نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الثاني

مواصلة الجهاد وإكمال الدين ومفارقة الدنيا - البحث الأول: مُواصَلة الجهَاد
غزوة حنين (غزوة أوطاس)
وكان من تلك القبائل هوازن التي تقيم على مقربة من مكة في الجبال الواقعة إلى جنوبها الشرقي. فقد خافت بعد فتح مكة من كارثة قد تحلُّ بها إذا ما أراد المسلمون غزوها - وهم فاعلون لا محالة - لنشر دينهم، فراحت تستعدُّ للحرب. وجمع مالك بن عوف النَّصْري إليه هوازن وثقيفاً كلها، ونصْراً، وجُشَم كلها، بل وسعد بن بكر، وناساً من بني هلال، ولم يتخلَّف من هوازن إلاَّ كعب وكلاب[*]..
وكان مالك بن عوف شاباً لم يتجاوز الثلاثين، قويّ الشكيمة، شديد المراس، فعزم على السير لقتال المسلمين قبل أن يبادئوهُ هُم بالفتح. فلما نزل بوادي أوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمّة، زعيم جُشَم، وكان رجلاً حنَّكته التجارب وضرّسته الحروب، قبل أن يفقد بصره، ويصير شيخاً هرماً، غير قادر على قيادة المعارك.
فلما كان نزولهم، سأل دريدٌ بأي وادٍ نزلوا؟ فلما عرف أنه أوطاس، قال:
نِعم مجال الخيل، لا حَزْنٌ[*] ضِرْسٌ[*] ولا سَهْلٌ دَهْسٌ[*]. ولكن ما ليَ أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير ويعار الشاء[*] وبكاء الصغير؟.
قالوا: لقد ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم حتى يقاتل كل منهم عن أهله وماله.
قال: راعي ضأنٍ وربِّ الكعبة، إئتوني به! فلما دُعي إليه، قال: «يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك. وإنَّ هذا يوم كائنٌ له ما بعدَه من الأيام. ما لي أسمع رغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبكاء الصغير ويُعار الشاء؟».
قال مالك: «سُقْتُ مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم»..
قال دريد: ولمَ ذاك؟.
قال مالك: «أردت أن أجعل خلفَ كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم».
قال دريد: «وهل يَرُدُّ المُنهزِمَ شيءٌ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلاَّ رجلٌ بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك[*].. بل أخبرني ما فعلتْ كعبٌ وكلابُ؟».
قالوا: لم يشهدْها منهم أحدٌ.
قال: «غاب الحدُّ والجدّ. ولو كان يومَ علاءٍ ورفعةٍ لم تغب عنه كعب ولا كلاب. ولَوَدِدْتُ أنكم فعلتم ما فعلوا، فمن شهدها منكم؟».
قالوا: «عمرو بن عامر، وعوف بن عامر»!.
قال: «ذانك الجَذَعان[*] من عامر لا ينفعان ولا يضرَّان»!..
ثم توجَّهَ بالكلام إلى مالك فقال له:
»يا مالك! إنك لم تصنع بتقديم هوازن إلى نحر الخيل شيئاً. ارفعهم إلى متمنَّع بلادهم وعُلْيا قومهم. ثم الْقَ الصُبَّاءَ[*] على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك مَن وراءَك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك قد أحرزت أهلك ومالك»[*].
قال مالك محتدّاً: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وذهب عَقْلك..
ثم التفت إلى الناس وقال:
»والله لتُطيعُنَّني يا معشر هوازن أو لأتّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري».
فقالوا: أطعناك.
فقال دريدُ بن الصمّة: «هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْني»..
وانصاعَ الناسُ لرأي مالك بن عوف. . ففرَّق المقاتلين في قمم حنين، وقدَّم كميناً عند مضيق الوادي، ليشدّوا على المسلمين شَدَّة رجلٍ واحد، يرشقونهم بالسهام، ويأخذونهم بالطِّعان، فتتضعضع صفوفهم، ويتشتت شملُهم، فيهزمونهم شر هزيمة..
أمّا المسلمون في مكة فقد بلغتهم استعدادات هوازن ومن معها للحرب، فبعث الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلمي، يتقصّى الأخبار، فعاد بعد يومين ليُطلع رسولَ الله على ما جهزَّ أولئك القوم من أعتدة، وما عبّأوا من قوى. فأمَرَ بالتهيؤ للخروج ونادى مناديه بإعلان التعبئة للقتال. ثم طلب إلى صفوان بن أمية أن يُعيره ما عنده من دروع، على أن تكون عاريةً يضمنها هو بنفسه، فأتى صفوان بمائة درع، كما أتى نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - ابن عم النبي - بثلاثة آلاف رمح كان يملكها. فنظر إليها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال لابن عمه: «كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصمُ ظهرَ المشركين».
وعبّأ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصفوف، ووضع الألوية والراياتِ في أهلها، واستعمل عتّابَ بنَ أسيد بن أبي العيص أميراً على الناس وقال له: «يا عتّاب! تدري على من استعملتك؟! استعملتك على أهل الله عزَّ وجلَّ! ولو أعلم لهم خيراً منك استعملته عليهم»[*]. وكان عمره إذ ذاك نيفاً وعشرين سنة. وكان رجلاً صالحاً. وقد روي عنه أنه قال: أصبتُ في عملي هذا بُردَيْن معقَّدين كسوتهما غلامي، فلا يقولنَّ أحدكم أخذ مني عتّاب كذا. لقد رزقني رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلَّ يوم درهمين، فلا أشبَعَ اللَّهُ له بطناً مَنْ لا يُشبعه كلَّ يومٍ درهمان، وصدق رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في اختياره عتّاباً، فقد «كان شديداً على المريب، ليّناً على المؤمنين، وكان يقول: والله لا أعلم متخلّفاً عن هذه الصلاة في جماعة إلاَّ ضربت عنقه، فإنه لا يتخلّف عنها إلاَّ منافق»[*] . كما أبقى الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أهل مكة أيضاً معاذ بن جبل (الأنصاري) يعلِّمهم ويفقِّههم، إذ كان عالماً بالقرآن، متبحِّراً بالدين.
وخرج رسول اللّه من مكة لستٍّ خلون من شهر شوال سنة ثمان للهجرة، في عشرة آلاف ممن جاؤوا معه لفتح مكة، وألفين ممن أسلموا بعد الفتح..
ولقد سارَ جيش المسلمين تحفُّ به مظاهر القوة، وتبدو عليه سمات التفوق والاعتزاز. وظنَّ البعض أن النصرَ حليفُهم، لا محالة، لكثرة عددهم، فقالوا: «لا نُغلب اليوم عن قلّة».
ولم يكن هذا الاعتدادُ بكثرة العدد هو وحدَه الذي دلَّ على ذهنيةٍ مهتزّةٍ لدى الكثيرين ممن شاركوا في تلك الغزوة، بل إن تلك الجماعة من قريش، وهي تخرج لأول مرة تحت إمرة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قد نَبَتْ نفوسُها عن روحية الإِيمان، حتى أنها لتبدو أقرب إلى الجاهلية منها إلى الإِسلام. إذ ما إن أطلّت على ذات أنواط، وهي الشجرة العظيمة التي كانوا يأتونها كل سنة، فيذبحون عندها ويعتكفون كامل يومهم، حتى عاودتهم نزعة الجاهلية، فقال بعضٌ لرسول اللّه: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذاتُ أنواط»..
ونهاهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن هذا التفكير الأخرق، فقال: «الله أكبر! قلتم، والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى لموسى: «اجْعَلْ لَنَا إلهاً كما لهمْ آلهةٌ». قالَ: إنَّكُمْ قَوْمٌ تجهلونَ.. إنها السُنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَن كان قبلَكم»[*].
ووصل الجيش في المساء إلى حنين، فاستراحوا، وناموا. فلمَّا كان السَّحَر، وفي أول عتمة الفجر، انحدروا نحو وادي حنين، يريدون أن يفاجئوا العدوّ قبل انبلاج نور الصباح.. وكانت هوازن ومن معها قد كمنوا في شعاب ذلك الوادي وأحنائه ومضايقه، فشدَّت كتائبُهم على المسلمين ينهالون عليهم بالسهام والنبال، فلا يدرون من أية ناحية تأتيهم.. فارتدّوا - من جراء هذا الهجوم المباغت - إلى الوراء لا يلوون على شيء. وكان أكثرَ المتضررين بنو نصر بن معاوية من بني رئاب، فقد أصابهم الشيء الكثير...
وكان رسولُ الله يرى هلعَ الناس وتفرُّقَهم أشتاتاً، فانحاز نحو اليمين، وراح يناديهم: إلى أين أيها الناس؟ هلمّوا إليَّ، أنا رسول اللّه، أنا محمد بن عبد اللّه!.
ولم ينفع النداء، بل ظلَّ المنهزمون في تقهقرهم حتى لم يبقَ مع رسول اللّه إلاَّ نفرٌ من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. فكان منهم: أبو بكر وعمر(رضي الله عنهما) وعلي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) وعمُّه العباس بن عبد المطلب، وابنه الفضل بن العباس، وابنه الآخر قتمُ بن العباس، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عُبّيد (ابن أم أيمن). وقد استشهد أيمنُ بن عُبّيَد (رحمه الله) في هذه المعركة ذوداً عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ..
وفي هذا الموقف الصعب، وفي هذا النفر القليل الذي ثبت لكي يحمي رسولَ الله ويدفع الأعداء ذوداً عنه بالأرواح والأنفس، قال العباس:
نَصَرْنا رسولَ اللَّهِ في الحربِ تسعةٌ
وقد فرَّ مَنْ قدْ فرَّ عنهُ فأَقْشَعُوا
وقولي إذا ما الفضلُ شدَّ بسيفِهِ
على القومِ أُخرى يا بنيّةُ يَرْجعوا
وعاشِرُنا[*] لاَقَى الحِمامَ بنفسِهِ
لِمَا نالَهُ في الله لا يتوجَّعُ
أجل، كان فرار الجيش الإِسلامي بكلِّيته، لا فرق بين الصحابة وبين مُسْلِمَةِ أهل مكة، أو غيرِهم من الناس، فالكل أغواه الشيطان فما رام إلاَّ النجاة بنفسه.
ولعلَّ السبب في هروب الجيش، وبمثل تلك السرعة التي حصل فيها، يعود إلى مُسْلِمةِ أهل مكة، إذ لما رآهم الناس يتقهقرون دبَّ فيهم الرّعب فلحقوا بهم. ويدل على ذلك تلك الفئةُ من قريش التي وقفت تنظر إلى تراجع المسلمين والغبطة تأخذها، وترى تشتت صفوفهم، والسرور يملأ نفوسها. فقد كان أفرادها من الجفاة للإسلام، وقد خذلهم انتصار المسلمين بالأمس على قريش، فانبروا في مثل هذه الساعة يظهرون ما يختزنون في صدورهم من غلٍّ وحقد، فيقول أبو سفيان بن حرب: «لا تنتهي هزيمتهم دون البحر»[*]. ويقول كَلَدَة بن الجنيد: «ألا بَطَلَ السحرُ اليوم!»[*]. وكان قريباً منه أخوه لأمِّه صفوان بن أمية، وكان ما يزال في المدة التي جعَلها له الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليختار بين البقاء على الشرك أو الدخول في الإسلام، فردَّ عليه قائلاً: «اسكت فضَّ الله فاك! فوالله لأن يَرُبَّني[*] رجلٌ من قريش أحبُّ إليَّ من أن يَرُبّني رجل من هوازن»[*].. أما شيبة بن عثمان بن أبي طلحة - وكان أبوه قتل يوم أُحد - فقال: «اليوم أدرك ثأري من محمد.. اليوم أقتل محمداً»[*]. ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ منعه منه، وقد اعترف ذلك الخبيث الحاقد بمحاولة الغدر التي كان يرومها، فقال: «فأردتُ برسول اللّه لأقتله، فأقبل شيءٌ حتى تغشَّى فؤادي، فلم أُطِقْ ذاك، وعلمتُ أنه ممنوعٌ مني»[*].. ومن أين لذاك الذي ما تزال الجاهلية تتأبَّط به شرّاً أن يدري بأن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممنوعٌ ليس منه وحده، بل ومن جميع الناس، فربُّهُ تعالى هو حاميه، وناصره. وتكفي حماية القادر المقتدر لخاتم النبيين حتى تخورَ أمامها جميع القوى، وتذهبَ بَدَدا..
ووقف رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تلك اللحظات الفاصلة أعظم موقف وأروعه، إذ قرَّر البقاء في ميدان المعركة، ومجابهة الأعداء، مع ذلك النفرِ القليل الذي يحيط به، وكلٌّ مصممٌ مثل نبيِّه على اقتحام المعركة فنادى عندها عمُّهُ العباسُ بن عبد المطلب - وكان جهوريَّ الصوتِ وهو يصرخ في الناس من قلبٍ محنقٍ، وبأعلى صوته: «يا معشر الأنصار الذين آوَوا ونصروا! يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمداً حيٌّ فهلمُّوا»[*].
وكرّر العباس النداء حتى تجاوبت أصداؤه في كل جنبات الوادي، وبلغت مسامِعَ الفارّين، فإذا بالرِّعدة تدبُّ في أوصال المؤمنين الصادقين، وبخاصة من المهاجرين والأنصار، وتحيي في نفوسهم الروح الشمّاء التي عُرفوا بها في المعارك والحروب، التي خاضوها من قبل، وإذا بالوسوسة الشيطانية التي بعثت الرّعب في القلوب تندحِرُ أمام صحوة الإِيمان، فيُذهبُ الله سبحانه وتعالى عنهم شعور الخوف، وتحلّ في نفوسهم السكينة التي تجعل النفوس المؤمنة تغفل في ساعة من وقت عن أداء الواجب، لتعودَ وتمتلئ - بفعل الملائكة، الذين هم جنود اللَّهِ غير المرئيين - بالسكينة وبالصدق والإخلاص فتمضي ملبية نداء الحق، مستبشرةً برحمة الله تعالى ورضوانه.
وحلَّ التماسك في جنود الله - الأوفياء - محلَّ كلِّ تفلُّت الهزيمة. ورجع المؤمنون مستجيبين لنداء العباس، وهم يتصايحون من كل صوب: «لبَّيك لبَّيك يا رسول اللّه»، ويرتدّون إلى المعركة مستبسلين..
وانحدرت هوازن من مخابئها، يتقدمها رجل على جملٍ أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل. وأصبحت وجهاً لوجهٍ مع المسلمين في الوادي. ولم يكد النهار يضيءُ بنوره حتى كان القتال مستعراً، ورحى الحرب على أشدها. وفي حمَّى القتال اندفع علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه) وراء رجل الجمل الأحمر من هوازن، الذي كان ينقضُّ على المسلمين بالضرب والطعن، فإن تخلف عنه قومه رفع رايته على رمحه فاتَّبعوه وهو يرتجز[*]:
أنا أبو جرولَ لا بَراحْ
حتى نُبيحَ القومَ أو نُباحْ
أجل، انحدر فارس الإِسلام عليّ (كرّم الله وجهه) وراء ذاك الفارس من المشركين حتى لحق به، فهوى على عرقوبَيْ جمله بضربة من سيفه، جعلته يقع على عجزه، ثم وثب على أبي جرول يعاجله بضربة واحدة من ضرباته التي لا تخطىء، فتشطره نصفين. عند ذلك نظر إليه عليٌّ (كرَّم الله وجهه) وقال[*]:
قدْ عَلِم القومُ لدَى الصباحْ
أَنِّيَ في الهَيْجاءِ ذو نِطاحْ
وكان رسولُ الله يرقب سيرَ المعركة، بقلبٍ ملؤه الإيمان، وبعزمٍ لا يُضاهى، فتطيب نفسه بعودة الوعي إلى نفوس المؤمنين، والشجاعةِ إلى صدورهم، فيعبِّرُ عن شدة الصِّدام الدائر ويقول: «الآن حميَ الوطيس»[*]. ثم يطلب إلى عمه العباس، الذي ظلَّ يلازمه كظله لا يفارقه أبداً، أن يناوله حفنة من الحصى، فيأخذها ويلقي بها نحو الأعداء ويقول: «شاهَت الوُجوه»[*].. وكان الرسول الشجاع، وهو في قلب المعركة، يحرّض المؤمنين على الثبات، والبلاء الحسن، معلناً بنفسه.
أنا النبيُّ لا كَذِبْ
أنا ابنُ عبد المطلبْ[*]
وكان المؤمنون يرون نبيَّهم في ساح الوغى فيتنادون صارخين: الله أكبر! يا لَلْمهاجرين! يا لَلأْنصار!.. وبسرعة تحوّل جو المعركة من الهزيمةِ إلى النصر، فولّت هوازن وثقيف ومن تبعهما الأدبارَ تاركين وراءهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين.
وكان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يزال يحرّض المسلمين على مطاردة الاعداء واللحاق بهم، وهو يُعلن: أن «من قتل مشركاً فَلَهُ سَلَبُهُ»[*]. وكان ربيعة بن رُفَيْع السلميّ - الذي ينتمي بنسبه إلى امرئ القيس، ولكن غلب عليه اسم أمه، فصار معروفاً بابن الدُّغنّة - ممن يلاحقون فلول المنهزمين، فرأى جملاً عليه هودج فظنَّ أنه لامرأة، وأناخَهُ، فإذا بداخل الهودج شيخ كبير، يبدو على ملامحه الأسى والحزن، فبادره قائلاً:
ـ ماذا تريد بي؟
قال ابن الدُّغُنَّة: أقتلك..
قال الشيخ: ومن أنت؟ قال: ربيعة بن رفيع السُّلَمي.. ثم ضربه بسيفه (وكأنَّ السنينَ من عُمُرِ هذا الشيخ الفاني قد جعلت يد الفتى ترتجف) فوقعت الضربة خفيفة، فلم تؤذه!..
فقال له: «بئس ما سلَّحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرَّحل ثم اضرب به، وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب به الرجال. ثم إذا أتيت أمك، فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمّة، فرُبَّ والله يوم قد منعتُ فيه نساءَك»[*].. ولكنَّ ذلك لم يُجدِ دريداً شيئاً، إذ عادَ ابن الدغنة فقتله، لأنه مشرك، وقد جاء بشركه يقاتل المسلمين[*].
وتابع المسلمون فرارَ الأعداء أمامهم حتى سهل أوطاس، وهنالك كانت نهاية المعركة حيث أوقعوا بهم الضربة القاضية، وهزموهم شرَّ هزيمة، فعادوا يجمعونَ السبيَ والغنائم..
وروى ابن هشام عن ابن إسحاق « أنَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مرَّ يومئذٍ بامرأةٍ وقد قتلها خالد بن الوليد، والناس مجتمعون عليها، فسأل من قتلها، فقالوا: خالد بن الوليد، فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبعض من معه: أدركْ خالداً، فقل له: إنَّ رسول اللّه ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفاً»[*].
أما مالك بن عوف النَّصْري، الذي قادَ زحف المشركين، فقد فرَّ إلى الطائف، يحتمي بها، بعد ذلك النصر المؤزر للمؤمنين والهزيمة الساحقة للمشركين كما يبيّنه لنا قولُ العلي العظيم {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ *ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ *} [التّوبَة: 25-26].
ولم يكن هذا النصرُ سهلَ المنال، بل دفع المسلمون ثمنَهُ غالياً من مهج الرجال وأرواحِ الأبطال الذين استشهدوا في الموقعة، وقد كان عددهم كبيراً، حتى قيل إن قبيلتين من المسلمين أفنيتا، أو كادتا أن تُفْنيَا. وقد صلَّى الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليهم، داعياً لهم الله سبحانه أن يُدخلهم الجنة جزاءً على ما قدَّموا من تضحيات..
أما النتائج المادية للموقعة فقد كانت في كثرة الغنائم التي أحرزها المسلمون. «وقد أحصيت يومئذٍ فكانت تُعدُّ بِعشرات الآلاف من الإِبل والشاء، وأربعة آلاف أوقية من الفضة. هذا عدا الأسرى الذين بلغ عددهم حوالى ستة آلاف من الذراري والنساء[*]، نُقِلُوا مع الغنائم إلى وادي الجعرانة، حيث آووهم» إلى أن يرى رسول اللّه رأيه فيهم..
غزوة الطائف
وبعد هزيمة هوازن، لم يبقَ إلاَّ الطائف وفيها ثقيف، فأمَرَ الرسولُ بالمسير إلى الطائف في نفس ذلك اليوم من شهر شوال سنة ثمان للهجرة..
وكانت الطائف - كما ذكرنا من قبل - من أشهر مدن العرب في شبه الجزيرة، بخصب أرضها، ولطيف مناخها، وكثرة كرومها من العنب والنخيل، فكانت بمثابة واحةٍ غنيَّةٍ وسط الصحارى. وهذا ما جَعَلَ أهلها من ذوي اليُسر والغنى، فحصَّنوها، وأغلقوها بالأبواب الكبيرة، على نسق أكثر مدن العرب في ذلك العصر. كما كانت لديهم دراية بالحروب والحصار بما يمكّنهم من الدفاع عن مدينتهم.. فلمَّا بلغها المسلمون، كانت الأبواب قد سُدَّتْ في وجوههم، واعتلت ثقيفُ جدران حصونها، ترشقهم بالنبال، وتحول بينهم وبين إقامة معسكرهم قريباً منها، مما اضطرّهم الى إقامة معسكرهم بعيداً عن مرمى النبل. وفي هذا المكان ضربت قُبَّتان لزوجتَي النبيّ: أم سلمة وزينب بنت جحش (رضي الله عنهما) اللتين أخرجهما معه منذ أن غادر المدينة لفتح مكة، وبين هاتين القُبَّتَين كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلِّي[*]. فأقيم بعدها في نفس المكان مسجدٌ في الطائف تيمّناً وتبرّكاً.
وكانت الحصون منيعة، فلم يفلح معها الحصارُ، كما أنَّ ثقيفاً لم تخرج للقتال، بل ظلّت في الداخل تمنع على المسلمين أي تقدم نحو مدينتها. فلما طالت المدة أوفد رسول اللّه الطفيلَ الدوسي الذي كان يصحبه، ولم يفترق عنه منذ غزوة خيبر، إلى بني قومه يستنصرهم، وكانوا يقيمون بأسفل مكة، وعندهم علم بالرماية بالمنجنيق، وبمهاجمة الحصون في حماية الدبابات التي يصنعونها[*]. فذهب الطفيل، وأتى بطائفة من صنَّاع الدبابات، بعد أربعة أيام من الحصار.
ورمى المسلمون المدينة بالمنجنيق، فلم يفلحوا في إسقاطها؛ فزحفوا إليها بالدبابات التي تمَّ صنعها خصيصاً، ولكنَّ أهل الطائف كانوا يسارعون إلى صهر الحديد بالنار، ثم يلقون بالسائل المحمَّى على تلك الدبابات فيحرقونها، مما لم تفلح معه الهجمات المرتدَّة في اقتحام الطائف.. وقد أصيب في ذلك الحصار عبد اللّه بن أبي بكر الصديق مع آخرين كثيرين غيره، فلم يندمل جرحه بعد ذلك الحين. وتوفي في المدينة، بعد انتقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الرفيق الأعلى.
فلمّا فشلت جميع محاولات المسلمين في ذلك الحصار، أمَرَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقطع كروم ثقيف وإحراقها، على كراهيته لذلك، ووصاياه لجنده بعدم قطع الشجر - كما رأينا من قبل - ولكنْ هل الكرمة والنخلة أغلى من الإنسان الذي يقاتل أعداء الله؟ أم أنَّ قطعها - في حال الضرورة ـ يعتبر إحدى وسائل الحرب لحماية الجيش وقهر أعدائه؟! من أجل ذلك اعتُمِدَتْ تلك الوسيلةُ أثناء الحصار على الطائف.. فلما رأت ثقيفُ ما يحلُّ بأحدِ أهمِّ مواردها الاقتصادية، بعثت إلى النبي تفاوضه بأن يترك الرزق وشأنه (لله تعالى)، وللرَّحم (لما بينه وبينهم من قرابة)، فأمر عندها بالتوقف عن القطع، وبعث من ينادي على ثقيف: «أنَّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مُعتِقٌ من جاء إليه من الطائف».. ففرَّ إليه قرابةُ عشرين رجلاً... وكان في هذا الفرار، وطلب العدو أن تُتركَ له أرزاقه، بدايةٌ لكسرِ شوكةِ ثقيف، وإذعانها لدعوة الحق، فيما بعد!..
وانقضى شهر شوال وما زال المسلمون على حصار الطائف. وبانقضائه كان ذو القعدة قد أهلَّ والأشهر الحرام قد آذنت، فآثر الرسول أن يرفع الحصار، وأن يرجع بجيشه إلى أن تنتهي الأشهر الحرم، فيكون بعدها الأمرُ لله سبحانه. فإمّا أن يعود لقتال ثقيف وفتح الطائف، وإمّا أن يكون أهلها قد اهتدَوا وجاؤوه مسلمين.. وقد قال للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف: «يا رسولَ اللهُ ادعُ عليهم». فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «قولوا: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون. اللهم اهْدِ ثقيفاً وأْتِ بهم»[*].
وعاد المسلمون إلى الجعرانة حيث تركوا الغنائم والأسرى، فجاء وفدٌ من هوازن، يسلمون على يَديْ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويطلبون إليه أن يردَّ عليهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم، فقال أحد رجالهم: «يا رسول اللّه إنا أصلٌ وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخْفَ عليك، فامنُنْ علينا، منَّ الله عليك». ثُمَّ قام خطيبهم ويدعى زهير، من بني سعد بن بكر، ويكنى أبا صُرَد، فقال: «يا رسول اللّه، إنما في الحظائر[*] عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كنَّ يكفُلْنك. ولو أنَّا مَلَحْنا[*] للحارث بن أبي شمر الغساني، أو للنعمان بن المنذر[*]، ثم نزل منا أحدهما بمثل ما نزلت به، رَجونا عطفه وعائدته[*] (فضله) علينا، وأنت خير المكفولين.. ثم أنشده شعراً، ومنه هذه الأبيات:
أُمْنُنْ علينا رسولَ الله في كرمٍ
فإنَّكَ المرءُ نرجوهُ وندَّخرُ
أمننْ على بيضةٍ قد عاقها قدرٌ
ممزَّقٌ شملُها في دهرها غِيَرُ
إلاّ تُدارِكُها نَعْماءُ تَنْشُرُها
يا أَرْجَحَ الناسِ حِلْماً حينَ يُختَبرُ
أُمنُنْ على نِسْوةٍ قد كُنتَ تَرْضَعُها
إذ فُوك يملؤُهُ من مَحْضِها[*] دَرَرُ
إنَّا لنشكُرُ آلاءً وإنْ كُفِرتُ
وعندنا بعدَ هذا اليومِ مُدَّخَرُ
وسأل الرسول عن حواضنه، فقيل له: إنَّ اختك من الرضاعة بين السبايا، فطلب أن يأتوا بها. وجاءت إليه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزّى، التي طالما حملته ودغدغته على ذراعيها، يوم كان في المهد صبيّاً، وأمها حليمة ترأف به وتحنو عليه، عندما كان رضيعاً في بني سعد.. فقام من فوره يبسط لها رداءه ويُجلسها عليه، ثم يدنيها منه مواسياً، عطوفاً، مؤانساً، فيسألها عن أمه المرضعة حليمة، وعن زوجها الحارث، وعن إخوته وأخواته في الرضاعة، ثم يستذكران أيام الطفولة في ديار بني سعد، وما كان له من محبةٍ في نفوس القوم.. والناس من حوله يسمعون ويبصرونَ ما يجري بينه وبين الشَّيماء، فيقولون: هكذا هو دوماً رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإنسانيته، ووفائه، وبرّه وعطفه، وسائر صفاته التي يسمو بها، مهما كبرت الصفات عند بني البشر.. فيحمدون الله تعالى أن هداهم إلى الإِيمان بفضل هذا الرسول الهادي المهتدي..
وبعد أن اطمأنت الشيماءُ وفرحت بلقاء رسول اللّه، خيّرها بين البقاء عنده عزيزة مكرمة، وهو يكفل كهولتها، ويردُّ عنها غائلة الدهر، وبين أن يخلّي سبيلَها حرَّة مختارة.. فاختارت الرجوع إلى بني قومها..
ولم يقف عطف محمد ـ الإنسان - على الشيماء بنت الحارث وحدها، بل شمل كلَّ من جاؤوه من هوازن مسلمين نادمين، فقال لهم: «أبناؤكم ونساؤكم أحبُّ إليكم أم أموالكم؟». قالوا: «يا رسول اللّه، خيّرتنا بين أموالنا وأحسابنا! بل تردَّ علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحبُّ إلينا». فقال لهم: «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صلَّيتُ الظهر بالناس، فقوموا، وقولوا: إنّا نستشفع برسول اللّه إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه، في أبنائنا ونسائنا.. فأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم الناس»[*].
ولما كان الظهر وانتهت الصلاة، وقف رجالُ هوازن يستشفعون في أبنائهم ونسائهم. فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأسأل لكم الناس».
فقال المهاجرون: «وما كان لنا فهو لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ».
وقالت الأنصار: «وما كان لنا فهو لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ».
فقال الأقرعُ بن حابس[*]: «أما أنا وبنو تميم، فلا»..
وقال عيينة بن حصن: «وأما أنا وبنو فزارة، فلا»..
وقال عباس بن مرداس السُّلَمي: «وأما أنا وبنو سُلَيم، فلا»..
ولكنَّ بني سليم رفضوا موقف ابن مرداس، وقالوا: «بلى، ما كان لنا، فهو لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) »..
وهنا قال رسولُ الله: «أمَّا من تمسَّك منكم بحقِّهِ من هذا السَّبي فله بكل إنسان ستُّ فرائض من أولِ سَبْي أصيبه، فردّوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم».
وكذلك رُدَّتْ نساءُ هوازن وأبناؤها. وكان ذلك بفضل إسلامهم، وعظمة محمدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنسانيته التي لا تضاهى..
وسأل رسولُ الله عن مالك بن عوف، ماذا فعل؟ فقيل له إنه هرب إلى ثقيف بالطائف، فقال لوفد هوازن: «أخبروا مالكاً إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مئة من الإِبل».
ولم يُعتِّمْ مالك حين بلغَهُ خبرُ عفو النبيِّ عنه - إنْ أتاه مسلماً - أن تجهّز سرّاً، حتى لا تراه ثقيف، ثم خرج من الطائف في وسط الليل حتى قدم على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأعلن إسلامه، فردَّ عليه الرسولُ أهله وماله، وأعطاه فوقها مئةً من الإِبل. وقد عبَّرَ مالك عن مشاعره بعد إسلامه، فقال[*]:
ما إنْ رأيتُ ولا سمِعْتُ بِمِثْلِهِ
في الناسِ كلِّهم بمثْلِ مُحمَّدِ
أَوْفى وأَعْطى للجَزِيل إذَا اجْتُدِي[*]
ومتى تَشَأْ يُخبِرْكَ عَمَّا في غدِ
وإذا الكَتِيبةُ عَرَّدتْ[*] أَنْيابُها
بالسَّمْهَرِيِّ[*] وضَرْبِ كلِّ مُهنَّدِ[*]
فَكَأنَّهُ ليثٌ لَدىَ أَشْبالِهِ
وَسْطَ الهَبَاءَةِ[*] خادِرٌ في مَرْصَدِ[*]
ورأى الناسُ أن رسولَ الله يعطي كلَّ من جاءَهُ من هوازن أهلَهُ ومالَهُ، فخافوا أن تذهبَ الغنائمُ بمعظمها، ولا يبقى إلاَّ القليل ليجري تقسيمه، فسرى الهمس بينهم، يُريد كل واحدٍ أن يأخذ فيْئه، حتى بلغ ذلك الهمسُ رسولَ الله، فوقف إلى جانب بعير، وأخذ وَبَرَةً من سنَامِهِ فجعلها بين إصبعيه، ثم رَفَعَهَا وقال: «أيها الناس، والله ما لي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلاَّ الخُمُس، والخُمُس مردود عليكم فأدّوا الخِياطَ (الخيط) والمِخْيَطَ (الإبرة)، فإنَّ الغُلُولَ (الخيانة) يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً (أقبح العار) يوم القيامة»[*].
أجل، كان أمر رسول اللّه ألاَّ ينفردَ أحدٌ بشيءٍ حتى تُقتسم الغنائم، بالعدل، فتدفّق الناسُ يردُّون ما أخذوه فجاء رجلٌ من الأنصار بكبَّةٍ من خيوط الشَّعَر، فقال: «يا رسول اللّه، أخذت هذه الكبَّة أعمل بها بَرْذَعَةَ بعير لي»، فقال له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «أما نصيبي منها فلك». فقال الأنصاري: «أما إذْ بلَغَتْ هذا، فلا حاجة لي بها، ثم طرحَها من يده بين الغنائم»..
وكان عقيل بن أبي طالب قد أتى بإبرةٍ وأعطاها لزوجه، (فاطمة بنت شيبة بن ربيعة)، قائلاً: «دونكِ هذه الإِبرةَ تخيطينَ بها ثيابَكِ».
فلما سمع المناداةَ بإعادة كل شيء، رجع إلى امرأته يقول لها:
«ما أرى إبرَتَكِ إلاَّ قد ذهبتْ».
ثم أخذها، فألقاها في الغنائم..
وقام رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخمَّس الغنائم، ثم فصل الخُمُس لنفسه، ووزَّعَ الباقي على الناس. فكان نصيبُ المجاهد لكل رجل أربعاً من الإِبل وأربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة. ووزع من خُمُسِهِ على قادة القبائل بُغْية تأليف قلوبهم، وقد كانوا إلى الأمس القريب أشدَّ أعدائه.. وهم الذين وقفوا في أتون المعركة ينظرون، وبعضهم يبدي الشماتة، فأعطى لهؤلاء المؤلفة قلوبهم أكثر من المجاهدين: فكانت مئة من الإِبل لكل من أبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، والحارث بن الحارث بن كَلَدَة، والحارث بن هشام بن المغيرة، وحويطب بن عبد العُزَّى، والسائب بن أبي السائب، وغيرهم من رؤساء بني بكر، وقيس، وسليم، وغطفان، وفزارة، وتميم.. حتى لم يبق أحدٌ من أشراف القبائل وزعماء العشائر، ممن تألف بعد فتح مكة، وحضر وقعة حنين، إلاَّ وأُعطي مئةً من الإِبل، وبعضَ الفضة.
وكان نصيبُ مَن دُونَ هؤلاء شأناً، خمسين من الإِبل، وقد بلغ عددهم عشرات..
وبينما كان رسول اللّه يعطي هؤلاء الناس المؤلفة قلوبهم، قام رجل من بني تميم يقال له «ذا الخُوَيْصِرَة»، فقال: قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم.. ولكن لمْ أَرَكَ عَدَلتَ يا رسول اللّه!..
فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون؟!»[*].
فقال عمر بن الخطاب: «يا رسول اللّه، ألاََ أقتُلُهُ؟»[*].
فقال له النبيُّ الرحيمُ: «لا دَعْهُ، فإنه سيكون له أتباعٌ يتعمَّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهمُ من الرَّمِيَّة»[*].
ومن بين الذين أعطاهم رسول اللّه صفوان بن أمية؛ ولكنَّه رآه يرمُق شِعْباً[*] مملوءاً نِعَماً وأغناماً، فأدرك (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن قلبَهُ لم يأتلف بعد، فزادَهُ من الخُمس حتى أشبَعَ نهمتَهُ، فقال عندها صفوان: «إن الملوك لا تطيب نفوسها بمثل هذا. ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلاَّ نبيٌّ. أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنك رسولُ الله»، فكان عطاءُ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبباً في إسلامه، قبل انقضاء المدة التي استمهله فيها ليختار بين بقائه على الشرك أو دخوله في الإِسلام..
على أنّ هذا الذي تألَّف به النبيُّ قلوب تلك الفئة من قريش، ومن قبائل العرب، لم يرضَ به بعض المسلمين، لأنهم لم يدركوا الحكمة من ورائه. فجاء سعدُ بن عبادة، من الأنصار، يبلّغه وَجْدَ أنفسهم عليه، وهو يقول: «يا رسول اللّه، إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت: قسَمْت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء».
فقال له الرسول: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟».
قال سعد: «يا رسول اللّه، ما أنا إلاَّ من قومي».
فقال له الرسول: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة».
فلما اجتمع الأنصار، وقف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما مقالةٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجَدَتْمُوها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتِكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي، وأعداءً فألّفَ الله بين قلوبكم؟»[*].
قالوا: «بلى! ألله ورسولُه أمنُّ وأفضل».
قال: «ألا تُجيبوني يا معشر الأنصار؟».
قالوا: «بماذا نجيبك يا رسولَ الله؟ وللَّهِ ولرسوله المنُّ والفضلُ».
قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلَصَدَقْتُمْ ولَصُدِّقْتُم: أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك. أوجَدْتُم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعَاعةٍ (الشيء اليسير) من الدنيا تألّفتُ بها قوماً ليُسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضَون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. ولو سلك الناسُ شِعْباً وسلكتِ الأنصارُ شِعباً لسلكتُ شِعْبَ الأنصار. الأنصارُ شِعارٌ، والناسُ دِثار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار»[*].
وبمثل هذا الصدقِ المحمديِّ، وهذا الوفاء النبويِّ، كانت المكاشفة والمصارحة من الرسول الأعظم. فراح الأنصارُ يبكون بحرقة، حتى اخضلَّت لحاهم من الدمع، ثم قالوا: «رضينا برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَسْماً وحظاً»[*].
وقاموا إليه، يتقدمهم الشيوخ والسادة، يريدون تقبيل يديه، ويرجونه أن يسامحهم، وهم يقولون: «رضينا بما قسمت يا رسول اللّه. وهذه أموالنا بين يديك فإن شئت فاقسمها على قومك. وإنما قال من قال منّا على غير وغْر صدرٍ، وغلٍّ في قلبٍ، ولكنهم ظنوا سخَطاً عليهم وتقصيراً منهم. وقد استغفروا الله من ذنوبهم، فاستغفر لهم يا رسول اللّه»[*].
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار»[*]. وقد أعادَ هذا التسامحُ السكينة إلى نفوس الأنصار، فرجعوا إلى رحالهم راضين مستبشرين.
إن هذا الموقف، بين رسول اللّه وبين الأنصار، كان أبلغ درسٍ في السياسة الرشيدة التي كان يعتمدها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معالجة شتَّى القضايا والأمور، والتي كان من خلالها ينفذ إلى القلوب فيريحها، وإلى النفوس فيطمئنها، وإلى العقول فيتملَّكها، ويأسرها بالإِيمان بالله ربّاً وبه رسولاً. ذلك كان نهجه الدائم في كل مرة كانت تحتاج فيها القلوب، والنفوس للارتياح من محتقناتها، تماماً كما كان نهجه في مخاطبته العقول لاتخاذ المواقف التي تخدم الدين والإنسانية.. ولقد كانت معالجات محمد رسول الهدى - فوق مصداقيتها وفعاليتها - توزن بالميزان الإسلاميّ، الذي لم تعرف البشرية في تاريخها من قبل، ولن تعرف من بعد، مثل عدله: لأنَّ في إحدى كفتيه دائماً حكمَ النبوة، وفي الكفة الأخرى فِعالَ البشر. ولا يمكن للأقوال والفعال أن تكون سويّةً كما يراها سيدُ المرسلين وخاتمُ النبيين إلاَّ إذا توافقت مع حُكْم الله تعالى، لأنه وحدَهُ الحُكمُ الحقُّ، ومن الحق تبارك وتعالى، ولذلك من المحتَّم أنْ يكونَ العدلُ الثابتُ قوامَها وأساسَها..
وعظمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كما تشهد عليها سيرة حياتِهِ - إنَّما وحدها كانت تقوم في كلِّ تاريخ البشرية، على التقيّدِ بحكم الله (تعالى)، وتطبيقه على نفسه مثل الآخرين تماماً، لأن ربه - تبارك وتعالى - جعله القدوة والأسوة الحسنة، وهذا موقفه مع الأنصار كان جليّاً حين ذكَّرهم بهدايته لهم مِنْ قِبَلِهِ وبنصرتهم - مِن قِبَلِهم - له وفقاً لميزان العدل الإسلامي، ولذلك كانت ردة فعلهم هذا الرضى الوجداني الذي لا يأبهُ للغنائم والمتاع، وكلِّ ما يُغري الناس بل يطمئن لرضى الله ولرسوله!..
ولم يكن الأنصار وحدهم قد ساورهم بعض الظن في صنع رسول اللّه أثناء توزيع الفيء، بل إنَّ بعض الصحابة أتوه قائلين: «يا رسول اللّه، أعطيت عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مئة مئة، وتركتَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضَّمْري»[*].
فقال: «أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طِلاع الأرض[*]، كلُّهُم مثلُ عيينة والأقرع، ولكنّي تألَّفتهما ليُسلما، ووكلتُ جعيل بنَ سُراقةَ إلى إِسلامه»[*].
ولعلَّ تلك الظنون التي رافقت قسمة الغنائم، كانت في غفلةٍ من أصحابها عن أمرٍ جوهري وأساسيٍّ، كان يجب ألاَّ يغيب عن الأذهان، وهو أن عطاء رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمؤلفة قلوبهم كان من الخُمُس الذي هو حق خالص له، يضعه حيث يشاء، ويعطيه لمن يشاء، من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمؤلفة قلوبهم، بدليل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفَال: 41].
فقد استعمل رسولُ الله خُمُسَهُ[*] في أسمى وأعلى غاية، إذ كان يريد الاطمئنان على المسلمين، وعلى الدعوة الإِسلامية التي توجب تأليف القلوب. وقد شهد موقعةَ حنين جماعةٌ من سادة قريش، وقادةٌ من قبائل العرب الذين لهم منزلة في قومهم، فلماذا لا يعطيهم الرسول الكريم من هذا الفيء الوفير، إن كان في هذه العطاءات - ومهما بلغت - ما يزيل الضغينة التي ما تزال في قلوبهم على الدعوة - وقد بدت جلية في مقالتهم أثناء احتدام المعركة - ولماذا لا؟ فإنَّ ذلك قد يجعلهم يهتدون إلى الإيمان الذي يدعو إليه الإسلامُ معتنقيه، وليس كمثل من يدخلون في هذا الدين لغاياتٍ شتَّى، دون أن يلامس الإِيمان الصادقُ قلوبهم؟!...
إذاً فالعِبَرُ والعظاتُ في توزيع الفيء - كما بيّن بعضها رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حنين - كثيرة، وجليلة.. فضلاً عن أنَّ إعطاء المؤلفة قلوبهم فريضةٌ من الله - تعالى - وتدخل في الصدقات الدائمة في الإِسلام، وليس فقط من الغنائم التي تحصل في ظرف معين، وذلك مصداقاً لقوله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [التّوبَة: 60].
وهذه مناسبة لتذكير المتصدّقين عندما يُعطُون صدقاتهم، بأنَّ عليهم أن يخصّصوا جزءاً منها للمؤلَّفة قلوبُهُم حتى يزدادَ الإسلام مَنَعَةً، ويكونوا من الدعاة لهذا الدين، بدلاً من أنْ يكونوا من المنافقين، أو إِلْباً على دين الله (تعالى)..
وهنالك بعضُ الدروس الهادية الأخرى، التي أعقبت غزوة حنين بالذات، فلا بأس من التذكير بأبرزها وأهمها، وهو الذي يتمثل بالعُجب من المسلمين بأنفسهم لما كانوا عليه من كثرة العدد وقوة العتاد.. فقد نظروا إلى كثرتهم تلك فأُعجبوا بها، واطمأنوا إليها، معتقدين أن هذه الكثرة هي مصدر القوة وسبيل النصر.. ولكنَّهم ما لبثوا أن فروا من وجه العدو حين فاجأهم بانحداره إليهم، وهم يتدافعون أمامه تدافع السيل، ويتكبكبون تكبكب الأنقاض من البناء الشامخ، الذي انهار أعلاه على أسفله، لولا ثبات النبيِّ ومعه الفئة القليلة التي باعت أنفسها لله (تعالى) وأحاطت بهذا النبي الكريم، الدائم الصلة بربه، فمدَّها بالثقة واليقين، وبحسن التوجّه بقلوبها إلى مولاها العليّ العظيم، فاستمدت منه العون والمؤازرة. وبذلك تبدلت الهزيمة نصراً، وآلت الأحوال إلى ما آلت إليه من عزة ومنعة.. نعم، لقد كان لإِخلاص هذه الفئة القليلة لدينها، وحبّها للنبي والذودِ عنه - وبصورة خاصة أهل النبي - وحسن صلتها بالله تعالى، كل ذلك كان له أكبرُ الأثر في تسيير حركية القتال، إذ أمدَّها الله - سبحانه - سريعاً بالمدد اللازم فأيقظ الضمائر في صدور المؤمنين الفارين، وأزالَ الغشاوة عن بصائر المسلمين الهاربين، وأنزل السكينة على قلوبهم، فعادوا إلى القتال ليبدلوا اليأس بأساً، والضعف قوةً، وتتحول الهزيمة إلى نصرٍ مؤزَّر.
وما عتَّم المسلمون - على أثر حنين - أن أدركوا جميعاً أن هنالك سُنَّةً ثابتةً ، وهي أن النصْرَ - حقاً ـ بيد الله وحده. ومصدر هذا النصر هو دائماً صدق الإِيمان، وحسنُ التوكل على الله - سبحانه ـ أما الكثرة، والعتاد، والتعبئة، وحسن التنظيم، وما إلى ذلك من الأمور التي يكون بها الاستعداد لمباشرة القتال، فإنَّها جميعَها، أو أيَّ واحدة منها لا تكفي لإِحراز النصر، بل تأتي في المقام الثاني من أسباب القوة لخوض المعارك وتحقيق الانتصارات. إذ يبقى الشرطُ الأول، بل الأساس هو التوكُّلُ على الله، ومن ثَمَّ الأخذ بالأسباب والإعداد اللازم، لأنْ القوّة لا تُستمدُّ إلاَّ من الله، والنّصْرَ دائماً من عنده سبحانهُ وتعالى.
هذه حقائق ينبغي ألاّ تغيب عن أذهان المسلمين، فهل يدركون هذه الحقائق؟ وهل يشعرون اليوم بمقدار ضعفهم أمام أعدائهم؟ وهل يعرفون سرَّ ما هم عليه من ضعف، على الرغم من كثرة ما هم عليه من العدد، وما عندهم من القدرات، التي يمكن أن تتحكم إلى حد بعيد بمصير العالم كله لو أحسنوا استعمالها واستغلالها - كما أسلفنا - من أجل مصلحة المسلمين؟
قد يكون جزافاً القولُ بأن هناك سرّاً لضعف المسلمين لا يفقهونه!... والحقيقة أنه لا سرَّ بهذا الخصوص على الإِطلاق، ما دام الأمر واضحاً وضوح النهار، وبمثل هذا الوضوح لا يبقى مجال لأن يغمضَ المسلمون أعينهم، ويحاولوا نكران ما هو ظاهر لهم، أو يطالبوا بالأدلة على صدق هذا الظاهر.. فإذا كان لا يصح في الأذهان شيء للتدليل على النهار والشمس ساطعة، فإنه كذلك لا يصح في أذهان المسلمين شيء للتدليل على واقع ضعفهم وتشرذمهم اليوم!.. والسبب أنهم هجروا دينهم، ونسوا الله خالقهم وبارئهم، وتنكّروا لوحدة كلمتهم فأنساهم اللَّهُ (سبحانه وتعالى) أنفسهم حتى غدوا كزرع غاض ماؤه، وانقطع عنه غذاؤه، فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً.
إن موقف المسلمين الراهن، كموقف المسلمين السابقين في بداية معركة حنين، ولكن الفارق بين الموقفين أن مسلمي حنين أفاقوا من الغشية التي أصابتهم، وسارعوا بالرجوع إلى ربهم، فسارع إليهم نصرُ الله تعالى وتأييده، فالله سبحانه لا يغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم.. أما المسلمون اليوم فطالما لم يغيروا ما بأنفسهم، ولم يرجعوا إلى الله (تعالى) بالنية الصادقة والعمل الصالح - ولاسيما الالتزام بروح الإسلام شكلاً ومضموناً - فإنهم سيظلون كثرة لا غنى فيها. وأينما نظرنا إليهم فسنراهم فئات مغلوبةً على أمرها، يتحكَّم فيها أعداؤها وأعداء دينها، وينعمون دونها بخيرات أوطانها، ويسخِّرونها في منافعهم كسخرة الأسياد للعبيد، بل ويتلاعبون بمصير كل شعب إسلاميٍ، وفي أي بلدٍ إسلامي، بمثل ما يريدون ووفق ما يرغبون.. فكأن المسلمين قد أصبحوا هم الذين يعنيهم الشاعر بقوله:
ويُقضى الأمرُ حين تغيبُ تيمٌ
ولا يُستأذَنون وهم شهودُ
وستبقى شعوب الأمة الإِسلامية عاجزة عن اتخاذ القرار المؤثر في حياتها، على الرغم من وجود من يمثلها في المنظمات الدولية والإِقليمية كافة، وعلى الرغم من كل حضورها في المؤتمرات، أو إبرامها للمعاهدات، لأن في ذلك التمثيل أو الحضور، وفي هذا الإِبرام، ما يبقى خفياً عنها، وعاملاً ضد مصالحها أكثر مما هو ظاهرٌ لها، أو هي مطلعة عليه!..
فهل آن الأوان بعد هذه الرؤية الواضحة، أن يستيقظ المسلمون، كلُّ المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، من سُباتهم العميق، ويفيقوا من غفلتهم الطويلة، حتى يستعيدوا الثقة بأنفسهم، ويصلوا ما بينهم وبين ماضيهم المجيد، وعزهم السالف، وأيامهم الميمونة؟!.. والسبيل الوحيد - الذي نكرّر التذكير به ونؤكده - هو الرجوع إلى الله جلَّ شأنُه!.. وليكن التذكير وللتذكير فقط، أن الإنسان، مهما عمل في هذه الدنيا، فهو ميِّتٌ في نهاية عمره، وهل ينفعه شيء بعد الموت، إنْ كان قد قطع في دنياه الصلة بأمّته الإسلامية وبربه العليّ العظيم؟!.. وعمل ضد دينه، وإخوته المسلمين إلى أيِّ مذهب انتموا، وفي أي بلدٍ أقاموا؟!
لا! لم تصل الأمور بعد إلى درجة اليأس، فتباشير اليقظة تلوح في الأفق، والوعي بدأ يدبُّ في العالم الإِسلامي، مبشراً بفجر جديد، وبمطلع من مطالع النور لهذه الأمة الحائرة في أمرها. والحيرة أيتها الأمة الكريمة هي الظلام الدامس بعينه، وهي التي تأخذ بيد صاحبها إلى ساحة التردد لإبعاده عن جادة الهداية.. فعلى المسلمين، وقد أنعم الله (تعالى) عليهم بنور الهداية، أن يضيئوا قلوبهم ودروبهم بهذا النور، فيُخرجوا أنفسهم من الظلمات التي تحيق بهم، ويعودوا إلى دينهم، وما أودع الله (تعالى) فيه من ذخائر القوة والعزة والسعادة، وبذلك تكون لهم القوة بعد الضعف، والعزة بعد المذلة، والسعادة بعد الشقاء. حقق الله أماني المسلمين، وجعلهم من الواعين، المدركين، وهدانا جميعاً إلى الصراط المستقيم.
ولئن كان هذا الربط بين ماضينا وحاضرنا ضروريّاً نحتاج إليه لإحياء روح اليقظة فينا، فإن سيرة خاتم الأنبياء، محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تبقى ذخراً حيّاً لنا، نستمدُّ منها الإِلهام والعبر، والنهج والطريق، في كل ما نحتاج إليه، وما نتطلع له.. ولقد أظهر محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يفوق حدَّ التصور من عمق الإدراك والوعي، وحسن السياسة والتدبير، وصدق العزمِ في تحمل المسؤولية أثناء حنين والطائف - وقبلهما وبعدهما - وهو ما مكَّنه من إعادة ألوف المسلمين وثنيهم عن الهرب والفرار من المواجهة والقتال، وكلُّهم راضٍ مطمئِنُّ القلب، يعظّم الله سبحانه وتعالى، ويصلّي على رسوله الكريم..
وبعد هذه النظرة السريعة التي حاولنا فيها الوصل ما بين ماضينا وحاضرنا، نعود إلى مجرى الأحداث فنجد أنَّ الرسولُ الأعظمُ ظلَّ في الجعرانة فترة من ذي القعدة. ثم خرج منها إلى مكة معتمراً. فلما قضى عمرته، ثبّت كُلاًّ من عتاب بن أسيد في استخلافه على مكة، ومعاذ بن جبل فقيهاً بين الناس.. ثم عاد بعد ذلك، ومعه الأنصار والمهاجرون، إلى المدينة لست ليالٍ بقين من ذي القعدة سنة ثمانٍ للهجرة.
أجل، لقد رجع رسولُ الله إلى مدينته، مطمئنّاً إلى تأييد الله - سبحانه وتعالى - له بالنصر المؤزر، الذي حققه في تلك المسيرة التاريخية، التي جعلت شبه الجزيرة تكاد تكون برمّتها خاضعة لسلطان الإِسلام، أو على طريق الخضوع لهذا السلطان. ولقد قاسى الرسول والمؤمنون في تلك المسيرة كثيراً من العناء والمشقة، فحق لهم أن يخلدوا إلى فترة من الراحة، حتى يستعيدوا قواهم ويتحفزوا لوثباتٍ جديدةٍ يمليها عليهم واجب الدعوة، كما هو الحال في كل مرة كانوا يعودون فيها من سفر قاصد، وأداء واجب.
ولكن! من كان كمثل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يحمل على عاتقه أكبر تكليف نزل من رب العالمين، فهل يمكن أن يركن إلى الراحة؟ أبداً، وربما ينشد الخلوة بنفسه ولكن ليس للراحة والدعة، بل لكي يستجمع الأفكار، ويقوِّمَ الأعمال، ويرسم السبل التي تقوّي صروح الإِيمان، والطرق التي تدعّم أركان الدولة، فتنطلق الدعوة إلى آفاق جديدة، وإلى بقاعٍ لم تطرقها خارج حدود شبه الجزيرة..
وهذا فضلاً عن أنّ تلك السكينة التي كان ينشدها سيدُنا رسولُ الله، تبقى في جميع أحوالها، سكينة المعرفة التي تتلقى الوحي، وهدأةَ التفكير التي تدرس الماضي وعِبَره، وبساطةَ العيش التي ترتقب المستقبل وتطلعاته، وتعدُّ له عدته.. وحقيقة هذه المعرفة[*] بشموليتها واتساعها، وفي جوهر ما تحتويه من أمور الدنيا، وأخبار الآخرة، إنما كانت دائماً وأبداً قبساً روحانياً يهبه الله تعالى إلى نبيه الكريم، ومنهجاً عملياً يرشد به رسوله العظيم.. ذلك أن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يحيا بالقرآن وحْياً وتنزيلاً، وتوجيهاً وعملاً. فعن طريق علم اليقين جاءته الرؤية الصادقة والخبر اليقين من ربه تعالى بفتح مكة. وبمقتضى معرفته الملْهَمَة بهذا الفتح عقد معاهدة الحديبية التي اعتبرها بعض الصحابة جائرة بحقوق المسلمين، حتى إذا كان الموعد وتحقق الوعْدُ الصدق، ودخل النبيّ والمؤمنون إلى مكة في عمرة القضاء، كان ذلك عين اليقين . فلما دانت مكة بالإِسلام، ومورست فيها شعائره، وطبقت أحكامه، كان ذلك هو حق اليقين .. فتلك المعرفة القائمة على التوجيه الربَّاني، وعلى الهدى القرآني، هي التي قادت خطى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أعظم مسيرة عرفها التاريخ البشري، فانطلق يرسي للحياة أسساً جديدة لم تعرفها من قبل، واندفع يغرس في النفوس حقائق لم يألفوها فيما سلف، حتى جعلَ الناسَ تقرُّ حقاً بسموِّ الرسالة التي يحمل، وبصدق الدعوة التي يبلِّغ.. ولقد بلغ تأثير الإِسلام في الناس حدّاً، جعل بعض القبائل في شبه الجزيرة تقبل على المدينة راضية مختارة، لتدخل في الدين الجديد، ولتقدِّمَ الولاء للرسول العظيم.
إسلام بني طيء
ومن تلك القبائل التي قدِمت المدينة كانت قبيلة طيء (التي اشتهر منها حاتم الطائي بكرمه). فقد جاء أشرافُها، وعلى رأسهم يومئذٍ سيدهم زيد بن مُهَلْهِل بن زيد الطائي، ويُدْعى «زيد الخيل»[*]، فأقبل على النبيِّ يحدثه، فأحسن الحديث وأجاد في إتقان أدب الموقف بين يديه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال له الرسول: «ما ذُكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلاَّ رأيتهُ دون ما يقال فيه إلاَّ زيد الخيل فإنه لم يبلَّغ عنه كلُّ ما كان فيه». ودعاه «زيد الخير» بدلاً من «زيد الخيل».
ولقد أقطعه النبيُّ مكاناً يدعى فَيْداً ومعه أراضٍ، وكتب له كتاباً بذلك. وكان ذلك الإِقطاع - فيما يظهر - إقطاع منفعة، لاستخراج المعادن والزيوت، وزرع كلِّ ما يُصلحُ الأرض. وكان النبيّ يفعل ذلك في الأراضي النائية عن المدينة، ليُمَكِّن الناس من استغلالها، واستخراج الثروة من باطنها. فكان منهم من يُعطى الأرض لقاء أجر، ومنهم من يكون إعطاؤه على سبيل تأليف القلوب.
وخرج «زيد الخير» راجعاً إلى قومه كي يدعوَهم إلى الإِسلام. ولكنه مات بالحمّى عند ماءٍ من أرض نجد يقال له فردة. فعمدت امرأته بعد موته إلى الوثائق التي كتبها رسول اللّه لزوجها فأحرقتها جميعها.. فلما بلغَهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما صنعت تلك المرأة، بعث في ربيع الثاني سنة تسع للهجرة، عليَّ بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) في مئة وخمسين فارساً إلى طيء، يدعوهم للإِسلام، فإن استجابوا أمَّنهم وعاهدهم، وإلاَّ غزاهم وحقَّقَ أمرَ الله - سبحانه - فيهم. ولم يأبَهْ بنو طيء، في بداية الأمر، لدعوة علي (رضي اللّه عنه) لهم الدخول في الإسلام، فشَنَّ عليهم غارةً عاجلة، انتهت باستسلامهم عند الفجر، فتقدَّم هو وفرسانه يهدمون صنمهم «العُلْس»، ويأخذونهم أسرى إلى المدينة، بينما استطاع ملكهم عديُّ بنُ حاتم الطائي - وكان على النصرانية - أن يفرَّ بأهله إلى بلاد الشام.
وكانت بين الأسرى ابنة حاتم الطائيّ نفسه، وتدعى سَفَّانَة. فاحتجزت مع السبايا بجانب المسجد النبوي، حتى مرَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتفقَّد أحوالهنَّ، فأعلنت عن نفسها، ورجَتْه أن يمنَّ عليها، وهي تقول: «يا رسولَ الله، هلك الوالد وغاب الوافد[*] فامنُنْ عليَّ منَّ الله عليك». ومثل هذا الرجاء أعادَ إلى ذهنِ الرسول سيرةَ والد هذه الأسيرة، وما كان يتحلّى به من سمعةٍ طيبةٍ بكرمه، وحسن ضيافته بين العرب، فأمَرَ على الفور بتسريحها من ضيق أسرها، إكراماً لشرف بيتها، وسماحة أبيها. ثم كساها كسوةً حسنة، وبعث بها إلى بلاد الشام حيث استقر المقام بأخيها عديّ.
وراحت سفَّانَة تحدث أخاها عن عفو «محمد» ورأفته بها.. فقال لها:
ـ وما تَرَيْنَ في هذا الرجل يا أختاه؟.
فأجابته: «أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإنْ يكن الرجل نبيّاً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تَذِلَّ وأنت أنت»[*]..
فقال: «والله إنَّ هذا هو الرأي».
و لم يلبث عدي بن حاتم الطائيّ أن ارتحل بأهله إلى المدينة، وأقبل على النبيِّ وهو في المسجد، فانطلق به النبي إلى بيته إيذاناً بالفضل وحسن المعاملة لمن يستحق الإِكرام من أصحاب البيوتات، التي فيها نسمات خير، وهي أَولى أن تنضوي تحت لواء الإِسلام العظيم.. فقال له الرسول: « يا عديّ بن حاتم! ما أخَّرك أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول اللّه هل من إله غير اللهُ؟ ما أخّرك أن تقول: الله أكبر؟ فهل من شيء هو أكبر من الله؟» فقال عديّ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللّه» فاستبشر الرسول بإسلام عديّ.[*]
موت زينب بنت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ويشاءُ الله سبحانه، أن تدخل على هذه الفترة من حياة الرسول سحابةٌ من الحزن الشديد، والألم العميق، إذ توفيت ابنته زينب (رضي الله عنها) بعد المرض الذي لم يفارقها منذ أن تعرّض لها مشركان خبيثان، يوم خروجها من مكة، وأجفلا بها راحلتها حتى وقعت أرضاً، فاعتلّت منذ ذلك اليوم، إلى أن وافتها المنية في هذه الفترة. وروي أنه لما ماتت زينب (سلام الله عليها) قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للنسوة: «اغْسلْنَها وتراً، ثلاثاً أو خمساً واجعلنَ في الآخرةِ كافوراً»[*] ونزل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قبرها وهو مهموم محزون، فلما خرج سُرّيَ عنه وقال:«كنت ذكرت زينب وضعفها، فسألتُ اللَّهَ - تعالى - أن يخففَ عنها ضيق القبر وغمَّهُ، فاستجاب - سبحانه - وهوَّن عليها»[*]. وقد أثَّر موت ابنة النبي في نفسه الشريفة أشدَّ الأثر، لما كانت تختزنه نفسُهُ الصافيةُ من مشاعر إنسانية، تفيض على القريب والبعيد.. فقد كان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رحيماً إلى أقصى غاية الرحمة، يشارك كل ذي ألم ألمه، وكلَّ ذي مصاب مصابه، فلا يترك في المدينة، ولا في أطرافها مريضاً إلاَّ ويعوده، ولا بائساً إلاَّ ويواسيه، يأسو جراح الكليم، ويريح قلب المتعب.. ومن هنا كان حزنه شديداً على ابنته، خاصة وقد فقد بوفاتها كل عَقِبٍ له، من ذكر وأنثى، إلاَّ ابنتَهُ فاطمة الزهراء وولديها الحسن والحسين (عليهم السلام جميعاً) فقد بقوا له قرّةَ عين، وحبّةَ فؤاد.
ولادة إبراهيم من السيدة مارية
ويشاءُ ربُّ محمدٍ الذي يرعاه من عليائه، أن يُدخلَ إلى نفس رسوله الأنسَ والمواساة، فيرزقه من السيدة مارية غلاماً، سمَّاهُ إبراهيم، تيمّناً باسم إبراهيم (عليه السلام) أبي الأنبياء، وصاحب الحنيفية السمحة. ولم تكن ولادة إبراهيم حدثاً عادياً، فأزواج النبي جميعهنَّ - بعد السيدة خديجة (عليها السلام) - لم يلدن له، على الرغم من أنه كانت فيهن الفتاةُ الفتية، والنَّصَفُ التي أعقبت من قبل. فعلى امتداد سنوات عشر من الهجرة، ظلت حياةُ النبيِّ خلواً من مولود جديد، حتى وُلد إبراهيم، فوجد فيه أُنساً لقلبه الكبير، وراحةً لنفسه الرضية.
ولقد أحبَّ رسول اللّه طفله إبراهيم (عليه السلام) حبّاً كبيراً. فكان يمرُّ كل يوم بدار السيدة مارية ليراه، وليزداد أُنساً بابتسامته البريئة الطاهرة، ومسرَّةً بنموّه وجماله، فيحمله بين ذراعَيْه، ويأخذه إلى زوجاته كي يَرَيْنَهُ، ويَرَيْنَ شبهه العظيم به. ولكنَّ هذا الحبَّ للطفل البريء، لم يُنسِهِ قطُّ واجباته تجاه أزواجه، بل ظلَّ يقوم على معاشرتهن بالمعروف، وبالرحمة التي عرفنها فيه، ضارباً في هذا العيش الكريم أعظم مثلٍ وأروعه في المعاملة والتربية التي يؤديها في بيته، كما يؤديها في أمته. وكان يقول: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».
بعض مآثر التربية المحمدية
ومن معالم هذه التربية أنه ما ظهر إنسان في التاريخ يأخذ بيد المرأة كي يعليَ من شأنها ويصلَ بها إلى بلوغ أسمى مكانة في حياتها كالنبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . فهذه - مثلاً - سلامة، حاضنةُ ابنه إبراهيم (عليه السلام) - كما روى عنها أنسُ بن مالك - أنها قالت: يا رسول اللّه، إنك تبشّر الرجال بكل خير، ولا تبشر النساء؟! قال: «أصويحباتك دسسنكِ لهذا»؛ قالت: أجل هنَّ أمرنني، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «ألا ترضى إحداكنَّ أنها إذا كانت حاملاً من زوجها، وهو عنها راضٍ، أنَّ لها مثل أجر الصائم القائم في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وإذا أصابَها الطلق لم يعلم أهلُ السماء والأرض ما أخفي لها من قرة عين»[*].
ولقد عبّر عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) عن هذه المكانة الرفيعة التي جعلها محمدٌ - الإنسان والنبي - لنسائه والتي لم تكن معروفةً قط عند العرب، إذ حدّث فقال[*]:
»والله لقد كنا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمراً، حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم. فبينما أنا في أمر أَأْتمره، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها:
»وما لك أنتِ ولِمَ ها هنا، وما تكلُّفُك في أمرٍ أريده؟» فقالت:
»عجباً لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تُراجَعَ أنت، وإنَّ ابنتك (حفصة) لتُراجِع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى يظلَّ يومَهُ غضبان»!..
قال عمر: «فأخذتُ ردائي ثم خرجت فدخلت على حفصة، فقلت لها: يا بنيّة، أإِنَّكِ لتُراجعين رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى يظلَّ يومه غضبان؟».
فقالت حفصة: «والله إنا لنراجعهُ».
فقلت: «تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله.. يا بنيّة، لا يغرّنك هذه التي قد أعجبها حسنُها وحبُّ رسول اللّه إياها».
ويتابع عمر حكايتهُ، فيروي:
ثم خرجتُ حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها، فكلّمتها، فقالت لي أم سلمة: «عجباً لك يا ابن الخطاب! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغيَ أن تدخل بين رسول اللّه وأزواجه»!. قال عمر:
«فأخذتْني أَخْذاً كَسرَتْني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها».
ولقد كان في تسامح محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع أزواجه ما يُضرَبُ به المثلُ الرفيعُ، حتى كان يقبل منهنَّ مراجعته في مختلف الأمور - كما رأيت ـ. ولكن هذه المعاملة، وإن كانت في جوّ النبوة، وفي بيوت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلاَّ أنها لم تكن لتقضيَ على المشاعر البشرية، والهواتفِ النفسية عند بعض الزوجات.. فقد كان يبدر منهن أحياناً، ما يثير النزاع بينهنَّ، مما لا بد أن يشجر في قلوب النساء الضرائر!.. فمن قبيل ذلك ما روي عن تعلق زوجاته به، وغيرتهن من بعضهن البعض..
فقيل: إن النبيّ كان يمكثُ عند زوجه زينب بنت جحش، ويشرب العسل. فاتفقت عائشة وحفصة على تنفيره وإبعاده عن زينب، وذلك بأن تقول أية واحدة منهما يدخل عليها: «أكلتَ المغافير[*]؛ إني أجد منك رائحة مغافير»[*]. وقد نفّذت إحداهما ما اتفقت عليه مع صاحبتها. فلما سمع النبي ذلك منها، فهَّمها أنه شرب عسلاً عند زينب بنت جحش ولعلَّه قد يحرّم على نفسه ذوق المغافير، إذ كانت على تلك السوء من الرائحة، أو لعلَّهُ يحرّم على نفسه عسلاً فيه بعض رائحة المغافير!..
فأُنزل عليه قولُ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التّحْريم: 1]. وهذه الرواية إنْ دلت على شيء فإنما تدل على المكانة الرفيعة التي جعلها النبيُّ لنسائه، حتى أجازَ لهن مراجعته بأيّ شيءٍ - إنْ أردنْ - صغيراً أو كبيراً، فكان يستمع إلى آرائهن، ويحافظ على مشاعرهنّ، لتكون التربيةُ العائليةُ التي يريدها، تربيةً سليمة، تقوم على احترام كيان المرأة، واعتبار شخصيتها.
وعلى الرغم من تلك المعاملة، في أرفع مستوياتها، وعلى الرغم مما ما كانت تفيض به من رفق وحنان قلَّ نظيرهما، فقد ظلت المشاعر البشرية تلجّ بأزواج النبي أعظم لجاج، حتى إذا زادَ هذا اللَّجاج، وبلَغَ حداً لا يجوز أن يَشْغَلَ به النبيُّ وقتَهُ، رأى أن يلقي عليهن درساً يكفل ردَّ الأمور إلى نصابها، ويبعد هؤلاء الزوجات عن تصرفات لا تليق بهنّ. فاعتمد لأجل ذلك الصرامة والحزم، وقرر هجرَهُنَّ، فإن نفع هذا الهجر وثُبْنَ إلى رشدهن فذاك، وإلاَّ متَّعهن وسرّحهنَّ سراحاً جميلاً.
وانقطع رسول اللّه عن نسائه شهراً كاملاً، لا يكلّم أحداً بشأنهنَّ، ولا يجرؤ أحد أن يفاتحه بحديثهنَّ. حتى نزل الوحيُ من الله العليم الخبير يبيّن بعض الجوانب التي كان يعيشها النبي مع أزواجه وذلك في قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ *إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ *عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا *} [التّحْريم: 1-5].
وأدركت أزواج النبي ممّن كُنَّ يُثرن شجاراً أو يأتين عتاباً، أو نكداً.. مقدار الخطأ الذي كن يوقِعْنَ أنفُسَهُنَّ فيه، فاستغفرن اللَّهَ تعالى، وتُبْنَ توبةً نصوحاً ألاَّ يرجعن إلى شيءٍ من مثل ذلك أبداً.. فاستوت الحياة في بيوتهنَّ تملأها بالسكينة. وهي السكينة التي يحتاج لها كل إنسان ليقدرَ على مواجهة الحياة، وتحمّل الأعباء، فكيف إذا كان مثلَ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يحمل أعظم رسالة، وأكبر أمانة من الله - سبحانه - إلى عباده في دنيا الأرض؟.
فما أروع الفترة التي يعيش فيها الناس مع ربهم تبارك وتعالى! وهذا الربُّ العزيز الحكيم يراقبهم في نجواهم، كما في علانيتهم. تسأله إحدى أزواجه: يا رسول اللّه! من أنبأك بأنني حدّثت بما أسرّيت لي؟ قال: نبَّأَنِيَ العليمُ الخبيرُ..
نعم، هذه هي الصورة الرائعة لعناية الله تعالى، هذه العناية الجليلة، التي تهدف لتسويةِ الأوضاع، وبيانِ حكم الله تعالى فيها، حتى يكون حكماً ثابتاً على الزمان، من لدنِ المدبّر الحكيم، الذي يحيط بكل شأن من شؤون الإِنسان، لأنه أقرب إليه من حبل الوريد.
وما أروعها صورة من الحياة البيتية للنبي الكريم، الذي كان ينهض بإنشاء أمة، وإقامة دولة على غير ما هو معروف في دنيا العرب، بل وفي دنيا الناس كافة، لكي تتكفَّل، من ثَمَّ، هذه الأمة بحمل أمانة العقيدة الإسلامية الكاملة، وتنشىءَ في الأرض مجتمعاتٍ تقوم على حكم الله تعالى فتكون الأسرة - السليمةُ من مختلف الأمراض والعاهات الاجتماعية - من مقومات حياة هذه الأمة..
وما أشرفها صورة من حياة إنسان عظيم، يزاول إنسانيته، في الوقت الذي يزاول فيه نبوَّتَهُ، فلا تفترق هذه عن تلك، لأن الله تعالى قد أعدَّه ليكون بشراً رسولاً، وليحمِّله الرسالة الأخيرة للبشر، والمنهج الثابت للحياة الإنسانية!.
وليست هذه الصورة في ترجمتها الحية إلاَّ حياةَ الرسول محمدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التي شاءَها الله سبحانه أن تكون كتاباً مفتوحاً يقرأه الجميع، وتراجعه الأجيال - جيلاً بعد جيل - فيكون له الأثرُ العميق في نفوس المسلمين، ليؤدوا واجباتهم العائلية من حيث التربية، والتوجيه، والتذكير، ولِيَقُوا أنفسهم وأهليهم من عثرات الحياة، وليأمنوا نار الآخرة وعذاب الجحيم.
ولا يختلف تسيير الأمور الذاتية في حياة النبي، عن إدارة شتى الشؤون العامة، التي كان يقود مسيرتها بوحيٍ من الله تعالى، والتي كان يهدف من خلال ممارستها - جملة وتفصيلاً - تزويد الناس بالإِيمانِ الراسخ، ومقاومةِ الظلم في مختلف وجوهه وجوانبه، ونبذ الشرِّ والباطلِ بكل صورهما وأشكالهما.. ليتحقَّقَ، مِنْ ثَمَّ، إشاعة الخير وإقامة العدل بكل معانيهما وآفاقهما.
وبفضل تلك المقوّمات الإسلامية، التي كان النبي والصحابة يَحيَونها ساعة بساعة، لم يطل الوقت حتى قامت دولة الإِسلام، بكيانها الفريد من نوعه، سواء على صعيد التكيّف الداخلي مع منهج الله (تعالى) أم على صعيد تطلعاتها الخارجية في نشر الإسلام بين قبائل العرب، وبين رعايا الروم والفرس أنفسهم، مهما كان للأمبراطوريتين الكبيرتين من سطوة وسلطان، على الرغم من أن الحكام فيهما، قد رفضوا دعوة الرسول للدخول في دين الله القيّم، وفرضت عليهم المصالحُ الشخصية ـ السياسية والاقتصادية والاجتماعية - إبعاد فكرة هذا الدين عن رعاياهم، بل وتخويف الممالك الصغيرة القائمة على تخوم شبه الجزيرة من التأثر بما يجري في داخلها.. وكانت سياسة الدولتين في الأصل، كلٍّ من طرفها، تقوم على منع قيام وحدة جامعة بين إمارات العرب وممالكهم الصغيرة. يساعدها على ذلك تخلّي القبائل عن فكرة قيام الكيان السياسي الذي يكفل إقامة الدولة على أراضيها. بل وكان هذا وراء بقاء عرب شبه الجزيرة، أحقاباً طويلة، على تلك التفرقة، فلا تهتم كل قبيلة إلا بشؤونها الخاصة، أو بإقامة تحالف مؤقت مع قبيلة أخرى، فضلاً عن العداوة الدائمة التي يفرضها شظف العيش، الذي يدفع إلى الغزو والسلب، مما أبعد كل فكرة لإِقامة الدولة ذات الكيان السياسي المستقل..
أما بعد أن قام الإسلام ووحَّد قلبَ الجزيرة في نجد والحجاز، تحت ظل دولته، وظهر ما قد يكون له من خطرٍ على كيان الدولتين الرومية والفارسية، فقد بات الأمرُ مختلفاً تماماً، ولا سيما بعدما تمَّ فتح مكة، وزالت قوة قريش التي كان الفرس والروم يرقبون - باهتمام - مناهضتها للدعوة الإسلامية واستمرار حربها عليها.. من هنا فقد أيقن الروم أن تلك الدولة الفتية لا يؤمَن خطرُها، وأنه لا بد من عمل سريع لدرء هذا الخطر قبل أن يستفحل أمره، معوّلين في ذلك على ما يتمتعون به من القوة والسيطرة، وما يمتلكون من الجيوش والعتاد، مما يجعلهم قادرين على تحطيم دولة الإسلام، والقضاء على كل فكرة لدى العرب ببقاء الدولة الجديدة، وقدرتها على الحياة.. وكانت أول بادرة منهم التهيئة لغزو بلاد العرب على الحدود الشمالية بما يحقق لهم أغراضهم.
واتصل برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبأ تهيئة الروم، وما أعدّوه من جيوش كثيرة، وأسلحة وفيرة يريدون بها غزو أرض الجزيرة، فقرَّرَ من جانبه مواجهة تلك القوة على عتوّها.. بل ورأى أن يذهب بنفسه، على رأس الجيش الإسلامي لمواجهة الروم.
غَزوَة تَبوك[*]
كان الوقت في فصل الخريف، وهو الزمن الذي تقوى فيه الحرارة في الصحراء حتى لتصبح أشدَّ من قيظ الصيف. ثم إنَّ المسيرَ من المدينة إلى بلاد الشام يستلزم أياماً عديدة، وقطع مسافات طويلة تقربُ من سبعماية كيلو متر. فضلاً عما يتطلب هذا الأمر من الجلَد والصبر، وما يحتاج له من المؤونة والماء.. فكان على رسول اللّه أن يأخذ هذه الأمور بعين التقدير والحسبان.. ولذلك قرّر، وأعلن للناس بوضوح، أنه يريد غزو الروم على حدود بلادهم. وذلك بخلاف ما كان يفعل في السابق، إذ كثيراً ما كان يورِّي في خروجه، ولا يفصح عن الوجهة التي يقصدها، حتى يحين الوقت المناسب فيُظهرَ الأمرَ لمقاتليه.. ونادى مناديه في المدينة، وفي القبائل من حولها جميعاً، يدعو للتهيؤ وحمل السلاح، كلَّ من استطاع إليه سبيلاً. ثم راح يحضُّ أهل الغنى واليسر على أن ينفقوا في سبيل تجهيز الجيش مما آتاهم الله تعالى من فضله، نظراً لما يحتاج له هذا الجيش من موارد كثيرة ومتنوعة.
وقد استُقبلت دعوة رسول اللّه للإِنفاق والتهيؤ استقبالاً متبايناً. فأما المؤمنون الصادقون، الذين امتلأت قلوبهم هدى ونوراً، فقد أقبلوا يلبون الدعوة خفافاً وثقالاً مسرعين، ومنهم الفقير الذي لا يجد في جيبه شروى نقير، ومنهم الغنيُّ الذي يضع ماله بين يدي رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) برضى وطيب خاطر.
وجاءَ أبو بكر الصديق بأربعة آلاف درهم، هي كلُّ ما يملك، فسأله النبي إن كان قد أبقى لأهله شيئاً، فقال أبو بكر (رضي اللّه عنه) : أبقيتُ لهم الله ورسوله.
لقد كان أبو بكر (رضي اللّه عنه) يرى أنَّهُ ينتمي إلى دولة الإِسلام، وهي التي تتكفَّل برعاية شؤونه، وشؤون أهله وعياله، فإن كانت دولته بخير، فإنما يكون هو ومن يكفل بخير، ولو كان لا يملك درهماً واحداً. أما إذا أزيلت هذه الدولة من الوجود، فإن أموال الأرض كلها وثرواتها، لا تفيده بشيء، لأنه بزوال دولته، يفقد الانتماء، ويصبح بلا هوية..
وهذا من المفاهيم الإسلامية التي كان الرسول الأعظم يغرسها في نفوس الصحابة الأبرار، ولذلك نظر أبو بكر الصديق إلى الأمر، من هذه الناحية، فوجد في بقاء دولة الإِسلام بقاءً للمسلمين، وفي زوالها ضياعاً لكيانهم الديني، والسياسي، والاجتماعي سواء على المستوى الفردي أو الجماعي..
أما من الناحية الإِيمانية والدينية، فإنَّ أبا بكر كان يؤمن بعهدة عياله إلى الله العظيم ورسوله الكريم، فهما خيُر كفيلَيْنِ وخير مُعينَيْنِ، ليس لأهله فحسب، بل ولكل إنسان على وجه الأرضِ إن سلَّم أمره لله سبحانه، وانضوى تحت لواء دينه القويم.
وتبقى نظرةُ أبي بكر الصديق ثابتةً بصدقها حتى يومنا هذا. ولئن أضاعَ المسلمون صدقَ الانتماء إلى الدولة الإسلامية، فإن أعداءهم قد أخذوا بمفهومِ الانتماء للدولة بحقِّه، وتمسكوا به دساتير وضعية لإنشاء الدول، وقيام المؤسسات الدستورية.. فمناحيم بيغن الذي كان رئيساً للوزراء في إسرائيل في مطلع الثمانينات من القرن العشرين الميلادي، قد صرّح على ملأ الدنيا أن دولة إسرائيل، هي لجميع اليهود في العالم. لأنه يرى أن الانتماء الصحيح لليهودي إنما يكون لدولة يهودية موجودة، دون أن يكون للجنسية التي يحملها اليهودي - أيّاً كانت هذه الجنسية - أيُّ أثر على هذا الانتماء. وبالفعل نشهد، والعالم بأسره يشهد، كيف أنَّ اليهود، في مشارق الأرض ومغاربها، يعملون على الدوام لمدّ دولة إسرائيل بكل مقوّمات العيش، وبكلِّ أسباب القوة، حتى تبقى محافظةً على وجودها، ويبقى لهم الانتماء الذي يدينون به لدولة إسرائيل..
ومثل أبي بكر الصديق فعل عبد الرحمن بن عوف، إذ تصدق بمائتي أوقية من الفضة، فلما سأله النبيُّ عما إذا كان قد ترك شيئاً لأهله، قال: نعم، أكثر مما أنفقت وأطيب. فقد تركت لهم ما وعَدَ اللّهُ ورسولُهُ من الرزق والخير.
وعلى مثل هذه الأريحيّة الإسلامية انبرى سائر المؤمنين الميسورين، ينفقون لتجهيز الجيش.. فقدم عثمان بن عفان ألف دينار، وثلاثماية بعير، وخمسين فرساً. وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله. وحمل العباس بن عبد المطلب مالاً كثيراً، قيل إنه بلغ تسعين ألف درهم. وقدّم عاصم بن عديّ كمية كبيرة من التمر قيل بلغت سبعين وَسْقاً (والوسق حمل بعير، أو في المكيال هو ستون صاعاً بحيث يزن الصاع ستة أرطال وثلث الرطل).. ولم يبخل المؤمنون الآخرون بما عندهم، أمثال: طلحة بن عبد اللّه، وسعد بن عبادة الأنصاري، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم، فقدّموا ما يقدرون عليه. وشاركت النساء في التجهيز، فكن يُلقين في ثوب مبسوط بين يديْ رسول اللّه ما بأيديهن من أساور وخواتم، وما في آذانهن من شُنوف وأقراط، وما بأعناقهن من عقود وقلائد..
نعم، على ذلك النحو المشرِّف والهادف كان اندفاع المؤمنين: كلٌّ يعطي بحسب قدرته، وما يريد به إلاَّ وجْهَ الله سبحانه وتعالى. فمن استطاع أن يجهّز غيره لم يتأخر، ومن لم يستطع اكتفى بتجهيز نفسه.
وأتى النبيَّ نفرٌ من المؤمنين الذين كانوا عاجزين عن الإنفاق لتجهيز أنفسهم، ومنهم من لم يجد دابةً يحمل نفسه عليها.. أجل، جاؤوا يسألونه أن يحملهم على ما عنده من الركائب، ولم يكن قد بقي ثمة دابةٌ واحدة بلا حيازة لمحاربٍ، فقال لهم: «ما أجد ما أحملكم عليه»، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً على ما فاتهم من شرف الجهاد، فسُمُّوا «البكائين». وكانوا سبعة من الأنصار هم: سالم بن عُمير، وعُلْبَة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن حُمام بن الجَموح، وعبد اللّه بن المغفَّل المزنيّ، وهَرَميّ بن عبد اللّه، وعِرباضُ بن ساريةَ الفزاريّ[*]. وفيهم نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ *} [التّوبَة: 92].
أما الذين دخلوا في الدين رغباً ورهباً - رغباً في مغانم الحرب، ورهباً من بأس المسلمين - فقد تثاقلوا، وراحوا يلتمسون الأعذار. فهذا مثلاً، الجَدُّ بن قيس، أحد بني سلمة، يقول له النبي وقد رآه غير مهتمّ بتجهيز نفسه: «يا جَدّ، هل لك العام في جِلاد بني الأصفر؟»[*]..
فقال: «يا رسول اللّه، أوَ تأذنُ لي ولا تَفْتِنّي؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ليس أحدٌ أشدَّ عُجباً بالنساء مني، وإني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يفتنَّني، فأْذن لي يا رسول اللّه».. فأعرض عنه رسول اللّه دون أن يجبيَهُ بشيء.
وفي الجَدّ وأمثاله من المعذِّرين، نزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ *} [التّوبَة: 49] وقوله تعالى: {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} [التوبة: 90].
ومن الذين لم يدخل الإِيمان في قلوبهم، جماعةٌ من المنافقين الذين رأَوا في شدة الحرِّ حجةً للتخلّف، فراحوا يؤلِّبون الناس، بل ويضحكون على المنهمكين بالاستعداد للخروج، وهم يقولون لهم: «لا تنفروا في الحَرّ».. وغايتهم الخبيثة أن يكوّنوا لدى الناس زهادةً في الجهاد، ومخالفةً لدعوة رسول اللّه إلى الخروج، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم قولَهُ العزيز:
{وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *} [التّوبَة: 81-82].
ورأى الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ ما يسعى إليه هؤلاء المنافقون إنما هو الفتنة بعينها، فأخذهم بالشدة، وضرب على أيديهم بكل قسوة. فلما بلغهُ أن جماعة منهم يجتمعون في بيت سُوَيْلم اليهودي لتدبّر وسائل التخذيل وتثبيط الناس، بعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، فحرَّق عليهم بيتَ سُويلم، مما كان له الأثر الحاسم في إسكاتهم، وإن ظلّت نفوسهم منطويةً على الدّس والتحايل..
وكان من الطبيعي أن يُنظرَ إلى مسيرة الجيش نظرةَ عُسر، لشدة الحرّ في حينه، وفي الوقت الذي نضجت فيه الثمار، فكان الناس يحبون الفيءَ في الظلّ، والدّعة في المقام، إلاَّ أن الدعوة للجهاد هي فوق كل الاعتبارات، ولا يمكن للمؤمنين إلاَّ الامتثال والتلبية فلا يقعدهم عن داعي الجهاد أيُّ داعٍ، ولو كانت الظروف غير مؤاتية إذ: {مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [التّوبَة: 120-121].
وعلى هذه النَّفحات القرآنية، خرج رسول اللّه بالجيش بعد أن أبقى في المدينة عليَّ بن أبي طالب، لأن المدينة دار هجرة الرسول والمسلمين، ولا يُؤمَن غدْرُ المنافقين بافتعال المؤامرات التي قد تؤدي إلى قلب الأوضاع، وانشغال الناس بالفتن الداخلية. ولذا لا ينبغي أن تُترك عاصمة الدولة خلواً من رجلٍ مثلِ عليٍّ (كرّم الله وجهه) لأنَّ وجودَه بذاته فيها يبقى مرهوباً يخشاه المنافقون[*]. ولذلك اختاره النبي للبقاء في المدينة حتى لا تبقى عرضة لاحتمالات شتى.. أما من ناحية عليٍّ، فقد أحزنه كثيراً عدم اشتراكه في هذا الجهاد، فأبدى حزنه لحبيبه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقول: «بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، أتخلفني مع النسوة والصبيان؟»، فطيّب النبيُّ خاطره وقال له: «قد خلَّفتُكَ لما تركتُ ورائي، فاخلفني في أهلي وأهلِكَ، أفلا ترضى يا عليُّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي[*]؟ إنه لا ينبغي في الظرف الراهن أن يبقى في المدينة إلاَّ أنا أو أنت». وأذهل هذا الأمر المنافقين وأهلَ الريب، فعلموا أنهم مراقبون من عليٍّ صاحب الزند والسيف الفتّاكَيْن، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وبذلك توارت من أذهانهم صورة الفتنة التي كانوا يمنّون النفس بإشعالها أثناء غياب النبيِّ، في ذلك الزحف الكبير من المسلمين خارجَ المدينة.
وتم ترتيب جميع الأمور، فكان خروج الجيش الإسلاميّ في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة، وعدّتُهُ ثلاثون ألفاً[*]، يتقدمهم عشرة آلاف فارس على رأسهم رسول اللّه بقيادته الحكيمة الرشيدة، وشجاعته النادرة، فانطلق في ذلك الزحف على بركة الله، وفي سبيل الله، ونصرة دينه...
ومرَّ الجيشُ الإِسلامي بالحِجْر، حيث بقايا أطلالٍ لمنازلِ ثمودَ، منقورةٍ في الصخر. فلما نزل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالناس أخبرهم بأنها ديار المعذبين، وقال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلاَّ وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم، ولا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضأوا منه للصلاة، ولا يخرجنَّ أحدٌ منكم الليلة إلاَّ ومعه صاحب له»[*]. وكان تحذيره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حرصاً على حياة الناس، لئلا يصيبَ الخوفُ والوهنُ بعض النفوس، وهم يتذكَّرون ما حلَّ بقوم ثمودَ من الهلاك، فيؤثر ذلك على مسيرتهم، ولأنَّ المكان تهبُّ فيه عواصفُ الرمال فتطمر الناس والإِبل. وبالفعل فقد خرج رجلان من بني ساعدة، أحدهما لحاجته والآخر في طلب بعير له، فطمرت أحدهما الرمال، واحتملت الريح الآخر. وقد عثر في الصباح على الأول فَنَجَا، بينما كانت طيء قد التقطت الآخر[*]، فعادت وأهدته إلى رسول اللّه بعد عودته إلى المدينة.
ثم إن رهطاً من المنافقين كانوا قد اندسّوا في الصفوف، ولا يعلم خفايا نفوسهم إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فكانوا يقولون للمؤمنين: «أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنّا بكم غداً مُقَرَّنِين في الحبال»[*]. وكانت غايتهم من ذلك، كما هو واضح «إرجافاً وترهيباً للمؤمنين». ولعلَّ مقالة هذا الرهط قد بلغت الرسول فدعا إليه عمّار بن ياسر وقال له: «أدركِ القومَ قد اخترقوا[*]، فَسَلْهُمْ عما قالوا، فإن أنكروا، فقل: بلى، قلتم كذا وكذا».. فانطلق إليهم عمّار، يحذرهم من المكر، ومن الفتنة التي يديرونها بين أفراد الجيش، فأدركوا أنه قد أوحي بأمرهم إلى رسول اللّه، فأتوه يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، وهو آخذ بحبل ناقة رسول اللّه: «يا رسول اللّه، إنّما كنا نخوض ونلعب». فنزل فيهم قرآنٌ عزيزٌ بقوله عزَّ وجلَّ: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ *وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *} [التّوبَة: 64-65].
ثم مضى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على رأس جيشه، ومقصده تبوك. وكان السير، كما كان مقدراً، شاقاً وعسيراً، فقاسَوْا في السفر مشقة بالغة، وعنتاً شديداً. ولقد قويت حاجتهم إلى الماء، فأصابهم عطش شديد، حتى قيل إنهم كانوا ينحرون الإِبل، التي هم بأمسّ الحاجة إليها، فينفضون أكراشها ويشربون ماءها.
وليس من عجيب، وفي اجتماع هذه المشاقّ من نقص في الزاد، ولاسيما في الماء، ومن شدةٍ في القيظ، وطول المسافات أن يدعى الجيش الزاحف إلى تبوك «جيش العسرة». ولكنه كان في الحقيقة سفراً قاصداً إذْ تتبدّى فيه مشيئة الله - سبحانه وتعالى - امتحاناً للقلوب لكي يمحّص المؤمنين، ويُظهِرَ المنافقين على حقيقتهم. ولقد تميّز - فعلاً - المؤمن صابراً، صادقاً، متشوّقاً للقتال في سبيل الله تعالى، بينما بدا المنافق، الذي يتظاهر بالإِيمان، خائر العزيمة، واهن القوى، يتسلل من وراء الصفوف، ليرجع إلى المدينة، فيقعد مع المتخلفين.. وكان كلما تخلَّف رجل يقولون: يا رسول اللّه، تخلف فلان، فيقول: «دعوه، فإنْ يك فيه خير فسيُلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
وكان أبو خيثمة مالك بن قيس، (من بني سالم بن عوف)، قد سار مع رسول اللّه بضعة أيام، فلما اشتدَّ عليه الحرُّ رجع إلى أهله، فوجد امرأتين له، في عريشين لهما ببستانه، قد رشّت كل منهما عريشها، وبرّدت الماء، وهيأت الطعام. فلما دخل الرجل، ورأى هذا الجوَّ الرّطب الهانئ، تراءى له رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والحالةُ التي يمكن أن يكون عليها في سفر الصحراء، فقال: «رسول اللّه في الضِّحّ (الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظلٍّ باردٍ، وطعامٍ مهيّأٍ، وامرأةٍ حسناء، في ماله مقيم، - لا يَنْقُصُهُ شيءٌ من متاع الدنيا - ما هذا بالنَّصَف»[*]. ثم أقسم ألاّ يرتاح في عريش واحدةٍ منهما، حتى يلحق برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يرغب بنفسه عن نفسه.
واحتمل أبو خيثمة زاده، ثم ركب بعيره، وراح يجدُّ في طلب رسول اللّه حتى أدركه وقد نزل تبوك.
وقد افتقد الناسُ في الطريق أبا ذرٍّ الغِفاري، جندب بن جنادة، فتعجبوا أن يكون من المتخلفين، وهو من عُرف بحبه لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحبِّ الرسول له.
وكان بعيرُ أبي ذرٍّ قد تعب ولم يعد قادراً على أن يلحقَ بالركب. فلما رآه أبو ذر على هذه الحالة تركه، وأخذ متاعه، فحمله على ظهره، ثم انطلق يتبع أثر الجيش ماشياً. وكان رسول اللّه قد نزل في بعض منازله، فنظر رجل من المسلمين، وقال: يا رسول اللّه، أرى رجلاً يمشي على الطريق وحده، فقال رسول اللّه: «كن أبا ذرّ». فلما قرب، وعرفه الناسُ، قالوا: «يا رسول اللّه، هو والله أبو ذر». فقال رسول اللّه: «يَرحَمُ الله أبا ذرٍّ، يَمشي وحدَه، ويَموتُ وحدَه، ويُبعثُ وحدَه»[*]. وتنقضي السنون، فتأتي مصدِّقةً لإلهام رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
هذه صورة حيَّةٌ عن بعض أولئك المؤمنين أمثال: أبي خيثمة، وأبي ذرّ، الذين نذروا أنفسهم للدعوة، مهما كانت الصعاب، وكيفما كان المصير.
ونزل جيشُ المسلمين تبوك، حيث أقاموا معسكَرَهم دون أن يظهر أثر لعدوهم.. ذلك أن الروم كان قد بلغهم أمر مسيرة «محمد» إليهم، وما هو عليه جيشه من كثرة العدد، والمناعة والقوة. وكأنَّما غلبت على أذهانهم مشاهد «مؤتة»، وما رأوا من استبسال المسلمين، وقدرتهم على الصمود، فأدركوا أنه لا قِبَلَ لهم بمواجهة هذا الجيش الذي يزحف من بلاد الصحراء نحوهم، لأنه سوف يكون بنفسِ الروحيةِ والمناقبيةِ التي رأوا جيشَ مؤتة عليها. فكيف إذا كان يفوقه عدداً وعدة وبقيادة «محمد» نفسه؟! ولذلك آثر الروم الانسحاب إلى داخل بلاد الشام، حيث استقرَّ هرقل وجيشه في حمص، ليقيموا المعاقل والدفاعات دون الذهاب إلى حرب المسلمين وقتالهم في الفلاة، أو على الرمال الحارة التي قد تشكّل عقبةً لهم، بينما قد تكون عوناً للمسلمين الذين اعتادوا بيئة الحرِّ والرمال..
ويبدو أنَّ خِطّةَ هرقل كانت تقوم على عدم التقدم إلى تبوك، حيث نزل المسلمون، من أجل استدراجهم إلى داخل بلاده، ولذلك نشر جيوشه في عدة مواقع تمكّن من الانقضاض عليهم إذا ما حاولوا التوغل في أرض بلاد الشام.. هذا في حين أن خِطَّةَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت تقوم على المكوث في تبوك، دون تعدِّيها إلى أماكنَ أبعد منها، مكتفياً بما أنعم الله تعالى عليه، وعلى المسلمين من انتصارٍ معنويٍّ على بيزنطية التي فرَّت جيوشها من المواجهة، للاحتماء وراء دفاعاتٍ تدلُّ على ما وقع في قلوب حكامها وجيوشها من رعبٍ!. فكان ذلك فضلاً من الله (تبارك وتعالى)، يزيدُ من نعمائه التي أفاضها على عباده المخلصين، وهم يقودون مسيرة الإسلام، ويحققون النصرَ تلو النصر - الذي أعزَّهم به رب العالمين - للقضاء على الوثنية.
واكتفى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنزول في حصن تبوك، إذ لم يرَ مبرراً لتتبّع الروم إلى بلادهم مع تعب جيشه ووصبه، طالما أنه قهرهم بالرعب والخوف، قبل أن يقهرهم بالقتال والحرب، وطالما أنه أدخل في روعهم أن بلادَ الإِسلام لن تكون لهم لقمة سائغة كما يتوهمون، بل هي حصينة بإيمان أبنائها، منيعة بقوة دينها، عزيزة بسلطان دولتها.
وأقام رسول اللّه عند الحدود، يفكِّر في السبل التي تضمن عدم تخطِّيها من الأعداء إلى الداخل، فبعث بالرسائل إلى أمراء القبائل، والمقاطعات المجاورة، وكلها تدين لحكم الروم، أمثال أهل الجرباء، وأهل أذرح، ويوحنّا بن رؤبة، صاحب أيْلة[*]، وفيها يدعوهم إلى الإِيمان والإِذعان لسلطته، فقبلوا أن يقدموا له الطاعة، ويصالحوه على الجزية، فكتب لهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتبَ أمانٍ، كما يستدل على ذلك من نصّ كتابه إلى يوحنّا بن رؤبة:
بسم الله الرحمن الرحيم
»هذه أمَنَةٌ من الله ومحمدٍ النبي رسول اللّه ليوحنّا بن رؤبة وأهل أيْلة، سفنِهم وسيّارتِهِم في البر والبحر: لهم ذمة الله، وذمة محمدٍ النبيِّ، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر. فمن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيِّبٌ لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحلّ أن يُمنَعوا ماءً يردونه، ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر»[*].
وكان رسول اللّه أثناء إقامته يتحسَّب لأُكَيْدر بن عبد الملك الكنديّ النصراني، أمير دومة الجندل[*] ومعاونته لجيوش الروم، إن جاءت من ناحيته. ولذلك بعث إليه خالد بن الوليد في خمسمائة فارس..
وخرج خالد على رأس هذه السَّريَّة، وأسرع بالانقضاض على دومة الجندل، في غفلة من مليكها، الذي خرج في ليلة مقمرة مع خَدَمِه، ومعه أخ له يسمى حسّان لاصطياد بقر الوحش، فلاقتهما خيل رسول اللّه، وأخذتهم أَسرى دونَ أية مقاومة، إلاَّ ما بدر من حسان، فإنّ مقاومته أدَّت إلى قتله..
وفتحت دومة الجندل أبوابها حفاظاً على حياة ملكها، فدخلها خالد، وساق منها ألفي بعير وثمانمائة شاة وأربعمائة وسق من بُرّ وأربعمائة درع. وحمل معه أكيدر ليلحق برسول اللّه في المدينة، بعد عودته من تبوك التي أقام فيها نحو عشرين ليلة.
ومَثَلَ أكيدرُ الكندي بين يَدَيْ رسول اللّه، فعاقده على الطاعة، وتقديم الجزية، ثم خلّى سبيله، فرجع إلى قريته[*].
وكان أكيدر، عندما قدمَ إلى المدينة يلبس ثوباً من ديباج، مزركشاً بالذهب. وقد لفت هذا الثوب أنظار بعض الصحابة لشدة ما كان يتميّز به من دقة الصنع، وندرة الحبكة والتطريز، فراحوا يتلمسونه بأيديهم، فنهاهم رسولُ الله عن ذلك، لأنه في الحقيقة، لا يعدو عَرضاً من أعراض الدنيا الزائلة، التي قد تطغى على كيان الإِنسان، فتنحرف به عن ميزاته الإِنسانية، وتفرغه من جوهر خلقه.
نعم، لقد أبى رسول اللّه على الصحابة حتى الإِعجابَ بثوبٍ موشَّى بالذهب، لئلا تستبدّ بهم الرغائب والأهواء الدنيوية وهي متاعٌ قليلٌ إلى زوال.. في حين أن النعيم الأخروي أبدي لا يزول، وجنة الخلد لا تفنى، فجاءهم النهيُ بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «أتعجبون من هذا! فوالذي نفسي بيده، لمناديلُ سعد بن معاذ في الجنة أحسنُ من هذا»[*].
ومما يجدر ذكره في هذا المقام بعض الأحداث الهامة التي رافقت مسيرة العودة من تبوك، والتي تشكِّل آياتٍ من الله سبحانه وتعالى على يديْ نبيه الكريم حتى تبقى عظات في التاريخ الإسلامي، تدلُّ على سموّ النبوّة، وكرامات النبي. فما إن بلغ الجيشُ وادياً يقال له المشقق، وكان العطش قد أخذ منه كل مأخذ، حتى أسرع بعض أفراده إلى ماء هناك يخرج من وَشَلٍ[*] ولا يكاد يكفي لِيَبُلَّ الناس ريقهم، ولذلك أمر رسول اللّه ألاَّ يسبق أحدٌ إلى الماء فيستقيه، قبل أن يأتوه. ولكن يبدو أن ذلك النَّفر من المنافقين، تعمّدوا استباق الجيش إلى الماء الذي تجمع في جُرْنٍ[*] تحت الوشل فشربوه، ولم يبق منه إلاَّ القليل. فأسف الرسول الكريم لهذا الفعل الذي يخالف روح الجماعة وتعاونها، إذْ كان الجيش كله بحاجة للماء، والواجب يقضي بأن يبلَّ كلُّ واحدٍ ريقه ولو بغرفة من يده، لا أن يرتويَ عدد قليل، ويُتركَ الباقون عطشى، مما يدلُّ على شدّة الأثرة في نفوس أولئك المنافقين، وتنكّرهم لروح الجماعة، وبُعدهم عن أي مفهوم لتقديم المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية، فحق أن ينالوا غضب رسول اللّه ودعوته عليهم.
ونزل الرسول عن راحلته، يضع يديه المباركتين تحت الوشل ثم ينضحه بمائه، ويمسحُ عليه، وهو يدعو الله تعالى بدعائه النبوي الذي تتفتَّقُ له الحجب وتحمله الملائكة الكرام إلى حيث ينبغي أن يُحمل، فإذا بالماء ينبجس من الحَجَر، بقوةٍ، فيشرب الناس ويرتوون، ثم يحملون حاجتهم منه ويرتحلون..
ومن تلك الأحداث أيضاً التي رافقت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في طريق عودته من غزوة تبوك، ما رواه عبد اللّه بن مسعود، عن موت أحد المؤمنين الصادقين. قال: «قمت من جوف الليل، فرأيت شعلةً من نارٍ في ناحية المعسكر، فاتَّبعتها أنظر إليها، فإذا عبد الله ذو البِجَادين[*] المزنيّ قد مات. وقد حملَهُ رسول اللّه وأبو بكر وعمر، فحفروا له، ثم نزل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حفرته وهو يقول: «أدْنِيا إليَّ أخاكما»، فدلّياه إليه، فلمّا هيأه لشقِّه، قال: اللهم إني أمسيت راضياً عنه، فارضَ عنه». فيقول عبد اللّه بن مسعود: «يا ليتني كنت صاحب الحُفْرة»[*]. فيا لصحابةِ خاتم أنبياء الله (صلوات الله عليه وآله وسلم) الذين يبدون في كل مناسبة أحبّاءَ، مطيعين لله ورسوله، حتى أنهم يتمنَّوْنَ الموت بين يديه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونيل رضاه!!
هدم مسجد الضرار
وتابع رسول اللّه العودة بجيشه إلى المدينة حتى نزل بـ «ذي أوان» وهو بلد على مسافة ساعة من المدينة، وكان جماعة من المنافقين بنوا فيه بنياناً اتخذوه في الظاهر مسجداً، بينما جعلوه في الخفاء وكراً للتآمر على المسلمين، يجتمعون فيه ويحاولون أن يحرِّفوا كلام الله - تعالى - عن موضعه، حتى أنّ بعضهم كان يقول لبعض: «ابنوا مسجدكم، وأعدُّوا ما استطعتم من قوةٍ ومن سلاحٍ، فإنَّا ذاهبون إلى قيصر، لنأتيَ بجنده من الروم ونخرجَ «محمداً» وأصحابه».
وكانت تلك الجماعة قد عقدت العزم على تنفيذ مؤامرة كبيرة تهدف إلى احتلال المدينة. وكان اعتمادها فيما تبيِّتُ من الغدر، على الظنّ بأنَّ المسلمين سوف ينهزمون لا محالة، لأنَّ لقاءَهم للروم سوف يكون شديداً عليهم، وليس لهم قدرة على قتالهم، فتنزل بهم المصيبة، ويذهبون أشتاتاً ويفرُّون ضعافاً. فيكون أولئك المنافقون قد أمّنوا، أثناء ذلك، الاتصال بالروم، وقدموا بهم إلى المدينة لاحتلالها!..
وقد جاءت الأحداث تكذّب أوهامَ تلك الجماعة، وتذهب بأباطيلها ورجس شياطينها أدراج الرياح، عندما عرفت أن الروم، الذين عوّلت عليهم في القضاء على المسلمين، قد فروا من المواجهة، وآثروا الانسحاب إلى داخل دساكرهم وحصونهم.
أما التعمية التي رأت تلك الجماعة استخدامها حول بنيانها الذي ابتنته، فهي قدوم نفر فيها إلى النبيّ، في الوقت الذي كان يجهّز جيشه للخروج إلى تبوك، وهم يقولون: «يا رسول اللّه، إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية. وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي فيه»!!.. وغاية هؤلاء المتآمرين من أهل النفاق أن تكون صلاة النبي في المكان الذي زعموه مسجداً، نوعاً من التمويه على المسلمين بشرعيته!. ولكنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طلب منهم التريث لحين عودته، مبدياً أنه على جناح سفر، وحال شغل، ولو رجع، فسوف يقوم بما يشاء الله تعالى له ويريد. فلمّا كان نزوله بـ«ذي أوان»، أتاه الوحي بأمر المسجد وبنائه ضراراً، وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين. عندها دعا إليه مالك بن الدُّخْشُم - أخا بني سالم بن عوف - ومَعْنَ بن عَدِيّ - أخا بني العجلان - وأمرهما بأن ينطلقا إلى ذلك «المسجِدِ»، الظالِمِ أهلُهُ، فيحرّقانه عليهم ويهدّمانه..
ولقد سُمِّيَ هذا المسجد، الذي أُسس بنيانه على الكفر والضرر، مسجدَ الضِّرار، وفيه وفي الجماعة التي ابتنته نزل قول الله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ *أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [التّوبَة: 108-110].
وعادَ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد هدم «مسجد الضرار» إلى مدينته المنورة، فخرج الناس إلى ثنيّة الوداع يتلقَّوْنَهُ بالتهليل والتكبير، فرحين بما آتاهم الله تعالى من فضله، وبما أحاطهم به من نِعَمِه، إذ أعادَ إليهم الرسولَ العظيم، والجيشَ الإِسلاميَّ المظفر، تحفُّ به رايات النصر خفّاقة، وتحيط به ألوية العزّ عالية، من أعسر مسيرة، وأشق سفر، وأعظم غزوة شهدتها الجزيرة حتى ذلك الحين.
القرآن يكشف السلوك البشري
واستراح نبيُّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ظلال هذا الفيء من ربه تبارك وتعالى، ليستقبل الوحي، يأتيه بآيات منزلات، تبيِّن أحوال الناس في المجتمع الإِسلامي، وما تنطوي عليه سرائرهم، سواء بالنسبة إلى بعض القضايا السابقة على غزوة تبوك، أم أثناء تلك الغزوة أو بعدها.
فقبل فتح مكة كان النفاق قد شارف على الزوال من المجتمع الإِسلامي، إلاَّ أنه بعد هذا الفتح، وبدخول جماعات كثيرة في الإِسلام، عادَ النفاق معها يستشري، وحاول أهلوه العملَ على هدم البنيان المتين، الذي أقيم مدعَّماً بالصدق والإِيمان. فجاءت الآيات القرآنية تفضح أفاعيل المنافقين، وتصوّر أحوالهم النفسية والسلوكية، في حملة طويلة تكشف عمّا كان لهم في تلك الفترة من محاولات كثيرة لإِيذاء الصف المسلم وفتنته، وتحويله بشتى الدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي الذي آل إليه ذلك المجتمع بعد دخول الجماعات المنافقة بين صفوف أبنائه، وهي على ما هي عليه من النشوز عن جادة الحق، الذي يبقيها بعيدةً عن الطابع الإِسلامي الصحيح.
وهكذا يبدو من سياق آيات سورة التوبة، ولا سيما من الآية الثامنة والثلاثين إلى آخر السورة، أنّ في المجتمع الإِسلامي فئاتٍ متعددة:
فئة السابقين المخلصين، من المهاجرين والأنصار، وهم الذين يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية. وهؤلاء قد عاهدوا الله ورسوله على الحق، ونذروا أنفسهم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فنزلت الآيات تبين فضائلهم، وبخاصة في تلبية دعوة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والخروج معه في جيش العسرة، مهما كانت المصاعب والمشاق التي تعترضهم، وأياً كانت المسافات أو المخاطر التي تنتظرهم. إنهم لا يتقاعسون عن أداء الواجب، ولا يبخلون بأيِّ عمل أو جهد، طالما أنه يخدم الغاية الكبرى التي هي رضوان الله تعالى، والهدف الأسمى الذي هو إعلاء كلمة الله - عزَّ وجلَّ - وجعلها هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وإلى جانب أولئك الأولين الصادقين، كانت على خلافهم، الجماعاتُ الأخرى من المنافقين والأعراب الذين أسلموا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم. فمن هذه الجماعات كان أهل النفاق في المدينة، وآخرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لأنهم لم ينصهروا في بوتقة الإِسلام انصهاراً تامّاً. وهنالك طائفة مجهولة الحال، كانت تخفي حقيقتها، وإن كان أمرها لا يخفى على الله سبحانه وتعالى. يُضاف إليهم جميعاً المتآمرون على الدين، المتسترون باسمه.
في هذه الفئات نزلت آيات «سورة التوبة» تفضح فعالهم المنكرة، ثم تحمل عليهم حملة شعواء مليئة بالوعيد والتهديد بسوءِ ما ينتظرهم من عقاب شديد، في نار جهنم، جزاءً لما كانوا يعملون.
ومن خلال عرض السياق القرآنيّ لأحوال المنافقين - مما نشهده في حياة الناسِ في كل زمان ومكان - يبدو جليّاً أن النفاق لا يولد مع الإِنسان بل يكتسبه في حياته. وقد تدفعه إليه عوامله النفسية، وتشدُّهُ - حتماً - إليه أعمالُهُ الدنيوية!..
فالإِنسان، وبوصفه فرداً وسط جماعة، عليه الالتزام بواجبات معينة تكون - عادة - في مصلحة الجماعة. فإذا انفلت من أداء هذا الالتزام، أو أهمل القيام به، أَو امتنع عن تنفيذ ما يُطلب إليه بحق وعدل، فحينها يكون النفاق قد دخل إلى قلبه، ومع الزمن يصبح طبيعةً ثانية متأصلةً فيه، تتحكّم بتصرفاته، وتسيّر خطاه.. ذلك أن من يخالف التزاماته الخاصة والعامة، لا بد أن يختلق الأعذار الكاذبة لذلك، فيغدو كاذباً. ثم يتمادى في الكذب، فلا يعود يَصْدُقُ في قول ولا في فعل، حتى يغدو خائناً لنفسه ولمحيطه. ومع الأيام يستمرئ ما قام به، فتحلو له أكاذيبه، ويستسيغ طعم خيانته، حتى يصير منافقاً، يمارس أي أسلوب من أساليب المراوغة والاحتيال، ويسلك أي طريق من طرق الالتواء والتلاعب. وهكذا يكون النفاق مرضاً، أو علّةً يكتسبها الإِنسان من جراء أقواله وأفعاله. وصدق رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث يقول: «صفات المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا أؤتمن خان»[*].
فحذار أيها الناس، وحذار أيها الإِنسان المسلم من النفاق. فَمَثَلُ الذين مردوا على النفاق، كمثلِ أبليس مرَدَ على مخالفة أوامر الله (تعالى) حتى أعقبه الله حرمانَ التوبة، بأنْ سُلِبَ منه التفكيرُ بها، أو السؤالُ عنها.. فهو على الضلال قائم، وعلى البغي والفساد دائم، إلى أن يكونَ يومُ الدّين.
وهل يقبل الإِنسان أن يكون مثل إبليس في عائلته، أو في مجتمعه، أو في إنسانيته؟!.
لا، فالإِنسان العاقل لا يريد ذلك لنفسه ولا لمجتمعه الذي ينتمي إليه، ولا للإنسانية التي هو أحد أفرادها!..
ولذلك فإن البعدَ عن النفاق هو طريق السلامة: سلامة النفس، وسلامة السلوك، وسلامة المصير. وما عَقَلَ إنسانٌ في هذه الحياة إلاَّ وعَرفَ قدره فوقف عنده في كل ما ينوي عليه ويفعله. فإن رامَ مثلاً المال، فليسْعَ إليه - وشرطه الكسب الحلال - ولكن إن أُعطيه، فعليه أن يؤديَ حقوقه كاملة بالصدقة، وبالإِنفاق الحق، والاستثمار الشريف.. وإنْ رامَ نفوذاً، فليعملْ له، ولكن إن بلغَهُ عليه أن يضع العَدْل نصب عينيه، فلا أذية، ولا استغلال، ولا ظلم... وهكذا في شتى شؤون الحياة وأمورها.. وأمّا من ليست لديه الثقة بأنه قادر على أن يؤدِّي الأَمرَ، وقد وصَلَ إليه بحقّهِ، فعليه أن يبقى - في الأصل - في نطاق الاستطاعة التي يقدر عليها، وذلك كله مصداقاً لقول رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «قليل تؤدّيه خير من كثير لا تطيقه»[*]. وقوله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: «ما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى»[*].
ومِثْلُ المنافقين، أولئك الذين كانوا يتهافتون على متاع الحياة الدنيا، فلم يعبأوا بهتاف الجهاد عندما كانت دعوةُ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صارخة بالخروج إلى تبوك، حينها تثاقلوا عن التلبية رغبةً في الحياة الدنيا وإعراضاً عن الآخرة. وفيهم نزل قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ *إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [التّوبَة: 38-39].
وبعد المتثاقلين، يأتي طلابُ المقاصد السهلةِ والمنافعِ العاجلة. فهؤلاء ينشطون، ويبدون متحمسين إذ دُعوا إلى سفر قصير الأمد، مأمون العاقبة. أما إذا بعدت عليهم الشُّقة، فإن عزائمهم تخور، وهممهم تضعف، فيستنكفون عن الخروج، مُبدين من النفاق أشدّه، ومن الكذب أشَرَّهُ، حتى أنهم لا يتورعون عن الحلف بالله إنهم لا يستطيعون هذا الخروج، والله سبحانه وتعالى يعلم إنهم لكاذبون، كما يصفهم في قوله عزَّ وجلَّ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *} [التّوبَة: 42].
وهنالك صنفٌ آخرُ ممّن يدّعون إسلاماً، ويحلفون بالأيمان المعظّمة إِنهم لمن المسلمين، وما هم منهم، لأنهم قومٌ ملئت قلوبهم بالخوف والجبن، والخمول والشُّحّ.. فهم يشفقون من القتال، ويرغبون عن المشقة، وينفرون من المسؤولية، ويخشون من الإنفاق، ويؤثرون دَعَةَ السلامة مع الذل والهوان، على خطر الجهاد مع العزة والكرامة. هؤلاء يصف القرآن الكريم حالهم بهزء وسخرية، وهم يحاولون البحث عن مخابىءَ يلجأون إليها بعد أن يطلبوا الإِذن بالقعود. وفيهم نزل قول الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ *لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ *} [التّوبَة: 56-57]. وقوله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ *رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ *} [التّوبَة: 86-87].
ولكن، على خلاف كل تلك الفئات، فإنَّ آخرين من المسلمين تخلفوا عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غزوة تبوك، وقد عادوا فأحسّوا بوطأة الخطأ، واعترفوا بذنوبهم، ورجوا التوبة. فكان منهم التخلف وهو العمل السيِّىء، وكان منهم الندم والتوبة وهو العمل الصالح. وفي هؤلاء نزل قول الله تعالى:
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [التّوبَة: 102-105].
أجل لقد منَّ الله سبحانه وتعالى بالتوبة على هذه الجماعة لما عَلِمَ من حسن نواياهم، وصدق سرائرهم، فأمر رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يأخذ بعض أموالهم يتصدق بها عنهم، وأن يستغفر لهم. ذلك أنَّ أخذ الصدقة منهم يرد إليهم اعتبارهم، لناحية عضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، ومشاركتهم في واجباتها والنهوض بأعبائها، وأنهم لم يُنبَذوا منها أو يُبعَدوا عنها. كما أنَّ في أخذ الصدقات منهم تطهيراً لأنفسهم وتزكيةً لقلوبهم، وراحةً لأبدانهم، مصداقاً لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التّوبَة: 103]، وهذا مع دعاء رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم، الذي فيه الطمأنينة والسكن، والأمن والأمان..
وإنَّ الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك ولم يختلقوا الأعذار، كانوا ثلاثةً وهم: هلال بن أمية الواقفيّ، ومرارة بن الربيع العَمْرِيّ، وكعب بن مالك، فقد أتَوا رسولَ الله بعد عوده، لا يبدونَ أيَّ عذر قد يشفع لتخلُّفهم،، بل يَصدُقونه القول بأن تخلّفهم كان خطأ كبيراً، وأنهم نادمون على ذلك أشدَّ الندم.. فلم ينظر في أمرهم، بل أرجأ ذلك إلى أن يقضي الله ما يشاءُ، وهو أحكم الحاكمين..
أما الحالة التي انتهى إليها هؤلاء الثلاثة بسبب التخلّف، فإنها تُظهر الصورةَ الصادقة عن النفس الحساسة المؤمنة، حين تصل إلى أقصى حالات الضيق والحيرة، ثم يأتيها الفرج عندما تحظى بالنجاة، وتفوز بالتوبة والمغفرة. ومثل تلك الحالات، وإن كانت فردية، إلاَّ أنَّ من شأنها أن تظهر المجتمع الإِسلامي وهو يرتقي صُعُداً في سُلَّمِ الوعي، وسموِّ الإِدراك، وشدّة الإِحساس الصادق بذنب المذنب، وتوبة التائب.
فهؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك دون عذر، كانوا صادقين مع أنفسهم، ومع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولشدة ندمهم فقد أحسّوا أن أنفسهم لم تعد منهم، لما خالطها من الغمِّ والهمِّ. وأن الأرض بما رحبت قد ضاقت عليهم، فلم تعد تطيقهم لشدة استيحاشهم عن الناس.. أجل! لقد ندموا على ما فعلوا، وطلبوا التوبة خالصةً لوجه الله تبارك وتعالى. ونزل فيهم قرآن كريم بقوله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *} [التّوبَة: 118-119].
وأما معنى توبته تعالى عن النبي فهو عدم مؤاخذته عندما أذن للبعض من المؤمنين في التخلف عن غزوة تبوك، إذ إنه من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب العقاب. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن التوبة على النبيّ إنَّما هي تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لاعتقادهم بأنهم لم يقترفوا ذنباً في غزوهم، فكان هذا التشريف لهم، وإنَّ ربَّهم بهم رؤوف رحيم.. وإنَّ معالجة القرآن الكريم لحالات الناس النفسية، وأحوالهم الحياتية، كانت تتنزَّل باستمرار بما تحمل من الآيات البينات، ولكنها - بمناسبة غزوة تبوك - كانت أوسعَ مدى، وأعمقَ أثراً وهي تبرز صدق النوايا، كما تظهر خفايا النفاق. وتلك القواعد القرآنية هي قواعد أساسيّة تطبّق في كل ظرفٍ ومناسبةٍ يكون فيها دعوة للجهاد في سبيل الله تعالى.. فالذين فرحوا بتخلفهم، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وراحوا يدْعُون إلى عدم الخروج خوفاً من الحرِّ، بيّن الله تعالى أن فرحهم وضحكهم هو آنيُّ ومؤقت، وأنّ بكاءهم سوف يكون أبدياً في نار جهنم.. على أن الذين يتخلفون عن الركب في أول مرة، لا يصلحون لكفاح، ولا يُرْجَون لجهاد، فلا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي، ولا يجوز أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين. فإن أظهروا استعداداً لمقاتلة العدو، فإنهم ممنوعون من ذلك، لأنهم غير مؤهلين له، طالما ارتضَوا بالقعود والتخلف أول مرة.
نعم هنالك قواعدُ أساسية قد أوحى بها الله تعالى لنبيّه الكريم. وهي من ركائز الطريق للدعوة الإِسلامية، ورجالها - أبداً - الذين عليهم معرفتها، والعمل بها كي يكون طريقهم صحيحاً وسوياً، وذلك والحمد للّه ميسور طالما أن كتاب الله - تعالى - باقٍ في ديمومته، وفيه قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ *فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ *وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ *وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ *} [التّوبَة: 81-85].
وإنَّ في بيان آياتِ الله (تعالى) لأحوال أهل النفاق، وفضح فعالهم الشنيعة، لَحفاظاً على وحدة الصف، وسلامة الجماعة، ووجوب تطهير المجتمع من هؤلاء المنافقين، لأنَّ وجودهم عاملُ ضعف وخلخلة، وسبيلٌ للذهاب بأسباب القوة والمنعة. إذ لو كانوا يريدون الخير العام، لكانوا مثل المؤمنين على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الواجب حينما يدعوهم.. والخير في بقائهم بعيدين عن كل أمر جلل، حتى لا يثيروا الفتنة، ولا سيما وقت القتال، وبثّ روح التخاذل في صفوف الذين يقاتلون في سبيل الله!.. وفي كتاب الله التأكيد على ظلم الباغين، الذين يبتغون الفتنة، ويقعون بها.. قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأََعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ *لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ *وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ *إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ *} [التّوبَة: 46-50].
وقال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *} [التّوبَة: 95-96].
وهكذا كانت غزوةُ تبوك مباركة في نتائجها المادية والمعنوية، ولاسيما في ما أُنزِلُ فيها من آياتٍ مبيِّنةٍ لأولئك الأصناف من الناس، والنماذج من المنافقين، الذين كانوا يمعنون في النفاق، ويمارسون أحابيله بطرائق وصور شتى..وإذا كان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد اشتدَّ على المنافقين بعد غزوة تبوك، فخافوا وانزوَوْا، ولم تقم لهم بعدُ في حياته الشريفة قائمة، فإن أمةَ الإِسلام مدعوَّة اليوم للسير على هدى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى تنهضَ بالأمانة المقدسة التي فرضها الله تعالى على عاتقها. وإنَّ أول ما يجب عليها في هذا السبيل أن تحمل على المنافقين حملةً شعواء، علّها تزيحهم عن المواقع التي يتترّسون بها، وتطهِّر صفوف أبنائها من غواياتهم وضلالاتهم..
على أنه، وبغزوة تبوك، التي كانت في شهر رجب سنة تسع للهجرة، انتهت الغزوات النبوية، التي بلغ عددها تسعاً وعشرين غزوة، والبعوث والسرايا التي بلغ عددها سبعاً وأربعين ولم يكن فيها قتال. وقد أريق في جميع تلك الغزوات والسرايا أقلُّ دمٍ عُرف في تاريخ الحروب والغزوات، فلم يتجاوز عدد القتلى فيها جميعها الثلاثة آلاف قتيل من المسلمين ومن أعدائهم[*].
والحق أن تلك الآثار التي يحفظها التاريخ للمسلمين، تدلُّ على أنَّ حروبَ النبيِّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت مؤسسةً على الحُكْمَين القرآنيَّيْن الحكيمين: «والفتنة أشد من القتل» و«لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب». وكانت خاضعة - كما أسلفنا - لقواعد خُلُقية وتعليمات سلوكية لم تعرفها حروبُ البشر من قبلُ ومن بعد.
وتبرز تلك الآثار بصورةٍ أدقَّ في نجـاح تلك الحروب وسرعتها. وهما من العوامل الرئيسية التي جعلت خسارة المسلمين فيها طوال عشر سنوات لا تتعدى خمسة أشخاص في الشهر الواحد، بينما أقصى خسائر العدو لا يزيد على 15 شخصاً. ولما اكتملت السنوات العشر من الهجرة كان أكثرُ من مليون ميل مربع قد خضع للحكم الإِسلامي.
وإنَّ خير دليلٍ على السلوكية الرفيعة، في تلك الحروب الإِسلامية، الوصيَّة التي كان الرسول الأعظم يلقيها دائماً على مسامع جيشه كلما همَّ بالخروج للقتال إذ يقول لهم: «أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم من المسلمين خيراً. اغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله. ولا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً ولا تهدموا بناءً»[*].. فكان من الطبيعي ألاّ ينجم عن تلك الحروب إلا القليل من القتلى والجرحى، في حين كان يُبنى عليها الكثير من روابط التقارب والتسامح وعلاقات السلام والتعاون.. ولِمَ لا، والحروب التي خاضها المسلمون ما كانت إلا لخير الإِنسانية، وليست للاستعلاء، أو لاستغلال الشعوب وابتزازها، أو لاضطهادها والتحكم بمصائرها.. كما لم يكن وراء تلك الحروب - من جانب المسلمين - دوافع الثأر والانتقام، أو أسباب الأحقاد الجاهلية. بل كان دافعَها الوحيد نشرُ الإِسلام وإعلاءُ كلمة الله تعالى، ودحر الشرك والوثنية، والتصدّي للفساد والظلم - بجميع أشكالهما - في دنيا البشر، وإقرارُ الخير والحق بكل مراميهما في عالم الإنسانية.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢