون الإنسان الذي يسعى نحو التكامل في إنسانيته..
إذن فلا يجوز للإنسان أن يتنكّر لذاته، ولا أن يعمل على تعذيب نفسه، بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى هذا التعذيب أو ذاك التنكّر، إلاَّ فإنه يعطّل أجزاء هامة من كيانه، وهذا ليس من إنسانية الإنسان في شيء، ولا هو مطلوبٌ منه في وجوده، فكان حريّاً به أن يبحث دائماً عن المعاني والمفاهيم والأشياء التي تنبعث أو تتوافق مع الحقيقة الصادقة، والتي من شأنها أن تُغنيَ ذاته، وتنمّي عَلاقاتِهِ، وتؤمِّنَ له العقلية السليمة، والسلوك الصحيح..
ولقد عالج الإسلام هذه القضية في حياة الإنسان معالجةً دقيقة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى، عندما أرادَ هذا الدين القويم لعباده، إنما أراده دين الفطرة عن حقٍّ، إذ هو يتناولُ تربيةَ الإنسان على أساس هذه الفطرة، فيعمل على تنظيم غرائزه وحاجاته العضوية بما يكفل صقلها وتهذيبها، ويرشده إلى الإمكانيات التي يُشْبِعُ بها هذه الغرائز والحاجات العضوية إشباعاً وافياً وطبيعياً.. وهذا من أجل أن ينمّيَ لديه المفاهيمَ، والقيمَ والمشاعرَ الصادقة عن الألوهية والكون والحياة..
ومن خلال هذه المعالجة نجد أن الإسلام لا يفاضل بين الغرائز أو يميّز غريزةً عن أخرى، ولا يقبل بأن يطغى مظهرُ غريزة على مظهر غريزة غيرها، وهو كذلك لا يكبت مظهر غريزة كبتاً شديداً، ولا يُطلقُ مظهر غريزة إطلاقاً قوياً؛ أي أنه لا يريد للإنسان القهرَ والعذاب، كما لا يُريدُ له العِوَجَ والانحراف، وكلَّ ما من شأنِهِ إفسادُهُ بالمبالغة فيه زيادةً أو نقصاناً، بل يُريدهُ إنساناً مستقيماً، واعياً، معتدلاً، متفاعلاً مع المبدأ، والمنهج اللذين يشدانه نحو التكامل الإنساني.
على أن كثيرين من الناس، ولأنهم لم يدركوا هذه المفاهيم الصحيحة، نراهم يتجاوزون حدود فطرتهم بما يعمدون إليه من كبتٍ أو ما ينجرون وراءه من انحراف، أو بما يعمدون إليه من إطلاق مظاهر غرائزهم، وتكون النتيجةُ تعطيلَ عمل هذه الغرائز الطبيعي، وسيرَهُمْ في الحياة سيراً مضطرباً، وهذا هو بعض أوجه التباعد عن الدين الإسلامي الذي لا ينفك يخاطبُ الفطرة في الإنسان، وهي التي قال الله سبحانه ـــــــ عنها في محكم كتابه العزيز: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30].
الله أكبر، الله أكبر! ما أروع هذا الدين القيّم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!.. وما أعظم فطرة الله التي فطر الإنسان عليها حين خلقه، فسوّاه، فعدله، في أي صورةٍ ما شاءَ ركّبه، ثم قدَّر في فطرته الغرائز الثلاث:
ـــــــ غريزة حب البقاء ليتعامل بها مع نفسه، ولولاها لما كان للإنسان أن يقوى على الاستمرار طيلة سنيّ عمره، فعزّز فيه حب البقاء كي يحتمل ويصبر على البلاء، ويتلافى سرعة الفناء..
ـــــــ وغريزة النوع ليتعامل بها مع الآخرين من بني جنسه، ولولاها لما كانت له تلك المشاعر النبيلة، ولا تلك الدوافع الشريفة للحفاظ على الوجود الإنساني وتكاثره، وترقّيه في مسار الحياة..
ـــــــ وغريزة التدين التي تتجاوب مع الدين القويم دون سواه ليتعامل بها مع خالقه، وخالق الكون والحياة، ومنزّل أعظم نظام سماوي على الأرض، ولولاها لما كانت لحياته من قيمة أو معنى، ولا لوجوده من فلسفة أو مغزَى..
أوليس في ذلك كله آيات بيّنات لقوم يتفكرون؟ بلى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لأنهم لا يعرفون كيف يربطون بين فطرتهم البشرية الطبيعية، وبين عقيدتهم الإيمانية الفضلى، وكلتاهما من صنع الله عز وجلَّ، وكلتاهما تتوافقان مع قوانين الوجود، في الوقت نفسه الذي تتناسق كل واحدة منهما مع الأخرى في الطبيعة والاتجاه.
من هنا فإنَّ الإنسان عندما يسير وفق فطرته التي فطره الله تعالى عليها، يبقى مطمئن القلب، متفتِّح العقل، صافيَ النفس.. وهذا لا يخدُم فيه الفكر وحسب، بل ويفجّر لديه الطاقة الحيوية أيضاً. فبات من الضروري، ومن أهم ما على الإنسان أن يعيه ويعمل لأجله، إيجاد التوافق اللازم بين فطرته ودينه، وهو التوافق الذي يجعله يؤمن بالله تعالى إيماناً صادقاً مخلصاً، فيستمدّ منه قوةً فاعلة تنبعث عن اعتقاد جازم بأن مصدر هذه القوة، وكل قوة، هو الله تعالى، وأنه = هو سبحانه = الذي يمدُّه بأسباب قواه، وبهذا الإيمان يمكنه أن يرى حقيقة العلاقة التي يجب أن يقيمها مع خالقه، أي العلاقة الصادقة ما بين العبد وربّه، وهي العلاقة عينها التي يقدّس من خلالها هذا الربَّ العظيم، كي يمكنه أن يحقق بعد ذلك إنسانيته على أكمل الوجوه.. على أنَّ هذا الإنسان، الذي عرف حقيقة وجوده، وأقام ذلك النظام التوافقي ما بين فطرته وتقديسه لربه، يبقى وحده الذي اهتدى إلى جادة الصواب، وبذلك فهو يختلف حتماً عن أيِّ إنسان آخر، تفرقت به سبل المعرفة فتشتّت فكره، وجنحت طاقته الحيوية إلى مشاعر متناقضة وميول زائفة، حتى بَعُدَ به الطريقُ عن الهداية والاستقامة، وضلَّ في متاهات العقيدة ضلالاً بعيداً، فسيطر عليه ذلك الضعف الذي يقود، في مثل هذه الحالة، إلى الاعوجاج الفكري والإرهاق النفسي، وطغى عليه ذلك الشعور بالنقص الذي يدفعه للبحث عن ملاذ أو ملجأ يتوهم فيه حمايته وأمانه، في حين أنَّ هذا الملاذ الذي أوى إليه ليس = بالحقيقة = سوى سراب خادع كل ما يمكن أن يقدمه له هو أن يدفعه إلى تصوراتٍ مغلوطةٍ عن حقيقة خالقه، وغالباً ما تؤدي به إلى إنكار هذا الخالق، فيندفع في طريق الشرك أو الإلحاد، مخلوقاً ضالاًّ ضائعاً تتقاذفُهُ هواجسُ نفسهِ الأمارةِ بالسوء، ووساوسُ شياطينِ الإنس الذين يُغلِّفون اللغْطَ، وينمّقون الكلام، ويعيشون في ظل التزيين، والتهويم ولَقْلَقَةِ اللسان، وهذا ما يشدُّهُ إلى نوازع الشرّ، ويمُلي عليه مشاعِرَ التجديف، فيظهر كصاحب سلوك منحرف، غير متوافق مع فطرتِهِ، وغير قادر ـــــــ إطلاقاً ـــــــ على تحقيق إنسانيته.. ومن هنا فإنَّ كثيرين ممَّن لديهم تلك التصورات المغلوطة عن خالقهم، وعدم المعرفة الحقيقية لخَلْقهم، هؤلاء ينقادون بفعل تلك التصورات إلى أن يتعاملوا مع خالقهم بغريزة النوع على حساب غريزة التديّن، وهذا ما يخالف فطرةَ الله ـــــــ تعالى ـــــــ التي فطرهم عليها، بل ويكون = بالتأكيد = افتراءً على الله سبحانه وتجنّياً.
ومن الذين خالفوا الفطرة، وافتروا على الله أولئك الذين اعتنقوا، ما يسمى عندهم، بمذهب الحب الإلهي، أو مذهب العشق الإلهي.
العشق الإلهي
بعد أن تعرفنا على بعض ما في تكوين الإنسان، وعلى فطرته الحقيقية التي فطرَهُ الله تعالى عليها، نجد أنَّ من الحري بالإنسان، أن يُحبَّ على أساس هذه المعرفة، خالقَه، وكافلَه والمنعم عليه.. وهو قد أحبَّه بلا ريب منذ القدم، وعرف كيف يحب هذا الربَّ الذي خلقَهُ من كل قلبه، لأنَّه أدرك بثاقب بصيرته أن القلب الذي يُحبّ، هو القلب الممتلىء عادةً إيماناً صادقاً بقدسية الخالق، والذي يمارس صاحبُهُ عبوديّةً حقةً لربّه، ومالك ناصيته ونواصي العالمين جميعاً..
وعلى خلاف ذلك، فإنَّ من الحقائق التي لا تقبل الجدل، أنَّ الإنسان كلما أفرغ قلبه من مشاعر الحب أو المحبة، كلما كان مجافياً لإيمانه، ومتنكّراً لإنسانيته، لأن من أولى المقومات التي يرتكز عليها الإيمان الديني الشعور الصافي بحبّ الله سبحانه وخلائقه.. أما إذا استأصل إنسانٌ ما تلك المشاعر القدسية من قلبه، فإنه يكون قد عمل على تدمير أرقى ما في نفسه، والقضاء على أسمى ما في وجوده، بل وينأى عن صدق انتسابه إلى بني جنسه..
إذن فمن خلائق الإنسان أن يُحبَّ، ومن مقومات هذا الحب وشرائطه، أن يأتي واعياً، صادقاً هادفاً، لا أن يكون حباً يطغى عليه الجموح والشطط، أو يقوده الشذوذ والزلل، حتى يخرج بذلك عن حقيقته، ولا يعود حباً في شيء، وإنما تهوّراً في المشاعر ضارّاً، ولجاجاً في الانفعال هدّاماً. ومثل هذه المشاعر التي يتوهمها أصحابها حباً أو محبةً = مع ذلك الانحراف والجنوح عن خطها السليم = والتي تظهر بانفعال شديد، فإنها لا تمتُّ إلى المشاعر الصادقة بأية صلة وحسب، بل إنَّ الحبَّ القلبي الصادق نفسه يمقتها، والمحبة الصحيحة نفسها ترذلها.. وهذا الانفعال في المشاعر، سواء تعلق بالحب أو بغيره، يؤدي حتماً إلى مقت الناس لصاحبه، وقد يدفع الكثيرين لقطع علاقاتهم به، لأنه يصبح في نظرهم مهووساً، تقوده الرعونة، ويشدُّه الطيش..
وحتى إن المبالغة في المحبة أو في الحب غالباً ما تؤدي إلى الإضرار بأولئك الذين نحب. ولعلَّ من أبسط مظاهر هذه المبالغة ما نلمسه في إغراق بعض الوالدين أطفالهم بشدة العاطفة التي تحرمهم التربية الصحيحة الرشيدة وتؤدي في النهاية إلى إفسادهم.. ومنها أيضاً ما نصادفه عند البعض في استسلامه لرغبات من أحبَّ إلى درجة قد تجعل المحبوبَ يستشعر الضعف في ذلك المحبّ؛ وقد يملُّ المحبوبُ هذا الضعف، بعد أن يمجَّ أسلوبَهُ، حتى يفقد الثقةَ التي نشأت في الأصل عن علاقة الحب.. هذا ومن البراهين الأكثر دلالة على ذلك: الإفراط في الشهوات التي تنشأ عن الحب.. كمثل الإفراط في تناول الطعام والشراب الناتج عن ولع صاحبه أو حبه للأكل والشرب، والذي قد يبتليَهُ بأمراض كثيرة، أو تلك الشهوة الجامحة، التي نجدها عند كثيرين، للوصول إلى السلطة، أو لاكتناز الأموال أو جمع الثروات، أو غير ذلك من الشهوات التي لا تقف عند حدٍّ معقول فتقذف بمن استسلم لها في المهالك..
هذا في واقع الإنسان، وفي علاقاته مع أبناء المجتمع الذي يعيش فيه..
أما في علاقة الإنسان بربه، وفي حبه له، فالأمر يجب أن يختلف تماماً، لأنَّهُ الربُ الكبيرُ القديرُ، الودودُ الغفورُ، مصدرُ الرحمةِ والمحبة، الخالق المتعالي الذي يُحبُّ المتّقين، ويحبُ المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين، ويحب التوّابين، ويحب المطهرين، ويحبُ المقسطين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً واحداً كأنهم البنيان المرصوص، وغيرهم ممَّن عيّنهم القرآن الكريم، وعلى الأسس التي حدَّدها في حبّ الله تعالى لهم جميعاً..
إذن فهذا هو الخالق العظيم، ربُّنا، ومالكنا، وربُ الإنس والجن والملائكة أجمعين، وربُ الروح، والكون بكل ما فيه من عوالم.. هذا الربُ، الإلهُ، كيف يجب أن نحبه، وما هي حقيقة الحب التي يجب أن تربطنا به، ودائماً من غير أن ننسى في حبّنا له أننا مجردُ عبادٍ له مستضعفين، وقد خلقنا ولا حولَ لنا ولا طاقة إلاَّ بما يقدّر ويشاء؟
هذا ما يُجيبُ عنه الإسلام كدينٍ، وكنظامٍ للحياة، من حيث يشكل الإطار الصحيح لمن أرادَ أن يتكامل في إيمانه الديني، ونزعته الإنسانية.. ذلك لأن الإيمان بالله = كرب وكإله = في الإسلام هو قاعدة كل شيء: قاعدة التصوّر، وقاعدة المنهج، وقاعدة الخلق، وقاعدة العبادة.. وهذا الإيمان بالله = الذي يقوم على إفراده بالربوبية والألوهية = يقتضي من المخلوقين له الإقرارَ بقدرته وعظمته وسلطانه وسيادته على الكون والحياة والإنسان، ومن ثَمَّ الاعتراف بعبوديتهم له وحده، وبالتالي خضوعهم لمشيئته في كل حركةٍ من حركاتهم، وفي كل أمر من أمور حياتهم.. ومن يملأُ مثلُ هذا الإيمان بالله تعالى قلبه، يكون له ملء حرية الاختيار إزاء كل شيء، ما عدا أوامر الله ونواهيه = لأنَّ هذه لا شأن له فيها كإنسان وكعبد = أما فيما عداها فهو حرٌّ طليق من كل قيد، لا يحدُّ اختياره شيء، ولا يحول دون تطلعاته حائل.. ولو تفكَّر الإنسان قليلاً، لأدرك أنَّ اختيارَهُ أو تطلعه لا يمكن أن يكون إلاَّ في سبيل مرضاة الله عزَّ وجلَّ ـــــــ لأنه مبنيٌّ على الإيمان الحق.. ولذلك فإنه يكون دائماً عزيزاً أمام غيره، أياً كان هذا الغير، لأنَّ عزَّته مستمدة من الإيمان بالله صاحب العزة.
وهذا الإيمان بالله أيضاً هو الذي يُشبع فِطرةَ الإنسان وتَوْقَهُ إلى معرفة حقيقة وجود الله، التي لا، ولن تحيط بها حواسُّه، لقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، ولكن تدلُّ عليها آياتُهُ المبثوثة في كل وجود، والتي يهتدي إليها الإنسان من خلال الفطرة الأصيلة فيه..
فإذا لم يكن لدى الإنسان هذا التوجُّهُ الفطريُ نحو حقيقة وجود الله، وقدسيته، وجلاله، وعظمته، فإما أن يستسلم لواقع وجوده بطريقة سطحية لا تعبير فيها عن وجوده الإنساني، وإما أن يشتطَّ به الفكرُ، وينقاد وراء المتاهات والخرافات التي، يتراءى له، أنها تُشبع معرفتَهُ، فيقع في الانحراف، ويسلك مسلك الضالّين، مما ينتج عنه إصابته، بل وإصابة الكيان الإنساني برمته، بالاهتزاز والاضطراب.. من أجل ذلك لا يمكن للإنسان المؤمن أن يُحبَّ الله ـــــــ عزَّ وجلَّ ـــــــ إلاَّ بالفطرة وبالقلب الواعي، والعقل النيّر. وطبعاً ضمن الحدودِ التي رسَمها الله تعالى له، والتي حملها الأنبياء والمرسلون ودلُّوا الناس عليها، وهي الحدود التي تجعل هذا الحبَّ لا يتعدّى حبَّ العبد لربه.. أي الحبُّ الذي له أصولُهُ الثابتة، التي تمنع على العبد أن يشتطَّ بعواطفه وتخيلاته حتى يتوهم أن حبَّهَ لربه هو حبٌّ له مفهوم خاص لا يعرفه غيرُهُ، وبعيدٌ عن مفاهيم الناسِ جميعاً، كما تُحظّر عليه أن يتصوَّرَ هذا الحب وكأنه نوعٌ فريدٌ من المشاعر لم يتذوق حلاوتَها أحَدٌ من البشر غيرُهُ، لأنه فوق سِنخ البشر!..
وهل الحبُّ الذي طالعتنا به كتب التصوّف، عند أصحاب مذهب العشق الإلهي، إلاَّ من هذا القبيل، أي حبّاً كان له مفهومُهُ الخاص عندهم، وشعوراً فريداً، اعتبروا أنهم اختُصُّوا به دون غيرهم؟!..
ولِمَ ذلك؟
لأن أصحاب ذلك المذهب، وبما أوجدوا من تحديداتٍ، وتعاريفَ، وترانيمَ وحركاتٍ، وسكناتٍ = كانت كلها مصطنعة في الغالب = جعلوا الحب الإلهي ذا خصائص تتفق وأهواءهم، فتعاملوا مع الله، بذلك الحب على كيفهم، وبالطريقة التي تحلو لهم!.. بل ولم يراعوا في الحب الإلهي، وبتلك الطريقة من التعامل قواعدَ الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها، ولم يأبهوا لسرِّ القدسية، وجلال العظمة الإلهية، ظناً منهم، أنهم وحدَهم أحباءُ الله، وأنَّ الله سبحانه ـــــــ هو الحبيبُ لهم من غير سائر البشر!..
هذا بالإضافة إلى ما توهموا بأنَّ الله تعالى أودعَ في قلوبهم هم أسرارَ العشق ومكنوناته، فلم ينعم به أحَدٌ غيرهم لا من الأنبياء والرسل، ولا من الأولياء والصالحين، ولا من الناس أجمعين..
فهل هذا معقول؟
وهل يستقيم مثل هذا الاعتقاد مع غاية خلق الإنسان، ورحمة الله بخلائقه جمعاء؟
طبعاً لا، لأن الله سبحانه وتعالى هو الحكيم، الخبير، العليم، العادل.. وحاشى لله تعالى أن يخرق قواعد عدله، وأن يميز بين عباده، إلاَّ بما اختار من ثُلة صالحةٍ لحمل رسالاته إلى هؤلاء العباد رأفةً بهم ورحمة؛ فكل من اهتدى وآمن بالله، وجَبَ عليه حبُّ الله، ولذا كان المؤمنون جميعاً أحبّاء لله تعالى؛ فإن حصرنا هذا الحبَّ بطائفة معينة دون غيرها، فكأنما اعتبرنا أنَّ هذه الطائفة هي المؤمنة، ومَن سواها ليس من المؤمنين، وهنذا ما يجعل سائر المسلمين، إن لم يكونوا على التصوف، من غير المؤمنين.. فهل نجد شيئاً من ذلك في كتاب الله، أو في سنة رسوله؟
إن الحب الإلهي، كما اعتقده الصوفية، لا يعدو كونه وجهاً من الوجوه المغلوطة عن حقيقة حب الله، لأنه خرج عن مفهوم التقديس، والخشوع، والذلّ للإله الواحد الأحد، وهذا ما قادَ أصحابه إلى الزلل والخطأ، وإلى مخالفة أوامر الله ونواهيه، وبالتالي الابتعاد كليةً عن العقيدة الإسلامية. ذلك لأن وقوف مخلوق ندًّا لندٍّ مع الخالق، واتخاذه محبوباً وعشيقاً له، على الأسس نفسها التي يحب ويعشق بها مخلوقاً مثله، إنما هو خلع لطاعة الله، ومخالفة للعقيدة، وخروج على أبسط قواعد المحبة الربانية الصادقة، التي هدانا إليها القرآن الكريم، من خلال تلك الدعوة التي جاءت فيه تقريراً حاسماً لحقيقة الإيمان ـــــــ ولذا كان التركيز في هذا البحث على الإيمان، كما يرى القارىء الكريم ـــــــ وعبر ذلك النداء الأزلي الصارخ للرسول الكريم كي يذيع في الناس جميعاً: أنَّ من أحبَّ الله تعالى وجَبَ عليه اتباع رسوله، وبذلك يُحببْهُ الله ويغفرْ له ذنوبَهُ، وذلك تصديقاً وإقراراً لقوله تعالى: {قُلْ (يا محمد للناس) إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].. أي أحبّوا أيها الناس، ربَّكم الله باعتناق دينه الحق من خلال الإيمان بنبوّة محمد (ص) واتّباعه في حَمْلِهِ للإسلام وإبلاغِهِ، وهذا لا يجعلكم مسلمين وحسب، بل وهو الذي يُحببكُمُ اللَّه تعالى به، ويغفر لكم ذنوبكم.. ولم يكن في هذه الدعوة، وفي هذا النداء، أيُّ أساس لحبٍّ بين عاشق ومعشوق، كما في دنيا الأرض، وفي تمرّغهما بوحل عشق الجسد وترابه..
نعم هذا هو قوام حب المؤمنين لله تعالى، وحبّ الله لهم، وهذا الحب لا يكون دعوةً باللسان، ولا اعترافاً بالجنان وحسب، بل يجب أن يصاحبهما اتّباعٌ لرسول الله (ص) في أمره ونهيه، وفي تصرفه ومسلكه، والسير على هداه وسنّته، لتحقيق منهجِهِ في الحياة.. وإنَّ حباً كهذا لا يمكن أن يكون بكلمات تُقال، ولا بمشاعر تجيش، بل بمعرفة الله تعالى، وبمعرفة رسوله الكريم، معرفةً تترجمُها طاعةٌ لله ورسولِهِ، وعملٌ بمنهج الله الذي أودعَهُ قرآنَهُ، وقلبَ نَبِيِّهِ، فأدّاه هذا النبيُّ خيرَ أداء، وتركه وديعةً للمسلمين كي يؤدوه مثلَهُ إلى أبد الآبدين..
وفي تفسير الآية الكريمة ـــــــ المذكورة ـــــــ يقول ابن كثيّر: «هذه الآية الكريمةُ حاكمةٌ على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة الإسلامية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتّبع الشرعَ الإلهي، والمنهج المحمدي المتمثل في جميع أقوال النبي محمد (ص) وأفعاله».. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله (ص) أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رِدُّ» أي ارتدادٌ عن الدين، ومروقٌ منه وكفر..
وإذا كنا سنبيّن ـــــــ إن شاءَ الله ـــــــ كيف كان منهج الرسول العظيم (ص) في حبه لله، وفي عباداته، ومجمل أمور حياته، فإنَّنا نتساءل الآن عن معنى الحب لغةً واصطلاحاً، وهل هو العشق أم أنه غيره، حتى يمكن أن نميّز هذه المفاهيم العامة عن «الحب الإلهي» الذي هو من دعوى الصوفية..
فالحب، وبالمفهوم المتعارف عليه لدى الناس، هو ذلك الشعور الإنساني الشريف، العاطفي، الذي يعبّر عما في النفس، ويكون نابعاً من القلب.. ولذا يقال: أحبَّ فلانٌ فلاناً أي جعل قلبه معرّضاً لحبه. ومن الحب تأتي المحبة وهي تكون على وجوهٍ كثيرة أخصُّها ثلاثة:
ـــــــ محبة الرجل للمرأة أو محبة المرأة للرجل، وهذه المحبة لا تحتاج إلى دليل، ولا إلى تفصيل، لأنها في صميم حياة الإنسان وواقع وجوده.
ـــــــ محبة النفع كمحبة شيء ينتفع به ومنه، ودليلُها في قوله تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13].
ـــــــ محبة للفضل كمحبة أهل العلم بعضهم بعضاً لأجل العلم، وهذه أيضاً يعرفها ذوو العِلم والضالعون في شؤونه.. ولكنَّ المحبة الخالصة التي تأتي في طليعة كل محبة، إنما هي محبة الله تعالى لعبده، وهي تكون بإحسانه له ورَحمته به، وقد كتبها ـــــــ جلَّ وعلا ـــــــ لعبده على نفسه، لطفاً منه وكَرَماً.. أما محبة العبد لربه فهي الرجاء والتمنّي، والخشوع والطاعة، من أجل نَيْلِ رضاه، وشُكرِهِ على هذا الرضى..
وليس في الحبّ والمحبة، بالمعاني التي وردت، ما ينمُّ عن العشق أبداً، لا بل هما غيرُ العشق تماماً؛ ولذا يقال في المعنى: عشق به، أي لصق به ولازمه فلا يفارقه.. وفي لغة المشاعر: العشق هو الإفراط في الحب أو عجب المحب بالمحبوب.. ولكنَّ هذا الإفراط يلازمه الحرمان من الحبيب فيتصف عشقه بالحب العذري = وكثيرون في أدب الشرق والغرب الذين عرفوا بهذا الحب الذي وصل بهم أحياناً إلى درجة الجنون أو الهلاك كما يُحكى في رواياتهم = .. أو قد يكون الإفراط في الحب ـــــــ أو العشق ـــــــ استجابة لرغبة أو شهوة جسدية، أو مادية، وفي هذه يصبح بمثابة هاجسٍ مَرَضِيٍ وسواسِيّ يغزو النفس عن طريق تسليط الفكر على استحسان بعض صورٍ من الواقع المحسوس، أو تصورٍ لبعض التخيّلات الناجمة عن الرغبة والشهوة..
وفي التفريق ما بين الحب والعشق، ولما سئل أحمد بن يحيى عنهما، وأيهما أحمد؟ أجاب: «الحب.. لأن العشق فيه إفراطٌ، وسمّي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدة الغرام كما تذبل العَشَقَةُ إذا قطعت = والعَشَقةُ كما قال الزجاج: شجرة تخضرُّ، ثم تدقُّ، ثم تذبُلُ = وقال: إن اشتقاق العاشق منه»..
إذن هنالك فارقٌ كبير بين الحب والعشق: ففي حين أن الحب هو شعور من المشاعر الإنسانية السامية، أو إحساس من الأحاسيس النبيلة التي تظهر عند الإنسان بصور شتى، مثل حب المرء لزوجه، وولده، وأهله.. ومثل محبة جميع الناس عند من امتلأت قلوبهم بالمحبة الحقة.. أو مثل حب الخير، والحق والمثل العليا إلخ.. نعم في حين نجد أن هذا هو الحب نجد بالمقابل أنَّ العشق هو تلك الرغبة المشبوبة، أو الإحساس الجيّاش الذي يظهر بإفراطٍ وجنوحٍ عند الإنسان حتى يجعله منجذباً كليّاً إلى من يعشقه.. ومن هنا قال بعض العلماء: إنما ينجم العشق عن مظهر غريزة النوع، ولذلك سمّوه «الجذب الطبيعي» أو المحرك لجميع الموجودات لأنَّ في كل واحد منها عشقاً لكماله، كعشق الأجسام الكيماوية لبعضها البعض، أو كعشق الحيوان لنوعه أو لغذائه، أو كعشق الشبان للحسناوات، وغيره..
أما الصوفية، وبخلاف مفاهيم العشق هذه، فقد قالوا بأن المحبة الخالصة لله هي نفسها العشق الإلهي. ووصفوا حالة العاشق ومرتبته بقولهم: «إن الجوهر الإلهي في الإنسان، إذا صفا من كَدَرَة المادة اشتاق إلى شبهه، ورأى بعين عقله الخير الأول المحض فأسرع إليه؛ وحينئذٍ يفيض إليه نورُ ذلك الخير فيتّحدُ به، ويشعر بلذة لا تُشبهها لذة.. وهذه المرتبة هي أعلى مراتب الوصول، ولا تقبل الزيادة أو النقصان. فيها ينكر العارف معروفه، والعاشق معشوقه، فلا يبقى هنالك عارف ولا معروف، ولا عاشق ولا معشوق، بل عشق واحد مطلق، هو الذات الحق الذي لا يدخل تحت اسم ولا رسم، ولا نعت، ولا وصف».
هذه هي خلاصة فكرة العشق الإلهي، كما قال بها بعض المتصوفين. وهي، كما تبدو لنا، ذلك الخليط من الأفكار، والمشاعر؛ وذلك المزيج من التصورات والانفعالات، التي جاءتهم عن تصوّرٍ خاطىءٍ لحقيقة الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ في ماهيته، وقدرته، وعظمته، وجبروته، وقدسيته، حتى لَيَظُنَّ المتصوفُ العاشقُ بأنه يلتصق بالذات الحق، بل ويحلُّ فيها، أو يتّحد بها، حتى يصبح وإياها ذاتاً واحدة، غير قابلة للاختراق أو الانفصال!!..
ومثل هذا الاعتقاد الواهم، لا يخرج من مألوف الواقع والحقيقة فقط، ولا يجافي الفكر الإنساني والطبيعة الإنسانية وحسب بل يخالف صلب العقيدة التي تقوم في الأصل على التوحيد وألوهية الإلهِ من ناحية، وعلى عبودية العبد من حيث كونه مخلوقاً من الله وعبداً لهذا الخالق من ناحية ثانية..
فالله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ وكما قال عن نفسه في محكم كتابه العزيز: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 ـــــــ 5] وهو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليٌ من الذل وعلينا أن نكبّره تكبيراً لأنه خالق السماوات والأرض، ورب الكون والحياة والوجود والإنسان، وكلَّ ما كوَّن، بقدرته يقول للشيء: كن.. فيكون. لا إلهَ إلاَّ هو سبحانه، تفرّد بالوحدة، والعزة، والعظمة، والسلطان، والسيادة، والقدرة، والمشيئة، وما إلى ذلك مما يدلُّ على ألوهية الله سبحانه وتعالى..
فهل يجوز = بعدُ = لمخلوق أن ينسى حقيقة هذه الألوهية، وأن يخرج عن العقيدة، الأزلية، الثابتة، فيقول أو يدّعي، أو يشعر، بأنه يمكنه أن يصل إلى مرتبة الاتحاد بالله = الذي يجهل كنهه وذاته = حتى يصبح والذات الحق ذاتاً واحدة؟!..
وإنَّا على يقين بأنَّ من يُداخِلُ فكرَه مثلُ هذا الاعتقاد، إنما يخرج عن العقيدة الإسلامية، بعد أن يكون قد أنكرَ حقيقة صفات الله، فيكون من الجاهلين.. وهذا ولا ريبَ، نوع من الشطط والزلل، إن لم يكن نوعاً من الهرطقة والدجل، الذي يُفترض أن يخجل منه صاحبُهُ، لا أن يفاخِرَ به، كما يفعل الصوفية! بل إنَّ الاعتقادَ به جهالة بحقيقة صفات الله تعالى وهو نوعٌ من التضليل يُصيبُ الذين عبث الشيطان بعقولهم، وتلاعب بمشاعرهم، حتى أوقعهم في الضلال، فكانت النتيجة أن أوقعوا غيرهم ـــــــ ممن ساروا على دربهم ـــــــ في هذا الضلال، ورموهم بما لشيطانهم من أحابيل وأضاليل..
وهل أدلُّ على هذا الضلال والتضليل من الادّعاء عِشقاً بالله ـــــــ عزَّ وجلَّ ـــــــ ثم تلفيق المراتب، وابتداع الأقاويل، واصطناع الحركات من أجل فتنة نفوسهم، ونفوس غيرهم من خلق الله، بعدما انخدعوا بأنهم من المقربين، بينما اتخذوا في الحقيقة دينهم لغواً ولعباً ولهواً، وغرَّتهم الأماني، وغرَّهم بالله الغرور، فتاهوا عن القصد، وخسروا خسراناً مبيناً.
هذا فعلاً ما كان عليه بعض الصوفية الذين اعتنقوا مذهبَ العشق الإلهي.. وللتدليل على ذلك، تعالَ معي أيها القارئ، واستمع إلى بعض ما قيل عنهم، بمناسبة موسم الحج، حيث يكون الناسُ في حشر يشبه حشر يوم القيامة، يخرجون بأثواب تشبه الأكفان ويتدافعون كالفراش المبثوث، منيبين لله، حاجّين إلى بيته، تائبين، راغبين ملبين، نعم هذا ما يجب أن يكون عليه الحجيج لا يُلفتهم إلى الدنيا شيءٌ، ولا إلى مَنْ فيها أمرٌ، لأنَّ التوجُّهَ يكون إلى الله وحَدَه، حتى يستحق الحاجّ الأجرَ والثوابَ؛ ولكنَّ أبا حازم الصوفي، وفي ذلك الموسم المبارك، أبى إلاَّ أن يلتفت إلى فاتنة حاسرةٍ عن وجهها، كما جاءت الرواية عنه في كشكول البهائي التي تقول: «خرج أبو حازم الصوفي في بعض أيام المواقف، وإذا بامرأة جميلة حاسرة عن وجهها قد فتنتِ الناس بحسنها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام، وقد شغلت الناس عن مناسكهم، فاتّقي الله واستتري؛ فقالت: يا أبا حازم، إنني من اللاّئي قال فيهن الشاعر:
أماطَتْ كِساءَ الحجّ عَنْ حُرِّ وجهها وأرخَتْ على الْمَتْنَينِ بُرْداً مُهَلْهَلاَ
من الــــلاّءِ لــم يَحْجُبْنَ يَبغِينَ حِسْبَـــةً ولــــكن لِيَقتُلْـــــنَ الــــبـــريءَ المـــُغَفَّـــلاَ
قال أبو حازم: تعالوا ندعُ لله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها بالنار. فجعل يدعو وأصحابه يؤمّنون (أي يقولون آمين). فبلغ ذلك الشَعبيَّ فقال: ما أرقَّكم يا أهل الحجاز. أما لو كان من أهل العراق لقال: اغرُبي، لعنة الله عليك».. فربما يكون أبو حازم الشيخ الأرم لما رأى تلك الحسناء، قد تحركت مشاعِرُ العشق الإلهي عنده، فترك الحجَّ وراح يدعو للمرأة كي لا تُعذَّب في النار.. فتأمل!
ولنعد إلى عقيدة الصوفية في الحب الإلهي.. ولنا أن نتساءل: هل يجوز لمخلوق بشري أن يجعلَ الله تعالى عشيقَهُ بحيث يصبح صنواً له؟. قد يكون في هذا الاعتقاد وهمٌ أو سيطرة من الشعور الخيالي، ولكن ماذا لو لم يكن هنالك شيء من ذلك، بل وعيٌ كاملٌ لدى المخلوق البشري، وقناعةٌ تامة بما اعتقد؟! حتى يستوي في نظر الصوفي العاشق كلُّ شيء، فلا يعود يفرق بين خالقٍ ومخلوق، ولا بين معبودٍ وعبد، لا بل ويظن ـــــــ وهماً وباطلاً ـــــــ أنه أصبح قادراً بذلك العشق على أن يصل إلى مرتبة العرش العظيم، وعلى أنَّ لديه الإمكانية للاتحاد بالذات الحق، أو لحلول الذات الحق فيه.. فأين من هذا التصوّر وحقيقة الخلق، الذين لم يخلقوا إلاَّ لعبادة الله تعالى بدليل قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، لا لأن يعشقوه على طريقتهم البشرية!. والفارق كبير، وكبير جداً بينه وبينهم فهم فقراء إليه، وهو سبحانه وتعالى غنيٌ عن العالمين؟!.. ثم أوليسَ كل كائن حيٍّ، إلى فناءٍ وزوالٍ، بينما هو سبحانه الحيُّ القيوم الذي تعزّز بالقدرة والبقاء؟!
إذن فكيف يصحُّ في معتقد الصوفية عندما يقولون بالاتحاد بالله، أو الالتصاق به عن طريق العشق الإلهي ـــــــ وفقاً لمفهوم العشق بين كائن قدّر عليه الموت أو الفناء، وبين الحي الذي لا يموت ولا يَفنى؟ بل وكيف يمكن للإنسان المحدود أن يتَّحد باللامحدود، وهل يمكن لهذا الإنسان الحادث أن يصبح أزلياً؟ وأكثر من ذلك هل مَنْ كان جسداً يحمل القذارة والخبائث يمكن أن يتحد مع مَنْ هو نورُ السماوات والأرض؟ إنهم بمعتقدهم ذاك قد صدق فيهم قولُ الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
من أجل ذلك يمكن التقرير، بشكل جازم وقاطع، أنّ ادعاء العشق الإلهي، كما قال به بعض المتصوفة، وعلى تلك الصورة التي تؤدي إلى أن يستوي فيها «العاشق والمعشوق، والعارف والمعروف، فلا يكون هنالك لا عاشق ولا معشوق، ولا عارف ولا معروف، بل عشق واحد مطلق، هو الذات الحق» وما يتأتّى عن ذلك من وصول واتحاد.. إنَّ مثل هذا الادعاء، أبسط ما فيه اعتداء سافرٌ على حرمة الله تعالى وقدسيته، وعدم إقرار بألوهيته وبوبيته.. وهل أكثر شططاً، وأشدُّ فسوقاً، من أن يظن الإنسان أنه قادرٌ على الوصول إلى مرتبة الإله.. أو لم يقل بعضهم (البسطامي): «سبحاني، سبحاني.. ما في الجبة إلاَّ الله..»!.. أستغفر الله ربي وأتوب إليه من هذا الخيال الخادع الذي يشتط بصاحبه إلى درجة يتصوّر معها ذلك المستحيل ممكناً، وإلى مثل ذلك الهذيان الفارغ الذي إن دلَّ فإنما يدلُّ على قلب فارغ من معرفة الله، ومحبة الله!..
لا، ليس من المعقول أبداً، ولا من الإيمان مطلقاً، أن يُجافي الإنسانُ فطرتَه، وأن يخالفَ طبيعتَه البشرية، كما وأنه حرامٌ وكفرٌ أن نتطاول على عظمة الله تعالى وقدسيته: إن بالتفكير أو بالخيال أو الشعور.. وسواء حصل ذلك عن قصدٍ أو غير قصدٍ؛ فالعقيدة ثابتة، والحقيقة مطلقة، وهي أن الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ ليس له نظيرٌ يعادلُه، ولا شبيهٌ يُشاكلُه، ولا ظهيرٌ يُعاضده، فهو بعزته قَهَرَ الأعزّاء، ولعظمته تواضع العظماء، فبلغ بقدرته ما يشاء..
أما نحن بنو البشر فنبقى عبيدَهُ ومخلوقاتِهِ نستمدُّ منه وجودَنا وكياننا، وننعم بما يَفيءُ علينا من رحمة، وبما يمنحنا من عطاء، وأجلُّ عطاياه السنيَّةُ هذا التكوين الرائع لنا بما فيه من روح ونفس وجسد؛ وهذا النظام السماوي الذي عنه تنبثق سنن الحياة وقوانين الوجود..
وإنَّ من مقتضيات تكويننا البشري أن تكون لدينا عواطف ومشاعر نُغني بها أنفسنا، ونغدق منها على غيرنا، مما يساهم في تأمين مسار حياتنا الطبيعي.. وعلى هذا الأساس يحق لنا أن نحبَّ وأن ننعم بمعاني الحب، كما يمكن لنا أن نعشق، ولكن ضمن حدود العشق الذي يمكن أن يحصل بين إنسان وإنسان آخر مثله، وبالتحديد بين رجل وامرأة.. حتى أنَّ هذا العشق يمكن أن يكون لدى الحيوانات وبالتحديد بين حيوان وآخر من جنسه، بل وبين الأشياء والأجسام، وفقاً لوحدة الجنس، على أن يحصل ذلك طبقاً للقوانين الطبيعية التي تحكم الأجناس، ومنها قانون «الجذب الطبيعي» الذي قال به بعض العلماء، كما أسلفنا..
كما وأنَّ من مقتضيات وجودنا أن نقيس علاقاتنا البشرية ببعضنا البعض، أولاً على القوانين والنظم التي صَنعَها الله تعالى لتسيير حياتنا، على ألاَّ ننسى بأنَّ لنا حيالها قدرةً محدودةً لا نستطيع أن نتجاوزها، ونلتفت إلى أننا أضعف من أن نتعداها، لأنها بالأصل من غير صنعنا.. وأن نقيس علاقاتنا، ثانياً، على القوانين والأنظمة التي نضعها نحن لأنفسنا، والتي تدور دائماً في فلك طاقاتنا، بحيث تأتي تعبيراً عن تطلعاتنا وأمانينا في دنيا الأرض، وضابطاً لتصرفاتنا من بعض الانحراف والخطأ..
كل ذلك طبيعي، ونجده قائماً ومعمولاً به، وعلى أساسه كان وجودنا، وتكونت حياتنا أفراداً وجماعات.. أما ما هو غير طبيعي، وما لا يمكن أن يتوافق مع وجودنا، وتكويننا، وحياتنا، أن نفكر أو أن نعمل لجعل المقاييس التي تحكم علاقاتنا البشرية، هي المقاييس نفسها التي تحكم علاقتنا بالله جلَّ وعلا.. فإذا كان من الجائز أن نحبَّ، أو أن نعشق إنساناً على شاكلتنا، فإنه لا يجوز لنا بتاتاً أن ندّعي عشقاً لله، بل جلُّ ما لنا من حق هو أن نحبَّ الله تعالى، كما أحبّنا هو سبحانه، على أن يبقى حبّنا له تعالى حبّاً يملأه الإجلال والتقديس، ويقوم على الطاعة والامتثال، وعلى الإذعان والعبودية... أما أن نخالف هذه الحقيقة، وندّعي بأنَّ لدينا القدرة على أن نحبَّ الله حتى يصل بنا هذا الحب إلى درجة العشق والوله ـــــــ كما فعل الصوفية ـــــــ وأن تصبح الذات الإلهية معشوقاً، كالمعشوق الأرضي، فهذا، والله، ليس من حبّ الله في شيء، بل إنه انقياد للشيطان الذي أخذ على نفسه أن يغويَ الناسَ، وأن يصرفهم عن العبادة الحقة، حيث يقعد لهم صراطَ الله المستقيم.. وهذا ما نبَّهنا إليه سيدُنا وخالقُنا، وحذَّرَنا من إغوائه، حيث قال، عزَّ من قائل: {قَالَ ـــــــ أي إبليس ـــــــ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 ـــــــ 17].
فإبليس قد أخذ على عاتقه العهد بأن يقعُدَ للناس على طريق الهدى من أجل أن يغويَهُمْ، ويبعدهم عن الصراط المستقيم، أي عن الحق والخير.. ومما لا ريب فيه، بأنَّ ذلك اللعين لن يقعد في طريق إنسان منحرف، أو لن يقطع الدرب على إنسانٍ ضال (أمثال من يسعى إلى اقتراف جريمة، أو إلى ارتكاب معصية، أو غير ذلك من أعمال الشرّ..) لأنّ هؤلاء الناس، وفيما يقدمون عليه أو يأتونه لا يحتاجون إلى شيطان يغويهم أو يضلهم، بل وإبليس لا يكلف نفسه القعودَ في طريقهم ـــــــ إلاَّ إذا أرادَ تشجيعهم على الشر والباطل وتقويتهم على المعاصي والذنوب لأنهم، هم أنفسهم، نسخةٌ طبقُ الأصل عن إبليس اللعين الذي فَسَقَ عن أمر ربه، بل وإنَّ كلاًّ من هؤلاء إبليسٌ إنسيٌّ قائمٌ بذاته؛ وكيف لا وهو يقوم بنفس المهمة التي تعهد بها إبليس أي مهمة الإغواء التي تمنع على الإنسان طاعة الله تعالى، وهدى أنبيائه، وتحرمه من مجاراة فطرته، وتبعده عن تحقيق إنسانيته؟!.. فالقائم بتلك الفعال، لا يحتاج إلى إبليس عاصٍ، ولا إلى شيطانٍ مارقٍ، لأنه أصبح نفسه قرين الشيطان، {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً {[النساء: 38]. وقد لا نُبالغ إن اعتبرناه من حزب الشيطان وجنوده، وربما يحتاج الشيطان إليه، وإن بدا أمامنا بلباسه الآدمي الذي يخفي حقيقته، بينما اتخذ من نفسه قدوةً للداعين إلى الضلال والتضليل!..
وما علينا، نحن معشر المؤمنين عندما نقع على هذا «النموذج الشيطاني» من بني البشر، الخَطِرِ على إنسانية الإنسان وروحانيته، إلاَّ أن نستعيذ منه بالله، وأن نتحصَّن منه، بما قاله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} [الناس: 1 ـــــــ 6].
فالشيطان = على هذا = له أزلامه، وأنصارُهُ، وعمَّالُهُ من الناس، هؤلاء الذين يحبهم، ولا يحتاج إلى غوايتهم.. أما أولئك الذين يكرههم، ويحنق عليهم أشدَّ الحنق، فهم المؤمنون، العابدون، التائبون، المجاهدون، الذين عاهدوا الله ورسوله على أن يسيروا على الدين الحنيف، وأن يتبعوا الشرع القويم.. فهم أعداؤه الحقيقيون لأنهم اتخذوه عدواً مبيناً، وعبدوا الله حقَّ العبادة، وما اشتطوا في غلواء عبادة، ولا قعدوا عن تلبية واجب، بل كانوا خير أمةٍ أخرجت للناس.. نعم إنَّ هؤلاء المؤمنين الصادقين هُمُ الذين يكيد لهم الشيطانُ ويلاحقهم بجميع كيده، ومكره، وحبائله، ويوسوس لهم ما استطاع، علَّه يفلح في إغوائهم، ويبعدهم عن صراط الله المستقيم، يأمل بالتالي أن يجعلهم من حزبه وأتباعه.. ولكن هيهاتِ للشيطانِ أن ينفُذَ إلى صدر إنسانٍ مؤمن بالله حق الإيمان!.. فهو في حصنٍ حصين من ربه، وفي مناعة متينة من إيمانه، ولذلك لا يفلح كيد الشيطان مع هذا المؤمن، من حيث أتى..
على أنَّ ذلك لا يعني أنَّ من ضلَّ، وسارَ مع الإغواء، محكوم عليه أن يبقى على ضلالته وغوايته، فهو قد يهتدي ويعود إلى طريق الإيمان، ولكن المطلوب منه أن يعيَ واقعه، = وإنْ كان ذلك من أولى واجباته الدنوية والدينية = وأن يدرك حقيقة ما كان يفعل، وأن يعرف دوافع ذلك في أعماقه، ثم يعمل على مقاومة رغبات نفسه الأمارة بالسوء، والقضاء على نزعاتها وأهوائها، كي يطرد الشبهات ووسوسة الشيطان منها، وسيرى، عندئذٍ، كيف يحلُّ = بعون الله = الإيمان الصادقُ في قلبه، وكيف يقوده هذا الإيمان لأن يصير تائباً، خاشعاً، منيباً، لا يرجو إلاَّ رحمة ربه ومغفرته، مؤتمراً بأوامره ونواهيه، تالياً قرآنه الكريم الذي فيه شفاءٌ للعالمين، وهدًى ونورٌ مبين، كما فيه تبيانُ كلِّ شيء، وهو يُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور.. من هنا دعوتنا إلى أصحاب «العشق الإلهي» أن يعودوا إلى حقيقة القرآن، ويعتبروا بما فيه، حتى لا يظلوا عرضةً لوسوسة الشيطان، الذي يزيّنُ لهم الباطل باسم الحق، ويحبّبُ لهم الخطأَ تحت ستار الصواب، ويستدرجُهم إلى ذلك العشق في ظل ممارسة العبادة، وباسم القيام بالشعائر الدينية!!
ومما يدفعنا إلى دعوة الصوفية لرفض غواية الشيطان، وترك دعواهم «العشق الإلهي» تلك الحالة التي أوصلهم إليها هذا العشق، والتي يتوهمون فيها أنه يحصل لهم الانكشاف، فيرون الله بأم العين..
فمتى كان الله ـــــــ عز وجلَّ ـــــــ يُرى؟
ومن رآه من الأنبياء والرسل والأولياء والأصفياء؟
وهل الصوفيون كانوا أجلَّ من هؤلاء جميعاً؟
إنَّ نبيَّ الله وكليمَهُ موسى (ع) قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
لقد كان ذلك الطلب من موسى (ع) بعدما ألحَّ عليه رجالات بني إسرائيل الذين رافقوه إلى جبل الطور، إلحاحاً شديداً بأنهم يريدون أن يَرَوْا الله حتى تتمَّ لهم البيّنة على صدق رسالته.. وبناءً على ذلك الإلحاح، وخوفاً من ارتداد القوم عن الدين، ومن أجل تثبيت العقيدة في نفوس رؤساء القوم، استجاب نبيُّ الله لطلبهم، ولكنه رأى، وأروا بأم العين كيف دُكِّ الجبل دكاً.. فما أعظم رهبة الله ـــــــ سبحانه ـــــــ وما أسمى عظمته، وما أعلى مقامه؛ فهو الذي لا يجوز، بل ولا يمكن، لأحد أن يتطاول إلى حضرته القدسية أيّاً كان، ومهما كانت الغاية أو المرتجى..
وإذا كان هذا شأن النبيين في علاقتهم مع ربهم، فكيف يجب أن يكون شأن غيرهم من الناس الآخرين؟!.. وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فكيف فاز أولئك الصوفية بالرؤية؟!.. وبحبّ الله تعالى، وعشقه، دون سائر الأنبياء؟ بل وكيف قدروا ـــــــ وهم بشر ـــــــ على مفارقة هذا الجسم المؤلف من لحم ودم وعظم، وخبائث مختلفة؛ نعم كيف يقدرون على أن يتحلّلوا من طبيعتهم البشرية هذه، حتى يكون لهم ذلك الارتقاء بأنفسهم إلى مراتع عرش الرحمن، وهم أعجز عن القفز في العلوّ بضعة أقدام؟!
ثم لماذا يحصل لهم وحدهم الانكشاف، من دون غيرهم من الناس، ومعلوم حقيقة النطفة التي منها خرجوا، وطريقة الحياة التي فيها درجوا، أي من غير أن يتغيَّرَ شيء في الطبيعة التي عليها وجدوا، يمكن معه أن يستحيلوا كائنات مختلفة تخترق قوانين الكون، مع العلم بأن واقع الإنسان قد دلَّ منذ وجوده وحتى الآن، أنه هو، هو، ولم يتغير شيء في جوهره وكيانه..
إذن فمن يدّعي حصول المشاهدة، أو الانكشاف يكون ادعاؤه زيفاً وبهتاناً، وتعالى الله عمَّا يقولون عليه قولاً عظيماً، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} ، {قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}!!!. ومن مقولات الصوفية العاشقين، أنَّ ما يحصل لهم من انكشاف أو مشاهدة إنما يحصل لقيامهم على عبادة الله عبادة صارمة، بحيث تتصل نفوسهم أثناءها بالملأ الأعلى، أو قد تنكشف الحجب حتى يروا مقام الله الأسمى بالعين المجرّدة..
فأية عبادة هذه التي يقومون بها حتى تؤدي إلى اقتحام المقام الرفيع؟
لقد قلنا من قبل بأنَّ الله سبحانه وتعالى خلق فينا غريزة التقديس = التي هي منتهى الاحترام القلبي = وبواسطتها تكون عبادتنا، وبمظاهرها تتحقق العلاقة بيننا وبين خالقنا، ومدبرنا، وحافظنا، التي تُبنى على الخشوع والخضوع والطاعة.. فإنْ دعونا الله دعوناه تضرّعاً وخيفة، وإن رجوناه كان رجاؤنا طلبَ رحمةٍ ومغفرة، وإنْ تقرَّبنا إليه فبالأعمال التي يرضى عنها، وإن وقفنا متأدّبين بين يديه، فبالشكر والحمد على ما أولانا من نعمه، وإنْ عبدناه طوعاً وتذللاً فعرفاناً بالجميل وتشرّفاً بطاعة الرب الجليل، وذلك هو الخروج من ذلّ عبودية الهوى إلى عزّ طاعة الرحمن الرحيم..
هذه هي مقومات العبادة، ومظاهر الطاعة؛ ومن قام بها كان حقاً من العابدين الصادقين، الذين أحبُّوا الله تعالى، وخافوا على أنفسهم من سوء المنقلب. أما من استنُّوا لأنفسهم شرعة خاصة في العبادة، ومنهجاً معيناً في المحبة، بحيث لا يدخلان في تلك المقومات والمظاهر، بل يهدفان إلى رؤية الله واقتحام مقامه، فهؤلاء إنما يخالفون حقيقة التنزيل، وصدق الدعوة، غير آبهين لمقام الله العظيم، الذي لا يحقُّ لهم ـــــــ بل ولا لمخلوق على الإطلاق ـــــــ التطاول على هذا المقام، والتفكير باقتحام حرمته القدسية..
والحقيقة أنَّ أحداً لا يتجرّأ على التفكير باقتحام مقام الله العلي القدير ويكون من المؤمنين الصادقين، لأن الأولى به أن يخاف، وأن ترتعد فرائصه لمجرد ذكر الله عز وجلَّ، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].. ومثل ذكر الله الخشوع في الصلاة الذي يورث الفلاح لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 ـــــــ 2].
وهكذا يبيّن القرآنُ الكريمُ أن المؤمنين، هم الذين يخافون الله، ويخشعون في صلاتهم، وهم الذين يخافون مقام ربهم حتى يفوزوا بجنات الخلد، لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].. ومَنْ أولى بمعرفة ذلك غير المؤمنين، الذين يدركون أنَّ ربَّهم هو العزيز المتعال، ذو العرش المجيد، فعّالٌ لما يريد؛ ذو العزّ الشامخ والفضل الباذخ، الذي لا تنقص خزائنه، ولا تزيده كثرة العطاء إلاَّ جوداً وكرماً؛ وكيف لا يخافون مقام ربّهم وهم يوقنون أنَّ بيده ملكوت كل شيء؟ أوليس هو ـــــــ سبحانه ـــــــ إذا غَضِبَ أدخل النار، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلاَّ بإذنه؟ أو ليس هو ـــــــ سبحانه ـــــــ إذا رضيَ أدخل الجنة ولا يجرؤ أحدٌ على اعتراض حكمه؟ فسبحان الله رب العرش العظيم..
وسبحان الله الذي جعل لملائكته مقاماً معلوماً، لقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] بحيث يكون لكل ملك مقام خاص لا يتعدّاه ولا يتجاوزه إلى مقام ملك آخر، وبهذا المعنى هدانا الرسول الأعظم، حتى يعرف كل منا قدره فلا يتعداه، وذلك عندما قال (ص): «ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه».. فيكون الملاك في سمائه، والمؤمن في أرضه، حافظين للعهد، لأنَّ كلاًّ منهما عرف مقامه، وعرفَ مقام ربّه، فصَدَع بالأمر الجلل خوفاً من العقاب الطويل وطمعاً في الثواب الجزيل.. فإذا كانت هذه حال الملائكة الأبرار، والمؤمنين الأخيار، فهل يحقُّ بعدُ لعبدٍ ضعيفٍ، مسكينٍ، ذليلٍ، عاجزٍ أنْ يدّعيَ مشاهدتك، والوصول إلى عرشك، حتى يتَّحِدَ بك يا ربي.. ولماذا؟ ألأنه ادعى عشقاً بك، فصارَ صاحب المكرمة التي تؤهله لهذا المقام؟.
لا، ليس هذا الادّعاء من خلائق المؤمنين بشيءِ، بل هو جهالةٌ رعناء، وعمى بصيرة أحمق! إنه جهالة لأنه يخالف قرآن الله وما أنزل فيه من آيات بيّنات؛ وعمىً لأنه أبعد ما يكون عن سيرة الرسول العظيم الذي أرسلَهُ الله تعالى كافةً للناس بشيراً ونذيراً، وجعله سيِّد العالمين طُرّاً؛ ونظراً لهذه المنزلة الرفيعة له (ص) عند ربه، كان له معراجٌ كما في الذكر الحكيم، ولحكمةٍ أرادَها ربُّ العالمين، فصعد به جبرائيل (ع) حتى بلغ سدرة المنتهى، ولكنه بقيَ على قاب قوسين أو أدنى.. وهي كناية لطيفة تدلُّ على قربهِ، ولكنّها لا تعني أبداً أنه قَرُبَ من العرش المجيد، بل بقي بعيداً عنه، فلم يَرَهُ، ولم يلمَسْهُ، ولم يدَّعِ هو ـــــــ عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام ـــــــ لَهُ رؤية، ولا وصف له هيئةً، ولا حدَّه بحدٍّ محدود..
وإذا كان هذا هو الحالُ مع رسول الله (ص) الذي كان معراجُهُ بأمرٍ من ربه تعالى، عندما انتدبَهُ لهذا المعراج الذي يبقى سراً من الأسرار، لا يدرك أحدٌ من البشر كنْهَهُ، فما بال أناسٍ يتخطّون كل مقاييس الزمان والمكان، وينفلتون من جميع القوانين والنظم التي تسيّر الأكوان، ويتمكَّنون بقانون «العشق الإلهي» الذي ابتدعوه لأنفسهم، من أن يخترقوا الحجب، وأن يصلوا الحَرَمَ المِحْرَامَ الذي لا يُنالُ ولا يدرك بالأبصار ولا حتى بالخيال؟!..
ومثل هذا الادّعاء لهو عجيب، وغريب حقاً، لأنه فوق مستوى كل علم؛ ولكن الأعجب منه، والأكثر غرابةً، أن أصحابَ ذلك الادعاء، وفي حين لا يتهيّبون حرمةَ المقام المقدَّس الأعلى، نجدهم في حياتهم الأرضية لا يجرؤون على الاقتراب من شخصٍ مثلهم، بدون استئذان أو سماح! وهذه حقيقة لا تعنيهم وحدَهم، بل هي تصادفنا جميعاً، وربما كل وقتٍ في شأنٍ من شؤوننا، أو في أمرٍ من أمورنا...
أولا نرى بأنَّ أحدَنا قد يتهيّب الدخول على مسؤولٍ ما في مركزه، وهو بالفعل لا يدخل عليه إلاَّ إذا سمَحَ له حجّابُهُ، ولئن دخل فيقف باحترام، لا يتكلّم إلاَّ إذا أذِنَ له، وقد تخونه عزيمته، أحياناً كثيرة، فلا يجرؤ أن يبديَ طلباً أو يسأل حاجة إلاَّ ضمن حدود الأدب واللياقة، ووفق القانون والنظام؟.
بل أولا نرى بأنَّ الشخص لا يُقحم نفسه بأمرٍ قد يراه من شأن الحاكم أو صاحب السلطان، وأنه يخاف، بصورة عامة، أن يخالف القوانين والأنظمة التي تُسنُّ في دنياه هذه، لئلا تقع عليه مسؤولية أو يطاله عقاب؟
إنَّ أيَّ واحد قد مرَّ بهذه المواقف، أو عرفها على الأقل في واقعه؛ وإنَّ أيَّ واحد يخشى مقام مَنْ هو أعلى منه رتبةً، أو درجة، أو مقاماً في شتى المجالات.. وهو لن يتوانى عن تقديم فروض الطاعة والولاء لهؤلاء، أو لغيرهم، الذين يرى أنهم قادرون على التأثير في مجريات أموره، إنْ نفعاً أو ضَرَراً.. فإذا كان هذا الإنسان عامةً مع أناسٍ مثلَهُ، فكيف تسوّل فئة لنفسها أن ترفع الكلفة بينها وبين الله تعالى، فتخاطبه بلهجة العشق والغرام دون أي وجلٍ أو خوف؟ بل ويصل بها الضلال لأن تقول بأن العشق الإلهي الذي تدعيه، ينزع عنها صفة البشرية ويحيلها إلى صفة الألوهية!!.. أولا تفكرت هذه الفئة، ولو لمرة واحدة، أنها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ولا حياةً ولا نشوراً، وأنها لا تقدر أن تفعل شيئاً إلاَّ أن يشاءَ الله، مهما كان هذا الشيء صغيراً أم كبيراً؛ بل وأبسط من ذلك ألا ترى تلك الفئة، كم يعاني أفرادها، كلٌّ لوحده، من همٍّ وقلق على المصير، ومن شعور بالارتهان إلى الله العليّ القدير؟!
لا أيها الصوفية العاشقون، ما اعتقادكم هذا إلاَّ ضربٌ من المستحيل، فاتَّقوا الله سبحانَهُ، تقوى الخائف الوجل، تقوى المؤمن الصادق، لأنَّ هذا الخوف هو طريق العبادة الحقة، والإيمان الصادق، وطريق الجنة، كما قال لنا الله تعالى في محكم كتابه المبين..
ونحن عندما نقول بالخوف من الله تعالى، فلأنه سبحانَهُ هو الذي أمَرَنا بأن نخافَهُ ونخاف مقامَهُ؛ ولكنَّ ذلك لا يعني أنه يجب أن تطغى علينا مشاعِرُ الخوف هذه بحيث لا نعود نعرف إلاَّ أن الله شديدُ العقاب، لأنَّ من صفاته العظيمة أيضاً أنه الغفور، الودود، الرؤوف، الحنّان، الرحيم، الرحمن، وما إلى ذلك من صفاتِ الله تعالى وأسمائه الحُسنى..
ونحن عندما ننبّهُ إلى هذا الأمر، لا نريد أن نقحم أنفسنا في العلاقة ما بين الإنسان وربّه، ولا بالكيفية التي يجب عليه اتباعها من أجل هذه العلاقة = وهي أعظم العلاقات وأروعها على الإطلاق إذا عرف الإنسان كيف يُحسنها = ذلك لأنَّ هذه العلاقة هي شأنٌ خاصٌ بالإنسان ولا يجوز لغيره أن يتدخَّل فيها؛ بل ولا يقدر أحَدٌ أن يعرف ما في سريرة غيره، إذ لا يعلم ما في السرائر إلاَّ الله وحَدَه..
نحن لا نتوخى شيئاً من ذلك أبداً، ولكننا بهدي الله نريد أن نؤكد على قضية هامة وأساسية في الإسلام، وهي قضية أدب المخاطبة، وفيها يظهرُ احترامُ الإنسان لنفسه واحترامُهُ للمخاطَب.. فالله تعالى يخاطب المؤمنين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 2 ـــــــ 3]. فاللَّه سبحانه يعلمنا أدبَ الكلام والمخاطبة بين يدَيْ رسولِ اللَّه ونبيّهِ، ويأمرنا بألاّ نرفع أصواتَنا، وألاَّ نتكلم أمامه جاهرين بالقول كما نفعل مع بعضنا البعض. وهو يحذّرنا بأننا إن فعلنا فستحبط أعمالنا ونحن لا نشعر. ثم إنَّ من يغضُّ صوتَهُ عند رسول الله، جَعَلَ الله تعالى له منزِلةَ المتقين، وأثابه المغفرة، والأجر العظيم..
وإذا كان هذا من آداب المخاطبة للرسولِ، فحريٌ بنا أن نتبِّع النهج نفسه في تخاطبنا، لأنه المنهج الذي يؤدّب ويرفع من قيمة الإنسان، وهذا ما أرادَه لنا الإسلام، ويحثّنا عليه..
ولا يقف أدب المخاطبة عند هذا الحدّ، بل الله سبحانه وتعالى يدعونا بألاَّ نجهر بصلاتنا لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110].. ثم لنلاحظ هذا التعقيب في الآية التي تلي بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111]..
الله أكبرُ حقاً! هذا هو التعليم الربّاني لعبادهِ، حتى في أثناء الصلاة له سبحانه يعلّمنا أدبَ المخاطبة، وروعَةَ التخاطب، بحيث لا نعلي صوتنا كثيراً، ولا نخفته كثيراً، بل نبتغي حدَّ الاعتدال، في الوسط بين الجهر والخفوت..
إذن فالإسلام يحضُّ على أدب المخاطبة وأولاها مخاطبة الله سبحانه وتعالى في كل شيء، فإن أمَرَنا الله تعالى بأن نكون متأدبين في أداء الصلاة، وهي العلاقة الأساسية والثابتة التي يجب أن تربطنا به سبحانه، فلا يعودُ من الممكن أبداً أن نخرج عن تأدّبنا في أي علاقة أخرى بالله سبحانه؛ وهذا ما يجعلنا ندرك بأنَّ مخاطبته على أساس: عاشق ومعشوق، وحبيبٍ ومحبوب، هي خروج على التأدب، وعلى معاني العبادة التي هي الخشوع والضراعة والخضوع وطلب العفو والمغفرة والرحمة.. فلئن أدرك المسلم ذلك، وقام به، كان من الفائزين؛ وإنْ ادعى خلاف ذلك أو فعَلَ سواه، فإنه يكون قد آثر هوى النفس، وسلك طريق الغواية، وقد يطغى ويجاهر بالعصيان.. على أنَّه عليه أن يعرف بأن لكل من الحالين مصيرًا مختلفًا ومحتومًا، وذلك لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 ـــــــ 41].
فما أجدَرَ بالإنسان أن يتأدَّبَ في جناب الله، وما أحراه أن يلتزم حدودَ طبيعته وحدودَ مجالِهِ، فلا يتخبط بالتيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطاراً من تجاربه هو، ومن مقرراته هو، ومن علمه القليل..
هذه هي مفاهيم الإسلام، في بعض الجوانب عن علاقة الإنسان بربّه، وهي العلاقة التي يجب أن يكون قوامها ـــــــ كما نردِّد ونقول ـــــــ الطاعة مع الخشوع، والإيمان مع الرهبة، وطلب الرضى مع الرحمة، وإدراك مقام الله العزيز الجبّار، ومن ثَمَّ معرفة حدود المخلوق الذي ينبغي أن يكون خاضعاً لمشيئة الله في قضائه وقدره، وفي ما حكمت به مشيئتُهُ السنيَّةُ وقدَّرت..
والإنسان المسلم يجب أن يعرف ذلك، لأنَّ كتابَهُ القرآنُ، الذي أُنزِلَ على نبيّهِ هدىً ورحمةً للعالمين، ولولاه لكانتِ الأرضُ في ظلامٍ دامِس، لأنه هو النور الذي أنزلَهُ الله تعالى ليُضيءَ الوجودَ، ويضيءَ النفوسَ والقلوبَ، فكان حرياً بنا أن نؤمِنَ به كما أمَرَنا الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن: 8].. وليس هذا النور إلاَّ الإسلام، عقيدةً وديناً، ومنهجاً متواصلاً في الحياة، ومن خلاله تتكوَّن الشخصية الإسلامية، وعلى أساسه نحكم على صاحب هذه الشخصية بما يكون لديه من ذهنية وعقلية، وما يتكوَّن عنده من نفسية ومشاعر قلبية... ولا نخال صاحب شخصية إسلامية إلاَّ ويعمل صالحاً، ويسلك قِواماً، لأنه يجمع دائماً بين تطلعات الفكر ومتطلبات النفس، من غير أن ينسى ما للجسد عليه من حق.. أي أنه بمعنىً آخر هو الذي يستطيع أن يفهم الحياة فهماً عميقاً، فيأخذ نصيبَهُ من الدنيا من دون زيادة أو مبالغة لئلا يُعدَّ متمرّداً على سنن الحياة وقوام الفطرة، ولا ينسى الآخرة بل يعمل لها لكي يفوز بنعيمها وخلودها.. ولذلك فهو لا تغلب عليه صفة الذين آثروا الدنيا وفتنوا بها، ولا يأخذُهُ هَوَسٌ دينيٌ يُغالي فيه حتى يبتعد عن معنى الدين ويترك حقائقه الثابتة..
إذن فالإسلام أمَرَ بالاعتدال سواءَ في العبادة أم في النهج والسلوك، وفي كل شيء.. فإذا خرجتِ العبادة عن هذا الاعتدال كانت بدعةً مبدوعة، أما إذا كان أساسها الاعتدال فهي العبادة الخالصة كما نجدها في كتاب الله وسنة رسوله.
وإنَّ في تاريخ الإسلام، وخاصة في السنة النبوية الشريفة، شواهِدُ ثابتة على الاعتدال في شتى شؤون الدين والدنيا؛ فعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الرازي (الذي توفي سنة 329هـــــــ) أن رسول الله (ص) قال: «إنَّ هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق ولا تكرِّهوا عبادة الله إلى عبادِ الله حتى لا يكون أحدكم كالراكب المنبتّ لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى» .
ومن قبيل ذلك أيضاً ما روي عن رسول الله (ص) أنه قال: «لا تكرّهوا إلى أنفسكم العبادة».. وقوله (ص): «إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أحبَّ عبداً يعمل عملاً قليلاً جزاه بالقليل الكثير»..
وعن جعفر الصادق (ع) أنه قال: «اجتهدت في العبادة وأنا شاب، فقال لي أبي: يا بنيَّ! دون ما أراك تصنع (أي اختصر في عبادتك) فإنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أحب عبداً رضيَ عنه باليسير».
وعن أنس (رض) عن رسول الله (ص)، كما جاء في الصحيحين «أنه جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج رسول الله (ص) يسألون عن عبادته. فلما أخبروا عنها، وكأنهم تقالّوها (أي وجدوها قليلة)، قالوا: أين نحن من رسول الله (ص)، وقد غفر له ما تقدَّم من ذَنبهِ وما تأخَّر؟!.. قال أحدهم: أما أنا فأصلّي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله (ص) إليهم، فقال: أنتم قلتم كذا وكذا وكذا. أما والله إنّي لأخشاكُمْ لله، وأتقاكم لَهُ، وأعلمُكُمْ بهِ، وإني أصومُ وأفطرُ، وأصلّي وأرقدُ، وأتزوجُ النساءَ، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
من هنا يتبيّن لنا أن قوام العبادة في الإسلام الاعتدال والتقوى.. فعلى المسلم أن يؤدي الفرائض الواجبة بالتمام والكمال، فما زادَ عن الفريضة فاستحسان: قد يكون فيه شكر على نعماء الله، أو حمدٌ على ثنائه، أو طلبٌ للمغفرة أو راحة للنفس والبدن، وما إلى ذلك من الغايات التي يتوخاها المؤمنون، المتّقون..
وأما لماذا هذا التركيز على الاعتدال في العبادة، فلأنَّ على الإنسان واجباتٍ أخرى وعديدة عليه أداؤها.. ومن هذه الواجبات مثلاً: الدعوة إلى الله والعمل في هذا السبيل؛ أو السعي وراء كسب العيش تأميناً للعيال، أو العمل لأداء حق الجماعة.. وما إلى ذلك من واجبات دينية ودنيوية، أي العمل بقول رسول الله (ص): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».. فكل عمل فيه نفع وخير للفرد أو الجماعة يتطلب من الإنسان وقتاً وجهداً، ولا نحسبُ أنَّ من يقوم بهذا يستوي بالأجر مع آخر عابدٍ،. زاهدٍ، لا يرتجي إلاَّ خلاص نفسه.. بل إنَّ في الدعوة إلى الله، والسعي وراء الكسب الحلال، والعمل من أجل الصالح العام، لأجراً يفوق كل أجر..
فإذا كانت هذه مفاهيم الإسلام، وذاك ما طبقه الرسول الأعظم محمد (ص) ودعا إليه، فما بال بعض الصوفية يعكفون على عبادات مضنية، أو مجاهدات شديدة، ورياضات قاتلة، وهم ينشدون «حبّاً إلهيّاً»، يتوهمون أنه يجرّدهم من كل ما هو ماديٍّ وحسيّ، ويجعلهم يُعرضون عن كل ما في الوجود «ليروا رب الوجود» الذي لا يُرى!. وهم ما رأوه كما ادّعوا، وافتروا وفنّدوا!.. ما بال هؤلاء الذين ينتسبون للإسلام وهم يتنكرون للدنيا، والله تعالى يقول: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.. بل وما بالهم يجافون طبيعتهم البشرية، وفطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها، ويطلّقون وجودَهم الأرضي، حتى يظنّوا أنهم بالعشق الإلهي = الذي ادعوه تصنعاً وتزييفاً = قادرون على تخطّي حيّز الإنسان، بل وكل المفاهيم التي أرادها الله تعالى للإنسان، للوصول إلى تلك المرتبة التي تزول فيها الفوارق بين «العاشق والمعشوق، فلا يبقى معها لا عاشق ولا معشوق، بل عشق واحد مطلق هو الذات الحق»؟!!..
إنه لَهُراءٌ، وزورٌ، وبهتان.. هذا الذي يدّعي الصوفية الوصول إليه.. وهم طبعاً لن يصلوا إلاَّ إلى نهاية محزنة جرَّهم إليها الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.. وتعالى الله، وجلَّ جلاله، عن عبث العابثين، وضلال التائهين، وتصوّر الضالين..
ذلك هو «العشق الإلهي» الذي اتخذه الصوفية مذهباً، يتنادون إليه، ويتباهون به..
ولقد برز من أوائل الصوفية الذين اعتنقوا هذا المذهب، ثلاثة لهم صيتٌ ذائع في عالم التصوف، وهم: رابعة العدوية، وأبو يزيد طيفور البسطامي، وأبو الغيث الحسين بن منصور الحلاج.
على أن رابعة العدوية اعتبرت من بين هؤلاء، رائدة العشق الإلهي، ووصفت بأنها «شهيدة العشق الإلهي».
وسوَف نبحث ببعض التفصيل آراء كل من هؤلاء مبتدئين برابعة، على ما يتّسع له صدر الموضوع ويتيح المجال للبحث، والله ولي التوفيق.


المصادر
(6) يقال: انبتَّ الرجلَ انبتاتاً، إذا انقطع ماء ظهره. والباتَّ: المهزول الذي لا يقدر أن يقوم.
والرسول الحكيم يكون قد أرادَ بهذا المثل أن يبينّ بأن الإسلام دين قوي متين بذاته وفقاً لما أنزله اللَّهُ تعالى، فلا تؤثر في متانته زيادة في عبادة أو نقصان. بل في جوهر هذا الدين أن تكون العبادة معتدلة، كما حدَّدها القرآن الكريم والسنة النبوية. فالنقصان عن ذلك معصية لأنه يؤدي إلى ترك العبادة، والزيادة مستحبَّة على ألاَّ تُضنيَ صاحبَها أو تنفّر الآخرين. فإن بالغ المسلم في عباداته إلى حدّ القهر النفسي، والتعب الجسدي، حتى يصل به حدُّ المبالغة إلى أن يكره عبادةَ الله إلى العباد، فإنَّ مثله يصبح كمثل المسافر الذي أُعطب ظهر راحلته فتوقفت به عن السير، وبالتالي انقطع سفره، بحيث لم يستطع أن يصل بعدها إلى مقصده، أو كأنما ألحَّ في السفر ولجَّ فيه حتى أنهكه التعب فقعد عاجزاً عن متابعة طريقه...
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢