نبذة عن حياة الكاتب
السياسة والسياسة الدولية

وَاقع السيَاسَة الروسيّة
مرّت السيّاسةُ الروسيّةُ في أربعة أدوار هي:
الدور الأول: في عهد القياصرة حيث كانت السياسةُ الروسيّةُ سياسةً وطنيّةُ وكانت تقومُ على أمرين:
(أ) المحافظة على روسيا.
(ب) التوسع في حدود الدّولة وفي نفوذها.
الدور الثاني: بعد أن تسلّم الحزبُ الشيوعيّ الحكمَ في روسيا صارت سياسةُ الدّولة سياسةً شيوعيّةً تهدفُ إلى إيجادِ الثورةِ العالمية ونشر الشيوعية في العالم.
الدور الثالث: بعد وفاة لينين وتولّي ستالين الحكم في روسيا أصبحت سياسةُ الدولةِ سياسةً روسيّة شيوعيّةً تتخذُ المحافظةَ على الدّولة الروسية الأساسَ الوحيدَ للسياسة مع المحافظة على العمل للثورة العالميّة ونشر الشيوعية. فالثورةُ العالميّة ونشرُ الشيوعيّة لا يتأتى إلا عن طريق روسيا وبالمحافظة عليها. فالمحافظةُ على دولة روسيا وتوسيعها ونشر نفوذها هو الذي يجب أن يكونَ واجبَ كلّ شيوعي أينما كان وواجبَ السيّاسة الشيوعية في كل أعمالها، لذلك يقول ستالين: الثوريّ هو الشخصُ المستعدّ من دون مواربةٍ ومن دون قيدٍ أو شرطٍ وبكل شرفٍ أن يؤيّدَ الاتحادَ السوفياتيّ ويدافعَ عنه. والثوريّ الدوليّ هو الشخصُ الذي لا يضعُ شرطًا ولا يتردّدُ في الدفاع عن الاتحاد السوفياتي لأنه قاعدةٌ للحركة الثورية العالمية ويستحيلُ الدفاعُ عن هذه الحركة أو تقدمها من دون الدفاع عن الاتحاد السوفياتي.
الدور الرابع: بعد وفاة ستالين وبعد مجيء خروتشوف إلى الحكم واجتماعه برئيس الولايات المتحدة الأميركية جون كنيدي ومناداة زعماء روسيا بالتعايش السلمي تحولت السياسةُ الروسيّةُ الشيوعيّةُ إلى سياسةٍ روسيّة بحتةٍ تتخذُ الشيوعيّةَ والأحزابَ الشيوعيّةَ وسائلَ للمحافظة على روسيا وتوسيع حدودها ونشر نفوذها، أي رجعت إلى سياسة روسيا القيصرية مع فارقٍ واحدٍ فقط هو أنّ روسيا القيصريّةَ كانت تتّخذُ الأعمالَ السياسيّةَ والأعمالَ العسكريّةَ من أجل تنفيذ سياستها، أما الاتحاد السوفياتي حاليًّا فإنه يغلفُ الأعمالَ السياسيّةَ بغلاف الشيوعية والاشتراكية ويّتخذُ الأعمالَ العسكريّة وفقًا لمتطلبات السياسة الدولية بغض النظر عما تتطلّبه الشيوعيّةُ وإذا كانت سياسةُ لينين وسياسةُ ستالين أي السياسةُ الشيوعيّةُ بمختلف أساليبها صارت تاريخًا ولم تعد واقعًا فإنه لا فائدةَ من بحثها أو الحديث عنها. لذلك فإن البحثَ لا بدّ من أن يُحصرَ في سياسة الاتحاد السوفياتيّ الحالية لأنها هي التي تواجهُ الآن وهي التي من المنتظر أن تظلّ تواجهُ إلى أمدٍ بعيدٍ حتى لو تغيّر الحكامُ الحاليون وجاءت فئةٌ أخرى فإنه ليس من المنتظر أن تعود روسيا إلى السياسة الشيوعية لأن الفكرةَ الشيوعيّةَ فقدَتْ زخمها في روسيا وظهر عوارُها للعالم وإذا حصل أيّ تغيير في سياسة الاتّحاد السوفياتيّ الحالية ـــــــ إذا تغيرت الفئة الحاكمة الحالية ـــــــ فإنما يحصلُ في تخفيفِ تطبيقِ الشيوعية وفي تخفيفِ أو تلطيفِ تغليفِ الأعمال السياسيّةِ بها، لذلك فإن مواجهةَ السيّاسة الخارجيّة للاتحاد السوفياتي إنما تواجَهُ بصفتها سياسةَ روسيا لا سياسةَ دولةِ شيوعيّةٍ، وتواجَهُ الشيوعيّةُ فيها كغلافٍ للأعمالِ السياسيّةِ أو على الأكثرَ كأعمالٍ سياسيّةٍ لا كدعوةٍ شيوعيّةٍ تحملُها دولةُ كبرى.
وقبل البحث في سياسة الاتحاد السوفياتيّ لا بد من إعطاء لمحة خاطفة عن الشعب الرّوسي لأنه كما هو معروف لا يُوجدُ هناك شعبٌ غير الدولة وغير الحزب الحاكم في أي بلد يحكم نفسه فعلًا، وإنما الدولةُ هي الشعبُ والشعب هو الدولةُ، لذلك فإنه حين يجري الحديث عن الاتحاد السوفياتي يجري عنه كونه الدولة، لذلك لا بد من إعطاء لمحة عن الاتحاد السوفياتيّ أي عن روسيا. والاتحادُ السوفياتيّ ليست لديه أيّ صفاتٍ خاصّةٍ به كما هي الحال في إنكلترا أو أميركا، فإنكلترا تتميّزُ بالذكاء وسعة الحيلة وأميركا تتميّزُ بالخيال الواسع والإِرادة البنّاءة إلى جانب فكرة سدّ الذرائع (البراغماتيزم)، في حين أن الرّوس كسائر الناس في العالم أناس عاديّون، ولكن يوجد لديهم ما لدى الأمم الكبرى والدول الكبرى من حبّ السيطرة والغزو لذلك ظلوا محافظين على وضعهم العالمي كدولةٍ كبرى كسائر الدول الكبرى لا فرق في ذلك بين عهد القياصرة وعهد الحزب الشيوعيّ وإذا كان مبدؤهم الذي كانوا يعتنقونه هو المبدأ الرأسماليَّ أي: فصلَ الدين عن الدولة، فإن الفكرة الشيوعيّةَ والفكرةَ الاشتراكيّةَ الموجودةَ لديهم الآن والتي تسيرُ سياستُهم الخارجيّة بحسبها هي الفكرةُ الرأسماليّة ذاتها في مضمونها وفي السير بحسبها وإن سُمّيَتْ فكرةً اشتراكيّةً أو فكرةً شيوعيّةً، فإنها مجرّدُ تسمية وهي عمليًّا آخذةٌ بالتحول التدريجيّ إلى ما عليه الغرب من ترقيعِ فكرة الرأسماليّةِ وسيظلّ الاتّحادُ السوفياتيّ يرقّعُ الفكرةَ الاشتراكيةَ أو الفكرةَ الشيوعيّةَ عمليًّا إلى أن تصلَ إلى فكرةٍ رأسماليةٍ مرقّعةٍ لا هي بالاشتراكية الشيوعية ولا هي بالرأسماليّة. لذلك يمكن القولُ إنّ الاتحاد السوفياتيّ هو مثل أميركا ومثل إنكلترا دولةٌ كبرى تسعى لحماية نفسها وللتوسّع وبسط النفوذ. إلا إن الحكمَ في روسيا لا تتولاّه الطبقةُ الارستقراطية وتُوجِدُ فيه من تشاءُ لحماية وجودها ومصالحها كما هي الحالُ في إنكلترا، ولا ينتخبهُ الشعبُ حقيقةً لكنّه يكونُ وكيلًا عن الرأسماليين وأصحاب الثروة الضخمة كما هي الحال في أميركا، بل الحكمُ في روسيّا يتولاّه الحزبُ الشيوعيّ بالذّات وليس مطلق حزب، لذلك فإن الدّولةَ تكونُ دولةً شيوعيّةً مهما كان الأشخاصُ الذين يتولّوْنَ القيادةَ فيه ما دام الحزبُ الشيوعيّ هو الذي يستأثُر بالحكم، لذلك فإن الفكرةَ الشيوعيّةَ أو على الأصح الفكرة الاشتراكية ستظلّ هي المتحكمةَ في الدّولة وإن كانت ليست هي المتحكمةَ في السياسة الشيوعيّة، ذلك أن الأساسَ الذي تقومُ عليه الدولةُ الروسيّةُ اليوم أو الاتحادُ السوفياتي هو فكرةُ الاشتراكيّة أو الفكرة الشيوعية، والمجد الذي يتمتع به الاتحاد السوفياتي الآن إنما هو المجد الشيوعي والمجد الاشتراكي لذلك ستظل روسيا معروفةً بأنها دولةً شيوعيّةٌ أو دولةٌ اشتراكيةٌ وستظل صفتُها اللاصقةُ بها هي الشيوعية أو الاشتراكية.
صحيح أن الفكرة الاشتراكيّة في روسيا قد حصلت فيها تبديلاتٌ وتغيّراتٌ سمّوْهَا تطويرًا لكنّ هذه التغيراتِ نجمت عن طريقِ اجتهاداتٍ في الفكرة نفسها وفي أفكارها وأحكامها وهي وإن نقلتها إلى فكرةٍ مغايرةٍ كلّ المغايرة لأصلها لكنها ظلّت بالنسبة إلى الأساس شيوعيةً أو اشتراكيةً بالاسم وبأساس الاجتهاد، وهي ليست كالفكرة الإِسلامية حين تولّى الحكم معاوية وأوجد نظامَ ولايةِ العهد ولا كالفكرة الإِسلامية حين تولّى العثمانيون قيادةَ الدولة وجعلوها دولةً عثمانيةً أو تركيةً بل هي على خلاف ذلك تمامًا. فالفكرة الإسلاميّةُ كانت تعتقدُها الأمة كلّها عقيدةً جازمةً راسخةً لا فرق في ذلك بين عرب وفرس ولا بين ترك وهنود ولا بين أوروبيين وآسيويين أو أفريقيين لذلك لم تؤثّر فيها تصرفاتُ الحكام ولم تؤثّر فيها السياسةُ الخارجيّةُ بل لم يؤثّر فيها زوالُ الدولة الإِسلامية كلها زوالًا تامًّا وخضوع المسلمين لسيطرة أعدائهم عقودًا أو قرونًا زال فيها سلطانُ الإِسلام وسلطانُ المسلمين زوالًا تامًّا.
أما الفكرةُ الشيوعيّة الاشتراكيّةُ فإن الأمة لم تعتنقها بل اعتنقها أفرادٌ وإن بلغ عددُهم الملايينَ وَنُفّذَتْ على الناس بالحديد والنار لا بالطّوع والرضا والاختيار، لذلك لا تُعدّ الأمّةُ الروسيّةُ أمةً ولو تقسمت عدة دول، ولو ظهرت كعدّة شعوب، ومن هنا لا يصحّ أن يُعدّ الاتحادُ السوفياتيّ دولةً شيوعيّةً أو اشتراكيّةً إلى الأبد كما هي الحال في إنكلترا وأميركا بل يُعدّ دولةً شيوعيّةً ما دام الحزبُ الشيوعيّ هو الذي يتولى الحكم فيه، فتغليفُ الاتّحاد السوفياتي أعمالَه السياسيّةَ بالغلافِ الشيّوعي يجعلُ السيّاسةَ السوفياتيّةَ سياسةً متميزةً من سائر السياسات وإن كان أساسُها هو الأساس القيصري نفسه. لذلك لا بدّ من أن تُواجَهَ على أنها سياسةُ دولةٍ شيوعية لا سياسةَ روسيا القيصرية وتُواجَهَ على أنها سياسةُ دولةٍ كبرى مثل سياسة أميركا سواء بسواء ومن هنا كان لا بدّ من أن تُرْسَمَ خطوطُ عريضةٌ لسياستها الدولية وأن تُرْسَمَ خطوطٌ عريضةٌ لسياستها بالنسبة إلى آسيا وأفريقيا. والخطوطُ العريضةُ لسياسة الاتحاد السوفياتي الدولية وللتوسع السوفياتي وتتلخصُ في الخطوط العريضة التالية:
أولًا: إبقاء سيطرته كاملةً على دول أوروبا الشرقية التي يُسيطرُ عليها الآن وتمكينُ هذه السيطرة تمكينًا تامًّا بحيث يتعسّرُ أو يتعذّرُ على أيّ دولة من دول أوروبا الشرقية الانفلاتُ من قبضته، لذلك فإن من الخطأ أن يظنّ أحدٌ أن رومانيا تحاولُ الخروجَ من قبضته بل هي تسير بالاتفاق معه في سياسة التحرر والانفتاح. ومن غير المحتمل أن تسيرَ ألمانيا الشرقيّةُ في سياسة التقارب مع ألمانيا الغربية من أجل وحدة الشعب الألمانيّ بل هي تسير بحسب مخططاتٍ مرسومةٍ لإبعاد الوحدة عن ألمانيا ولتركيز الانقسام تركيزًا أبديًّا ولتنفيذ سياسة إيجاد منطقة منزوعة السلاح في وسط أوروبا. وإذا كان قد انزلق الاتحاد السوفياتي وأخطأ في جعل النمسا دولةً محايدةً فإنه لا يسمحُ لهذا الحياد أن ينقلَها من دائرة السيطرة السوفياتية أو يقربَها من دول أوروبا الغربية. وسياسته هذه ليست جديدةً بل هي سياسةٌ قديمةٌ. فالروس يَرَوْنَ منذ القِدَم أنه لا يمكنُ الاطمئنانُ إلى حماية حدودهم الغربية إلا إذا كانت دول أوروبا الشرقية تخضع لنفوذهم. وإذا كانت غزوةُ نابليون لروسيا قد جعلت هذا الخطر ملموسًا لدى الروس فإن غزوةَ هتلر لروسيا في الحرب العالمية الثانية قد أكّدت وجودَ هذا الخطر وعمقته في نفوسهم، لذلك فإنهم إذا جاز أن يتساهلوا في شيء فإنهم لن يتساهلوا من غير إبقاء دول أوروبا الشرقية خاضعة لسيطرتهم وفي قبضته أيديهم ولو أدى ذلك إلى خوض حرب عالمية من أجله.
ثانيًا : إبقاء الصين دون مستواهم وفي وضعٍ لا يرتفع إلى مستوى تشكيل خطرٍ عليهم. وإذا كانت روسيا في سبيل استرضاء الصين قد أزالت السيّطرةَ السوفياتيّةَ عن منشوريا وصفت الشركات وأعادت سيادة الصين كاملة على دارين وبورت آرثر فإنها لن تسمحَ بإعادة الأراضي الصينية الواسعة التي اقتطعتها روسيا من الصين أيام القياصرة وحين طلبت من الصين عقدَ معاهدةِ حسنِ جوارٍ لحل المشاكل بينهما بالوسائل السلمية فإنها قصدت تقييدَ الصين بقيود هذه المعاهدة حتى لا تدخل معها حربًا في سبيل استراجاع تلك الأراضي والبلاد. وبعد أن أصبحت الصينُ تسير في طريق القوة وضعت روسيا الخطرَ الصينيّ في مقدمة سياستها الخارجية ومن أجل توقي الخطر الصيني أجرت الاتفاقَ مع أميركا على وضع الصين ووضع الشرق الأقصى برمّته.
ثالثًا : إبقاءُ البلدان المحيطة بالصين في متناول يدها إما بالإشراف عليها ككوريا الشمالية وفيتنام وإما في وضع غير معادٍ لها بحيث لا يجعل للصين سيطرةً عليها. وما كانت حوادثُ فيتنام وبقية بلدان الهند الصينية مثل لاووس وكمبوديا إلا من أجل التضليل وكبح الخطر الصيني أو إبعاده وإضعافه.
رابعًا : جعلُ أوروبا الغربية في حال ضعفٍ دائمٍ والحيلولةُ دونها ودون أن تصبح قوية بحيث تشكّل خطرًا عليها لذلك لا تكتفي بالعناية في التوازن الدولي بين دول أوروبا الغربية بل تتجاوزُ ذلك إلى مراقبة دولها ومراقبة السوق الأوروبية المشتركة والحيلولة دون تكتيل دول أوروبا.
خامسًا : إضعافُ إنكلترا والحيلولةُ دون أن تعودَ دولةً كبرى وتصفيةُ القواعد الإنكليزية في العالم كلّه وتصفيةُ استعمارها في العالم وإضعافُ مركزها في الهند، فكما أنها ترى أن الصين تشكل خطرًا عليها فإنها ترى قبل ذلك وبعده أن الخطرَ الحقيقيّ من الغرب إنما يأتي من إنكلترا، فإنكلترا هي التي كانت تؤلّبُ العالم على روسيا ولا تزال تؤلّبُ العالم عليها، وإنكلترا هي التي أدخلت أميركا في الحرب العالمية الأولى والثانية، وهي التي كانت وراء الحرب الباردة التي كانت ناشبةً بين المعسكر الشرقيّ والمعسكر الغربيّ، لذلك فإن الاتحاد السوفياتي يُعدّ الإنكليز خطرًا دائمًا عليه.
سادسًا: مراقبةُ سياسة أميركا وتتبُعها وحصرُ الموقف الدولي بين روسيّا وأميركا وعدمُ عودة إنكلترا وفرنسا للاشتراك في المشاكل الدولية، وإبقاءُ العالم خاضعًا لسيطرتها وسيطرة أميركا، وحلّ المشاكل العالمية بالمشاركة بينها وبين أميركا، هذا بالنسبة إلى سياستها الدولية أي بالنسبة إلى سياسة الحماية لبلادها، أما بالنسبة إلى سياستها تجاه التوسع الشيوعي أو على الأصح توسع رقعتها وبسط نفوذها فإنها بعد اتفاقها مع أميركا صار التوسّع وبسطُ النفوذ يأخذان شكلين متمايزين أحدهما التوسع الشيوعيّ والثاني بسطُ النفوذ.
أما بالنسبة إلى التوسع الشيوعي فإن سياستَها فيه غيرُ محدودة وغيرُ مقيدة فما دامت هذه السياسة لا تنتقلُ إلى الإخلال بما اتفقت عليه مع أميركا أي لا تنتقلُ إلى توسيع نفوذها في المناطق الممنوعة من أن يكونَ لها نفوذٌ فيها فإنها تقومُ بالتوسع الشيوعي بحسبما تريد، لذلك فإن سياستَها الشيوعية أوسعَ مجالًا من سياسةِ بسطِ النفوذ. والخطوطُ العريضةُ لسياستها الشيوعية تتلخص بما يلي:
أولًا : اتخاذُ الأحزابِ الشيوعيّةِ في العالم وسيلةً لنشر الشيوعية في أي مكان لا فرق بين أوروبا وآسيا ولا بين أفريقيا وأميركا. فالأحزاب الشيوعيّة ترتبطُ بروسيا الدولة وبالحزب الشيوعي الروسي ارتباطًا وثيقًا وتمدّها روسيا بكل شيء: بالسند السياسيّ، وبالامداد الثقافيّ، والعون الماليّ، ورعاية المصالح الحزبية والفكرية، لا فرق في ذلك بين أن تكونَ هذه الأحزاب في الحكم مثل الأورغواي وكوبا، أو لم تكن في الحكم مثل الأحزاب الشيوعية في أوروبا وأفريقيا والهند وسائر بلاد آسيا.
ثانيًا : المساعداتُ العسكريُةُ والاقتصاديّةُ التي تمنحها للبلاد غير الشيوعية ولا سيما البلاد المتخلفة، لا فرق في ذلك بين البلاد التي هي في مجال أميركا مثل كوبا، والبلاد التي لها حق التوسع فيها مثل بعض البلدان الأفريقية، ويتبعُ هذه المساعدات وجودُ الخبراء أو المستشارين الروس. فهذه المساعداتُ وهؤلاء المستشارون تتّخذهم روسيا وسيلةً لنشر الأفكار الشيوعية.
ثالثًا : الكتبُ والنشراتُ الشيوعيّة والمطابعُ ودورُ العلم والكتبُ والنشراتُ التي تُتَرْجَمُ وتطبع في روسيا نفسها. وهي وإن كانت لا تعتمدُ اعتمادًا كليًّا على مراكزَ ثقافيةٍ لها، كما هي الحال في مكاتب المعلومات الأميركية، وإن كانت لا تّتخذُ الثقافةَ وسيلةً للسيطرة الثقافية، لكنها تحاولُ عن قصدٍ تثقيفَ الملايين بالثقافة الشيوعية والاشتراكية بمختلف الوسائل ومختلف الأساليب.
رابعًا : اتخاذُ الإنجازات السوفياتية مثل أمور الفضاء والتفوق السوفياتي، والوقوف إلى جانب البلاد الأخرى في هيئة الأمم، وسائلَ لنشر الشيوعية، وبيان أهميتها. وتجعلُ من تقدم روسيا وانتقالها من دولة كبرى إلى عملاق عالمي، وسيلةً لإفهام الناس أن هذا راجعٌ للفكرة الشيوعية وللتطبيق الاشتراكي.
خامسًا : تتبنى فكرةَ التحرّر من الاستعمار، ومهاجمة الاستعمار والامبريالية، وتنشر هذه الأفكار بصفتها أفكارًا شيوعيةً أو أفكارًا اشتراكيةً، وتجعلُ من احتضان الناس لها وإقبالهم عليها أداةً لاحتضان الأفكار الشيوعية والإقبال عليها.
سادسًا : تغتنمُ فرصةَ وجودِ الفقرِ والعوزِ، والظلمِ الاجتماعيّ والظلمِ السياسيّ، في بعض البلدان، وتطرحُ الفكرةَ الشيوعيّةَ كعلاجٍ لهذه المشاكل، وكأداةٍ لتحرير الشعوب والأمم وإنقاذها من براثن الجوع والمرض والجهل، وتطرحُها كأفكارٍ سياسيّةٍ لا كأفكارٍ عن وجهةِ النظر في الحياة، مما يُوجِدَ لها سوقًا حتى لدى بعض المتدينين.
هذه أهمّ سياساتها في نشر الشيوعية، وهي وإن كانت وسائلَ تستعملُها كذلك لبسط النفوذ والتغلغل في البلاد غير الشيوعية، لكنّ روسيا تستغلّ هذه الأمورَ في جميع بلدان العالم، لا فرق في ذلك بين البلدان التي لا يحقّ لها ـــــــ بحسب اتفاقها مع أميركا ـــــــ أن تتوسّع فيها ولا البلدان التي يحق لها فيها التوسّعُ وبسطُ النفوذ.
أما الخطوطُ العريضةُ التي تسيرُ عليها في بسط نفوذها والتغلغل الشيوعي في البلدان التي يحق لها التوسّعُ والنفوذُ فيها فإنها تتلخص فيما يلي:
1 ـــــــ توجيهُ جميع مقومّات الصراع السياسية والاقتصادية والعسكرية، نحو هدم العلاقات الدوليّة وعلاقاتِ المجتمع وتحويلها من علاقاتٍ رأسمالية أو علاقاتٍ إسلاميّةٍ إلى علاقات اشتراكية، ومحاولة إيجادِ تكتلاتٍ يساريّةٍ تكونُ لها السيطرةُ السياسيّةُ أو الاقتصاديّةُ في البلاد. وما تقوم فيه في بعض البلدان الأفريقية والآسيوية دليلٌ حيّ على ذلك.
2 ـــــــ إيجادُ الجبهات الوطنية في بعض البلدان، فتمدّ الأحزاب الشيوعية في البلد بنفوذها ومالها، من أجل أن تتغلغل في الأحزاب والتكتلات الأخرى للسيطرة عليها وتوجيهها لإيجاد حكمٍ اشتراكيّ، أو حكم رأسماليّ موجه من روسيا عن طريق الأحزاب الشيوعية والتكتلات اليسارية وإدخال الأحزاب الاشتراكية غير الشيوعية، ونظم الحكم الاشتراكية، في مجال الإسناد والدفاع، ومحاولةُ ربطِ بعضِ البلدان بها عن طريق الإسناد والدفاع، والمساعدات.
3 ـــــــ إيجاد التّناقضات بين أبناء الشعب، وتحويلُ الأمة إلى طبقات اقتصاديّة، وجعلُ التخريب بجميع أنواعه، من مظاهرات، وإضرابات، وحوادث عنف، وغير ذلك، وسائلَ لزعزعة كيان البلاد وجرّها إلى نفوذها أو إلى سيطرتها، وإيجادُ الكراهية والبغضاء بين الناس.
4 ـــــــ محاربةُ الأفكار القوميّة، والدينية، مع تشجيع الفكرة الوطنية، وبث اليساريّة بجميع أشكالها، وجعل التقدمية، والتحرر، والاشتراكية، أفكارًا مثالية، ومثلًا أعلى يُسْعَى للوصول إليه في البلاد، وجعل الإنجازات السوفياتية التكنولوجية والاقتصادية التي حققتها روسيا، أمثلةً على نجاح التقدمية والاشتراكية.
هذه أهمّ الخطوط العريضة لنشر النفوذ الشيوعي في البلاد، إلى جانب الخطوط العريضة لنشر الشيوعية، وإذا كانت روسيا قد اتخذت نفسها زعيمةَ الشيوعية، وهي تحاولُ أن تكونَ قائدة البلاد الشيوعية كلها، فإنها كذلك قد اتخذت نفسها زعيمة التقدمية والتحرر، وإسعاد المجتمعات، والأخذ بيد الضعفاء، لذلك تتغلغلُ في البلاد الشيوعية بمختلف الوسائل والأساليب لضمان تبعية الشيوعية لها أنى وُجِدَتْ، وتتغلغلُ في البلاد غير الشيوعية بمختلف الوسائل والأساليب لفرض سيطرتها عليها وإيجاد النفوذ السياسيّ أو الاقتصاديّ أو العسكريّ عليها. كل ذلك من أجل السيطرة ومن أجل جعل هذه السيطرة متحكمةً ومتأصلةً في البلاد.
وإذا كانت روسيا تحاولُ تنزيهَ نفسها عن الاستعمار، وتدّعي مقاومةَ الاستعمار، ونشر فكرة التحرر والتحرير، لكنها في الواقعٍ، بعد أن تركت الدعوةَ الشيوعيّةَ واتّخذت سياسةً جديدة لها، فإنها بسعيها لبسط النفوذ، إنما تقومُ بما تقومُ به الدّولُ الاستعماريةُ، فإن الدّولَ الاستعماريّةَ تسعى الآن لفرض السيطرة الاقتصادية والسياسة والثقافية على البلاد المستضعفَة لاستغلالها، أما روسيا فإنها تسعى لبسط السيطرة على البلاد المستضعَفة لإيجاد نفوذ لها فيها. وإنه وإن كان وجهُ الاستغلال الاقتصاديّ ليس هو البارزَ كما هي الحال في الدول الاستعمارية لكن بسطَ النفوذ يتجلّى بكل وضوح. هذه هي السياسةُ السوفياتيّة، فلا بد من أن تُفْهَمَ على هذا الوجه، فهي ليست سياسةَ حمل الدعوةَ الشيوعية، بل سياسةَ دولةٍ كبرى تسعى للتوسع وبسط النفوذ، وإذا فُهِمَتْ على هذا الوجه، فإنه يُمكنُ حينئذٍ اتقاءُ شرّها.


مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢