نبذة عن حياة الكاتب
الثقافة والثقافة الإسلامية
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٧١١
تاريخ النشر : ١٩٩٣
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقدمة
المفاهيم والمعلومات
السّلوكُ
العقليّة والنفسِيّة
السِّيادَةُ للأمّةِ والأمّةُ مَصدرُ السُّلطاتِ
الشرِكة
التّشريح
صِلةُ الأرحام
تعريف الثقافة والفَرْقُ بينَها وبَيْنَ العِلم والمعرفة
الثقافة الإسلامية
طريق الإسلام في دَرس الثقافةِ الإسلامية
نظرة المسْلمينَ إلى الثقافاتِ الأجنبية
الفَرق بين التأثير والانتِفاع
التفسير
كيف يُفَسَّر القرآن الكريم؟
عِلم الحّدِيث
الحَدِيث
رِواية الحَدِيث وأقسامه
خبر الآحَاد
أقسام خبرَ الآحاد
الفرق بين القرآن والحَديث القدسي
ضعف سند الحديث لا يقتضي ردّه مطلقًا
التاريخ
الفِقه
نشوء الفِقهِ الإسلامي
أثر الخلافاتِ بَين المسلمين
هُبوط الفِقهِ الإسلامي
خرافة تأثير الفِقه الرّوماني في الفِقهِ الإسلامي
الإسْلام ثابت لا يتغيّر ولا يتطوّر بتغيّر الزمان والمكان
الأهداف العُليا لِصيانةِ المجتمع الإسْلاميّ
العقوباتُ في الإسْلام
العقوبَاتُ والبيّنات
العقيدة وخبر الآحاد
السَّبَب
الشرط
المانِع
الصّحَة والبُطلانُ وَالفساد
بعض الأحكام الشرعية
حُمِلَ الإسْلامُ بِثَلاثة بِكِتابِ اللهِ و سُنَّةِ رَسُولِه وَاللغَةِ العَرَبيَّة
ما لم يعمل به من مفهوم المخالفة
النهي عن التصرفات والعقود
التخصيص بالأدلة المنفصلة
أفعالُ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم
النصُّ والظَّاهِر
السنة
الإجْمَاع
القياس والعِلّة المنصوصة
القياس
العِلّة
شرعُ من قبْلَنَا هل هو شرعٌ لنا؟
القاعدة الكلية
الاصطلاح والتقديرُ والعُرف
الأصلُ في الأفعَالِ التقيُّد وفي الأشياء الإباحة
الخاتمة

أفعالُ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم
أفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أقسام:
أحدها: الأفعال الجِبْلية، أي الأفعال التي من جِبْلة الإنسان وطبيعته أن يقوم بها وذلك كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه، فهذه لا نزاع في كون الفعل على الإباحة بالنسبة له صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته.
الثاني: الأفعال التي ثبت كونها من خواصه لا يشاركه فيها أحد، وذلك كاختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب الضحى والوتر والتهجُّد بالليل أو تعدد الزوجات إلى ما فوق الأربع ونحو ذلك مما ثبت أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا لا نزاع في أنه لا يجوز الاقتداء فيها بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لأن ذلك مما اختص به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ما ليس من الأفعال الجِبْلية وليس مما اختص به صلى الله عليه وآله ولم. أي سائر الأفعال، وهذه لا نزاع في أننا مأمورون بالاقتداء فيها بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا نزاع في أنها دليل شرعي كأقواله وسكوته، فيجب العمل به لأنه فعل، لقوله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (سورة الأحزاب: الآية 21) ولقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (سورة يونس: الآية 15) وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} (سورة الأعراف: الآية 203). وهذا صريح وواضح وظاهر في العموم فيشمل كل ما يقوم به الرسول من أعمال كما يشمل الأقوال ويشمل السكوت.
ولذلك كان اتباع الرسول في جميع أفعاله التي صدرت عنه مما ليس مختصًا به ومما ليس من الأفعال الجِبْلية واجبًا على كل مسلم لأن الرسول لا يَتَّبعُ إلَّا ما يُوحى إليه.
غير أن وجوب اتِّباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يعني وجوب القيام بالفعل الذي فعله بل يعني وجوب الاتِّباع حسب الفعل فإن كان الفعل مما يجب، كان القيام به واجبًا، وإن كان القيام به مما يُندب إليه، كان القيام به مندوبًا، وإن كان الفعل مباحًا، كان القيام به مباحًا. فالاتباع واجب حسب ما جاء به، وهو مثل اتِّباع أوامر الرسول: فالله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة النور: الآية 63). فدل ذلك على وجوب طاعة الرسول فيما يأمر به وعلى وجوب القيام به حسب ما أمر به. فإن أمر به على الوجوب كان القيام بعد واجبًا، وإن أمر به على النَّدب كان القيام به مندوبًا، وإن أمر به على الإباحة كان القيام به مباحًا. وكذلك أفعاله صلى الله عليه وسلم يجب اتِّباعها ولكن القيام بها حسب ما جاءت به الأفعال. أما متى يدل الفعل على الوجوب ومتى يدل على النَّدب ومتى يدل على الإباحة، فإن ذلك فيه تفصيل، إذ يُنظر في الفعل فإن كان قد اقترن به دليل يدل على أنه بيان خطاب سابق فإنه يكون بيانًا لنا، وذلك كأن يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قولًا صريحًا بأن هذا بيان لكذا، كقوله: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي» وكقوله: «خُذوا عنِّي مناسِكَكُمْ» أو كأن تكون قرائن الأحوال تدل على ذلك، كما إذا ورد لفظ مجمل، أو عام أريد به الخصوص، أو مطلق أريد به التقييد، ولم يبيِّنه قبل الحاجة إليه، ثم فعل عند الحاجة فعلًا صالحًا للبيان، فإنه يكون بيانًا.
فهذه الأفعال التي هي بيان لنا، أي بيان لخطاب سابق من آية أو حديث تأخذ حكم المبيَّن فإن كان المبيّن فرضًا كان القيام بالفعل فرضًا، وإن كان المبيَّن مندوبًا كان القيام بالفِعْلِ مندوبًا، وإن كان المبيَّن مباحًا كان القيام بالفِعْلِ مباحًا.
وأما ما لم يقترن بالفعل، وبما يدل على أنه للبيان لا نفيًا ولا إثباتًا، أي لم يقترن بالفِعْلِ دليل يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق، فإن كونه فرضًا أو مندوبًا أو مباحًا يحتاج إلى قرينة، إذ يكون حينئذ مثل طلب الفعل. فإنه لمجرد الطلب ويحتاج إلى قرينة تعيِّن كونه طلب فعل جازم أو طلب فعل غير جازم أو تخيير، وكذلك الفعل الذي لم يقترن به ما يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق يحتاج إلى قرينة تعيِّن كون القيام به واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا.
وبحسب هذه القرينة يكون حكم القيام به.
غير أنه من استقراء الأفعال التي لم يقترن بها ما يدل على أنه قصد بالفعل بيان خطاب سابق يتبيَّن أنها نوعان: أحدهما ما يظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى، والثاني ما لا يظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى.

فأما الفِعْلُ الذي يظهر فيه قصد القربة فإن القيام به مندوب، وذلك أن كونه مما يُتقرب به إلى الله قرينة على ترجيح الفعل على الترك، وكونها قرينة ترجيح ظنية لا قرينة ترجيح قطعية دليل على الطلب غير الجازم، ومن هنا كان مندوبًا وليس واجبًا.
فالقرينة هي التي عينت كونه طلب فعل غير جازم، أي عينت كونه مندوبًا.
وأما الفعل الذي لم يظهر فيه قصد القربة فإن القيام به مباح. وذلك أن كون الرسول فعله يدل على الطلب، وكونه ليس مما يتقرب به إلى الله لا يدل على الترجيح بل يُفهم منه عدم ترجيح الفعل على الترك، فإذا قرن هذا مع دلالة الطلب كان الطلب طلب تخيير، أي كان مخيرًا بين فعله وتركه وذلك هو المباح.
وهناك من يقول: إن القيام بالفعل الذي فعله الرسول واجب ويستدلون على ذلك بالكتاب والسنَّة وإجماع الصحابة. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} (سورة الأعراف: الآية 158) فقد أمر الله بمتابعته، ومتابعته امتثال القول والإتيان بمثل فعله، والأمر للوجوب فيجب القيام بالفعل. وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} (سورة آل عمران: الآية 31) فإنه يدل على أن محبة الله مستلزمة للمتابعة ومحبة الله تعالى واجبة إجماعًا، ولازم الواجب واجب، فتكون المتابعة واجبة. وأيضًا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (سورة النور: الآية 63) فحذَّر من مخالفة أمره، والتحذير دليل الوجوب، والأمر يُطلق على الفعل كما يطلق على القول. وأيضًا قوله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (سورة الأحزاب: الآية 21).
فإن منطوقه أن الأُسوة لمن كان يؤمن، فربطها بالإيمان، أي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فله في رسول الله أُسوة حسنة، ومعناه أنه من لم يتأسَّ به لا يكون مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر وهذا قرينة على الطلب الجازم وهو دليل الوجوب. وأيضًا قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (سورة النور: الآية 54) أمْرٌ بطاعة الرسول، والأمر للوجوب، ومن أتى بمثل فعل الغير على قصد إعظامه فهو مطيع له، فيكون القيام بالفعل واجبًا. فجعل فعله تشريعًا واجب الاتِّباع، وهذا يدل على أن فعله واجب الاتِّباع.
وأما السنة ما روي عنه أنه لما سألته أم سلمة عن بَلِّ الشَّعر في الاغتسال قال: «أما أنا فيكفيني أن أحثوَ على رأسي ثلاث حَثْيات من ماء» وكان ذلك جوابًا لها.
وأما الإجماع فلأن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل من الجماع بغير إنزال فسأل عمر رضي الله عنه السيدة عائشة فقالت فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاغتسلنا فأجمعوا على الوجوب.
والجواب عن كل هذه الأدلة ينحصر في نقطة واحدة هي أن هناك فرقًا بين الاتِّباع وبين القيام بالعمل، أي هناك فرق بين اتِّباع الرسول وبين القيام بما فعله الرسول فاتباع الرسول واجب ولا كلام ولا خلاف في ذلك، ولكن القيام بالفعل الذي يجب اتِّباع الرسول به يختلف باختلاف الفعل، فإذا كان الفعْلُ مباحًا فإن الاتباع فيه اتِّباعٌ في المباح، أي أن يخيَّر الإنسان بين فعله وتركه، ففي هذه الحالة هذا هو الاتباع، فإذا أوجب على نفسه فعله وجعله واجبًا لا يكون متبِعًا للرسول بل يكون مخالفًا له، فالاتِّباع إنما يكون بالقيام به حسب ما جاء به الفعل، فإن جاء به واجبًا كان القيام به واجبًا، وإن جاء به مندوبًا كان القيام به مندوبًا، ولا يأثم إن تركه، وإن جاء به مباحًا كان القيام به مباحًا فيتَّبعه بالفعل حسب ما جاء به الفعل، وإن خالف ذلك كان غير متَّبع. والأدلة السابقة كلها أدلة على الاتِّباع لا على القيام بالفعل، ولذلك لا تصلح دليلًا على أن القيام بالفعل الذي فعله الرسول واجب، فيسقط الاستدلال بها على الوجوب. وهذا نظير الأمر، فإن الأمر ليس للوجوب، فليس كل ما أمر الله به واجبًا، وإنما يختلف باختلاف القرائن. فقد يكون ما أمر به واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون مباحًا، والواجب في الأمر إنما هو طاعة الأمر وليس القيام بما أمر به، وطاعته إنما تكون حسب ما أمر به فإن أمر به على سبيل الإباحة كان القيام به مباحًا، وإيجاب المباح ليس طاعة للآمر بل مخالفة لما أمر، وكذلك اتِّباع الرسول في أفعاله إنما يكون حسب ما جاء به الفعل.
وهناك من يقول: إن القيام بالفعل الذي فعله الرسول مندوب، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (سورة الأحزاب: الآية 21) فإن وصف الأسوة بالحسنة يدل على الرجحان والوجوب منتفٍ لكونه خلاف الأصل، ولقوله: {لَكُمْ} ولم يقل عليكم فتعيَّن النّدب.
والجواب على ذلك أن المراد بالتأسِّي به في فعله أن نوقع الفعل على الوجه الذي أوقعه هو صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنه لو صلَّى واجبًا وصلَّينا متنفلين أو بالعكس فإن ذلك لا يكون تأسِّيًا به. فالتأسي هو القيام بالفعل على ما قام به هو صلى الله عليه وآله وسلم وهذا واجب وليس بمندوب وقوله: {حَسَنَةٌ} وصف للأسوة أي تأسٍّ حسن وليس هو دليل النَّدب. والتأسي واجب وتدل الآية على أنه واجب بدليل قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (سورة الأحزاب: الآية 21)، فقد قال: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} (سورة الأحزاب: الآية 21) فو قرينة تدل على وجوب التأسي. غير أن التأسي هنا لا يُفهم منه وجوب القيام بالفعل وإنما وجوب الاتِّباع، وبما أن ما فعله لم يثبت كونه واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا إلّا بالقرينة، فإن القيام به لا يكون واجبًا إلّا إذا ثبت بالقرينة أنه واجب، وعليه فإن الآية تدل على الاتِّباع ولا تدل على القيام بالفعل فلا دلالة فيها على أن القيام بالفعل مندوب.
وهناك من يقول: إن القيام بالفعل الذي فعله الرسول مباح وليس بواجب ولا مندوب، وقد استدلوا على ذلك بأن فعله لا يكون حرامًا ولا مكروهًا لأن الأصل عدمه، ولأن الظاهر خلافه، فإن وقوع ذلك أي المحرم والمكروه من آحاد عدول المسلمين نادر فكيف من أشرف المسلمين؟ وحينئذ فإما أن يكون واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا والأصل عدم الوجوب، والنَّدب لأن رفع الحرج عن الفعل أو الترك ثابت، وزيادة الوجوب أو الندب لا تثبت إلَّا بدليل ولم يتحقق فتبقى الإباحة. والجواب على ذلك أن فعل الرسول المجرد، لما لم يظهر فيه وجوبٌ أو ندبٌ فهو مباح وهو ليس مما يطلب الاقتداء به، وكون الرسول فعله معناه أنه طلب فعله فيكون الطلب طلب تخيير، وذلك هو المباح. وأما ما عداه فإن القرينة عيَّنت كونه واجبًا أو مندوبًا، وعليه فإن حصر أفعال الرسول صلى الله وعليه وآله وسلم بأنها إنما تدل على الوجوب أو النَّدب أو الإباحة ولا تدل على الحرام ولا على المكروه صحيح، ولكن حصرها في الإباحة هو الغلط، لأن القرائن هي دليل الوجوب أو الندب وقد تحققت فيما ظهر فيه قصد التقرب به إلى الله تعالى ولذلك كان مندوبًا، ولو تحققت قرينة تدل على الوجوب لكان واجبًا. ومن هذا كله يتبيَّن أن أفعال الرسول لا تدل على الوجوب ولا على الندب ولا على الإباحة، ولا على مجرد طلب الفعل إلّا بالقرينة التي تعين كونه واجبًا او مندوبًا أو مباحًا. وهذا في الأفعال التي لم تأت بيانًا لخطاب سابق. وأما الأفعال التي جاءت بيانًا لخطاب سابق فإنها تتبع المبيَّن في الوجوب أو الندب أو الإباحة.
والأفعال التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تكن بيانًا لخطاب سابق ولا قام الدليل على أنها من خواصه وعلمت لنا صفته من الوجوب أو الندب أو الإباحة، إما بنصِّه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وتعريفه لنا أو بغير ذلك من الأدلة، أي بقرينة من القرائن فإن التأسي به واجب، أي أن اتِّباعه في هذا الفعل فرض، والدليل على ذلك النص وإجماع الصحابة. أما النص فقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} (سورة الأحزاب: الآية 37) ولولا أنه متأسًّى به في فعله ومتبعٌ لما كان للآية معنى.
وأيضًا قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} (سورة آل عمران: الآية 31). ووجه الاستدلال به أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة، فلو لم تكن المتابعة له لازمة لزم من عدمه عدم المحبة الواجبة وذلك حرام بالإجماع. أي أن اتِّباع الرسول شرط في ثبوت محبة الله فإذا لم يحصل الشرط وهو الاتِّباع لم يحصل المشروط وهو محبة الله، وبما أن محبة الله فرض فإن اتِّباعه يكون فرضًا. وأيضًا قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (سورة الأحزاب: الآية 21). ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسِّي بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر.
ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم، وهو الرجاء لله واليوم الآخر، وذلك كفر.
فكان ذلك قرينة دالة على وجوب التأسي.
أما إجماع الصحابة فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله في وقائع لا تُحصى.
فهذه الأدلة كلها كافية للدلالة على وجوب التأسي ولهذا فإن التأسي في الفعل هو أن تفعل مثل فعله على وجهه من أجل فعله، فكلمة مثل فعله قيد، لأنه لا تأسٍّ مع اختلاف صورة الفعل، وكلمة على وجهه قيد ثان، فإن معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيَّته لأنه لا تأسٍّ مع اختلاف الفعلين في كون أحدهما واجبًا والآخر ليس بواجب وإن اتحَّدت الصورة. وكلمة من أجل فعله قيد ثالث، لأنه لو اتفق فعل شخصين في الصورة والصفة ولم يكن أحدهما من أجل الآخر كاتِّفاق جماعة في صلاة الظهر مثلًا، أو صوم رمضان اتِّباعًا لأمر الله تعالى، فإنه لا يقال: يتأسى البعض بالبعض. وعلى هذا لو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي، وسواء تكرر أم لم يتكرر إلّا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة بذلك المكان أو الزمان كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلاة بأوقاتها واختصاص صوم رمضان. هذا هو التأسي. ومن هنا لو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فعل فعلًا على أنه مندوب وفعلناه نحن على أنه واجب لم يكن فعلنا تأسيًا بل كان مخالفة لأمر الرسول فكان حرامًا، فالتأسي هو أن نفعل مثل فعله، على وجهه، من أجل فعله. فلا بدّ من تحقق هذه القيود الثلاثة في الفعل حتى يكون تأسيًا.


الطُّرق التي تعرف بها جهة فعل الرسول
لما ثبت وجوب التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم وأن شرط التأسي أن يفعل مثل فعله، كان العلم بجهة فعله صلى الله عليه وآله وسلم شرطًا من شروط المتابعة.
ولهذا كان لا بدّ من معرفة الطرق التي تُعلم بها جهة فعله حتى يُقام بالعمل على الوجه الذي قام به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حيث كونه واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا.
أما بالنسبة لفعله الذي ليس ببيان لخطاب سابق فظاهر أن طريقة معرفة جهة الفعل هي معرفة نفس الفعل، فإن كان مما يتقرب به كانت الجهة ندبًا، فكان مندوبًا، وإن لم يكن مما يتقرب به كانت الجهة إباحة، فكان مباحًا. وأما بالنسبة لفعله الذي هو بيان لخطاب سابق فإن فعله منحصر في الوجوب والندب والإباحة، فالطرق التي تُعلم بها جهة الفعل أربع: إحداها الطريق التي تعم الثلاثة، والثانية الطريق التي يُعلم بها الواجب، والثالثة الطريق التي يعلم بها المندوب والرابعة الطريق التي يُعلم بها المباح. أما الطريق التي تعم الثلاثة فهي أربعة أشياء:
أحدها: التنصيص، بأن ينص النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على وجوب الفعل والنَّدب والإباحة، بأن يقول: هذا الفعل واجب أو مندوب أو مباح.
ثانيها: التسوية وذلك بتسويته ذلك الفعل بفعل عُلمت جهته، أي أن يفعل فعلًا ثم يقول: هذا الفعل الفلاني وذلك الفعل عُلمت جهته.
كما إذا قال: هذا الفعل مساوٍ للفعل الفلاني وهو معلوم الجهة فإنه يدل على جهة الفعل أية جهة كانت.
ثالثها: أن يُعلم بطريق من الطرق أن ذلك الفعل امتثال لآية دلت على أحد الأحكام الثلاثة بالتعيين، مثلًا: إذا عُلم أن الفعل الفلاني امتثال لآية دلت على الوجوب، فإذا سوَّى بينه وبين فعل آخر علم أن ذلك الفعل أيضًا واجب، وكذا القول في النَّدب والإباحة.
رابعها: أن يُعلم، أن ذلك الفعل بيان لآية مجملة دلت على أحد الأحكام، حتى إذا دلت الآية على إباحة شيء مثلًا وذلك الشيء مجمل وبيَّنه بفعله، فإن ذلك الفعل يكون مباحًا لأن البيان كالمبيَّن، مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} (سورة البقرة: الآية 110) مع إتيانه به قائلًا: «صَلُّوا كَما رأيْتُموني أُصَلِّي» . ومثل مناسك الحج إلخ...
وأما الطريق الخاصة بالواجب فهي ثلاثة أشياء:
الأول: أمارتان الدالة على كون الشيء واجبًا كالأذان والإقامة في الصلاة فإنهما إماراتان لوجوب الصلاة.
الثاني: أن يكون الإتيان بالفعل تحقيقًا لما نذر، إذ فعل المنذور واجب، كما إذا قال:
عليَّ صوم الغد إذا هُزم العدوّ، فصيام الغد بعد الهزيمة يدل على أنه واجب.
الثالث: أن الفعل يكون ممنوعًا لو لم يكن واجبًا كالركوعات الزائدة في صلاة الخسوف، وذلك لأن زيادة ركن فعلي عمدًا يبطل الصلاة، فلو لم تكن تلك الركوعات واجبة لكانت ممنوعة. فالركوع الثاني في صلاة الخسوف وحده مثلًا زائد، وهو يبطل الصلاة. ولكن قيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم به يعني أنه فَرْض. ولا يقال: يجوز أن تكون شرعية الركوع الثاني من قبيل النَّدب والإباحة في هذه الصلاة خاصة، فتكراره يدل على أنه واجب إذ هو تكرار لواجب كما في السجدة الثانية. وأما سجود السهو وسجود التلاوة في الصلاة وغيرها فإنه ليس تكرارًا وقد دل الدليل القولي إلى جانب الفعل على أنه مندوب فكان ذلك دليلًا على النَّدب. وأما رفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد فإنه ليس زيادة ركن عملًا، ثم إنَّ رفع اليدين حركة وهي لا تبطل الصلاة.
فيكون الفعل الذي يدل على الوجوب هو فعل لو لم يكن واجبًا لكان ممنوعًا، أي لو لم يكن فرضًا لكان منهيًّا عنه.
وأما الطريق الخاص بالنَّدب فهي شيئان:
أولهما: أن يكون الفعل مأتيًّا به على قصد القربة مجردًا عن زائد على أصل القربة. أي تجرد عن أمارة تدل على خصوص الوجوب أو الإباحة، فإنه يدل على أنه مندوب، لأن الأصل عدم الوجوب، ولأن كونه للقربة ينفي الإباحة، فيتعيَّن النَّدب.
ثانيهما: أن يكون الفعل قضاء لمندوب، فإنه يكون مندوبًا أيضًا إذ القضاء يماثل الأداء. ولا يقال: إن من نام جميع الوقت فإن الأداء عليه غير واجب مع وجوب القضاء، لا يقال ذلك لأن الأداء في مثل هذه الحالة واجب عليه بمعنى انعقاد سبب وجوبه في حقه. وأما الطريق الخاص بالإباحة فهي شيئان:
أحدهما: أن يداوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على فعل ثم يتركه من غير نسخ. فإن تركه لما داوم عليه تركًا تامًّا يدل على طلب التخيير وهو المباح فيكون دليل الإباحة.
ثانيهما: أن يفعل فعلًا ليس عليه أمارة على شيء، وبما أنه لا يفعل محرَّمًا ولا مكروهًا، والأصل عدم الوجوب والنَّدب، فيكون مباحًا.
سكوته صلى الله عليه وآله وسلم
سكوته صلى الله عليه وآله وسلم، أي تقريره، هو من السنَّة، كقوله وكفعله سواء بسواء. فإذا فعل واحد بين يدَي النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فعلًا، أو في عصره، وهو عالم به، قادر على إنكاره فسكت عنه وأقرّه عليه من غير نكير عليه يُنظر. فإن لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل، ولا عُرف تحريمُه، فإن سكوته عن فاعله وإقراره له عليه يدل على جواز ذلك الفعل ورفع الحرج عنه. لأنه لو لم يكن فعله جائزًا لأنكر عليه، لأن الرسول لا يسكت على منكر. لذلك كان سكوته صلى الله عليه وآله وسلم دليل الجواز. وأما إن كان النبيُّ قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل وعرف تحريمُه فإنه لا يُتصور سكوت الرسول عن ذلك الشخص، لأنه إقرار على منكر وهو محال على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما سكوت الرسول عن أهل الذِّمة وهم يختلفون إلى كنائسهم فإنه لا يدل على الإقرار على فعل الكفر، وإنما يدل على ترك أهل الذمة وما يعبدون، ليس دليلًا على جواز الذهاب إلى الكنيسة. فالسكوت الذي يُعتبر من السنَّة يُشترط فيه أن لا يكون قد سبق نهي عنه، وأن يعلمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُفعل بين يديه، أو يُفعل في عصره وبعلمه. وأن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قادرًا على إنكاره، وما عدا ذلك لا يُعتبر من السنَّة. والمراد بإنكاره هو زجرُ فاعلِه وليس عدم ميل الرسول له.
التعارض بين أفعال الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
لا يُتصور التعارض بين أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن التعارض بين الأمرين هو تقابلهما على وجه يمنع كل منهما صاحبه، وهذا التعارض بين فعلَين من أفعال الرسول بحيث يكون أحدهما ناسخًا للآخر أو مخصصًا له لا يُتصور وقوعه بين أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم.
لأنه إن لم تتناقض أحكامها فلا تعارض، وإن تناقضت فكذلك أيضًا، لأنه لا يجوز أن يكون الفعل في وقت واجبًا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه، من غير أن يكون مبطلًا لحكم الأول، لأنه لا عموم للأفعال بخلاف الأقوال. نعم إذا كان مع الفعل الأول قول مقتضٍ لوجوب تكراره فإن الفعل الثاني قد يكون ناسخًا أو مخصصًا لذلك القول لا للفِعْل، فلا يُتصور التعارض بين الفعلَين أصلًا. أما سبب عدم تصور التعارض فذلك لأن الفعلَين المتعارضين إما من قبيل المتماثلين كفعل صلاة الظهر مثلًا في وقتَين متماثلين أو في وقتين مختلفَين.
أما الفعلان المتماثلان فظاهر فيهما عدم التعارض وذلك كصلاة الظهر في وقتين. وأما الفعلان المختلفان فإن كانا من الجائز اجتماعهما كالصلاة والصوم فكذلك ظاهر عدم التعارض، وإن كانا مما لا يُتصور اجتماعهما وكانت لا تتناقض أحكامهما كصلاة الظهر والعصر مثلًا فإنه أيضًا لا تعارض بينهما لإمكان الجمع، فيمكن الجمع بين الصلاة والصوم ويمكن الجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر. وإن كانا مما لا يُتصور اجتماعهما وكانت تتناقض أحكامهما كالصوم في يوم معيَّن والإفطار في آخر، فكذلك لا تعارض بينهما لاجتماع الوجوب في وقت والجواز في وقت آخر، أي يمكن أن يكون الفعل في وقت واجبًا أو مندوبًا أو جائزًا، وفي وقت آخر بخلافه، ولا يكون أحدهما رافعًا ولا مُبطلًا لحكم الآخر، إذ لا عموم للفعلَين ولا لأحدهما.


التعارض بين فعل النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وقوله
لا يقع التعارض بين قول الرسول وفعله إلّا في حالة واحدة وهي النسخ، وما عدا هذه الحالة فلا تعارض بين قوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله مطلقًا. والتعارض له ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون القول متقدمًا. وهو أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا فعل فعلًا ولم يكن هناك دليل على أن هذا الفعل خاص بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يكون ناسخًا للقول المتقدم عليه المخالف له، سواء أكان ذلك القول عامًّا كما إذا قال: صوم يوم كذا واجب علينا ثم أفطر ذلك اليوم وقام الدليل على اتِّباعه كما فرضنا، أو كان خاصًّا به بدليل دل على ذلك أو خاصًّا بنا بدليل دل على ذلك. يعني أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم الثابت التكرر، الواجب التأسي به، إذا تأخر عن القول خاصًّا به، أو خاصًّا بنا، أو عامًا له ولنا، نسخ القول في حقه أو في حقنا أو في حقه وحقنا. أما الفعل الخاص به فظاهر فيه النسخ، وأما الخاص بنا فلوجوب الاتّباع. وأما العام له ولنا فكذلك لوجوب الاتِّباع.
ثانيها: أن يكون القول متأخرًا عن الفعل المذكور وهو الذي دل الدليل على أنه يجب علينا اتِّباعه فيه لأنه لا يوجد دليل على أنه خاص به، وهذا يُنظر فيه، فإن لم يدل الدليل على وجوب تكرار الفعل فلا تعارض بينه وبين القول المتأخر أصلًا، لأن الفعل وقع لمرة واحدة وانتهى ولم يطلب تكراره فأصبح معدومًا، فلا يكون القول معارضًا له لأنه غير مطلوب التكرار. وإن دل الدليل على وجوب تكراره عليه وعلى أمته فالقول المتأخر قد يكون عامًّا أي متناوِلًا له صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته، وقد يكون خاصًّا به، وقد يكون خاصًّا بنا.
فإن كان عامًّا فإنه يكون ناسخًا للفعل المتقدِّم، كما إذا صام يوم عاشوراء مثلًا، وأقام الدليل على وجوب تكراره وعلى تكليفنا به ثم قال: لا يجب علينا صيامه. هذا إن كان عامًّا. وأما إن اختص القول المتأخر بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فإن القول المتأخِّر ينسخ الفعل المتقدِّم في حقه صلى الله عليه وآله وسلم لا في حقنا. وإن اختص القول المتأخر بنا أي بالأمة كما إذا قال: لا يجب عليكم أن تصوموا فلا تعارض فيه بالنسبة للنبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فيستمر تكليفه به، وأما في حقنا فإنه يدل على عدم التكليف بذلك الفعل، ثم إن ورد قبل صدور الفعل منا كان مخصصًا، أي مبيِّنًا لعدم الوجوب، أي كنا مستثنين من الفعل. وإن ورد بعد صدور الفعل منا فلا يمكن حمله على التخصيص لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون ناسخًا لفعله المتقدم.
ثالثها: أن يكون المتأخِّر من القول والفعل مجهولًا. أي لم يعلم أن الفعل هو المتقدِّم أو القول. وفي هذه الحال ينظر فإن أمكن الجمع بينهما يرتفع التعارض، وإن لم يكن الجمع بينهما فإنه يؤخذ بالقول فيما كان مختصًّا بنا، أو عامًا له ولنا، دون ما كان مختصًّا به. فيقدم القول ويؤخذ به ويترك الفعل، وذلك لكون القول مستقلًا بالدلالة موضوعًا لها بخلاف الفعل فإنه لم يوضع للدلالة وإن دل فإنما يدل بواسطة القول.
ولأن القول أعم دلالة لشموله المعدوم والموجود، المعقول والمحسوس بخلاف الفعل لاختصاصه بالموجود المحسوس.


التعارض بين أقوال الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
لا يقع التعارض بين قولَين من أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلّا في حالة واحدة وهي النسخ وما عداها فإنه يكون إما من باب التعادل والتراجيح وإما أنه يمكن التوفيق بينهما.
أما النسخ فسيأتي الكلام عليه في بحث النسخ، وأما التعادل والتراجيح فإن الكلام عليه في باب التعادل والتراجيح للأدلة، وأما التوفيق بين القولَين المتعارضَين فإنه يكون بالتدقيق في كل قول منهما لبيان ظروفه وأحواله فيظهر حينئذ عدم التعارض، وذلك لأن أحوال العمران مختلف بعضها عن بعض، فلا يقاس شيء من أحوالها على الآخر لمجرد الاشتباه، إذ يجوز أن يحصل الاشتباه في أمر ويكون الاختلاف واقعًا في أمور متعددة. ولذلك يجب استبعاد التعميم والتجريد في التشريع والسياسة، لأن التشريع هو علاج أفعال العباد ببيان حكمها. والسياسة رعاية شؤون الناس في مصالحهم التي تقوم عليها أفعالهم. وكل منهما متعلق بالحياة وظروفها وأحوالها وهي متعددة ومتخالفة ومتباينة ولكنها كثيرًا ما تكون متشابهة فيخشى أن لا يرى فيها هذا التباين أو الاختلاف أو التعدد، فيجر ذلك إلى التعميم أي إعطاء الحكم لكل ما هو من جنسها ويجر أيضًا إلى التجريد أي تجريد كل فعل أو كل شأن من الظروف والأحوال المتعلقة به، وهنا يقع الخطأ ومن جراء ذلك يظهر التعارض بين علاجَين لفعل واحد أو شأن واحد، أي يظهر للرائي أن القولين متعارضان، ومن هنا جاء ظن التعارض بين بعض أقوال الرسول مع البعض الآخر، ولكن عند استبعاد التعميم وجعل كل علاج لما جاء به من حادثة، واستبعاد التجريد أي تجريد الواقعة من ظروفها، فيلاحظ من ربط العلاج بالحادثة نفسها وربط الحادثة بظروفها أن هناك فرقًا بين الحادثتَين ويتبيَّن أنه لا تعارض بين الحديثين لاختلاف ظروف كل منهما وأحواله، أو لارتباط أحدهما بالآخر في جعلهما معًا أساس النظرة للعلاج، وأساس النظرة للحادثة وليس كل واحد منهما منفردًا عن الآخر. وهذا ما يجب على الفقيه وعلى السياسي أن يقوم به بإفراد كل حادثة عن الأخرى حتى يتبيَّن له بدقة الفارق بينها فيصل إلى أن معالجتها مختلفة ويصل إلى ما هو أقرب إلى الحق والصواب في علاج الحوادث وفي فهم التشريع أو السياسة. وبالنسبة للتشريع فإن النصوص التشريعية هي حكم الحوادث والوقائع فمن طبيعتها أن تكون مختلفة ومن طبيعتها أن يظهر بينها كأنها متعارضة، لدقة الاختلاف بينها ولحتمية وجود التشابه مع هذا الاختلاف.
فيجب على الفقيه أن يدقق في النصوص التشريعية قبل أن يصدر حكمه عليها لأنها ليست تعبيرات أدبية تدل على معانٍ فقط، بل هي علاج لوقائع لا بدّ أن يقرن معانيها التي في ذهنه بالوقائع التي يقع عليها حسه، بحيث يضع إصبعه على الواقع حتى يتأتى له فهم التشريع وإدراك الواقع الذي يعالجه، فيدرك حينئذ الفروق الدقيقة بين مدلولات النصوص، ويدرك خطر التعميم وخطر التجريد. وعلى هذا الأساس يجب أن ينظر إلى الأحاديث النبوية فيدرك حينئذ عدم التعارض.
والناظر في الأحاديث النبوية التي يظهر فيها أنها متعارضة يجد أنها جميعها يمكن التوفيق بينها عند التدقيق. والأمثلة على ذلك كثيرة، فمن ذلك مثلًا أحاديث يأمر الرسول فيها بأشياء وتعارضها أحاديث أخرى يرفض الرسول قبول هذه الأشياء التي أمر بها، فيظهر حينئذ أن بينها تعارضًا، ولكن الحقيقة أنه لا تعارض بينها. فإن أمر الرسول طلب فعل، فهو لا يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة إلّا بقرينة، فكونه يأتي بعد هذا الأمر بما يدل على أنه لا يفعله، كان ذلك قرينة على أن الأمر للإباحة، فلا يكون رفضه لقبول الأشياء التي أمر بها مناقضًا لأمره بها بل يكون قرينة على أن أمره للإباحة وليس للوجوب ولا للندب. ومن ذلك ما روي عن قيس بن سعد قال: «زارنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزلنا فأمر له سعد بغسل، فوضع له فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها» فإن هذا الحديث يدل على جواز التنشيف من الغسل ومثله الوضوء، وهذا يعارض ما روي عن أنس: «إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء» لأنه يدل على أن الرسول لم يفعل التنشيف على الكراهة بدليل أنه حصل منه التنشيف، لكن ذلك إنما يحمل على الكراهة لو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشيء وأمر به فإنه يحمل النهي على الكراهة ولكن هنا فعل الشيء مرة ولم يفعله مرة أخرى فلا تعارض بين الفعلَين، ولو فرض أن هناك تعارضًا فيحمل على الإباحة، لأن عدم فعل الرسول لشيء لا يدل على النهي، لأنه كثيرًا ما كان يعرض عن فعل بعض المباحات.
ومن ذلك ما روي عن عياض بن حمار أنه أهدى للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم هدية فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أسلمت؟ قال: لا، قال: إني نهيت عن زبد المشركين» ورُوي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: «إن عامر بن مالك ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشرك فأهدى له فقال: «إني لا أقبل هدية مشرك» فهذان الحديثان يعارضان ما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قبل الهدية وأمر بقبولها. وعن علي عليه السلام قال: «أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل، وأهدت له الملوك فقبل منها». وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: «قدمت قتيلة ابنة عبد العزى بن سعد على ابنتها أسماء بهدايا ضباب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها فسألت عائشة النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} (سورة الممتحنة: الآية 8). إلى آخر الآية».
فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها فيظهر التعارض بين قبول الرسول الهدية من المشرك وبين رفضه الهدية من المشرك. والجمع بينهما أن رفضه الهدية من المشرك قرينة على أن قبول الهدية مباح وليس واجبًا ولا مندوبًا، لأن الرسول كان يرفض كثيرًا من المباحات. وعليه فإنه إذا ورد حديث يدل على امتناع الرسول عن فعل شيء وتصريحه بأنه لا يفعله فليس نهيًا ولا يفيد النهي، فلا يعارض فعل الرسول لذلك الشيء في وقت آخر ولا يعارض أمره بذلك الشيء. وكل ما في الأمر يكون قرينة على أن ذلك الشيء الذي فعله الرسول أو أمر به مباح وليس بواجب ولا مندوب، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد تجنّب كثيرًا من المباحات.
ومن الأحاديث التي يبدو أنها متعارضة ولكن يمكن التوفيق بينها وبين الأحاديث التي يتحد موضوعها، ولكن تختلف أحوالها. فمن ذلك ما روي عن حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جدّه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يريد غزوًا أنا ورجل من قومي ولم نُسْلم، فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، فقال: إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين فأسلَمْنا وشهدنا معه» وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيًّا» . وعن أبي حميد الساعدي قال: «خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بني قينقاع رهط عبد الله بن سلام، قال: أوَ لم تُسلموا؟ قالوا: لا، فأمرهم أن يرجعوا وقال: إنا لا نستعين بالمشركين، فأسلِموا». فهذه الأحاديث تعارض الأحاديث التي وردت في جواز الاستعانة بالمشركين. عن ذي مخبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ستصالحون الروم صلحًا تغزون أنتم وهم عدوًّا من ورائكم».
وعن الزهري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «استعان بناسٍ من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم» فهذه الأحاديث تدل على جواز الاستعانة بالمشركين، والأحاديث السابقة تدل على عدم جواز الاستعانة بالمشركين، فيبدو أنها أحاديث متعارضة. والجمع بينهما هو أن حديث أبي حميد الساعدي قد قال فيه: «إنا لا نستعين بمشرك» فهو عام وله وللأمة ولذلك يفيد النهي ولكن موضوعه كان كتيبة تقاتل تحت رايتها وليس شخصًا، فيكون النهي عن الاستعانة بجيش يقاتل تحت رايته، والأحاديث التي استعان فيها الرسول قد استعان بأفراد، فيكون الحديثان قد اختلفت فيهما الحال، فالنهي عن الاستعانة إنما هو عن الاستعانة بالجيش يقاتل تحت راية نفسه، والجواز إنما هو للاستعانة بالأفراد. وأما حديث أنس، فإن النار كناية عن الكيان، فالقبيلة توقد لها نارًا إشارة لإعلانها. الحرب والاستضاءة بنارها الدخول تحت كيانها فهذا هو المنهي عنه. وحديث الروم يعني أنهم دفعوا لنا الجزية ودخلوا تحت حمايتنا، لأن الصلح يقتضي ذلك فيكونون قد قاتلوا تحت رايتنا، وعليه لا تعارض بين هذه الأحاديث، لأن النهي عن الاستعانة بالمشرك في حالة أن يستعان به بوصفه جيشًا وتحت رايته، وجواز الاستعانة بالمشرك إنما هو في حالة كونه فردًا أو جيشًا تحت راية الإسلام. ومن الأحاديث التي يبدو أنها متعارضة ولكن يمكن التوفيق بينها الأحاديث التي ينهى الرسول فيها عن أمر نهيًا عامًا، وينهى عنه نهيًا عامًا في حال معينة، فتكون الحال المعينة بمقام الاستثناء، أي يكون نقيض الحال التي أباحها علة للنهي.
ومن ذلك ما روي عن أبي خراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار» فهذا الحديث يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه أباح للأفراد ملك عيون الماء ملكية فردية لهم في الطائف والمدينة.
ولكن يمكن الجمع بينهما لأن المياه التي أباح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ملكيتها للأفراد لم تكن للجماعة حاجة فيها، فكانت فضلة عما يحتاج الجماعة بدليل أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في حديث آخر: «ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغني عنه» فمعناه أن الماء الذي يملك ملكية فردية هو الماء الذي ليس للجماعة فيه حاجة فيكون نقيضه وهو الماء الذي للجماعة حاجة فيه هو الذي يكون الناس شركاء فيه، فتكون هذه هي علة كون الناس شركاء فيه، وعليه فلا تعارض بين الحديثين.
وهكذا جميع الأحاديث التي يبدو أنها متعارضة فإنها عند التدقيق فيها يتبيّن أنها غير متعارضة للاختلاف الموجود بينها، ومن هذا يتبيّن أنه لا تعارض بين أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلّا في حالة واحدة هي حالة النسخ.



المصادر
147 البخاري صفحة 60 الأذان.
148 كنز العمال رقم 12232 عن جابر.
149 الترمذي رقم 76 الطهارة.
150 البخاري صفحة 60 الأذان.
151 النسائي صفحة 51 الزنية.
151 كنز العمال رقم 8637 حم. د.
153 كنز العمال رقم 9103 عن أبي قلادة.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢