نبذة عن حياة الكاتب
السياسة والسياسة الدولية

وَاقع السيَاسة الأميركيّة
للسياسة الأميركية وضْعَان: وضعُ ما قبلَ الحربِ العالميةِ الثّانية، ووضعُ ما بعدَ الحرب العالمية الثّانية، وإن كان وضعها قبلَ الحربِ العالميّة الثّانية لا يهمّنا كثيرًا، ولكن لا مانع من أن نلمّ به. أما وضعُها بعد الحرب العالميّة الثّانية فإنه هو المهمّ لأن دراستهُ من أجلِ العملِ هي التي تثمر، أما دراسةُ وضعِها قبلَ الحرب العالميّة الثّانية فإنه يفيدُ في إدراكِ الأسس التي تقومُ عليها السياسةُ الأميركّيةُ ككلّ. وهذا ينفعُنا في العمل كمعلوماتٍ سابقةٍ للحكمِ على الحوادثِ الجارية.
والسياسةُ الأميركيّةُ قبلَ الحربِ العالميّة الثّانية كانت تقومُ على أساس الانفرادِ في نصفِ الكرة الغربيّ، ومن أجل ذلك تبنّت مبدأ مونرو. فكانت سياستُها الخارجيّةُ تقومُ على أساسِ حمايةِ نصفِ الكرةِ الغربيّ من الدّولِ الأخرى الموجودةِ في العالم القديم. والعالمُ القديمُ كان يتمثلُ لأميركا في أوروبا، لأنه بعد الحلفِ المقدّس الذي من أجله وُجِدَ مبدأ مونرو. لم يبقَ في العالمِ القديمِ قوةُ تهدّدُ أميركا أو يمكنُها أن تهدّدَ أميركا سوى أوروبا أي إنه بعد ضرب الدّولةِ الإِسلاميّةِ وإضعَافِها لم يبقَ في العالمِ القديم سوى أوروبا. لذلك بنت أميركا سياستَها في الدفاعِ عن نفسها (أي في حماية نفسها) على رسمِ سياسةِ خاصّةٍ تجاه أوروبا. ذلك أنه كان في أوروبا أربعُ دولٍ كبرى هي إنكلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا. وهذه الدّولُ بعد أن استراحت من الدولة العثمانيّة، صار الصراعُ بينها على أشدّه وأميركا كانت تغذي هذا الصراع.
فأوّلًا: : اعتمدت سياسةَ توازنِ القوى بين الدّولِ الأوروبيّة بحيث لا تتمكنُ أيّ دولةٍ من هذه الدول من السيطرةِ على أوروبا.
وثانيًا : تبنت إنكلترا تبنيًا تامًّا واحتضنتها وأيّدتها في سياسةِ توازنِ القوى بين الدول الأوروبيّة.
وثالثًا : كانت تقفُ إلى جانب أيّ دولةٍ أوروبيةٍ تريدُ دولة أخرى أوروبيّة أن تبتلعَها. وبسبب ذلك بقيت الدولُ الصّغيرة كما هي مثل سويسرا ولوكسمبرغ وبلجيكا والدانمارك إلخ. وبقي وضعُ إنكلترا قويًّا، كما بقي وضعُ فرنسا قويًّا.
والدولةُ التي كانت تخيفُ أميركا من أن تقومَ بالسيطرةِ على أوروبا هي ألمانيا في الدرجة الأولى وروسيا في الدرجة الثانية، ومن أجل ذلك دخلت الحربَ العالميّة الأولى ضد ألمانيا، واشتركت ضدها كذلك في الحرب العالمية الثانية، ومن أجل ذلك أيضًا وقفت في وجه روسيا بعد الحربِ العالميّة الثانية ومنعتها من اكتساح أوروبا.
فسياسةُ أميركا قبل الحرب العالمية الثانية وعقبها كانت سياسةُ توازنِ القوى في أوروبا من أجلِ حمايةِ نصفِ الكرة الغربيّ. ولم تخرج منه إلا في استعمار الفليبين من أجل اليابان، فإنها كانت تخشى من اليابان، ولكن كانت تكتفي بالاستعداد لضربها إذا فكرت في مهاجمتها فاستعمرت الفليبين من أجل هذه الغاية، واكتفت بذلك لعدم أهميّة خطر اليابان.
أما سياستُها بعد الحرب العالمية الثانية فقد تغيّرت تغيرًا كليًّا وانقلبت رأسًا على عقب، لذلك فإن السياسة الأميركيّةَ التي ينبغي أن تُدرس هي سياستُها بعد الحرب العالمية الثّانية، لأنها هي السياسة التي تؤثّرُ في الأحداث الدوليّة، والتي تحتاجُ مكافحتُها وإزالة خطرِها إلى تفهّمٍ عميقٍ، ومعرفةٍ بالدوافعِ والأساليبِ. وقبلَ كل شيءٍ لا بد من أن تؤخَذَ فكرةٌ عن الشّعب الأميركيّ، لأن الشعوبَ والأمم التي تختار حكامها بنفسها تُعدّ هي الدولةَ، لأنه لا يوجد هناك فرقٌ بين الشّعب والدولة، فالدولةُ الإنكليزيّة هي الشعبُ الإنكليزيّ، والدولةُ الفرنسيّة هي الشعبُ الفرنسيّ، والدولةُ الأميركية هي الشعبُ الأميركي، والشعب الأميركيّ أو أميركا، كانت حتى القرنِ الثامنَ عَشَرَ بل حتى أوائلِ القرنِ التّاسعَ عَشَرَ مستعمرةً من المستعمرات الأوروبية، فكانت الدولُ الأوروبيّة هي التي تستعمرها، ولا سيما إنكلترا. فلما قامت بثورتها الكبرى وطردت الدّولَ الاستعماريّة وطردت إنكلترا بالذات أصبحت دولةً مستقلّة، ثم صارت تنمو حتى صارت دولةً كبرى. إلا إن المبدأ الرأسماليّ والحضارةَ الأوروبيّة، صار هو مبدأها، وصارت هي حضارتَها، وصارت تعتنقُ الرأسماليّة كما يعتقدُها الأوروبيون سواء بسواء. وصارت حضارةُ أوروبا هي حضارتَها، لذلك فإنها من حيث المبدأ والحضارة دولةٌ أوروبيّةٌ لا فرقَ بينها وبين فرنسا ولا بينها وبين إنكلترا، ثم صارت تتزعّم هذه الحضارة وتدافعُ عنها كما تدافعُ الدّولُ الأوروبيّة، حتى قال إيزنهاور في أواخر الخمسينيات ـــــــ وهو رئيسٌ للولايات المتّحدة: «إننا مستعدون أن نقاتلَ دفاعًا عن طريقتنا في العيش» أي: دفاعًا عن الحضارة الغربية وعن المبدأ الرأسمالي.
إلا إن الشّعبَ الأميركيّ ـــــــ وقد قاتل في سبيل حريّته ودافع عنها، وبذل الغاليَ والنفيسَ في سبيلها ـــــــ قد تعشّق الحرية وصارت جزءًا من تكوين عقليته ونفسيته. ثم إنه نجح في الحياة ونجح في تجربته نجاحًا منقطع النظير بفضل دأبه وكفاحه فصارت لديه ميزتان هما الخيالُ الواسع، والإِرادةُ القوية، إلى جانب فكرة سدّ الذرائع (براغماتزم ـــــــ Pragmatisme) وهي سدّ أبواب التفكير والعمل للدفاع عن نفسه، وحصر فكره وجهده في العمل الذي يقومُ به.
لكن هذا الخيالَ الواسع الذي تتحلّى به أميركا اليوم يعودُ إلى عنصرٍ أساسيّ مهمّ من عناصر تكوينها وهو أن أميركا لا تقتصر فقط على شعبٍ واحد له عاداتهُ وتقاليدهُ بل هي من مجموعة الشعوب، بل هي من جميع أجناس البشر في الدنيا بحيث تجد بين مواطنيها أناسًا من كل دولة مهما صغر حجمها أو كبر، لذا نراها تحوي جميع الأفكار المتناقضة على الصعيد الفرديّ، لكن أبناءها على الصعيد الجماعي متفقون على العمل بدأبٍ وإخلاصٍ لمصلحة أميركا. ولهذا جمعت بين النظريّات العلميّة والنظريات الخياليّة. والإِخلاص والدأب كانا صلةَ الوصل بين الخيال والعمل فنتجت عنهما التقنية المتقدمة، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فإن انصهارَ جميع أفكار أبنائها مع تعدّد وتنوّع أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم في فكرٍ واحدٍ هو الفكرُ الديمقراطيّ جعل هذا التماسكَ والإِقدامَ على كلّ أمرٍ من الأمور التي تعود بالمصلحة على دولتهم، وخوّلهم أخيرًا أن يتبوّأوا مركزَ الصدارةِ في العالم. إلا إن هذا الفكر وقد اعتنق المبدأ الرأسماليّ والحضارةَ الأوروبيّة فإنه بالطبع صار الاستعمار واستغلالُ الغير جزءًا منه، بل الهدفَ الرئيسيّ له.
إلا إنّ هذه الناحيةَ الاستعمارية لأميركا لم تكن بارزةُ للناس قبل الحرب العالميّة الثّانية، لأن أميركا كانت تحصر أعمالها الاستعماريّةَ في نصف الكرة الغربي، فقام الحكمُ في أميركا على الأساسِ الرأسماليّ، وصارت الدولةُ عبارةً عن وكيلةٍ للأغنياء والرأسماليين، وأخذت تبسطُ سلطانَها على أميركا الجنوبية وعلى الجزرِ الواقعةِ في نصف الكرة الغربيّ. فكانت اسْتِعْمَارِيّتُها محصورةً في العالم الجديد، أما نصفُ الكرة الشرقيّ أو العالمُ القديمُ فكانت تبشر فيه بأنها تتوقُ إلى أن تغيّر العالم بقوة المثلِ الذي تقدّمه إليه عن نفسها من الحريّة والتحرير، والأخذ بأيدي الضُعفَاء ومساعدة الناس. لذلك كانت لأميركا سمعةٌ طيّبةٌ في العالم القديم، وكانت لها محبّةٌ وإكبار. إلا إنها بعد الحرب العالمية الثانية تكشّفت عن أنها دولةٌ استعماريّةٌ لا تقلّ خطرًا عن الدّول الاستعمارية الأخرى إن لم يكن خطرُها أفظعَ، وظهرت على حقيقتها ولم يجدّ لديها جديد، بل برز ما كانت تخفيه.
وإذا كانت بعد الحرب العالميّة الأولى قد عادت إلى وضعها الأصلي وسارت في سياستها المرسومة بحجة عدم استطاعتها القيامَ بمهمتها في تحرير الشعوب فإنها بعد الحرب العالمية الثانية لم تستطع الرجوع إلى وضعها القديم، أي إلى ما يُسمّى بالعزلة الأميركية لأن ظروفَ الدفاع قد تغيرت بإنتاج الذرّة والصواريخ العابرة للقارات ولأن آفاقَ الاستغلال قد انفتحت بعد تدفق البترول واعتماده المادة الرئيسية في السلم والحرب، واتسعت رقعة الفرص أمام الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة، فاضطُرّت لأن تتورطَ في العالم كله، واضطُرّت لأن تظلّ مشتركةً في السياسة الدولية ولأن تأخذَ على عاتقها أمر العالم كله.
أما ظروفُ الدفاع، فإن الخطرَ الذي كان عليها إنما هو من تغلّب دولةٍ كبرى من دول أوروبا على أوروبا وكان هذا الخطر محدودًا ومعيّنًا، وتكفي في دفعه سياسةُ توازن القوى بين الدول الأوروبية والتدخلُ عسكريًا حين يختلّ هذا التوازن. أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد برز الاتحاد السوفياتيّ دولةً تشكّلُ الخطر الأكبر عليها، سواءٌ أكان ذلك في قوته العسكرية أو في فكرته الشيوعية وكذلك تبيّن أن اليابان قد شكلت خطرًا على أميركا في الحرب العالمية الثانية، ونشأت الصين دولةً شيوعيّةً قويّةً قد تشكل خطرًا عليها في المستقبل، وخرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية واهيةَ القوى، فأوروبا الشرقيّة قد استولت عليها روسيا. وأوروبا الغربية في حالةِ إنهاكٍ وضعفٍ ولا تستطيع وحدها مواجهةَ الخطر السوفياتيّ الذي يهدد التوازنَ الأوروبيّ، وإلى جانب ذلك ظهر للرأسماليين وأصحابِ الأموالِ الضخمة ما كانت تتمتع به الدول الأوروبية من منافع في الدول التي تستعمرها، ورأت أن أوروبا نفسها يمكنُ أن تكونَ موضعَ استغلالٍ لأميركا. فصار أمامها عاملان جديدان مهمّان: عاملُ الدفاعِ الذي أوجدته الأحوالُ الجديدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وعاملُ الاستغلالِ الذي أسال لعابَها في البلاد المستعمرة وفي أوروبا ذاتها. وأمام هذين العاملين وقفت متحيّرة، لا تدري أيّ طريق تسلك هل ترجعُ إلى عزلتها أم تظلّ مشتركةً في هذا العالم؟ واستمرت حيرتُها من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى عام 1947م وهي تدرسُ الأوضاعَ الجديدةَ من دون أن تتّخذَ أي قرار. وفي عام 1947 قررت البقاءَ في العالم، والاشتراكَ مع الدول الأخرى في سياسة العالم وإدارته، وأصبح للسياسة الأميركية منذ عام 1947م خطّها الجديد. إلا إنها، لعدم عراقتها في السياسة الدوليّة، ولأنها تعتنقُ المبدأ الرأسماليّ، وهذا المبدأ نفسهُ تعتنقهُ الدّولُ الأوروبيّةُ، وهو يقضي بالصراع على المنافع وبأنّ الرغيفَ هو العلاقةُ بين الشخص والشخص، وبين الدولة والدولة، آكله أنا أو أنت، ولأنّها كانت تبشّرُ في العالم القديم بالمـُــــثُلِ الرفيعة والقيمِ العليا والتحريرِ من الاستعمار، وهي دولةٌ استعماريّةٌ لا بد من أن تظهرَ الاستعمارية في سلوكها. لهذه الأسباب الثلاثة وقعت في حيرةٍ في تنفيذ سياستها، ووقعت في ارتباكاتٍ كثيرة وارتكبت أخطاء فاحشة، واستمرت على هذه الحال طوال الخمسينيات حتى أوائل الستينيات حيث غيّرت سياسيتها وسارت في سياسةٍ أخرى.
فبالنسبة إلى الدفاع اتّخذت ـــــــ قبل الستينيات ـــــــ سياسةَ الأحلاف، وأقامت حزامًا حول روسيا من الأحلاف والقواعد العسكرية النووية وغير النووية، فأقامت مبدأ ترومان لحماية تركيا واليونان كمبدأ مونرو الذي أقامته للدفاع عن نصف الكرة الغربي، وأوجدت الحلفَ الأطلسيّ، وحلفَ جنوبي شرقي آسيا، وأوجدت مشروعَ مارشال لمساعدة أوروبا لتستطيعَ الوقوفَ على قدميها ضدّ الاتحاد السوفياتيّ، ثم أوجدت سياسةَ المساعداتِ الخارجيّةِ لتحرير الشعوب الخاضعة للشيوعية، ثم تقوية موقف عدم الانحياز الذي تتّخذه الدول غير المنحازة وتبنته وأخذته من إنكلترا أخذًا يكاد يكون تامًّا.
وأما بالنسبة إلى الاستغلال فقد وسعت سياسة المساعدات الخارجية حتى شملت أكثرَ الدول التي كانت مستعمرةً، واتّخذت سياسةَ العدوانِ غير المباشر من الانقلابات، والتخريب والتدمير، وشراء الذمم، سياسةً فاعلة، وسارت فيها في بلدان متعددة. وبذلك تحمّلت أميركا مسؤولياتٍ دفاعيةً ضخمةً خارج نصف الكرة الغربي، ومسؤولياتٍ اقتصادية في كل من أوروبا وآسيا وأفريقيا، ورضيت تحمّلَ هذه المسؤولياتِ العسكريةِ والاقتصاديّةِ، وسارت في سياستها بدأبٍ لا يعرفُ المللَ، وبقوةٍ لا تعرفُ الوهنَ، واندفعت فيها أيما اندفاع.
إلا إنّها لم تُوفقْ في هذه السياسة ولا في جهة من الجهات، إذ أخفقت فيها في الشرق الأوسط أو الأدنى كما أخفقت في الشرق الأقصى، وأخفقت في أوروبا كما أخفقت في أفريقيا، ووقعت في مآزق متعدّدةً، وارتكبت الأخطاءَ الفاحشةَ، وتخبّطت تخبطَ العشواء، مما اضطرها لدراسة هذه السياسة، ورسم سياسةٍ جديدةٍ سارت فيها منذ عام 1961م حتى الآن. أما السببُ في ذلك فراجعٌ إلى موقف الإنكليز في الدرجة الأولى منها ومن سياستها، ثم موقف فرنسا في الدرجة الثانية ثم الشعوب الأخرى في آسيا وأفريقيا وحتى العالم الشيوعيّ يشكّلُ خطرًا على العالم الحرّ وعلى الحضارة الغربية ويهدّدُ وجودَه ووجودَها.
وبذلك قامت السيّاسةُ الدوليّةُ على أساسِ أن العالم معسكران: معسكرٌ شرقيّ شيوعيّ وتتزعمه روسيا، ومعسكرٌ غربيّ أي معسكرٌ رأسماليّ أو العالمُ الحرّ وتتزعمه أميركا، وبذلك وضعت أميركا في موضع المسؤولية عن العالم الحر، وفي التصدّي لروسيا وللشيوعية... ثم أخذت الحربُ الباردةُ بين روسيا وأميركا تلبس ثوبَ الحربِ الباردةِ بين المعسكرين، فتورطت أميركا في حرب كوريا، وأخذتها على عاتقها. وعلى الرغم من أنها حربٌ بين المعسكرين فإن إنكلترا كانت تقومُ بأعمال خفيّةٍ لصالح الصين وروسيا ضد أميركا، ثم صارت تحاولُ القيامَ بأعمالٍ لتوريط أميركا ولإِضعافها، مما أربك أميركا وأوقعها في مآزق وأزماتٍ، فكانت مؤتمراتُ القمة كمؤتمر برلين ومؤتمر جنيف. وكان حلفُ بغداد لإسقاط محاولاتِ أميركا في إقامة حلفٍ دفاعيٍّ في الشرق الأوسط في الحزام الشمالي المربوط ضد روسيا، وكان الصراعُ العنيف حول ألمانيا للدفاع عن غربيّ أوروبا، وكانت العرقلاتُ التي تقومُ بها في أفريقيا والشرق الأوسط.
أما فرنسا فهي تعلم أن شعارَ الإنكليز هو أن إنكلترا تقاتلُ لآخر جندي فرنسي وأن أميركا قد جعلت أوروبا تابعة لها في مشروع مارشال، وجعلت فرنسا كواحدة من دول أوروبا وتابعةً لأميركا، والفرنسيون يشعرون بعظمتهم ومجدهم ويريدون إحياء تاريخهم، فإنهم قد أحسّوا بضرورة الانفصال عن أميركا وعن إنكلترا، والسير في محاولةِ تزعّمِ دول أوروبا ولا سيما أن مشروع مارشال قد أحيا أوروبا وجعلها تقفُ على رجليها على الرغم من أنه كان وسيلةً لبسط سيطرة أميركا عليها أي على أوروبا، لذلك مرّت فرنسا في حالةٍ من التخبّط ومحاولة الانعتاق من نير أميركا، حتى جاء ديغول وسار في سياسته الجديدة وفصَلَ فرنسا عن أميركا فِعْلًا، ووقف من إنكلترا موقفَ النِّد وصار يحاولُ أن تكونَ أوروبا من دون إنكلترا القّوَة الثالثة بين أميركا وروسيا، وصارَ يحاولُ التقرّبَ من روسيا، وبذلك ضعفَ موقفُ أميركا في أوروبا، وضعفَ موقفُها تجاه روسيا.
فكان من جرّاء موقف فرنسا، ومن جرّاء ألاعيب إنكلترا في أوروبا ومن جرّاء مشروع مارشال، أن تغيّر الموقفُ في إنكلترا وأوروبا تغيرًا كليًّا، فبعد أن كانت أوروبا ولا سيما إنكلترا وفرنسا وإيطاليا لا تستطيعُ أن تبقى بعد الحرب العالمية الثانية أُممًا مستقلّةً وكانت عرضةً لاجتياح روسيا لها، وابتلاع الاتحاد السوفياتي لها ابتلاعًا سهلًا فإنها بفضل المساعدات الأميركية ومحالفتها ظلّت دولًا وأُممًا موجودة، وقويت بهذه المساعدة فاستغنت عن أميركا في الحقل السياسي وصارت تناوئها، وصارت تحاولُ إزالةَ أميركا من الحقل الاقتصاديّ في أوروبا، وصار الحقلُ العسكريّ في حالةٍ ميوعةٍ وغموض.
هذا بالنسبة إلى أوروبا عمومًا، ولإنكلترا وفرنسا بشكل خاص، أما بالنسبة إلى أحوال الأمم والشعوب المستعمَرة في آسيا وفي أفريقيا، فإن سياسةَ أميركا في تحرير المستعمرات وتحويلها إلى دولٍ مستقلّةٍ قد أدت إلى صراعٍ حادٍّ بينها أي بين أميركا والدول المستعمرة، وتحوّل الاستعمارُ في أكثر هذه الشعوب من السيطرة العسكريّة والسياسية والاقتصادية، إلى السيطرة السياسية والاقتصادية بعد أن أُزيلت السيطرةُ العسكريّة منها.
ثم تحولت سياسةُ عدمِ الانحياز إلى مهزلةٍ حتى صارت الدّولُ الواضحُ فيها النفوذُ الإنكليزيّ أو الفرنسيّ تُعدّ نفسها دولًا غيرَ منحازةٍ وتدخلُ ضمنَ عدمِ الانحياز.
وبهذا كانت حصيلةُ السيّاسةِ الأميركيةِ في كلّ من أوروبا وآسيا وأفريقيا إخفاقًا في إخفاق، فلا هي استطاعت أن تأخذ الشعوبَ المستعمَرةَ من الدول الاستعمارية لاستعمارها هي، ولا استطاعت أن تحرّرَ هذه الدّولَ من ربقة الاستعمار، وبدل أن تجعلَ أوروبا قوةُ تقفُ في وجه الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي صارت أوروبا ولا سيما إنكلترا وفرنسا دولًا تناوئُ أميركا وتزاحمُها وتخلّت عن كونها قوةً أميركية، بل تخلّت فعلًا عن كونها معسكرًا غربيًّا مع أميركا.
أما السياسةُ الأميركيّةُ تجاه روسيا فقد أخفقت كذلك بسبب عاملين اثنين: أحدهما تغيّرُ وضعِ روسيا وتغيّرُ سياستها، والثاني عدمُ إخلاصِ الدّولِ المحالفةِ لأميركا للحلف الذي تدخل فيه ولأميركا. أما العاملُ الأوّلُ فإن روسيا قد صَنَعَتْ القنبلةَ الذريّةَ والقنبلةَ الهيدروجينيّة، وتقدّمت في السلاح النووي، وفاقت في أميركا في الصواريخ العابرة للقارات، وبذلك تغيّر توازنُ الدولتين تغيّرًا جذريًّا، فبعد أن كانت أميركا تتفوّقُ على روسيا بالسلاح الذريّ صارت روسيا توازي أميركا وتعادلها في هذا السلاح إن لم تتفوّق عليها في بعض النواحي، وتحوّلَ التوازنُ من توازنِ القوى إلى توازنِ الرّعب وحلّ محلّ الأمانِ الذريّ المأزقُ الذرّيّ، واستوت قدرةُ أميركا وروسيا في تدمير بعضهما بعضًا في حربٍ ذريّةٍ شاملة.
وفضلًا عن ذلك فقد أقامت روسيا حلفَ وارسو مقابلَ الحلف الأطلسيّ، وأخذت تهاجمَ الأحلافَ الأخرى حتى زعزعت ثقةَ أعضائها بها، وجعلتها في نظر كثير من الشعوب عارًا وتأييدًا للاستعمار الغربي، وصارت هذه الأحلافُ تشكّلُ خطرًا على أصحابها وصار يخالطُهم شعورُ الخوف من عواقب الخطر الذريّ، وبالتالي من عواقب هذه الأحلاف وبذلك فقدت هذه الأحلافُ قيمتَها ولم تعد لها أيّ منفعةٍ في سياسةِ الدفاعِ الأميركية..
بالإضافة إلى ذلك فإن السيّاسةَ السوفياتيّةَ تغيرت تغيّرًا أساسيًّا. فبعد أن كانت هذه السياسةُ تعتمدُ على التهديدات العسكرية، صارت تعتمدُ على الأعمال السياسيّة، وتخلت عن أسلوب التّهديد العسكريّ المباشر وغير المباشر، وصارت تتبع أسلوب التفوق السوفياتي والتوغل الشيوعي في العالم غير الشيوعي بوساطةِ الإنجازاتِ السوفياتيةِ التقنيةِ والاقتصاديّة، وصارت روسيا تسير في سياسة المساعدات الاقتصادية والمساعدات العسكرية، وصارت تعتمدُ على ذلك في سبيل إخضاع العالم غير الشيوعي للنفوذ السوفياتي. وبالنسبة إلى أوروبا فقد شدّت قبضتها على أوروبا الشرقيّة وجعلت أهلَها يلمسون إخفاقَ سياسة أميركا في تحرير الشعوب الخاضعة للشيوعية، وأخذت تغازلُ إنكلترا وتحاولُ إيجادَ علاقاتٍ بينها وبين فرنسا، وتحاولُ إضعافَ برلين الغربية وألمانيا الغربية وما إن قاربت الخمسينيات على الانتهاء حتى كانت روسيا في ذروة القوة وأصبح خطرها على العالم بل على أميركا أمرًا يُحسَبُ له حساب.
وبهذا كله ظهر لأميركا ظهورًا بينًا خطأُ السياسة التي رسمتها وخطرُ بقائها سائرةً في هذه السياسة، ومن أجل ذلك فكرت في تركِ هذه السياسة ورسمِ سياسةٍ جديدة، وكان ذلك في أواخر أيام أيزنهاور، ثم كانت وفاةُ دالس صانعِ هذه السياسة فجمدت الأمورُ كلّها لدى أميركا في دراسة الموقف والتفكير بسياسةٍ جديدة، إلى أن جاء جون كنيدي رئيسًا للولايات المتحدة فأخذ هذه الدراساتِ أو تبنّى السياسةَ الجديدةَ التي كان يفكّر فيها الأميركيون وصاغها صياغةً واضحة، ثم قام بإكمال الاتصالات السريّة مع روسيا التي بدأت منذ أيام أيزنهاور إلى أن كان اجتماعُ خروتشوف بكنيدي في حزيران عام 1961 وعُقدَتِ الاتفاقيّاتُ السريّةُ بين روسيا وأميركا، ومنذ ذلك التاريخ سارت أميركا في سياسةٍ جديدةٍ في العالمِ غير سياستها الأولى.
أما ما هذه السياسة فإنه لم يُكشَفِ النقابُ عنها بعد، ولم يُكشَفِ النّقابُ عن الاتفاقيّاتِ السرية التي عقدت بين روسيا وأميركا، لذلك فإنه من الصعب إعطاء تفصيلاتٍ عن هذه السياسة، أو إعطاءُ خطوطٍ عريضةٍ عنها، وذلك لسريتها، ولعدم كشف خفاياها ومراميها، لكن الدولتين روسيا وأميركا سارتا في تنفيذ الاتفاقيات خطواتٍ نقلت الموقفَ الدوليّ من حالة معسكرين إلى حالة دولتين، ومن حالة العداء والخصام بين أميركا وروسيا إلى حالة التقارب حتى وصل هذا التقاربُ بعد زيارة نيكسون رئيس الولايات المتحدة لموسكو في أيار عام 1972 إلى حدّ الصداقة الظاهرة، فإنه صار في الإمكان إعطاءُ صورةٍ أو لمحةٍ عن السياسةِ الأميركيّة الجديدة.
معلومٌ أن الأساسَ للسياسة الأميركية في العالم مبني على أمرين:
أحدهما : حمايةُ أميركا والدفاعُ عنها ضد كل خطر يتهددها أو يمكن أن يتهدّدَها.
وثانيهما : استغلالُ الشّعوب والأممِ لصالح أميركا... هذان هما الأساسان اللذان ليس من المحتمل أن يجري عليهما أيّ تعديل، واللذان ليس من المحتمل أن تكون السياسةُ الأميركيّةُ مبنيةً إلا عليهما. وانطلاقًا من هذا الأساس، وبملاحظة الحوادث التي حصلت والأسلوب الذي سارت فيه أميركا، تكونُ السيّاسةُ الأميركيةُ الجديدةُ كما يلي:
1 ـــــــ تخلت أميركا عن حساب أيّ قوّةٍ من القوى في سياستها الدفاعية، وصارت سياستُها الدفاعيّة هي التي تعتمدُ عليها وحدها، وعلى قواها ليس غير. فألغتِ الأحلاف والمعاهداتِ والاتفاقيّاتِ العسكريّةِ، وعدّتها كأنها لم تكن وتخلّت عن القواعد العسكرية جميعها، وذلك أن سياستها تجاه الدولة التي تخلّ بالتوازن في أوروبا، أي تجاه روسيا، صارت سياسة صداقةٍ لا سياسةَ مخاصمة، فلم يعد هناك لزومٌ لضربها والحيلولة دون خطرها بل يُكتفَى بإيجاد وضعٍ دفاعيّ يمكِّن أميركا من الدفاع إذا نقضت روسيا اتفاقياتها، أي انتقلت أميركا إلى الدفاع عن نفسها بنفسها إذا نقضت روسيا اتفاقياتها. أي انتقلت أميركا من سياسة الأمن المطلق إلى سياسة الأمن النسبي، لذلك صار التفاوضُ بينهما ولا يزال جاريًا حول الأسلحة التي تمكّن إحدى الدولتين من غزو الأخرى لإيجاد توازنٍ بينهما في القوى. وصارت سياستُها الدفاعيّةُ إيجادَ توازنٍ بين قواها وقوى الدول الشيوعية وعلى رأسها روسيا، وتركت سياسةَ توازنِ القوى بين الدول الأوروبية، وسياسةَ توازنِ القوى بين الدول الآسيوية.
2 ـــــــ تخلت عن سياستها بشأنِ الحيلولة دون التوسّع الروسي أو التوسّعِ الصينيّ، وحددت البلدانَ التي يمكنُ لأميركا أن تتوسّعَ فيها، والبلدان التي لا يمكنُ لأميركا أن تتوسّعَ فيها، والبلدانَ التي لا يمكنُ لروسيا أن تتوسّعَ فيها. وبذلك دخلت مع روسيا في لعبةِ شطرنجٍ مميتة، فإذا توسّعت روسيا في بلدٍ لا حقّ لها بالتوسع فيه وُجدَ خطرُ الحرب بينها وبين أميركا، وكذلك إذا توسّعت أميركا في بلدٍ لا حَقّ لها بالتوسع فيه وُجدَ خطرُ الحرب بينها وبين روسيا، أما البلدانُ التي يمكنُ لكلّ من أميركا وروسيا أن تتوسّعَ فيها، فإن التوسّعَ يجري بالرضا أو بالمنافسة الرياضيّة، وهذه أيضًا عرضةٌ للاحتكاك بينهما ويمكن أن يؤدّيَ هذا الاحتكاكُ إلى تنافسٍ، ويمكنُ أن يؤدّيَ إلى تصادمٍ، بل يمكنُ أن يؤدّيَ إلى حربٍ بين العملاقين. ومن أجل ذلك فإن السياسة الأميركية الجديدة في هذا المضمار تُعدّ لعبةَ شطرنجٍ مميتة. وصارت قابليةُ وقوعِ حربٍ ذريّةٍ مع روسيا، أقربَ منها في سياستها الأولى لأن سياسةَ توازنِ الدّولِ أو التوازن الدولي، أكثرُ مطاوعةً لتجنّبِ الحرب من سياسةِ توازنِ القوى بين دولتين وترك وسائل الاحتكاك بينهما بسياسة التنافس الرياضي.
3 ـــــــ سارت أميركا في سياسةِ احتكارِ السّلاحِ النوويّ لها ولروسيا، وصارت تحاولُ منعَ الدّولِ الأخرى من صُنْعِ هذا السلاح، لا فرقَ بين أن تكونَ من دول أوروبا أو من الدول الشيوعية، فهي كما تحاولُ منعَ الصين من تزايد قواها ومن التوسع فكذلك تحاولُ منعَ إنكلترا من تزايد قواها ومن التوسع. فصار جزءًا من دفاعها أن تُبقيَ الدولَ الأخرى في حالةٍ لا تشكّلُ خطرًا عليها.
وعملًا بهذا السياسة، أو من ثمراتها إلغاءُ القواعد العسكريّة في العالم ومنها القواعدُ العسكريّةِ الإنكليزيّةُ، وإلغاءُ الاستعمارِ إلغاءً تامًّا من جميع العالم بإعطاءِ كلّ شعبٍ من الشّعوبِ استقلالَهُ وجعلهُ دولةً مستقلّةً استقلالًا تامًّا، ومحاربةُ السّيطرةِ السياسيّةِ والسيّطرة الاقتصاديّةِ في أي بلد من بلدانِ العالَمِ ما عدا سيطرتها وسيطرة روسيا، وحصرُ المجالِ الحيويّ لأيّ دولة في نطاقٍ محدود، ومحاولةُ حصرِ المجالِ الاقتصاديّ في الأعمال المشروعة كالتجارة والصناعة والزراعة التي تتماشى مع القانون الدولي، وضربُ المجالِ السياسيّ لأيّ دولة أينما وُجدَ، وقلعُ النّفوذِ الأجنبيّ من أيّ مكانٍ يوجد فيه، ومنعه من أن يوجدَ في أيّ مكان، باستثناء الأمكنةِ المتّفق عليها بينها وبين روسيا.
4 ـــــــ إيجادُ أمكنةٍ في العالم المنزوعةِ السّلاح وعدمُ تمكين الدّولِ القائمةِ فيها من التسلح إلا بالسلاح الذي يلزمُ للأمنِ الداخليّ وللدفاعِ المحدود، وكذلك تحديدُ تسلّحِ بعض الدول في غير الأمكنة المنزوعة السلاح، وفرضُ شروطٍ قاسيةٍ على بيع السلاح للدول الأخرى. وهذا وإن كان يدخلُ في سياسةِ منعِ أيّ قوّةٍ تهدّدُ أميركا، فإنه يجمعُ إلى ذلك إيجادَ الأمنِ الدّائمِ لأميركا وروسيا، كألمانيا وأواسط أوروبا بالنسبة إلى روسيا، وكاليابان والشرق الأقصى بالنسبة إلى أميركا.
هذا بالنسبة إلى سياسة الدفاع، أما بالنسبة إلى سياسة الاستغلال، فإنه لم يلاحظ فيها أيّ تغيير اللهم إلا بالنسبة إلى أوروبا، فإن مشروَع مارشال قد انتهى، والدول الأوروبية صارت في غنى عن أميركا، بل صارت تناوئُ أميركا وتحاولُ طردَها من أوروبا، لكن أميركا قد نقلت مساعداتها لأوروبا من مساعداتٍ لتقويتها إلى صفقاتٍ من أجل استغلالها. وتجلّى ذلك في السياسة التجارية، والسياسة الصناعية، و السياسة النقدية. وإنه وإن كان الصراعُ بين دول أوروبا وأميركا على أشده من ناحيةٍ اقتصاديّةٍ لكن أميركا لا تزالُ تحاولُ فرضَ سيطرتها الاقتصادية على أوروبا، فلا يزال الدولارُ الأميركيّ قادرًا على فرض السيطرة النقديّة على أوروبا ولا تزال التجارةُ الأميركيةُ مزدهرة في أوروبا، ولا تزالُ المصانعُ الأوروبيّةُ خاضعة لتأثير أميركا.
أما بالنسبة إلى باقي البلدان، أي لآسيا وأفريقيا، فلا تزال السيّاسةُ الاستعماريةُ هي سياسة أميركا، وهي تتمثّلُ في الأمور التالية:
أولًا : سياسةُ التحريرِ من الاستعمار، وهذه السياسةُ تقضي بتحريرِ البلادِ المستعمَرةِ، وتحويلها إلى دولٍ مستقلّة، ثم النفوذِ إلى هذه البلاد عن طريق هؤلاء الحكام، سواءٌ أكانوا من عملائها، أم كانوا من عملاء الدولة المستعمِرة التي أعطت الاستقلال.
ثانيًا : المساعداتُ الاقتصاديّة، وهذه على تعدّد أنواعها، فإن الغابةَ منها كلّها واحدة وهي إفقارُ البلد المساعد، وربطهُ بعجلة أميركا، بحيث تكونُ المساعدةُ وسيلةً للإفقار، ووسيلةً لبسط السيطرة الاقتصادية والسياسية على البلد المساعَد. والقروض، ومساعدات التنمية وما شابه ذلك تؤدي جميعها الغاية ذاتها. كما أن أميركا لا تمنح الخير للأمم الضعيفة التابعة لها إلا رذاذًا لا انهمالًا طبعًا باستثناء دولة اليهود لأنه في نظرها يكون التقدير لها أكبر والعرفان بجميلها أكثر.
ثالثًا : المساعداتُ العسكريّة، وهذه المساعداتُ يُقصَدُ منها أمران: أحدُهما إيجادُ أسواقٍ للمصانعِ الأميركيةِ، وثانيهما هدرُ أموالِ البلدِ المساعَدِ على سلاحِ يتحولُ إلى حديد خردة، ويستهلكُ ثروةَ البلد المساعَد. إلا إن خطرَ هذه المساعدات يتجلّى في إيقاع البلاد في حالاتِ قلقٍ دائم، إما بإيجاد حروبٍ مصطنعةٍ بشكلٍ دائميّ لدوامِ توريدِ السلاح، كما هي الحال في الشرق الأقصى والشرق الأوسط، وإما بإيجاد محاولاتٍ انقلابيّة أو إيجادِ حركات تخريبٍ وتدمير فيوقعُ البلادَ في الفوضى و الاضطراب، إلى جانبِ إفقارها وهدر ثروتها. ولئن كانت المساعداتُ الاقتصادية تُوقِعُ البلد المساعد تحت طائلة الديون وبالتالي تجرّ إلى فرض السيطرة الاقتصادية والسياسية، فإن المساعداتِ العسكريةَ تجرّ زيادةً على ذلك إلى إفقار البلاد ووضعها في حالةِ فوضى واضطراب.
رابعًا : المشاريع الإنتاجيّة، سواءٌ المشاريعُ الأميركيةُ البحتة كمشاريع البترول ونحوها، أو المشاريعُ التي تدخل فيها مع دولة أخرى تابعةً لها كالمشاريع الألمانية واليابانية والإيطالية ونحوها، أو الدول المناوئة لها كإنكلترا وفرنسا، وهذه المشاريعُ تجعلُ لأميركا سيطرةً اقتصاديّةً وسياسيّةً في البلاد، وتكون وسيلةً لاستغلالِ الناس والبلاد من قبل الشركات الأميركية والأغنياء الأميركيين.
خامسًا : التضليلُ السياسيّ والعسكريّ.
أما التضليلُ السياسيّ فيتجلى في أمرين: أحدهما أن تحققَ على أيدي عملائها ما تريده هي تحت ستار قوميّ أو وطني. أي تحت ستارِ كفاح الاستعمار، والثاني أن تقومَ هي بأعمالٍ ظاهرةٍ لمصلحة الشعب كالجامعات الأميركية في القاهرة وبيروت وأنقرة، وكمشاريع المياه وتحلية مياه البحر ونحو ذلك. وأما التضليلُ الفكريّ فقد غلب على أميركا اتخاذُ فكرتي التحرر والاشتراكية، فتُشغِلُ الناسَ بالتّحرر والاشتراكية والتقدمية، وتجعلُهم ينقسمون أقسامًا متعددة تتناحر على الأفكار، وتبعدُهم بهذا عن الطريق الصحيح للتقدّم والازدهار. لذلك كانت أفكارُ التحرّر والتقدمِ والاشتراكيةِ من أهم وسائلِ أميركا في الاستعمار ومن أخطرِ الأمورِ على البلادِ. ونظرةٌ واحدةٌ إلى الدول التي تنادي بالاشتراكية تكفي للمس أثرِ هذه الأفكار في تأخر البلاد وسيرها في متاهاتٍ مجهولة النهاية. هذه السيّاسة الأميركيّة بالنسبة إلى آسيا وأفريقيا، أي هذه هي السيّاسة الأميركيّةُ لاستغلال الشعوبُ وهي سياسةٌ خفيّةٌ وخبيثةٌ تجرّ الشعوبَ لحظيرة الاستعمارِ بحيث لا تبقى لها إرادةٌ، بل تنجذبُ للخضوع لسيطرة أميركا كما ينجذبُ الفراشُ للنار، لذلك فإن مقاومتها أكثرُ صعوبةً من مقاومة السيّاساتِ الاستعماريةِ الأخرى. لكنها إذا فُهِمتْ على حقيقتها وفُهمتْ إلى جانبها سياستُها الدفاعيّةُ الجديدةُ، فإنه يُمكنُ أن تُسلَكَ الطريقُ لضربِ سياسةِ أميركا الاستعماريّةِ كلّها.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢