نبذة عن حياة الكاتب
حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي

الفصْل الخَامِسْ: الوِرَاثَة وَحَركة التَاريْخ
الوراثة والإرث:
الوراثة أو الإرث في اللغة هو انتقال قُنْيَةٍ من شخص إلى آخر من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، فيقال للقنية الموروثة: ميراث وإرث. وهذا ما تنطبق عليه أيضًا مضامين القوانين الوضعية حول الإرث والمواريث، بحيث ينتقل الميراث إلى الورثة الشرعيين أو المستحقين له وفقًا لكل نظام قانوني، تطبِّقه هذه الدولة أو تلك.
أما المسلمون فإنهم يطبقون أحكام القرآن الكريم في الإرث، مع بعض الاختلافات في تفسير المجتهدين حول كيفية توزيع الأنصبة على الورثة الشرعيين.
وعملًا بالنصوص القرآنية فإن الله تعالى هو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممَّن يشاء. وبذلك فإن ما في الكون كله، والوجود كله، هو ملك لله تعالى. لقد فطر سبحانه السماوات والأرض، وأوجد خلائق فيها، وكلها تتصرف وتنشئ، وتحيا وتزول، وفقًا لمشيئة الله تعالى المطلقة.
والناس على هذه الأرض هم بعض خلائق ربهم، يسرحون ويعملون في ملك الله الواسع بما يخدم وجودهم الأرضي، وبما يُعينهم على وجودهم الأُخروي. لذلك يجب ألَّا يستقرّ في أذهان الناس أنهم هم المالكون الحقيقيون لأي متاع أو مال أو حقّ، أو أن لهم حقوقَ ملكيةٍ دائمة هنا أو هناك. إن هي إلّا ملكية آنية، مؤقتة، ولكن بوكالة من المالك الحقيقي الذي هو الله سبحانه وتعالى...
الإنسان وكيل على ما يحوزه، والملك لله وحده
صحيح أن الناس يعملون، ويشْقون في سعيهم، لكي يمتلكوا الدور والمباني والمنشآت والأراضي، ومن ثمَّ يورثونها لمن يأتي بعدهم، من جيل إلى جيل، وفقًا لمقاييسهم الأرضية. إلَّا إن ذلك كله يبقى سببًا لاستمرار الحياة البشرية وفقًا لسنن الله تعالى، وسعي هذه البشرية لملاءمة أوضاعها وتحسين طرائق عيشها وحياتها... فالأرض إذن، بمن عليها، هي ملك لله تعالى، وهو ـــــــ سبحانه ـــــــ يورثها من يشاء من عباده، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة الأعراف: الآية 128).
ما من إنسان، بعد هذا النص القرآني، يستطيع أن يدّعي ملكيته لأرضٍ أو بناءٍ أو أي شيء آخر على هذه الكرة الأرضية لأنها كلّها لله تعالى. والإنسان هو وكيل، أي مستخلف، على ما يعتقد أنه ملك له، والمالك المتصرّف هو الله تعالى. والمالك هو الذي يورث ملكيته لمن يشاء، لذلك فإن الله تعالى يورث الأرض من يشاء من عباده وفق حكمته السَّنية، وسننه في خلائقه... وإذا ما وُجد في الأرض طغاة، جبارون، يتوهمون أن لهم المكنة في الأرض، وأنهم غير مزحزحين عنها، فصاحب الأرض ومالكها ـــــــ جلّ وعلا ـــــــ هو الذي يقرر متى يطردهم منها ويستخلف فيها قومًا آخرين!...
وراثة الأرض تجري وفقًا لسنّة الله تعالى:
وتبقى «العاقبة للمتقين»... مهما طال الزمن أم قصر، فلا يخالجنّ قلوبَ هؤلاء المتقين قلقٌ على المصير، ولا يخدعهم تقلّبُ الذين كفروا في البلاد فيحسبونهم باقين خالدين. إن عاقبة هؤلاء وخيمة لا محالة. والعاقبة الحسنى هي للمتقين، الذين يخافون الله تعالى، ويعملون بطاعته، فينشرون الحقّ والعدل والخير على الربوع التي يحلّون بها، وسوف تكون لهم الوراثةُ في النهاية، حتى ولو كانوا من المستضعفين. يقول تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (سورة القصص: الآية 5).
إنها سنّة الله تعالى التي تجري حاكميتها على أيّ فئة مستضعفة في الأرض ويريد الله تعالى أن يمنَّ عليها بالقوة والوراثة والرحمة. فهؤلاء الذين يبدو للأقوياء أنهم ضعفاء، لا بد من أن تتغير أحوالهم عندما يمنّ الله تعالى عليهم فيجعلهم أئمة وقادة بعد أن كانوا عبيدًا وتابعين، ويورثهم الأرض عندما يستحقونها بفعل إيمانهم وصلاحهم... حتى إذا غيروا ما في أنفسهم، وبطروا واستكبروا، فإن الله تعالى يعود ويورثها لغيرهم وفقًا لسننه الثابتة التي لا تبديل فيها ولا تحوُّل...
يقول الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (سورة الدخان: الآية 28). ويقول عزّ وجلّ: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (سورة الشعراء: الآية 59).
إن هاتين الآيتين الكريمتين تدلَّان على ما أورثه الله تعالى لبني إسرائيل بعد زوال فرعون وملئه وجنده... فقد كان فرعون ومَلَؤُهُ يعيشون في رغد من العيش والنعيم، إلَّا إن طغيانهم وجبروتهم قد أدى بهم إلى الاندثار النهائي... لقد أفسدوا في الأرض، وعصوا ربهم، وأشركوا به، فكان أن حلَّ عليهم قضاء الله تعالى، فنزع عنهم الملك، وأورثه قومًا آخرين، من دون أن يعبأ بهم، ومن دون أن يحزن عليهم أهل السماوات والأرض، لقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (سورة الدخان: الآيات 25 ـــــــ 29)... لقد ذهب أولئك الطغاة وتركوا ما كانوا فيه من نعيم... ذهبوا إلى غير رجعة، ولم يأسَ على ذهابهم أحد. ولو أدرك هؤلاء الجبارون ما في هذه الآيات المباركة من إيحاء، لأَحسّوا هوانهم على الله تعالى، وعلى هذا الوجود كله. ولعلموا أنهم يعيشون في الكون منفصلين عن حقائقه ونواميسه وسننه، من دون أن تربطهم بذلك كله الرابطة الحقّ، رابطة الإيمان الصادق!..
وأورثها قومًا آخرين: أورث النعيم، والمقام الكريم، ورغد العيش، لقومٍ كان فرعون وَمَلَؤُهُ يستضعفونهم، ويسومونهم سوء العذاب والمهانة... أورث ذلك كلَّه «بني إسرائيل».
والثابت في التاريخ أن فرعون عاش في مصر، كما من الثابت أيضًا أن «بني إسرائيل» قد خرجوا من مصر، فلم يرثوا ملك فرعون وكنوزه في تلك البلاد. لكن الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ أورثهم ملكًا مثل ملك فرعون، فيكون المقصود نوعَ الملك والنعمة، وليس المكانَ أو الأرضَ التي عاشوا عليها ردحًا من الزمن أيام حكم فرعون الطاغية. وهذا ما يوضّح لنا أن الله تعالى قد أورثهم ذلك، ربما بسبب ضعفهم وليس بقدرتهم ولا بعملهم أو إيمانهم. فقد شاء سبحانه أن يعوّضهم عن عذاب القهر والاستعباد والظلم، فأزال الطغاة، وأنعم على المستضعفين...
إن الله تعالى، وفقًا لسننه في خلقه، يورث الأرض من يشاء من عباده. فإن صَلُحَ أمر هؤلاء العباد، وساروا على الإيمان والتقوى، فإنه تعالى يُمدُّهم بأكثر، ويفيض عليهم بأحسن، أيًّا كان هؤلاء العباد، وحيثما عاشوا... أما إذا فسد أمرهم، وعصوا ربهم، وأنكروا نعمته وفضله، فلا شك في أنه سينزع عنهم الملك، ويورثه لقوم آخرين...
وبعد ذلك بِحِقَبٍ طويلة من الزمان بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا ورسولًا للناس كافة في قلب الجزيرة العربية حيث كان اليهود يحيَوْنَ في رغد من العيش، والأمان، والسيطرة الاقتصادية في كل الربوع التي وجدوا فيها. ولما أحسّوا أن مصالحهم المادية لا تتماشى مع الدعوة الإسلامية تألبوا عليها وأدخلوا المشركين في صراع مع حَمَلَتِها. لقد أرادَ اليهود الوقوف في وجه الإسلام، لكن أتباعه صبروا وصابروا، وسلاحهم الإيمان والتقوى، فكان لا بد من أن تتأكذ سنّة الله تعالى في خلقه، وهي السنّة التي لا تتبدل ولا تتحول لقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (سورة فاطر: الآية 43). وكان لا بد من زوال النعمة عن اليهود، وتوريث ديارهم وأرضهم للمسلمين المستضعفين، المتقين. يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (سورة الحشر: الآيات 2 ـــــــ 4). نعم إن وراثة الأرض هي لعباد الله، المستضعفين المؤمنين، أو لعباده الصالحين. يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (سورة الأنبياء: الآية 105).
أما الزبور فهو إما الكتاب الذي أوتيه داود عليه السلام، فيكون الذكر إذًا هو التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام والتي سبقت الزبور. وإما أن يكون وصفًا لكل كتاب أنزله الله تعالى وفيه أحكام من الذكر الذي هو اللوح المحفوظ، والذي يحتوي على المنهج الكلي لكل سنن الله تعالى في الوجود.
وفي أيّ حال فالمقصود هو أن الله تعالى قد أودعَ في الأرض سنّةً لوراثتها، وأن هذه الوراثة تكون لعباده الصالحين {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.
ولقد اتفق معظم المفسرين أن عباد الله الصالحين هم أصحاب النفوس الصالحة، التي يقوم منهجها على الإيمان والعمل الصالح. وقد ذهب آخرون إلى أنَّ مفهوم النص لا يقتصر على صلاح النفوس فحسب، بل يتعداه إلى إصلاح الأرض من حيث العمارة والزراعة والصناعة والتجارة وجميع السبل التي تعين على التقدم والازدهار.
وفي تقصّي المدلول القرآني لمعرفة ما حقيقة الوراثة، ومَن عباد الله الصالحون، لا بد من الرجوع إلى الاستخلاف وما المقصود منه. وذلك يظهر لنا أن الله تعالى استخلف آدم عليه السلام وذريته في الأرض من أجل عمارتها وإصلاحها، وغرسها وتنميتها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال، علمًا وعملًا، وفق ما قدَّر لها الله تعالى في علمه...
المنهج الإلهيّ لبني البشر:
ولقد وضع الله تعالى للبشر منهجًا كاملًا متكاملًا للعمل بموجبه في هذه الأرض، وهذا المنهج يقوم على الإيمان والعمل الصالح. وفي القرآن الكريم، الرسالة الأخيرة لبني البشر، فصَّل الله تعالى هذا المنهج، وشرّع له الأحكام التي تقيمه، وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته... في هذا المنهج ليس المقصود عمارة الأرض، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها فحسب، بل لا بد، مع ذلك كله، من العناية بنفس الإنسان، ليبلغ هذا الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة، فلا يتصرف بدافع هواه في وسط الحضارة المادية الزاهرة، ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته، في الوقت الذي يرتفع فيه إلى أعلى الذرى في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
لا بد إذًا من التوازن بين صلاح النفس وقدرتها على العمل المبدع. وفي الطريق إلى هذا التناسق وبلوغ هذا التوازن، قد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة. وقد يغلب عليها همج وبرابرة ومتخلّفون. وقد يغلب عليها كفار فجّار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها ويقيمون العمران والتمدن والحضارة، لكن ذلك يبقى استغلالًا ماديًّا ناقصًا، ما دام غير مرتبط برضى الله تعالى في خلائقه، لأن المطلوب في الإنشاء والبناء والتنمية والازدهار، والاستخدام والاستغلال، التركيز في خير الإنسان ونفعه. فما تجدي كل المدنيات والحضارات إن كان الناس يظلمون بعضهم بعضًا، ويعتدون على حقوق بعضهم بعضًا، ويخالفون أوامر الله تعالى في التعامل؟!. لذلك، ومهما بلغ تقدمهم المدني أو الحضاري، فإنه لا يرضي الله تعالى إن لم يكن فيه صلاح للعباد.
شرط الوراثة: الإيمان بسنن الكون والعمل بموجبها عن فهم:
لقد جاءت سنّة الله تعالى مؤكدة أن الوراثة الحقة إنما تكون للعباد الصالحين الذين يجمعون بين الإيمان بالسنن الكونية والعمل الصالح بموجبها عن فهم ودراية. فلا يفترق هذان العنصران في كيانهم ولا في حياتهم.
وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة، ليتحقق وعد الله تعالى وتجري سنّته: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون...
وفي القرآن الكريم خير الأدلة على ما أورث الله تعالى: «بني إسرائيل» من قبل، وما أورث «المسلمين» من بعد وفقًا لسنّته تعالى في خلقه...
{وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الحشر: 4).
والمقصود هنا في هذا النص القرآني هم بنو النضير من اليهود. فهم أهل الكتاب الذين كفروا، وأُخرجوا من ديارهم في المدينة، لأنهم شاقوا الله تعالى ورسوله، مخالفين ما هو مكتوب في التوراة والإنجيل، من التصديق ببعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدخول في الدين الذي يدعو إليه...
وكذلك الأمر فيما حلَّ ببني قريظة من اليهود، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (سورة الأحزاب: الآيتان 26 ـــــــ 27).
فالأمر في تلك الحالات كلِّها كان لله تعالى. فهو ــــــ سبحانه ـــــــ الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وهو ــــــ سبحانه ـــــــ الذي أنزل الذين ظاهروا المشركين من أهل الكتاب من حصونهم...
لقد عاهد الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم بني قريظة وكتب عليهم المواثيق، حتى إذا جاءت الأحزاب وحاصرت المدينة تريد غزوها، نكث بنو قريظة تلك العهود وناصروا الأحزاب مما شكل أشد الأخطار على المسلمين. حتى إذا قيّض الله تعالى لهم النصر على أعدائهم، كان لا بد من محاكمة بني قريظة على خيانتهم، وكان الحكم فيهم من سعد بن معاذ، سيد الأوس والضامن لبني قريظة أنفسهم. وبعد أن نفذ فيهم الحكم قال له الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى: «لقد حكمت بما حكم الله تعالى من فوق سبع سماوات»...
وهكذا أورث الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم للمسلمين، بعد أن كذبوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وشاقّوه، ونكثوا عهده، وحاربوا الإسلام حربًا شعواء لا هوادة فيها...
إنها سنّة الله تعالى التي لا تتخلّف، ومشيئته المطلقة التي لا تتوقف... لقد كان أجدر باليهود أن يتفكروا في مصارع الخالين من قبلهم، ووراثتهم لهم. وكان حريًّا بهم أن يدفعهم ذلك إلى الاهتداء، وإلى وعي سنن الله تعالى في خلقه، حتى لا يقعوا في الغفلة والضياع، فيأتيهم العثار، والهلاك والتشتت... وهذا ما هو مطلوب من المسلمين اليوم: أن يعودوا إلى ربهم، وأن يتبعوا قرآنه، ليستعيدوا ما ضاع منهم وما فاتهم بعدما تخلّفوا على مدار عصور عديدةٍ: فكرًا، وسياسة، وعملًا...


والعاقبة للمتقين:
إذًا فالقرآن الكريم يدلّنا، بما لا ريب فيه، على أن الله تعالى يورث الأرض لمن يشاء من عباده. لكن هؤلاء الذين يرثون ليسوا بمنأى عن العذاب، إن هم عصوا، واعتدوا، وأعرضوا عن الإيمان والصلاح، وعن طاعة الله تعالى والعمل بما يرضيه. وحتى لو كان ظاهرهم يوحي بأنهم من المسلمين، فالله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ ينقل منهم قُنْيَةَ هذه الأرض عند ارتكاب الذنوب، وإصرار أصحابها عليها، إلى قوم آخرين...
وقد يقف المسلمون أمام هذه الحقيقة متسائلين: هل إن الله تعالى قد أورث أراضيهم المقدسة في فلسطين لليهود؟ إنَّ في رجوعهم إلى قرآنهم ما ينبئهم ويعطيهم البيان الشافي لهذا التساؤل، والتفسير الكافي لهذا الوضع... فالله ــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ يَعِدُ الناسَ جميعًا الأمان، والطمأنينة، والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة إذا هم أخلصوا العبودية لله ـــــــ جلَّ جلاله ـــــــ وابتعدوا عن كل ما يلوّث الحياة ويهدر كرامة الإنسان. لذلك يقول موسى عليه السلام لقومه في كتاب الله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة الأعراف: الآية 128)...
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}... هنا مدار البحث. إنَّ عاقبة الاستخلاف، وعاقبة السيادة على الأرض، وعاقبة الوراثة، لا تكون دائمًا وأبدًا إلَّا للمتقين، أي الذين يحفظون أنفسهم من المعاصي والآثام. فهذه سنّة إلهية في بني البشر، وقد ثبتت حقيقتها وصدقها في مختلف الأمكنة وعلى مدار الزمان كله... فكم أهلك الله تعالى من أمم غابرة، بعد أن فجرت وفسقت وأفسدت في الأرض، كما حصل لقوم نوح، وعاد، وثمود، ولوط وغيرهم... وغيرهم. وهذه السنّة التي لا تبديل لها تبقى منطبقة على واقع المسلمين الراهن، وعلى احتلال اليهود لأراضيهم وإقامة دولة فيها. لذلك فإن الجواب عن طرح هذه القضية، ومن منطلق قرآني بحت، هو أنه لن تكون لليهود وراثة في الأراضي الإسلامية المقدسة، ما دامت الوراثة للمتقين، واليهود كما أثبتوا عبر التاريخ البشري وحتى اليوم هم أبعد الناس من هذه التقوى...

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢