نبذة عن حياة الكاتب
العقود والمطعومات والمشروبات

الحَـجْـر
الحجر في اللغة: التضييق والمنع. يقال: حجر عليه حجْرًا أي منعه من التصرف ومنه سمي الحرام: حِجرًا، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا*}(+) أي حراما محرَّمًا. ويسمى العقل أيضًا حِجرًا، قال الله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ*}(+) ، أي هل يكفي هذا اليمين لذِي عقل؟.. وما سُمِّي العقل حجرًا إلا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما هو قبيحٌ عملُه، ومُضِرٌّ تَصَرُّفُه.
والحَجْر في الاصطلاح الشرعيّ: هو منع الإنسان عن التصرف في أمواله كلها أو بعضها. ويقابله الإذن وهو فكّ الحجر وإسقاط حق المنع.
مشروعية الحَجْر:
قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا*}(+) . ففي هذه الآية الكريمة نهى الله سبحانه الأولياء عن إعطاء أموالهم للسفهاء، لأن في إعطائها لهم تعريضًا لضياعها، ومن لا يستطيع المحافظة على أموال غيره، كان حريًّا به ألاَّ يحافظ على أمواله. فدلَّ النص على منع السفهاء من التصرف في أموالهم، وذلك عن طريق الحَجْر عليهم.
وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(+) ؛ وهنا يأمر الله عزّ وجلّ باختبار اليتامى، وتعريضهم لشيء من القساوة في حياتهم حتى يبلغوا، فإذا صاروا في سنِّ البلوغ، وأَنِسَ منهم وليُّ أمرهم الرّشد، والصلاح، سلَّمهم أموالهم التي في عهدته. فدلَّت الآية الكريمة على وجوب منع دفع أموال اليتامى إليهم قبل الرشد، وحَجْرهم عنها حتى لا يضيّعوها. قال جعفر الصادق (عليه): «انقطاع يُتم اليتيم بالاحتلام وهو أَشُدُّه. وإن احتلم ولم يؤنَس منه رشدُه وكان سفيهًا أو ضعيفًا فَلْيُمسكْ عنه وليُّه ماله(+) . وثبت عن رسول الله (ص) أنه حَجَر على معاذٍ مالَهُ، وباعه في دَيْنٍ كان عليه(+) .
الحكمة من تشريع الحجْر:
ليس في الحجْر إهدارٌ لكرامة الإنسان، بل هم مصلحة له بصون ماله من عبث العابثين، وحدّ لهوى نفسه بالإنفاق في وجوه غير صحيحة. كما أنه تعاون ما بين وليّ أمره والدولة كي يحفظ له مالُهُ، لحاجته إليه عندما تكثر مسؤولياته، وتتعدد واجباته، ويجد فيه عونًا على مواجهة مصاعب الحياة، وتأمين راحته في عيشه.
لذا كان الحَجْرُ يهدف لتحقيق مصلحة الفرد بحفظ ماله وجميع حقوقه، ولمصلحة المجتمع بسدِّ منافذ العوز والفاقة، لأن المال عصب الحياة، فيجب إنفاقه في غير إسراف ولا تبذير.
ولأن المحجور عليه، إن كان صغيرًا أو معتوهًا أو سفيهًا، ليس أهلاً لتقدير المصلحة، فقد كان الحَجْر عليه لعجزه عن التصرف الصحيح. قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}(+) .
وقد فسَّر الإمام الشافعيّ (رضي) السفيهَ بالمبذِّر، والضعيفَ بالصبيّ الصغير، والذي لا يستطيع أن يُمِلّ(+) بالمغلوب على عقله فهؤلاء، كما أخبر عنهم الله تعالى، ينوبُ عنهم أولياؤهم.
أسباب الحَجْر:
أسباب الحَجْر في الشرع هي: الجنون، والصغر، والسفه، والإفلاس، ومرض الموت حيث يمنع مَنْ هو في مرض الموت من التصرف في أمواله فيما زاد عن الثلث. سئل الإمام جعفر الصادق (عليه) إذا مات الرجل فَمَا لَهُ مِنْ مالِهِ؟ قال: ثلث ماله(+) . وقد أتينا على ذكره من قبل في تقسيم التركة.
1 - الجنون: اتفق الأئمة على أن المجنون محجّر عليه في جميع تصرفاته، سواء كان الجنون دائمًا أو أدوارًا. ولكن الأدواريّ إذا تصرف حال إفاقته نفد صبره. وإذا صدر عنه تصرف، ولم يعلم أنه كان وقتئذٍ في حال الجنون أو الإفاقة، لم ينفذ.
2 - الصغر: اتفق الأئمة على أن الصغير محجَّر عليه، ولا تصح تصرفاته بشتى أنواعها، وهي بكاملها غير شرعية، سواء كانت بالأصالة أو بالوكالة، قبضًا أو إقباضًا، نذرًا أو إقرارًا، في الحقير من الأموال، أو في الخطير منها. وعند الإمامية تحديد الصغر بحسب ما جاء عن محمد الباقر (عليه) في قوله: «إن الجارية إذا تزوَّجت، ودخل بها، ولها تسع سنين ذهب عنها الْيُتْم، ودُفع إليها مالها، وجاز أمرُها في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامّة، وأُخذت لها وبها.والغلامُ لا يجوز أمرُه في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليُتْم حتى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم أو يُشعر، أو يُنبت قبل ذلك»(+) .
3 - السفه: قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}(+) . وقال تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}(+) .
ولقد جاء في كتاب التعريفات للجرجاني بأن السفه: عبارة عن خِفَّةٍ تعرض للإنسان من الفرح والغضب فتحمله على العمل بخلاف طور العقل، وموجب الشرع.
ويفترق السفيه عن الصغير بالبلوغ. وعن المجنون بالعقل. فالسفه من حيث حقيقته يجتمع مع الإدراك والتمييز، إلاَّ أنّ السفيه لا يحسن إدارة أمواله.
وبكلمة موجزة: السفيه هو المهمل المبذِّر، فمن التبذير أن يتصرف بكلِّ أو بجلِّ أمواله، فمثلاً أن يبنيَ مسجدًا، أو مدرسة، أو أيَّ مشروع، بحيث لا يقدم عليه من كان في وضعه الماديّ، فيضرّ به وبمن يعول، ويرى فيه الناسُ خفةً، وخروجًا على طريقة العقلاء في إدارة أموالهم.
ـ قال الإمامية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية (وأبو يوسف ومحمد بن إسحاق صاحبا أبي حنيفة): إن السفيه يحجّر عليه بخصوص التصرفات المالية، وإن شأنه في ذلك شأن الصبي، والمجنون. لكن له مطلق حرية الاختيار في التصرفات التي لا تتعلق بالشؤون المالية. ولا يفكّ الحَجْر عن السفيه حتى يُعلم منه الرشد.
وقال أبو حنيفة: إن الرشد ليس شرطًا في تسليم الأموال لأصحابها، ولا في صحة تصرفاتهم المالية.. فإذا بلغ الإنسان رشدًا، ثم عرض له السفه تصح تصرفاته، ولا يجوز التحجير عليه، حتى ولو كانت سنّه دون الخامسة والعشرين. وكذلك من بلغ سفيهًا - بحيث يتصل السفه بالصغر - فإنه لا يحجر عليه بحال بعد بلوغ الخامسة والعشرين(+) .
الإقرار والحلف والنذر عند السفيه:
اتفق جميع الأئمة على أنه إذا أذن الوليّ للسفيه بالتصرف الماليّ وأتى ببعض التصرفاتُ كانت جائزة. أما غير التصرفات المالية، كما لو أقرَّ بالنسب، أو حلف، أو نذرَ فِعلَ شيءٍ أو تركَهُ، ولا صلة له بالمال، فإنه ينفذ وإن لم يأذن الوليّ.
وإن أقرَّ بالسرقة يُقبل في القطع، من دون المال، أي في حق الله تعالى، لا في حقِّ الناس.
زواج السفيه وطلاقه:
ـ قال الإمامية والشافعية والحنبلية: لا يصح زواج السفيه، ويصح طلاقه وخلعه. لكنَّ الحنبلية قيدوا الزواج بالحاجة إليه.
ـ وقال الحنفية: يصح زواج السفيه، وطلاقه، وعتقه، لأن هذه الثلاث تصح مع الهزل، فالأَولى مع السَفَه، ولكن إذا تزوج بأكثر من مهر المثل، صحَّ منه بمقدار مهر المثل فقط.

ثبوت الرشد عند السفيه:
اتفق جميع الأئمة على أن الرشد يعرف بالاختبار بداهة، ولقوله تعالى: «وابتلوا اليتامى حتَّى إذا بلغوا النِكاحَ فإن آنستهم منهم رشدًا». تنحصر طرائق الاختبار بأمر معيَّن يترك للسفيه أن يقوم به، حتى يحكم عليه من خلاله. لكن الأئمة ذكروا على سبيل المثال: أن يفوض للصبيّ إدارة متجره إن كان له متجر، أو بستانه إن كان له بستان، أو يسند إليه شراءُ أو بيعُ بعض الأشياء التي هو في حاجة إليها، فإن أحسن التدبير كان رشيدًا. أما الصبية فيفوض إليها إدارةُ البيت، وعلى أساسه يظهر رشدها أو عدمه.
واتفقوا على أن الرشد يثبت بشهادة رجلين عدلين، في الرجال والنساء، لأن شهادة الرجلين هي الأصل.
وليّ الصغير والمجنون والسفيه:
اتفق الأئمة على أن وليَّ الصغير أبوه، وأن الأمّ لا ولاية لها. واختلفوا في ولاية غير الأب:
ـ قال الإمامية: تكون الولاية أوّلا للأب، والجد، لأنهما في مرتبة واحدة، بحيث يكون لكل منهما أن يتصرف مستقلًّا عن الآخر، وأيهما سبق أُخذ بقوله مع مراعاة ما يجب. وإذا تشاحنا يقدَّم تصرف الجد. وإذا تصرف كل واحد منهما تصرفًا يتنافى مع تصرف الآخر، أُخذ بتصرف المتقدم، وأُلغي المتأخر، ومع التقارن يقدم الجد. وإذا فقدا معًا كانت الولاية لوصيّ أحدهما، ووصيُّ الجدّ أولى من وصيّ الأب. فإن لم يكن جدّ ولا أب، ولا وصيّ لأحدهما، فللحاكم الشرعيّ أن يولِّيَ ذا ثقةٍ وورع.
ـ وقال الحنفية: تكون الولاية بعد الأب لوصيه، ثم للجد، ثم لوصيه، فإن لم يكن فللقاضي.
ـ وقال المالكية والحنبلية: تكون الولاية بعد الأب لوصيه، فإن لم يكن للأب وصيّ فللحاكم الشرعيّ. أما الجدّ فلا ولاية له إطلاقًا.
ـ وقال الشافعية: تنتقل الولاية من الأب إلى الجدّ، ومنه إلى وصيّ الأب، ومنه إلى وصيّ الجدّ، ثم إلى القاضي.
شروط الوليّ:
اتفق الأئمة على أن الوليَّ أو الوصيَّ يشترط فيه البلوغ، والرشد، والاتحاد في الدين. واتفقوا على أن تصرفات الوليّ التي تكون خيرًا ونفعًا للمولَّى عليه تنفَّذ، في حين أن الضارة منها لا تنفَّذ. وعليه يجوز للوليّ أن يتَّجر بمال الصبيّ، أو المجنون، أو السفيه، أو أن يعطيه لمن يتَّجر به، وأن يشتري أو يبيعَ عقاراته، بشرط المصلحة والنصيحة.
وللوليّ والوصيّ أن يستنيبا غيرهما في مباشرة ما لا يقدران على مباشرته، وفيما يقدران عليه أيضًا. وكلٌّ من الأصالة والوكالة هي في الأساس وسيلةٌ لتحقيق المصلحة، وأداء ما يجب. فمتى حصلت المصلحة، نفذ التصرف، سواء أكان من الوليّ أو الوكيل، وإلاَّ فلا ينفذ التصرف، حتى ولو كان من الوليّ نفسِهِ.
4 - الإفلاس: قبل البحث في أحكام المدين المفلس في الشرع الإسلاميّ علينا أن نطّلعَ على الكيفية التي كان يعامل بها المدين المفلس قبل الإسلام وخصوصًا منها المدين المفلس في التشريع الروماني.
المدين في التشريع الروماني: كان القانون الرومانيّ، الذي لا يزال العالم ينظر إليه بكثير من التقدير، يعامل المدينَ المفلسَ بقساوة بالغة، وصلت إلى حدّ قتله، وتقسيم بدنِهِ أشلاءً على الدائنين..
ذلك أنه إذا امتنعَ المدينُ عَن دفعِ الدّينِ وعن تقديم الشّخص المحرِّرِ ليحلَّ محلّهُ، أمرَ القاضي الدّائنَ بسوقِ مدينِه وحبسهِ لديهِ في سجنِه الخاص بحيث يدومُ هذا الحبس لمدّه ستين يومًا. وللدائن الحقُّ أن يكبّل مدينَهُ بالقيد أو بالأغلال. ومقابل ذلك فُرِضَ على الدّائنِ أن يعطي مدينهُ نصف كيلوغرام من الطحين على الأقل غِذاءً له كلَّ يومٍ، على أن يبقى للمدينِ الحقّ في أن يستجلبَ طعامَهُ من بيتِه. والغايةُ من هذا الحبسِ، تلك المدّةِ، هو فتحُ المجالِ للمدينِ للاتّفاقِ مع الدائنِ، أو إيجادِ شخصٍ من أصدقائِه أو أقربائِه ليدفعَ عنهُ الدَّين ويحرّرَهُ. لذلك كانَ على الدّائنِ أن يقودَ مدينهُ في هذه المدّةِ ثلاث مرّاتٍ متوالية إلى السّوقِ في منتدى روما وهو يرسُفُ في قيدِه وأن يعلنَ هناكَ بصوتٍ عالٍ مقدارَ الدينِ الواجبِ على المدين أداؤه، حتى يمكن لأقرباء هذا المدين وأصدقائِه أن يتدخّلوا وينقذوه. وإذا انقضتِ الستّونَ يوماَ ولم يتقدَّم أحدٌ ويتبرَّع بالدّفع عنهُ كان للدائنِ أن يقتلَ المدينَ أو يبيعهُ كالرقيقِ. وإذا تعدّد الدائنون تُقطَّع الجُثّةُ بين الدائنين. يقول مونييه في كتابه الذي نُشر في باريس سنةَ 1947: «إننا في الحقيقةِ أمامَ تشريعٍ بربريٍّ يبرهنُ لنا في قضايا المدينين، العاجِزينَ عن الوفاءِ، عن قساوةٍ لا رحمةَ فيها. وتتّضحُ هذهِ القساوةُ الوحشيّةُ إذا ما عرفنا أنَّ أحكامَ هذا القانون في المدينينَ، العاجزينَ عن الوفاءِ، تقضي باسترقاقهم من قبلِ الدائن، وتعطي لهذا الحقَّ ببيعهِم أو بقتلِهِمْ. وإذا تعدّدَ الدائنونَ فلهُم جميعًا الحقُّ في تقطيعِ جسمِ المدينِ إربًا إربًا وهو حيٌّ».
ولعلَّ في هذا ما يكفي للتدليل على معاملة المدين، الذي وصلَ به سوء حاله إلى حدِّ الإفلاس، والعجز عن الوفاء.. في حين أن ليس شيء من هذا في الإسلام، كما نرى في حكم المدين المفلس.
حُكْم المدين المفلس في التشريع الإسلامي:
المفلسُ لُغَةً: هو الذي لا مالَ لهُ ولا ما يَسُدُّ بهِ حاجتَهُ، أي إنّهُ وصلَ إلى حالةِ ليسَ معهُ فلسٌ واحدٌ فهوَ مُفْلِسٌ. وبالمناسبة قالَ النبيُّ (ص) لأصحابِه: «أتدرون مَن المفلسُ فينا مَن لا درهمَ لَهُ ولا مَتَاعٌ. قالَ (ص): «ليسَ ذلكَ المفلِسَ، لكنَّ المفلسَ من أمَّتي مَنْ يأتي يوم القيامةِ بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار»(+) . فقولهم ذلك إخبارٌ عن حقيقةِ المفلسِ، وقولُ النبيِّ (ص): ليسَ ذلك المفلس» لمْ يُرِدْ بهِ نفْيَ الحقيقة التي تدل على الواقع، بل أرادَ أن مفلس الآخرة أشدُّ وأعْظَمُ لأنه صار في خُسرانٍ مبين، ولا مقياس بين إفلاسه في الدنيا وإفلاسه في الآخرة، لشدة الفرق العظيم بينهما.
والمفلس في العرف: من لا مال له، وهو المُعْدَم. وفي الشرع: المفلس مَن دينُهُ أكثرُ من مالِهِ، ومصروفُهُ أكثرُ من مدخولهِ. وسَمَّوْهُ مفلسًا وإن كانَ ذا مالٍ، لأنَّ مالَهُ مُستَحِقُّ الصّرفِ في جهةِ دينِه فكأنه معدومٌ.
ومتى لزمتِ الإنسانَ ديونٌ حالّةٌ لا يَفِي مالُهُ بها، فَسأل غُرماؤُهُ ودائنوه الحاكمَ الحَجْرَ عليهِ لَزِمَتْهُ إجابتُهُم. ويُسْتَحَبُّ أن يُعْلِنَ الحَجْر عليهِ ليتجنّبَ الناسُ معاملتَهُ. فإذا حُجِرَ عليهِ ثبتَ بذلكَ أربعةُ أحكامٍ:
أحدُها: تعلّق حقوقِ الغرماءِ بعينِ مالِهِ.
الثاني: مَنْعُ تصرّفِه بعينِ مالِهِ.
الثالثُ: أنّ مَنْ وَجَدَ عينَ مالِهِ عندَهُ فَهُوَ أحقُّ بها مِنْ سائرِ الغُرماءِ. فعن عليِّ الهادي (عليه) أنه سُئِل عن الرجل يركبه الدَّين فيوجد متاعُ رجلٍ عنده بعينه، قال: لا يُحاصُّه(+) الغرماء(+) .
الرابعُ: أنَّ للحاكمِ بيعَ مالِهِ بالمزادِ العلنيّ، وإيفاءَ الغُرماء.
ودليلُ الحَجْرِ على المفلسِ ما رُوِيَ عن رسولِ الله (ص) أنّهُ حجرَ على معاذِ بْنِ جَبَلٍ وباعَ مالَهُ. وعنْ عَبدِ الرحمنِ بْنِ كعبٍ قالَ: «كانَ معاذُ بنُ جبلٍ مِنْ أفضلِ شباب قومِه، ولَمْ يكنْ يُمْسِكُ شيئًا، فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَدينُ حتّى أغْرَقَ مَالَهُ في الدّين. فكلّمَ النبيّ (ص) غُرَماءَهُ، فَلو تُرِكَ أحَدٌ من أجلِ أحدٍ لتركوا معاذًا من أجلِ رسولِ الله (ص)، فباعَ لهم رسولُ الله (ص) مالَهُ حتى قام معاذٌ بغيرِ شيء».
والمفلسُ إذا ثبتَ للناس عليهِ حقوقٌ من مال، ببيّنةِ عَدلٍ، أو إقرارٍ منهُ صحيحٍ، بيعَ كُلُّ ما يُوجَدُ لهُ وأُنصِفَ الغُرماءُ. ولا يَحِلُّ أن يُسجنَ أصلاً، كما لا يَحِلُّ أن يُحْبسَ المدينُ المعْسِرُ مطلقًا، لقولِ الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، ولما رُويَ عَنِ أبي سعيدٍ الخدري قالَ: «أُصيبَ رجُلٌ في ثمارٍ ابتاعَها في عهد رسول الله (ص) فَكَثُرَ دَينُهُ، فقال رسول الله (ص): تصدّقوا عليه، فتصدّق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقالَ رسولُ الله (ص) لغرمائِه: «خذُوا ما وجدتُم وليسَ لَكُمْ إلاَّ ذلكَ»(+) . ورُويَ أنّه (ص) قَسَم مالَ المفلِس بَيْنَ الغُرماءِ ولم يسجنْهُ قطّ. وقالَ عَلِيٌّ أميرُ المؤمنين (عليه): «حَبْسُ الرّجُلِ في السجنِ بعدما يُعرفُ ما عليهِ من دينٍ ظلْمٌ». وعَنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العزيزِ (رضي) أنّه قَضى في المفلسِ بأن يُقْسَمَ مَالُهُ بَيْنَ الغُرماءِ ثُمَّ يُتركَ حتى يَرْزُقَهُ الله تعالى.
ويُقسمُ مالُ المفلِسِ - الذي يوجَدُ لَهُ - بينَ الغُرماءِ بالحِصَصِ، وبالنسبة إلى قيمة كلّ دين، على الحاضرينَ الطّالبينَ الذينَ حلّت آجالُ حقوقِهِمْ فَقَط. ولا يَدخُلُ فيهِمْ حاضِرٌ لا يَطْلُبُ، ولا غائبٌ لم يوكّل، ولا حاضرٌ أو غائبٌ لم يَحُلَّ أجَلُ حقِّهِ، طَلَبَ أم لم يطلب، لأنّ مَنْ لم يَحُلَّ أجَلُ حقِّهِ فلا حقَّ لهُ بَعْدُ، ومَنْ لم يطلُبْ فلا يلزمُ أنُ يُعطى ما لم يَطلُبْ. هذا إذا كان المفلِسُ حيًّا، أما إذا مات وهو مفلِسٌ فإنّهُ يُقضى في مالِهِ لكُلِّ مَنْ حَضَرَ أوْ غابَ، طَلَبَ أمْ لَمْ يَطلبْ، أي لِكُلِّ ذِي دَيْنٍ سواءٌ كانَ حالًّا أو إلى أجلٍ مُسمّى، لأن الآجال كلّها تَحُلُّ بموتِ الذي لهُ الحقُّ، أو الذي عليه الحقُّ. وإن اجتمعت على المفلسِ حقوق الله تعالى، وحُقوقُ العبادِ، فَحُقوقُ الله تعالى مُقدَّمةٌ على حقوقِ الناسِ، فيبدأ بما فرّطَ فيه من زكاةٍ أو كفّارةٍ، ويُقسّم ذلكَ على كلِّ هذه الحقوقِ بالحصَصِ لا يبدّى فيها شيء على شيء. وكذلكَ ديونٌ النّاسِ إن لم يَفِ مالُه بجميعِها أخَذَ كُلُّ واحد بِقَدْرِ مالِهِ مما وُجِدَ.
والدليلُ على أنَّ حُقُوقَ الله تعالى مقدمةٌ على حقوقِ العبادِ مَا ثبتَ عَن رسولِ الله (ص) أنّهُ قالَ: «دَيْنُ الله أحقُّ أنْ يُقْضَى»(+) وقولُهُ (ص): «اقضِ الله فهُوَ أحقُّ بالقضاء»(+) .
وحينَ يُباعُ مالُ المفلِسِ يُنظَرُ في نفقته ونفقةِ مَنْ تلزمُهُ نفقتُهُ، فلا تُباع دارُهُ التي لا غِنى لهُ عَن سكناها. أمّا إن كان له دارانِ يَسْتغني بإحداهما عَنِ الأخرى فتُباعُ التي يَسْتَغني عنها. وإن كان المفلسُ يَكسبُ ما يقُومُ بأوَدِهِ وأوَدِ من تلزَمُهُ نَفَقَتُهُ أو كان يقدرُ أن يَكْتَسِبَ ذلكَ بالفعل بأنْ يُؤَجَّرَ نفسَهُ، فإنهُ في هذهِ الحالِ يُباعُ كلُّ مالِهِ ما عَدا دارَهُ التي تَلزَمَهُ لسُكناها. وإنْ لم يَقْدِرْ عَلى شيءٍ مِنْ ذلكَ، تُرِكَ لهُ مِنْ مالِهِ ما يكفيه ليُنْفِقَ عليه وعلى مَن تلزمهُ مؤونَتُهُ بالمعروف.
وبهذا قال الإمامية، وأبو حنيفة، وابن حنبل.
أما عند الإمام مالك، والإمام الشافعيّ، فتباع جميع أمواله، بحيث لا يترك له حتى داره التي تؤويه.
واتفق جميع الأئمة على أن المفلس لا يُمنع من التصرف بأمواله، بالغة ديونه ما بلغت، إلا بعد أن يَحجرَ عليه الحاكم. فلو تصرَّف بجميع أمواله قبل الحكم بالحَجْر نفذت تصرفاته، وليس للغرماء، ولا لأيٍّ كان منعه من ذلك، شرط ألاّ يكون التصرف بدافع الفرار من وفاء الديون، ولغايةِ تضييع الحقوق على أهلها، وخصوصًا إذا لم يُؤمَّل تجديد مالٍ له بحسب المعتاد، وظاهر الحال.
ولا يحْجُر الحاكم إلا بشروط:
1 - أن يكون المطلوب الحَجْر عليه مدينًا، وثبتَ الدَّيْنُ شرعًا.
2 - أن لا تزيد أمواله على ديونه، أي إن الحَجْر لا يكون إلا إذا قصّرت الأموال عن الديون.
وتباينت آراء الأئمة في ما لو تساوت الديون والأموال..
فقال الإمامية والشافعية والحنبلية: لا يحجَّر عليه.
أما أبو حنيفة فقد نفى فكرة الحَجْر على المفلس حتى ولو زادت ديونه على أملاكه، فكيف إذا تساوت معها، لأن في التحْجير على المدين المفلس هدرًا لأهليته وكرامته. وقال أبو حنيفة: «لا أحجر على المفلس في الدين لأن مال الله تعالى غادٍ ورائح». لكنه قال: «إذا طلب الغرماء حبس المدين، فإنه يُحبس ويبقى سجينًا حتى يبيع هو أمواله، ويقضي منها دينه».
3 - أن يكون الدَّين حالًّا لا مؤجَّلاً - كما اتفق على ذلك الإمامية والمالكية والشافعية والحنبلية. أما إذا كان بعضها حالًّا ، وبعضه مؤجَّلاً، نظر في أمر المدين، فإذا كانت أمواله تفي بالديون الحالّة فلا حَجْر عليه، وإن كانت تقصّر عن الوفاء يُحجر عليه، وإذا حجر بالديون المعجلة تبقى المؤجلة إلى حينها(+) .
4 - أن يكون الحَجْر بطلب الدائنين كلهم أو بعضهم.. وهذا ما اتفق عليه جميع الأئمة.
ومتى توافرت هذه الشروط حجَّر الحاكم على المدين، ومنعه من التصرف في ماله بيعًا، وإجارة، ورهنًا، وإعارة، وما إلى ذلك مما يضرّ بالغرماء.
ويبيع الحاكم أموال المدين، ويوزعها بين أصحاب الديون، فإن وفت بها جميعًا فذاك، وإلا كانت القسمة بينهم بالمحاصة، أي لكل دائن بنسبة ماله من حق.
ومتى تمّ التقسيم والتوزيع زال الحَجْر نهائيًّا، لأن الغرض منه حفظ المال للغرماء، وقد حصل ذلك.
منع المفلس من السفر:
اتفق الأئمة على أنه إذا جازت عقوبة المفلس بالحبس، جازت. أيضًا بمنعه من السفر، ولكن بالشروط نفسها تقريبًا، وهي أن يثبت الدين عليه شرعًا، وأن يكون قادرًا على الوفاء ومع ذلك تهرَّب وماطل، ويخشى - بحسب المعتاد - ضياعُ الحقّ إذا سافر، وكان السفر بعيدًا أو خطرًا.. فإذا لم يثبت الدين، أو ثبت وكان المدين معسرًا، عاجزًا عن الوفاء، أو كان له وكيل أو كفيل، أو لا يخشى ضياع الحقوق على أصحابها من السفر... إذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز منعه من السفر بحالٍ من الأحوال.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢