نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الثاني

البحث الثاني: بَدر الكُبرى ونَتَائِجِها
الخروج في طلب العير
من المعروف أنَّ القوة الاقتصادية تشكل ـ عادةً - أهم الدعائم الأساسية للمجتمعات البشرية، إذ بدون توفر الموارد الاقتصادية الكافية، وقيام النظام الاقتصادي السليم، الذي يؤمّن للدورات الاقتصادية ظروفَها وطرقَ نجاحها، فإن المجتمع يبقى عرضة للتقلبات واستجداء مقومات الاستمرار والاستقرار.. ولقد كانت قوة قريش الاقتصادية في تجارتها الواسعة، حيث كانت قوافلها تجوب الأقطار البعيدة لتصل إلى بلاد الشام، واليمن، ومصر، وتجني الثروات الكبيرة، التي جعلتها سيدة القبائل في جزيرة العرب.
ولم يكن الهدف الأول من السرايا والغزوات التي قام بها المسلمون، في طليعة العهد المَدينيّ، إلاَّ رصد أخبار قوافل قريش، لتدبير الخطة التي تمكِّن من القضاء على قوَّتها الاقتصادية، تلك القوة التي كانت في نظر المسلمين بمثابة الأجنحة التي تحلِّق بها قريش في الأجواء البعيدة، والمخالب التي تمزّق بها كلَّ من يحاول اعتراضها أو الوقوف ضد مصالحها ومآربها.. فإذا أمكنهم قصُّ تلك الأجنحة، وتقليم تلك المخالب، فإن شوكة قريش - ولا ريب - سوف تنكسر، فينهار طغيانها ويذهب استبدادها، وعندها يمكن للمسلمين نشر دينهم واستعادة حقوقهم وأموالهم التي سلبتهم إياها ظلماً وعدواناً.
أما قريش - وقد صار مؤكّداً لديها ما يخطط له «محمد» وأصحابُهُ - فقد راحت من جانبها تُعِدُّ الخطط أيضاً لحماية قوافلها، والمحافظة على تجارتها، متخذةً لذلك كافة الوسائل، وجميع تدابير الحيطة: فزادت الرجال الذين يرافقون القوافل ويحمونها، وغيَّرت بعض الطرق التي كانت تسلكها في العادة. ولعلَّ استيلاء عبد اللّه بن جحش على تلك القافلة الصغيرة التي كانت قادمة من الطائف، ما ينذر بالخطر الذي كانت تتوقعه لقطع طرق التجارة عليها، وحصرِها في داخل مكة، مما جعلها تتخذ وسائل الحماية تلك،وتنفِّذها فعلياً.
وفي تلك الأثناء، التي كان فيها الحذرُ سيدَ الموقف، خرجت قافلة لقريش، يقودها أبو سفيان بن حرب، كانت من أعظم قوافلها، وأجمعها لأموالها، حتى قيل بأنَّ أكثر أهل مكة قد شاركوا في تلك القافلة التي قدِّرت حمولتها بحوالى خمسين ألف دينار - وهذا في الوقت الذي كان فيه للمال قيمة كبيرة، نظراً لقلته بين أيدي الناس - ممَّا جعل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخرج بنفسه في غزوة العُشيرة، يريد تلك القافلة، بعدما تناهت إليه أخبارها، ولكنها فاتته في ذهابها إلى الشام إذ تأخر عن إدراكها بيومَين، ولكنَّهُ قدَّر المدة التي قد تستغرقها في رحلتها، ومقاربة الوقت الذي قد تعود فيه إلى مكة.. فبات ينتظر اقتراب الموعد، بعدما بثَّ العيون ترصد الأخبار عنها، فلمّا فصلت العير (القافلة) من بلاد الشام، جمع أصحابه من ذوي المشورة، وأبلغهم عزمه على العمل لاعتراض أموال قريش..
ثم دعا إليه المهاجرين والأنصار، يحضّهم على الخروج، ويقول لهم: «هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا لعلَّ الله يُنفِلُكموها»[*].. ثم بعث كلاًّ من طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، يتسقّطان الأخبار، ويوافيانه بها..
وبدون أن يرتقب رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عودة عيونِ رَصْدِهِ، ومن غير أن ينتظر غائباً أو يحثّ متراخياً، أمر بساعة الخروج، فأسرعَ من أسرعَ ملبيّاً، وأبطأ من أبطأ متخلّفاً، وفي ظن هؤلاء المتخلّفين أنها غزوة كغيرها، ويعود الرسول وصحابتُهُ كما خرجوا، من غير أن يقع قتال - أو تدور مناوشة - تماماً كما كان يحصل في البعوثات السابقة.. على أن جماعةً من المسلمين، وقد رأت ذلك الجمعَ يلتفُّ حول رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنها تصورت بأن عير قريش لا تستأهل عدداً أكثر من الرجال، فقعدت مع القاعدين.. ولقد أراد رجالٌ من غير المسلمين أن يندسّوا في الركب، بحجة أن يكونوا عوناً، ولكنَّ نواياهم لم تكن لتخفى على الرسول، إذ كانوا يبدون - في الظاهر - تقديم المؤازرة، ولكنهم يخفون - في الباطن - الطمعَ في الغنيمة الوافرة، ولذلك طلب منهم رسول اللّه واحداً من أمرين: إما الدخول في الإسلام والخروج معه - إن أرادوا خروجاً - أو الاستغناء عن مرافقتهم.. وأسقط في أيدي الطامعين، إذ لم يكونوا يتوقعون أن يصدَّهم «محمد» بمثل هذا الموقف الحازم، فتولّوا معرضين، مبهوتين.. وبذلك أمكنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخلاص منهم، وكفى الله المؤمنين خبالَهُمْ.. وخرج رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الاثنين لثمان ليالٍ خلون من شهر رمضان[*] سنة اثنتين للهجرة، في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، عدد أصحاب طالوت[*]، بعدما استعمل على المدينة أبا لبابة، وأوكل إلى عمرو بن أم مكتوم الصلاة بالناس... وخطا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أول خطوةٍ أمام جيشه، مستفتحاً بذكر الله تعالى: «بسم الله وعلى بركة الله»، فردّدتِ الحناجر من ورائه «بسم الله، وعلى بركة الله»..
وعندما بلغت المسيرة بيوت السقيا، وهي على مسافة ميلٍ واحدٍ من المدينة، أمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنزول، والتزوّد من ذلك الماء العذب للمشوار الطويل.. وتعجَّبَ الناسُ!.. إذ لم يكن التعب قد بلغ ما يستدعي الراحة، ولكن سرعان ما ذهب ذلك العجبُ عندما رأوا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتفحَّصُ الرجال فرداً، فرداً، ليعرف من هو قادر على حمل السلاح، ومن لا قِبَلَ له بذلك.. ووجد بين المقاتلين بعض الفتيان، من حديثي السن، الذين لا يقوون على تحمل وعثاء السفر، فكيف بهم على تحمل أعباء القتال، إذا ما فرض على المسلمين في ذلك الخروج؟!..
وأخذ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يمسحُ على رؤوس هؤلاء الفتيان وأكتافهم بيده الشريفة، وهو يواسي نفوسهم بما تحمل من همّةٍ وإقدامٍ، وبما ينتظر الإسلام منهم في مقبل الأيام.. ثم طلب إليهم الرجوع، وهو يدعو لهم بالتوفيق.. وكان بين هؤلاء الفتيان البراء بن عازب الأنصاري[*] وعُمير بن أبي وقاص - أخو سعد بن أبي وقاص - فقد ظل مستخفياً عن الأنظار حتى رأى رفاقه يعودون، فأجهش عندئذٍ بالبكاء، وتقدم يتمسّك بأطراف أخيه، لكي يشفع له عند رسول اللّه، فيأذن بمرافقته، لأنَّه عازمٌ على هذا الخروج - على الرغم من صغر سنه - لعلَّ الله (تعالى) يرزقه الشهادة، وهو يجاهد في سبيل إعلاء كلمة الدين!.. واحتار سعدٌ في ما يفعل، بيد أنه رأى أن يأخذَ أخاه على لينٍ فقال له:
ولكنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يأمرنا، يا أخي، بطاعته وطاعة رسوله الكريم، وخروجك معصية لأمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا طاعة، يا أخي، في معصية الله ورسوله!.. فقال عمير: إذاً، ما العمل، وأخاف أن يردَّني رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أعقابي؟!.
قال سعد: هاتِ يدك، وتعالَ معيَ لتخبرَ الرسولَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمنيتك في الذودِ عن حياض الدين.. ولن يبخل عليك، أو على إنسانٍ، صغيراً كان أو كبيراً، بالمكرمة التي فيها نيل رضوان الله تبارك وتعالى..
وتتصدر على صفحات الزمان حكاية الفتى عمير بن أبي وقاص، ابن السادسة عشرة الذي لم تطب له نفس إلاَّ بالخروج مع المؤمنين.. وقد استكبر الرسول الأكرم همَّة هذا الفتى، وقوة الإيمان والشجاعة لديه، فأجاز له المسير مع الرجال، ليكون له في بدرٍ شأن خاص - كما سنرى ـ.
وانجلت - إذن - الغاية من الوقوف على بعد ميلٍ من المدينة؛ فخروج المسلمين، بقوة الحماسة والاندفاع، لا يكفي وحده، بل يجب أن يقوم على اختبار مدى العزم لدى الرجال، وتنظيم الصفوف حتى يكون للعمل الجماعي التأثير والفاعلية اللذان يتيحان التعامل مع المخاطر التي قد تواجههم، لاسيما وأنَّ سيرهم في أرض الأعداء الذين ينتشرون في مختلف النواحي، قد يدفعهم إلى مهاجمة هذا الجيش المسلم الصغير، بصورة مفاجئة، فيُنزلون به - إن لم يكن منظماً، ومتأهّباً للقتال - خسارة كبيرة، تأتي بأسوأ النتائج على مسيرة الدعوة ككل.. والأدهى من ذلك، أنه كلما بَعُدَ هذا الجيش عن المدينة، ازدادت أخطار الأعراب عليه، من جميع القبائل التي استلهمت عناد قريش، في محاربة الإسلام، تحت ذريعة الحفاظ على دينها ودين آبائها وأجدادها.. من هنا عمد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى تنظيم صفوف رجاله على بيوت السقيا - بعدما تفقدهم - بما يحول دون مفاجأة العدو وغدره، فجعل في المقدمة الزبير بن العوام، وفي المؤخرة قيس بن أبي صعصعة، ثم عقد ثلاث رايات: راية بيضاء ودفعها إلى مصعب بن عمير، ورايتين سوداوَيْن: أعطى واحدة، واسمها العقاب، إلى علي بن أبي طالب (عن المهاجرين)، والأخرى إلى سعد بن معاذ (عن الأنصار)[*]. فكان أولئك المقاتلون، وبمثل هذا التنظيم، أولَ نواةٍ للجيش الإسلامي في المدينة، أما سلاحه فكان - قبل أي اعتبار - الإيمان بالله تعالى، وعدّتُهُ ملءُ نفوس هؤلاء الرجال صدقاً وتوكّلاً، وعتاده سعة الصدور عزماً، وصلابةً وشجاعة.. أما وسائل النقل لذلك الجيش، فكانت هزيلة - لا تذكر - إذ لم تزد على سبعين بعيراً[*] وفرسين: واحدة للمقداد بن الأسود، والثانية للزبير بن العوام.. لذلك أمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يتناوبَ الإثنان والثلاثة بعيراً فكان رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليّ بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنومي يتعاقبون بعيراً، وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كَبْشَةَ وأَنسَة (موليا النبي) يتعاقبون بعيراً، وكان أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف يتعاقبون بعيراً[*]. وكم حاول المقداد والزبير أن يأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحد فرسيهما ليكون له طوال الطريق، فيأبى عليهما؛ وكذلك فعل عليٌّ ومرثد وهما يتوسّلانه أن يبقى في ركوبه على البعير، ويسيرا بركابه، فلا يرضى إلاَّ أن يكون مثل أيّ نفرٍ في جيشه، حتى لا يتميز عن أحدٍ منهم بخصيصةٍ - شأنه في كل حياته الشريفة ـ، فيقول لهما: «ما أنتما منّي بأقوى على المشي، وما أنا بأغنى منكما عن الأجر»..
وتلك هي روعة الإسلام، فالكل سواء في الواجبات، كما الكلّ سواء في الحقوق، ورسول الإسلام محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو القدوة والأسوة، فلا يخرج عن هذا النهج السويّ.. فالإسلام عقيدة، ومبدأً، ونهجاً، إنَّما تطبيقه واحد على الجميع، بما يتوافق مع مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة على حدٍّ سواء..
وهذه الحقيقة من حقائق الإسلام قد سنَّها رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتعايش كل زمان ومكان، فلا يطرأ عليها تغيير أو تبديل، فالحقوق مقابل الواجبات، والأجر على مقدار الإخلاص والمشقة، ووحدة الصف أساس النهج، ووحدة الكلمة واجب شرعي.. فكان طبيعياً أن تكون هذه التعاليمُ الإسلامية زادَ الجيش في مسيرته، وأن يكون رسول اللّه، قائد هذا الجيش، مثالاً حيّاً لسلوكِ أفراده..
وبمثل هذه الروحية الإسلامية، مضى الركب المحمدي من محلة بيوت السقيا كأمضى من السيف في عزمه، في تشكيلٍ مفتوحٍ لتحقيق غرضين اثنين: السرعة في السير، والأمن من مفاجأة عدوٍ، في انقضاض غادر.. وزيادة في الحرص، وحين صاروا بالقرب من قرية الصفراء بعث الرسولُ القائدُ كلاًّ من بسبَس بن الجهني - حليف بني ساعدة - وعَدِيٍّ بن أبي الزَّغباء - حليف بني النجار - بمهمة استطلاعية، لتحسُّسِ الأخبار، فتقدما الركب إلى أن انتهيا إلى ماء بدر، فأناخا إلى تلّ قريب من الماء يستسقيان، فاسترعى انتباههما حديثُ جاريتين من جواري قومٍ نزلوا على الماء، إذ تقول إحداهما للأخرى:
ـ لكِ أن تلوميني يا أختاه على ما قصّرتُ في أداء دينك عليّ، ولكنْ أحسبُ أن الفرج قد قرب، وسوف أوفي حقك كاملاً..
قالت الدائنة: وكيف؟
قالت المدينة:
ـ لقد سمعت بأن العير التي يقودها أبو سفيان بن حرب سوف تصل غداً أو بعد غد. وعندما تمُرّ من هذه الناحية سوف أعرض نفسي على خدمتها، مقابل أجر أتقاضاه على ذلك، فأدفع لكِ ما بذمَّتي.
عندها هبَّ الرجلان ينطلقان إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويخبرانه بقرب وصول القافلة، كما يُستشفّ من حديث الجاريتين.
وإذا كان محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد حسب الوقت الذي تعود فيه عير قريش، فإن أبا سفيان بن حرب لم ينسَ - بدوره - أن المسلمين قد خرجوا في طلب قافلته وهي ذاهبة إلى بلاد الشام، وأنه يمكن أن يكونوا بانتظاره في طريق العودة، فترك العير، وسبقها ليستكشف الطريق بنفسه، فلما وصل ماء بدر، وجد عليه مجديَّ بن عمرو، فسأله: «هل أحسستَ أحداً؟ فقال: ما رأيت أحداً أنكره، إلاَّ أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ [*] لهما، ثم انطلقا»[*]. فتقدم أبو سفيان إلى حيث أناخ الراكبان، فوجد بعراً، ففتّهُ، فإذا فيه النوى، فقال: إنَّ هذه علائف يثرب، فقفل مسرعاً ليحوّل وجهة قافلته عن بدر، ويتجه بها يساراً من ناحية ساحل البحر، ثم استأجر ضَمْضَمَ بن عمرو الغفاري، وبعثه مسرعاً إلى مكة يلقي الصرخةَ على قريش لتهبَّ إلى حماية قافلتها من «محمد» وأصحابه.
واتخذ ضمضمُ لذلك كل مظاهر الصارخ الملهوف، إذ ما إن وصل إلى بطن الوادي في مكة حتى قطع أذنَيْ بعيره، وجدعَ أنفه، ثم وقف وقد شقَّ ثوبَهُ، وجعل يصيح:
»يا معشر قريش! اللطيمةَ اللطيمة[*]! أدرِكوا أموالكم مع أبي سفيان فقد عرض لها محمد في أصحابه.. الغَوْث الغَوْث..»[*].
واجتمع فراعنة قريش في ناديهم، فوقف أبو جهل يزعق، ويحرضهم على القتال، قائلاً: ويحكم يا معشر قريش!... أتتركون «محمداً» يظن بأنها مثل عير ابن الحضرمي؟ كلاَّ والله ليعلمنَّ أنها غير ذلك!. فهيا بنا إليه لِنريهُ وأصحابه من هي قريش، وأننا ما نزال سادة العرب!.
وعلت في مكة أصوات النفير، فاندفع أهلوها يتراكضون من كل جانب وهم يشدّون على خيولهم وإبلهم، ويتمنطقون بسيوفهم ورماحهم.. فمن لم يجد سيفاً ولا رمحاً ولا قوساً، تناول مدية، أو حمل عصا، أو مقلاعاً، كل يستعد للخروج إلى حرب المسلمين!..
خروج قريش لقتال المسلمين
وبناءً على هذا الأمر، كان اجتماع قريش وهي تتلهّف لملاقاة «محمد» وأصحابه، لا لتردَّهم عن أموالها - وهو أمر يسير كما تظنّ - وإنما لتظفر بهم بعدما نأوا عن أذاها، وتزيل كل وجود لهم، فتقطع تلك الأخبار التي كانت تصلها عنهم بعد هجرتهم عنها!.. ولذلك فما بقي أحد من زعامة قريش إلا وأخرج مالاً لتجهيز جيشهم، وقالوا: من لم يخرج نهدم داره. ولم يتخلف رجل إلا أخرج مكانه رجلاً. فتخلَّف بذلك أبو لهب، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة على أربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلسَ بها[*]. كما حاول التخلّف أميَّةُ بن خلف، لكبر سنّهِ وفتور همته، فقعد بجانب الكعبة يشهد استعداد القوم. ولكنَّ عقبة بن أبي معيط وأبا جهل، لم يتركاه وشأنه، بل ذهب عقبة وجاء بمجمرة فيها بخور، بينما جاء أبو جهل بمكحلة ومرود، فقال له عقبة وهو يضع المجمرة أمامه:
- يا أبا علي! استَجْمِرْ فإنّما أنت من النساء.
وقال له أبو جهل، وهو يأبى إلاَّ أن يناوله المكحلة بيده:
- اكتحل أبا علي، فإنما أنت امرأة!.
وطار صواب أميَّة بن خلف من تهكُّم الرجلَين وازدرائهما له، فقام يلملم شتات نفسه، ويخرج مع القوم، حتى لم يبقَ أحدٌ في مكة قادراً على القتال إلاَّ وخرج...
وسارت قريش تريد ملاقاة أبي سفيان أولاً للاطمئنان على أموالها، ومن ثمَّ لتذهب إلى ملاقاةِ «محمد» وأصحابه.
القرار بقتال قريش
أما النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد كان يغذُّ السير بركاب جيشه الصغير منعطفاً يساراً عن الصفراء حتى بلغوا وادياً يقال له «ذَفِرَان» فنزلوا فيه. وجاءه الخبرُ بأن قريشاً قد خرجت على بكرة أبيها، برجالها وفرسانها، ليمنعوا عيرهم. إذ ذاك تغيّر وجه الأمر، وأصبح محصوراً بمواجهة قريش أو عدم مواجهتها، لا بقافلة أبي سفيان وما تحمله من أموال!...
أجل، لقد باتَ الأمر خطيراً: فهل يعودُ المسلمون من حيث أتوا؟ ولئن فعلوا، ألا يجعل ذلك قريشاً تطمع بهم؟ ثم ماذا عن بني يهود في المدينة، ألا يطمعون - حينئذٍ - بهم أيضاً!؟ بل هل يبقى للمسلمين ماءُ وجههم إن رجعوا إلى المدينة خوفاً من ملاقاة قريش!..
ولو فرضَ ورأى رسولُ الله في المهادنة سبيلاً إلى تهيئة الأجواء التي يريدها فيما بعد، فهل يقدر أن يمنع على تلك الفئات الباغية أن تكثر من الأقاويل والشائعات التي من شأنها أن توهن عزيمة المسلمين، وتضعف موقفهم؟ ثم ما تأثير ذلك - وهو الأهم - على الدعوة؟ تلك هي التساؤلات التي كانت تدور بخلد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فرأى أن يستشير أصحابه، فيطلعهم على فرار أبي سفيان بالعير، وخروج مكة لقتالهم.. ثم يسألهم ماذا يصنعون؟ هل يعودون إلى المدينة، وفي ذلك ما فيه من الهوان، أم يواجهون قريشاً في حرب مصيرية لا أحد يعرف نتائجها إلاَّ الله سبحانه وتعالى؟
وهذا ما حصل بالفعل، فقد جمع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصحابَهُ إليه، وأخبرهم بجلية الأمر وما قد ينتظرهم من المخاطر في مقاتلة قريش، أو من الذل والهوان في الرجوع إلى بيوتهم بدون قتال!.. وهنا قام المقداد بن عمرو (وهو المقداد بن الأسود) متكلماً بلسان المهاجرين فقال: «يا رسول اللّه إنها قريش وخيلاؤها. وقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحقُّ من عند الله. والله لو أمرتنا أن ندوس جمر الغضا، وشوك الهراس لدسناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *} [المَائدة: 24]. ولكنا نقول: اذهب لأمر ربك فإنا معك مقاتلون. والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك، ولو خضت بحراً لخضناه معك. فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا بَرْك الغماد (يعني مدينة الحبشة أو موضع على ثماني ليال من مكة إلى اليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه»[*].
فدعا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له وللمهاجرين بالخير.. ثم عاد يقول: «أشيروا عليَّ أيها الناس»..
ومَن يقصد رسولُ الله بقوله هذا؟..
فالمهاجرون وَضُحَ موقفهم، إنهم على استعداد للقتال، وقد وافقوا صراحةً على ما أبداه المقداد.. إذن بقي الأنصار، والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعنيهم هم!.. نعم إنه يريد موقف هؤلاء الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، ولم يبايعوه على قتالٍ خارج مدينتهم كما يفهم من قولهم في العقبة «إنا براءٌ من ذِمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا، نمنعك مِمَّا نمنع منه أبناءنا ونساءنا»[*].. فلهم الحقُّ في اتخاذ الموقف الذي يرَون. ولا غضاضة عليهم، لو امتنعوا عن القتال، ورأوا أن عليهم نصرته في المدينة إن دهمه عدوّ، لا في خارجها..
فقام سعد بن معاذ، صاحبُ رايتهم، وقال مخاطباً رسول اللّه:
- بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، واللَّهِ لكأنك تريدنا؟
فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «أجل».
قال سعد: فلعلك قد خرجت على أمر قد أُمرتَ بغيره؟
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «أجل».
وما قاله سعدٌ يعني أن الرسول قد خرج في طلب العير، بينما أُمِرَ بغيره ، أي الحرب، وهذا يعني «أن أمر الحرب مقضيٌّ ومأمور به مِنْ قِبَل الله تعالى، وما استشارته لأصحابه إلاَّ لأنهم جند الله وعليهم تقع أعباء الحرب»[*]، فحريٌّ أن يكونوا على بيّنةٍ مما ينتظرهم من شدةٍ، بل ومن فضل عظيم من ربهم تبارك وتعالى، وهذا ما أدركه سعد بن معاذ فقال:
«بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه إنّا قد آمنّا بك وصدَّقناك وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق من عند الله، وأعطيناك - على ذلك - عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. ولعلك يا رسول اللّه تخشى ألا تكون الأنصار ترى عليها إلاَّ نَصْرَكَ في ديارهم. وإني أقول عن الأنصار: فاظعنْ يا رسول اللّه حيث شئت، وصِلْ حبلَ من شئت، أو اقْطَعْ حبلَ من شئت، وسالم وعادِ من شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحبُّ إلينا مما تركت. وما أمرت فيه من أمر فأمرُنا تبعٌ لأمرك.. فامضِ يا رسول اللّه لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخُضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً. إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللِّقاء. لعلَّ الله يريكَ مِنَّا ما تَقَرُّ به عينُك؛ فسر بنا على بركة الله»[*].
وأشرق وجهُ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمسرَّة، فقال مخاطباً الجيش: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتَين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم»[*].
وتأهّبَ المسلمون مرتحلين عن وادي ذَفِران، حتى بلغوا مكاناً قريباً من بدر[*]، فنزلوا فيه حتى حلَّ المساء فبعث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص (رضي الله عنهم) في نفر من الصحابة إلى ماء بدر يتلمسون له أخبار قريش، فوجدوا غلامين قد بعثهما جيش قريش يستسقيان له الماء على الإبل، فاقتادوهما إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأدناهما منه، ببشاشته المعهودة وهو يطيب خاطرهما، ويبعد عنهما الخوف، حتى أنس منهما هدوءاً، فسألهما عن القوم من مكة وأين ينزلون؟! فقالا له: إنهم في الناحية الأخرى وراء هذا الكثيب من الرمل الذي ترى..
فقال لهما: كم القوم؟
قالا: كثير، ولا ندري ما عدّتهم..
فقال لهما: كم ينحرون كل يوم؟
فأجابا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً.
فعرف (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ذلك أن عدد قريش يراوح بين تسعمائة إلى ألف رجل[*] من المقاتلين..
ثم سألهما عمَّن يعرفان من شيوخ أولئك القوم، فراحا يعدّدان كلَّ رجالات قريش الشهيرة فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «وهذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها»[*].
وتبيّن لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ الأمر - ولا ريب - خطيرٌ للغاية!.. فهذه قريش تزيدهم في العدد ثلاثةَ أضعاف، وفي رجالاتها من هم أشدّاءُ العزم، أقوياءُ الشكيمة وقادرون على القتال المرير، ولديها كل أنواع العتاد والسلاح.. ممَّا سيجعل المواجهة شديدة على المسلمين، ولا سيما لعدم وجود التكافؤ بينهم وبين أعدائهم، من جميع الجوانب المادية!.. ولكن!.. وأيّاً كانت القوة التي بلغتها قريش، ومهما كان شأنها عظيماً، فهي لا تحوز تلك الشعلة النورانية التي تتوهج بها أفئدة المسلمين، والتي يحيلها الإِيمان، ساعة الوغى، شظايا لاهبة، تذيب الحديدَ على أجسام المشركين، لتنفذ إلى قلوبهم فتحرقها، وتجعلها مثل الرماد، تذروه الرياح في كل جانب!..
لا!..
إنَّ قريشاً لا تتمتع بمثل هذه القوة، لأن هذه القوة هي للمسلمين وحدهم.. فهم يملكون الإِيمان الصادق بالله (تعالى)، فلا خوفَ معه من عديدِ جُندٍ، ولا وَجَلَ من كثرة عتاد.. إنَّ أعداءهم مشركون، وبئس الشركُ الذي يضعفهم أمام قوة الإيمان.. وكفى بهم شركاً أنَّ نفوسهم لا بدَّ من أن تنخذل أمام ضربات الحق، وتودي بهم إلى الخذلان والخسران، بإذن الله!...
هذا ما كان عليه تقدير الرسول الأعظم.. ولكن يبدو أن الصحابة، كانوا في أكثرهم - كما في غالبية السِّيَر - يميلون إلى طلب العير، وترك النفير[*]... والأصحّ أنَّ فئةً من المسلمين - وليس أكثرهم - كانت تودُّ عدم المواجهة مع قريش لاعتبارات عديدة، وأهمها قلة المسلمين مقابل كثرة عدد عدوِّهم، وخروج الصناديد من قريش لحربهم، مع عتادٍ أوفر. يضاف إلى ذلك الظروف غير المؤاتية للقتال، لأنَّ وجودَهم كان في مكانٍ بعيدٍ عن الماء، ويفصلهم عنه كثيب من الرمل من الصعب قطعه، إذ تغوص فيه الأقدام، فلا تتحرك إلاَّ بمشقة.. بينما هم بأمسّ الحاجة إلى الماء للشرب والوضوء من أجل الصلاة (لأنه لم يكن قد رخّص بعدُ بالتيمُّم).. إذن فالمسألة تعود في محورها إلى الخوف من العطش الذي يهدّ القوى، ويجعل المشركين يقوون عليهم!... وهكذا فإن مجادلة تلك الفئة كانت منبثقة من ضعفها أولاً، والحاجة إلى الماء، وهي حجة يجب أن تؤخذ بالحسبان، لأن الماء مادة الحياة الأساسية، ولا قِبَلَ لأيِّ جيش على مواجهة عدوٍّ بلا ماءٍ.. بل ولا يمكنه أن يدخل معركةً ونفوس جنده مزعزعة، مهزومة من داخلها.. ولذلك كانت تلك الفئة تود العودة إلى المدينة، وألاَّ تدخل في القتال، فجادلتِ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كراهةَ ألاَّ ترتكبَ المعصية في عدم طاعته.. ويبين لنا القرآن الكريم ذلك الوضع الذي كان عليه المسلمون بقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ *وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *} [الأنفَال: 5-7].
أجل، هذا ما يبيّنه التنزيل الحكيم، فالمسلمون كانوا كارهين لإخراج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنوةً من بلده مكة، وقبل كراهتهم لإخراجه، كانت كراهة الفئة الضعيفة لقتال المشركين، لأنه غاب عن بالها أنَّه كما كان إخراج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خيراً، فكذلك قد يكون في هذا القتال خير لهم..
ولا بدَّ هنا، ومن منطلق إيماني بحت، أن ندرك أن الضعف الذي أصابَ تلك الفئة من المسلمين، إنما كان بفعل الشيطان ووسوسته، فهو قادر على أن يتغلغل في نفوس الناس، ويزيّن لهم أعمالهم، ويصدّهم عن السبيل حتى ولو كانوا مستبصرين.. إلاَّ عبادَ الله المخلصين، فلا سلطان للشيطان عليهم.. وقد أمكنَ له، في ذلك الموقف، أن يوهن عزيمة تلك الفئة من المسلمين، وأن يزيّنَ لها العودة بلا قتال، فظهر منها ما ظهر من الضعف والخور.. بل وانعكس ذلك على الجيش الإسلامي، فدبت في صفوفه البلبلة، والجدال لولا أنَّ الله (تعالى) تداركهم برحمته، فأمدَّهم بالعون الذي أذهبَ عنهم كل أسباب الخور والهوان.. وتجلّت رحمة ربهم بهم إذ يغشيهم النعاس فينقلبون نائمين، آمنين.. نعم، ناموا فجأةً، بقدرة القادر المقتدر، وخيَّم عليهم السبات العميق، فكأنما لا يحفلون بأيّ أمرٍ، أو كأنما هم في بيوتهم، وبين عيالهم وأهليهم، لا بين أذرع الفلاة، أو في أجواء الحرب والقتال.. ناموا آمنين من القلق، ومن عبث الشيطان، ومن الخوف، ومن أيّ شيء قد يُكَدّرهم في تلك الساعة!. ولم يصحوا من نومهم إلاَّ من جراء المطر الذي أنزله الله - تعالى - حتى سالَ الوادي، فقاموا يملأون الأحواض، ويشربون، ويسقون الركائب، ثم يغتسلون - ويتطهّرون - ويملأون الأسقية[*]... بل وأكثر من ذلك فإنَّ هذا المطر الذي جاء ليلاً قد جعل الأرض التي عليها المشركون موحلةً، تغرق فيها الأرجل، بينما لبَّدَ الرملَ الرخوَ على أرض المسلمين، وجعلها صلبةً تثبت عليها الأقدام في السير.. وإلى نعمة النعاس، ونعمة المطر، تلازمت نعمة أوفى وأعظم، ألا وهي الأمنة في النفوس.. فقد حلَّ بهم النعاسُ وهم في أشدّ حالات الصحو من النقاش والاحتدام، ثم فجأةً هدأوا فناموا.. ثم قاموا وحالُهم غيرُ حال!.. إنهم، جميعاً، تتملكهم المشاعرُ التي تلحُّ عليهم في المواجهة مع قريش، وإعطائها درساً في القتال لا تنساه أبداً ما عاشت.. فالله أكبر، ما هذا النعاسُ الذي انداحَ به الخوف، وحلَّ معه الأمان؟! وما هذا النعاس الذي بدَّل الضعف قوة، والهوانَ صلابة، والشوكةَ بدلاً من العير؟! أما أمنية الشيطان التي زيّنت الإياب إلى الديار فقد حلَّ محلَّها طلبُ الشهادة.. لقد بات كل رجز للشيطان منسيّاً!.. فقد أذهَبَ كيدَهُ هذا النعاسُ الذي غشَّاهُمُ الله تعالى به أمنةً، فولّى اللعين خاسئاً مدحوراً، بعد أن وقف إلى ساعاتٍ يقهقه مزهواً، وفي ظنّه أنه حقق الانتصار على المسلمين.. أجل، في لحظات، اختنقت أنفاسُهُ، فانفلت من الضحك إلى العويل والصراخ، وهو يرى رجزهُ يرتدُّ إلى نحره، ويزيد في حسرته هذا العزم، وهذه الصلابة في نفوس المؤمنين، فيخلّيهم وشأنهم، لكي يتسنَّى له أن ينصرف بكيده تلقاء المشركين.. وتنتصب آيات القرآن المجيد دليلاً ساطعاً على أن الله - عز وعلا - هو القادر المقتدر، الذي غيَّر أحوال المسلمين من حالٍ إلى حال، وذلك بقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ *} [الأنفَال: 11]. الله أكبر! وألف مرة الله أكبرُ!... فما أعظم ما يهب العزيز الحكيم لجنده، وما أجلَّ ما يؤمنهم به، وما أنقى ما يطهرهم به من رجس الشيطان.. فهل إلهٌ إلاَّ الله في السماوات والأرض قادرٌ على أن يمنَّ، ويتفضَّلَ، ويبدّل الأحوال كما يشاء؟
بأمره الجليل، وفي بضع ساعات، تغيرت أحوال الجيش الإسلامي في بدر، فعادَ المسلمون إلى أصالتهم التي عبَّر عنها المقداد بن الأسود، وسعد بن معاذ.. أجل لقد عادوا مسلمين حقاً لله، وجنوداً لرسول اللّه، لا يتحرّكُ في كيانهم، إلاَّ حبُّ الله العظيم، وطاعةُ رسوله الكريم..
فما أجمَلَ هدأة النفس بعد قلق يصيبها، وما أروع عودة اللحمة إلى صفوف الجماعة بعد علامات تنذر بالتشتت والتصدع!. وليس عيباً ما يحلُّ بالإِنسان في ساعة ضعف يخذله بها الشيطان، ما دام نداءُ الحق يبقى في داخله، ويتكفَّل - بإذن الله - أن يجمع عليه شتات نفسه، ويقدِّم له سبل الغلبة على ضعفه، فيطرد كل وسوسة للشيطان من صدره.. ولقد مكّن الله سبحانه وتعالى للمسلمين في تلك الواقعة من قوة الإيمان ما يستطيعون به الغلبة على الشيطان.
تلك كانت أحوال المسلمين منذ خروجهم من المدينة ونزولهم بالقرب من بدر.. فكيف كانت بالمقابل، أوضاع المشركين، عندما خرجوا من مكة؟!
لقد رأينا استعدادهم للحرب ، وتصميمهم على قتال «محمد» وأصحابه، بعد أن يمنعوا عيرهم وأموالهم منه. وكان أبو سفيان، قائد العير، قد حوَّلها عن بدر وتوجّه بها ناحية ساحل البحر، ليباعد ما بينه وبين المسلمين؛ فلما أمكنه ذلك بعث إلى الزحف الذي خرج لملاقاته يقول لهم: «يا معشر قريش، إنكم خرجتم لتمنعوا العير وتحموا الأموال، وقد نجّاها الله لكم، فارجعوا».
وجاءهم الخبر، وهم لا يزالون في الجحفة.. فنزل عليهم أحلى من العسل، وكادت الفرحة تأخذهم لأنهم يريدون الرجوع والتمتع بحياة الدَّعة واللذة.. فأين ليالي الغناء والطرب والجواري، من الإِقامة في البطاح، وبين أحضان الرمال، حيثُ يفترشون الأرض بحرِّها في النهار، ويستظلّون السماءَ ببردها في الليل. لا! إنهم لا يريدون أن يتكبدوا هذه المشاقّ.. لا سيما وجني الأرباح ينتظرهم بفضل أبي سفيان الذي يدعوهم هو، للرجوع!.. ولكنَّ القولَ بالعودة إلى مكة لم يُرضِ أهل التكبّر والخيلاء، ولم يُقنع المتغطرسين من زعماء قريش، فقد واتت الفرصة لأن ينقضوا على محمد وأصحابه، ويبيدوهم على بكرة أبيهم!.. فهل يرجعون من غير أن يحققوا هذا المأرب؟! أبداً لن يقبلوا بذلك. ولذلك وقف أبو جهل يزعق في وجوه دعاة الرجوع وهو يكيل لهم المسبّاتِ والشتائم.. حتى إذا أفرغ ما في جعبة صدره من الرذيلة، عاد يقول لجيشه: يا معشر قريش! أتحسبون، وقد عدتم، أن تظل لكم مكانة عند العرب تسودون فيها؟
يا معشر قريش! واللهِ لا نرجع حنى نردَ بدراً، فنقيم عليه ثلاثاً: ننحرُ الجُزُرَ، ونطعَمُ الطعامَ، ونُسقَى الخمرَ، وتعزفُ علينا القيان.. لا، واللاتِ والعُزّى، لا نرجع حتى نقحم عليهم بيثرب، ونأخذهم أسارى، فندخلهم مكة، وتتسامع بنا العرب، وبمسيرتنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، ولا يقوم بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه، فامضوا[*]. وهكذا انقسم المشركون وهم ما يزالون في الجحفة إلى فريقين: فمنهم من يريد الرجوع، ومنهم من يؤيد متابعة الخروج.. واشتدَّ النزاع بين القوم، فأمَّا الذين يعرفون أبا جهل، ومآربَهُ، ولا سيما طمعه بزعامة قريش، فقد قفلوا راجعين إلى مكة، وكان من بين هؤلاء الأخنس بن شريف حليف بني زهرة، إذ قال لهم: «قد نجَّى اللَّهُ لكم أموالكم. وخلَّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، إنما نفرتم لتمنعوه وما لَهُ، فاجعلوا بي جنبها، وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضَيْعة (في غير منفعة)، لا ما يقول هذا (ويعني أبا جهل).. فأطاعوه ورجعوا لأنه كان فيهم مطاعاً»[*].
كما أراد بنو هاشم الرجوع، فاشتدَّ عليهم أبو جهل، وقال: «لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع»[*].
ولم يكن بطنٌ من قريش إلاَّ وقد نفرَ منهم ناسٌ، إلاَّ بني عديّ ابن كعب لم يخرج منهم رجل واحد، وبذلك فإنه لم يشهد أحدٌ بدراً من هاتين القبيلتين[*] (ويعني بني زهرة، وبني عديّ).
ورجعَ مَنْ رجع من المشركين عن الجحفة، بينما تابعت سائرُ قريش أبا جهل، تحتذي حذوه، وتسير على خطاه، حتى كان منزلهم في وادي بدر، بالعدوة القصوى - من ناحية مكة ـ.
القتال في وادي بدر
وهكذا نزل المسلمون بالعدوة الدنيا من وادي بدر، والمشركون بالعدوة القصوى، والتقى الجمعان، على الرغم من أن الدافع لهذا الالتقاء، وهو عير قريش، قد ذهب، إلاَّ أنه تدبير العلي العظيم، الذي شاء أن يجمع بين المؤمنين والمشركين في ذلك الوادي من أرض نجد، من دون موعد اتفقوا عليه، بل ولو تواعدوا لاختلفوا في الميعاد، كما يبينُهُ لنا قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفَال: 41-42].
وما كان التقاء الجمعين: قلةٍ مؤمنةٍ وكثرة مشركة إلاَّ لتكون المعركة بينهما فرقاناً بين تصورين مختلفين، ومنهجين متناقضين، الأول يقوم على عقيدة ربانية، ومنهاجه الإيمان بالله الواحد الأحد، وبقدسية الحق الذي بعث به محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والثاني يتمسك بعقيدة الوثنية، ومسلكه الشرك في عبادة الله، والكفر بدين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ... فكان يوم الفرقان الذي أراده الله تعالى ليُحقَّ الحقَّ، ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون، كما يؤكده التنزيل الحكيم بقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ *إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [الأنفَال: 7-10] فهذه الآيات تهدينا للاعتقاد بقضية هامة، قد يتعامى عنها الناس، أو يتغافلون عن حقيقتها، وهي الغاية من أفعال العباد.. فإن كانت الغاية طلب الحق ونصرته، كانت الغلبة للحق، ولو طال الأمر.. وإن كانت الغاية طلب الباطل والسعي له كانت الهزيمة للباطل، ولو امتدَّ الزمن.. فإنْ ظن الناس أو اعتقدوا بأن الغلبة للقوة وكثرة العتاد، أو للاستكبار والظلم، أو للنفوذ والسلطان، وخدعتهم تلك المظاهر، فإن ذلك قد يكون إلى حينٍ، ثم تعود الدولة والغلبة للحق، بل ويجب أن تكون للحقّ، لأن الحقَّ من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الغالب على أمره، كما ورد في محكم التنزيل بالقول الحق: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [يُوسُف: 21]؛ وهذه الحقائق القرآنية كان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعلم الناس بمضامينها، ولذا كان أوثق أصحابه وجنده إيماناً بنصر الله (تعالى).. فبات الصحابة نياماً، وظلَّ هو ساهراً، قائماً على الصلاة، داعياً ربه تعالى أن ينجز ما وعَده.. وطلع الفجر، والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يزال يصلّي، فهبَّ الجيش بأسره، يصلي وراء الرسول الأعظم، والقائد الحكيم، حتى إذا أتموا الصلاة، خرج بهم إلى الماء ليسبق المشركين إليه، إلى أن جاء أدنى ماء من بدر فنزل به[*] وقال: «أشيروا عليَّ في المنزل»[*].
وتروي كتب السيرة: أنَّ الحبابَ بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول اللّه! أمنزلاً أنزلكموه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟!.. فقال له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». فقال الحباب: «يا رسول اللّه! فإن لي خبرةً في هذه الأمكنة، وقد غشيتها مرات عديدة، وأنا عالم بها وبقُلَبها (آبارها)، إن رأيت أن نسيرَ إلى قُلَبٍ قد عرفناها، فهي كثيرة الماء عذبة، فننزل عليها[*] وتكون موقعاً أفضل للمسلمين لأنها أدنى ماءٍ من القوم (قريش) ونغوّر ما وراءه من القُلَب، ثم نبني عليه حوضاً، فنملأه ماءً ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.. فقال له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «لقد أشرت بالرأي يا حباب»، ثم أمر بنهوض المسلمين حتى أتوا أقرب منزل من قريش، لا يفصل بينهم إلاّ كثيب من الرمل فباشروا ببناء الحوض وغوّروا ما عداه من القُلَب...
وتتابع كتب السيرة: وبعد أن استقرَّ المسلمون في نزولهم، أشار سعد بن معاذ بأن يبتنوا عريشاً للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول سعد: «يا نبيَّ الله، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ويصدّ عنك المهاجمين، ثم نلقى عدونا، فإنْ أعزَّنا الله وأظهرَنا عليه، فذلك النصر من عند الله، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلَّف عنك يا نبيَّ الله أقوامٌ ما نحن بأشدَّ لك حباً منهم، ولو ظنّوا أنك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك»[*]. وبُني لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عريش على تلٍّ مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، يشرف منه على المعركة[*]، بحيث يشكل وراء ظهره نوعاً من الحماية الطبيعية..
فإذا أخذنا بهذه الروايات، فإنَّ الاستراتيجية التي اعتمدت تنصبّ على أهم المقومات التي يرتكز عليها سير المعركة، وذلك أن همَّ الجيش المحارب يكون، أولاً، قطع الإمدادات عن العدو، وأهم إمداد - يومئذٍ - الماء ولاسيما في الصحراء، ثم تجهيز ما يسمى بغرفة العمليات التي تصدر فيها الأوامر عن القادة، وربما حراسة هؤلاء القادة لأن القضاء عليهم يؤدي إلى هزيمة جيوشهم.. وهذا ما اعتمده المسلمون في بدر حيث غوّروا الآبار لقطع مدد الماء عن عدوهم، وبَنَوْا عريشاً على تل مرتفع للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كي يشرف على سير القتال، وأمّنوا بذلك رجوعه إلى المدينة في حال انتصر المشركون..
هذا ما تذهب إليه كتب السيرة!.. والواقع أن المسلمين عندما صاروا على مقربة من بدر، قام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنفسه بعملية الاستكشاف مع أبي بكر (رضي اللّه عنه)[*]، فبعدما عاين المنطقة، عاد يأمر الجيش بالتقدم والنزول على أدنى ماءٍ من المكان الذي تنزل فيه قريش، بحيث لا يمكنها التزوّد من هذا الماء إلاَّ إذا غضَّ المسلمون الطرف عنها، ولم يأمر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يغوّروا القُلَب (الآبار) لأنه ليس في خُلُق محمد العظيم أن يحرم الناس من الماء حتى ولو كانوا أعداءه، ثم إنه يعلم جيداً أن الآبار في بدر هي مما ينتفع به الناس، فهو مشاع للعموم، ولكلِّ مَنْ نزلَ تلك المحلة، فكيف يغوّر الماء ويمنع على الناس السقاية منه؟! أمن أجل قريش لمَّا جاءت لقتاله؟! ولكن أليس هذا القتال لمدة ثم تذهب قريش من بدر ويذهب المسلمون أيضاً، وتبقى الآبار على حالها لعموم الناس؟! أجل.. فالرسول الكريم عمل برأي الحباب بالانتقال إلى المكان الذي أشار إليه ولا نظن أن يكون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أمر بأن يغوّروا الآبار في بدر.
ثم إنَّ بناء عريش لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان ضرورياً لأنه قائد الجيش.. ولكنَّ الاعتراض هو - هنا - على ما روي على لسان سعد بن معاذ «فإن كانت الأخرى (أي الهزيمة للمسلمين) جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا».. وهنا أيضاً نقول - وعلى يقين - بأن ليس في خُلُق محمد العظيم، أن يفرَّ، ويخلّي جيشه يتلقى الهزيمة وتنزل به الخسائر، لكي ينجوَ بنفسه!.. وأن سيرة حياته تدل - كما سنرى في معركتي أحد وحنين - على أنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يدعو جيشه وقت الهزيمة، للرجوع والصمود، وكان أقرب الناس للعدوّ، فيستمدّ منه الصحابةُ الشجاعةَ والثباتَ!..
أجل، هذا محمد رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القائد القدوة لجيشه، وذو الفكر المستنير، فقد أنزل جيشه عند أدنى ماء من قريش، حتى يكون في موقعٍ أقرب من عدوه إلى الماء، فكان نزوله - بعد استكشافه بنفسه - في العدوة الدنيا من بدر، حيث أقيم معسكر المسلمين.. ثم، وبإقامة المعسكر، اكتملت الصورة الجغرافية لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
فانبرى يعيد تنظيم جيشه حتى يؤمن الترابط واللحمة بين المقاتلين، ثم جعل وجوههم لناحية الغرب بحيث تكون الشمس من ورائهم - إذا بدأ القتال في الصباح - فإذا تقدم الأعداء نحوهم كانت الشمس في وجوههم، ثم دفع رايته إلى مصعب بن عمير لينصبَها في مكانٍ تظهر منه للجيش وبعد انتهائه من هذه الترتيبات، وقف الرسول الأعظم قبالة المجاهدين، فحمد الله وأثنى عليه، بما هو أهلُهُ، ثم راح يحثهم على الصبر والاحتمال، ويرغبهم في الأجر والثواب قائلاً: «أما بعد، فإني أحثكم على ما أحثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه، فإنَّ الله (تعالى) عظيم شأنه، يأمر بالخير، ويحبُّ الصدق، ويعطي الخير أهله على منازلهم عنده، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله تعالى فيه من أحدٍ إلاَّ ما ابتغى به وجهه. وإنَّ الصبر في مواطن البأس مما يفرِّجُ الله به الهمَّ، وينجي به من الغمَّ، وتدرك به النجاةُ في الآخرة.. فيكم رسول اللّه يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطَّلع الله عزَّ وجلَّ على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله تعالى يقول: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غَافر: 10].. وابْلُوا ربكم في هذه المواطن أمراً تستوجبون به الذي وعدكم من رحمته ومغفرته، فإنَّ وعدَهُ حق، وقولَهُ صدقٌ، وعقابَهُ شديدٌ. وإنّما أنا وأنتم بالله الحيِّ القيّوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، يغفر الله لي وللمسلمين[*]! قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض»[*].
وبعد هذه التعبئة النفسية، الإِيمانية والاستشهادية، طلب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الصحابة ألاَّ يحْدثوا جلبةً في المعسكر، وألاَّ يبدأوهم بقتال[*]، حتى يخيّم الهدوء، فلا يحسّ لهم العدو ركزاً (حِسّاً) .. وكانت قريش قد نزلت - بدورها - منازل القتال، وانصبّت (انحدرت) من العدوة القصوى إلى وادي بدر، فصار الجيشان في موقع المواجهة...
وأراد أبو جهل أن يتبيّن وضع المسلمين، فاختار لذلك عمير بن وهب الجمحي - وكان فارساً شجاعاً - وكلَّفه القيام بجولة استطلاعية حول المسلمين. فدار من حولهم، ثم ضرب في الوادي حتى أبعد، فلم يرَ غير تلك الصفوف القليلة، المتأهبة للقتال، فرجع إلى القوم يقول: «ما لهم كمين ولا مدد، ولكنهم قومٌ ليس لهم مَنَعَةٌ إلاَّ سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلاً مثله.. إنهم، وما يبدون، نواضحُ (المدافعون عن) يثرب قد خرجت تحمل الموت الناقع[*]، ترونهم خرساً لا يتكلمون، ويتلمَّظون تلمُّظ الأفاعي.. فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟!. فروا رأيكم»[*].
ولم يعجب كلامُ عمير أبا جهل لأنه رأى فيه ما يجبِّن جيشه، فقال له: «كذبت وَجبنت، فما هم بقادرين على قتالنا. ما هُمْ إلا أكْلَة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد»!...
فلما سمع ذلك حكيم بن حزام، أتى عتبة بن ربيعة وقال له: «يا أبا الوليد! إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تُذكرُ فيها بخير إلى آخر الدهر؟! قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي (الذي قتل في سرية عبد الله بن جحش)..قال: قد فعلتُ، أنت ضامن عليَّ بذلك، إنما هو حليفي فعليَّ عَقْلُهُ وما أُصيب من ماله، فأتِ ابن الحنظلية (أم أبي جهل، وهي أسماء بنت مخرّبة) فإني لا أخشى أن يشجُرَ (يخالف) أمر الناس غيره»[*]. فذهب حكيم إلى أبي جهل يعرض عليه الرجوع، وموافقة عتبة بن ربيعة على ذلك، فرد عليه مغضباً وهو يشتم عقبة، ويقول: «لقد اتَّضَحَ والله سَحْرُهُ (ظهر خوفه وجبنه) وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمداً وأصحابه أَكَلَةُ جزور، (يعني أن عددهم قليل) وفيهم ابنه ـ وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم وهاجر - فتخوَّفكم عليه«[*].
وفي تلك الأثناء حين كانت المفاوضة تدور بين المشركين حول عدم القتال، كان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يفكّر كيف يمكن أن يلقي الحجة على المشركين.. فقد أرادَ أن يُشهدَ ربَّه على أنه أوفى بالحسنى، وأنه وإنْ كانت قريش عدوَّة دينه وعدوه اللدود، فإنه لا يريد إهراق الدم، إن كان ثمة وسيلة للسلم والتفاهم، أو ما يوصل إلى تقبُّل تلك العصبة المشركة الاسلام حقيقةً لا مناص منها، والانصياع لحكمه، فأرسل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المشركين من يقول لهم:
«معاشر قريش، إني أكره أن أبدأكم بقتال، فخلوني والعرب وارجعوا، فإنْ أكُ صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً، وإن أكُ كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري»[*].
ورأى عتبة بن ربيعة في قول «محمد» صدقاً وحقاً - وهذا فوق اقتناعه برأي حكيم بن حزام - فصاحَ في قومه: «ما ردَّ هذا قومٌ عقلاءُ قطُّ.. فأفلِحوا يا معشر قريش!»..
ثم ركب جملاً له أحمر اللَّون، وراح يجول بين المعسكرين، ناهياً عن القتال، فنظرَ إليه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: «إنْ يَكُ عند أحدٍ خيرٌ، فعند صاحب الجمل الأحمر، وإنْ يُطيعوه يَرشدوا».
وبعدما جالَ عتبة بن ربيعة على جمله مراتٍ عديدة، وقف وعادَ يخطب في قومه وهو يقول:
«يا معشر قريش! أطيعوني اليوم واعصوني الدهر. إنَّ «محمداً» له آلٌ وذمة. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه أن قتل ابن عمه أو ابن خاله، أو رجلاً من عشيرته.. فارجعوا وخلُّوا بين «محمد» وسائر العرب. فإن يكُ صادقاً فهو ابن عمٍّ لكم وأنتم أعلى به عيناً. وإن يكُ كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره. وذلك ما تريدون»[*].
وثارت ثائرة أبي جهل، وخاف أن يُفسد عليه عتبةُ ما جهد لأجله ودبَّره طويلاً، فطلب عامرَ بن الحضرمي - أخا عمرو الذي قتل على يد رجال سرية عبد اللّه بن جحش - وراح يؤجّجُ في صدره نار الثأر لأخيه، وهو يقول له: «أرأيت يا عامر! هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس. وقد رأيتَ ثأرك بأمِّ عينك، فَقُمْ فانشد خُفْرتك[*] ومقتل أخيك»[*]..
وركب عامر على فرسه، وراح يصرخ في ملأ قريش: «واعمْراه! واعمْراه!...»...
وتواثبت صرخة الثأر من نفس إلى نفس، تُهيِّج عاطفة الجاهلية، ولبَّى نداءَها زعاقُ الموت عويلاً حانقاً، فدوَّت في جنبات بدر أصداءُ المنايا وهي تهتف بالرجال: «هلموا إلى حتوفكم فقد دنت مواسمُها»..
وكان للشيطان ما أرادَ في تلك الساعات الحرجة، فبعدما أوقع الخلاف بين المشركين، راح يزين لفراعنة قريش أنَّ الغلبة لهم، وأنهم هُمُ الأعزة فلا يجب أن يذلوا.. كما يبينه لنا رب العالمين بقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفَال: 48].
وانبرى من بين صفوف المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلاً شرساً سيِّئ الخُلق، قد صعقه هتاف الثأر فاندفع نحو المسلمين، وهو ينادي: «أعاهدنَّ اللَّهَ لأشربَنَّ من حوضهم، أو لأهدمَنَّهُ، أو لأموتَنَّ دونه»[*]. وكان الحماةُ الأشاوسُ الذين وقفوا متأهبين لكل هجوم بانتظاره، حتى إذا اقترب من الحوض، اندفَعَ إليه حمزةُ بن عبد المطلب كاللَّيث الجسور، يستقبله بضربة من سيفه فيقطع ساقَهُ، فيسقط على الأرض يشخَبُ بدمِهِ، ثم يعاجله بضربة أخرى تقضي عليه، وتُرديه جثة هامدة لا حراك فيها..
ورأى أبو جهل ما حلَّ بالأسود المخزومي، فاستشاط غضباً على عُتبة بن ربيعة، وراح يكيل له الشتائمَ، ويُلصق به أشنع التهم وأقلّها اتهامه بالجبن والخذلان.
ووقف عتبة في وجهه يردُّ عليه شناعته، وهو يرميه بالأَبنة (العيب والحقد)، كما كان الأنصار يرمونه بها.. ثم تعجَّل مستحثاً أخاه شيبة بن ربيعة وابنَه الوليد بن عتبة وانطلق نحو صفوف المسلمين طلباً للمبارزة وعتبةُ ينادي: «يا محمد... ها نحن سادةٌ من قريش قد جئنا نقاتلك، فهل بعثت إلينا أكفاءنا من قريش؟».
فبرز إليهم ثلاثة شبان من الأنصار وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث (وأمهما عفراء) وعبد اللّه بن رواحة فقالوا لهم: ارجعوا، فإنا لسنا إياكم نريد إنما نريد الأكفاء من قريش، فأرجعهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . وقد أرادَ أن يبدأ بأهل بيته، لا بغيرهم من المهاجرين والأنصار، فنظرَ إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وهو يومئذ في السبعين من عمره وقال له: «قم يا عمّاه»، ثم تطلّع إلى عمه حمزة بن عبد المطلب وقال له: «وأنت أيضاً يا عمّاهُ، فقم إليهم».
ثم حدَّق بناظريه صوب عليِّ بن أبي طالب وقال له: «هيَّا يا أصغَرَ السن وأبطشَ الذراع»!..
ولبَّى القُرشيّون الأبرارُ، من ذوي القربى، أمرَ نبيّهم، فاندفعوا إلى ساحة المعركة، بنفوس مؤمنة، صادقة، تتوَقّد بالشجاعة والعزيمة.. فاختارَ عبيدةُ مواجهة عتبة، بينما اختار حمزةُ مواجهة شيبة، واختار علي مقاتلةَ الوليد.. هنا وفي أشدّ الظروف وأحلك الساعات نجد السلوك الإِسلامي قويماً، مستقيماً يبرز في اختيار الرسول الأعظم للصحابة الثلاثة بعدما رأى أولئك المبارزين من المشركين، فبعث إليهم من هُم صنوٌ لهم قوةً وسنّاً، ومن أبناء عشيرتهم بالذات كما أرادوا... ووقف كلّ من الأبطال الثلاثة في مواجهة نظيره تماماً: الشيخ قبالة الشيخ، والرجل أمام الرجل، والفتى في مواجهة الفتى، ولكنَّ الفارق ما لبث أن برز سريعاً في البطولة.. فما هي إلاَّ جولة وكان حمزة وعليٌّ (رضي اللّه عنهما) قد أجهزا على عدوَّيهما بمثل ومض البرق، إذ عَاجَلا بسيفيهما ذَينك الكافرين وجندلاهما على الثَّرى. ثم التفتا نحو عبيدة وعتبة، فإذا هما قد وقعا على الأرض، وقد نالَ كل منهما الآخر بضربة، فتقدما إلى عتبة، يهويان عليه بضربة واحدة تورده حتف المنون. ثم حملا عبيدة إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والدم يسيل من ساقه المقطوعة، فأفرشه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ركبته الشريفة، وبشره بالجنة. وهكذا هوى ثلاثةٌ من أعاظم رؤوس الكُفر والضلال إلى قعر جهنم وباؤوا بغضب الله (تعالى)، فانكسرت بهذه الضربة البِكر شوكةُ الطغاة من قريش، وذلَّت رقابهم، بعد أن خسروا ثلاثة من زعمائهم، الذين كانوا يعوّلون عليهم في الملمات..
وعندما رأى المشركون ما حلَّ بأصحابهم الثلاثة من قتل، اندفعوا نحو المسلمين كالسيل الجارف، وأبو جهل من ورائهم، يحاول إنقاذ الموقف بتحريضهم على القتال وهو يزعق كالغراب: «لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة. عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزراً، وعليكم بقريش، فخذوهم أخذاً، حتى ندخلهم مكة، فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها»[*].
فيا لجهالة هذا الرجل الذي لا وصف ينطبق عليه أكثر من أنه «أبو الجهل»! وجهالته تكفي للدلالة على ما تضمُّ جوانحه من كفر وحقد!..
على أن المشركين كان يأخذهم الظن بأن في كثرة عددهم ما يُدخل الرعبَ في قلوب أعدائهم، وبأنهم إذا ما رأوهم يندفعون نحوهم، سيتراجعون أمامهم، ويولون الأدبار.. ولكن أين هم من ذاك الوهم، والمسلمون في انتظارهم يتحرقون شوقاً لملاقاة هذا العدو الغاشم؟. وها هُم، وقد رأوا الهجوم عليهم، لم يتحرَّكوا من أماكنهم بل ظلّوا ثابتين: تشدُّ سواعدهم القوية على الأقواس، لتمطرَ الزاحفين بوابل من السهام والنبال، فتخترق منهم الضلوع، وتصيب الرؤوس والأحشاء، فيهوي منهم من يهوي، ويفلت من يفلت.. ثم ينقضّ المسلمون عليهم كالنسور تهبط من شواهقها، وقد شرعت سيوفها وحرابَها للقنص الوفير..
واعتلى النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التلَّة، يحرِّض المسلمين على قتال أعداء الله، وهو يُلقي على مسامعهم قولَ الحق، بقوله الكريم: «والذي نفس محمد بيده لا يُقاتلهم اليومَ رجلٌ فيُقتَل صابراً محتسباً، مُقبلاً غيرَ مُدبِرٍ، إلا أدخلَهُ اللَّهُ الجنة»[*].
ثم لا ينسى النبيُّ الكريم، ورسولُ الحق، حتى في هذا الموقف الحرج، ومن خلال نداء التحريض، والحضّ على القتال، أن يهيب بالمسلمين ألاّ يقاتلوا إلاَّ عدلاً.. فلا يقتلوا من يقع في أيديهم أسيراً، أو من يسلِّم نفسه إليهم، وأن يتحاشَوا مصارع قوم ذبّوا (دافعوا) عنهم في مكة ومنعوهم.. وأن لا يتوخَّوا من قتالهم إلاَّ الذودَ عن دين الله، وحماية الإِسلام من الكافرين..
ذلك هو الخُلق المحمديُّ يتلألأ مشعَل نور على جبين الدهر، ليُضيء جوانب الظلام كلما خيَّمَ على حياة الإِنسان الظلمُ والفسادُ، وكلما اشتعلت الحروب وَسُفِكَتِ الدماء..
فالرسول الأعظم، وفي أول معركة يخوضُها الإِيمانُ ضد الكفر، لم يغفلْ عن نَفر في عداد قريش، قد وقف يوماً إلى جانبه يذودُ عنه، وعن المسلمين، في أحلك الظروف وأشدِّها صعوبة.. ولم يكن ذلك النفرُ إلاَّ بني هاشم ومن شايَعَهم من قريش، أو وقَفَ مثل مواقفهم.. فأولئك ما كانوا يوماً إلْباً على المسلمين في مكة، يتهددون وجودهم وكيانهم، بل على العكس كانوا الحماة يوم أرادتها قريش حملةً شعواءَ لا تُبقي ولا تذر. ويكفي أنهم عاشوا مع المسلمين نكبة المقاطعة، لكي يحفظ لهم رسول اللّه ذلك الصنيعَ الجميل، فكيف وقد كانت كل مواقفهم إلى جانب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه إبَّان المحن والنكبات؟!... فهل يعاملهم رسولُ الحق مثل الأعداء الغادرين في قتالٍ قد فرض عليهم كرهاً من شياطين قريش، وهي تهددهم بهدم بيت كل من لم يخرج لحماية العير، ومنع الأموال؟!.
لا والله لا يكون منه ذلك. فهو محمد بن عبد اللّه، الإِنسان العادل، الذي يحفظ العمل الجميل، ويفيه حقَّه يوم يقدر على الوفاء.
ومثل بني هاشم أيضاً، كانت لنفرٍ من قريش أيادٍ بيضاء على المسلمين، يوم سعى هذا النفرُ لإِيصال المؤن والمياه إلى المحاصرين متحمِّلاً المخاطر في سبيل ذلك، ويوم حرَّض على نقض صحيفة المقاطعة غير آبهٍ لعنَتِ المتعنِّتين من زعماء قريش أو لصلافة المتكبرين منهم..
نعم، ومن أجل الوفاء الإنساني، كان نداءُ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأصحابه، وهم يشدُّون على المشركين، ألاَّ يقاتلوا أصحابَ الصَّنيع الحسن ـ وهم معروفون منهم - بمثل ما يقاتلون به رؤوس الشرك وأسيادَ الكفر، ومَن نزا نزوتَهم الحاقدة على الإِسلام..
وإذ الْتقى الجمعان، كان نداء الرسول يتردد في آذان المسلمين وهو يعدهم بالجنة، ويوصيهم بقتالٍ شريفٍ عادل، فهفتْ قلوبهم لنيل الشهادة ومشاعرُهم لتنسُّم رياح الخُلْد، فإذا الحياة الدنيا عندهم مجرد عبورٍ سريعٍ إلى رحاب الله الفسيحة، العابقة برحمته ورضوانه..
بل أخذتْ تهتفُ في أعماقهم الطمأنينةُ فرحةً جذلى، فتردِّدُ حناجرُهم ذلك الهتافَ الرائعَ، وكُلُّهم يتغنَّى بلسان عمير بن الحمام، أخي بني سلمة: «بخٍ بخٍ[*]!... أفما بيني وبين الجنة إلاَّ أن يقتلني هؤلاء؟ إيهِ أيتها التمرات الطرية في يدي: اذهبي، لئن أنا حييت حتى آكلك، إنها لحياة طويلة».
ولم يَرْمِ عمير تمراتِه من يده فقط.. ولم يلفظ ما كان قد وضعه في فمه منها وحسب، بل أبت عليه مشاعره إلاَّ أن يعبِّر عما يجول في صدره، وصدور إخوانه، في تلك الساعة، وهم يندفعون نحو الأعداء، فيهتف منشداً:
ركضاً إلى الله بغير زادِ
إلاَّ التُّقى وعملِ المعادِ
والصَّبر في الله على الجهادِ
وكلُّ زاد عُرضَة النَّفادِ
غير التُّقى والبر والرشادِ
وما زال عمير يقاتل حتى سقط شهيداً، كما تمنى وأراد[*].
ويشتد احتدام المعركة: فهنا يسقط هامٌ على الثرى، وهناك يهوي فارسٌ، وبجانبه ينكبُّ راكب، ويرتمي راجل.. ومن تحت الأرجل والحوافر يرتفع الغبار، فيغطي الأجواء. الكلُّ في كرٍّ وفرٍّ، وصيحات الرجال تختلط بمقارعة الدروع والسيوف، حتى ليخيّل للرائي أن الأرض تميد تحت الأقدام، وأنَّ السماء تُنزل اللَّعنات على المشركين الفاسقين...
ووقف النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمام عريشه يشهد تلك الواقعة، وقد أرادها سفهاءُ قريش معركة شرسة، لا لشيء إلاَّ لأنهم يرفضون الانصياعَ لدعوة الحق، والاهتداءَ إلى الإِيمان.. وإنَّه، وهو يرقب سير المعركة واحتدامها، لا يجد إلاَّ أن يتوجَّهَ بناظرَيْهِ وقلبِه إلى الله (سبحانه وتعالى) خاشعاً، متضرعاً، مبتهلاً، مستعيناً به (عز وجل) على نصر المسلمين، وخذلان المشركين، فيأتيه الاطمئنانُ، استجابةً من ربِّه تعالى بتنزيل صادق كريم:
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ *} [الأنفَال: 65].
ويستبشر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنصر، فيتعالى صوته يشقُّ عنان الفضاء، ولكن، على الرغم من قرقعة الحديد، وصهيل الخيول، وصيحات الرجال.. يصلُ إلى المسلمين قبساً روحانياً، ويحُلُّ في نفوسهم قوةً ربّانية تشعُّ من نفس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتبعث في نفس كل مسلم قوىً مضاعفة، حتى ليحِسّ الواحدُ بأنه كفؤٌ لعشرة رجال، وأنَّ يد الله سبحانه فوق يده تحرِّك سيفه فيضرب، وتسدِّدُ رميته فتُصيب، وأنه وإخوانَهُ المسلمين ليسوا وحدهم في المعركة، بل هُم في حشد من جنود الله الخفية، لا تقع عليها عيونهم ولا يعرفون عددها، بل يحسُّون بوجودها تقاتل معهم جنباً إلى جنب.
وتَضعُف في عيون المؤمنين شكيمةُ المشركين العاتية، وتتضاءل في نفوسهم قُواهم الباغية، فيفرِّقون صفوفهم ويشتِّتون جموعهم، ويكتسحون دفاعاتهم كما يكتسح السيل العرم الغُثاءَ الأحوى، وهم يبحثون عن زعماء قريش وعظمائها، حتى يطيحوا برؤوسهم، ويستأصلوا وجودهم، فيقضوا على أكبر معقل للكفر في بلادهم. ومن خلال هذا البحث عن شياطين قريش يلمحُ بلالٌ - المسلم الذي أوذيَ في سبيل اللَّهِ أذى شديداً - أميَّةَ بنَ خلفٍ وإلى جانبه ابنُه عليٌّ، فيندفع نحوهما، ويصرخ في وجهَيهما، يذكرهما بما كانا يفعلان به في مكة حتى يفتناه عن دينه، فيقول لأمية: إيهِ يا رأس الكفر، ألا تحمل الصخرة العظيمة اليوم بين يَديك، تريد بها صدر بلال الحبشي؟!... فوالله لن أدعَك تفلت من يدي وأنت على كُفرك العاتي حتى أُوردك نارَ جهنم، وبئس المصير..
ويتصدَّعُ كيان أمية من صرخة بلالٍ، فترتعد أوصالُهُ ويُدرك أن ساعته قد دنت، فيتطلع حوالَيه يريد هرباً، فإذا به يلمح عبد الرحمن بن عوف، وكان صديقاً له في مكة، فينطلق نحوه وهو يصرخ بابنه أن يتبعه، مستجيراً بعبد الرحمن كي يحميه وابنَهُ، وهو يقول له: «هل لك فيءٌ فأنا خير لك من هذه الأدرع التي تحمل؟»، ثم يغدق له الوعود بالنوق والجمال الكثيرة إن أنجاه وابنه.. مما جعل عبد الرحمن يطرح أدرعه، ويجيبه إلى دعوته، فيقول له:
«نعم والله فقد كنتَ صديقاً»..
ولكنّ بلالاً لا يتركه، بل يلحق به، وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أنصارَ الله، هذا رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا».
ولفتت صرخةُ بلال مسامع بعض المسلمين، فاندفعوا نحو أمية، يلتفون حوله التفاف السوار حول المعصم، غير عابئين بصراخ عبد الرحمن بن عوف، في الإبقاء على حياة الرجل بل يُردون ابْنَهُ قتيلاً، قبل أن يصلوا إليه، فيصرخ - حينئذٍ - فيه عبد الرحمن، يحضُّهُ على الهرب، وهو يقول له:
ـ أُنجُ بنفسك يا أمية، وإلاَّ فلا نجاة بعد الآن، فوالله ما أغني عنك شيئاً.
ولكن سيفَ بلال كان أعجل، وهو يتلقّف به رقبة أمية بن خلف، بضربة المؤمن الذي ذاق لوعة التعذيب، فجعل رأسه يتدحرج تحت سنابك الخيل، وأخفاف الجِمال.. فيرتفع، حينئذ صوت بلالٍ يشقّ عنانَ السماء وهو ينادي: أحَدٌ، أحدٌ!.. فيردد المسلمون من ورائه نداء الحق: أحدٌ، أحدٌ..
وتذهب آمال عبد الرحمن بن عوف أدراج الرياح، لأن الأمرَ قد انتهى إلى غير ما يشتهي. فكان يقول: (رحم الله بلالاً، أَذهب أدراعي وفجعني بأسيريَّ).
وهوى أمية بن خلف، مثلما هوى غيرُهُ ممن كانوا أشدَّ شياطين قريش عنتاً على المسلمين.. ولكنّ رحى المعركة لم تتوقف، وأبطال المسلمين يخوضونها معركة فاصلة، وفي الطليعة علي (رضي اللّه عنه) الذي قال عنه ابن إسحاق: إن الكثير من قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي[*]، وقد سماه الكفار يوم بدر بـ «الموت الأحمر» لعظم بلائه ونكايته[*]. ومثله كان عمُّهُ حمزة، وعمر والمقداد، وسعد بن معاذ، وزيدٌ بن حارثة، والزبير،ومعاذ بن عمرو، وسعد بن الربيع.. وغيرهم من الأبطال الميامين الذين كانوا يميلون على الكفار فيفرقونهم بدَدَاً، دون أن ينسوا وصية رسولهم الكريم بوجوب الرفق ببعض من أحسنوا إليهم في مكة، فيجهدون لأخذهم أسارى دون القتل، إلاَّ من أرادَ قتلَ نفسه، كما فعل أبو البختري بن هشام، عندما لقيه المجذَّرُ بن زياد البَلَويّ، حليف الأنصار فناداه:
ـ يا أبا البختري إن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد نهانا عن قتلك إذ كنت عوناً أيام الشدة، وما أحب إلاَّ أن تخلي ساحة الوغى يرحمك الله، أو تذهب إلى رسول اللّه تتفيَّأ بعطفه ورعايته.
وكان صاحبه جنادة بن مليحة من بني ليث قد خرج معه من مكة، فقال أبو البختري:
ـ وصاحبي هذا جنادة؟
قال المجذّر: وهل أعانك صاحبك هذا يوم نقض الصحيفة؟
قال أبو البختري: لا والله!..
قال المجذّر: إذن فسَلْهُ أن يأتي رسولَ الله، ويسلّم نفسه إليه..
وهنا أجاب جنادة قائلاً: لا!.. لن أفعل، وتعيّرني قريش!.. ثم التفت إلى أبي البختري، ينهاه عن مؤازرة المجذَّر له، وهو يقول:
»أوَقد سمعتَ ما قال الرجل يا صاح، فخلِّ بيني وبينه، واذهب لأمرك»..
ولكنَّ أبا البختري بن هشام، لم يمتثل لنصيحة المجذّر، بل قال له:
ـ ما أنا بتارك صاحبي، ولأموتنَّ دونَهُ حتى لا تتحدث عني نساء مكة، أني تركت الصحبةَ حرصاً على الحياة.
وهكذا اختار أبو البختري المصير الذي رآه، فاشتبك مع المجذّر في قتال أودى بحياته، ولم يكن نصيبُ صاحبه من الحياة بأوفرَ حظّاً منه، إذ لقي مصرعه أثناء المعركة عندما اقتحم عليه أبطال من المسلمين، وأردوه إلى جانب أبي البختري..
...فالقتالُ يتأجج لهيبه، واحتدام الغضب يشتدُّ سعيرُهُ! ولكن أين رأس الفتنة أبو جهل، عمرو بن هشام، في كل هذا؟
إنه في وسط المعركة مثل الأفعى يتلوى من ناحية إلى ناحية، وهو يحاول ألاّ يدخل في اشتباك مباشر، أو في مواجهة حاسمة... بل يحرِّض قومه متجنِّباً الضربات، ويشد عزم مقاتليه متفادياً الهجمات، حتى شدَّ عليه مُعاذُ بن عمرو بن الجموح (الأنصاري) وأمكنه أن يصل إليه بضربة أطنَّت بنصف ساقه (أطنَّ الساق قطعها، يراد بذلك صوت القطع)، وكان ابنه عكرمة من ورائه، فتقدم من معاذ، وضربه على عاتقه فقطع يده وبقيت معلّقة إلى جنبه بجلدة لها، فلم يعد قادراً على قتال... ويرى معوّذ بن عفراء ما حلَّ بصاحبه معاذ فيهجم على أبي جهل، يرميه بضربة وهو يقول: «لقد أرسلك الله إليَّ يا مفسد القوم، فخذها من يد مؤمنٍ جزاءً وفاقاً لما عذَّبتم المسلمين في مكة»!.
ويهوي أبو جهل على الثرى مثخناً بالجراح، فيظنهُ معوّذ قد قتل وذهب إلى الجحيم، فيبتعد عنه ليواصل القتال ذوداً عن دين الله، دونَ أن يمكِّن ابنَهُ عكرمة من الوصول إليه..
وفي هذا الجو المشحون، وفي حمى هذا الوطيس، كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يزال على عهده مع ربّه، يستغيث به، ويتضرع إليه أن يؤيِّد المسلمين بنصره المؤزَّر، حتى لا تعلو كلمة الكفر، وتحول دون نشر دينه الحق.. ثم يأخذ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حفنةً من الحصى، ويستقبل بها قريشاً، وهو يقول:
»شاهت الوجوه»[*].
وتستمر المعركة لتستبين سبيلُ المجرمين، ولكنْ، وبعد هذا القتال الشديد تخور القوى من المشركين، وتوهن عزائمهم إذ ينظرون من حواليهم، فلا يجدون إلاَّ الجثث تغطي الأرضَ، فقد سقط سادتهم صرعى، وصار فتيانهم جثثاً هامدة. ولم يعودوا قادرين على مواصلة القتال منهكين، لاهثين، ودونما جدوى يرتجونها..
لقد تصدَّع كيانُهم وأصبح حالُهُم أشبه بثوبٍ مهترئ، يتمزَّق في مهب الريح.. حيالَ هذا الواقع، لم يَروا إلاَّ الفرار هرباً من المسلمين، فولوا وجوهم نحو كثبان الرمال، وهم يلقون أسلحتهم من أيديهم كي لا تعوقهم عن الهرب.. ولكن أنَّى لهم خلاصٌ، والمسلمون في أثرهم يجدُّون، ويلاحقونهم بنفوس حميَّة، وقلوب أبيَّة، فيأسرون منهم من يأسرون، ويغنمون منهم ما يغنمون؟ وما زالوا بهم يشتتون قواهم، ويبددون جموعهم، حتى انجلت معركة «بدر الكبرى» في عصر يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، من السنة الثانية للهجرة، عن هزيمة ساحقة للمشركين، ذهب فيها من رجالهم سبعون قتيلاً، ووقع في أيدي المسلمين مثل عددهم أسارى، فضلاً عما خلّفوه من متاع وزاد وعدة حرب كانت كلها غنائم للمسلمين.. ومقابل هزيمة قريش كان نصرُ الله (تعالى) للمؤمنين، على ما وعَدَ به سبحانهُ رسولَه الكريم، وأيّده بقوى خفية، حققت لهم ذلك النصر العظيم..
وأقبل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون من ورائه يتفقدون ساحة المعركة علَّهم يجدون بعض الجرحى - من الفريقين - لكي يُسعفوهم وينقذوهم من الموت.. وفيما هم في تجوالهم إذا بعبد اللّه بن مسعود يجد أبا جهل، ما يزال به رمقٌ من حياة، فيعتلي صدره، ويمسك بلحيته يشدها إليه، فيقول له ذلك اللئيم: «لقد رقيت مرتقى صعباً يا رويعي[*] الغنم»... ولم يتلفَّظ بأكثر من ذلك حتى انفصلت نفسه الخبيثة عن جسده النتن، فحزَّ عبد اللّه بن مسعود رأسه عن رقبته، وحمله مهلِّلاً مكبِّراً على ما منحهم اللّهُ تعالى من مكرمةٍ بموت أشدِّ الناس حقداً على الإسلام وأهله، وذلك بسبب ما كان يصيبهم به هذا الرجل من أذى وعذاب، وما كانوا يعانون من كراهيته وعداوته..
وكان من بين شهداء المسلمين الفتى عمير بن أبي وقاص الذي بكى، ليظل مصاحباً أخاه في الخروج، وها هو قد حضر معركة بدر، وقاتل قتال الأبطال، فتنزَّلت الملائكة تحف به في اسمى مقام الشهادة، وترفعه على أجنحة الإيمان إلى السماء، راضياً مرضياً، ليترك على الدهر أنشودة الفتوة والشهادة تتغنى بها نفوس شباب المسلمين قبل حناجرهم، وتهوي إليها أفئدة المسلمين صلاة قدسية، لمن أراد أن يخلد في حياة الطمأنينة الأبدية، وفي نعيم السعادة الأزلية.. فطوبى لك يا عمير أيّها الفتى المقدام، وأنت تنال وسام شرف الشهادة في سبيل الحق!.
تلك حكاية من حكايات البطولة الفتيّة في الإِسلام، لا نذكرها هنا للتفاخر وحسب، بل ولنؤكد للمسلمين اليوم بأن أسلافهم عندما آمنوا باللَّهِ (تعالى)، إيماناً صادقاً، راسخاً في النفوس، وعرفوا أهمية دينهم في حياة بني الإِنسان، وقدرته في تربية الناس تربية صالحة، أقدموا على مثل تلك البطولات والتضحيات التي ظلت تردّدُ أصداءَها أطرافُ الدنيا، حتى جاءت العهودُ التي حاولت طمس معالمها وآثارها، من أجل أن تموت معها بذور الخير في النفوس، فيشرئبُّ الشرُّ ويتطاول بأضراره على حياة الناس.. وهذا ما حصل بالفعل، كما تشهده مختلف جوانب العالم الأرضي في وقتنا الراهن!..
ولم تكن حكاية عمير إلاَّ مثالاً حياً على كل ما حفلت به معركة بدر، التي لم تزد على بضع ساعات من ذلك النهار المبارك من رمضان.. ولكن لا تؤخذ قيمتها على أنها واقعة حربية مظفرة، بقدر ما يجب النظر إليها من زاوية ما أحدثت، رغم قصر وقتها، من الآثار والنتائج مما هو جدير بأن يبقى ماثلاً في أذهان المسلمين، بل وفي أذهان الناس أجمعين، كي يستقوا من معينه الدافق عبَراً وعظاتٍ يفيدون منها في مواجهة الحياة، كلَّما تبدَّى النزاع أو الاختلاف حول شأن من الشؤون التي حفلت بها حياة المسلمين في ذلك الوقت، والتي قد تحفل بها حياة الناس في كل وقت..
أهم الآثار والنتائج التي ترتبت على معركة بدر
1 - وثوق الجماعة بالقائد:
فمن دروس بدر القيِّمة، نستخلص أهمية وثوق الجماعة بالقائد، واعتمادها على صدقه، وحسن تقديره لمجرى الأمور.. فالمسلمون يوم خرجوا من المدينة كانوا يطلبون أموال قريش التي تمدُّها بالقوة المادية والمعنوية، والتي تبقيها على موقفها من العداوة للإِسلام.. فلما تبين لهم هرب أبي سفيان بالأموال رأى بعضهم الرجوع، بينما رأى قائدهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الثبات ومواجهة قريش، بعدما جاءت بمظاهر القوة والخيلاء، تتحدى خروجهم، وتهدد باستئصالهم.. وكانت عظمة المسلمين بإدراكهم لرحمة الله التي تنزلت عليهم ساعة الحَيْرة، ومن ثَمَّ بإجماعهم على موافقة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما رآه، حتى لم يشذَّ عن هذا الإِجماع رجل واحد، بعدما رأوا من آثار رحمة الله ما بدَّلَ أيَّ أثر للتردد..
وبخلاف ذلك كان وضع المشركين، إذ لم تكن لهم قيادة موحَّدة، بل كان لكل قبيلة قائدٌ يختلف عن غيره رأياً ومنهجاً وعملاً... فهنا قادة يريدون الرجوع إلى مكة بعد نجاة الأموال - وقد رجعوا فعلاً - وهناك قادة يصرون على لقاء محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه، وفريق ثالث لا يعنيه إلاَّ التخلص من ضغط زعماء قريش، ونجاته من الهلاك، لا سيما بعدما تأكد له تصميم المسلمين على خوض المعركة، واستهانتهم بالموت، مهما عظمت قوة قريش.
وهكذا برزَ عامل رئيسي يميِّز بين الطرفين.. ففي طرفٍ قائدٌ واحدٌ هو صاحب الأمر والنهي، والجميع من حوله مطيعون له، لإيمانهم بقدرته وحكمته وإخلاصه، بينما في الطرف الآخر توزعت القيادات أشتاتاً مختلفة، وكلٌّ منها ينزع نحو غاية، يرى أنها توافق مآربه وأهواءه.
2 - اعتماد الأساليب الحربية السليمة:
وتوحي لنا بدرٌ أيضاً بأهمية الأسلوب واعتماده كأحد مقومات الحرب الرئيسية.. والأسلوب في الحرب يعتمد أصلاً على التخطيط والتنظيم. فبقدر ما يجري من تخطيط سليم للمعركة، وبقدر ما يحصل من تنظيم للقوى وتهيئة للإفادة من الوسائل المستخدمة، بقدر ما يتيح ذلك من تحقيقٍ للنصر.. ولقد تميَّز أسلوب المسلمين في معركة بدر، باعتماده على التخطيط والتنظيم. فقد منعوا عدوَّهم من السيطرة على الماء فأمنوا عدم العطش في قتال يدور خضمُّهَُ في الصحراء القاحلة. وقد اعتمدوا الشمس وسيلةً لإِرباك العدو بحيث يستقبلها في عيونه فتعوّقه عن سرعة الحركة واقتناص العدو. وقد نظَّموا أنفسهم جماعات جماعات: جماعةً للنبال، وأخرى للسيوف، وغيرها للرماح، وأُوكِل إلى كل جماعة موقعٌ تشترك منه في المعركة. وكانت خطتهم المحكمة أن يجعلوا عدوهم هو البادئ في الهجوم، والجيشُ المهاجمُ يتعرّض عادة لخسائر أكثر بكثير إذا كان عدوُّه كامناً له متربِّصاً به. وهذا ما حصل فعلاً يوم بدر، إذ عندما هجم المشركون انهالت عليهم النبال مثل المطر المدرار، تفتك بهم وتثخنهم بالجراح، حتى إذا اندفعوا نحو المسلمين، كان هؤلاء بانتظارهم في حرابهم وسيوفهم، فانقضُّوا عليهم بالروح القتالية الباسلة التي جعلت أعداء الله أشتاتاً متفرقة..
وحيال هذا الأسلوب الحربي السليم، فإن القلة تغني عما لا تغني عنه الكثرة.. فأية فائدة من كثيرٍ لا يستجمع العناصر التي تحيل كثرته قوة فاعلة، وأي نفعٍ من الأعداد الغفيرة إن لم تتوفر لها عوامل التعبئة والإعداد والغاية؟... أو ليس في واقعنا ما يعبِّر عن تلك الحقيقة عندما نجد العدوَّ الصهيوني، على قلة عدده، قد هزم العرب على كثرتهم؟..
3 - الأهداف والدوافع:
فالمسلمون كان عندهم هدف سام وهو عبادة الله تعالى وإعلاء كلمته بنصرة دينه ونبيّه، ومن أجل ذلك كانوا يتمتعون بقوة معنوية عظيمة، دافعُها الإِيمان وصدْق العقيدة، بينما كان هدف المشركين مطامع الدنيا - من خلال القضاء على الدين الإسلامي - وهو هدف لم يكن وراءه قوة معنوية سوى حقدهم على النبيّ الذي يحمل هذا الدين.. يضاف إلى هذا الحقد عنصر ماديٌّ آخر وهو حماية الأموال.. فلما أمَّنُوا عليها، ضعفت عزيمتهم عن القتال. كما أن من أسباب إضعاف قوتهم المعنوية، الأوهام والخرافات التي كانت تتلبس عقولهم وأفئدتهم.. فقد ضربوا القداحَ قبل خروجهم يتلمّسون عونَ «هبل» فما زادهُمْ ذلك الوهمُ إلاَّ سخريةً من عقولهم دفعتهم إلى التشاؤم..كما كانت الشائعات قد سرت فيما بينهم عن رؤى كثيرة جعلتهم يتطيّرون من الخروج.. فقبل أن يأتيهم نذير الاستنفار الذي بعث به أبو سفيان بن حرب، كانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت في المنام أن راكباً أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح ينادي: ألا انفروا يا آل غُدُر لمصارعكم في ثلاث[*].. ثم صعِدَ هذا الرجل ببعيره على جبل أبي قبيسِ، فأخذ صخرةً فأرسلها فأقبلت تهوي حتى تفتَّتت، فما بقيت دار بمكة إلاَّ دخلتها منها فِلْقة.
فأخبرت عاتكة أخاها العباس برؤياها، فحملها العباسُ إلى الوليد بن عتبة بن ربيعة فذكرها الوليد لأبيه، فقال: «هذه والله مصيبة تحدث في قريش».
وفشت تلك الرؤيا بمكة حتى تحدّثت بها قريش في أنديتها، فكان أبو جهل يقول ساخراً: «هذه نبيَّة ثانيةٌ في بني عبد المطلب.. واللات والعزى لننتظرنَّ ثلاثة أيام، فإن كان ما رأت حقاً، وإلاَّ لنكتبنَّ عليهم كتاباً: أنه ما مِنْ أهل بيتٍ في العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم».. وخابَ ظن ذاك الأفاك. إذ لم يمر اليوم الثالث إلاّ ووقفت قريش ترتعد فرائصها لاستغاثة ضمضم الغفاري في بطن الوادي وهو ينادي: «يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة»[*].
ولم تكن عاتكة كاذبة في ما رأت، ولذلك فإن أبا لهب كان يقول لمن حوله:
«إنما رؤيا عاتكة أخذٌ باليد».. أما في الحقيقة فإنها رؤيا أراها إياها الله تعالى كي تكون أحد العوامل في زعزعة نفوس المشركين، كما حصل فعلاً.. بل ولم تكن عاتكة وحدها من رأت تلك الرؤيا في منامها، بل وغيرها من قريش كانت لهم رؤى مماثلة.. ففي أثناء طريق قريش إلى بدر، انفردَ جهمُ بن الصلت ببعض أصحابه يروي لهم أنه رأى في منامه وكأنَّ راكباً أقبل على فرس ومعه عيرٌ، حتى وقف فوق رأسه، وهو يخبره بأن جمعاً من سادة قريشٍ قد قُتلوا، وبأن أشرافاً منهم قد أُسروا.. وما زال فوق رأسه يُعدِّد من أسماء القتلى والأسرى حتى ذكر كثيرين، ثم راح يضرب خنجره في كبَّة بعيره ويرسله بين عسكرهم، والبعير يطوف بين الأخبية، فلم يبقَ خباءٌ إلاّ وأصابَهُ من دمه...
وانتشرت هذه الرؤيا في معسكر القرشيين، فأراد كثيرون منهم التخلّف والعودة من منتصف الطريق، ولكنَّ مناياهم كانت قد سبقتهم إلى بدر، فشدتهم إليها لتحول بينهم وبين العودة التي رغبوا فيها.
وكذلك كانت رؤيا لضمضم الغفاري نفسه، الذي أعلنَ نداء الاستغاثة، إذ قال للحارث بن عامر، وهم في الكثيب الرملي، على قرب من بدر: أتدري يا حارث، إني أفقت من نومي ليلة البارحة وأنا أرتعدُ خوفاً وغمّاً؟
فسأله الحارث: وممَّ الخوف والغمُّ يا ضمضم؟
قال ضمضم: من رؤيا بغيضة.. فإني وكاليقظان على راحلتي نظرت إلى واديكم - يعني مكة - فكأنَّ به دماً يسيل.. فقال الحارث: ما خَرجَ أحد وجْهاً من الخروج أكره له من وجهي هذا!.
قال ضمضم: ولِمَ لا نرجع؟
قال الحارث: لو سمعت منك هذا وأنا في مكة، ما خطوت وراءها خطوة واحدة... فاطوِ هذا الخبر وإياك أن تُعلمه لقريش، حتى لا نتعرض لسوء شتم.. فإنهم يتهمون كل من يحاول أن يعوقهم عن القتال!..
تلك كانت حالة قريش النفسية التي رافقتهم في فترة معركة بدر، وهي حالة لا تبعث على أية قوة معنوية، بل على العكس إنها توحي بأسباب الضعف والهزيمة.. فالقوم ذهبوا إلى الحرب وملء قلوبهم التشاؤم والتطير، ولا بدَّ لمن كانوا كذلك أن يكونَ الشقاق سيداً عليهم، وأن تكون التفرقةُ تقود خطاهم. وذلك فضلاً عما كان بينهم من تباين في الأهداف والغايات، كما يدلُّ عليه ما دار بين طليحة بن خويلد وهو يقول لصاحبه: ويحكم ما يهزمكم؟. قال: «وأنا أحدثك ما يهزمنا: إنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله. وإنا لنأتي قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه»[*]. وكان يزيد في تصدع المشركين تسلط رجل مثل أبي جهل عليهم، يخافون حقده وغدره، مثلما يخافون سليط لسانه وشنيع فعاله... وكانت النتيجة الحتمية لذلك كله ما حلَّ بهم من انكسار وذل، أدَّى لأن يُقتل من قُتل ويؤسَرَ من أُسِرَ، وأن يولي الأدبار من أرادَ النجاةَ خاسئاً مهزوماً.
4 - انتصار المسلمين:
أما المسلمون فقد اعتبروا أن الحرب، بعد أن فرضت عليهم، باتت مصيرية بالنسبة إليهم، لأنهم لو غُلبوا وهُزِموا فلن يُعبد الله في المدى الذي يقدّرونه لنصرة دينه؛ فكانوا يريدون النصر العسكري بأي ثمن، ومن أجل ذلك لم يهابوا المعركة، بل أقدموا على القتال، وقد أعزَّهم الله بنصره المؤزر. لقد جمعوا بعد المعركة شهداءهم ودفنوهم، ثم جمعوا القتلى من الكفار بعد أن أعدُّوا لهم قليباً من قلب بدر ودفنوهم فيه. ووقف رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوق هذا القليب وراح يخاطب القتلى من الكفَرة وهو يقول: يا فلان ويا فلان ويا فلان «بئس العشيرة أنتم التي كنتُم لنبيّكم، كذَّبتموني وصدَّقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، هل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربِّي حقاً!»[*].
قال المسلمون من حوله: يا رسول اللّه، أتنادي أقواماً قد ماتوا؟
فقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوني»[*].
وحانت من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو يتفقد أصحابه بناظريه، التفاتة نحو أبي حذيفة بن عتبة، فألفاه كئيباً، غطَّت وجهَهُ أماراتُ الحزن، حتى لَيكاد الدمعُ أن يفرَّ من مآقيه، فتقدم منه الرسول الكريم يواسيه، ويسأله:
«لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء؟».
قال أبو حذيفة: «لا والله يا رسول اللّه، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من هذا الأب رأياً وحلماً، فرجوت أن يهتدي إلى الإِسلام، ولكنَّه أبى إلاّ أن يبقى على كُفره، وإني أتذكر الآن ذلك فيحزنني أمرُه.. لَكان خيراً له لو ماتَ مسلماً».
ودعا له النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالخير، فأذهبَ عنه الحزن..
.. وولَّى ذلك النهارُ بخيره وشرِّه، إذْ كان خيراً على المسلمين، وشرّاً على المشركين. ولكنَّ آثاره ما تزال ترتسم في آفاق الأرض حتى اليوم، بما أنتجت من دروس وعظاتٍ يمكن الاهتداء بها..
واضطجع المؤمنون في مرابضهم بوادي بدر، يستظلُّون تحت النجوم، بنعيم الرحمة التي حفَّهم الله تعالى بها، لتفيء على أفئدتهم ظلالاً وارفة من الطمأنينة والسعادة، فيناموا قريري العين، تكلأهم عينُ ربهم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، بعدما أبلوا في سبيل دينه القويم بلاءً حسناً، فحقَّ لهم أن يقرُّوا عيناً، وأن يهنأوا بالاً..
وأصبح الصبح، فارتحل المسلمون قافلين إلى المدينة، يحفُّون بالركب المحمدي، ومعهم الأسارى من المشركين، وفي حوزتهم الغنائم التي أصابوها... حتى إذا قطعوا بعض الطريق، أمر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن ينزلوا على كثيب منبسطٍ، وهناك قسَّم الغنائم (النفل) فيما بينهم سواءً بسواء.. فجعل للفَرسِ نصيباً، وللفارس نصيباً، وجعل لِوَرثة المستشهدين من المسلمين حصصاً.. وكانت حصةُ من قام بالأعمال غير القتالية، مثل حصة من قاتل. وقد تعجّب بعض الصحابة لهذه القسمة بالتساوي، فسألوا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن عدم تفريقه بين راكب أو راجل، وبين مقاتل أو قائم بعمل، وبين ضعيف أو يتيم، وهم يقولون:
»يا رسول اللّه، أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل الذي تعطيه للضعيف والبائس؟».
فقال لهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «وهل تُنصرون إلاَّ بضعفائكم؟» تدليلاً منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن الأمرَ ليس كلُّه للقوة التي يعتدّون بها، بل هو للتضامن والتكافل بين الجماعة، وللوحدة وألفة القلوب وجمع الكلمة، والمصير المشترك. وعن عُبادة بن الصَّامت (رضي اللّه عنه)[*] أنه قال: «فينا أهل بدر نزلت الأنفال حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء».
وتابع المسلمون بعد القسمة، السيرَ إلى المدينة، حتى إذا بلغوا الأُثيْل، أناخوا يستريحون من وعثاء الطريق.
واختلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى نفسه، يفكِّر.. ثم أمر أن يأتوه باثنين من الأسرى: النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط.. وهما من شياطين قريش، وأكثر من حرَّض على أذى المسلمين وعذَّبهم. وكانا أيضاً أشدَّ من حاول فتنة المسلمين عن دينهم، وطرح المعجزات على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كي ينالا منه ويقضيا على دعوته..
ونظرَ إليهما نبيُّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نظرة ارتعدت لها فرائصهما، وأيقنا أن الموت حالٌّ بهما.. فأسرَّ النضر بن الحارث إلى مصعب بن عمير - وكان قريباً منه - أن يطلب إلى «محمد» عدم قتله. فنظر إليه مصعب شزراً، وقال له: «أو ما حسبت يوماً ينقلب فيه الشر على أهله يا ابن الحارث... أو لعلّك نسيت ما كنت تفعل بالمسلمين؟. اذهب إلى نار جهنم وبئس المصير، لتلقى سوء عاقبة شرِّك المستطير». وحاوَل عقبة بن أبي مُعَيْط أن يستدرَّ الشفقَة عليه، فصرخ بأعلى صوته مخاطباً الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :
- يا محمد، من للصبية؟
قال له الرسول الذي لا ينطق عن الهوى: النار![*]..
ثم أمرَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّ بن أبي طالب أن يبتعد بالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط عن أعين الناس ويضرب عنقهما[*] لشدة فتنتهما، فالفتنة أشدّ من القتل.. وهكذا دوماً يكون مصير المفتنين، الظالمين، إذ لا بدَّ أن يأتي اليوم الذي يلقون فيه العقاب الذي يستحقون، والقصاص الذي يستأهلون، لأنَّ في القصاص حياة لأولي الألباب...
وتابع أبطالُ بدر رجوعهم المظفّر إلى الديار، حتى إذا بعدوا عن الأثيل بعث رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد اللّه بن رواحة[*] وزيد بن حارثة، يتقدمانهم إلى المدينة، بشيريْن بما فتحَ الله على المسلمين من نصر موعود. وطارَ الخبرُ في أرجاء المدينة، فهلّل المسلمون مستبشرين فرِحين.. أما اليهودُ والمنافقون فلم يصدِّقوا في بادئ الأمر ما يسمعون، أو لعلَّهم لم يريدوا أن يصدِّقوا خبراً هو أصعب عليهم من القتل، فخرجوا من أوكارهم يزرعون الشك في نفوس المؤمنين، فلم يلقوا إلاّ صدوداً واستهزاءً.. فلما رأوا أن محاولاتهم الدنيئة قد فشلت وافتضح كذبهم ومكرهم، عادوا إلى بيوتهم يقفلون على أنفسهم أبوابها، وهم يكادون أن يموتوا من الغيظ...
وخَرجَ المؤمنون لملاقاة إخوانهم، فاجتمعوا بهم في «الروحاء».. وكان اللقاءُ مؤثراً بين الإخوة في العقيدة، وبين الأهل والخلاَّن.. فقد سالت المشاعرُ متدفقة، وقت تلاقت الأحضان، واعتنقت الوجوه، وتشابكت الأيدي، وشدَّت السواعد... وأقبلوا على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يهنئونه بالفوز العظيم، ومنهم من يحاولون أن يبدوا أعذارهم في تخلُّفهم عن مرافقته، فيقول أسيدُ بن حُضَير:
»يا رسول اللّه، الحمد لله الذي أظفرَك وأقرَّ عينَك. والله يا رسول اللّه ما كان تخلُّفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوّاً وقتالاً! ولكن ظننت أنها عيرٌ، فقلت يكفيها من خرجوا»....
فقال له رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : صدقتَ.
والتفت سلمة بن سلامة إلى أسيد يمازحه، وهو يقول:
»ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلاَّ عجائز صُلْعاً كالْبُدن المعقَّلة[*]، فنحرناها»[*]!..
وتبسَّم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، من هذه المداعبة، فقال: «أي ابن أخي، أولئك الملأ»[*]. وكان في ذلك اللقاء لطائف كثيرة راح الجميع يتبادلونها، تعبيراً عن الفرح والسرور اللذين يملآن نفوسهم الطيبة...
وترك المؤمنون «الروحاء» يغذُّون السير حتى بلغوا المدينة يوم الأربعاء في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك.. ودخَلها رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على رأس موكبه، مظفراً منصوراً، وقد أعزَّه الله (تعالى) وأصحابه بما أيّدهم به من نصر. وأقبل من بقي في المدينة من المؤمنين يهنئونه ويدعون له بدوام النصر، ونشر ألوية الحق...
5 - معاملة الأسرى:
وكان وصولُ المسلمين إلى المدينة قبل الأسرى بيوم واحد. فلما جيء بهم في اليوم التالي، أمرَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتفريقهم بين أصحابه وقال: «استوصوا بالأسارى خيراً»[*]. وامتثَل المسلمون لأوامره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكانوا يُكرمونهم، ويحسنون معاملتهم، حتى لَيؤثرونهم على أنفسهم بطيبات الطعام.. ولم يعاملوهم قطُّ كأسرى إلاَّ في الحد الأدنى من تلك المعاملة التي توجب بقاءهم محتجزين، لا يتمتعون بحرية الذهاب والإياب، كما يشاؤون ... وهذا ما جعل أسارى قريش لا يشعرون بأي استعلاءٍ من المسلمين عليهم، لاسيما وأنهم لم يسمعوا من أحد منهم تعييراً بهزيمة، أو استهزاءً بانكسار، على خلاف ما كان المشركون ليفعلوا بالمسلمين لو كان لهم النصر!...
أوَ لم يطلب إليهم أبو جهل - لعنه الله - بأن «يجزروا أهل يثرب جزراً وأن يأخذوا أهل مكة أخذاً، ليدخلوهم مكة ويعرفوهم ضلالتهم»؟!. أي أنه كان يريد قتل الأنصار حقداً عليهم بسبب نصرتهم للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأسر المهاجرين - دون قتلهم - خوفاً من حرب أهلية تثور في قريش.. ولكن الله (سبحانه) كذَّبَ وعد ذلك الكافر لنفسه، فثوى في المعركة قتيلاً، وبات في القليب دفيناً. وهؤلاء أبناء قومه أسارى عند المسلمين، ولكن لا يلقون إلاَّ حسن معاملة، لأن الإسلام يأمرهم بمثل هذه المعاملة الحسنة، ولأنَّ رسول الإِسلام يطبق تعاليم دينه الحق، ومن قواعدها الأساسية الرفقُ والرحمةُ بالضعيف والمسكين والأسير.
وكما كانت هذه المعاملة عدلاً وقت الأسر، فإنها تبقى هي هي، عدلاً من أجل إطلاق سراحهم، ولذلك اتخذ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عدة طرقٍ للمنِّ عليهم بالحرية.. فأما المتعلم منهم فشرط عليه أن يقوم بتعليم عشرة من أبناء المسلمين ثم يطلق سراحه، وذلك تقديراً منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للعلم وتشجيعاً للقراءة والكتابة. وكان ممن تعلم بهذه الطريقة زيد بن ثابت[*]. وأما الفقراء والمساكين، فقد أمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بردِّهم إلى أهليهم وعيالهم من دون أي فداء.. وهذا أحدهم - أبو عزَّة عمرو بن عبد اللّه بن عمير الجمحي - يقول لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «لي خمس بنات ليس لهنَّ شيء فتصدق بي عليهنَّ يا محمد، وإني لمعطيك موثقاً لا أقاتلك ولا أكثِّر عليك أبداً»[*]. ومنَّ عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما طلب، وأخذ عليه العهد ألاَّ يُظاهر على المسلمين أحداً.. وأما الآخرون فكان على قريش أن تفتديهم، وكان الفداء يومئذ من ألفٍ إلى أربعة آلاف درهم للرجل، أي حسب ما عنده من قدرةِ مادية، أو حسب ما هو عليه من غنىً أو فقر..
وكان بين الأسرى أبو العاص بن الربيع، زوج زينب - ابنة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وهو من رجال قريش البارزين مكانة، وصاحب مال وتجارة واسعة، فقدم أخوه عمرو في فدائه، وأرسلت معه زوجُهُ قلادة لها، ما إن رآها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى عرَفَها، إذ كانت أمها خديجة (رضي اللّه عنها) قد أهدتها لها يوم زواجها من أبي العاص، فرقَّ لها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال لأصحابه من حوله:
»هذه قلادة ابنتي زينب، فإن رأيتم أن تُطلقوا لها أسيرها، وتردُّوا عليها قلادتها، فافعلوا»...
وأجابه الجميع: نفعل يا رسول اللّه...
ودعا النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبا العاص إليه، بعدما أفلتوه من الأسر، وطلب منه أن يفارق زينب وقد فرّق الإسلام بينه وبينها، فنزل أبو العاص صاغراً على أمره ووفى بوعده فور عودته إلى مكة، وأمرها باللحاق بأبيها[*].. لتكون طليقةً من قيود الزوجية بما منَّ الله (تعالى) عليها من نعمة الإسلام.
هذه بعض النفحات من دروس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معاملة الأسرى. وهي تحمل من المعاني الإنسانية ما تسمو به شواهد ثابتة، خالدة، على عظمة ذلك الإنسان، وخِصَاله الفريدة، التي ما كانت يوماً إلاَّ نبراساً وهدى لمن أرادَ التكامل في حياته.. فقد نظرَ إلى الفقير بين الأسارى، ومن له عيالٌ يكفلها، فما فرض عليه فداءً، بل منحه حريته ليعين العيال والأبناء.. ولم يأبه لصلة القرابة والرحم، فعامَل أي قريب له مثل أي أسير آخر دون محاباة أو تفرقة إلاَّ بما يتوافق والأسس التي اعتمدها لتلك المعاملة، ولذلك لم يطلق سراح أبي العاص إلاّ بعدما دفع أخوه الفدية عنه، لأنَّ هذا المال حق للمؤمنين، فلا يعقل أن يفرِّط الرسول بدرهم منه على الرغم من المصاهرة التي كانت تربطه بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قبل ان يأمره بفراق ابنته..
نعم هذا هو محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الإِنسان العادل في كل مواقفه، وفي كل أعماله.. وهذه هي عدالته التي جعلته لا يميّز أيضاً بين عمّه العباس بن عبد المطلب وبين الآخرين من الأسارى، وقد ظنَّ كثيرون أنه سوف يطلب من أصحابه أن يطلقوا سراح العباس، لأنه عمُّهُ، وكان من الحماة الذين منعوه في مكة.. ولكنَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان فوق كل ظنٍّ وأسمى من كل توهُّم، إذ جعلَ عمَّه بين الأسارى حتى يؤتى إليه بمال يفديه، ويفدي نفراً من أهله وحلفائه الذين خرجوا معه...
وطال الوقت وفداء العباس وأصحابه لم يصل.. فطلب مقابلة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتحدث إليه. فلمَّا جيء به قال:
«يا رسول اللّه، لقد كنت مسلماً، وفي صميم أعماقي مؤمناً بما تدعو إليه، وقد رآني المسلمون أدفع عنهم الكريهة، وأذبُّ عنهم الإِساءة، فكيف أُعامَلُ مثل معشر قريش الآخرين»؟!
فأبدى له الرسولُ: أنَّ الله أعلمُ بإِسلامه، فإن يَكُ في جوارحه مسلماً فالله سبحانه وتعالى يجزيه على إسلامه، ولكنَّ ظاهره كان على المسلمين، لأنه ما خرج إذ خرج إلاَّ بدعوةِ الحرب والقتال، ولذا وجب عليه افتداء نفسه. وافتداء ابنَي أخيه: نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وحليفه عتبة بن عمرو - أخي ابن الحارث بن فهر.
قال العباس: «ما ذاكَ عندي يا رسول اللّه»!.
قال له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «فأين المالُ الذي دفنته أنتَ وأمُّ الفضل؟ لا أظنك إلاَّ ادخرته لأبنائك الفضل وعبد اللّه[*] وقثم، ولكن صار فيه حقٌّ للمسلمين إذ خرجت بالدعوة لقتالهم».
قال العباس: «يشهد الله أني ما نويت قتالك أو قتال المسلمين، ولكني أردتُ حماية الأموال، لئلا تقول قريشٌ إنَّ لها فضلاً على بني هاشم، فيعيِّروننا، وينحون علينا باللائمة إن تقاعسنا، وما من طباعنا، أن نقبل لومة لائم»، ثم إنني قررت العودة وبني هاشم جميعاً، في الجحفة، إلاَّ أن عمرو بن هشام قد حال بيننا وبين ذلك.. ولكنَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أفهَمَ عمَّه العباس أن الخروجَ كان خطأ بذاته، وكان يمكنه وصحبه الرجوع مثلما فعل بنو زهرة حتى لا يشاركوا في القتال.. وإذ ذاك طأطأ العباسُ رأسه خجلاً، وقد ندم فعلاً على بقائه مع قريش، فقال للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «والله إني لأعلم أنك رسول اللّه. إنَّ هذا لشيء ما علمهُ أحد غيري وغير أم الفضل، وقد أسررتُ لها بصدق ما بعثك الله به نبياً ورسولاً، فهل لي من عفو يا رسول اللّه؟ وهل تحسب لي عشرين أوقيةً من المال أصبتموها مني من أصل فديتي عندك وفدية أصحابي؟».
قال له رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «لا!.. فذاك شيء أغنَمَنا إيَّاه الله تعالى منك».
قال العباس: «سمعاً وطاعة يا رسول اللّه، فما عرفت ابن أخي إلاَّ صاحب عدل وحق، فكيف إذا كان نبيَّ الله ورسوله».
ودفع العباس الفدية التي طلبها رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنه، وعن ابنَي أخويه نوفل وعقيل - وهما بالوقت نفسه ابنا عَمَّيْ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وعن حليفه عتبة بن عمرو..
وإذا كانت هذه سيرته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قولاً وفعلاً، منهجاً وتطبيقاً، فمن أحق بالمسلمين من اتباعها والسَّير على هداها؟.. فهذا مصعب بن عمير، يرى أخاه «أبا عزيز بن عمير» أسيراً لرجل من الأنصار، فلا يأبه لأسره، ولا يطلب إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يطلق سراحه، بل على العكس يقف منه الموقف نفسه الذي وقفه الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أقربائه، فيقول للأنصاري وقد رآه يوثقه: «شدَّ يديك فإنَّ أُمَّه ذاتُ متاع، لعلّها تفديه منك»[*]؛ فسألت أمُّهُ - وكانت ذات مال وفير - :«ما أغلى ما فُدِيَ به قرشي؟».
قيل لها: «أربعة آلاف درهم»، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها[*].
وعادَ الأسارى كلٌّ إلى أهله، ولهم أن يحدِّثوا بما لاقوه من معاملة حسنة من المسلمين، ومن رأفة بهم، ومن عدالةٍ لمسوها لمس اليد بما لم يسمعوا بمثلها في سابق عهودهم، كما يخبر بذلك أبو عزيز ابن عمير نفسه، قال: «وكنتُ في رهطٍ من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا غذاءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إيَّاهم بنا، ما تقع في يدِ رجل منهم كسرة خبز إلاَّ نفحني بها»[*].
أجل عادوا إلى أهليهم وفي نفوسهم مشاعرُ متضاربة، وفي عقولهم أفكارٌ مختلطة، لا يدرون هل هُم فعلاً على حق في ما يفعلون، أم أن محمداً وأصحابه هم على الحق؟! ذلك هو شأنهم الخاص، بما يحدِّثون أو يشعرون أو يفكرون.. وأما شأن المسلمين معهم، فسوف لا يكون إلاَّ وفق المواقف التي يتخذها أولئك من دينهم. ويبدو أن بعضهم قد أثَّرت فيه معاملة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الحدِّ الذي جعله يعدل عن مواقفه المعادية نحو الإِسلام. فهذا أبو العاص بن الربيع، يقعد بعد عودته إلى مكة، ساعاتٍ طويلةً مفكِّراً، مراجعاً حساباته ومواقفه. ويصمم أخيراً على أمر، فيجهِّز قافلة من مال قريش يريد بها الخروج إلى الشام، ولكنَّ سوء طالعه جعَلهُ يقع في أيدي سريَّةٍ من المسلمين، عندما كان على مقربة من المدينة، فتصيب ما معه، ويهرب هو مختبئاً من مكان إلى مكان، حتى يُسدل الليل ستاره، فيدخل المدينة ويقصدُ زوجَه السابقة زينب بنت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستجيرها، فأجارته، وردَّ المسلمون على الرجل ماله فانطلق به آمناً إلى مكة، يردُّه بدوره لأصحابه من قريش ثم يقول لهم: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟
قالوا: لا! فقد وجدناك وفيّاً كريماً.
قال: إذن فأنا تارككم إلى محمد بن عبد اللّه، فوالله ما منعني من البقاء عنده إلاَّ مخافة أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلَّما أدَّاها الله إليكم وفرغتُ منها، فإني ذاهب إلى حيث أرى الحق..
وحمل أبو العاص بن الربيع ما عنده من مال ومتاع، مرتحلاً إلى المدينة، ثم جاءَ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقلبٍ مؤمن، يُعلن إسلامه ويشهد شهادة الحق: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول اللّه»...
ويُسرُّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإسلام الرجل لأنه كان أميناً في تعامله مع الناس، وفياً على عهوده مع الآخرين. والإِسلام يعتزُّ بأناسٍ يحملون مثل صفات هذا الرجل، فيبارك له إسلامه، ويردُّ عليه زوجه زينب، فيأتيها قرير العين وهو يقول لها: «والله يا ابنة عمّ، ما خرجت من أسري عند رسول اللّه إلا وأنا مؤمن بصدق رسالته، حتى إذا أجرتني، علقت بي الندامة حتى كادت تقتلني، ولكن أعانني الله على الصبر حتى عدت سريعاً إليكم، يا من أنتم في الناس أشراف، وفي الحسنَى نبراس، وفي العدل ميزان...».
تلك هي معركة بدر ببعض مقدماتها وأحداثها ونتائجها، وهي تحفل بالصور والمشاهد العديدة المتنوعة ولكن يبقى أهمّها على الإطلاق الإِيمان بالعقيدة، واللحمة، والوحدة بين أبناء هذه العقيدة والعمل بما يرضي الله ورسولَهُ.. فكان مقدراً أن ينصرهم اللَّهُ نصراً مؤزَّراً.
أحوال الناس بعد معركة بدر
لقد كان لمعركة بدر أن تنتج آثارها، وتؤتي مفاعيلها، يوماً بعد يوم، سواء في حياة المسلمين أم في حياة المشركين ولاسيما المنافقين واليهود...
فأما المسلمون، فقد ذاعَ صيت انتصارهم على قريش في أنحاء شبه الجزيرة كلها، وبات العرب يرهبونهم كقوة جديدة تقوم على أساس متين وهو: التفافهم حول نبيِّهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتكاتفهم وتماسكهم كالبنيان المرصوص يشد بعضُه بعضاً، فهم قد حققوا أول انتصار لهم في بدر.. والنصر من شأنه أن يعطي المنتصر دفقاً معنوياً إضافياً، يجعله أكثر تحفُّزاً وتصميماً لتحقيق انتصارات أخرى، فكيف إذا كان هذا الدَّفْقُ مرتكزاً على الإيمان الصادق بنصرة دين الله، وفقاً للقاعدة القرآنية {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محَمَّد: 7]، وأن النصرَ من عند الله يؤتيه من يشاء والله ذوُ الفضل العظيم.
وهذا الوضع الجديد الذي صار المسلمون يعيشونه في المدينة، كان لا بدَّ أن ينعكس على إخوانهم في مكة، مما أدّى إلى انحسار أذى قريش عنهم، بعد هزيمتها، وخوفها من سوء العاقبة الوخيمة على الأسرى، فيما لو استمرت بعنتها تجاه المسلمين..
وفي هذا الفيء من الرحمة والرضوان، بما وفّق فيه المولى تبارك وتعالى المسلمين من انتصار، وبما تحقَّق من نجاح في إقامة المجتمع الإسلامي في المدينة.. رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمارات هامة ومؤثرات لصنع المستقبل الذي ينشده الإنسان، فيما لو استمرت المسيرة الإسلامية بنفس الروح، والإخلاص لله تعالى.. أما على الجانب الآخر، فكان لا بد لذلك النجاح الإسلامي من أن يوغر الصدور، ويجعل الأعداء أشدَّ إصراراً - أكثر من أي وقت مضى - للقضاء على «محمد» ودعوته، من أجل استعادة النفوذ والسلطان اللذين بدأت علامات زوالهما بالظهور.. ولذلك كان الرسول الأعظم لا يني عن تنبيه الصحابة، وتحذيرهم من غفلةٍ قد يستغلُّها الأعداء، أو تقاعسٍ قد يفيدون منه.. وأما المنافقون فقد زعزعت معركة بدر مفاصلهم وجعلتهم في حيرة من أمرهم!.. فقد كانوا يعوّلون على قوة قريش ومراسها في الحرب، فإذا النتائج تأتي على عكس ما كانوا يتوقعون.. وأسوأ ما وصلت إليه حالهم أنهم باتوا مكشوفين للمسلمين بمكرهم ونفاقهم، فلم يعودوا يجرؤون على الجهر بعداوتهم لهم حتى لا يصيبهم ما أصاب قريشاً من القتل والأسر، كما صاروا يخشون من القوى الأخرى المعادية للمسلمين خوفاً من اتهامهم بالذبذبة، وعدم وضوح موقفهم من تلك القوى، وبخاصة إذا كان ذلك النصر الذي حققه «محمد» وأتباعه نصراً مؤقتاً، ولا يلبث أن يزول في معارك أخرى..
إذن ففي جميع الحالات صار المنافقون في ورطة، ولا يدرون ماذا يفعلون.. ولكنَّ أسلَمَ الطرق التي رأوها - في ظنهم - البقاءُ على الحالة الراهنة التي هم عليها، وذلك بعدم إعلان العداوة السافرة للمسلمين، أو الانضمام علناً إلى شياطينهم، إلى حين ينجلي الموقف ويظهر الفريق الذي ستكون له الكلمة الفصل، ليميلوا إلى صفوفه. وبذلك تكون صفقتهم رابحة، لا تحتمل الخسارة أو المجازفة. ومثل هذا النفاق أخبرَ عنه القرآن الكريم بكلمات موجزات معبرات بقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *} [البَقَرَة: 14].
وعلى هذا السلوك المخادع ساروا، يُظهرون إسلاماً مع المسلمين، ويبطنون كفراً مع الكافرين.
لقد خفي موقف هؤلاء المنافقين على المسلمين في أول الأمر، وأتاح لهم الاندساس بينهم والوقوف على أسرارهم. إذ مارسوا لعبةً أمكنهم أن يتقنوا خلالها دور الحذلقة والدهاء، وأن يستعملوا أساليب المكر والخداع والالتواء، فليسوا مع المسلمين ولا مع الأعداء، مذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء.. وحقيقتهم أنهم قومٌ منافقون.. وكفى بهم شرّاً أن يكونوا منافقين!. ولكنَّ النفاق الذي اتخذوه مبدأً، والخداع الذي جعلوه منهجاً، إن خفيَ على أهل الأرض - إلى حين - فإنه لا يخفى على الله سبحانه في أي حين.. فالله (تعالى) يعلم الجهر وما يخفى، ويعلم ما تسرُّ الصدور وما تبطن الأنفس. وهو جلَّ شأنه وعلا، يرقب موقف هؤلاء المنافقين، فأنزل آيات من قرآنه الكريم تتوعدهم بما يستحقون من عذاب شديد، وذلك بقوله العزيز: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا *} [النِّسَاء: 145].
.. فجعَلَ الله (سبحانه وتعالى) عقابهم إليه وحده، ولكنْ أبانَ - جلت عظمته - لرسوله الكريم ما يدور حوله من نفاق أهلِ البادية مثل قبائل أسلم وأشجع وغفار، وما يحيط به من منافقين في المدينة، محذِّراً إيّاه من أولئك الأعراب المارقين، ومن أهل المدينة الذين لجّوا في النفاق، وذلك بقوله تعالى: {وَمِمَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ *} [التّوبَة: 101].. عذابٍ في المرة الأولى على كفرهم، وعذابٍ في المرة الثانية على نفاقهم أو «عذاب بالفضيحة أو القتل في الدنيا، وعذاب القبر»[*]، ثم سيكون لهم العذاب العظيم الأبدي في النار... فسبحان الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فلا يغيب عنه مثقال ذرة من أفعال عباده الصالحة منها، أو الخادعة، ولكل عمل جزاؤه: الخير بالخير، والشر بالشرّ، وما للإِنسان إلاَّ ما صنعت يداه..
ومَثَلُ اليهود كمثل المنافقين، فهم أساطينُ في المكر والدهاء، وفي الكيد والتآمر.. لأنهم مناكيد بالطبع، وكثيراً ما يقدمون على فعالهم بتحدٍّ وجرأة، غير عابئين بأية أصول تمتّ إلى الاخلاق الرفيعة بصلة.. فقد حاولوا منذ قدوم النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة، أن يمارسوا عليه وعلى أصحابه ضغوطاً خفيّة حتى لا يقووا، وينتزعوا منهم مكانتهم، التي وصلوا إليها، بعدما أصابوا العَربَ بالدسِّ والتفرقة.. فلمَّا لم ينجحوا في أساليبهم الضاغطة، ولم يفلحوا في طرقهم الملتوية، اضطروا لإِقامة العهود مع محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صاغرين، وإلى عقد المواثيق معه مكرهين. وكانت خطتهم الترقب والانتظار إلى أن يحين الوقت الذي ينقضُّون فيه على الإِسلام والمسلمين بضربة ساحقة. ولكنَّ معركة بدر قد جاءت لتقلب الموازين ولتغيِّر التقديرات، فالأمور قد اختلفت كليّاً، والأوضاع جميعاً قد تبدَّلت. فكلمة الإسلام قد علت، وصار للمؤمنين قوة تُرهب وسلطان يعلو.. وما دام الأمر كذلك، فما يمنع أن يطغى هذا السلطان على كيانهم اليهودي، وتقضي تلك القوة على وجودهم بأسره؟!
هكذا كانوا يفكرون... ولذا قرروا عدم البقاء ساكنين، بانتظار مصيبة قد تحلُّ بهم. بل وحتى يتداركوا أي خطر محتمل من قبل «محمد» وأتباعه، اندفع أحبارهم ورؤساؤهم يجاهرونه بالبغضاء، ويرمونه بالافتراء، على النقيضِ تماماً، ممّا كان يُؤمل منهم انصياعاً للحق، وإذعاناً لربهم الكريم الذي فضّلهم بإنزال التوراة عليهم، وكان يفترض فيهم الاحتكام إليه ولكن على العكس من ذلك راحوا يؤلِّبون أبناء قومهم على المسلمين، ويدعونهم إلى الجهر بكراهيتهم لهم وإعلانها سافرةً وقحة.. ونتيجة لذلك التحرُّك، بدأت العداوة تستحكم بين المسلمين واليهود رويداً رويداً، والعلاقات تتدهور شيئاً فشيئاً، حتى ظهر جليّاً أن اليهود يُعدّون لمؤامرة كبيرة على الرسول الكريم وعلى المسلمين أجمعين.
سفارة كعب بن الأشرف إلى قريش
وظهرت بوادِرُ تلك المؤامرة عندما أوفدوا أحد زعمائهم كعب بن الأشرف مع جماعة منهم إلى مكة، وأوكلوا إليه أمرَ الاتصال بقريش، والتنسيق معها في الإِعداد لمقاتلة المسلمين.
أما اختيارهم كعباً بالذات، فأسبابه عديدة ومنها: ما كان له من مكانة مرموقة عند اليهود، وبخاصة عند بني النضير بانتمائه إليهم من أُمِّه، وإن كان أبوه من طيء، ولما له من مال جعَله يبتني حصناً كبيراً ويقيم فيه جنوب يثرب، خلف ديار بني النضير. والأهم من ذلك كله موقفه العدائي من محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه، منذ قدومهم المدينة، فلم يترك باباً من أبواب الإيقاع بهم إلاَّ وحاول ولوجَهُ، ولا ناحية من النواحي التي تؤذيهم إلاّ وسعى إليها. وقد أجفَل من المهادنة التي أقامها أبناء قومه مع محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يوافقهم على الدخول معه في أي من العهود، ولم يعترف بأيٍّ من المواثيق التي عقدوها معه.. حتى إذا بلغَه نبأ هزيمة قريش في بدر، قام ينوحُ، ويصرخُ في مَن حوله: ويلكم! أحقٌّ هذا الذي تقولون؟! أترون «محمداً» قتل هؤلاء، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان «محمد» أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها[*].
وذهب كعب بن الأشرف إلى مكة يحرض قريشاً على القتال، متباكياً على أصحاب القليب، نادباً مصارع الأشراف، مستعيناً بقصيدة شعر يقرضها ويستثير أدْمُع الناس، وذاك قوله في مطلعها:
طَحَنَتْ رحى بدْرٍ لمَهْلك أهلِهِ
ولِمِثْل بدرٍ تَستهِلُّ وتَدْمَعُ[*]
قُتِلتْ سَرَاةُ الناسِ حولَ حياضِهمْ
لا تبعدوا إنّ الملوكَ تصرَّعُ
وكانت قريش تجتمع من حوله، وتستمع إلى رثاء قتلاها، فيهيج بها الوجدُ على فراق الأحبّة، وتتأجج في أحشائها النيران حقداً على «محمد» (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى المسلمين، ولا تجدُ شفاء لما في صدورها إلاّ بالثأر منهم..
.. عجيب أمر قريشٍ، إنها عربية المحتد والشأن، فكيف تأمن ليهودي جاءَ يتلاعب بعواطفها، ويتقاذف مشاعرها بأساليبه المضلِّلة، حتى أمست مجالسها في مكة لا تنعقد إذا لم يحضرها ابن الأشرف، ويكون هو صاحب الرأي والمشورة فيها؟! ولعلَّ ما أبداه أبو سفيان بن حرب - وقد صارَ رجل قريش الأول بعد بدر - أشدَّ ما يعبر عن انصياع بني قومه للداهية اليهودي المارق، عندما سأله بذلٍّ وهوان: «أناشدك يا كعب، أدينُنا أحب إليك أم دينُ محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى برأيك إلى الصواب؟!».
ويجيب اللعين ابن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلاً، ودينكم خيرٌ من دينه..
ويتنزَّلُ الذكرُ المبين، ليظهر مدى تشبث إبليسَ برأس هذا اليهودي الكافر - المدعو ابن الأشرف - ومقدار عبادته للجبت والطاغوت بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا *} [النِّسَاء: 51-52].
أية زندقة هذه؟
وأي مارقٍ مُدَّعٍ مخادعٍ هذا الذي يُدعى كعب بن الأشرف؟
أوَ ليس هو يهودياً، ويعتنق ديناً سماوياً، فكيف يُبيح لنفسه أن يفضل الوثنية على دين أنزله الله (تعالى)، وأن يجعل الشرك في موضع الحق، بل وبديلاً عن الحق نفسه؟
ولئن كانت غايةُ هذا الشيطان، من شياطين الإِنس، إغواءَ قريش، وتأليبَها على الإسلام - وهي التي ما كانت تنقصها عداوة للإسلام - فأية غاية دنيئة تنحدر بإنسانٍ - مثله - وتجعله يتنكّر للإِيمان باللَّهِ (تعالى) ويقف في صفِّ الكفر والكافرين؟!..
زنديقٌ وكافرٌ - حقّاً - أنتَ يا ابن الأشرف، ولمثلك تكون الغايات الدنيئة، والصفات الذميمة.. أتجعل هبل، وإساف ونائلة، والجبت والطاغوتَ ذواتَ دينٍ خيرٍ من دين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟!.. عارٌ عليك صنيعك ما طلعتْ على الأرض شمسٌ، وزان سماءَها نجم!..
لا واللَّهِ ما أنت وتلك الأصنام والأوثان وجميع المشركين على شاكلتك، إلا حطب جهنم! ويكفيك ذلاًّ وهواناً مما أنزله ربّ العرش العظيم، وتظلُّ اللعنةُ عليك وعلى أمثالك باقيةً، إلى يوم الدين..
... وأوفى كعبُ ابن الأشرف بعهد الكُفر عند قريش، فعادَ إلى المدينة، وقد أُترعت نفسُه بنشوة الضلال، ومتعة السفاهة، فراح يسكبها في أقوال شعر ينالُ بها أعراض المسلمين، لا سيما وهو يشبِّب بنسائهم الكريمات، ويطالهنَّ بسوء القول، ورذيلة اللسان.. حتى آلمَ المسلمين، وضاقت به صدورهم، بل وتمادى في غيّه، فراح يحرِّض بني النضير - أخواله من اليهود - على نقض عهدهم مع محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . والغريب في أمره أنَّه كان يفعل ما يفعل، ويقول ما يقول، وهو بلا عشيرة تحميه، أو قبيل يمنعه...
إذنْ، فقد طَفح الكيلُ شراً بابن الأشرف، وصار لا بد من القضاء عليه.. إنه لم يَعُدْ مصدر ضرر للمسلمين، وخطرٍ على دينهم وحسب، بل وأصبح حجرَ عثرةٍ في طريق الدين الذي يعتنقون، وإنْ تركوه يشبّب بنسائهم الكريمات فلأنفسهم يسيئون.
حينها أمر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإهدار دمه، فأبدى محمد بن مسلمة - [*] من الأنصار - استعداداً كاملاً لهذا الأمر، وهو يقول: أنا له يا رسولَ الله، أقتلُهُ ابتغاءَ مرضاة الله ورسوله، ولكن لا بدَّ من رفقة لي في هذه المهمة، وأن يأذن لنا رسول اللّه أن نتقوّل شيئاً. (وهو يقصد أن يقولوا سوءاً بحق المسلمين إيهاماً للرجل) فأجازه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن يقولوا، وهم في حلٍّ منه..
ودعا محمد بن مسلمة إليه عباد بن بشر، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبا عبس بن جبر، وأبا نائلة سِلكان بن سلامة، وأخبرهم بما ندبَ إليه رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فطابوا نفساً للخلاص من حقودٍ لئيمٍ، وأوفدوا إليه أبا نائلة يستدرجه، لأنه كان أخاً له في الرضاعة..
وجلس أبو نائلة يستفيض معه في أحاديث شتّى، وهو يلمّح بين الحين والآخر أن لديه أمراً هامّاً يكتمه في نفسه، ولا يجرؤ على البوح به لأحد.. وهذا ما جعل كعباً يبدي اهتمامه، ويحلف بالكتمان عما يدور بينهما.. فلما أَنِسَ أبو نائلة من إيهام الرجل، قال له: ويحك يا ابن الأشرف! «أتدري بأن قدوم هذا الرجل علينا كان بلاءً من البلاء، عادتنا به العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعتْ عنا السُّبُلَ حتى ضاع العِيالُ، وجُهِدت الأنفس، وأصبحنا وقد جُهدنا وجُهد عيالُنا»[*].
ولم يصدِّق ابن الأشرف ما يسمع، ولكن أخذتْهُ الغفلة القاتلة، فقال: أما والله لقد قلت في الرجل، وأخبرت أنَّ الأمر سيصير إلى ما أقول..
فقال أبو نائلة: إنَّ معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك ونوثق لك في الرهن!..
قال ابن الأشرف: «أترهنوني أبناءكم؟».
قال أبو نائلة: «لقد أردت أن تفضحنا، قلتُ لك: تبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة[*] ما فيه وفاء»[*].
وكأنَّما اشتمَّ ابن الأشرف رائحة الدم في قول صاحبه، وعلَّل النفس بأن يكون دم «محمد»، فقال له يريد أن يطمئن: «وهلاَّ أخبرتني عن غرضكم؟».
قال أبو نائلة: أقول بأننا عصبة لا نريد إلاَّ أن نرهنك من السلاح ما فيه وفاء لأثمان الطعام الذي تبيعنا».
وأُدخِلَ في روع ابن الأشرف، أن المؤامرة التي يتمناها واقعة لا محالة، وأن هذه الزمرة ما جاءت بحجة الرهن إلاَّ لتخبِّئ السلاح عنده بعيداً عن أنظار المسلمين، فقال: حبَّذا، حبَّذا.. تعالوا إليَّ ساعة تشاؤون، وهاتوا سلاحكم فهو عهد لكم بذمتي.
وأتم أبو نائلة سلكان بن سلامة دوره بإتقان. فلما أرخى الليلُ سدوله ذهبوا إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعلمونه بما دبَّروه، فخرج معهم، وكانت الليلة قمراءَ، حتى بلغوا بقيع الغَرْقد، فتوقف يوجّههم ويدعو لهم: «انطلقوا على اسم الله، الَّلهم أَعِنْهم»[*]..
وكَمَنَ هذا النفرُ القليلُ من المسلمين على مقربة من حصن كعب بن الأشرف، ما عدا سلكان، فإنه ذهب يطرق بابه، فهبَّ من جانب عروسه - وكان حديث العهد بزواجه - فأمسكت به تحاول أن تثنيَهُ عن الخروج في مثل هذه الساعة، لأنه امرؤ حرب، إلاَّ أنه لم يصغ لتحذيرها، فنزل يلتقي سلكان وصحبه، ثم ساروا إلى شِعْب العَجُوز بظاهر المدينة[*]، حتى يكونوا بمنأى عن الأعين، فكانوا، طوال الطريق، يطرونه بالمديح ليطمئنّ إليهم، إلى أن حانت ساعته، فشدَّه أبو نائلة إليه شدَّة عنيفة وهو يحرّض أصحابه بقوله: اضربوا عدوَّ الله... فاختلفت عليه السيوف، تثخنه بالجراح، فأهوى إلى الأرض صريعاً، يتخبَّط بدمه.. إلى جهنَّم وبئسَ المصير.
وعاد أولئك النفرُ المؤمنون يخبرون رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنجاح المهمة، وقتل كعب بن الأشرف، فدعا لهم بالخير، وبذلك حقق الله (تعالى) على أيديهم اجتثاث أحد رؤوس الكفر.. وظلَّت جثة ابن الأشرف مطروحةً في الفلاة، حتى بعثت عروسه في الصباح من يبحث عنه، فجاؤوها بجسده مضرَّجاً بدمه.
وتطايَر خبرُ مقتل ابن الأشرف في أنحاء المدينة ومن حواليها، فجاء أحبار اليهود إلى «محمد» يحتجُّون ويشتكون، فلم يحفل النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهم، لأنَّ ما حَصلَ للرجل ما كان ليحصل لو لم تكن كل مواقفه عداءً، وخطراً على دين الله تعالى.. فلقد نالَ من المسلمين بالأذى، وهجاهم بالشعر، وشبَّب بأعراض نسائهم، ناهيك عن ذهابه إلى قريش يؤلِّبها ويحرِّضها، حتى صار كالعضو الفاسد في الجسم السليم وليس له دواء إلاَّ البتر. وها هو قد بُتِرَ، فلقي ما كان يجب أن يلقاه، جزاء على فعاله المضلِّلة، وأقواله الشنيعة....
نقض اليهود للمواثيق
وبات اليهودُ، جميعاً، في كمدٍ وغمّ كبيرين.. ولكن سرعان ما راحوا يعملون بتعاليم أحبارِهم وذلك بافتعال المشاكل، والاعتداء السافر على المسلمين، فانبرى بنو قَيْنُقاع - بخاصة - يتحرَّشون بالشتيمة والسباب لأي مسلم يلقونه،.. يُساعدهم على ذلك سُكناهم في وسط المدينة (في حين كان بنو النضير وبنو قريظة يقيمون في رياض المدينة وأطرافها) وما كانوا عليه من خشونةِ الطباع، وحدَّة المشاكسة. فكان اختلاطهم بالمسلمين، والاتصال اليومي معهم، عاملاً مباشراً للاحتكاك بالمسلمين وإثارة الفتنة فيما بينهم. ولم تقف فعال الأحبار من بني قينقاع عند حدود المناوأة، بل كانوا يُغرون شعراء اليهود بالمال للاستهزاء بالمسلمين، والتعرّض لكراماتهم، وتقليلِ شأن انتصارهم في بدر. حتى وصل هجاؤهم إلى رسول اللّه نفسه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يطاله بالكلام القارص، والقول الساخر.. ولعلَّ ما حصل في سوق بني قينقاع ينبئ عن السفاهة والوقاحة التي وصلوا إليها، إذ بينما كانت إحدى نساء المسلمين تعرض حليّها على صائغ في تلك السوق، اقترب خلسةً من خلفها أحد اليهود، وأثبت طرف ثوبها بشوكةٍ إلى ظهرها، دون أن تشعر به، حتى إذا قامت، انكشفت سَوْءَتِها، فراحت تولول، وتصرخ، وبنو قينقاع من حولها يسخرون ويضحكون.. وصادف مرور رجل من المسلمين، في تلك المحلة، فرأى استهتار اليهود بأختِهِ في الدين، فوثب على اليهودي السافل فقتله، فانقض عليه اليهود، فقتلوه.
وزاد في شناعة أفعال اليهود أنَّ بني قينقاع، كانوا قد أقدموا على نقض عهودهم والمواثيق التي التزموا بها مع النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مما يشكل خيانةً سافرة، يُذمُّ أهلها، ويُلعن فاعلوها.. فعزم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على تأديب هؤلاء الخائنين، حتى لا يبقوا يعبثون بقيَم المجتمع الذي يبني، ويقفون عثرة في وجه الدين الذي ينشر. ثم نزل حكم الله (تعالى) بتوجيه نبيّه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى السبيل الذي ينبغي أن يتخذه للتعامل مع الخائنين وذلك بقوله جلَّ وعلا: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ *} [الأنفَال: 58].
وأراد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يلقي الحجة على بني اليهود، فدعا إليه أحبارَهم وزعماءهم، يحذِّرهم عاقبة البغي ونكث العهد، وسوء التصرف، فقال لهم: «يا معشر يهود! احذروا من الله مثلَ ما نزل بقريش من النقمة، وأسْلِموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مرسلٌ، تجدون ذلك في كتابكم وعهدِ الله إليكم»[*].
إجلاء بني قينقاع
لقد كان خطابُ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واضحاً عندما أرادَ أن يردَّهم إلى حكم كتابهم الذي يثبتُ بأنه نبيٌّ مرسلٌ، وأنَّ ما يدعوهم إليه إنما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة.. ولكنَّهم قومٌ أبعد ما يكونون عن الدين، فقد وضعوا كتابهم وراء ظهورهم، وشروا الحياة الدنيا بالآخرة.. وها هم يجيبون رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وهو يهديهم - بما ينضَحُ بسوءِ نواياهم، وإدلائهم بالقوة والصلافة، قائلين:
»يا محمد، إنك ترى أنّا قومُك!.لا يَغرَّنَّك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتَلْتَنا لعرفت أنّا نحن الناس، وأنَّك لم تَلقَ مثلنا.. فأنزل الله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} [آل عمران: 12 و13].
فماذا بعدُ أمام محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين؟
فهؤلاء بنو قينقاع قد كشفوا عن حقيقتهم، وأظهروا تمرّداً دونه التهديد بالحرب. مما يستدعي - وقد باتَ الأمر واضحاً - اتخاذ الموقف الحاسم منهم... فأمَرَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بضرب الحصار عليهم في دورهم، بحيث لا يَدعون أحداً يدخلُ عليهم أو يخرج من عندهم. وظنَّ بنو قينقاع أن أبناءَ قومهم من يهود بني النضير، وبني قريظة، سوف لا يلبثون أن يأتوا مدافعين عنهم، ذابِّين المسلمين من حولهم. ولكنه ظنٌّ بقي في إطاره الوهمي. فهذا الحصار يدوم، ويمضي عليه خمسة عشر يوماً، ولا أحد يتقدم لنجدة بني قينقاع، أو تقديم أي معونة لهم، حتى ضاق بهم الحال، ولم يبق لهم إلاَّ النزول على حكم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتسليم له. ودعا الرسول الأعظم كبار المسلمين يستشيرهم في أمر تلك الفئة من اليهود، فأقرُّوا قتلهم جميعاً، حتى يُقضى على أسباب التمرُّد والعصيان، ويُقطعَ الطريقُ على أية فئة باغية تناصب المسلمين العداوةَ..
وتحرك زعماءُ اليهود باتجاه حليفهم عبد اللّه بن أبيّ بن أبي سلول، يرجونه التدخُّلَ لدى «محمد» كي يعفوَ عن بني قينقاع، فأتى النبيَّ يقول له: «يا محمد! أحسِنْ في مواليَّ».
وأعرض الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الرجل حتى يذهب عنه، ولكنَّ ابن سلول أبى إلاَّ أنْ يمضي في إلحاحه ولَجاجته حتى أهَاجَ غضبَه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولكنها هنيهةٌ، وزالَ عنه الغضبُ، إذ أرادَ أن يعطي ابن أبيٍّ، ويعطي الناسَ من بعده، درساً في التسامح وغفران الإِساءة، وأن يُسديَ هذا الصنيعَ الجميل إلى الرجل، وإلى أطفال بني يهود، إذ لعلَّ في ما يحسن به إليهم، ما قد يُفيدهم في مقبل أيامهم، فيعرفوا أن ما يُقَرِّرهُ محمد بن عبد اللّه، لا يكون إلاَّ في سبيل الله تعالى، ومن أجل خير الإِنسان، فهو لا يغضب إلاَّ للَّهِ، ولا يرضى إلاَّ لما فيه رضاء الله... وبمثل هذا التفكير السامي، قبل الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما عرَضَه عليه عبد اللّه بن أبي، من إحسانٍ لبني قينقاع، والعفو عنهم.. ولكنه شرط عليه أن يجلوَ هؤلاء الخائنون، المستكبرون عن المدينة من فورهم، ومن بقيَ منهم يكون مصيره القتل.
وطمع عبد اللّه بن أبيّ في كرم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتسامحه، فأخذ يلحُّ عليه، من جديد، بالرجوع عن قراره، والسماح لبني قينقاع البقاء في المدينة، مما جعلَهُ يتضايق منه، ويظهر ذلك على وجهه الشريف، فقام أحد المسلمين يريد إبعاده فوجدها الخبيث سانحةً ليثير الشجار معه، إلاَّ أنَّهُ لم يمكِّنه من ذلك، إذ اضْطُرَّ لأن يضربه، فيشجّه، وينتهي به الأمرُ جريحاً في ديار بني قينقاع. فلما رأوه على تلك الحالة، والدم يسيل من رأسه، أجمعوا قائلين: «لا، لم يعد لنا مقامٌ في بلد يشجُّ فيه ابن أبيٍّ، ولا نستطيع عنه دفاعاً»..
وأذعن بنو قينقاع لأمر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فتركوا المدينة في منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة، وهم يخلون وراءهم السلاح والمالَ والذهب والأدوات التي كانوا يستعملونها في صياغته.
وكانت مغادرتهم وفي نفوسهم حسرة على الديار التي عاشوا فيها نعيماً أزالوه بأيديهم، فساروا مكظومين، مهزومين حتى بلغوا وادي القرى، فأقاموا هناك زمناً، ثم احتملوا القليل مما معهم، وساروا صَوْب الشمال حتى استقرَّ بهم المقام في أذرعات على حدود الشام..
وبترحيل بني قينقاع عن المدينة، استكان نفاقُ بني يهود، فصاروا لا يجرؤون على المجاهرة بعداوة المسلمين أو الإِساءة إليهم، وإن ظلوا في قلوبهم يحملون اللؤم والغدر، ويمنّون النفوسَ بالنيل منهم، عندما تؤاتيهم الظروف لذلك!..
تلك كانت الأوضاع التي أعقبت معركة بدر في المدينة: انهزام لليهود والمنافقين، وانتصار جديد للمسلمين.
أحوال المشركين في مكة
ولم تكن الأحوال عند قريش بأفضل، فما إن انتهت معركة بدرٍ عن تلك الهزيمة الساحقة - على الرغم ممّا كان عليه المشركون من كثرة العدد، ووفرة السلاح - حتى كان الحَيْسُمان بن عبد اللّه الخزاعي، قد أسرع إلى مكة يُخبر عما حلَّ بجيش قريش.. فظنَّ المشركون أنه يهذي، وقد أصيبَ في عقله، فقال صفوان بن أمية لأصحابه، وهو جالس في حِجْر الكعبة:
ـ إن يعقلْ هذا الرجل فسلوه عنِّي!..
قيل له: ما فعل صفوان بن أمية؟
قال الخزاعي: ها هوذا جالس أمامكم في حجر الكعبة، وقد والله رأيتُ أباه وأخاه حين قتلا.
وصُعِقَ صفوانُ لما يسمع، وسحقه الخبر، فانهار مُغمىً عليه.
وتأكَّدَ لقريش نبأ الهزيمة، فذهلت.. بل وتمنَّى رؤوس الشرك في مكة، لو تبتلعهم الأرضُ ولا تسمع آذانُهم ما يقوله رجلٌ «حقيرٌ» مثل هذا الخزاعي، وهو يأتي ناعياً إليها تلك النكبة العظيمة، وناشراً الشؤم فوق ربوعها. إلاَّ أنه الواقع الأليم، الذي يجبهها بحقيقته المرّة، فقامت تندبُ حظها التعيس، وسوء قدرها اللعين، حتى أن بعض المشركين لم يحتمل هَوْلَ الكارثة، فمات كمداً، كما حلَّ بعدوّ الإِسلام اللدود، أبي لهب، إذ لم يُطِقْ أن يَسمَعَ بأن قريشاً قد هَوَتْ مثخنة بالجراح، فكان النبأ كصاعقة نزلَت به، فمرض من توِّهِ، وعُلَّ سبعة أيام، يتقلَّبُ فيها على فراش يحسّهُ نيراناً تتأجَّجُ من تحته، ولهيباً يُحرقه، حتى أكَلَ اللهبُ قلبَهُ وأحشاءه ففارق الدنيا لعيناً ملعوناً، ليلقاه سعيرُ الآخرة مذموماً مدحوراً..
وروى أبو رافع، مولى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خبر موت أبي لهب، فقال: «كنت غلاماً للعباس، ابن عبد المطلب. وكان الإِسلامُ قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباسُ، وأسلمتْ أم الفضل، وأسلمتُ أنا. وكان العباس يهابُ قومَهُ ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه. وكان ذا مال كثيرٍ متفرّقٍ في قومه. وكان أبو لهب قد تخلَّف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدرٍ من قريش كَبَتَهُ الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعِزّاً. وكنت أنحتُ الأقداح (سهام الأقداح) تحت ضغط المشركين عليَّ لأنني كنت رجلاً ضعيفاً، فوالله إني لجالس في حجرة زمزم، حيث كنت أقوم بعملي، وعندي أم الفضل (زوج العباس) وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه جرّاً حتى جلس على طُنُب الحجرة[*]، فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان، المغير بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فدعاه إليه أبو لهب وقال له: هلمَّ إليَّ، فعندك لعمري الخبر. قال: فجلس إليه والناس قيام عليه. فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيمُ الله مع ذلك ما لُمتُ الناس. لقينا رجالاً بيضاً على خَيْل بُلْقٍ (ما يجتمع فيها البياض والسواد) بين السماء والأرض، والله ما تُليق شيئاً (أي ما تبقي) ولا يقوم لها شيء.. يقول أبو رافع: فرفعت طُنُب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة. قال أبو رافع: وثاوَرْته (وثبت إليه) فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك عليَّ يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلعت (شقت) في رأسه شجَّةً منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده؟ فقام موليّاً ذليلاً. فوالله ما عاش إلاَّ سبع ليال حتى رماه الله تعالى بالعَدسَة[*]، فقتله.
وتأكَّدت أخبار بدر، فقامت المنادِبُ في قريش، تبكي على القتلى، وتنوح على الأبطال!..
وتوشَّحت منازلُ مكة بالرايات السود، وخلت جنباتها من الضحكات - إلاَّ تلك الابتسامات الساخرة التي امتلأت بها أشداق آلهتها وهي تسخرُ من هؤلاء القوم الذين آمنوا بها واتخذوها معبودات - ولو قدِّر لأحد أن يرى إبليسَ في تلك الساعة، لسمعه يقول: فقد آن الأوان لتزيل هذه الآلهة عن سحنتها مظاهر الوقار التي تحفُّها بها قريش، وأن تستهزئ بجهالة هؤلاء القوم وصغر أحلامهم.. فها هي ذي آلهتهم ترى في مناحات قريش، وفي عويل نسائها، وبكاء أطفالها، ما يشفي غليلَها مما نصَّبوها له، وأقاموها عليه.. وهذه هي الشماتةُ بعينها من إبليس، إلاَّ أنه أحالها على تلك الآلهة، التي هي - على كل حال - أنصابٌ من عمله، ولكنه أغرى بها الجهلاء ليعبدوها، فحق له أن يسخر من قريش وجهالتها! وأن يزيِّنَ لها أعمالها بجهالة أعتى!. ولذلك فإنه لما طافت المنادبُ على البيوت وفي الأزقة، جعل تلك الآلهة المزعومة - وفي جوف كل منها عشٌّ للشيطان الرجيم - توحي للندّابين: أن اهدأوا. هل نسيتم أن أعداءكم المسلمين سوف يعلمون بأحزانكم، وشتات أنفسكم، وأنَّ ذلك سوف يجعلهم يشمتون بكم ويفرحون بمصيبتكم؟!.. يكفيكم شهر من النواح على قتلاكم، فاسكنوا الآن، واعملوا من أجل الثأر!!...
وهكذا أمكن لإبليس أن يفعل فعله في أتباعه من قريش، فزيّن لهم حبَّ الانتقام، مما دسّ في نفوسهم من الأحزان والآلام.. ولو كان دهاقنة قريش يعقلون، لندبوا أنفسهم إلى حسن التفكير، وتداركوا الأسباب التي تكمن وراء المصائب التي تحلُّ بهم.. ولكنهم ويا للأسف، انقادوا للشيطان الذي ما أراد إلاَّ الانتقام لهزيمته - هو - في بدرٍ، فراح يطوف في نفوس المشركين، ويغرّهم بالبأساء والشدة حتى أفلح.. فهمدت حينئذٍ الأحزانُ في مكة، لتنساب آلاماً في الأحشاء على صرعى بدر، وتتغلغل حقداً في القلوب، وغيظاً في الأفئدة على «محمد» ، لأنه هو أصل البلاء، ومسبب الفواجع التي حلَّت بهم - كما يتوهمون. وتحولت النكبة إلى مقولة يردّدونها: أن لا طيب للحياة بعد اليوم إلاَّ بالانتقام من هذا الرجل، وإرواء الغليل منه. ولذلك قرروا إيقاف كل مظاهر للأسى، وقالوا: «لا تفعلوا فيبلغ «محمداً» وأصحابه فيشمتوا بكم«.
وكانتْ نساءُ قريش أكثر من رجالها حقداً على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم). إذ جززن شعورهن، وخاصمن أزواجهنَّ، وأقسَمْنَ ألاَّ يلتفِتْنَ إلى الأزواج والأبناء حتى يأخذوا لهنَّ بالثأر.. ومشى رجالُ قريش على وتيرة نسائهن، فَغَدَوا شُعثاً غُبْراً، يسود أيامَهم الوجومُ والصمت، ويخيمُ على لياليهم القلق والتعاسة.. فأقفلوا أبواب الفرح والبهجة، وسدّوا منافذ اللذة والمتعة، وراحوا يستعدون شيوخاً وفتياناً، ورجالاً ونساءً للقاء «محمد» وأصحابه.. وتزعمت هند بنت عتبة هذه الحركة الثأرية، فهجرت مضجع زوجها أبي سفيان بن حرب، وحرَّمت على نفسها الطيب، حتى يأتي اليوم الذي تثأرُ فيه من «محمد» لأبيها وأخيها وعمِّها.. وفعلت نسوة قريش مثلما فعلت هند بنت عتبة، وحذون حذوها في كل شيء.. حتى يوم الانتقام!!..
أما أبو سفيان - زوج هند - فلم يجدْ ما يواسيها به إلاَّ أن يُقسم بألا يمسَّ زوجه، أو أية امرأة أخرى، قبل أن ينتقم لقريش، ويعيد لها مكانتها بين العرب، فترضى عنه هند، وترتاح من آلامها!..
غـزوة السويـق
وندبَ أبو سفيان بن حرب نفسه لزعامة قريش، فراح يشرف على استعدادها للقتال. فلما دَخلَ شهرُ ذي الحجة، ولم يكن قد انقضى على معركة بدر أكثر من شهرين ونصف، رأى أن يخرج متقصِّياً أخبار «محمد» وأصحابه، فركب في مئتين من رجال قريش، وانطلقوا صوب المدينة، متخفِّين في النهار، جادِّين المسيرَ في الليل، حتى بلغوا أطرافها، وباتوا على مقربة من منازل بني النضير، فطلب من ركبه الاختفاء وراء كثيب رملي، ثم قصد مع نفر من رجاله دارَ حييّ بن أخطب يطرق بابَهُ، فأبى أن يستقبله، بل وطرده ورجاله.. فذهبوا إلى سلام بن مشكم فلاقاهم بالترحاب، وأدخلهم على الرحب والسعة، يقدم لهم الطعام والشراب، ويبالغ في إكرامهم لما سرَّه من رؤيتهم.. وهو لا ينفك عن الحديث عما يفعل «محمد»، وما صار له من عزٍّ ومجدٍ يجب العمل على إزالتهما!.. وطال السَّهَرُ حتى أدركَهُمُ السَّحَرُ، فعادوا إلى الركب، وانطلقوا إلى أن بلغوا ناحية يقال لها العريض - على بعد ثلاثة أميال من المدينة - فوجدوا رجلاً من الأنصار، وحليفاً له، في حرث لهما، فقتلوهما، ثمَّ ولّوْا مسرعين قبل أن يبلُغ خبرُهم «محمداً».. وإذْ فعَل ابن حرب فعلته تلك، فقد اعتقد أن يمينه قد حلّت، وفي ذلك حافزٌ آخر للوصول إلى مكة، والالتقاء بزوجه هند!..
وتناهى خبرُ مقتل المسلميْن على يد جماعةٍ من المشركين إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فخرج في مِئتين من المهاجرين والأنصار، في طلب المجرمين..
وكان ابن حرب يحثُّ رجاله طوال الوقت على الإسراع، والابتعاد عن مكان جريمتهم، فلما رأى بعض التباطؤ منهم صَاحَ بهم محذراً:
ـ ويحكم يا رجال، أو تظنون أنّ «محمداً» قد يتقاعس عن اللَّحاق بكم؟!. هيَّا وانفضوا عنكم التعبَ، وتخلَّصوا مما يعوقكم، وارموا ما يُثقل سيركم، حتى يمكنكم النجاة بأنفسكم.
وارتعدت فرائص رجال ابن حرب خوفاً مما يسمعون، فراحوا يلقون أَجْرِبَة الزَّاد التي يحملون، ويغذّون السيرَ فراراً بجلودهم من القتل أو الأسر الذي قد يصيبهم. وهذا ما عوَّق المسلمين عن اللحاق بهم، إذ كانوا في الطريق يعثرون على أجرِبتهم، فيتوقفون لأخذها، ويضيع الوقت دون إدراكهم. فلما رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تأخره عن المجرمين، أمَرَ أصحابه بالعودة إلى المدينة، وكان قد تركها منذ خمسة أيام، بعد أن استعمل عليها أبا لبابة بشير بن عبد المنذر. ولكثرة ما أصاب المسلمون من الزاد، ولا سيما منه السويق، سميت تلك الغزوة بغزوة السويق..
ولئن أمكن لجماعة أبي سفيان أن تغدر برجلين من المسلمين، إلا أن رجوعها إلى مكة على ذاك النحو من الفرار، قد جعلها في موقعٍ شبيهٍ بالهزيمة، فدخلت مكة تتستر وتخفي أخبار ما فعلته، حتى تحفظَ ماء وجهِهَا..
وشعَرَ أبو سفيان بأنَّه أشدُّ الهاربين هزيمةً، بعدما ظهر أمام عيون أصحابه بذلك المظهر من الخوف والجبن. ولكي يغطي فشله فقد ضاعف من اهتمامه على تحريض قريش، والاستعداد لغزوٍ لم تشهد العرب مثيلاً له في حياتها!..
سريـة القَـرْدَة
وكان الهمُّ الأكبرُ لقريش، إلى جانب استعدادها للقتال والحرب، تأمين تجارتها وعدم توقف رحلاتها لأجل ألاَّ تفقد أهم العناصر التي تستقوي بها، وهي القوة الاقتصادية. ولكن ها هي طرق قوافلها أصبحت محفوفة بالمخاطر، وعيون المسلمين ترصدها، وسراياهم لا تنقطع عن استكشافها ومراقبتها، فماذا عليها أن تفعل؟.
إزاء هذا الواقع، ولما كانت حماية الأموال ضرورة ملحّة، فقد رأت قريش أنَّها أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما المجازفة وسلوك الطرق العادية المألوفة للقوافل، وفي ذلك ما فيه من خطر استلاب المسلمين لأموالها فتنقطع موارد عيشها.. وإما سلوك طرق جديدة، وهذه ليست مأمونة المخاطر كذلك، بسبب ما فيها من مشقة، ومظنَّة التأخير والهلاك في متاهات الصحراء ونجودها المترامية.. ومع ذلك فقد اعتمدت قريش السبيل الثاني فسيرت قافلة على سبيل التجربة، ولكنَّها لاقت الصعوبات والخسارة بما جعلها تقرب نتيجةً من تعرُّض المسلمين لأموالها..
وجهد القرشيون في التفكير لإيجاد مخرج جديد، إلاَّ أنهم وصلوا إلى النتيجة الحاسمة وهي أن جميع المسالك قد سدَّت في وجه تجارتهم، فقال عندها صفوان بن أميّة: «إنَّ محمداً وأصحابه قد عوَّروا علينا تجارتنا، فما ندري كيف نصنع بهم وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوه ودخل عامَّتُهم معه، فإن نحن أقمنا في ديارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء»!
واتفقوا على أن يسير صفوان نفسه بتجارة جديدة، وذلك خير من البقاء ساكنين، على أن يتنكَّب فيافيَ لا يصل إليها أصحاب «محمد»، فجيءَ برجل من بني بكر بن وائل، يدعى فُراتَ بن حيّان، ليكون دليله في الطريق. وراحت قريش تجهّز أحمالها، وبضائعها من الأواني الفضية، والسلع المتنوعة، حتى بلغ ما دفعت به في تلك القافلة مئة ألف درهم، انطلق بها ابن أميّة، وفي ظنهم أن خبرها لن يبلغ المسلمين.. ولكنَّ عيونَ الرصْدِ نقلت خبرها إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأمر زيد بن حارثة أن يخرج إليها في مئةٍ من المهاجرين والأنصار، فانطلقوا على بركة الله (تعالى) يبحثون عن قافلة قريش، حتى وجدوها عند ناحية تدعى القَردَة - وهي ماء من مياه نجد - فانقضُّوا عليها كالليوث الهواصر، يغنمون العيرَ، وما يثقل ظهورها من نفيس المتاع بعد أن فرَّ المشركون نجاةً بأنفسهم فكانت غنيمةً سهلةً، وأول غنيمة يحرزها المسلمون بلا عناءٍ، ولا قتال. فلمَّا عادوا بها إلى المدينة، أفرَدَ منها رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخُمسَ، ثم قسَّمها بين أصحاب السريّة..
ولقد كانت خسارة تلك الأموال، مصيبة كبيرة تحل بقريش بعد مصيبة بدر، مما جعلهم يعتقدون بأن وجودهم بات يراوح بين الحياة والموت..
وإزاء هذا الوضع الجديد الذي ينذر بأشد حالات الخطر على حياة أهل مكة، تَداعى زعماء قريش لتدبّر الوضع الذي من شأنه تلافي هذا الخطر، فما وجدوا، بعد التشاور، أفضل من التعجيل في اتخاذ الخطوات العملانية للحرب التي وطّنوا النفوس عليها بعد بدر، فقرروا أن يكون أبو سفيانَ زعيم حربهم، وقائد جيشهم، على أن يبدأ من فوره باتخاذ كافة التدابير التي تهيّئ لحربهم على «محمد» وأصحابه، فراح أبو سفيان يطوف على الناس، يدعوهم للتبرع، وهو يقول:
»يا معشر قريش! يا أهل مكة! إن محمداً قد وتَركم وقتلَ خيارَكم، فأعينونا بالمال على حربه لعلَّنا ندرك منه ثأراً».
وكانت حملةٌ شاملة، اندفعت فيها النساءُ - والموتورات خصوصاً - إلى التبرّع قبل الرجال، بما ملكن من حليٍّ وأدوات زينة، حتى شارك الجميع في توفير المال والعتاد، وهم يقولون لبعضهم البعض: «إنها للذلة والخزي والعار إن لم ننل من المسلمين مأرباً وثأراً، أو نسترد شرفاً ضاع وندفع عاراً»...
تلك كانت حال مكة وأهلها.. حزنٌ يخيّم في أجوائها، وقهرٌ يغرس في النفوس آلاماً وأحقاداً.. ولكنْ في الوقت نفسه كان هناك استعداد للحرب، وتهيئةٌ لجيش كبير، وتوفير للأسلحة والعدة والعتاد حتى يمكنهم إحراز ذلك النصر الذي يكون فيه الثأر من هزيمة بدر.
أفراح المسلمين في المدينة
أما في المدينة، فكانت الأجواء مختلفة تماماً عما يجري في مكة.. فلا خوف ولا قلق على المصير بعد اليوم، إذ ذهب الضعف الذي كان يفتُّ في عضد المسلمين، وأبدلهم الله - سبحانه وتعالى - به قوةً ترهب ألدَّ أعدائهم، وأكثرَهُم قوة وشدّة.. فهذه قريش، التي كانت في تلك الحقبة من تاريخ جزيرة العرب سيدة القبائل، وصاحبة السلطان الأعلى، باتت مهزومة، مشتتة القوى على أيدي المؤمنين. فصار القاصي والداني يهابهم، وأهل البوادي والحضر يحسبون لهم ألف حساب!..
ولم يكن النجاح الذي حققه المسلمون حتى ذلك الوقت، ليقعدهم عن التهيئة والاستعداد لمواجهة شتى الاحتمالات التي قد تطالعهم بها الظروف المستجدة، والتي كانت ما تزال ظروفاً متحركة بسبب كثرة الاعداء، وانتشارهم في مختلف نواحي نجدٍ والحجاز..
ولذا فإنهم لم ينصرفوا - كغيرهم من الأمم والشعوب، بعد انتصارات حربية تحرزها جيوشها - إلى الملذات، والاستكانة إلى العيش السهل، بل ظلوا على إيمانهم ثابتين، وعلى العزم قائمين، وبذلك أمكنهم أن يكشفوا دسائس المنافقين، وأحقاد بني يهود، وأن يلاحقوا قوافل قريش ويترصدوا تحركاتها بصورة دائمة.
على أن ذلك السلوك السوي، والاضطلاع الدائم بأداء الواجب، لم يمنعْ شيءٌ منه على المسلمين أن ينعموا بما أكرمهم الله تعالى به، وأن يهنأوا برحيق السعادة التي يستحقونها.. فأشاعوا الأفراح في ديارهم، وأقاموا الأعراس في جنبات بلدهم.. وبذلك يُعطون من ناحية للرسالة المقدسة ما تفرضه من إقدام وتضحية، ويبذلون في سبيلها ما توجبه من عمل واندفاع، ولا ينسون من ناحية ثانية نصيبهم من الدنيا، ولا يتخلون عما تستحقّه الحياة من عيش هنيء كريم.
وإذا كانت مظاهرُ هذا العيش كثيرة، فإنَّ أقربها إلى نفس الإِنسان، وأشدَّها لصوقاً بحياته، واستمرار وجوده، هو الزواج: النظام الاجتماعي الذي أودعَهُ المولى (تبارك وتعالى) في بني البشر ليكون رابطة «قدسية» تجمع بين الرجل والمرأة، وتعاقداً على الرضى والمشاركة في الحياة بسرّائها وضرّائها، فضلاً عن كونه واجباً تجاه المجتمع، كي تنتظم علاقاته بصورة سليمة وصحيحة..
ومن هنا نرى الإِنسان، في كل زمان ومكان، يترك - على الرغم من كثرة مجالات اهتمامه بالأعباء العامة، والشؤون الخاصة - مساحةً هامّةً للارتباط بعشيرة العمر، وإنشاء البيت الزوجي.. فالحاكم السياسي على كرسيّه، والجندي على سلاحه، وطالب العلم في أروقته والمتخرج من جامعته.. والتاجر والصانع والمزارع والعامل، وكلٌّ يذهب إلى نفس هذه الغاية، بما ينشد من استقرار في الحياة العائلية التي يحلم بها.
وبمقتضى هذه السنَّة في الحياة، انصرف المسلمون، بعد معركة بدر، يقيمون أفراح الزواج.. فتشهد المدينة أعراساً كثيرةً، تَتْرى على مدى بضعة شهور. ويكون للبيت النبوي الشريف منها نصيبه الوافر، لأنه أول البيوت التي تتوجه إليها الأنظار وتمتدُّ الأعناق، رغبةً في الاتصال بالبيت الرفيع، وبالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء. بل نستطيع القول بأنه قد طمع في مصاهرة البيت النبوي كل مسلم يرى في نفسه الكفاءة لذلك .. وكيف لا، وإنه - والحقّ - بيتٌ هو مهبط للوحي والتنزيل، وهو مهوى الملائكة ومزار جبرائيل والمؤمنين، بل وهو همزة الوصل لخاتم النبيين بين: فيض فضل الله - تعالى - وبِرِّ الأرض، ويشرِّفه فوح الرسالة - خاتمة الرسالات السماوية - وروح الدين الكريم - خاتم الأديان - وعبق النبوة - نبوّة خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم( - .
ولذا تسابق أكابر الصحابة إلى خطبة سليلة الوحي، المصونة فاطمة بنت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، على الرغم من أنَّ الرهبة كانت تأخذهم، وتقصر خطاهم هيبةُ رسول اللّه، وصِغَرُ سنِّ الزهراء (عليها السلام)، قبل الإقدام على طلب يدها..إذْ إِنَّ مفاتحةَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمثل هذا الأمر كان مرهوباً بحد ذاته، لأسباب لا يدرك سرَّها إلاَّ اللَّهُ تعالى!..
وكان أبو بكر الصديق (رضي اللّه عنه) أولَّ من تجرأ وأمَّ منزل الوحي، في محاولة لاستئذان النبيِّ أن يخطب فاطمة (عليها السلام) .
وأطرق النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لحظة ثم قال له: إنّي أَنتظرُ بشأن فاطمة أمْرَ ربي عزَّ وجل. وذهب من بعده عُمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) يعرض على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خطبة ابنته فاطمة لنفسه، فردَّ بنفس الجواب: إني أنتظر أمر ربي عزَّ وجل بشأن فاطمة الزهراء[*].. ولقيَ الردَّ إيَّاهُ كلُّ مَنْ تقدم غيرهما لخطبة الزهراء (رضوان الله عليها). أما لماذا هذه الميزة الخاصة لزواج فاطمة بالذات الذي ينتظر فيه أمرَ ربه، وبخلاف سائر بناته، بل وسائر الحرائر من نساء المسلمين، فهذا ما سوف تبرزه المباهلة التي يطلبها رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من وفد نصارى نجران، في السنة العاشرة من الهجرة.. ولكنْ، ومن باب توكيد مكانة فاطمة الزهراء يجدر التذكير هنا، بأهم ما تميزت به عن سائر الحرائر التي يتسابقُ الأكفاءُ - عادةً - لخطبتهن، والزواج بهنّ.. فإنَّ فاطمة هي بنت خاتم النبيين وسيد المرسلين، وسائر الخلق أجمعين.. وأمها السيدة خديجة بنت خويلد، الطاهرة، المصونة.. وهي بضعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) [*]. بل هي أم أبيها [*] - كما كان يسميها رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد فقد خديجة الكبرى - وهي بعد - سيدة نساء العالمين[*]، بل ومن سيدات أهل الجنة [فقد أخرج الطبراني في الأوسط والكبير، عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران: فاطمة، وخديجة، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون][*]. وكانت أحبَّ الناس إلى أبيها [أخرج الحاكم في المستدرك، وصححه من حديث بريدة، قال: كان أحبَّ الناس إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاطمةُ ومن الرجال عليَّ][*]، [وعن السيدة عائشة، أنه قيل لها: أيُّ الناس كان أحبَّ إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟ قالت: فاطمة من النساء، ومن الرجال زوجُها][*]. وعن حذيفة، قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «نزل مَلَكٌ فبشرني أن فاطمة سيدةُ نساء أهل الجنة»[*].
ولعلَّ هذه المزايا، التي كانَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخصُّ بها ابنتَهُ فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ـ بل وغيرُها من المزايا كثير - قد تغني عن السؤال، لماذا كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يردُّ الصحابةَ الذين يخطبونها.. فقد كان يراها مرصودة لأمر جللٍ، وسوف يكون لها شأنٌ عظيم، فينتظر الوحيَ بشأن تزويجها..
وشاعَ بين المسلمين ردُّ كلِّ من تقدَّم لطلب يدِ ابنةِ رسول اللّه، فتناقل الصحابة هذا الخبر، مجملاً ومفصَّلاً، ولكنّ أحداً لم يفقه السرَّ من ورائه!..
ومن باب الفضول ليس إلاَّ، كان الصحابة، ولاسيما أبو بكر، يسألون علياً (عليه السلام) عمَّا يمنعُهُ من أن يخطب فاطمة؟[*] فلا يجيب بأكثر من ابتسامةٍ تخفي في ثناياها الشيءَ الكثير..
وتردَّدَ عليٌّ (كرم الله وجهه) قبل أن يقصد بيت النبوَّة، ويدخُلَه خاطباً، فلما جلس إلى رسول اللّه، وأنسَ بحبه له زال من نفسه كل أثر للتردد، فقال له: وددت أن أخطب فاطمةَ، بنتَ رسول اللّه.
وتهلَّل وجه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالبشر، فأشار إلى عليٍّ أن يدنو منه، ليضمَّهُ إلى صدره، ويخبره بأنه كان ينتظر مجيئه لهذا الشأن، وهو يقول له:
»فاطمة بضعة مني، من أرضاها فقد أرضاني، ومن أغضبها فقد أغضبني. وإن جبريل (عليه السلام) قد نزل وقال لي: يا محمد، إن الله يأمرك أن تزوج فاطمة ابنتك من علي»[*].
ثم أخذ الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأس عليٍّ، وقبّله في جبينه، وهو يقول له:
«إني حين أقبّل فاطمة أشمّ منها رائحة الجنة»...
وتدحرجت على خدَّيْ عليٍّ دمعاتٌ، هي أكثرُ من أي شيءٍ تعبيراً عن شكره لله تبارك وتعالى، وحنان هذا الرسول الكريم الذي يلوذ في أحضانه مثل الأب الرحيم .. لأنه لا شيء في الوجود أسمى من المشاعر الصادقة التي تملأ القلوب إخلاصاً، وتفيض بالمحبة، ليس على من تحب وحدهم، بل وعلى الدنيا، بمن فيها وما فيها.. ويأنس عليٌّ برسول اللّه، ويأنس رسول اللّه بعليٍّ، ثم يقوم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليشاور الزهراءَ في الأمر ويخبرها بأنَّ عليّاً قد جاء يخطبها.. فلم تجب (عليها السلام) في بادئ الأمر، إذ قد غمرها خجلُ الأنثى الشريفة، كريمةِ الأصل والمحتِد، إلاَّ أنَّها سألت أباها:
ـ ما أكثر ما خُطبتُ إليكَ قبل اليوم يا أبتاه، فما سألتني مرةً، بل كنت تردّ الخاطبين، فهل أذن لك ربنا الكريم بأمر زواجي؟
ويبيّن الرسول الكريم لابنته بأن الله (تعالى) قد زوجها من عليٍّ في السماء، وأعلن ذلك لملائكته، وأنه يزوجها منه بناءً على أمرِ ربِّه عزَّ وجلَّ.. حتى إذا رآها اطمأنّت نفساً، عاد يقول لها: «وأريد أن أخطبك الآن إلى أقوى الناس إيماناً، وأكثرهم علماً، وأفضلهم أخلاقاً، وأعلاهم نفساً»[*].
نعم، إنها فاطمة الزهراء، بنتُ رسول اللّه، فهي على يقين بأنَّ والدها لا يقرر أمراً إلاَّ إذا كان فيه مرضاةٌ لله سبحانه وتعالى، فهل أحبُّ إليها - إذن - من رضى الله ربها؟! وهل أزكى نعمةً تستشعرها من حب هذا الأب لها، وخطبتها لمن يحبُّهُ هذا الأبُ؟
ويزف رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى عليٍّ البشرى السعيدة برضى فاطمة وقبولها، فيشكر ربَّهُ (تبارك وتعالى) على هذه النعمة، وعلى كل نعمِهِ الفيّاضةِ، التي حباهُ بها منذ وجوده في هذا العالم..
ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، فحق لأهل بيت رسول اللّه أن ينعموا جميعاً، بهذا الفضل العظيم..
ومضى بياضُ ذلك النهار على الخير والبركة، وأتبعه ليلُ التهجد والعبادة، يستروح بها أهل بيت رسول اللّه صفاءً وطمأنينة، حتى آذن انبلاج فجرٍ جديد، فإذا بصوت بلال يتهادى في الأرجاء بنداء الحق: الله أكبر، الله أكبر، فيهب أهل التقوى، ويتراكضون إلى المسجد، لأداء صلاة الفجر وراء رسول اللّه، والجلوس إليه للتزود من دروسه وعظاته بما يغنيهم، ويغني الحياة من حولهم.. وبعد انصراف المؤمنين، كلٌّ إلى واجباته وشؤونه، انفردَ عليٌّ برسول اللّه ليقف منه على مراسم الزواج، والمهر الذي يؤديه إلى عروسه، ولكنه بدا عليه الحياءُ، لأنه لم يكن يملك من المال شيئاً، فيسأله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الدرع التي أصابها يوم بدر، فيقول له: هي عندي يا رسول اللّه. فيطلب إليه أن يذهب ويبيعها، ثم يأتيه ليتدبَّر الأمر، وكانت تلك الدرع من نصيب عثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) بعدما نقدَهُ ثمنها أربعمائة وسبعين درهماً، فحملها إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأعطاه منها ما يشتري به طيباً وعطراً، ثم عهد بالباقي إلى أم سلمة (رضي اللّه عنها) كي تشتري جهاز ابنته فاطمة.
ونشطت أم سلمة في تجهيز العروس الغالية، فاشترت لها قميصاً بسبعة دراهم، وخماراً بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسريراً مزملاً بشريط، وفراشين من خيش حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من صوف الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف - حشوها إذخر - وستراً رقيقاً من صوف، وحصيراً هجرياً، ورحىً لليد، ومخضباً من نحاس [وهو إناء تغسل فيه الثياب]، وجرة خضراء وكوزاً من خزف، وقربة ماء.. وإلى ذلك مما أتمت أم سلمة شراءه من جهاز بسيط جاءت به رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فجعل يقلبه بين يديه الكريمتين وهو يقول: «بارك الله لأهل البيت».. ثم رفع رأسه إلى السماء داعياً:
»اللَّهم بارك لقوم جُلُّ آنيتهم من الخزف».
وكان علي كرّم الله وجهه في هذه الأثناء يُهيّئ بيته لاستقبال عروسه، حتى حان الموعد فجاءَ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستأذنه في إتمام الزواج المبارك.
وأمر رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نساءه أن يزيّنَّ فاطمة ويطيِّبنها ويُصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة، ثم ينقلن جهازها، ويُعِدْنَ ترتيب البيت بما يَسَّرَ الله من المتاع والآنية...
وكانت ساعة الفرحة الكبرى حين دخل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على بضعته الزهراء، ثم خرج يعلن على الملأ من المؤمنين إتمام عقد قرانها على عليّ بن أبي طالب وهو يقول: «إن الله جعل المصاهرة سبباً لاحقاً، وأمراً مفترضاً أوشَجَ به الأرحام، وألزم به الأنام، فقال عز من قائل:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا *} [الفُرقان: 54] فأَمْرُ الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكلِّ قَدَرٍ أجلٌ، ولكلِّ أجلٍ كتابٌ {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *} [الرّعد: 39]. ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني زوّجْتُه إيّاها على أربعمائة مثقال فضة».. وجلس النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحوله حمزة وعليٌّ ونفرٌ من بني هاشم، وجمع الصحابة الأخيار من المهاجرين والأنصار، ودارت عليهم أطباقٌ من التمر هي حلوى الفرح، يتباركُ بها الحضور مع صوت بلال الرنان، تكبيراً وتهليلاً وتسبيحاً.. وأزفت الساعة، فاعتنقَ عليٌّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، شاكراً ممتنّاً على كرمه، وعطفه، فقام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يمسك بيد ابنته، ويقودها إلى البيت الزوجي، وهناك احتضنَها وابن عمها عليّاً، وهو يقول: «بارك الله لك يا علي بابنة رسول اللّه».
ثم وقف يتأملهما بعين الأب الرؤوف العطوف. وطلب وعاءً فيه ماءٌ، فأخذه وهو يذكر اسم الله عليه، ثم أخذ يغمس يده الكريمة في الإِناء، وينفح العروسين، وهو يدعو لهما قائلاً: «اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما».
هكذا كان عرسُ الزهراء، فاطمة بنت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي تمَّ على أبسط ما تكون الأعراس الكريمة.. بل ولعلَّه كان عرساً شاركت فيه الملائكة الذين يصلّون على النبيّ، مثلما شارك فيه المؤمنون وهم يصلّون على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآل بيته الطاهرين.. صحيح أنه كان عرساً غمرت فيه الفرحة القلوبَ والوجوهَ، ولكنه خلا من المظاهر الرنَّانة الطنَّانة، فلم تُرشَّ فيه النقودُ، أو توزع فيه سبائك الذهب، كما تشهدها أعراس الأغنياء في زماننا.. فجلُّ ما قُدِّم فيه للناس بعض من التمر يتبرك به الحاضرون، ويدعون للزوجين بالوفاق والتوفيق بعيداً عن كل المظاهر المادية التي لا ترضي الله سبحانه وتعالى، ولاسيما ذلك البذخ وصرف المال في الأعراس الذي يمكن أن يكفي لمساعدة مئات الفقراء والمساكين وإنعاشهم. فقد أبى رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكون عرسُ ابنته فاطمة، إلاّ عرساً نبوياً يتميّز بالبساطة وبكل ما هو عادي من المظاهر، حتى لا يرى عامة الناس، ولا سيما ذوو الدخل المحدود، أية غضاضة، أو أية مهابة من الإِقدام على الزواج، إذا كانوا لا يستطيعون مماشاة المسرفين في أعراسهم، وحتى يعرف الناس أن الإنفاق الفاحش، في مثل هذه المناسبات وغيرها، إنما هو التبذير بعينه الذي يذم الله (تعالى) مَنْ يفعلونه، فهو منهيٌّ عنه حكماً في الإسلام «لأنَّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين».. ففي الأصل ليست إقامة الأعراس والأفراح مناسبة للمفاخرة والمباهاة، وإنما هي أمور عادية في الحياة، لها حدود تقف عندها، ولا يجوز أن تتعداها حتى لا تنقلب من المباح إلى المكروه، أو إلى الحرام..
ورأى عثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) في غمرة الفرح النبوي أن يخطب يد أم كلثوم بنت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ كانت أختها رقية، زوجته السابقة قد توفاها ربها، على أثر مرض أودى بحياتها في نفس الوقت الذي جاءت البشائر إلى المدينة بانتصار المسلمين في بدر، فقصد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخطبها. وسأل الرسولُ ابنته رأيها، فلما لم يجد عندها ممانعةً أو رفضاً، وافق على طلب عثمان. وما إن حل شهر جمادى الثانية من السنة الثالثة للهجرة، حتى استأذن عثمان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن ينقل إليه أهله. واعتُمدت في زواج أم كلثوم نفس المراسم التي تمت في زواج أختها فاطمة، لأن زواج بنات النبي من السنة الشريفة التي لا تتغيّر بتغيّر الظروف والمناسبات..
زواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من السيدة حفصة
ولم ينقضِ قرابة الشهرين على هذا الزواج المبارك، حتى شهدت المدينة المنورة فرحاً جديداً عندما تزوج الرسول نفسه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حفصة بنت عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) في شهر شعبان من السنة الثالثة للهجرة، وذلك بعد إكمال عدتها على زوجها السابق الخنيس بن حذافة السهمي[*]، أحد السابقين إلى الإِسلام، وقد توفاه الله سبحانه بعد رجوعه من معركة بدر. وترمّلت حفصة وهي في ريعان الصبا، إذ كانت ما تزال في الثامنة عشرة من عمرها، فأثَّر في نفسها هذا الترمّل، وجعل الكآبة تخيِّم على حياتها، حتى باتت تفضل العزلة، والعيش الحزين بعيداً عن الناس..
وهَال الأمرُ عمرَ، خوفاً على ابنته من ان تَذويَ بين يديه، دون أنْ يفعل شيئاً، فرأى في زواجها خير السبل لمواساتها، وإبعاد اليأس والكآبة عن حياتها.. ولكنَّ السؤالَ الذي كان يحيّره: أيُّ رجلٍ يليق بابنته الغالية كي يزوجها به؟! وراودته خاطرة أعجبته، فذهب يسعى لملاقاة صديقه أبي بكر ويعرض عليه الزواج بابنته حفصة، إلاَّ أنه أبدى أسفَهُ واعتذاره.. فقصد عثمان بن عفان، ولم يكن قد خطب بعدُ، يدَ ابنة رسول اللّه أم كلثوم، فاعتذر بدوره.. مما جعل هذا الأب الملهوف يشعر وكأنما الدنيا أطبقت عليه بذهاب أمله أن يكون أحد الرجلين زوجاً لابنته!.. ولكنَّ وضع حفصة يؤذيه في الصميم لأنه ليس أضنى على قلوب الأهل من رؤية أولادهم يعيشون في الألم، ولا يستطيعون دفع غائلته عنهم، وكان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرى عمر مهموماً، وعلى غير عادته مما يألفُهُ به، فدعاه إليه، يسأله عمّا به؟! فاندفع عمر يخبره بحال ابنته حفصة، ويشكو إليه صاحبَيْه، وخيبةَ أمله بهما.. فما كان من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاَّ أن بادره بقوله: «يتزوج حفصةَ من هو خيرٌ من أبي بكر وعثمان، ويتزوج عثمانُ من هي خيرٌ من حفصة». وينجذب عمر لقول رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتشرق في خاطره الآمال، فيقول لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلهفة: إنه لشرف عظيم يا رسول اللّه، وما كنت أحسب أنَّ الله سبحانه وتعالى ينعم عليّ بهذا الفضل الكبير.
ويتم زواج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحفصة بنت عمر بن الخطاب، وتهنأ المدينة بالزواج الميمون، وهي تبارك وتمتدح عمل الرسول الأعظم الذي أراده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مواساةً لصاحبة قلبٍ كسير، هو قلب تلك الصبية حفصة التي أوقعها استشهادُ زوجها في اليأس، فامتدت يدٌ مباركة تنتشل الصبية من مصابها، وترفعها إلى أكرم الدرجات، لتصير أمّاً للمؤمنين.
ذلك هو العمل الإِنساني في أحسن صوره وأسمى مراتبه، وليس غير محمد بن عبد اللّه، الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من يصنع هذا العمل ومثلَه من الأعمال المجيدة...
ذلك أن مضامين الانسانية ومعانيها الشمولية وما تبعث من الغايات الجليلة، كانت رائداً لـ«محمد» الإِنسان، فما افترق يوماً عن إنسانيته الكاملة في سلوكٍ سلكه، أو فعلٍ قام به، أو كلمةٍ قالها.. فهو كما تدل عليه سيرةُ حياته كلها، ما كان يتوخَّى إلاَّ الخيرَ للناس، إن على المستوى الفردي، أو على الصعيد الجماعي. ومن هنا كان زواجه بالعجوز أو الصبية، لا يريد به إلاَّ أن يردَّ غائلة الوحدة، أو أن يشدَّ أواصر اللحمة، أو أن يرسي قاعدة للوفاء، أو أي هدفٍ آخر يمكن أن يخدم الدعوة الإسلامية، أو النزعة الإنسانية .. ولا يمكن لنا، نحن الناس أن ندرك آفاق الفكر المحمدي، فهو نسيج وحده.. كما لا يمكن لقدراتنا الفكرية، مهما بلغت، أن تصل إلى منتهى المقاصد المحمدية..

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢