نبذة عن حياة الكاتب
العقود والمطعومات والمشروبات

البيـع
البيع، في اللغة، مشتق من الباع، لأن كل واحد من المتعاقدين يمدُّ باعه للأخذ والعطاء. أو أن كل واحد يبايع صاحبه، أي يصافحه عند تمام عقد البيع وإجراء الصلح.
وهو بالمعنى الاصطلاحيّ: مطلق المبادلة، أو مقابلة شيء بشيء. وهو ضد الشراء. لكنَّ لفظ البيع والشراء يُطلق كل منهما على ما يطلب عليه الآخر، لأنهما من الألفاظ المشتركة والمعاني المتضادة. فيقال: باعه منه أي اشتراه، ويقال: شَرَوْه بمعنى باعوه، وهذا ما يوضّح أنَّ كلًّامنهما يطلق على الآخر، والقرينة هي التي تعيّن المراد.
والبيع، في الشرع، مبادلة المال المتقوِّم بالمال المتقومِّ تمليكًا وتملُّكًا، على سبيل التراضي. وعلى هذا فليس كل مالٍ في الإسلام محلًّا للبيع والشراء، ومنه لا يُعدّ مالاً أصلاً كالخمر والخنزيرُ والبيع فيه باطل سواء جعل مبيعًا أو ثمنًا. فالباطل هو الذي لا يكون صحيحًا بأصله لا يوصفه. وبعض الفقهاء لا يفرق بين الباطل والفاسد، ما دام يؤدي إلى عدم مشروعية العقد.
والبيع جائز ومشروع في الكتاب والسُنَّة. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(+) . وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}(+) . وقال تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}(+) . وقال رسول الله (ص): «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»(+) . وسئل (ص): أيُّ الكسب أطيب؟ فقال (ص): «عملُ الرجل بيديه وكلُّ بيع مبرور»(+) ، أي لا غش فيه، ولا خيانة. وقد بُعِثَ الرسول (ص) والناس يتبايعون، فأقرهم عليه، وقال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء»(+) .
أركان البيع هي: العاقدان (البائع والمشتري) والمعقود عليه (الثمن والمثمن)، والصيغة (الإيجاب والقبول).
والركن الأساسي في البيع الصيغة، أي الإيجاب والقبول بلفظ يدل على كل واحد منهما. وتقوم الإشارة - كإشارة الأخرس - مقام اللفظ، وتُعدّ الكتابة من اللفظ.
وشرط البيع: أهلية المتعاقدين. أما محله فهو المال. وأما حكمه: فهو ثبوت الملك للمشتري في المبيع أو ثبوت الثمن للبائع إذا كان العقد تامًّا، وعند الإجازة إذا كان موقوفًا.


العقود:
الثمن والمبيع:
قبل البحث في العقود علينا أن نفرّق أولاً بين الثمن والمبيع من ناحية، والثمن والقيمة من ناحية أخرى. وعلى هذا الأساس، فإن القاعدة المقررة في الأصل هي أنّ النقود عامة من ذهب أو فضة أو أوراق نقدية إذا كانت عوضًا في المبيع، تُعدّ هي الثمن. ومقابلها السلعة. ويكون المبيع مطلقًا سواء دخل على صيغته، أو لم يدخل، حرف الباء، مثل بعتك هذا بدينار، أو بعتك دينارًا بهذا.
الثمن والقيمة:
الثمن: لا يتحقّق إلا في عقد، فهو ما يتراضى عليه المتبايعان سواء أكان أكثر من القيمة أم أقل أم مساويًا.
والثمن: هو ما تراضى عليه المتبايعان مقابلاً للمبيع.
وأما قيمة الشيء فهي ما يساوي هذا الشيء بنظر أهل الخبرة من الناس.
عقد البيع:
والبيع عقد من العقود التي تحتاج إلى طرفين: موجب وقابل. والعقد في اللغة الرّبط، وضده الحلّ. وربط الطرفين لا يكون إلاَّ على وجه يتحقق بإنشائه معنىً له آثاره الخارجية، لأن العقد إما أن يكون على العين بعوض كالبيع، أو على العين بغير عوض كالهبة، وإما أن يكون على المنفعة بعوض كالإجارة، أو على المنفعة بغير عوض كالعارية (أو الإعارة). أي إن العقد يرمي إلى تمليك الشيء بعوض عن طريق البيع، أو تمليك الشيء بلا عوض عن طريق الهبة، أو إلى تمليك المنفعة بعوض كإجارة الدار، أو السيارة، وبلا عوض كإعارة الأشياء التي يحتاجها الغير. ويقتضي هنا التفريق ما بين العقد، والوعد، والعهد.. ذلك أن هناك فارقًا كبيرًا بين العقد والوعد، فالعقد يلزم الوفاء به من العاقد، شرعًا لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(+) ، وقضاءً لأن عدم الالتزام بالعقد يستدعي من الحاكم إلزام الناكل الوفاءَ بالتزامه.
أما الوعد، ومعناه ظاهر، وهو واحد شرعًا ولغة، فلا يُلزم الوفاء به قضاءً، بل الوفاء به مندوب - مستحب - ديانةً، لأن الوفاء به يُعدّ من مكارم الأخلاق. قال الإمام الرضا (عليه): «إنّا أهلَ البيت نرى ما وعدنا ديْـنًا علينا كما صنع رسول الله (عليه)». فلو وعد شخصٌ غيره ببيع، أو قرض، أو هبة مثلاً لا يجبر على الوفاء بوعده بقوة القضاء، بل يندب له تنفيذه، وعليه يُحمل قول رسول الله (ص): «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»(+) ، وقول الإمام الصادق (عليه): «ثلاثة لا عذر لأحدٍ فيها: أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر، والوفاء بالوعد، وبرُّ الوالدين، بَرَّيْن كانا أو فاجرين». ذاك هو الفارق بين العقد والوعد، وعند جميع الأئمة. لكنَّ آراء بعض الفقهاء قد تكون ملطَّفة أحيانًا، بجعل الوعد ملزمًا قضاءً(+) ، في بعض الحالات:
ـ قال الحنفية: يلزم وعد إذا صدر معلَّقًا على شرط، منعًا لتغرير الموعود. وعبَّروا عن ذلك بقاعدة فقهية: «المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة(+) . وقال ابن نجم: «لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلَّقًا، مثل أن يقول شخص لآخر: إذا لم يعطك فلان ثمنَ المبيع، فأنا أعطيك إيّاه، فيلزمه إعطاؤه حينئذٍ، لأن الوعد اكتسى صفة الالتزام والتعهد».
ـ وقال المالكية: يلزم الواعد بوعده قضاءً إن أدخل الموعود في سبب، أو كان وعده مقرونًا بذكر السبب، مثل أن يقول رجل لآخر: اهدمْ دارك، وأنا أعطيك ما تبنى به الدار، أو تزوج وأنا أُسلِّفك، ففعل الموعود ذلك، فيجب عليه الإقراض لأنه أدخل الموعود به في الالتزام. أو أن يقول شخص لآخر: تزوج أو اشتر بيتًا وأنا أقرضك فيلزمه الوفاء بوعده وإن لم يباشر الموعود فعل الزواج أو الشراء، والتزام الواعد الوفاء بوعده دفعًا للضرر الحاصل للموعود عن تغرير الواعد.
أما إن وعد من دون ذكر السبب، كأن يقول شخص لآخر: أسلفني كذا، فيقول المخاطَب: نعم، فإن الوعد هنا يلزمه. وبعض القوانين الوضعية تتفق مع رأي بعض المالكية على أن الوعد بعقد أو بعمل ملزم قانونًا(+) .
وأما فيما يتعلق بالعهد فمعظم الأئمة لا يفرِّقون بينه وبين العقد فكما يستدلون على العقد بقوله الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، كذلك يستدلون على الوفاء بالعهد بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}(+) .
وللإمامية، رأي مغاير، إذ يقولون بأن العهد غير العقد. فالعهدُ لغة، له عدَّة معانٍ: منها الأمر والوصية، لقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}(+) ، أي أمرناكم وأوصيناكم بذلك. ومنها التحالف والميثاق الذي يعطيه الإنسان على نفسه لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً*}(+) . ومنها المعرفة كقولك: عهدتك صادقًا، أي عرفتك.
والعهدُ في اصطلاح فقهاء الإمامية هو الالتزامُ بفعل غير محرم ولا مكروه، أو بترك فعل غير واجب ولا مستحب، ولا ينعقد إلا بالصيغة اللفظية مقرونة باسم الجلالة كقولك: عاهدت الله، أو عليَّ عهد الله لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ}(+) . ويجب الوفاء بهذا العهد لقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}(+) . ومن عاهد ثم خالف يأثم، وعليه أن يكفّر إما بعتق رقبة، أو بصيام شهرين متتابعين، أو بإطعام ستين مسكينًا.
العقد والالتزام:
فالالتزام: هو كل تصرف يتضمَّن إنشاءَ حق، أو نقلَه، أو تعديلَه، أو إنهاءَه، سواء أكان صادرًا عن شخصٍ واحد، أم عن شخصين، أو أكثر.
والعقد: مقصور على نوع خاص من الالتزام وهو ما كان صادرًا عن شخصين أو طرفين كالبيع والإجارة والرهن ونحوه.
والالتزام أعم من ذلك، فهو ما وُجد بإرادة منفردة كالوقف والإبراء، والنذر، واليمين، ونحوه. كما يشمل ما وجد بإرادتين مزودجتين، كالبيع والإجارة، والهبة، والإعارة والرهن.
شروط الانعقاد وشروط اللزوم:
لا بد، في عقد البيع من أن تكون الصيغة واضحةً الدلالة، وأن يتوافق الإيجاب والقبول على محل واحد، وأن المتعاقدين يُعدّ فيهما العقل والبلوغ، والقصد مع الاختيار، والخلو من السفه، ومرض الموت في ما لو تصرف المريض فيما زاد على الثلث، وأن العوضين يشترط فيهما المالية، والملك المطلق، والقدرة عليهما، والعلم بهما.
والاختيار، والرشد، والصحة في المتعاقد ليست شروطًا لانعقاد العقد، وأصل وجوده، بل هي شروط للزوم العقد ونفاذه، فإن المكره قد يتم منه العقد، لكنه لا يصير ملزمًا إلا إذا رضي بعد الإكراه. وكذا السفيه يصح منه العقد، ولا يلزم إلا بإجازة الولي، ومثله عقد المريضِ مرضَ الموت، فإنَّ نفاذه يتوقف على إجازة الورثة في ما لو تصرف فيما زاد على الثلث.
والملك المطلق في الثمن والمثمن شرط لكي يكون العقد ملزمًا، لإنعقاده - في بعض الحالات - فعن الإمام الحسن العسكري (عليه): «لا يجوز بيع ما ليس يملك. وقد وجب الشراء من البائع على ما يملك»(+) . فالفضوليّ يصح منه العقد، ولا يلزم إلا بإجازة المالك. وكذا الراهن يصحُّ عقده، وينفذ بإجازة المرتهن. أما بيع الوقف، مع عدم المسوِّغ، فإنه باطل من الأساس. فقد سأل الإمام الكاظم (عليه) رجلٌ قائلاً: اشتريتُ أرضًا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم. فلمّا وفيتُ المالَ خُبِّرتُ أنَّ الأرضَ وقفٌ، فقال (عليه): «لا يجوز شراء الوقف، ولا تُدْخل الغلَّةَ في مالك، وادفعها إلى من وُقفت عليه: قلت: لا أعرف لها ربًّا. قال: تتصدَّق بغلَّتها»(+) .
والإرادة، والرشد، والصحة، والملك المطلق التي هي شروط الإلزام، هي كذلك شروطٌ لانعقاد العقد، سواء أكان من شروط الصيغة، أو المتعاقدين، أم العوضين. فإذا انتفى واحد منها بطل العقد من الأساس، وتخلفت عنه جميع الأحكام. وإذا تمت الشروط بكاملها كان عقد البيع لازمًا، ما لم يقترن بأحد الخيارات التي يمكن أن يتمتع بها كل من البائع والمشتري.
تنمية الملك عن طريق البيع:
إن الله سبحانه وتعالى جعل المال سببًا لإقامة مصالح العباد في الدنيا، لأن الإنسان لا يستطيع العيش من دون التعاون مع الآخرين، فكان البيع لما تقتضيه الحكمة في المجتمع البشريّ. ولذلك أجمع الفقهاء على جواز البيع لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وهو لا يبذله بغير عوض. وقد شرع طريق التجارة لاكتساب المصالح، إذ إن ما يحتاج إليه كل فرد لا يوجد ميسورًا في كل موضع، ولأنَّ أخذه عن طريق القوة والتغالب فساد، فلا بد من أن يكون هنالك نظام يمكِّن كلِ واحد من أخذ ما يحتاج إليه عن طريق غير القوَّة والتغالب، فكانت التجارة، وكانت أحكام البيع. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}(+) .
البيع:
ومن كتابٍ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه) كتبه للأشتر النخعي لما ولاَّه على مصر، يبين له فيه مكانة التجار وذوي الصناعات، ما نصه: «ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرًا: المُقيم مِنهُمْ والمُضْطَرِبِ بمالِهِ (المتردد بين البلدان) والمُتَرَفِّق ببدنه، فإنَّهم موادُّ المَنَافِع، وأَسبابُ المرافِق، وَجُلاَّبُها مِنَ الْمَبَاعِدِ والمَطَارح، في بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وحيثُ لا يَلْتَئِمُ الناسُ لِمَوَاضِعِها ولا يَجْتَرِئون عليها، فإنَّهم سِلْمٌ لا تُخافُ بائِقَتُهُ (الداهية)، وَصُلْحٌ لا تخشى غائِلتُهُ.
وَتفقَّدْ أَمورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وفي حَواشِي بلادِكَ. وَاعْلَمْ - مَعَ ذلِكَ - أنَّ في كثيرٍ مِنْهُمْ ضِيقًا فاحِشًا، وَشُحًّا قَبيحًا، واحْتِكَارًا للمَنَافِع، وتَحَكُّمًا في الْبِياعاتِ، وذلك بابُ مَضَرَّةٍ للعامَّة، وَعَيْبٌ على الوُلاةِ، فامْنعْ مِنَ الاحْتِكارِ، فإنَّ رسولَ اللهِ (ص) مَنَعَ مِنْهُ، وَلْيَكُنِ البيعُ بيعًا سَمْحًا: بِمَوازين عَدْلٍ، وَأسعار لا تُجحف بالفريقينِ من البائعِ والمُبتاع (المقصود المشتري)، فَمَنْ قارَفَ (خَالَطَ) حُكْرَةً بعدَ نَهيِكَ إيَّاه فنَكِّلْ بِهِ، وعاقِبْهُ في غير إسرافٍ»(+) .
والتجارة نوعان: نوع حلال يسمى في الشرع بيعًا، ونوع حرام يسمى ربا، وكل واحد منهما تجارة. وقد أخبر الله تعالى عن الكفار إنكارهم الفرق بين البيع والربا، عقلاً، فقال عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}(+) ، ثم فرق - سبحانه - بينهما بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(+) . فيكون من الواضح أن الحلال والجائز شرعًا هو البيع.
ويجوز أن يتولى صاحب السلعة البيع بنفسه، أو ينيب عنه وكيلاً ليقوم بالبيع عنه. كما يجوز أن يستأجر مستخدمًا ليقوم بالبيع عنه على أن يكون أجره معلومًا، فإن استأجره على جزء من الربح كان شريكًا مضاربًا، وانطبق عليه حكم المضارب، لا حكم الأجير. وكذلك يجوز أن يشتري المال بنفسه أو بوساطة وكيله، أو أن يستأجر من يشتري له ولحسابه. كما يجوز البيع، والشراء عن طريق السمسار، فقد نُقِلَ عَن الإمام الباقر (ص) أنه قال: «لا بأس بأجر السمسار. إنما يشتري للناس يومًا بعد يوم بشيءٍ مسمَّى، إنما هو بمنزلة الأجراء، مثلُ الأجير»(+) .
المعاطاة:
بيع المعاطاة أو بيع المراوضة: وهو أن يتَّفق المتعاقدان على ثمن ومثمّن ويعطيا من غير إيجاب وقبول، وقد يصدر لفظ عن أحدهما.
والمثال على المعاطاة أن يأخذ المشتري المبيع، وأن يدفع للبائع الثمن، أو يعطيَ البائعُ المبيع ويدفعَ له المشتري الثمن من غير أيّ كلمة، أو إشارة، سواء أكان المبيعُ زهيدًا أم غاليًا: كما لو جرت المساومة بين اثنين، وبعد الاتفاق على الثمن دفعه المشتري لصاحب السلعة، فقبضه راضيًا، وأعطاه السلعة من دون تلفظٍ بإيجاب وقبول.
هذا هو النوع من البيوع يطلق عليه الفقهاء «بيع المعاطاة»، لأنه مبادلةٌ بالأخذ والإعطاء من الطرفين بقصد التملك والتمليك، مع استجماع هذه المبادلة لكل ما يشترط في البيع باستثناء صيغة الإيجاب والقبول. وقد تباينت آراء الأئمة في حكم المعاطاة:
ـ قال الإمامية: قال بعضهم إن المعاطاة تفيد الملك اللازم. وقال آخرون: إنها تفيد الملك الجائز. لكن الأغلب «والأقوى، عندهم، أن المعاطاة تفيد الملك، وهي جائزة من الطرفين، ولا تلزم إلا بتلف أحد العوضين، أو التصرّف المغيِّر للعين، والناقل لها، أو موت أحد المتعاقدين»(+) .
ـ وقال الحنفية والمالكية والحنبلية: يصح بيع المعاطاة متى كان هذا معتادًا دالًّا على الرضا، ومعبرًا تمامًا عن إرادة كل من المتعاقدين، لأن البيع، يصح بكل ما يدل على الرضا، ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر. ولم ينقل إنكاره عن أحد، فكان ذلك إجماعًا، والقرينة كافية هنا للدلالة على الرضا(+) .
ـ وقال الشافعية: يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكتابية، بالإيجاب والقبول. فلا يصح بيع المعاطاة سواء أكان المبيع نفيسًا أم حقيرًا، لأن الرسول (ص) قال: «إنما البيع عن تراض». والرضا أمر خفي، فعُدّ ما يدل عليه من اللفظ، ولا سيما عند إثبات العقد حالة التنازع، فلا تقبل شهادة الشهود لدى المحاكم إلا بما سمعوه من اللفظ.
لكن جماعة من الشافعية، ومنهم البغوي، والنووي، والمتولي، أجازوا صحة بيع المعاطاة في كل ما يعده الناس بيعًا، لأنه لم يثبت اشتراط اللفظ، فيرجع للعرف، كسائر الألفاظ المطلقة. وبعضهم (كابن سريج والروياتي) خصص جواز بيع المعاطاة بالأشياء الزهيدة، لا النفيسة، التي جرت العادة على التعاطي بها، كربطة خبز، وحزمة بصل وغيرها(+) .
بيع الجزاف:
الجزف: الأخذ بكثرة. يقال: جزف له في الكيل: إذا أكثر.
وبيع الجزاف هو بيع الأشياء بلا كيل، ولا وزن، ولا عدّ، بل تخمين الثمن على أساس المشاهدة أو الرؤية. وقد عرّفه الشوكاني بأنه «بيع ما لم يعلم قدره على التفصيل»(+) .
اتفق الأئمة على أن بيع الجزاف مشروع، أي هو جائز عند جميع المسلمين. والدليل على مشروعيته ما ورد في السنّة النبوية الشريفة. فقد روي عن جابر أنه قال: «نهى رسول الله (ص) عن بيع الصُّبرة من التمرة لا يعلم كيلها بالكيل المسمَّى من التمر»(+) . فالصُّبرة كمية من شيء معيَّن لا يُعرف مقدارها، كقولك: صُبرة من القمح أو العدس أو السمك أو التبن. وهي كثيرة الاستعمال في البلاد الإسلامية وخصوصًا في أنواع الحبوب والسمك. وفي حديث جابر يكون الرسول (ص) قد نهى عن بيع التمر بالتمر مجازفة ما لم يُعلم كيله. لأن التمر من الأصناف الربوية، فيكون قد أجاز بيع التمر جزافًا إذا كان الثمن من جنس آخر غير التمر.
وعن ابن عمر أنه قال: «كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله (ص) أن يبيعوه حتى ينقلوه»(+) . فهذا الحديث يدل على إقرار الرسول (ص) فعل الصحابة بالبيع جزافًا، إلا أنه نهاهم عنه قبل قبضه واستيفائه. وقد اتفق الأئمة على جواز بيع الصبرة جزافًا بالاستناد إلى ما ثبت في السنّة النبويَّة الشريفة عن مشروعيته. قال ابن قدامة الحنبلي: «يجوز بيع الصبرة جزافًا لا نعلم فيه خلافًا إذا جهل البائع والمشتري قدرها»(+) . ومع أنَّ بيع الجزاف - أي الصُّبرة - جائز، إلاَّ أنّ بيع المكيل أو الموزون مطروح فيه البركة لقول رسول الله (ص): «كيلوا طعامكم، فإنَّ البركة في الطعام المكيل»(+) ونقل الإمام الصادق (عليه) أنه شكا قوم إلى النبيَّ (ص) سرعة نفاد طعامهم، فقال: تكيلون أو تُهيلون؟ فقالوا: نُهيلُ يا رسولَ الله، يعني الجزاف، قال: كيلوا فإنه أعظم للبركة»(+) .
شروط العوضين:
المقصود بالعوضين الثمن والمثمّن...
وشروط العوضين أربعة، وهي التالية:
الشرط الأول - المالية والمنفعة المباحة : وهو أن يكون كلّ من العوضين مالاً ذا قيمة يجري فيه البذلُ والمنعُ عند الصرف، ويجوز الانتفاعُ به في نظر الشارع.
ـ قال الإمامية: إن البيع يقع على الأعيان من دون المنافع. لكنه يصح بيعُ بعض الحقوق، كحيازة الأرض، والتحجير على المفلس.
ـ وقال الحنفية: إن البيع بالمعنى العام هو مبادلة المال على وجه مخصوص، وهو يشمل ما كان عينًا أو نقدًا. ولا يكون له قيمة في نظر الشارع إلا إذا اجتمع فيه أمران: أحدهما أن يكون من شأنه الانتفاع به عند الحاجة، وثانيهما أن يكون الانتفاع به مباحًا شرعًا.
ـ وقال المالكية: إن البيع، بالمعنى الأعم، هو عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، ومعنى «على غير منافع» أن العقد يكون على الذوات والأعيان من ثمن أو سلعة لا على استثمارها والانتفاع بها... ومعنى قوله: «ولا متعة لذة» أن العقد لا يكون للانتفاع بلذة.
وقد قسم المالكية البيع إلى أقسام كثيرة. فقالوا إن البيع بالمعنى الأعم ينقسم قسمين: بيع المنافع وبيع الأعيان. فأما بيع المنافع فهو خمسة: الأول : بيع منافع الجماد ويعبّرون عنه بأكرية - بإيجار - الدور والأرضين. الثاني : بيع منافع الحيوان غير العاقل ويعبّرون عنه بأكرية الدواب والرواحل. الثالث : بيع منافع الإنسان المتعلقة بالنكاح والخلع. الرابع : بيع منافع الإنسان المتعلقة بالأجير، أي بتأجير الإنسان للعمل. الخامس : بيع منافع العروض ويسمى إجارة غالبًا.
ـ وقال الشافعية: البيع عقد ذو مقابلة مالٍ بمال على وجه مخصوص. والمراد بالمقابلة المعاوضة، وهي أن يدفع كل واحد من الجانبين عوضًا للآخر، فتخرج بذلك الهبة لأنها تمليك بلا عوض في الحياة. أما المراد بقولهم «على وجه مخصوص» فالغرض منه أمران:
الأول : أن يكون العقد مفيدًا لملك العين أو لملك المنفعة على التأبيد كحق المرور.
والثاني : أن لا يكون العقد على وجه القربة فيخرج به القرض لأنه تمليك للعين على أن يرد مثلها.
ـ وقال الحنبلية: إن البيع في الشرع معناه مبادلة مال بمال، أو مبادلة منفعة مباحة بمنفعة مباحة على التأبيد غير ربا وقرض. فهو عقد عوض من الجانبين أي عبارة عن جعل شيء في مقابلة آخر. ويدخل فيه مقايضة سلعة بسلعة، ولو كان ذلك المال في الذمة. ومعنى المبادلة أنه يخرج عنها الإجارة والإعارة، كما يخرج عنها الربا والقرض.
الشرط الثاني: أن يكون المعقود عليه، ثمنًا كان أو مثمنًا، طاهرًا. فلا يصح أن يكون النجس مبيعًا ولا ثمنًا، فإذا باع شيئًا نجسًا أو متنجسًا لا يمكن تطهيره فإن بيعه لا ينعقد. وكذلك لا يصحّ أن يكون النجس أو المتنجس الذي لا يمكن تطهيره ثمنًا، فإذا اشترى أحدهم عينًا طاهرة وجعل ثمنها خمرًا أو خنزيرًا مثلاً فإن بيعه لا ينعقد.
ـ قال الإمامية: إن السبب الموجب لتحريم المعاوضة على الأعيان النجسة والمتنجسة هو أخذ العوض على المنفعة المحرمة، لأن أكل العوض عنها أكل للمال بالباطل، ويصدق عليه قول رسول الله (ص): «إذا حرم الله تعالى شيئًا حرم ثمنه»(+) وعن الإمام جعفر الصادق أن رسول الله (ص) قال: «ثمن الخمر، ومهر البغي، وثمن الكلب الذي لا يصطاد سحت، ولا بأس بثمن الهرة»(+) .
اما إذا استعمل في الجهة المحللة فلا يكون حرامًا، ولا أكلاً للمال بالباطل، فكلب الهراش يحرم بيعه بالنص حيث لا منفعة منه، ويجوز بيع كلب الصيد والماشية والزرع والبستان بسبب الانتفاع به. وكذا جلد الميتة يجوز بيعه ليجعل قرابًا، أو سرجًا، أو غربالاً، وسئل الإمام الصادق (عليه) عن بيع الميتة، فقال: «لا ينتفع بها» وهذا معناه أنه لو أمكن الانتفاع بها لجاز بيعها. ولما كان الزبل ينتفع به جاز بيعه.
ولو أن إنسانًا أراد أن يبيع دمه من دون أن يتضرر، من أجل مريض يحتاج إليه، يصح البيع، ويحل الثمن، كما تصح هبة الدم بلا عوض. وقالوا: إن جميع الأعيان النجسة يجوز بيعها لمجرد وجود منفعة محللة بها.
ـ وقال الحنيفة: لا يصح بيع الخمر والخنزير والدم. فإذا باع خمرًا أو خنزيرًا كان البيع باطلاً. أما إذا اشترى عينًا طاهرة وجعل ثمنها خمرًا أو خنزيرًا فإن البيع لا يبطل وإنما ينعقد فاسدًا. وقالوا: يصح بيع المتنجس والانتفاع به في غير الأكل فيجوز أن يبيع دهنًا متنجسًا ليستعمله في الدبغ والدهن، والاستضاءة به في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة فإنه لا يحل الانتفاع به لأنه جزء منها، وقد حرمها الشرع فلا تكون مالاً.
ويمكن تطهير الزيت. ويجوز بيع العُذرة إذ خلطها بالتراب وكانت لها قيمة مالية كأن صارت «سباخًا». ويصح بيع كلب الصيد والحراسة ونحوه من الجوارح كالأسد والذئب والفيل وسائر الحيوانات إذا كان ينتفع بها أو بجلودها، ما عدا الخنزير أي إجمالاً كل ما فيه منفعة تحل شرعًا فإن بيعه يجوز.
ولا يجوز، عند غالبية الحنفية، بيع الهرِّ. إنما يجوز بيع سباع البهائم كالأسد والفيل وجوارح الطير كالصقر والباز..
ـ وقال المالكية: لا يصح بيع النجس كعظم الميتة وجلدها ولو دبغ لأنه لا يطهر بالدبغ، وكذلك الخمر والخنزير وزبل ما لا يؤكل لحمه. وكذلك لا يصح بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالزيت والعسل والسمن، فالزيت لا يطهر بالغسل. في حين قال بعضهم: إن بيع الزيت المتنجس ونحوه صحيح لأن نجاسته لا توجب إتلافه، كما قال هذا بعضهم بأن الزيت يمكن تطهيره بالغسل. أما المتنجس الذي يمكن تطهيره كالثوب فإنه يجوز بيعه، ويجب على البائع أن يبين ما فيه من النجاسات، فإن لم يبين كان للمشتري حق الخيار.
ويقول المالكية أيضًا: لا يصح بيع الكلب، سواء كان كلب صيد أو حراسة أو غيرهما لورود النهي عن بيعه شرعًا، إذ نهى الرسول (ص) عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان (عطية) الكاهن. وقال بعضهم: إن بيع كلب الصيد والحراسة صحيح، ويباح اقتناؤهما.
وقال الشافعية: لا يصح بيع كل نجس كالخنزير والخمر والزبل والكلب ولو كان كلب صيد. وإن باع شيئًا طاهرًا مخلوطًا بنجس بحيث يتعذر فصل النجس عنه فإن بيعه يصح. كذلك إذا باع أرضًا مسمدة بزبل، أو آنية مخلوطة برماد نجس كالقلل. أما إذا لم يتعذر فصل النجس من الطاهر، فإنه لا يصح بيعه قبل نزع النجس عنه.
وقال الحنبلية: لا يصح بيع النجس كالخمر والخنزير والدم والزبل النجس، أما الطاهر كروث الحمام وبهيمة الأنعام فإنه يصح. ولا يصح بيع دهن نجس العين كدهن الميتة، كما لا يصح الانتفاع بها في أي شيء من الأشياء. أما الدهن المتنجس فلا يحل بيعه ولكن يحل الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد.
والنجس الذي يمكن تطهيره كالثوب والإناء فإن بيعه يصح. ولا يصح بيع الكلب، سواء كان كلب صيد أو لا. ويحرم اقتناء الكلب إلا للصيد وحراسة الماشية والحرث، إلا الكلب الأسود فلا يجوز اقتناؤه كما لا يجوز عند غالبية الحنفية بيع الهر. ويجوز بيع سباع البهائم وجوارح الطير كالصقر والباز.
الشرط الثالث - السلطة على العين : ومن الشروط التي يجب توافرها في العوضَين أن يكون للبائع سلطةٌ مطلقةٌ على المبيع، وللمشتري سلطة مطلقة على الثمن.
وقد أجمع الفقهاء على أن هذه السلطة معناها أن البائع قادر على تسليم المبيع للمشتري، وأن المشتري قادر على تسليم الثمن للبائع.
ـ قال الإمامية: إن الأدلة على هذا الشرط خمسة وهي:
1 ـ أن البيع مع عدم الوثوق بوقوع مضمونه ومؤداه يجعله بيعًا غَرَرِيًّا. وقد نهى النبي (ص) عن بيع الغَرَر، والنهي يستدعي هنا الفساد بالإجماع.
2 ـ حديث الرسول (ص): «لا تبع ما ليس عندك» ، أي ما لا تقدر على تسليمه(+) .
3 ـ أن عقد البيع بطبيعته يستدعي وجوب تسليم كل من العوضين إلى صاحبه، فيجب أن يكون التسليم مقدورًا، وإلا كان تكليفًا بالمحال.
4 ـ أن الغرض من البيع انتفاع البائع بالثمن، وانتفاع المشتري بالمبيع، ولا يتم ذلك إلا بالتسليم.
5 ـ أن بذل الثمن لقاء غير مقدور على تسليمه يُعدّ سفهًا، وأكل للمال بالباطل.
وقد عدّ الشيعة الإمامية، استنادًا إلى الأدلة التي اعتمدوها، أنه لا يصح بيع ما لا يملكه الإنسان، لأن الناس مسلطون على أموالهم، لا على أموال غيرهم. والحديث «لا بيع إلا ما يملك» يدل على نفي البيع قبل تملك العين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بيع ما لا سلطان للبائع عليه، سواء أكان غير مملوك لأحد كالسمك في الماء، أو كان ملكًا لغير البائع، أو كان ملكًا للبائع مع عجزه عن السيطرة عليه، كالجمل الشارد، والعبد الآبق (الفارّ).
وقالوا: إنه يجوز للسمسار أن يتفق مع شخص معيَّن على أن يشتري مال الغير لنفسه، ثم يبيعه لهذا الشخص بثمن معيَّن. ولكن هذا الاتفاق لا يلزم الشخص بالبيع بل يعود الأمر له، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
روي عن عبد الرحمن بن الحجاج أنه سأل الإمام الصادق (عليه): «يجيء الرجل، فيطلب المتاع، فأشتريه ثم أبيعه منه، فهل يصح ذلك؟ قال (عليه): «أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ، لا بأس به».
وعلى هذا فإن كل ما لا يصح بيعه منفردًا لا يصح بيعه منضمًا إلى غيره مما يصح بيعه(+) .
وقال الإمامية: يجب أن يكون كل من العوضين معينًا عند المتعاقدين تعيينًا ينفي عنه الغرر، ولا يصدق عليه الإقدام على المخاطرة. فلا يصح بيع المجهول الذي فيه غرر، مثل بعتك ثوبًا، وبالمجهول كاشتريت هذا الشيء بثوب. بل لا بد من العلم مسبقًا بالقدر، والصنف، والوصف.
أما الأئمة الأربعة فقد فرقوا بين بيع المعدوم، وبيع معجوز التسليم، وعدّوا كُلًّامنهما من أنواع البيوع الباطلة.
ـ أما فيما يتعلق ببيع المعدوم، فقد اتفق الأئمة على أنه لا ينعقد ما له خطر العدم، كبيع النتاج، كما لو قال: بعتك ولدَ ولدِ هذه الناقة، وكذا بيع الحمْل الموجود لأنه على خطر الوجود، وبيع الثمر والزرع قبل ظهوره. فعن ابن عمران أن رسول الله (ص): «نهى عن بيع حَبَلِ الحبْلة»(+) .
ويلحقُ بالمعدوم بيع لؤلؤ في صدف، وبيع لبنٍ في الضَّرع، وبيع الصوف على ظهر الغنم، وبيع كتاب قبل تأليفه، وذلك لأن محل العقد غير موجود. وقد روي عن ابن عباس (رضي) أنه قال: «نهى النبيّ (ص) أن تباع ثمرة حتى تُطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع»(+) . وقد خالف الإمام مالك فقال بجواز بيع اللبن في الضرع في الغنم السائمة التي لا يختلف ثمنها - لا في الشاة الواحدة - أيامًا معلومة إذا عرف قدر حلابها. كما قال إن بيع الصوف على ظهر الغنم يصح لأنه مشاهد ويمكن تسليمه.
وهناك رواية عند الحنبلية تقرر ما ذهب إليه الإمام مالك من جواز بيع الصوف على ظهر الغنم شرط جزّه في الحال، ولأنه معلوم يمكن تسليمه. إلاَّ أن بعض الحنفية رأى ما يخالف ذلك، فقال ابن القيم وأسـتاذه ابن تيمية بجـواز بيـع المعـدوم عند العقـد إذا كان محقق الوجـود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب، ولا في السنّة، ولا في كلام الصحابة. بل ورد في السـنّة النهي عن بيـع الغـرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجودًا أم معدومًا، كبيع الفرس النافر، والجمل الشارد.
وقد صحح الشرع بيع المعدوم في بعض المواضع. فقد أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده. وعلى هذا فبيع المعدوم إذا كان مجهولَ الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم. فالأصل إذن هو الغرر(+) .



بيع معجوز التسليم:
ـ رأي جمهور الحنفية أن بيع معجوز التسليم لا ينعقد عند العقد، ولو كان مملوكًا، كالطير الذي طار من يد صاحبه، أو العبد الآبق (الفار). ويكون البيع باطلاً حتى لو ظهر الآبق فإنه يحتاج إلى تجديد الإيجاب والقبول، إلا إذا تراضيا حينئذٍ، فيكون بيعًا مبتدَأً بالتعاطي.
وقال بعض الحنفية: إن كان الطير داجنًا يعود إلى بيته ويقدر على أخذه جاز بيعه وإلاَّ فلا. وكذا يبطل العقد إذا جعل معجوز التسليم ثمنًا لأن الثمن إذا كان عينًا فهو مبيع في حق صاحبه.
ـ قال المالكية - لا ينعقد بيع البعير الشارد، والبقرة المتوحشة.
ـ وقال الشافعية والحنبلية: لا ينعقد بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء، أو السمك في الماء، والجمل الشارد والفرس العائر (الهائم) والعبد الآبق سواء علم مكانه أو جهل، ومثله بيع الدار أو الأرض تحت يد العدو لأن النبيّ (ص) نهى عن بيع الحصاة(+) وعن بيع الغرر. وعن أبي سعيد الخدري أن النبيّ (ص): «نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء الغنائم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض»(+) . وعن ابن مسعود أن رسول الله (ص) قال: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر»(+) . والمراد بالماء ماء النهر والبحر وكل ماء غير محصور. فإن كان محصورًا، كماء البركة، قال الحنفية والشافعية والحنبلية: يجوز بيع السمك فيه إذا كان يمكن أخذه من دون اصطياد وحيلة.
والخلاصة أن جميع المذاهب متفقة على بطلان بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإن كان هنالك بعض القيود أو التفصيلات في أقوال بعضها.
بيع المغصوب:
ـ قال الإمامية: لو أن أحدًا اغتصب مال الغير واشترى به شيئًا، فهل يملك المبيع ويحل له، بحيث يكون آثمًا وضامنًا للمال المغصوب؟ أم أن البيع يقع باطلاً ويحرم عليه التصرف في المبيع؟
سئل الإمام الصادق (عليه) عن رجل اشترى ضيعة، أو خادمًا، بمال أخذه من قطع الطريق أو السرقة، فهل يحل له ما يدخل عليه من ثمر الضيعة، أو عمل الخادم؟ فأجاب (عليه): «لا خير في شيء أصله الحرام، ولا يحل له استعماله»(+) .
وعلى هذا الأساس عدّ الإمامية أنه لو اشترى أحدهم شيئًا على أن يكون الثمن في ذمته، لا أن يقع الشراء على العين المغصوبة، وعند الوفاء سدد المشتري من مال الغير، صح البيع، وحل المبيع، لكن على المشتري الإثم والضمان. قال الإمام جعفر الصادق (عليه): «لو أن رجلاً سرق ألف درهم، فاشترى به جارية، وأصدقها المهر كان الفرج حلالاً، وعليه تبعة المال»(+) أي ضمانه.
ـ وقال الحنفية: لا ينعقد بيع المغصوب إلا إذا باعه الغاصب وضمنه المالك، أو باعه المالك وأقر الغاصب هذا البيع. فإن لم يقرّ الغاصب وكان للمالك بيّنة، ثم باعه فإن البيع ينعقد ويلزم المشتري. أما إذا لم تكن له بيّنة، وهلك المبيع قبل أن يسلمه، انتقض البيع.
ـ وقال المالكية: لا ينعقد بيع المغصوب إلا إذا باعه المالك الأصليّ لمن يقدر على أخذه من الغاصب. أما إذا كان الغاصب ممن يخضع لحكم الحاكم، فلا يستطيع أحد أن يأخذ ما تحت يده، أو كان ممن يخضع لكنه منكر، ولو عليه بيّنة، فإن بيع المالك في هذه الحالة لا ينعقد لأن البيع فيه خصومة. إلا أنه يصح أن يبيع المالك للغاصب شرط أن يكون الغاصب عازمًا على ردِّ المغصوب لمالكه. أما إذا كان عازمًا على عدم الرَّد فإن البيع لا ينعقد له.
ـ وقال الشافعية: لا ينعقد بيع المغصوب مطلقًا لا للغاصب، ولا لغيره؛ ولا من المالك ولا من غيره، إلا إذا كان مقدورًا على تسليمه. فكل مالٍ مغصوب في يد الغاصب لا ينعقد بيعه.
ـ وقال الحنبلية: يشترط أن يكون المبيع مملوكًا لبائعه وقت العقد ملكًا تامًا، وأن يكون مقدورًا على تسليمه حال العقد، وأن يكون المعقود عليه - من مبيع وثمن - معلومًا للمتعاقدين، وكل ما لا يصح أن يكون مبيعًا لا يصح أن يكون ثمنًا.
الشرط الرابع - أن يكون كل من العوضين معينًا عند المتعاقدين تعيينًا ينتفي معه الغرر : فلا يصح بيع المجهول الذي فيه غَرَر، كبعتك ثوبًا، وبالمجهول، كاشتريت هذا بثوب. بل لا بد من العلم مسبقًا بالقدر والصنف والوصف. وبعض الأشياء يكون سبيل العلم إليه المشاهدة، وبعضها الوصف، وبعضها الكيل، أو الوزن، أو العد، أو المساحة، وبعضها لا سبيل إلى معرفته إلا بالشم أو الذوق أو الكسر.. وهذا بيان لكلَّ من هذه الطرق:
المشاهدة:
إن المشاهدة العادية - أو الرؤية البصرية - لا تكون طريقًا لمعرفة كل شيء، بل لبعض الأشياء كالأثاث، والملابس، والكتب وما إلى ذلك مما تكفي فيه رؤية العين. ولا يعتدُّ بجهل بعض الصفات التي يتسامح بها العرف عادةً، لأن هذا لا يُعدُّ غررًا ولا ضررًا.
وقد أجمع الفقهاء على أنَّ المشاهدة تكفي في بيع الثوب والأرض، لأنه إجماع على تشخيص الموضوع والمصداق.. لكن بعضهم ذهب إلى أن المشاهدة ليست قاعدة كلية لصحة البيع، وإن قام عليها الإجماع، لأن الصحة في العقد هي عدم الغرر، فإذا تحقق بطل.
الوصف:
إن معرفة الشيء بنوعه أو صنفه فقط لا يرفع الغرر، فلا يصح شراء فرس فلان من الناس من دون رؤيته، ولكن يصح أن تشتريه بناء على وصف صاحبه بصفات معيَّنة كالسن والهزال والسمن، وأنه أصيل أو برذون. فإذا وجد المشتري المبيع مطابقًا للوصف حين القبض لزم البيع، وإلا فله حق الخيار في الفسخ. وكذلك الأمر إذا اشترى الفرس بناء على مشاهدة سابقة، وبعد أمد يقتضي بقاؤه على صفاته خلاله، فإن وجده عند القبض على الصفات نفسها لزم البيع، وإن رأى فيه خلاف ما عهده، ومما لا يتسامح به عادة، فله حق الخيار في الفسخ دفعًا للضرر. وهذا الخيار للبائع إن باع ملكه بناء على معرفته السابقة به، أو على وصفه له، فإذا تبيَّن له أنه قد زاد بما يستدعي ارتفاع الثمن ارتفاعًا لا يتسامح به كان له الخيار بالفسخ دفعًا للضرر.
المكيل والموزون والمعدود:
لقد أطال الفقهاء البحث في المكيل والموزون، وهل المكيل والموزون هو ما كان في زمن الشارع، أم أن لكل بلد عاداته وتقاليده في ذلك؟ كما أطالوا البحث حول ما إذا كان يجوز بيع المكيل وزنًا، والموزون كيلاً، والمعدود بالكيل، أو الوزن، أو المشاهدة. وكذلك فيما تفتقر معرفته إلى الاختبار بالذوق أو الشم، إلى غير ذلك. ومن البديهي القول: إن الوزنَ والكيلَ والعدَّ، كل هذه وما إليها وسائلُ لمعرفة الكمِّ. كما أن المشاهدَة والوصفَ واختبارَ اللونِ والطعمِ والرائحةِ وسيلةٌ لمعرفة الكيف.. والعبرة في ذلك كله برفع الغرر، فكل ما لا غرر فيه فهو صحيح، وكل ما فيه غرر لا يُتسامح به عرفًا، فهو باطل. وعلى هذا فإن المهم هو رفع الغرر حتى ولو كان عن طريق الحدس والتخمين، لأن القاعدة هي أن بيع الغرر محظور، وأن ما لا غرر فيه لا بأس به. ويدل على ذلك قول الإمام الصادق (عليه): «لا يحل للرجل أن يبيع بصاع غير صاع أهل المصر»(+) ، لأن صاع أهل هذا البلد معروف، وصاع غيرهم مجهول، ولو عرف صاع الغير لصح البيع به. فالمحظور إذن هو بيع الغرر، فإذا ارتفع بوسيلة من الوسائل فلا حظر.
وقد أجمع الفقهاء على جواز ابتياع ما يفسده الاختبار من دون اختبار، كالبيض أو البطيخ مثلاً، إذ يجب كسره أو شقه حتى يمكن اختباره. وجواز البيع أن الأشياء توجد بطبيعتها سليمة في الغالب. والمتعاقدان يجريان البيع على هذا الأساس. لكن هذا البيع لا ينفي الخيار للمشتري، بل يثبت له خيار الأرش، من دون الرد، وذلك تداركًا للضرر الذي يحل به. والمراد بالأرش أن يدفع صاحب العين إلى المشتري الفرق بين قيمتها صحيحة، وقيمتها فاسدة.
وإذا اشترط المشتري على البائع الرجوع عليه بالثمن في ما لو تبيَّن الفساد، ورضي البائع بالشرط، جاز البيع، كما أن البائع لو تبرأ من العيب، وقبل المشتري صح، لأن شراء المعيب جائز، والإقدام عليه مع العلم به يسقط الخيار.
وعند غالبية الفقهاء أن البراءة من العيب تفيد إذا كان للمكسور قيمة، وإلا فله الرجوع بالثمن. وإن تبرأ البائع من العيب (كما لو اشترى بيضة وكانت فاسدة) فإن للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن كاملاً وإلاَّ كان أكلاً للمال بالباطل وللثمن بلا مقابل. لأن من شروط العوضين أن يكون كل منهما ذا قيمة، وأن ما لا قيمة له لا يصح بيعه حتى مع التراضي والاختيار.
كما أجمع الفقهاء على أن بيعَ الحمْل جائزٌ مع أمه. وعند الغالبيـة عدم جواز بيع الصوف والشّعر على ظهور الأنعام. إلاَّ أن بعضهـم أجـازه قبـل جزّه، شـرط أن يكـون الجـزُّ فـي الحـال، أو خلال مدة معلومة، كما يجوز بيع الثمرة على الشجرة إذا بدا صلاحها.
كما أن الفقهاء اتفقوا على جواز بيع الزيت والسمن مع وعائه، على أن يطرح للوعاء وزن معيَّن بحسبما يتفق عليه الفريقان. قال رجل للإمام الصادق (عليه): جعلت فداك، نطرح من ظرف السمن والزيت لكل ظرف كذا رطلاً، فربما زاد، وربما نقص؟ قال (عليه): «إذا كان عن رضا منكم فلا بأس»(+) . ويعرف هذا عند الفقهاء ببيع الأنداد، أي الإسقاط مقابل وزن الوعاء. وهذا هو المألوف في بيوعات اليوم من بيع الفواكه والخضار في صناديقها، وبيع السلع المائعة والجافة في غلافاتها أو أوعيتها.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢