نبذة عن حياة الكاتب
الصوفية في نظر الاسلام

الشعر الصوفي
في القرن الثالث الهجري
»الشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها.. وله مراتب عالية في موسيقى الألفاظ وجماليتها».
هل الشعر الصوفي هو كذلك؟


الشعر الصوفي
في القرن الثالث الهجري
بعدما تحدثنا عن شخصيات ثلاث من الصوفية المتقدمين، وهم: رابعة العدوية، وأبو يزيد البسطامي والحلاج، وأظهرنا أهم الأفكار التي اعتنقوها والتي كانت تدور حول العشق الإلهي، ووحدة الوجود وعقيدة الحلول.. وبعد أن بيّنا آثار تلك الأفكار على أصحابها بحيث جعلتهم يسنُّون لأنفسهم نمطاً خاصّاً من الحياة يقوم على المجاهدات والرياضات، أو على الادِّعاءات والشطحات.. وبعد أن أكدنا على تناقض تلك الأفكار مع الفطرة الإنسانية، وعدم توافقها مع الكتاب والسُّنة، بل مخالفتها الصريحة للإسلام..
بعد ذلك كله، كان لا بد من إلقاء الضوء على الشعر الصوفي خلال القرن الثالث الهجري حتى نتمكن من إبراز ملامح ذلك الشعر، والأنماط التي ظهر فيها، والمواضيع التي عالجها، بسبب ما كان لظاهرة التصوف من أثَرٍ كبير على الشعر العربي إثْرَ اشتدادِ الاختلاط بالأمم الأخرى غير الإسلامية إبَّان العصر العباسي..
فالشعرُ بوجهٍ عام فهمه العربُ القدامى على أنَّهُ الألفاظ والمعاني البيانية والصور الحسيَّة.. ومع ذلك فقد روى لنا الشعر العربي أَنساب العرب وتاريخهم وأيامهم ووقائعهم، فكان بذلك محمدة الأدب، وعلم العرب الذي اختُصت به دون سائر الأمم، قال أبو هلال العسكري: «إن الشعر ديوانُ العرب، وخزانةُ حكمتها، ومستنبطُ آدابها، ومستودعُ علومها.. وله مراتب عالية في موسيقى الألفاظ وجمالها». ومن مراتبه العالية التي ذكرها العسكري: «النَّظْمُ الذي به زَنَةُ الألفاظ وتمامُ حسنها، وليس شيئ من أصناف المنظومات البشرية يبلغ في قوة اللفظ منزلة الشعر».. والشعر العالي هو ما توخى الصدق أبداً، كما عبَّر عن ذلك شاعر رسول الله (ص)، حسان بن ثابت حين قال:
وإنَّ أشعرَ بيتٍ أنتَ قائِلُهُ بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَهُ صَدَقا
وهذا حق فعلاً، لأن: «خير الشعر ما دلَّ على حكمةٍ يقبلها العقل، وأدبٍ يُحَبُّ به الفضلُ، وموعظةٍ تروِّضُ جماحَ الهوى» على حدّ تعبير الجرجاني.
أما من حيث البنية فإنَّ ابن رشيق القيرواني يعتبر أن الشعر هو «اللفظ والوزن والمعنى والقافية معاً»؛ وأنَّ الشاعر «إنما سمي شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليدُ معنى ولا اختراعُه، أو استظرافُ لفظ وابتداعُه.. كان اسمُ الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة»..
وعلى هذا يمكن القول بأنه من عهد ابن سلاّم إلى عهد ابن خلدون = وعلى كثرة المجاري الفكرية التي تغلغلت في الشعر العباسي = لم يكن الشعر ليتجاوز، بصورة عامة، الأوزان الموسيقية، والقافية، والألفاظ الجيدة، والصور الحسيَّة وما فيها من تشابيه واستعارات.. أي بخلاف ما يراه الجرجاني من أن خير الأدب ما حرَّك الأخلاق، ونشَّط العقل، وأبرز العواطف الإنسانية..
وفي متابعةٍ للوقوف على مضامين الشعر العربي في تلك الحقبة التاريخية، نجد أن معظم ذلك الشعر في عهد الأمويين والعباسيين، كان ـــــــ بعيداً عن الفكر والواقع، منصبّاً على مدح الخلفاء والأمراء.. وهمُّ الشاعر كان عنايته بالألفاظ البديعيَّة والصور البيانيَّة، من غير أن يتجاوز المحسوس الجزئي.. وهذا ما حمل النقاد القدماء على اعتبار الشعر «صناعة يجب أن يتوخى فيها الشاعرُ الإجادةَ اللفظية، والإتقانَ المعنوي» ولذلك لم يكن للشعر القديم حظٌّ كبيرٌ في التأمل الفكري، والتحسُّس بالواقع، لكي يرتفع فوق المصالح الذاتيَّة الآنيَّة؛ وظل معظم الشعراء في العصور العربية القديمة لا يصورون إلاَّ ما يرونه ببصرهم لا ببصيرتهم..
إنَّ هذه اللمحة الخاطفة عن الشعر القديم، وخاصة إبّان العصور العباسية، تدفعنا إلى سبر غور الحياة الفكرية من مجمل نواحيها يومذاك، حتى نهتدي إلى الأسباب التي دعت إلى نشوء الشعر الصوفي..
ومن الرجوع إلى حافظة التاريخ نجد بأن الحياة في المجتمع الإسلامي لم تكن ذات طابع واحد في مختلف مراحل تاريخها، بل كانت متعددة المظاهر، وتعرّضت لمؤثرات خارجية كثيرة استجابت للبعض منها، ولم تستجب للبعض الآخر.. إلاَّ أنها، في الوقت نفسه، كان لها هي الأخرى آثارها في النواحي الفكرية، وهي الآثار التي لا تزال قائمة، في كثير منها، حتى اليوم...
أما أبرز الاستجابات للمؤثرات الخارجية، فكان ما أُخذ عن الفلسفات والثقافات المنتشرة، عن طريق النقل والترجمة، ثم القيام على مناقشتها نقاشاً فكريّاً رائعاً، مبنيّاً على الكتاب والسنَّة حتى غدَت لنا نوعاً من المعارف التي لا يُستهان بها؛ وهذا ما عبّر عنه الجاحظ معترفاً بفضلها عندما قال: «لولا ما أودَعَتْ لنا الأوائلُ في كتبها، وخلَّدت من عجيب حكمتها، ودوَّنت من أنواع سِيَرها حتى شاهدنا بها ما غابَ عنا، وفتحنا بها كلَّ مستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم ندركه إلاَّ بهم، لَمَا حَسُنَ حظُّنُا من الحكمة، ولَضعف سببُنا إلى المعرفة».. وتبقى الفلسفة اليونانية ولا سيما الأفلاطونية الحديثة، من خلال ذلك النقل، وحدها ذات التأثير الكبير على فلاسفة ذلك العصر، وعلى علماء الكلام والمعتزلة منهم خاصة، وعلى الصوفية..
فأما الفلاسفة فقد اشتهروا بما نقلوا عن الكتب اليونانية، وبما أقدموا عليه من دراستها وتحليلها كي يستمدوا منها ما كان يعينهم على تأليفهم، وكان أكثر ما أخذوه عن كتب أرسطو، والأفلاطونية الحديثة.. وأشهر تلك الطائفة من الفلاسفة كان الكندي والفارابي وابن سينا في المشرق، وابن باجه وابن طفيل وابن رشد في المغرب.. وفلسفتهم هذه ظلت ـــــــ كما يقول (دي بور)De Boer «انتخابية.. قوامها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق».
وعن تلك الفلسفة التي انتشرت بشكل واسع في العصر العباسي، نشأ شيء من الشعر الفلسفي يقوم على البحث والتحليل كقصيدة «النفس» لابن سينا، وغيرها من القصائد التي عبَّر فيها الفلاسفة عن أفكارهم ومعتقداتهم.. كما نشأ أيضاً نوع من القصص يعالج مواضيع فلسفية بحتة مثل قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل الأندلسي، التي هي عبارة عن تحليل وتوضيح للفلسفة الأفلاطونية الحديثة، ومعالجة وتبيان للاستشراق الصوفي..
ومثل الفلسفة نشأ في العصر العباسي علم الكلام، ولكنه تفرق إلى مذاهب عديدة أشهرها الأشعرية والمعتزلة والجبرية..
ولكن ما يلاحظ هنا أن الحياة الفكرية، بصورة عامة، كان إبّان تلك الفترة تُساير الخليفة وأهوءاه، فإن كان من أنصار الفكر والبحث، وكان راغباً في تشجيع العلوم والأدب، عزّز تلك الحياة ورفع شأنها، وشجع فيها الترجمة والتفل؛ وإن كان من أعدائها، حاول القضاء عليها وطمْس آثارها، وتكفير أهلها.. بيد أن حرية الفكر بلغت أوجها في عصر المأمون، بسبب ما كان لهذا الخليفة من نزعة عقلية، ومن ميل إلى مذهب المعتزلة القائلين بوجوب التوفيق بين النصوص الدينية وبين أحكام العقل، فاندفع نحو فلسفة الإغريق يبحث عما يبرر موقفه أو يؤيد آراءه..
وفي خضم تلك الحياة الفكرية، كان لا بدّ للتصوف من أن ينشط، ويتخذ مكانة خاصة به.. فالصوفية لم تكن ربيبة العصور العباسية، ولكنها اختمرت فيها، بما أدخل عليها من أفكار هلينية وفارسية وهندية حتى أصبحت حركة قائمة بذاتها.. وكانت هذه الحركة الصوفية: «حركة معاكسة للنظر العقلي في الدين، وحصره في قوالب لا تتغير» كما عبّر عن ذلك فيليب حتي.. أما الصوفيون ـــــــ على ما وصفهم عبداللَّه بن علي السراج الطوسي في كتابه «اللمع في التصوف» ـــــــ فهم «مع اللَّه في الانتقال من حال إلى حال، (وإن اللَّه) معهم أين ما كانوا، وأنه حاضر لا يغيب، وهو بكل مكان لا يسعه مكان ولا يخلو منه مكان». وبهذا دعوا إلى الحلولية، وواجب الاتصال باللَّه، والاتحاد معه.. وقد ظهر شعراء صوفيون، اشتهروا بأنهم يهيمون بحب اللَّه، فهو عندهم كل الكمال، وكل الجمال، وكل الحق.. ولذا فقد عُني شعرهم بمناجاة اللَّه، والتعلق به تعلقاً شديداً، حتى ينتهي الحال بالشاعر إلى القول بالاتحاد..
أما السبب في نشوء هذا اللون من الشعر فيعود بشكل خاص إلى ما وصلت إليه الخلافة العباسية من ضعف، وتجزئتها إلى ممالك عديدة، حتى أصبحت نهباً للغزاة والفاتحين.. وقد عظم فيها نفوذ الأتراك والإيرانيين المسلمين، وأصبح الخليفة العباسي آلة في أيديهم، فراح عندها الشعر يمجد اللَّه بعيدًا عن الفوضى والضوضاء...
وهكذا يتبيّن أن الشعر العربي، بعدما اعتاد حياة القصور الأرستقراطية التي كانت تحميه من العوز والفقر، وبعد أن تلاشت تلك القصور، وذهب أهلها، وحل فيها الدمار، كان لا بدّ أن يتَّجه به الشاعر إلى ناحية أخرى للتعبير عن أفكاره ومشاعره، وحيث إن بعضهم وجد في الصوفية الملاذ الذي يعوزه فقد التجأ إلى الصوفية، وراح ينشد شعره في الحب الإلهي، ومناجاة اللَّه تعالى..
والشعر الصوفي، بوجه عام، ليس فيه محتويات فكريَّة من نفسه، ولكنه يستطيع أن يتمازج مع المادة التي تقدمها كل المذاهب الفلسفية، والديانات المختلفة، وإنما في إطار العاطفة الصوفية التي تمتلك على الصوفي كل حواسه.. إلاَّ أنه ولما كانت العاطفة منبعها القلب، فقد جعل الصوفية القلب أهم من العقل، بل إنَّ القلب عندهم هو كل شيء، وهو، كما يزعمون، يجب أن يكون «عرشاً للرحمن».. ولذا فقد صرَّحوا في مناسبات عديدة بعدم جدوى العقل في قطع الطريق إلى اللَّه سبحانه.. وعلى هذا الأساس كان الشعر عند الصوفية تعبيراً عن خلجات نفوسهم، فظهرت فيه فنون متنوعة كالمناجيات، والاستغاثات، والأوراد، والأذكار، والمدائح النبويَّة، وما إلى ذلك من ألوان شعريَّة شاعت في أوساطهم..
والميزة الظاهرة في الشعر الصوفي هي خلوُّه من التزلف إلى أصحاب الشأن، والتملُّق إلى ذوي النفوذ، كما هي عليه الحال في فن المديح لدى بعض الشعراء، حيث كان يقوم هؤلاء بالتسكع على الأبواب، أو الاستجداء في مجالس الملوك والأمراء والوزراء...
ونتيجة لتلك الميزة، لم يقم الشعر الصوفي على الرغبة والرهبة، بل كان قصدُه التصوف نفسَهُ تلبيةً لنزعةِ حبِّ التعبير عما يجول في النفس من خواطر، وما يجيش فيها من مشاعر.. وبذلك ظهر على شكل أبيات مفردة، أو على شكل مقطوعات صغيرة من خلال معالجة مواضيع غير صوفية، ثُم تطور إلى مقطوعات كبيرة، بل إلى قصائد تتناول المواضيع التي تعبّر عن الذوق الصوفي البحت، والمشاعر الصوفية الخالصة.. وقد تنوعت مواضيع الشعر الصوفي، إلاَّ أن أهمها كان في «الوجد» و«الحب الإلهي» و«وحدة الوجود» التي اختلطت في كثير من الأحيان بالحلول أو فيما يسمى عندهم «جمع الجمع».. وهي المواضيع التي نورد بعض ما قيل فيها من شعر صوفي، وخاصة فيما يعود إلى الحب الإلهي وما نشأ عنه من غزل ورموز...
فأما الوجد، على حدّ تعبير أبي سعيد بن الأعرابي: «فهو رفع الحجاب، ومشاهدة الرقيب، وحضور الفهم، وملاحظة الغيب، ومحادثة السر، وإيناس المفقود، وهو فناؤك من حيث أنت».. ولذلك فقد كان الوجد عند الصوفية انفعالاً نفسيّاً قويّاً، يحركه السماع، ويسيطر على الإنسان حتى يجعله في شبه غيبوبة عن ذاته.. وهذا موافق لقول الغزالي: «ثم يثمر الفهمُ الوجدَ، ويثمر الوجدُ الحركةَ بالجوارح».. وكثيراً ما تكون هذه الحركة نوعاً من الرقص يقوم به صاحبه بصورة لا إرادية بحيث يأتي هذا الرقص متناسباً مع الألحان التي يسمعها أو الأشعار التي ينشدها.. أي بمعنى آخر: يكون الرقصُ عند الصوفي استجابةً غير إرادية لما توحيه الألحان..
سئل يحيى بن معاذ الرازي (المتوفى سنة 258هـــــــ) عن الرقص، فقال:
دَقَقْنا الأرضَ بالرقـــــــ ـــــــصِ على غَيْبِ مَعَانُيْكَا
ولا عَيْبَ على رقْصٍ لِعَبْـــــــــــد هـــــــــــــائِمٍ فِـــــــيْكـــــــــــــا
وهـــــــذا دَقّنـــــا لـــــــــــــــلأر ضِ إذْ طُــــــفْنــــــــا بِـــــواديكــا
هذا الرقصُ الصوفي، يستوقف المؤمن المفكر ليقول للصوفيين: أوليس الأولى بهم أن يدقّوا الأرض بركبهم وأيديهم وهم قائمون، راكعون، ساجدون بين يدي الخالق ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ بدلاً من دقها بالرقص كفعل من لا يعرف شعائر العبادة التي أنزلها اللَّه العظيم على لسان نبيّه الكريم؟!
ثم أولم يكن هذا حالُ المشركين الذين كانوا يتعبّدون للَّه تعالى عند الكعبة الشريفة: رقصاً، وغناءً وتصفيقاً، ومكاءً ورغاءً؟!
وهلاَّ تفكّر الصوفيةُ بدلاً من الرقص وضرب الأرض بالأرجل، في عظيم خلق السماوات والأرض، وفي أنفسهم، وفي كل ما يحيط بهم من آيات اللَّه، بما فيها من دقة الصنع وعجيب الخلق حتى يكون لهم الثوابُ الذي أِعِدَّ للمتقين العارفين؟.
وهلا شغَلَهُمْ شأنُ أمتهم الإسلامية بدلاً من الترنّح يمنةً ويسرةً حتى تأخذهم حالةٌ من النشوة والارتخاء فلا يعودوا يدرون ماذا يفعلون ويغيبون عن الحقيقة والواقع؟.
إن أشدَّ ما يثيرُ العجب أن يُستخَفَّ عبدٌ صالحٌ وقورٌ عند ذكر اللَّه تعالى، فيخرج عن طوره ثم ينقلب إلى غِرّ طائش يقفز وينطّ!!.. وهذا واللَّه، ليس من صلاحِ الدين، ولا من وقار النفس في شيء، بقدر ما هو نزغٌ من الشيطان الذي يستخفُّ الذين لا يعلمون.. هذا فضلاً عن أن تصرّفات كريهة مثل هذه لا تكون إلاَّ تغطية لشذوذٍ أو انحراف عن طريق العبادة الحقة التي لا نجد فيها رقصاً، ولا دقّاً، ولا طبلاً ولا زمراً.. وإنْ هي إلاَّ تغطية بدائية لا تخفى على البسطاء، فكيف بالعقلاء الذين يرون في مظاهرها مروقاً من الدين، أيَّ مروق؟!..
فلو تبصّرنا في شعائر الإسلام، ومنها الصلاة، والصوم، والحج، لوجدنا أنَّ أيَّ شعيرة من هذه الشعائر تقودُ إلى الطريق المستقيم، والسلوك القويم، بحيث تراعي تربية البدن، وتهذيبَ النفس، وتعْقُلُ العقل، وتقوّي الإرادة، وتجعل التَّماسُك المادي والمعنوي قوياً عند الإنسان.. فلو أخذنا مثلاً الطواف في بيت اللَّه الحرام لوجدنا أنه يشدُّ ذاك الطائف إلى حالة من الشعور الذي يرتقي بصاحبه إلى الخشوع والاطمئنان لذلك الخالق العظيم الذي هداه النجدين فينبري ملبياً، مسبّحاً، مهللاً ومكبّراً.. وتراه في أجواء حجّه خاشِعَ القلب، قويَّ الإيمان، ذليلَ النفس بين يدي عظيم السماوات والأرض، لا ينفعل بتهريج، ولا يأخذه تصايحٌ بل يعيش بين الرهبة والرغبة، ويمتثل لحسن الأدب في الدعاء والابتهال.. مناجاته إقرارٌ بالعبودية، وتسبيحه انعتاقٌ من أدران الدنيا، وتكبيره تعظيمٌ لربّه الذي لبَّى دعوتهُ، فحجَّ إلى بيته، وطاف بأركان هذا البيت يلتمس أمناً من اللَّه تعالى الذي جَعَلَ بيته مثابةً للناس وأمناً.. أما أن يُلبي، فيحجَّ ويطوف رقصاً وضرباً على الأرض بالأرجل، أو هزّ الرقبة والأكتاف إلى حالة الترنّح، فهذا ليس حجُّ المؤمنين الصادقين بل حجُّ الذين {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] وهؤلاء هم المشركون: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف: 51]، فإذا كانت تلك أحوال الصوفيين في الرقص، فلا عَجَبَ إنْ كانوا يتواجدون على الشعر أكثر من تواجدهم على القرآن.. فهذا الحسين بن يوسف أحد كبار رجال التصوف، كما نقل القشيري على لسانه، يقرأ في المصحف فلا يهتزُّ لذكر اللَّه تعالى، ولكن يأتيه صوفيٌ وينشده هذا البيت من الشعر:
رأيتك تبني دائماً في قطيعتي فلو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
فإذا به قد تصايح وبكى ثم قال: «يا بني لا تلم أهل الرأي على قولهم إن الحسين بن يوسف زنديق! فها أنا وقت الصلاة وأنا أقرأ القرآن فلم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليَّ القيامة بهذا البيت الذي أنشدت»!!. وأعنف من هذا قول التلمساني الصوفي وقد عاتبه بعض الناس على إقراره كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي، وفيه ما فيه، فقال وهو يميل بعطفه كبراً: «القرآن كله شرك، وإنما التوحيد من كلامنا»!!...
ويعلّل الغزالي هذا التواجد للصوفية على الشعر من دون القرآن بالأسباب التالية:
1 ـــــــ إن آيات القرآن لا تستوعب جميع أحوال المستمعين.
2 ـــــــ إن القرآن محفوظ ومكرر على الأسماع، والتكرار من دواعي ضعف أثره في القلوب.
3 ـــــــ إن لوزن الكلام تأثيراً خاصّاً في النفس.
4 ـــــــ إن الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفوس بالألحان، والألحان من شأنها أن تغيِّر في أوزان الكلام فتمد المقصور وتقصِّر الممدود، وهذا غير جائز في القرآن.
5 ـــــــ إن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد إيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق، كالضرب بالقضيب والدف، وهذا ما يقوي التأثير في النفس، وهو لا يجوز في القرآن.
6 ـــــــ قد يغني المغنّي ببيت لا يوافق حال السامع، فينهاه، ويطلب أن يُغنّي بيتاً آخر، وهذا لا يجوز في القرآن.
7 ـــــــ إن القرآن صفة من صفات اللَّه تعالى، لأنه كلامه، ولو كشف للناس ذرةً منه لَما أطاقوا، ولَتحيَّروا، ودهشوا، بينما يوجد توافق بين الأشعار والألحان، لأنَّ فيهما جميعاً شيئاً من الحظوظ البشرية.
وهذه الأسباب التي أوردها الغزالي بعضها غير معقول، وغير مقبول، وبعضها الآخر تغلب عليه روح الاعتذار عن الصوفية، كما تغلب على معظم الناس في هذا الوقت روح تبرير الغناء والرقص والسُّكر وغيرها من الموبقات.. فإنه لو خطر لأحد ما أن يدافع عن كل باطل لوجد له كلاماً ميسوراً طيِّعاً وإن كان غير معقول وغير مقبول عند كثيرين غيره أما أن يُدفع الحقُّ بالباطل فهذا مما لا يتسنَّى له ولا يستقيم فيه كلام ولو كان الغزالي قد فنَّدَ وبنَّد وقسَّم ورقَّم دفاعاً عن شذوذ بعض الصوفيين... وأيّاً ما كان الأمر، فالصوفية في سماعهم آثروا الشعر على القرآن، واختاروه ليعبّر عن أحوالهم ومواجيدهم.. فقد استعانوا بالشعر الحسي في السماع، واضطلعوا بمهمة الرواية إلى جانب مهمة الإنشاء؛ وبذلك أصبحت مجالس السماع عند الصوفية، من بعض الوجوه، ندواتٍ للأدب الصوفي البعيد عن الدين كل البُعد..
ويتخذ الشعر الحسيُّ عند الصوفية معنىً دينياً ـــــــ كما يظنُّون ـــــــ أو تعبيراً عن الوجد.. فقد روى صاحب «مصارع العشاق» بأن صوفياً تواجد على أبيات لعبد الصمد بن المعذل وهي:
يا بديعَ الدَّلّ والغَنَـــــــــج لَكَ سُلطانٌ على المُهَج
إنَّ بيتاً أنتَ ساكِنُــــــــــــهُ غيرُ محتاجٍ إلى السُّرُج
وجهُكَ المأمولُ حجتُنا يومَ يأتي اللَّه بالحُجَـــــــجِ
ثم قال: والصوفية إذا قالوا: «وجهك المأمول» تقولوه إلى ما لَهُم في ذلك من المعاني وهو يقصد بذلك المعاني التي يضمرونها في نفوسهم.
ومثل الوجد كانت المناجاة عند الصوفية.. وقد نشأت هذه المناجاة أثناء الخلوات التي كان الصوفية يعقدونها، والتي كانت ذات تأثير كبير في نفوسهم؛ إذ كانوا يحرصون على أن تؤديَ الخلوةُ مهمتَها الكاملة وهي الارتفاع بالنفس إلى الملكوت الأعلى.. ولذا فقد رأوا أن المناجاة التي يردّدونها في خلواتهم، لا بدّ، ولكي يقوى تأثيرها، أن تكون ذات قيمة أدبية، فظهر في الشعر الصوفي لونٌ جديد أطلقوا عليه تسمية: المناجاة..
ومن الأمثلة على هذه المناجاة، ما قاله الشبلي:
مِحَنتي فِيكَ أَنَّنـــــــــــــي لا أُبالي بمِحْنَتِــــــــــــي
يا شفائي من السّقــــــا مِ وإنْ كنتَ عِلّتـــــــي
تُبتُ دَهراً فَمُذْ عَرَفـــــــ ـــــــتُكَ ضيّعتَ تَوْبَتي
قُرُبكُمْ مِثلُ بُعدِكُـــــــــــــمْ فمتى وقتُ راحتــــــــي
ومنها مناجاة النوري بقوله:
إنّي اتَّقيتُكَ لا مَهَـــــــا بَةَ مِنْ مُحاذرَةِ المَصيرِ
أنَّى وكيفَ وأنتَ لي إلْفٌ يفوقُ مَدَى السَّميرِ
نُوفي السرَّائِرِ سِرَّهــــا وَيَحُوط مكنونَ الضميرِ
لــكن أُجِلُّكَ أن أَجـــــــــ ـــــــلَّ سِواكَ للحظّ الحقيرِ
وأما الحب الالهي فقد كان له النصيب الأوفر في الشعر الصوفي، وقلّما تخلو مقطوعة صوفية من أثر ذلك الحب.. وقد رأينا كيف أنّ «الحب الإلهي» نشأ عند رابعة العدوية ثم راح يتطور يوماً بعد يوم، حتى صار «عشقاً إلّهياً».. ورأينا فعال ذلك «الحب» و«العشق» عند البسطامي والحلاج..
ونظراً لما كان للحب الإلهي من تأثير على الذوق الصوفي ومشاعر الصوفية فقد لعب دوراً هامّاً في أشعارهم حتى لَيمكن القولُ بأن كثرة هذه الأشعار إنما تعود بسببها إلى «الحب الإلهي»..
فهذا إمام العاشقين، ذو النون المصري (المتوفى سنة 245هـــــــ). كان من السباقين الأوائل إلى نظم الشعر الصريح في الحب الإلهي، وذلك عندما خاطب ربه قائلاً:
حبّــــــــك قــــــد أَرَّقَنــــــــي وزادَ قلبــــــي سَقَمَــــــــــــــــــــا
كَتَمْتُهُ فــــــي القلــــــــب والأحشاء حتى انْكَتَما
لا تَهتِكِ السِّتْرَ الـــــــ ـــــــذي ألْبَسْتَني تكَرُّمــــــا
ضيّعتُ نفسي سيدي فَـــــــــرُدَّها مُـــــــــــسَلّــــــمــــــــــا
ولكي يعبّر عن هواه الذي يحيله أقرب المقربين إلى (اللَّه تعالى) فإنه يقول:
اطــــلُبُــــــوا لأنفسِكـُـــــــم مثلَ ما وجدتُ أنا
قد وجدتُ لي سَكَناً ليس في هواه عَنَا
إن بَــــــعَدْتُ قَرَّبَنــــــي أو قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَــــا
ونحن نلاحظ أنَّ هذا الشعر لذي النون قد نظم على البحر القصير.. مثله مثل معظم الأشعار الصوفيّة التي نظموها على هذا البحر.. ولعلَّ هذا النظم ناتجٌ عن تأثير الانفعالات النفسية، والنزوات العاطفية، والأحوال الذوقية التي كانوا يعيشونها.. وهي انفعالات وأحوال كانت تعرض لهم أثناء ما يسمونه «السُّكر الروحي» بحيث لا تتوافر لهم القدرة على الصنع ليأتوا بالبحور الطوال، طالما أنهم في حالة معاناة متناهية من جراء تلك الأحوال...
والسُّكر الروحي عندهم هو نوع من الحب الذي برَّح بهم وجدُهُ حتى رأوه بمثابَة الشراب الإلهي..
كتب يحيى بن معاذ إلى البسطامي يقول: «سكرتُ من كثرة ما شربت من كأس المحبَّة».. فكتب إليه رادّاً:
»غيرُك شربَ بحار السماوات والأرض وما روي بعد، لسانه خارج من صدره وهو يصيح:
العطش.. العطش.. وأنشد البسطامي في ذلك:
عجبت لمن يقول ذكرتُ ربِّي وهل أنسى فأذكُرُ ما نَسيتُ
شربتُ الحبَّ كأساً بعـــد كأسٍ فما نفد الشرابُ وما رَوِيتُ».
وفي بيان تأثير كأس المحبة، قال أبو حفص النيسابوري: «من تجرع كأس الشوق يهيم هياماً لا يطيق، ولا يفيق منه إلاَّ عند المشاهدة».. وكان ذو النون يقول: «لم أرَ أجهل من طبيب يداوي (سكراناً) في وقت سُكره»!..
وقد أكثر المتصوفة من استعمال كلمة «سكر» حتى صارت من مصطلحاتهم الفنية.. وفي بيان شرحهم لحقيقة سكرهم، فرقوا بينه وبين الغيبة، فقالوا: «الفرق بين السكر والغيبة، أن الغيبة تكون بوارِدٍ من ذكر عقاب أو ثواب ينشآن من شدة الخوف، أو قوة الرجاء، وأما السكر فلا يكون إلاَّ لأصحاب المواجيد.. فإذا كوشِفَ العبدُ بنعوت الجمال، حصل له السكر، وطَرِبَ الروحُ، وهامَ القلبُ».. أي أن الغيبة حال أولئك الذين ينظرون إلى الآخرة فيعبدون اللَّه لأنهم يرجون رحمته ويخشون عذابه؛ بينما السكر فحالٌ خاصٌّ بأهل المحبة الذين تعلقت أرواحهم بالحق سبحانه، فوجدوا في مشاهدة جماله جنَّتهم، وفي حجبهم عنه عذابَهم..
إنَّ مثل هذه المقولة ليست إلاَّ نوعاً من الاصطلاحات الصوفية، ونحن لا نعلم كيف يستقيم معهم ذلك التفريق بين الحالين: الغيبة والسكر.. فلو حاولنا القبولَ ببعض ما يبدون لكان العقل يقضي بأن من يكاشَف بنعوت الجمال الربانيّ ينبغي له أن تأخذه الهيبة والخشية، وأن يضعف من تجلّي العظمة التي ما بعدها عظمة، كما صعق موسى(ع) عند جبل الطور من خششية اللَّه وخرَّ مغشياً عليه؛ كما ينبغي له أن يخشع قلبه وتلين نفسه، ويلفُّه جوٌّ إيماني رهيب كذلك الذي كان يلفُّ النبيَّ محمداً(ص) عند نزول الوحي عليه... أما أن يسكر من شدة الوجد، وينتشي بسكره ويتلذّذ!.. فهذا ادعاء عن حالةٍ ما رأوها ولا عرفوها.. والدليل على ذلك أنهم ادّعوا الحبّ الإلهي خيالاً وتصوراً لا يمتان إلى الواقع بصلة، وربَّما تبريراً لعواطفهم التائهة حتى نشأ عن ذلك الحب نوع من الغزل الصوفي الصريح.. كما جاء في غزل يحيى بن معاذ الرازي الذي يقول: إنه كان من أسبق صوفية القرن الثالث إلى الإنشاء في هذا الغزل الصوفي. كما يظهر ذلك في هذه الأبيات المليئة بالحب الصريح للَّه تعالى:
طربُ الحب على الحب مــــع الحــــــب يــــــــــــــــــــــــــدوم
عــــجبــــــاً مِمَّـــــــــــنْ رأينـــــــــــــــــــــا ه على الحب يلـــــــــــــــــوم
حـــــــــــــــول حــــــب اللَّه مـــــا عشت مع الشوق أحوم
وبه أقعـــــــد مــــــــــا عشـــــت حيـــــــــــــــــــــــاتي وأقــــــــــــــــــــــــوم
فهذه الأبيات واضحةٌ في الحب الإلهي والتفاني فيه؛ وقد اختار لها صاحبها بحراً قصيراً يتناسب «والسكر الروحي» الذي كان يهيم به الصوفية، فيجعلهم يطربون حتى تصبح لهم تلك الحال الخاصة بأهل المحبة = كما بيّناه= وكان الأجدر بهم أن يجعل الحبُّ قلوبَهم تخشع، ونفوسهم ترهب لعظمة الخالق وجبروته..
ويدلّل يحيى بن معاذ على حبه للَّه تعالى بقرائن يتوسَّلُها في أسماء اللَّه الحسنى، كما في قوله:
رضيتُ بسيدي عِوضاً وأُنساً مِنَ الأشياءِ لا أبغي سِواهُ
فيا شوقــــــــــاً إلى مَلِكٍ يرانـــــــــــي على ما كنت فيــــه ولا أراه
فالقرينة هنا هي باستعماله كلمة «ملك» للتدليل على ذكر المحبوب، باعتبار أنَّ هذا المحبوب يرى المحبَّ في كل حال، بينما هو لا يراه..
ويتناول يحيى بن معاذ حقيقة الحب الإلهي ـــــــ الذي كان يدّعيه ـــــــ في مقطوعة من خمسة عشر بيتاً، كما رواها صاحب «مصارع العشاق»، وذلك عندما يبدأها بقوله:
كلُّ محبوبٍ سوى اللَّه سَرَفْ وهمــــــــــــــومٌ وغمــــــومٌ وأَسَــــــــــــــــفْ
كل محبوبٍ فَمِنْـــــــــــهُ خَلَـــــــــــــفٌ ما خلا الرحمانَ ما مِنْهُ خَلَفْ
حتى يُظهر في آخرها حقيقة حبه، فيقول:
إنَّ ذا الحب لمن يَفْنى لـــــــــــه لا لــــدارٍ ذاتِ لهوٍ وطُــــــــــــــرَفْ
لا ولا الفردوسِ لا يألفُـــــها لا ولا الحوراءِ من فوقِ غُرَف
وهو في هذه المقطوعة، يبيّن أن المحبين للَّه سبحانه وتعالى، لا يحبونه خوفاً من عذابه، ولا رغبة في ثوابه، بل يحبونه لأنه ـــــــ سبحانه ـــــــ أهل للحب، ولأنهم لا يرجون إلاَّ مطالعة وجهه الكريم... وهو نفس النهج الذي اتبعه الصوفية كلهم ـــــــ في الحب الالهي ـــــــ من قبل، ومن بعد.. وهو نهج قد بيّنا خطأه باستمرار.. ولكن نضيف هنا، بأنَّ مثل ذلك الادعاء لا يعني إلاَّ هزء الصوفية بالجنة والنار.. وكأنهم يرفضون ـــــــ من حيث يعلمون أو من حيث لا يعلمون ـــــــ كلَّ ما جاء في القرآن الكريم من الترغيب بالجنة والترهيب من النار.. وهما الأمران اللذان صدع بهما جميع رسل اللَّه تعالى واحداً بعد واحد؛ وكانا في صميم كل رسالةٍ سماوية نزلت إلى العباد تبشر وتنذر.. فهم (الصوفية) إذن فوق القرآن وفوق أوامر الرحمن، وفوق جميع الأنبياء الذين طمعوا بالثواب والجنة، واستعاذوا من العقاب والنار، ومن سخط اللَّه العزيز الجبار... فتأمل!!...
وتبلغ تلك الصراحةُ مداها البعيد، في أواخر القرن الثالث، على يد الجنيد بن محمد، الملقب «بسيد الطائفة» والمتوفي سنة 298هـــــــ. إذ إنه تناول مسائل التصوف بالشرح والتفصيل، بالنثر وبالشعر على السواء، وذلك بأسلوب واضح، صريح، لا أثر فيه للرمز أو لإغلاق المعاني.. ومن الأمثلة على صراحته قوله في الاحتراق والتعذيب:
يا موقـــــــِدَ النار فــــــي قلبـــــي بقـــــــــــــدرتِهِ لو شِئتَ أطفيتَ عن قلبي بكَ النارَا
لا عارَ إنْ مِتُّ من خوفٍ ومِنْ حَذَرٍ علـــــى فِعالك بي لا عار، لا عـــــــــارا
وقد روى عنه جعفر الخلوي، أنه عندما أراد أن يصور حالة الجفاء، قال:
مالي جُفيتُ وكنت لا أجفى ودلائل الهجران لا تَخفى
وأراك تسقينـــــــي وتمزجُنـــــــــــــي ولقد عهدتُك شاربي صِرْفا
قد يكون هذا التصوير للجفاء مقبولاً مِنْ مُحبٍّ جافاه حبيبُه وساقيه، الذي كان يشرب ويسقيه، ويتواعد معه.. أما أن يخاطبَ به اللَّه عزَّ وجلَّ فتلك هي جرأة وقحة على اللَّه لم يسبق لها مثيل غير عند الصوفيين!...
ويقول الجنيد في معنى الجمع والتفرقة، وبصراحته المعهودة:
وتحققتُك فـــــــــــــي السّرِ فنــــــــــــاجاك لسانـــــــــــــــــــــــي
فاجتمعنا لمعـــــــــــــــــــــانٍ وافترقنـــــــــــــــا لمعانــــــــــــــــــــي
إن يكن غيَّبكَ التَّعـــــــ ـــــــظيم عن لحْظِ عِياني
فلقد صيَّــــــــــــرَك الوجدُ مـــــــــــــــن الأحشاءِ دانــــــي
ولعلَّ أهمَّ ما ألحَّ على بيانه شعراء القرن الثالث من الصوفية، هو اعتبارهم أنَّ حبَّ العبد للَّه تعالى يكون مِنَّةً يسبغها سبحانُهُ على من يشاءُ من عباده الصوفيين وحدهم ـــــــ وإن كان لم يَخُصَّ بها أنبياءه وصفوة خلقه!... وذلك التخصيص لهم شيء مُقدّر في الأزل.. أي أن اللَّه تعالى ـــــــ في عرفهم ـــــــ اختار لمحبته طائفةً من خلقه أحبَّهم قبل أن يحبوه، كما بيّن ذلك أحدهم بقوله:
وله خصائِصُ يكلَفونَ بِحُبّهِ اختارهم في سالِفِ الأزمانِ
إختارهم من قبلِ فِطرةِ خلقِهِ بــــــــــــــودائِعٍ وفـــــــــــــــوائِدٍ وبيـــانِ
ولكن مَن هُم أولئك «الخصائص»؟!... ولمَ وحدهم وقع عليهم الاختيار لتكليفهم بحب اللَّه سبحانه؟!... وكيف كان ذلك؟!. ولماذا؟!...
وما هي الودائع أو الفوائد؟ والبيان؟ وكلها خفيات على الناس!. لا نعرف شيئاً من ذلك وإن كنا نجزم بأنهم عرفوا بما لم يعرفوا.
ومثل هذا التخصص لطائفة معينة من الناس الذي سيطرت فكرته على الصوفية، نجد أيضاً أنَّهم خصّوا أنفسهم بفكرة الإخلاص في الحب الإلهي، وعدم التغيّر في هذا الحب، مهما تألبت الأحوال على أصحابه. ويعطي سحنون بن حمزة (المتوفى سنة 296هـــــــ) مثالاً على هذا الإخلاص، فينشد قائلاً:
وكان فؤادي خاليـــــــــــــاً قبـــــــــــل حبكـــــــــــــــــمْ وكان بذكر الخلق يلهو ويمـــرَحُ
فلمـــــــــــــــا دعا قلبـــــــــــي هواك أجابَــــــــــــــــــــهُ فلســــــــتُ أراهُ عن فِنائِـــك يبــــــــرحُ
رمُيتُ بِبَيْنٍ منك إن كنــــــــــــــــــــــت كاذبــــــاً وإن كنتُ في الدنيا بغيرها أفرحُ
وإنْ كان شيء في البــــلاد بأسرِهـــــــــــــــــــا إذا غبتَ عن عيني بعيني يلمحُ
فإنْ شِئتَ واصلني وإن شئت لا تصِلْ فلستُ أرى قلبي لغيرك يصلـــــــــحُ
ليس من عيب في هذه المقطوعة، سوى أن صاحبها خاطبَ ربَّه في مطلعها بصيغة التعظيم (حبكم) ثم سرعان ما تحوّل عن ذلك وكأنَّ الحجاب ارتفع بينه وبين خالقه فصَار يخاطبه بالإفراد.. وهذا يعني أن التكليف قد ارتفع بين «المحب والمحبوب»، فصارت المخاطبة ندّاً للندّ!..
ويتخذ الإخلاص في الحب طابعاً خاصاً عند السري السقطي (المتوفى 257هـــــــ). يتمثل بما رواه عنه ابن أخته الجنيد بن محمد البغدادي إذ قال: «سألني (السري) يوماً عن المحبة، فقلت: قال قوم هي الموافقة، وقال قوم الإيثار، وقال قوم كذا وكذا.. فأخذ (السري) جلدة ذراعه ومدَّها فلم تمتدّ، ثم قال: وعزتِهِ تعالى لو قلت: إن هذه الجلدة ليست على هذا العظم من محبته لصدقت، ثم غشي عليه» أوليس في هذا الانفعال العصبي طابع خاص للحب حقّاً، عندما نجده يظهر على هذا النحو من البراعة في فنّ التمثيل الذي أتقنه ذلك «السقطي»، ليرينا بأنه كان يلاقي من المحبة أهوالاً تلصق الجلد بالعظم، وبأنَّ المحبة الصادقة لا يمكن أن تكون إلاَّ كذلك.. وهذا في مفهومه شيء لا يعرفه إلاَّ المجربون من أهل الحب، لأنَّ:
من لم يبت والشوق حشوَ فؤادِهِ لم يدرِ كيف تفتّتُ الأكبادُ
ولنستمع إلى الجنيد في إكمال الدور التمثيلي، عندما يروي بأنه دخل يوماً على «السقطي» ليعوده، بعد أن اعتل، فقال له: «كيف نجدك؟» ـــــــ فقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بــــــي والذي قد أصابني من طبيبــــــي
ويتابع الجنيد: «فأخذت المروحة أروحه، ـــــــ فقال لي: كيف يجد رَوْح المروحة منْ جوفه يحترق من داخل، ثم أنشأ يقول:
القلب محترقٌ والدمع مستبــــــــــــــقٌ والكربُ مجتمعٌ والصبرُ مفترقُ
كيف القرارُ على من لا قرارَ له مما جناهُ الهوى والشوقُ والقلقُ
يا ربِّ! إن كان شيئٌ فيهِ لي فرجٌ فامنُنْ عليَّ به ما دامَ لي رَمَقُ»..
وإذا كان بعض الصوفية لم يتهيبوا الإعلان بصراحة عن حبهم للَّه سبحانه وتعالى، فنظموا شعرهم بأسلوب لا أثر فيه للرمز واتبعوا تلك الصراحة فترة من الزمن فقد عاد بعضهم فكفَّ عنها مؤثراً التلميح على التصريح أو استعمال الرمز كما فعل الشبلي بعد مقتل صاحبه الحلاج، إذ خاف على نفسه، من أن يحيق به العذاب نفسه، فاعتكف عن الصراحة ليستعمل أسلوباً في الحب الإلهي يمكن صرفه إلى الغزل الإنساني، كما في مثل قوله:
إذا ما كنتَ لي عيداً فمــــــا أصنعُ بالعيــــــــــــــــــد
جرى حبُّك في قلبـــي كجري الماء في العود
ومن قبيل ذلك ما روي عن الشبلي أيضاً من أنه كان يوماً في حلقته، فقال: «الحق يفنى بما به يبقى، ويبقى بما به يفنى، فإذا أفنى عبداً عن إيّاه أوصله به، وأشرفه على أسراره، ثم بكى وأنشأ:
لها في طرفها لحظات سحرٍ تُميتُ بها وتُحيي من تُريد
وتسبي العالميــــــــــن بمقلتيــــــها كـــــــــــــأنَّ العالمين لها عبيــد
ألاحظـــــــــها فتعلم ما بقلبــــــــي وألحَظُها فتعلمُ ما أريـــــــد».
وقد سأل يوماً أحدُهم الشبلي قائلاً: هل يتحقق العارف بما يبدو له؟
فأجابه: «كيف يتحقق بما لا يثبت، وكيف يطمئن إلى ما لا يظهر، وكيف يأنس بما لا يخفى؟ فهو الظاهر الباطن، الباطن الظاهر، ثم أنشأ يقول:
فمن كان في طول الهوى ذاق سلوةً فإنّي مِنْ لَيْلَى لها غيرُ ذائــــــــــــقِ
وأكبـــــــــــرُ شيء نِلتُهُ مِنْ وِصالِــــــــــــــــــها أمانيُّ لم تصدُقْ كلمحةِ بارقِ».
فالشبلي، كما هو معروف عنه، يتوخّى الحب، ويعبّر عن ذلك الحب بالغزل الإنساني، ولكنه في الحقيقة، وفي كل ما يرمز إليه من هذا الغزل، ليس له مرادٌ إلاَّ حبّ اللَّه كما هو حال أهل الصوفية في ادعائهم ذلك... وليس الشبلي وحْدَه، من استعمل ذلك الأسلوب الرمزي، بل إن كثيرين من الصوفية كانوا يعمدون إلى معاني الغزل الإنساني حين الكلام عن المحبّ، كما يعمدون إلى معاني الخمريات حين الكلام عن الحب نفسه. فمن قبيل ذلك ما قاله أحدهم: «إنَّ للَّه تعالى شراباً يسقيه في الليل قلوب أحبائه، فإذا شربوا طارت قلوبهم في الملكوت الأعلى حبّاً للَّه تعالى وشوقاً إليه»، ثم أنشد:
غرستَ الحبَّ غرساً في فؤادي فلا أسلو إلى يوم التنــــــــــادي
جرحــــــــتَ القلب مني باتصـــــال فشــــــــــــوقٌ زائـــــدٌ والحبُّ بـــــــــادِ
سقانــــــــي شربةً أحيــــــــــــا فـــــؤادي بكأس الحب من بحر الوداد
فــــــــلولا اللَّه يحفــــــــــــظ عارفيـــــــــــه لهَـــــــــــــــــامَ العــــــــــارفونَ بكل واد
ونحن لا ندري ـــــــ ولا حتى المنجم الذي يعيش على الخزعبلات يدري ـــــــ لماذا أحبَّ اللَّه ـــــــ سبحانه ـــــــ تلك الحفنة فقط من عباده، واختصَّها بشراب المحبة، وبالمعرفة، فحفظها من التياه والضياع، ولم يسبغ هذه النعمة على من اصطفاهم وفضّلهم على العالمين مثل إبراهيم(ع) وقد اتخذه خليلاً، وموسى(ع) وقد صنعه على عينه؛ وعيسى(ع) وهو «كلمته وروحه»، ومحمد(ص) وهو حبيبه المختار وخاتم أنبيائه الأبرار؟!...
إنَّ ذلك الادعاء علمُهُ عند ربي، وكفى بربنا ـــــــ عز وجلَّ ـــــــ شهيداً ووكيلاً..
ولنا أن نتساءل:
لماذا استعمل صوفية الرمز، ولِمَ كانت عندهم تلك النزعة من التستر والكتمان؟.
لعلَّ الأسباب التي حدت بهم إلى ذلك كثيرة، ولكنَّ أهمها يعود إلى تهيّب مشايخ الصوفية من إذاعة شعرهم الصريح، وخوفهم من نسبته إليهم، وذلك إمَّا لجرأة ما فيه من قول وهُجْرٍ على دين اللَّه تعالى، بما يجعل الفقهاء يهاجمونهم لأجله؛ وإمّا لأن الحالة التي يصوّرونها في شعرهم لا تتناسب والمكانة التي يحتلونها.. ذلك أن الجو العاطفي الذي يقال به الشعر، يقتضي في غالب الأحيان أن يصدر عن إنسان دهشٍ بحالة من الشعور معينة تدفعه لأن يقول ما يعبّر فيه عن مكنونات نفسه وخوالجها، وربما لا يكون ذلك متوافقاً مع المعتقدات السائدة في محيطه أو متناسباً مع الأوضاع العامة في بيئته، فيحاول أن يتنصَّلَ مما قال وينسبه إلى غيره.. من أجل ذلك نجد أن كثيرين من شيوخ صوفية القرن الثالث، وأكثر بكثير مما كان عليه الأمر في القرن الثاني، قد نسبوا ما قالوا من شعرٍ إلى طائفة دعوها بالمجانين. وقد غلب على شعر هذه الطائفة من المجانين طابع الحب الإلهي أكثر من أي طابع آخر، حتى قيل بأن الحب الإلهي هو العلة فيما أصابَ تلك الطائفة من وَلَهٍ وحيرة، فظنه الناس عندها جنوناً.
يروي السري السقطي عن واحدة من عقلاء المجانين قولها:
معشرَ الناس! ما جننتُ ولكن أنا سكـــــــــــرانة وقلبي صـــــــــــــــــــــاحِ
قد غَلَلْتُمْ يدي ولمْ آتِ ذَنْبـــــــــــــاً غيرَ هَتْكِي في حبّهِ وافتضاحي
أنــــــــا مفتونةٌ بحـــــــبّ حبيـــــــــــــــبٍ لستُ أبغي عن بابِهِ مِنْ بَـــــــرَاحِ
فصلاحي الذي رأَيتُمْ فَسَــــــادي وفسادي الذي رأيتُمْ صلاحـــــــــــــي
ويكثر ذو النون من الرواية عن هؤلاء المجانين لأنه كان يقصدهم في مظانِّهم. فقد قصد واحداً من أهل المعرفة في جبل اللكام، فقيل له، إنه مجنون. فلما جاءه وجده شاخصاً بَصَرَهُ وهو يقول:
أعميتُ عيني عن الدنيا وزينتها فأنتَ والروحُ شيءٌ غيرُ مفترقِ
إذا ذكرتُك وافى مقلتـــــــــــــــــي أرَقٌ مِنْ أولِ الليلِ حتى مطلعِ الفَلَقِ
وما تطابقتِ الأجفانُ عن سَنَـــةٍ إلاَّ رأيتُكَ بَيْنَ الجَفنِ وَالحْـــــــــــــدَقِ
ويروي ذو النون عن مجنون لَقِيَهُ ببيت المقدس، قولَه:
هجرتُ الورى في حبِّ مَنْ جاء بالنِّعَمْ وعِفْتُ الكرى شوقاً إليه فلم أنَمْ
ومَوَّهتُ ذكري بالجنونِ عـــــــن الــــــــــوَرىَ لأكتُمَ ما بي من هواه فما انكتَمْ
فلــــــــــــما رأيتُ الحــــــــــــبَّ والشـــوقَ بائِحــــاً كشفتُ قناعي ثم قلتُ: نعمْ، نعمْ
وهكذا يبقى عقلاءُ المجانين مجهولي الأسماء عند من يحدِّثون عنهم.. فالسقطي يروي عن واحدة؛ وذو النون عن كثيرين، ومثلهما ما رواه الحسين بن يوسف عن قصة شاب منهم، إذ يقول: «كنت قاعداً بين يدَي ذي النون، وحوله ناس، وهو يتكلم عليهم، والنَّاس يبكون، وشاب يضحك.. فقال له ذو النون: ما لك أيها الشاب!.. الناسُّ يبكون وأنت تضحك؟ ـــــــ فأنشأ يقول:
كُلُهم يعبدونَ من خوفِ نـــــــــــــــارِ ويَرَوْنَ النجاةَ حَظّاً جزيلا
ليس لي في الجنانِ والنارِ رأيٌ أنا لا أبتغي بحبي بديـــــلا
فقيل له: فإن طردك، فماذا تفعل؟
فقال:
فإذا لم أجد من الحب وصْلاً رمتُ في النارِ منزلاً ومقيلا
ثــــــــــم أزعجـــــــتُ أهلَـــــها ببكائي بُكرةً في ضَرَامِهَا وأَصيـــــــــلا
معشرَ المشركين نُوحوا فإنّـــي أنا عبدٌ أحببتُ مولى جَلِيـلا
لمْ أَكُنْ في الذي ادعيتُ محقاً فَجَزاني بِهِ العذابَ الطويلا؟!
والروايات عن العقلاء المجانين منتشرة في أكثر الكتب الصوفية. وقد كثرت التراجم عنهم بصورة خاصة في كتاب «صفوة الصفوة» لابن الجوزي... ومهما تكن الاعتبارات لوجود تلك الروايات والتراجم، فإنها أدت غرضَها بشكل تام، إذ أمكن لمشايخ الصوفية من خلالها، أن يذيعوا آراءهم وينشروها بين الناس، ولكن بتلك الطريقة التي ابتدعوها، والتي من شأنها أن حفظت لهم مكانتهم، ولم تجعل الثائرة تثور عليهم بعد أن انكشف أمرهم.
ويبقى أخيراً موضوع الاتحاد باللَّه وما أنشأوا فيه من شعر..
فقد تغنّى الصوفيون جميعاً بالحب، كما رأينا، حتى أصبح عندهم مذهباً سماويّاً، بعد أن كان شكلاً أرضياً، وصار كياناً أزليّاً دائماً بعد أن كان متغيِّراً غير ثابت..
وينطلق الصوفي في هذا الحب حتى يتحقق له الاتحاد باللَّه ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ وتبدأ حالة الشعور بالاتحاد عند الدخول في مرحلة «الجمع» أو «سُكر الجمع» كما يسمِّيه البعض، أو «المحو» كما يعبِّر عنه البعض الآخر... وهو حالة الغيبة وفقدان الحس بالأشياء، والنفس أيضاً.. وهو يطابق حالة الفناء.. ويترتب على هذا الفناء عن النفس بقاءٌ في اللَّه، وهنا «يعزل المحب نفسه عن صفاتها بأن ينظر كأنه بمثابة النظر لا الناظر، ويسمع ويعي كأنه بمثابة السمع والوعي لا السامع والواعي، ويتكلم كأنه بمثابة الكلام لا المتكلم.. وذلك كله لكي يصبح المحب الذي استحال إلى نظر وسمع ووعي ولسان (عينَ المحبوب) في مقام «الجمع».. ولذلك قال الصوفية: الجمع ما سلب عنك»..
ويعبّر عن ذلك صوفي فيقول:
ذكـــــــــــــــرتُك لا أني نسيتك لمحــــــــةً وأيسر ما في الذكر ذكرُ لساني
وكدتُ بلا وجدٍ أموتُ من الهوى وهــــــــــامَ عليَّ القلبُ بالخَفَقــــــــــــــــانِ
فلما أراني الوجدُ أنك حاضــــــــــري شَهِدْتُـــــــــــكَ مــــــــوجوداً بكل مكــــانِ
فخــــــــــاطبتُ مــوجوداً بغير تَكَلُّــــــــم ولاحظـــــــــــتُ مَعْلوماً بغيرِ عِيــــــانِ
ولعلَّ ابن الفارض هو أكثر شعراء الصوفيَّة إنشاداً. فهو الذي غنَّى الحب، وهو الذي جمع المحبين تحت لوائه، وجنَّدَهم تحت قيادته.. فالحب بنظره هو إمامه، لأنه يفقِّه الانسانَ ويرفعه، وهو الذي ينقذه من ظلمات الجهل.. والحب أيضاً عنده هو الحياة، والحياة هي أن ترى اللَّه، وتتحد به، ولذلك كان الحبُّ ملَّته، ودينه الذي يدين به، فإن مالَ عنه مال عن حياته كلها...
وما دام الحب عند ابن الفارض هو دينه وعقيدته وجوهره، فهو إذاً سبيله إلى المعرفة الكبرى، والوصول إلى اللَّه، ثم الاتحاد به حتى يصبح وإيّاه واحداً.. وحين يتحقق هذا الاتحاد باللَّه والفناء به، تحصل النشوة القصوى والسعادة العظمى..
ويصف ابن الفارض حاله من الغبطة والسعادة عندما يسمع بذكر الحبيب، فيسكر، ويغيب عن الوجود الأرضي، حتى يصحو مرة أخرى بعد «المحو» فتتوحَّدُ لديه الأسباب، وتتجرد النفس، وتسعد بسمّوها وقدرتها الإلهية، فيقول في ذلك:
فيغبط طرفي مسمعــــــــي عنـــــــد ذكرهـــا وتَحسدُ ما أغنيتُ مني بقيّتــــــــــــــــــــــي
وعانقت ما شاهدتُ في محو شاهدي بمشهده للصحو من بعد سكرتــــــــي
ووحــــــدت في الأسبـــــاب حتـــى فقدتهـــا ورابــــطـــة التوحيد أجــــــــــدى وسيلـــــــةِ
وجــــــــردت نفســــــــــي عنهمــــــا فتــــــجردت ولـــــــــــم تكُ يومـــــــــــــاً قطُّ غيرَ وحيدةِ
وهذا التجريد، عند ابن الفارض، يجعله متحرراً من المادة كلياً حتى يصبح جمالاً غير محسوس، وغير ملموس، وجوهراً يشعر به القلب، وتصعد إليه النفس لتتحد به، فيصبحان واحداً.. وفي ذلك يقول:
فدهشت بين جماله وجلالــــــــــــــــــــه وغدا لسانُ الحال عني مُخبــــــرا
فأدرْ لحاظَكَ في محاسن وجهه تلقى جميعَ الحسنِ فيه مصوَّرا
وهكذا نجد أن ابن الفارض يبحث دائماً عن اللَّه ليقترب إليه، ويتحد به، ويفنى فيه فناءً مفارقاً، ويصبح قادراً على كل شيء.. فهو يرى في ذلك ذاته بذاته، وأن كل ما كان من صلاة أو حجّ فقد كان له هو، ومُوجَّهاً إليه؛ لا بل إنَّ روحه هي سبب للأرواح كلها، فلا شيء في الكون إلاَّ من فيض طينته، كما يصرح بذلك، دون أي وجل أو خوف، عندما يقول:
وها أنا أُبدي في اتحـــــــــــاديَ مبدئــــــــــــي وأُنهـــــــــــي انتهائي في تواضُــــــــعِ رِفعتــــي
ففي الصحو بعد المَحوِ لم أكُ غيرها وذاتــــــي بـــــــــــذاتي إذ تجلّـــــــتْ تجلَّـــــــــــــــــت
وبـــــــــــــي موقفي لا بل إليَّ تَوجُّهـــــــــــــــي كــــــــــذاك صلاتي لــــــــــــي ومني كعبتــــــــي
وروحيَ لـــــــــلأرواحِ روحٌ، وكــــــلُّ مــــــــــا تَرَى حَسَناً في الكونِ من فيضِ طينتي
ولا يحيد ابن الفارض عن رأيه، في ادعاء الألوهية، بل يرى أنه هو مسيّر الأكوان كلها، عندما يقول:
وما سار فوق الماء أو طار في الهوا أو أقــــحَمَ النيران إلاَّ بهمَّتـــــــــــــــــــي
ومِنّــــــــــــيَ لــــــــو قامـــــــــــــت بِمَيْتٍ لطيفــــــةٌ لـــــــــــــردَّتْ إليه نفسَهُ وأُعيــــــــــــــــــدَتِ
ولا نـــــــــــــــــاطقٌ غيـــــــــــــــري ولا ناظِـــرٌ ولا سميعٌ سوائي مِنْ جميع الخليقة
وأنجُمُ أفلاكي جَرَتْ عــــــن تَصــــــــــــرُّفي بملكــــــــــي وأملاكي لملكي خَرَّت
أي أنه، وبمثل ذلك التصور الأرعن، يرى نفسه «الإاله» القادرَ على كل شيء، العالمَ بكل شيء، ويزعم أنَّ الكائنات بأسرها إنما تَرِثُ عنه الكمال، فيقول في ذلك:
فلا حيَّ إلاَّ عن حياتـــــــــــــي حياتُـــــــــهُ وطوعُ مرادي كلُّ نفسٍ مريدةِ
ولا قائـــــــــلٌ إلاَّ بلفظــــــــــــــــي محـــــــــدّثٌ ولا ناظــــرٌ إلاَّ بناظِرِ مقلتـــــــــــي
ومن لم يَرِثْ عني الكمال فنــــاقص على عقبيه ناكس في العقوبةِ
ولتصوير ألوهيته، فإنَّ ابن الفارض يستعمل ألفاظَ القرآن الكريم، وصفاتِ اللَّه تعالى، ولكنْ بأسلوبه الرخيص الذي يقول فيه:
أنا النورُ المبيـــنُ أنا الحقُّ اليقيــــــــــــــنُ
أنا القـــــرآنُ أُتلــــى أنا الحبل المتيـــــــــنُ
أنا عرشُ التجلّي أنا الروح الأمين..
وتختلط عليه الأمور، حتى يرى نفسه أنه «الإله»، وأنه القرآن، وأنه الدين، وأنه العرش، وأنه جبريل الأمين!..
فهلاَّ قرأت وتأملت أيها القارىء العزيز؟!..
نريدك أن تحكم بعين العقل على ذلك المارق، الكافر، المخادع..
فباللَّه، كيف يمكن لابن الفارض أن يكون هو «الإله»، بينما هو في واقعه، وحقيقة وجوده، يعيش في صوفية، وفي مِدْرَعةٍ قذرة بالية، محشوةٍ قملاً وبراغيث، يتمرّغ بدار النسك والحرمان!..
لا أيها المتوهم القاصر، المهين، الذليل، إنَّ اللَّه تعالى لبس الكبرياء رداءً، والعزَّة جلباباً، ومن صفاته الجبروت والعظمة، والقدرة...
لا أيها البشري الضعيف، الفاني، الفائت، إنَّ اللَّه تعالى هو وحده النور المبين، والحق اليقين، والقرآن قوله تعالى، وكتابه المبين، وفيه دينه القويم المتين، وهو وحده صاحب العرش العظيم، وبأمره كان يتنزل الروح الأمين، جبريل(ع)، وهو الحق، والروح الأمين... إن هذه حقّاً بعض صفات اللَّه تعالى، وهي صفات لا يمكن أن تكون إلاَّ للَّه الواحد الأحد، الفرد الصمد، وخسىء أي بشري يمكن أن يتصور لنفسه صفة من هذه الصفات.. وهل يمكن لصاحب عقل أن يدّعي ما ادعاه ابن الفارض، وهو يعرف أنه لا بدّ وأن يسجّى يوماً بين يدي الملك عزرائيل(ع)، ليقبص روحه وينقلها إلى حيث يشاء اللَّه؟!...
ليس المقصودُ حقيقةً التعليق على ما قالَهُ ابن الفارض بقدر ما نبتغي لفت النظر إلى ما ذهب إليه كي يقرأه كل مؤمن بل وكل إنسان بإمعان، فيتأمل في تلك الافتراءات على اللَّه كذباً، وفي تلك الادعاءات شططاً، التي قال بها ابن الفارض وغيره من أمثالِهِ، فلا يقع فريسةً «لعذوبة قولهم، ولا يَغُرَّنَّهُ قولٌ مُنَمَّقٌ فيه خبث ودهاء أكثر مما فيه أيُّ شيء آخر، ومن ثَمَّ فلا يتوهَّمُ بعض المؤمنين الصادقين، طيبي القلوب، أن تلك الادعاءات والشطحات هي الطرقُ الصحيحةُ إلى حقيقة وجود اللَّه عز وجل!..
ثم يأخذ صوفيٌّ آخر عن ابن الفارض تلك النزعة في الادِّعاء، حتى يصلَ إلى ما وصَلَ إليه سلفهُ، وهذا الصوفي يعتبرُ من أشهر الصوفية في عصره، وهو عبد الغني النابلسي.. إذ نظم مواجيده الإلهية في ديوان سمَّاه: «ديوان الحقائق ومجموع الرقائق في صريح المواجيد الإلهية».. ففي هذا الديوان قصائدُ كثيرة عن الحب الإلهي، وكلها تدور حول المعاني التي قال بها الصوفية؛ إلاَّ أنه حين يصل ـــــــ بوهمه ـــــــ إلى الاتحاد باللَّه سبحانه وتعالى يتخذ لنفسه، هو الآخر، صفة الألوهيَّة، فيقول:
أنا صاحبُ الأمرِ الإلهــي أنــــــــا آمِـــــــــرٌ أبــــداً وناهــــــي
أنا ذو العيونِ وذو الوجوهِ وذو النفوسِ بلا تناهي..
ولِمَ تلبَّس «صاحبُ الأمر الإلهي» بهذا الوجه الكالح الذي لا يستحي ولا يخجل؟... وكيف بنا لو كلَّفْنا هذا «الآمرَ الناهي» أن يخلق ذُبابةً، أو أن يمنع بعوضةً أن تهشم أنفه؟. أم كيف حالهُ إذا سألناه وهو «ذو العيون عمَّا وراءَ جدار بيتِه»؟؟؟
نعم.. لقد ساء ذو الوجهين واللسانين. فكيف «بذي الوجوه» التي يقبِّحها اللَّه ويقبِّحها الناس!!!
ثم إن لنا أن نسألَه هو وأمثالَهُ من الصوفية:
وهل ينتهي دور أحدكم إذا غالبته المنون؟.
إذن فأين هو الاتحاد = الذي تدّعون = والموت ملاقيكم، وهو حق لا ريب فيه؟.
أم أنَّ ما تدّعون عن «الاتحاد» ليس إلاَّ باطلاً بباطل، وكذباً بكذب؟ وهذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها.
وهكذا نرى كيف أن بعض مشايخ الصوفية وصَلَ بهم الشطط إلى حدّ الادعاء بما ادّعوهُ مما هو في منتهى الزلل والخطأ.. إذ لا ريب بأنَّ نَزغاً من الشيطان، لا مسّاً من الجنون ـــــــ قد أصابَ عقول أولئك المدَّعين، حتى ظنوا ظنونهم تلك، وقالوا ما قالوا من شعرٍ يعبِّر عن تلك النزغة الشيطانية الوقحة الجريئة على قُدس أقداس القدرة الإلهية...
ومهما يكن من أمر، فإننا نرى بأن الصوفيين على تنوعهم، واختلاف توجهاتهم، وفي جميع مراحل التاريخ، كانوا يتَّخذون من الحب الإلهي مذهباً يدينون به، ويعيشون من أجله.. لا يأتمرون في ذلك بأمر ناصحٍ، ولا ينتهون بنهي عالم، بل يقولون، وينظمون، ويفعلون ما يحلو لهم، تبعاً لأهوائهم ورغباتهم.. غير مُبالين بما يقّره الإسلام، أو يرضى عنه اللَّه ورسولُهُ، لأنهم كانوا أبعدَ الأبعدين عن اللَّه تبارك وتعالى وعمَّا جاء به رسوله الكريم صلّى اللَّه عليه وآله وسلَّم...

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢