نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

غزوَة بَني قُرَيظَة
سلسلة غزوات الرسول
(5)


غزوَة بَني قُرَيظَة



سميح عَاطف الزَّين


بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وفي بني قريظة، قال سبحانه وتعالى:
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً}.

غزوة بني قريظة
انجلت الشدّة، وتفرّقت الأحزاب من حول المدينة، فدخل المؤمنون إلى بيوتهم يَلقَون الأهل والأحبة، ويحتفون بالنصر الذي حققته إرادة الله سبحانه.. ولكنَّها لم تمض إلاَّ بضع ساعات فقط وتحلّ صلاة الظهر، فيصلّيها الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، من يومه ذاك ثم يأمر بلالاً أن يصعد سطح المسجد وينادي في الناس: «مَن كان سامعاً طائعاً فلا يصلِّينَّ العصر إلاَّ في بني قريظة».
وهبَّ المؤمنون يتخلَّون عن كل شيء، فلا راحةَ ولا هناءةَ وتلك الفئة اليهودية الغادرة الباغية في حصونها أو منازلها تنصب شباك المكر والخداع للإيقاع بالمسلمين والإسلام.
أوليست هي التي نقضت عهدها مع رسول الله ظُلماً وتعدِّياً؟.
أوليس انحيازها إلى الأحزاب جعلهم يثبتون على الحصار، بعد أن كانوا في يأسٍ من أمرهم ويفكرون في الرجوع من حيث أتوا؟!.
ولم يكن من وراء ذلك الثبات إلاَّ الشدة والعذاب على المسلمين حتى شعروا أنه قد حلَّ بهم زلزال عظيم؟!...
لم يطالب المسلمون أن يقف معهم بنو قريظة في القتال، ولا خانوا عهدهم، بل كانوا أوفياء على ذلك العهد، كما يعترف به زعيم بني قريظة، كعب بن أسد ذاته عندما جاءه حُيي بن أخطب يحضُّه على شهر العداء للمسلمين والانضمام إلى الأحزاب، فيقول له: «ويحَك يا حييُّ! دعني فلست بفاعلٍ ما تدعوني إليه؛ فإني لم أرَ من محمد إلاَّ وفاءً وصدقاً».
وإذا كان زعيم بني قريظة قد عاد وآثرَ الانحياز إلى الأحزاب، فإنَّ رجالاً من بني قومه استنكروا عليه ذلك، وحاولوا أن يحذّروه من دهاء ابن أخطبَ وهم يقولون له ولمن اتبعوه: «لا تسمعوا لحُييّ فإذا لم تكونوا تريدون نُصرة محمد، فدعوه وأعداءه»...
ولكنَّ صوت الحقد والرعونة اليهودية كان قد غلب على الأكثرية الساحقة من بني قريظة، فوافقوا كعباً وصاحبه حُييّاً على نقض عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لهم، ثم راحوا يستعدون لمقاتلة المسلمين، ولكنَّ الله سبحانه لم يحقق لهم أمانيهم الخبيثة، فدحر الأحزاب ودحرهم، وأوقع بهم جميعاً شر هزيمة، عمّت النفوس والقلوب...
ذلك الموقف الذي اتخذه بنو قريظة والذي لم يكن يهدف إلاَّ إلى طعن المسلمين من الظهر، ما كان لِيَمُرَّ بدون حساب.. إذ كيف يأمن المسلمون بعدها جانب هؤلاء الخونة الغادرين، ويقبلون ببقائهم إلى جوارهم، دون أن يخشوا غدراً قد يكون أكبر، وخيانةً قد تكون أعتى وأشدّ؟!.
لا يمكن للمسلمين أن يتركوا بني قريظة مقيمين بينهم معتصمين في حصونهم، حتى لا يكون هنالك خطر قريب منهم!.
... فمثل هذه الأفكار لم تغب عن أذهان المسلمين من قبلُ ومنذ أن أعلن بنو قريظة الحربَ عليهم، وأنكروا نبوّة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وناصبوه العداء. وإذا كانوا يومئذٍ في ظروف لا يستطيعون معها عمل شيء حيال هذه الجماعة، فإنَّ الساعة قد حانت لتأديبهم وردِّ كيدهم ودفعِ شرِّهم.
ولذلك، ما إن سمع المؤمنون بالنداء لمحاصرة بني قريظة، حتى هبَّ كل من وقف في وجه الأحزاب، ملبياً ومشمِّراً للقتال.
وما كان أمرُ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالخروج إلى بني قريظة إلاَّ بعد تقديرٍ وحكمةٍ بالغَيْن.. فقد تفكر، صلى الله عليه وآله وسلم ملياً فرأى أنه لا يمكن معاملة هذه الجماعة بمثل ما عامَل به من قبل بني النضير، عندما اكتفى بإخراجهم من ديارهم فقط، وتركهم يذهبون لشأنهم، إذْ لم يقبل بنو النضير برأفة الرسول الكريم بهم، وتركهم سالمين، فراحوا يؤلبون القبائل، ويحزّبون الأحزاب عليه ثم يُجمعون على غزو المسلمين في عقر دارهم، ولذا فإنه إن ترك بني قريظة أحراراً طلقاء، فمن يضمن للمسلمين ألاَّ يفعلوا كما فعل بنو قومهم من قبلهم، فيجمعون الأعداد الغفيرة لقتالهم، وتعودُ تلك الحالة التي أوشكت أن تعصف بالإسلام وأهله لولا رحمة الله وفضله...
ومن منطلق هذا التقدير النبويّ كانت الأوامر بضرب الحصار على بني قريظة، ظهيرة انكشاف الأحزاب عن المدينة، لأنّ في مباغتتهم ما يحول دون إعطائهم الفرصة لاستزادة قواهم واستصراخ غيرهم، فاليهود أهل مكر وخداع وخيانة.. وتراصَّت الصفوف أمام المسجد، فأمّرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) على الجند، ودفع إليه الراية، ثم أمره بأن يسير لمحاصرة بني قريظة.
واستوى المهاجرون والأنصارُ في جيشٍ قوامه ثلاثة آلاف راجلٍ وثلاثون فارساً، وما أوشك العصرُ أن يحلَّ حتى كان الحصارُ حول آطام بني قريظة قد اكتمل.
وأُسقِط في أيدي بني قريظة، إذ لم يتوقعوا أن يسارع المسلمون إليهم في ذلك اليوم ذاته، بل كانوا يظنون أنهم يحتاجون إلى راحة لا تقلُّ عن أيام أو أشهر، حتى يمكنهم أن يلتقطوا خلالها أنفاسهم ويستعيدوا قواهم.. أما وقد رأَوهم قد أتوا، وأقاموا من حولهم الحصار، فإنَّ الأمر قد اختلف، وهو أمرٌ يَعِدُ بنذيرٍ مشؤوم.
ولعلَّ تلك المفاجأة قد جعلت كثيرين منهم يفقدون صوابهم، فاندفعوا إلى النوافذ، وطاقات الآطام يكيلون للمسلمين السباب، وينزلون عليهم أشدَّ الشتائم، وكانوا يتعمدون في سبابهم وشتمهم أن ينالوا من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه، ولكن المسلمين لم يردُّوا عليهم إلاَّ بالقول «السيفُ بيننا وبينكم يا معشر يهود»!.
وجاءَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يحيط به نفرٌ من الصحابة الأجلاّء، فراح يتفقَّدُ جنده، ويطوف بين محاربيه، وهو يُحيي فيهم روح العزيمة والمجاهدة، ويحثّهم على الثبات والصبر، فلا يجد بين الصفوف إلاَّ ذوي بأسٍ وشدّة، وأصحاب إيمان صادقٍ خالصٍ.. إنه الإيمان بالله العزيز القدير الذي هزم الأحزاب، وهو الإيمانُ عَينُه الذي يكفل لهم النصر، ليس فقط على هذه الجماعة من بني يهود، وهم لا يحسبون لها أيَّ حساب في القتال، بل على جيش الشِّرك والكفر بإذن الله.
وكانت الخطة التي اعتمدها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، تقوم على عدم شنّ الهجوم على حصون بني قريظة وإجلائهم عنها، بل الاكتفاء بضرب الحصار حولهم، ومنع أي مدد أو نصرة يمكن أن تأتيهم من الخارج.
ومرَّت بضعة أيام ولم يكن هنالك من هجوم، مما جعل بني قريظة يطمئنون بعض الشيء، ويتوهمون بأن المسلمين لا يريدون قتالهم بل يرغبون في التفاوض معهم، وهذا ما يمكّنهم من إيجاد الوسيلة لتقوية موقفهم.. على أن تلك الآمال بدأت تذهب أدراج الرياح، إذ اكتفى المسلمون بالبقاء في حصارهم، من غير أن يبدر منهم ما يدلُّ على أنَّهم راغبون في محاورةٍ أو مفاوضةٍ.. فراحوا يتساءلون: وماذا يريد المسلمون؟!..
وبعد التفكير والتشاور رأى بنو قريظة أن يبدأوا هُم بمدّ سُبُل التفاهم مع المسلمين، فبعثوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعرضون عليه السماح لهم بالخروج مع نسائهم وأبنائهم، وما حملت الإبل من أموال، كما فعلَ مع بني النضير، فكان جوابه لرسلهم بأنه لا خروج إلاَّ بالنزول على حكمه..
وعادوا يسألونه: الخروج بالنساء والأبناء بلا مال ولا سلاح، فلم يكن ردّه إلا كالسابق: لا.. إلاَّ أن ينزلوا على حكمه...
وأُسْقِط في أيدي بني قريظة، فاشتد عذابهم، وزادت آلامهم بعدما أيقنوا أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، فقال لهم زعيمهم كعب بن أسد: «يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خِلالاً ثلاثاً، فخذوا أيّها شئتم». قالوا: وما هي؟
قال: «نبايع هذا الرجل ونصدّقه، فوالله لقد تبيّن لكم أنه لَنبيٌّ مُرسَل، وأنَّهُ للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم».
قالوا: «لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره».
قال: «فإذا أبيتم عليَّ هذه، فهلُمَّ فلنقتلْ أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مُصلِتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلاً، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نَهْلِكْ نَهْلِكْ ولم نترك وراءنا نَسْلاً نخشى عليه، وإن نَظْهَرْ فلَعَمري لنتَّخِذنَّ النساءَ والأبناء».
قالوا: «نقتل هؤلاء، فما خير العيش بعدهم»؟.
قال: «فإن أبيتم هذه، فإنَّ الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمدٌّ وأصحابه قد أَمِنوا فيها، فانزلوا لعلنا نُصيب من محمد وأصحابه غِرَّةً».
قالوا: «نُفسدُ سبتنا ونُحْدِث فيه ما لم يُحدِثْ مَن كان قبلنا، إلاَّ من قد علمت، فأصابه ما لم يخفَ عليك من المَسْخ».
قال: «ما باتَ رجل منكم منذ ولدته أمه ليلةً واحدةً من الدهر حازماً».
وكان حُيي بن أخطب بينهم، إذ دخل عند كعب بن أسد وفاءً لما عاهده عليه بأن يناصره ويكون معه إن ذهبت الأحزاب أو كان النصر لمحمد، فأشار حُيي عليهم باعتماد خدعة، وهي أن ينتظروا ليلة السبت، يخرجون في غفلةٍ من المسلمين لظنّ هؤلاء بأن اليهود لا يأتون عملاً في هذا اليوم، ويولّون الأدبار، ناجين من القتل، فقال بعضهم: «لا نحلُّ يوم السبت».. وقال آخرون: «وما أدراك يا ابن أخطب أن لا تكون المصيبة أشدّ إن فعلنا، فهل أنت ضامن لنا عدم يقظة المسلمين وقعودهم عن الترقُّب كما تظن.. إنه لرأي أخرق حقاً» ثم التفت بعضهم إلى بعض يقولون: «انبذوه ولا تستمعوا إليه»..
ودبَّ الشِقاق والخلاف بين دهاقنة بني قريظة، واشتدَّ النزاع بين أحبارهم.. وطال النقاش، واحتدم الجدل، ولم يجدوا فيما استعرضوه إلاَّ ما يورث الندم، حتى اهتدوا إلى رأي أجمعوا عليه، وهو أن يعرضوا على محمد بأن يبعث إليهم أبا لبابة، رفاعة بن عبد، أخا عمرو بن عوف، المنذر الأنصاري الأوسي، فهو نصير لهم، وله عندهم أهل وعيال، فيتشاورون معه في أمرهم.
ووافق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على ذلك وبعث إليهم أبا لُبابة.. فلما جاءهم وجدهم على حالٍ من الخوف والذعر لا توصف.. فقد هبَّ إليه الأولاد يتمسكون بأهداب ثوبه صارخين، وأحاطت به النسوة تجهش مولولاتٍ ناحباتٍ، أما الرجال فقد بدوا شاكين متألّمين.
ورأى أبو لُبابة ما حلَّ بهؤلاء القوم، فأخذته العاطفة وغلَبتْهُ الشفقة عليهم، فراح يهدّىء من غلوائهم، ويواسي مصابهم.. ولكن هل تنفع المواساة والخطب من حولهم داهم؟! فقالوا له حائرين: «ماذا ترى في حالنا يا أبا لبابة! إنَّ محمداً قد أبى إلاَّ أن ننزل على حكمه فماذا نفعل»؟.
وبدون أن يدري الرجل ماذا يقول، ومن غير أن يعي ماذا يفعل، قال لهم: «انزلوا».. قالها وهو يشير بيده إلى عنقه وهو يريد أنْ يُفْهِمَهُم أنه الذبح.. فعلا الصراخ والنحيب، وكثر البكاء والعويل وقد أيقنوا ما هو حكم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فيهم!.. وكأنَّ شدة الصراخ والضجيج قد أعادت لأبي لبابة رشده، وأذهبت عنه العاطفة التي غلّفت فكره، فعاد إلى صوابه وأدرك الخطأ الفادح الذي ارتكبه، وهو يفشي سراً للمسلمين ما كان ينبغي لأعدائهم أن يعرفوه، ورجع إليه وعيه فعرف أنه خالف عهد الله ورسوله.. فخرج من عند بني قريظة لا يحفل بأمرهم، وولى هارباً على وجهه، هائماً في أرجاء المدينة حتى قادته قدماه إلى المسجد، فارتبط إلى عمودٍ قريب من منبر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وآلى على نفسه مقسماً ألاَّ يذوق طعاماً أو شراباً حتى يموت أو يتوب الله عليه مما صنع.. فإن لم يُغفر له وبقي على قيد الحياة فإنه سوف لا يطأ ناحية لبني قريظة، ولا يُرى في بلدٍ خانَ فيه الله ورسوله..
ذلك ما كان من أبي لُبابة وهو يعاهد الله مُقِراً بخطأه..
أما المسلمون فقد انتظروه حتى يعود إليهم، ولكنهم استبطأوه كثيراً، فراحوا يتقصّون خبره حتى وجدوه مربوطاً في المسجد، وهو في أشدّ حالة من اللوم والأسى على نفسه، فعادوا يخبرون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأمره، فقال: «أما إنه لو جاء لاستغفرت له، فأما إذْ فعل ما فعل فما أنا بالذي يطلقه حتى يتوب الله عليه».
واستمرَّ أبو لبابة في رباطه مقيماً على قسمه، ولا أحد يتقدّم منه إلا امرأته التي كانت تأتيه وقت الصلاة فتفك وثاقه حتى يصلي، ثم تعود وتربطه من جديد، حتى انقضت ست ليالٍ، وقد جاءت امرأته وفكت رباطه كالعادة، فوقع مغشياً عليه، خائر القوى، واهي الفؤاد، فأسرعت امرأته إليه تُسعفه، فلما أفاق قعد يبكي ويأسف على نفسه، وامرأته ترقبه راثية لحاله، وهي ترى أن أنفاسه لا تكاد تطلع من صدره إلاَّ بالجهد الجهيد..
لقد كان لوم أبي لبابة لنفسه شديداً، وندمه على ما فعل كبيراً، فتاب توبةً نَصُوحاً مخلصةً، ودعا الله سبحانه بأن يغفر له مقرّاً بذنب اقترفه لغلبة عاطفته عليه وتأثره لملاقاة القوم له.. وهنا تظهر أيضاً، كما في كل مرة، رعاية الله سبحانه لأحوال المسلمين، فُرادى وجماعاتٍ، فغفرَ الله سبحانه لهذا الرجل، وأنزل مغفرته قرآناً على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله تعالى:
{وآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وحدَّث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، زوجه أم سلمة بتوبة الله سبحانه على أبي لبابة، فقالت مستأذنة:
«ألاَ أُبشّره يا رسول الله»؟.
فقال الرسول الكريم: «بلى، إن شئت».
فقامت أم سلمة تقف على باب حجرتها، المحاذية لباب المسجد، وتنادي أبا لبابة قائلة:
«يا أبا لبابة! أبْشِرْ فقد تاب الله عليك».
وكان في المسجد جماعةً، فهرعوا يريدون أن يفكّوا وثاقه، ولكنه أبى قائلاً: «لا! لا يفكنَّ أحدٌ وثاقي إلاَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي يطلقني»..
ثم لما أتاه رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وحلَّه من رباطه، خرَّ أبو لبابة على ركبتيه أمامَه قائلاً:
«والله إني لَنادمٌ يا رسول الله على ما فعلت، وقد آليت على نفسي أن أهجر دار قومي التي أصبتُ فيها الذنب وأن أتخلى عن مالي».
فقال له الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم: «يجزيك الثلث أن تتصدّق به»..
... وانقضت عشرون ليلةً، والحصار كان ما يزال قائماً، وكلَّما كانت تمر ليلة، كانت أحوال بني قريظة تزداد سوءاً، إذ كان الخوفُ وحده يقيمهم ويقعدهم، والعذابُ يقضّ مضاجعهم، فماذا ينتظرون من دنياهم وشبحُ الموت يخيم فوق رؤوسهم، وما يجديهم البقاءُ على تلك الحال وقد أفلت زمامُ الأمور من أيديهم؟!..
إذن فلينزلوا على حكم محمد!...
وبعثوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: لقد نزلنا على حكمك، وها إنا سنخرج رافعي الأيدي مستسلمين..
وبدأ بنو قريظة بالظهور جماعاتٍ جماعاتٍ، وراح المسلمون يتلقّونهم فيوثقون رجالهم بالحبال، ويضعونهم في ناحية، ويقودون النساء والذراري إلى ناحية أخرى، تلبية لأوامر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم...
فلمَّا لم يعد أحدٌ من بني قريظة إلاَّ وخرج، وبعد أن هدأ اللغط وسكن الضجيج، جاء رجالٌ من الأوس ـ وكان بنو قريظة حلفاءهم، يعرضون على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعاملهم بمثل ما عامَلَ بني قينقاع، حلفاء الخزرج ـ وأن يقبل شفاعتهم بهم، كما قبل شفاعة عبدالله بن أبيّ عندما طلب الرأفة ببني قينقاع..
فقال لهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «يا معشر الأوس! أترون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلاً منكم»؟.
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال لهم: «فاختاروا من تشاؤون حكماً»..
وتشاوَرَ رجال بني قريظة وهم في الحبال مربوطين، فما رأوا رجلاً أفضل من سيّد الأوس، سعد بن معاذ، حكماً بينهم وبين محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان سعد بن معاذ لا يزال في خيمة الجرحى، وهي الخيمة التي كانت تشرف عليها امرأة تدعى «رفيدة» نذرت نفسها لخدمة إخوانها في الدين، فراحت تخدم في ساح الوغى وتقوم على شؤون الجرحى.. وقد كان سعدُ بن معاذ ما يزال في خيمتها منذ جُرِح، إذ طلب يومها الرسول الكريم أن يجعلوه عند «رفيدة» فيعوده من قريب..
فلما طلب بنو قريظة أن يكون سعد بن معاذ حكماً عليهم، أمَرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بإحضاره، فذهب نفرٌ من بني قومه ــــ الأوس ــــ وحملوه على دابة، وراحوا في الطريق يلحّون عليه ويرجونه بأن يرأف بحلفائهم بني قريظة، وأن لا يجعل حكمه قاسياً عليهم، وكانوا يقولون له: «يا أبا عمرو!. أحْسِن في مواليك، فإنّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد ولانا أمرهم لنحسن فيهم، فأنت قد رأيت ما فعله ابن أبيّ من أجل حلفائه». وكانوا يلحّون عليه في ذلك وهو ساكت لا يجيب. وما زالوا به على تلك الحال لا ينفكّون عن ترداد شفاعتهم تلك، حتى أخرجوه عن صمته، فقال:
«لقد آنَ لسعدٍ ألاَّ تأخذه في الله لومة لائم».
وانتهوا بسعدٍ إلى مجلس رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأدناه بقربه وراح يطمئن على حاله ثم قال له:
«احكم فيهم يا سعد».
قال سعدٌ: «الله ورسوله أحقّ بالحكم».
قال له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «قد أمرك الله أن تحكم فيهم».
إذ ذاك قال سعدٌ للمسلمين: «عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه أنَّ الحكم فيهم بما حكمت»؟.
قالوا: «نعم».
قال سعدٌ، وهو يغض الطرف مشيراً ناحية رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إجلالاً له: «وعلى من هنا»..
فقال الرسولُ الأعظم: «نعم».
عندها قال سعدٌ لبني قريظة: «وأنتم يا بني قريظة، أترضون بحكمي»؟.
قالوا: «نعم، وقد ولّيناك حاكماً بأمرنا قبل أن تجيء...».
قال: «عهدُ الله وميثاقه بأنَّ الحكم فيكم ما أحكم به»؟
قالوا جميعاً: «نعم»..
فقال سعدٌ: «فإني أحكم أن تُقتَل الرجالُ، وتقسَّم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء»...
فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات»...
وهلع بنو قريظة للحكم...
فما بال هذا الرجل قد تنكّر لهم!.. ألم يكن حليفهم؟ أوَليسَ هو الذي اختاروه دون غيره من الرجال والحكام كي يرأف بهم؟!.. لا شكَّ بأن هذا الرجل قد فقد عقله حتى يجعل مصيرهم أسوأ مصير عرفوه..
وأراد بنو قريظة الاحتجاج، مبدين التصايحَ ومظهرين الغضب، ولكن دون جدوى، فقد كان حكم سعد بن معاذ، هو حكم الله عليهم، لأنَّ أي حكم آخر لا يمكن أن يوازي غدْر هذه الجماعة وخيانتها، ولا يمكن أن تؤمن عواقبه بما قد يحمل من أخطارهم على المسلمين.
صدر الحكم، فاقتيد الرجال من بني قريظة إلى دار أسامة بن زيد في المدينة، والنساء والذراري إلى دار كيسة بن الحارث، ثم حُمل المتاع والسلاح ووضع في مكان معين..
وأمَرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن تحفر لمن ينفذ فيهم الحكم حفرٌ كبيرة، فكانوا كلما قتلوا جماعة من رجالهم دفنوهم في حفرة ثم غطّوها بالحجارة والتراب بإحكام حتى لا تنتشر الروائح الكريهة والأوبئة..
وكان حيي بن أخطب بين رجال بني قريظة، إذ جاؤوا به مع كعب بن أسد لتنفيذ الحكم، فنظر إليه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: «ألم يمكّني الله منك يا عدو الله»؟!..
قال حيي: «بلى... أبى الله إلاَّ تمكينك مني!.. والله ما لُمت نفسي في عداوتك قطُّ، ولكنه من يخذل الله يُخذَل»..
ثم نظر إلى الجموع المحتشدة وقال:
«أيها الناسُ، إنه لا بأسَ بأمر الله، كتابٌ وقَدَر، وملحمة كتبت على بني إسرائيل» فإذا بأصوات ترتفع وتنادي بالإسراع في قتله وهي تقول:
«ما كان الله سبحانه ليظلم أحداً، وما كان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ليأمر بظلم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»...
وجيء بحيي فضُربت عنقه، وسلمَ الناسُ من شرّه..
وفي ذلك الوقت أسلَمَ ثلاثة رجال من بني قريظة، فأمّنهم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وصاروا إخوة في الدين..
وكان من بني قريظة عمرو بن سعد، قد وقف ضد الرأي في نقض العهد من المسلمين، وقد شهِدَ بذلك عددٌ من الرجال، فأمَرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بألاَّ يقتل، بل يطلق سراحُهُ، على ألاَّ يبقى في المدينة، فذهب مولّياً الأدبار، لا يعلم إلاَّ الله سبحانه وجهة سيره، فلما ارتحَلَ قال الرسول الأعظم: «ذاك رجل نجّاه الله بوفائه»..
وكان رفاعة بن السموأل، قد بعَثَ وهو في الأسر إلى أم المنذر الأنصارية أن تجيره، وكانت تلك المرأة تعلم بعض الفضائل التي تميّز بها هذا الرجل عن بني قومه، فلما جاءَها رسولُهُ ذهبت إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تستوهبه، فوهَبَهُ الرسولُ الكريم.. وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ في نفسه، إذ لم يلبث إلاَّ أن تفكّر وأدركَ، فأعلن إسلامَهُ صادقاً..
وهكذا نُفِّذ حكمُ الإعدام في رجال بني قريظة، فما جاءَ ليلُ ذلك اليوم إلاَّ وكانوا جميعهم، وهم يزيدون على ستمائة رجل، قد ذاقوا الموت مستحقين..
ثم إنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قسَّمَ أموال بني قريظة، والنساءَ والأبناءَ، على المسلمين، وأمر ببعض السبايا أن تُحمل إلى نجد وبلاد الشام، تباعُ لتأمين السلاح والخيول.. كان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يكره العبودية، وقد عمل على نبذها من قبل، إلاَّ أن الله سبحانه يأمره بأن يعامل الفئة الباغية بمثل ما تُعامِل به المسلمين. وذلك لقوله تعالى:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} .
فمن قَبْلُ غدرَ أعداءُ الله بالمسلمين في مواقع عديدة، فقتلوا أربعين بلا ذنب، وقبله باعوا اثنين لقريش في مكة، بعد قتل رفاقهم!... فإن لم يظهر المسلمون لسكان الجزيرة، وهم على ما هم عليه من عقلية جاهلية، وطباعٍ وعادات قاسية، أنَّ بإمكانهم استعمال الأساليب التي يستعملها أعداؤهم، لكان ذلك مدعاةً للاستخفاف بشأنهم، وعدم الركون إلى قدرتهم، ومن أجل ذلك اختار رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عدداً ضئيلاً من السبايا وأرسلَهُ للبيع في البلاد البعيدة، ولو أرادَ خلاف ذلك لكان بعث بالسبايا كافة للبيع، ولَمَا كانَ قد أعطى الأوامرَ الشديدة بألاَّ يفرق بين الأم وابنها في القسمة وهو يقول للمسلمين: «لا يفرَّق بين الأم وولدها حتى يبلغوا».. ولما كانَ أيضاً قد جعلَ من ريحانة بنت عمرو، وقد كانت من نصيبه في القسمة، سَيّدةً مصونة، تقيم في بيته، حتى يتوفاه الله سبحانه، وهي ما تزال عنده..
وكانت الأخبارُ بما حلَّ بالأحزاب قد بلغت الجزيرة كلها، فأيقنَ الناسُ أن هناكَ قدرة خفية سماوية ترعى المسلمين، وتكلؤهم بعين الرعاية والحفظ، وإلاَّ لما كانت تسلّط على أعدائهم قوى الطبيعة لتعصف بهم وتبدّد ما يتمتعون به من قوة، في كل مرّة يشتد الخطب فيها على المسلمين..
وكانت تلك الأخبارُ قد تناهت إلى مسامع بني يهود، فقالوا: «لا نحفل بما يجري».. فلما أن عرفوا ما حلَّ ببني قريظة جزاءً لنقضهم العهد، قال أحد زعماء بني النضير، وهو سلامٌ بن مشكم: «هذا كله عمل حُيي بن أخطب.. ما كان أحرى بالرجل أن يترك بني قومه وشأنهم ولكنه أبى إلاَّ أن يناجز محمداً وأصحابه فكانت تلك المصيبة الدهماء».
... الآن قد فرغت المدينةُ من أعداء الله، فحقَّ للمسلمين أن يهنأوا بالظفر وأن يلاقوا الراحة..
لقد عمَّتِ الفرحةُ والسعادة جميع بيوت المؤمنين، فطابت النفوس راضية، واستوثقت بحكم الله قانعة..
وإذا كان الله سبحانه قد أفاءَ على المسلمين بتلك الراحة، فمن أحقُّ بها، بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، غير المؤمنين الصابرين المجاهدين؟!..
وهل كان سعد بن معاذ، إلاَّ أحد أبرز هؤلاء المؤمنين؟!..
فها هو يتفكّر بقدرة الله، وبنعمائه السنّية، فيقرَّ عيناً، ويهنأ بالاً...
لقد دعا سعدٌ (رضي الله عنه) ربَّه، ساعة جُرِحَ، وعرفَ أن جُرحَه بليغٌ، وأنه قد يلاقي ربّه بين لحظة وأخرى، بأن يرأف الله سبحانه به فيمنحه فرصة من العمر ليناجز قريشاً إن أرادت حرباً على المسلمين، أو أن يشهد قصاص بني قريظة جزاءً على نقضهم العهد وإنزال الشدة بالمسلمين، ومن بعدها فليمت قريرَ العين وقد اطمأنَّ على الإسلام سيّداً...
... ويتفكّر سعدٌ بدعائه لله سبحانه، فيرى أنَّ الله سبحانه قد استجابَ له، فجعله هو ذاته حكماً على بني قريظة، فيقرَّ عيناً.. ويذهب به الخيال إلى البعيد، وكأنه يريد أن يستشفَّ المستقبل، فيقول في نفسه: «إن رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قائم في المسلمين، فلا خوف عليهم، وإنَّ الإسلام دينُ الله الحق، فلا خوف عليه، فالله تعالى ناصرٌ دينه لا محالة».. وتسري الطمأنينة في وجدان هذا الصحابي الجليل فيقول: «لم يبْقَ لي مطمع إلاَّ في الشهادة»..
ولقد كُتبت له الشهادة منذ أن جُرِحَ قرب الخندق.. فما أن توجَّهَ بدعائه الخالص المخلص، ساعتئذٍ، ورجا ما يرجوه من ربّه، حتى كانت الملائكة قد حملت ذلك الدعاءَ كلماتِ حقٍ على أبسطة من نور، فتنشرها في الوجود كله أصداءَ نفسٍ تحبُّ الله ويحبها الله سبحانه، فتستبشر الملائكة فَرِحةً وهي تقول: «بارك الله لسعدٍ ابن الأرض فقد بات يستحق بأن يكون عبداً لله سبحانه»..
ولقد كانت الاستجابة السنية عظيمة لدعاء سعد..
وكيف لا تكون وسعدٌ قائم في وسط الشدّة والكرب، لا يعبأ بدمائه تنزف، ولا يهتمُّ أن لا أحد يستطيع وقف هذا النزف، بل تصبو نفسه إلى أملٍ واحد، وهو أن ينصُرَ الله سبحانه الإسلام..
فللَّه درُّ هذا الصحابي ما أعظم إخلاصَهُ في إيمانه، وما أقربه إلى ربه.. فأمَّا أن يكون الله تعالى قريباً من عبده، فهذا أمر بديهي، شاءته العزة الإلهية منذ أن خلقت الإنسان، بقوله تعالى في محكم كتابه العزيز:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ..
فلا وجود أبداً لمسافة تفصل الخالق عن مخلوقه، لأنه سبحانه أقرب إليه من خفقان قلبه.. وهذا هو السرُّ الذي قد يخفى على كثير من الناس، ولا يدركونه، فيذهبون مندفعين في طلب الدنيا، متنكرين لخلقهم، وما هم عليه من صنع دقيق وإتقان عظيم، ومتناسين تلك العطايا الكبيرة التي منَّ الله تعالى عليهم بها عندما سألوه: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} .
نعم! أن يكون الله تعالى قريباً من عبده، فهذا الحق المطلق، وأما أن يكون العبد قريباً من ربّه، فهنا حكمةُ الإنسان وهدايته... وليسَ أوجَب على هذا الإنسان، وحتى يبلغ هذا القرب إلاَّ أن يكون مستجيباً لخالقه كما هو مطلوب منه، وهذه الاستجابة هي التي تؤمن له القرب من ربه، لقوله تعالى:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
ويبرز سعدُ بن معاذ على مدار الزمان إنساناً استجاب لربه.. فآمن بالإسلام، وصدق رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء هو لرفع كلمة الحق، وبذَلَ كل ما مَنحهُ الله تعالى من نفسٍ ومن نفوذٍ ومالٍ، في سبيل الله.. فهل ثمَّةَ أحسنُ استجابةً، وأخلصُ عبوديةً، وأشدُّ إيماناً من ذلك؟!..
وكيف إذن لا يستجيب الله سبحانه لدعائه؟!..
بلى: والله إن سعداً من الشهداء الأبرار.. قرّت عينُه بالحكم الذي هداه الله إليه، فنامَ قريرَ العين، يغفو في طيب الشهادة. وتحين ساعةُ حملِ جثمانِه، فيعجب الناسُ من حملِهِ الخفيف، فيقول بعضُهم لبعض:
«والله إنه كان لَبادِناً [= سمينًا]، وما حملنا من جنازة أخفّ منه».
ذلك أنَّ الميت يثقل حملُهُ، ويزيد هذا الثقل إن كان بديناً، كما كان سعد بن معاذ (رحمه الله)، ولكنَّ جثمانَ سعد وهو منقولٌ إلى قبره، لا ثقل له!... فيعجب الناسُ، ولكنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو العالم بالأمر لا يأخذه أي عجب، بل يقول للناس، ليُذهِبَ عنهُم ما يخالطهم من تساؤلات: «إنَّ له حَمَلةً غيرُكُمْ. والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتزَّ له العرش»..
... نعم، نزلت الملائكة تخفُّ بجثمان سعد بن معاذ، وتحملُهُ إلى الخلود، وهي مستبشرة بهذه الروح الكبيرة تشع إيماناً خالصاً وتتوهج نوراً قدسيّاً..
فهنيئاً لك أيها المسلمُ الصادق، يا سعد بن معاذ، على هذه المكانة الرفيعة التي منحك إيّاها ربك، وألهم الله تعالى أهلَ الإسلام كي يسيروا على خطاك وينهجوا نهجك حتى يحظوا بالمكانة التي حظيت..
ولم تُحزن المسلمين شهادةُ سعد بن معاذ، بل على العكس كانت لهم سِمةَ عزةٍ وكرامةٍ، لأنها الشهادة التي تثبت رعاية الله لجنده، وتحقق للمستشهدين الكرامة عند ربهم..
إنهم جميعاً رجالٌ عاهدوا الله.. فمنهم من قضى نَحْبَه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً. فحقّ لهم فيما قضوا، وفيما ينتظرون أن ينعموا بالفخار والسؤدد..
هكذا، وبالقضاء على بني قريظة، خلت المدينة من الأعداء وارتاحت من المنافقين، بعد أن فقدوا المؤلّبَ والنصير، ولاذوا بأنفسهم يحتمون من الخطر على حياتهم، فلم تعد لهم أصوات تُسمَعُ، أو شأن يبرز.. لقد كانت لهم شوكة ولكنها انكسرت إلى الأبد، فلا تقوم لهم بعْدها قائمة على الإطلاق.
وبالمقابل راحت أمور المسلمين تستوي شيئاً فشيئاً، وتسير في طريق أقلَّ تعثراً وأكثر أمناً. وأخذت الدعوة الإسلامية تتسم بطابع القوة والغنى والاعتزاز، بدلاً من طابع الضعف والفقر والاستكانة الذي رافقها في مراحل عديدة من حياتها السابقة..
فسلاح المشركين والخائنين الذين استولوا عليه، وما أضافوا إليه من عتادٍ وعدَّةٍ صنعوها، وفَّرت لهم القوة الكافية، والأموالُ والأمتعة التي أصابوها أمّنت لهم أسباب العيش الوافرة.. وإنه لو لم تكن غزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة، وما آلتا إليه من الناحيتين المادية والمعنوية، لما كان للدعوة ذلك الطابع الجديد. ومما لا شك فيه بأنَّ الفضل كله في تينك الغزوتين كان لله تعالى ولرسوله العظيم.. ففي غزوة الأحزاب قال عزَّ وجلَّ:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} .
وفي بني قريظة، قال سبحانه وتعالى:
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} .
* * *

غزوة بني لحيان
كانت السنة الخامسة للهجرة قد أشرفت على نهايتها لمّا ظفر المسلمون ببني قريظة وخلصت المدينة من الأعداء، فانصرف الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى تقوية دعائم المجتمع الإسلامي، شأنه في كل مرة تنأى فيها ظروف الحرب والقتال، وتتاح له الفرصة لذلك البناء المجتمعي.
وإذا كان سلطان الإسلام قد بدا قوياً في ذلك الحين، إلاَّ أن أعداءه كانوا ما يزالون كثيرين في شتى أنحاء الجزيرة، ولذلك فإن الاهتمام الداخلي لم يصرف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على أن يبقى دائماً على الحذر واليقظة خوفاً من غدر مفاجىء، أو مداهمة سريعة؛ فكانت عيونه منبثة في كل مكان ترقُبُ وترصدُ تحرّك العرب واليهود، حتى إذا حاولوا القيام بعمل ضده، سارع إليهم يأخذهم على حين غرّة، فيشتت قواهم حتى لا يبقى لهم مجال للاتفاق عليه، أو السير إليه في أي حالٍ من الأحوال.
وإذا كان الثأر ما يزال يومذاك من عادات العرب المستحكمة في نفوسهم، فإن الإسلام ولا شك ينبذ تلك العادة الجاهلية ويعمل للقضاء عليها، إلاَّ أنه يأمر في الوقت ذاته بإنزال أشدّ القصاص بأهل الغدر والخيانة إذا قاموا بعمل يستدعي مثل هذا القصاص، وذلك حرصاً على اجتثاث جذور الشر، واستئصال العقبات التي تقف حائلاً دون انتشار الإسلام في المدى الذي يجب أن يصل إليه، أو تسدّ الطرق والمنافذ أمام هُداهُ للناس.. فقد كان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يحرص دوماً على تطبيق هذه القاعدة كلما برز مكان للغَدر وأهله..
ولم ينسَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن بني لحيان قد جاؤوه منذ سنتين مخادعين، يطلبون أن يبعث معهم نفراً من قرّاء المسلمين يعلِّمونهم الدين ويفقهونهم به، حتى إذا أوفد معهم في تلك المهمة ستةً من الصحابة الأخيار، انقضّوا عليهم في ماء الرجيع، فقتلوا من قتلوا، واقتادوا من اقتادوا إلى قريش للبيع والإذلال..
فتلك الخيانة الكبيرة لم تكن لتمرَّ بدون قِصاص، فما إن استهلَّ شهر ربيع الأول من السنة السادسة للهجرة، حتى جهّز رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كتيبة من فرسان المسلمين، وخرج على رأسها في مئتين من الرجال الأشدّاء، يريد تأديب بني لحيان، الذين ينزلون في وادي «فَزَّان» من نواحي مكة بالحجاز. ولقد آثر أن يخفي مقصده حتى لا يعلم به العدو فيتخذ له الحيطة اللازمة، فخرج من المدينة مُيمِّماً نحو الشمال، ومظهراً أنه يريد الشام، حتى إذا بَعُدَ به المسيرُ، وصارَ في منأى عن شبهة ذلك العدو وظنونه، عاد وانفتل راجعاً إلى طريق مكة، منحدراً إلى ناحية الجنوب، ومراده الوصول إلى «فزان» في أسرع وقت، إلاَّ أن قوماً كانوا قد رأوه في انحداره ذاك فأسرعوا إلى بني لحيان يخبرونهم بأمره، فأدرك هؤلاء أن محمداً قد جاء يريدهم، فهربوا يعتصمون برؤوس الجبال ومعهم متاعهم، وبذلك فات رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يصيبهم إذ وجد ديارهم خاوية خالية من الناس والعجماوات.. فأقام في تلك الناحية سحابة يومين، بعث خلالهما باثنين من فرسان الإسلام إلى ناحية مكة، فسارا حتى بلغا مكاناً قريباً من مكة يسمى «كراع الغميم» فلبثا قليلاً فيه ثم عادا إلى «فزان»، وبوصولهما أمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الناس بالرجوع إلى المدينة، وقد دخلها بعد غياب أربع عشرة ليلة، في يوم قائط بلغ من قيظه أن كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون. أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال».
* * *

غزوة ذي قرد
لم تكد تمرُّ بضع ليال على أوبة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى المدينة من غزوة بني لحيان، حتى أغارَ عيينة بن حصن في رجال من غطفان على نوقٍ لقاحٍ للمسلمين كانت ترعى بين أشجار «الغابة» في أطراف المدينة...
ولقد كان دافع عيينة إلى ذلك الغزو الخذلان الذي عاد به من غزوة الأحزاب. إذ كانت غطفان قد عوّلت على صلح مع المسلمين تنال فيه من ثمرات المدينة وخيراتها ما يشبع أطماعها، فلما أن أبى المسلمون أن ينيلوها شيئاً من أموالهم، عزمت على أن تأخذ عن طريق السلب والنهب ما لم تستطعه عن طريق الصلح.
وكانت النوق الحوامل في رعاية رجل من بني غفار وامرأته، فقتله رجالُ غطفان وساقوا الإبل واختطفوا المرأة، إلاَّ أن سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي كان قد رآهم بعدما خرج في الصباح الباكر يريد «الغابة» متوشحاً قوسه ونباله، فصرخ بأعلى صوته وهو مشرف على ناحية من «سَلْع»: «واصباحاه»! حتى أسمع ما بين ناحيتي المدينة.
وسمع المسلمون تلك الاستغاثة، فهبَّ جمع منهم وهو ينادي: «يا خيل الله اركبي».. وكان أول الواصلين إلى رسول الله الذين سارعوا يستبقون إلى تلبية النداء، المقداد بن الأسود فأمره رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يخرج ومن جاء من فرسان المسلمين في طلب القوم حتى يجهّز الرجال ويلحق بهم..
أما سلمة فكان قد اندفع بعد ندائه، يلحق بالغزاة حتى أدركهم على ماء «ذي قرد» وهم يستقون، فجعل يرشقهم بالنبال وهو يقول:
«أنا، أنا ابن الأكوعِ واليوم يوم الرُضَّع»
وفي هذه الأثناء كانت طلائع فرسان المسلمين قد اقتربت، فسارع عُيينَة وأصحابه في الفرار من وجوههم نجاةً بأنفسهم، لكن الفرسان كانوا قد أدركوا مؤخرتهم فقتلوا ثلاثة منهم، واستنقذوا بعض الإبل، بينما أفلت الباقون بعيداً عن منازلهم.
وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد وصل في خمسمائة من الفرسان إلى «ذي قرد»، فأبدى فريقٌ حماسةً واندفاعاً، وهو يريد اللحاق بالغزاة الفارين، إلاَّ أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ردَّهم عن ذلك بعد أن كان رجال غطفان قد بلغوا منازلهم.
وعَرَف الرسول الكريم ما أبداه سلمة بن الأكوع من ضروب الشجاعة والإقدام، فأثنى عليه وقال:
«خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخيرُ رجّالتنا اليوم سلمة».. وقد أكرمه الرسولُ الكريم على صنيعه الحسن ذاك بأن كان يعطيه سهم الراجل والفارس معاً..
وأقام الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في تلك الناحية يوماً وليلة، ثم قفل راجعاً بالمسلمين إلى المدينة، فما إن دخلوها، حتى كانت المرأة التي اختطفت قد لقحت بهم، إذ استطاعت أن تتغفَّل القوم أثناء انشغالهم بالقتال وتفلت من إسارهم، فسارعت إلى ناقةٍ من نوق المسلمين تركبها وتُغِذُّ السَّيْرَ فارَّة بنفسها.
وجاءت تلك المرأة تقص على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خبرها، وتعلمه بأنها نذرت لله تعالى أن تنحر الناقة التي حملتها إن نجَّاها الله سبحانه عليها.. فتبسَّم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يسمع ما تقول المرأة، ثم قال لها: «بئس ما جزيتها أنْ حمَلك الله عليها ونجّاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذرَ في معصية الله، ولا لأحد فيما لا يملك.. ارجعي إلى أهلك على بركة الله»..
* * *


مقتل أحد زعماء بني النضير أبي رافع سلام بن أبي الحقيق
وكأنَّ غزوة عُيينةَ بن حصن لأطراف المدينة، قد أوهمت البعض بأن المسلمين ما زالوا أضعف مما يظنُّهُ الناس ومما تنشر الأخبار عن قوتهم، وإلاَّ لما كانوا تركوا بني غطفان يفلتون من أيديهم..
ولاقت تلك الظنون أكثر ما لاقت هوىً في نفوس اليهود، وبخاصة منهم بني النضير الذين لجأوا إلى خَيْبَر بعد إجلائهم عن المدينة، وأحكموا سيطرتهم عليها حتى صاروا أسيادها.. ولذلك رأى أبو رافع بن أبي الحقيق، أحد زعماء بني النضير، أن يخرج ليؤلّب بعض القبائل على محمد، فلعله يستطيع كما فعل من قبل هو وحُيي بن أخطب أن يجمع الجموع من جديد لغزو المدينة واستئصال محمد وأصحابه.. وكان أبو رافع صاحب تجارة واسعة ومال كثير، حتى كان يلقَّب بتاجر الحجاز..
حملَ هذا الرجلُ مالاً وفيراً معه، وراح يتنقّل بين بني غطفان ومن جاورهم من قبائل العرب، وهو يغريهم بالمال كي يستعدوا لقتال محمد من جديد.
وعَرفَ المسلمون بأمره، فجاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، خمسة من بني سلمة من الخزرج وهم: عبدالله بن عتيك، وعبدالله بن أنيس، ومسعود بن سنان وأبو قتادة بن ربْعيّ وأسود بن خُزاعيّ، حليفٌ لهم، يستأذنونه في قتل ابن أبي الحقيق حتى يكونوا على قدم المساواة مع إخوانهم من الأوس الذين كان لهم فضل في قتل كعب بن الأشرف، وحتى لا يظلَّ ذاك اليهودي داعيَ إثارة للأعداء.. وأذن رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، للنفر الخمسة الذين جاؤوه بالذهاب إلى خيبر في المهمة التي أرادوها، وقد أوصاهم، صلى الله عليه وآله وسلم، ألاَّ يقتلوا وليداً أو امرأة، ولا ضعيفاً أو كهلاً، ممن لا قدرة لهم على حمل السلاح..
وخرج هؤلاء النفر إلى خيبر، فلمّا بلغوها رأوا أن يكتموا أمرهم متخفين، حتى إذا هدأت الطرقات من المارة وسكنت الحركة قصدوا منزل اليهودي مقدّمين أمامهم عبدالله بن أبي عتيك لأنه كان يحسن اللغة العبرية، ودقّ الباب، فخرجت امرأته فقالت من الطارق؟ قال: جئنا نلتمس الميرة..
وأسرعت امرأة أبي رافع تفتح الباب، فإذا بها ترى رجلاً يستلُّ السيف في وجهها ويهددها بالقتل إن صاحت أو علا صوتها. وممَّا زاد في خوف المرأة، وعقل لسانها عن النطق أنها رأت وراءه أربعة رجال يحملون سيوفهم، ويأمرونها بأن تدُلَّهم على مكان زوجها، فقادتهم إليه مكرهة، وأرشدتهم إلى حجرته..
ودخل الرجالُ على أبي رافع ليجدوه في بهوٍ فسيح، وقد انشغل في عدّ الأموال بين يديه فتقدموا منه مسرعين، لا يدعون له فرصة لسؤالٍ أو لقول كلمة واحدة، بل يهوون عليه كلٌّ بضربة سيف تزهق روحه، ولم يكتف عبدالله بن أنيس بضربته، بل وقف فوقه وغرز ظُبَّةَ السيف في بطنه حتى بلغ الفراش الذي كان يتمدّد عليه.
.. فلما أيقنوا هلاكه تركوه، وخرجوا على عجالة يلاحقهم صراخ زوج المقتول..
وكان عبدالله بن عتيك رجلاً ضعيف النظر، فزلَّت قدمُه وهو ينزل على السلَّم مسرعاً فأصيبت إحدى رجليه إصابة منعته عن التقدم مع رفاقه، فعادوا إليه يحتملونه حتى أتوا شقاً في الحصن نافذاً، يجري الماءُ فيه، فدخلوه مختبئين.. وسعت في أثرهم جماعة كبيرة من خيبر، تحمل المشاعل وتبحث في الجوانب والطرقات إلاَّ أنها لم تعثر عليهم، فظلوا متخفين عن العيون حتى واتتهم الفرصة فخرجوا يحملون صاحبهم عبدالله، ويقفلون راجعين إلى المدينة، ليأتوا رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويخبروه بالقضاء على أبي رافع العدو الحاقد، إلاّ أَنَّهم اختلفوا في الإجهاز عليه، وكان كل يدعيه لنفسه، فطلب منهم الرسول العظيم أن يعطوه أسيافهم، وبعد أن تأمّلها وفحصها أعادها إليهم وهو يشير إلى سيف عبدالله بن أنيس، السيف الذي أجهز على عدو الله، وقد عرفه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من الآثار التي كانت ما تزال عليه من جوف القتيل..
وهكذا كانت السنة السادسة للهجرة مليئة بالسرايا والمناوشات الدائمة، لا يهدأ فيها المسلمون أبداً، يأمرهم الرسول الأعظم بالخروج، قاصدين مختلف الأنحاء في شبه الجزيرة، حتى أمكنهم الوصول إلى أطرافها، كي يغزوا الأعداء أينما وجدوا، ويداهموهم قبل أن يستعدوا، معتمدين في ذلك عنصرَ المفاجأة حتى تبقى المبادرة بين أيديهم، فلا يفرض عليهم قتال، بل هم الذين يفرضونه أينما أرادوا، ووقت ما شاؤوا..
ولكن العنصر الأهم، والأعلى شأناً في قتال المسلمين، كانت الفضيلة التي اعتمدها الرسول الحكيم، صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كان يوصي بها قادة حربه وسراياه. فقد كان، صلَّى الله عليه وآله وسلم، يأمر جيشه بالتأني قبل أن يتقدّم للقتال، وكان يدعو المؤمنين ألاَّ يتمنوا قتالاً، لأنَّ فيهِ امتحاناً للقلوب وهدماً للأجسام، فكان يقول عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاصبروا»..
وكان، صلى الله عليه وآله وسلم، حريصاً على منع القتال حتى عند أخذ الأهبة له. ونحن نراه، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد زمنٍ من هذه الأيام، يقول لمعاذ بن جبل، وقد أرسله إلى اليمن قائداً: «لا تقاتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً ثم أروهم ذلك وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا سبيل؟ فلئِنْ يهدِ الله على يديك رجلاً واحداً خير مما طلعت عليه الشمس»..
ومثل هذا التوجيه كان من رسول الله في وقت كان الله سبحانه قد أعزَّ الإسلام، وجعله ديناً ثابتاً، موطَّد الأركان والدعائم، لا ديناً يقاتل أتباعه كي يردوا عنهم هجمة الأعداء، ويستميتوا في سبيل حرية معتقدهم..
فسنة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في الحرب كانت دائماً مجسدة في وصاياه التي تحمل الرحمة والرأفة، والشرف والرفعة، وكلّ ما يرتجى منه خيرُ الإنسان. وما كان الرسولُ الكريمُ يأمر جماعةً بالخروج إلى القتال إلاَّ ويوصيهم قائلاً: «انطلقوا باسم الله وعلى بركة الله. لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً ولا امرأة، ولا تَغُلّوا أو تخونوا، وضمّوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله تعالى يحب المحسنين».
هذه هي تعاليم الحرب الإسلامية، تظهر في وصايا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لجنوده.. ومنها يظهر جليّاً أن الحروب لا يجوز أن تكون إفناءً وإتلافاً، ولا إفساداً أو تحلّلاً من القيود الإنسانية، بل هنالك أهداف يجب أن تكون مشروعة، وقد فرضت الحرب كوسيلة أخيرة لتحقيق هذه الأهداف. أو قد تكون هنالك حقوق مسلوبة، والواجب الديني والدنيوي يفرض استرجاعها.. فلا يجوز أن تكون الحرب من أجل الحرب، أو من أجل المطامع والاستغلال والظلم، ومتى خلت الحرب من المطامع والنزعات الشريرة فلا يمكن أن يباح فيها كل شيء، كما يفعل مجرمو الحرب في أيامنا هذه، حيث يتحللون من جميع القيم، ويتخلَّون عن كل الفضائل، ضاربين عرض الحائط بقيم الإنسان، وعاملين على إهلاك الحرث والنسل ومستبيحين كل شيء من أجل أغراضهم الدنيئة..
وقد يأخذ الناسَ العجبُ من الكلام عن الفضيلة في الحروب، فهل يعقل أن تتحكم هذه الفضيلة في العقول والنفوس، إذا ما دوَّت المدافع، وانهالت القنابل، وأُزهِقت الأرواح، واستبيحت الحرمات؟!.. نعم! هل يكون ذلك وفي معتقدات أهل هذه الأيام جنوح نحو الخيال والوهم؟.. هذا التساؤل هو الخطأ بعينه، إذ ينبغي أن يعرف الناسُ أن إبعادَ الفضيلة عن الحروب شَرٌ كله، لأنه لولا ذلك لما كانت الاتفاقات الدوليّة قد عقدت، ولما كانت المؤتمرات والمحافل قد أقيمت بهدف وضع القواعد والنظم التي تنتهي في غاياتها إلى حدٍّ أدنى من الفضيلة في الحروب..
على أنَّ كلَّ ذلك، ومهما كانت دوافعه أو غاياته، فإنه يبقى مقصّراً عن النظام الأمثل الذي وضعه رسولُ الإسلام في الحروب، والذي بانَ جلياً واضحاً في وصاياه وأوامره إلى قادته وجيوشه.. فالرسولُ، صلى الله عليه وآله وسلم، قد قام حقاً بالحروب، ولكنها كانت حروب النبوة المقيدة بقانون السماء، وقد قام بها ليعلّمها للناس من أجل خير الناس، لا لقتل الناس وإفنائهم، ومتى كانت الحرب لخير الناس، ووفق المفاهيم التي أرساها رسول الإسلام، فإنها تكون حينئذٍ رحمة من الله على الناس..
* * *

مُعَاهَدة الحُدَيبيَة
لقد حقق الأسلوب الحربي الذي اعتمده المسلمون في حروبهم، والقائم على عنصر مباغتة العدو ومفاجأته على حين غفلة منه، أغراضَه بنجاح، إذ ما كادت السنة السادسة للهجرة تُشرف على نهايتها حتى كانت هيبة المسلمين قد تمكّنت من النفوس، وأصبحت قبائل العرب تقرُّ لهم بالقوة، وتخاف شدَّة بأسهم، مما أخذ يهيىء لحياة استقرار تقوم على علاقة حسن الجوار، وعلى نبذ الثارات ودفن الحزازات تمكيناً للعيش في أمن وسلام..
وإذا كان الإسلام قد ثبّت سلطانه في المدينة، إلاّ أن قبائل العرب وفي طليعتها قريش، وجماعات أخرى من سكان الجزيرة كبني يهود في خيبر، ما زالت لا تعترف بالإسلام ديناً من أديان شبه جزيرة العرب، ولا تقر لأتباعه ما لأتباع الأديان والمعتقدات الأخرى من حقوق لا سيما حقهم في زيارة المسجد الحرام، والحجّ إليه في الأشهر الحُرُم..
وإذا كانت السنوات الست التي انقضت منذ هجرة محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، من مكة قد تلاحقت مليئة بالحروب والمعارك، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يدوم إلى ما لا نهاية، بل يجب أن يحلَّ اليوم الذي يدرك فيه أهالي جزيرة العرب أن محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما جاء داعية حروبٍ وقتالٍ، ولا منادياً بالتفرقة وزرع بذور الفتنة بين الناس، بل على العكس من ذلك تماماً، جاء هادياً ليخلّص الناس من أدران الوثنية، وينتشلها من موبقات الجاهلية.. وإذا كانت قريش واليهود قد رفضوا الانصياع لنداء العقل، وأصرّوا دائماً على محاربة الإسلام، فقد آن لهم أن يدركوا خطل عنادهم وبعدهم عن الحق، وقد أثبتت لهم السنوات الأخيرة التي انقضت أن الإسلام كلما تقدمت به الأيام، علا شأنه، وازداد انتشاره، فَلِمَ إذن البقاء على معاداته دونما تفكير في سلامٍ معه؟!..
لا.. لن يكون لأعداء الإسلام أن يفكروا في مهادنته وإقامة علاقات سلام مع أتباعه ما داموا يظنون بأنهم قادرون على محاربته والنيل منه... إلاَّ أن نبيَّ الإسلام وقد وصل إلى المرحلة التي وصل، يريد هذا السلم، وما كان تفكيره منذ جلاء الأحزاب عن المدينة إلاَّ منصبّاً على هذه الناحية.. ولكنه كان يرى أن اليهود في خيبر ما زالوا أبعد الناس عن تقبّل هذه الحقيقة لاعتقادهم أنَّ ما يتمتعون به من قوة كفيلٌ بأن يحقق لهم القضاء على محمد ودينه يوماً ما.. إذن فلمْ يبق إلاَّ الطرف الآخر في العداوة، أي قريش ذاتها، فمعها يمكن إقامة معاهدة سلام إلى حين من الزمن، حتى تنجلي الحقيقة وتستوي الأمور!..
ولكن كيف السبيل إلى إقناع قريشٍ بإقامة صلح مع المسلمين؟!.
وما عسى أن يصنع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يحقق هذا الغرض؟!. لقد تفكر الرسول الأعظم طويلاً بذلك، فرأى أن يقصد بيت الله الحرام كي يؤدي فريضة الحج، غير راغبٍ في حرب، ولا طامعٍ في قتال، وما على قريش إلاَّ أن تقبل بحجّه أو ترفضه، وإن كانت الدلائل كلها تشير إلى القبول دون الرفض، ما دامت تلك الوحدة التي كانت تتمتع بها قد عراها الضعف، والقوة التي كانت تتعالى بها قد شابها الوهن، فباتت تخشى المسلمين، وترهب جانبهم، بل ويستبدُّ بها القلق وتأخذها الهواجس كلما تناهت إليها أخبارهم، أو علمت بمآثرهم..
فقد عزم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يتخذ من الحج إلى بيت الله الحرام خطة سلام تمكّنه من الاجتماع بقريش والتفاوض معها على مختلف الشؤون التي تهم الطرفين.. وإنه لفي تدبُّر الطرق الكفيلة بتنفيذ هذه الخطة، إذ برؤيا نبويَّة شريفة تجيئه وهو نائم بأنه سيدخل المسجد الحرام مع أصحابه آمنين، محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، لا يخافون عدواً يصدّهم، ولا مانعاً يمنعهم..
وبشَّرَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، المسلمين بذلك، ففرحوا لها كثيراً، وارتسمت أمامهم الآمال واسعة، وأقبلت عليهم الأماني عريضة، فأمَّا الأنصار فقد كان الشوق يغالبهم لزيارة المسجد الحرام منذ ست سنوات، عندما حرموا من تلك الزيارة، ومنعوا من دخول مكة والوصول إلى الكعبة الشريفة للطواف حولها، واللياذ بجوارها آمنين مطمئنين...
وأمّا المهاجرون فلم تفارقهم صورة البيت العتيق منذ أن ارتحلوا عنه مكرهين، فهم على حبّهم للعودة إلى أحضانه، يحنون أيضاً إلى مكة، موطن الطفولة والشباب، وموئل الأهل والأحباب.. ففيها قد خلّفوا شطراً من حياتهم لا يمكن أن يصدأ بنسيان، أو أن يمحوه بُعاد..
وهكذا، ما إن سرت بشرى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في النفوس، حتى كانت العواطف تسيل فيّاضة، وتحنُّ القلوب ملتاعةً.. وإنَّ في روحانية الإسلام، وما يبعثه في الجوارح من صفاءٍ ونقاوة، ما يزيد في تأثّر تلك النفوس ويجعلها أكثر رهافةً وشفافيةً.. فراح المسلمون يستعدّون للسفر إلى الحجّ، وأعماقهم مليئة بالارتياح والسعادة..
على أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، رأى ألاَّ يذهب بالمسلمين وحدهم في ذلك السفر المشهود، بل أرادَ أن يكون معهم أناس من قبائل العرب التي لم تدخل في الإسلام، ومن كل من يرغب في مرافقتهم حتى تستيقن قريش بأن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يأت مكة ليغزوها، وإنما جاء إلى الحجّ، ومعه من الناس من ليسوا على دينه.. فإن وقفت في وجهه، وحاولت دون وصوله البيت الحرام فإنَّ ذلك سيكون حجة ضدها، ومنعُها حينئذٍ يجعل الحاجّين يؤمنون بأن الدعوة الإسلامية ليست دعوة عداوة واعتداء، وإنما هي دعوة محبة ووئام، ولا يمكن إلاَّ أن تكون كذلك إن أرادَ الناس أن يقفوا على حقيقتها ويعرفوا جوهرها.. ومن أجل ذلك بعث الرسول الحكيمُ والسياسيُّ العظيمُ إلى قبائل العرب المجاورة للمدينة بأن يشتركوا معه في الذهاب إلى الحجّ في ذلك العام.
وتهيّأت الأجواء للمسير، وتعالى الأذان بالحج، فخرج الناس وراء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة قاصدين بيت الله الحرام في مكة، وقد عقد اللواء لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فتقدم المسيرة وقد أخذ معه سبعين بُدْنَةَ من الهَدْي ساقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم خلّف على المدينة ابن أم مكتوم، وحمل معه من نسائه أم سلمة (رضي الله عنها)؛ كان عدد من خرج من المهاجرين والأنصار، ومن لحق بهم من العرب غير المسلمين ألفاً وأربعمائة رجل، لا يحملون من السلاح إلاّ السيوف في أغمادها ـ وهي سلاح المسافر عادة في بلاد الصحراء ـ، وكيف يحملون سلاحاً ومقصدهم الحَجّ وليس القتال أو الحرب؟!..
وتقدَّم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أمام ذلك الموكب على ناقته القصواء، حتى إذا قطع مسافة تقارب الأميال السبعة وقد بلغ محلة تسمى «ذو الحليفة»، هنالك أحرم وأمر بالإحرام فلبّى المسلمون بالعُمْرة: «لبّيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلْك، لا شريك لك».
وبعد التلبية والاعتمار، سار الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بركبه نحو مكة، مقدّماً أمامه عباد بن بشر في عشرين فارساً، يرتادون لهم الطريق، فكانوا للحاجّين طليعةَ حذرٍ وانتباهٍ، ورايةَ سلامٍ وأمان..
ولما كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يريد أن يعرف نيّات قريش من خروجهم، فقد بعث رجلاً من بني كعب، اسمه بشر بن سفيان، يتقصّى أخبارها، ويقف على ردّة الفعل لديها؛ وظلَّ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، يتابع السير حتى بلغ «عسفان» على بعد مرحلتين من مكة، وهنالك التقاه بشر بن سفيان، عائداً من مهمته لينبئه من أخبار قريش وما عزمت عليه لما بلغَها خبره بالخروج، إذ أخذتها المخاوف، وهي ترى أنه جاء غازياً مكة، كما غزت الأحزاب المدينة من قبل، وإن كان مجيئه تحت ستار الحج إلى بيت الله الحرام، ولذلك قررت أن تحول بينه وبين دخول بلدها، مهما كلفها الأمر من تضحيات؛ وقد ائتمر سادتُها بذلك ودعوا للتأهب للقتال، والاستعداد للحرب، ثم جهزوا جيشاً كبيراً بلغ عدد فرسانه مئتين، عدا الرجّالة والمحاربين من بني قومها، ومن استنصرت بهم من أقوام آخرين جاؤوا يذودون معها عن حياض مكة ويقاتلون المسلمين، وقد خرج الجيشُ الذي أعدته بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل؛ وقد أنهى بشر إخباره للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله: «وقد لبسوا جلد النمر، ونزلوا بذي طُوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم».
فلمّا سمع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما فعلت قريش، قال: «يا ويح قريش قد أهلكتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام داخرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يُظهِره الله أو تنفرد هذه السالفة».. قال ذلك وهو يشير، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى صفحة عنقه الشريف قاصداً به أنه سيظل يجاهد في سبيل دين الله حتى ينتصر هذا الدين أو يموت دونه..
وقدَّر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن جيش قريش قد خرج محارباً، يصدُّ المسلمين ويبعدهم عن مكة، وهو يرابط الآن على مسافة لا تبعد أكثر من أميال ثمانية عن مكانهم، فإن تابع مسيره في اتجاهه فإن القتال سوف يقع لا محالةَ، لأن المسلمين لا تنقصهم الحمية، ولا يعوزهم السلاح، وفي أغمادهم سيوف قد تعوّدت الضراب والقتال طوال ست سنوات، فضلاً عن تمرّس كثيرين من أصحابها بأيام العرب وحروبها المتواصلة، وإنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام جيش قريش، وهو يحول بينهم وبين تلك الغاية الشريفة التي جاؤوا لها؛ وهذا كله ما لا يريده محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لأن خطته هي السلم وليس الحرب!.. فماذا عساه أن يصنع إذن؟.
إنه لا يريد الحرب حقّاً ولكن بإمكانه أن يُظهر للملأ بأن قريشاً تريد الظلم والعدوان وها هي قد بعثت بجيشها لتحول بين هذه الجماعات التي جاءت مسالمة، لا تريد إلاَّ حقاً مشروعاً لا يمكن لأحد أن يمنعها عنه، فإن استبدّت برأيها ومنعت هذه الجماعات من زيارة المسجد الحرام فكأنها بذلك تصرفهم عن عقيدتهم التي هي دين إسماعيل وملة أبيهم إبراهيم (عليه السلام) وإنَّ في ذلك ما يجعل العرب كلها ضد قريش، إذ ماذا يضمن للقبائل ألاَّ تتحكم قريش بمصائرهم، فتمنعهم عن حجهم متى تريد، أو تسمح لهم بهذا الحجّ متى تشاء؟!.. وما افتضاح أمر قريش هذا أمام الرأي العام كله، إلاَّ انتصار للدعوة الإسلامية، وعاملٌ هامٌّ على نشرها بين الناس.. ولذلك آثر رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن لا يحيد عن خطة السلم التي اعتمدها، فإن حيل بينه وبين مقصده، ومنع هو ومن معه من الحجّ، وقدّر الله تعالى هذا المنع، فإنه يريده منعاً سلمياً لا عن طريق الحرب والقتال، وإن قدّر له دخول مكة والوصول إلى المسجد الحرام، فإنه يريده أيضاً دخولاً سلميّاً، لا دخول عنوة وإذلال.
وبذلك كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في تفكيره أبعد نظراً وأكثر حِنكة، وأدق سياسة من أي إنسان آخر...
إذن لن يغيّر الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، الخطة التي اعتمد، فأعلن في الناس ما فعلت قريش، وما بعثت من جيش يرابط في طريقهم، ثم نادى في الجموع: من يخرج بنا على غير طريق جيش قريش التي هو عليها؟
وخرج من بين الناس حمزة بن عمرو الأسلمي قائلاً: «أنا يا رسول الله».
وانطلق حمزة أمام حجاج بيت الله الحرام، يسلك بهم طريقاً وعرة، ضاقت ممراتها، وكثرت نتوءاتها، مما جعل السير فيها صعباً للغاية، لا يأمن السائر على نفسه من الانزلاق بين لحظة وأخرى أو الانحدار نحو أعماق الوادي الذي يمرون فوقه؛ وما زالوا يجهدون في قطع تلك المسالك حتى وصلوا إلى سهل عند منقطع الوادي فسلكوا ذات اليمين حتى خرجوا على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. وما إن بلغوا الحديبية حتى بركت القصواء ناقة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، على حين فجأة، فظنها الناس قد جهدت، فجعلوا يصيحون بها لتنهض، إلاَّ أنها ظلت في مكانها باركة، مما أدهش الناس فقالوا: «لقد خلأت القصواء» ـ أي حزنت لا تريد القيام ـ ولكنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال لهم مستدركاً: «ما خلأت وما ذلك لها بِخُلُق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة! والذي نفس محمد بيده ما تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم، وتعظيم حرمات الله إلا أعطيتهم إياها».
ثم دعا الناس إلى النزول وإقامة معسكرهم في الحديبية... وأثناء إقامة المعسكر وجدوا أن لا ماءَ حيث ينزلون، فجاؤوا رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يشتكون مما قد يصيبهم من العطش والجفاف، فأشار عليهم أن يبحثوا عن الآبار الموجودة هناك، وهي كثيرة، وأن ينقبوا عن الماء في أعماقها، فلعلّ الله سبحانه يهديهم إلى ماء وفير.. وبالفعل صدق تصور الرسول العظيم، إذ وجدوا في قعر بعض تلك الآبار من الماء ما يكفيهم للإقامة ما طاب لهم أن يقيموا، فزالت العقبة التي كانوا قد خالوها سبباً للضعف وقلة الثبات..
أما جيش قريش فما إن بلغه تحوّل المسلمين عن وجهة سيرهم، واتخاذهم مسلكاً يؤدي بهم إلى الحديبية، حتى أخذه الخوف والفزع، من تجاوزهم له واقتحامهم حدود مكة، فأصدر قادته الأوامر سريعاً بالاندفاع للتصدّي لهم، والوقوف في تلك الناحية التي يمكن أن يشنوا منها الهجوم ما دامت خالية من الجيش الذي يمنع ذلك الهجوم.
وهكذا صار كل فريق في ناحيته. المسلمون في الحديبية، وجيش قريش على مدخل مكة، وصار كل فريق تراوده شتى الأفكار لما يمكن أن يقوم به أصحاب المعسكر الآخر.. فأما أصحاب الحديبية فقد كانت أوامر الرسول لهم صريحة واضحة.. لا قتال ولا حرب، ولا مظاهر للعنف أو القوة، وأنهم جاؤوا حاجّين ولن يغيروا إلا بعد أن تهاجمهم قريش أو تغدر بهم، وعندها لا يبقى إلاَّ امتشاق السيوف وإنزال الضربة القاضية بالمعتدين.
وأما قريش فكانت ما تزال تصرُّ على موقفها، وهو محاربة المسلمين وردّهم عن بلدها ولو أدى إلى فنائها على بكرة أبيها.. لكنها وبعد مضي مدة وجيزة، وقد رأت أن محمداً ومن معه ما زالوا في الحديبية، لا يتقدمون نحو مكة، راحت تراجع حساباتها وهي في حيرة من أمرها، لا تعرف ماذا تصنع، فعاد رؤساؤها إلى دار الندوة يتشاورون في الأمر ولكنهم لم يستقروا على رأي، فقد اعتبروا أن السماح للمسلمين بدخول مكة والحج إلى المسجد الحرام مذلة تصِمُهم بالعار مدى الحياة، وإن قاتلوا المسلمين فإنهم لا يضمنون النصر. وكلا الأمرين أشدُّ من الآخر، ولذلك سيطر عليهم الحنق حتى كاد يقتلهم، واستبدَّ بهم التردّد حتى كاد يودي بهم..
وكانت كلما مرت الأيام شعر المسلمون من جانبهم بالضيق والتململ، وهم يرون أن قريشاً لن تمكّنهم من زيارة المسجد الحرام راضية، بل إنها تصرُّ على منعهم بعناد، وهم لن يظلوا في مكانهم ساكنين ينتظرون بلا جدوى، فلِمَ إذن لا يقاتلونها كي يردّوها عن غيها، فتستوي الطريق آمنة أمامهم لزيارة بيت الله الحرام؟!..
وجاءَ نفرٌ كبير منهم يعرض على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فكرة القتال تلك، فرفض بشدّة مؤكداً أنه لن يحيد عن خطة السِّلم التي رسمها منذ أن أعدَّ للعمرة عدتها، وأنه يؤثر الانتظار لمعرفة ما ستفعله قريش!..
ولما طال الانتظار من الجانبين، وقريش قد استبدَّ بها القلق، رأت أن ترسل إلى محمد من يقف على مدى قوته ويتعرف على حقيقة نيّاته، فبعثت بُديْل بن ورقاء في رجال من خزاعة ــــ وخزاعة من قبائل العرب الموالية لمحمد، مسلمها وكافرها ــــ يسألونه عما جاءَ به وماذا يريد؟!.. فأقنعهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد مفاوضة قصيرة أنه ما جاء لحرب وإنما زائراً للبيت العتيق، معظماً لحرماته، وهو يقول لهم: «إنّا لم نأتِ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، فإن شاءت قريش ماددناهم مدة ويخلّوا بيننا وبين الناس، وإن أبوا فوالذي نفس محمد بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي».
لقد اتضح موقف محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وبانَ صدقه جلياً، فعاد ذلك الوفد إلى قريش قائلاً: «يا معشر قريش! إنكم والله تعجلون على محمد، إنه لم يأتِ لقتال وإنما جاء زائراً للبيت». ولكنَّ قريشاً اتهمت رجال خزاعة بالمراوغة، مُمالأةً ونُصرةً له، فقالت لهم:
«وإن كان قد جاء لا يريد قتالاً، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً ولا تتحدث عنا العرب بذلك».
فأوفدت قريش من جديد مكرز بن حفص، أخا بني عامر، فما سمع هذا الرجل من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ ما سمعه وفد خزاعة، فعادَ يحدث قريشاً بالحقيقة ولكنها لم تؤمن به...
لا... لن تقنع قريش بأن محمداً جاء مسالماً.. وكيف تقبل بمثل هذه الفكرة وفي أعماقها لا يوجد إلا الحقد والضغينة عليه.. إذن فهي لا ترضى إلاَّ بقتاله واستئصاله هو وأصحابه من الحياة!... ولكن أوليس كل من ذَهَب إليه رجع يؤكد لها موقفه السلمي؟!..
وعادَ القلق يستبد بقريش والتردد يمسك بأعناقها حتى يكاد يخنقها.. إنها لا تدري ماذا تصنع، ولكنّها هل تقف مكتوفة الأيدي ولا تقدم على ما يحقق لها مأرباً؟!.. طبعاً لا، ولن يعوز أشرارها تدبر ما يحقق مآربها.. ولذا رأت بعد أن ائتمرت وتشاورت، أن ترسل لمفاوضة محمد، الحليس بن علقمة سيد الأحابيش، وغرضها من ذلك إثارة حفيظة هذا الرجل عليه إن فشل معه في المفاوضة، فيعود حانقاً ليقود بني قومه لقتال محمد وأصحابه، فيريحونها منه ومن الهمِّ الذي جاءها به...
هذا ما عوَّلت عليه قريش، وهي أن تدفع الأحابيش في وجه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، مغضبين، مقاتلين، ولكنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يدرك خلفيّة تفكير قريش في كل من تُوفِده إليه، فلما علم بأمر الحليس انتظر حتى أطلَّ الرجل من بعيد، فأمرَ بأن يُطلق الهديُ أمامَه ليكون دليلاً مادّياً محسوساً على حسن نيته وصدق ما يبدي..
ورأى الحليسُ الهدْيَ مقبلةً في عرض الوادي وقد أخذت سبيلها للرعي لشدة ما أصابها من جوع بسبب حبسها، وتطلع إلى معسكر الحديبية فما وقع بصرُه إلاَّ على معتمرين، تحف من حولهم مظاهر العبادة، وتنتشر في أجوائهم نفحات الأمان، فثارت نفسه لتلك المشاهد المؤثرة التي لا يراها صاحب نفسٍ صافية إلاَّ ويشعر بأنها قد نفذت إلى أعماقه، لتزيل منها كل كوامن الحقد والضغينة..
ووقف الحليس يرقب ويتأمل، ثم لم يلبث أن يعود منقلباً إلى مكة من غير أن يلقى رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتي قريشاً طالباً إليها أن تخلي بين محمد ومقصده لأنه جاء طالب عبادة حقاً... ولكنَّ الحليس أغاظ قريشاً بما أبداه، فقال له أشرافها: «اجلس فإنما أنت أعرابيّ لا علم لك».
وأحسَّ الحليس بالمهانة... إنّ قريشاً تصفه بالغباء لأنه لا يعرف شيئاً من مكيدة محمد، وها هي توجّه إليه التوبيخ على جهالته، فيشعر بالضيق وينفر في وجوههم مُغضِباً وهو يهدّدهم قائلاً:
«والذي نفس الحليس بيده لتُخَلُنَّ بين محمد وما جاء له أو لأنفرنَّ بالأحابيش عن مكة نفرةَ رجلٍ واحد».
ووقعت قريش في سوء فعالها، وخافت من مغبة الأمر..
فهذا الحليس يهددها بالنفور عن مكة في الأحابيش، ولئن فعل فإنها ستخسر قوماً محاربين، أشداء في القتال، فتضعف قوتها، وتخور عزائمها، وبذلك تصبح لقمة سائغة لمحمد، يستطيع أن يقضي عليها قضاءً تاماً... إذن فلتستدرك الأمر!...
وقام سادة قريش إلى الحليس يسترضونه، وهم يرجونه بأن يمهلهم بعض الوقت حتى يفكروا فيما يرون من أمر... وأجمعت قريش بعد التشاور على أن تبعث إلى محمد رجلاً حكيماً حازماً، تكون لديه القدرة على إقناعه بالعودة من حيث أتى دون أن يدخل مكة، فما رأت رجلاً أفضل لذلك من عروة بن مسعود، سيد بني ثقيف، فلما حدّثوه في الأمر، قال عروة: «ما أرى إلاَّ الرجل يعرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها»... وما كان رأيه ذلك إلاَّ مما رأى من تغرير قريش لمن أوفدتهم وعادوا إليها بالرأي الصواب... ولكنَّ قريشاً قالت لعروة: «إن محمداً لا يقصد إلاَّ إذلالنا وأنت خير من يقدر على معرفة نياته».
قال عروة: إذن فسآتيه.
قالوا: فأتِهْ..
وجاء عروة الثقفي يلقى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول له: «يا محمد! إني تركت قومك قد استنفروا لك، وهم يقسمون بالله لا يُخَلّون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم، وإنما أنت من قتالهم بين أمرين: إما أن تجتاح قومك ونحن لم نسمع برجل اجتاح قومه قبلك، وإما أن يخذلك من ترى معك، فإني لا أرى معك إلاَّ أوباشاً من الناس لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم».
وكان أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) جالساً خلف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يحتمل تلك الإهانة بل ردّها على الرجل، وقام يؤكد له أن أياً من المسلمين لن يتخلى عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أو يموت دونه، وكان مما قاله له: «ويحك يا عروة، أنحن نخذل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وننهزم عنه؟! لا والله يا من تعبد الصنم ونحن نعبد الله»...
ونظر إليه عروة حانقاً وهو يقول له: «أما والله لولا يَدٌ كانت لك عندي يا ابن أبي قحافة لكافأتك بها ولكن هذه بها».. وكان عروة يشير بذلك إلى أنه كان يحمل ديّةً فأعانه فيها أبو بكر (رضي الله عنه) وكان ينوي أن يردها إليه ولكنَّ إهانته له كانت مقابلها...
وراح عروة بن مسعود يحاور رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في محاولة لإقناعه بالعودة عن مكة، والرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يردُّ عليه بكل أناة وصبر، داحضاً ما يبدي من حجج، بالمنطق السليم والقول المتزن، مما جعل النقاش يطول بينهما... وكان في الجمع الذي يحيط برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، المغيرة بن شعبة ــــ ابن أخي عروة ــــ وقد وقف فوق رأس النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وسيفه بين يديه، فخفي أمره على عمه من المغفر الذي وضعه على وجهه.. وكان المغيرة يرقب كل حركة بدقة وانتباه، فرأى أن عروة يحاول أثناء الحديث أن يمسك لحية رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بيده جرياً على عادة العرب في الملاطفة، والرغبة في التحية والتواصل، فإذا به يمنعه عن ذلك ويضرب يده بكعب السيف ويقول له: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك... فأجفل عروة وأبدى مضايقة ونفوراً من الرجل المقنع، فقال له: «ويحك ما أفظّكَ وما أغلظك»...
ثم التفت إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يسأله: من هذا الرجل؟.
فابتسم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: إنه ابن أخيك: المغيرة بن شعبة...
فدهش عروة وقال: ويحَك يا ثقفي!.. إن حبَّ محمد عند أصحابه فوق حبهم لأهليهم...
ولم يجرؤ عروة بعد ذلك أن يمد يده نحو وجه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خوفاً من أن تقطع، ولكنَّه لدهائه، ظلَّ يجادل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويفاوضه، مستعملاً شتى الأساليب، وأفانين الحيل كي يوقع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يحتجُّ به عليه، ولكنه لم يسمع منه إلاَّ جواباً واحداً: السلم.. ولم يجد عنده إلاَّ شيئاً واحداً: الحجّ إلى بيت الله الحرام...
وأفرغ عروة بن مسعود كلَّ ما في جعبته دون أن يحصل على ما يريد، فقام عائداً إلى قريش، والذهول يأخذه مما رأى، فما كادَ يصل إليهم حتى بادرهم قائلاً: «يا معشر قريش! إني جئت كِسْرى في مُلْكه، وقيصرَ في مُلْكه، والنجاشيَّ في مُلُكِه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قطّ مثل محمد في أصحابه، ما أمرهم بأمرٍ ابتدروه وإذا توضَّأَ ثاروا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النظر تعظيماً له، ولا يسقط من شعره شيء إلاَّ أخذوه وإنهم لَيُقَبِّلُونَ التراب الذي تدوسه قدماه، وإنهم لن يسلموه لشيء أبداً، وإنه قد عرض عليكم خِطَّة رُشْدٍ، فأقبلوها وهذا رأيي، فَرُوا رأيكم».
وأسقط في يد قريش ولم تعد تجد لها ذريعة تحتجُّ بها... خزاعة، وعامر، والأحابيش، وثقيف... جميعاً بعثت إلى محمد، وجميعاً عادوا مصدّقين لمحمدٍ ومثبتين صفاء سريرته في مجيئه، فماذا تصنع؟!..
.. وطالت المشاورات في قريش، وطال بها تشتت الرأي وتوزع الكلمة.. فلا أمراً تجمع عليه، ولا خطة تهتدي إليها، لقد غلبها محمد حتى أفلت من يدها كل حجة، فباتت حائرة مترددة، لا تعرف ماذا تفعل...
ورأى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أن قريشاً لم تعد تبعث أحداً لمفاوضته، فأراد أن تكون المبادرة منه، فأرسل إليها خراشَ بن أمية الخزاعي ليقف على ما وصلت إليه، ولكنها ما إن رأت رسول محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى ذهب كل تباين في رأيها وامَّحى كل تقلّب في فكرها، فكان إجماعها على ردّه... فقاموا إليه يعقرون جمله، ويريدون قتله لولا أن تدخّل الأحابيش ومنعوهم من ذلك، فخلّوا سبيله...
واحتمل الرسول الأعظم ذلك الخطأ الكبير الذي اقترفته قريش، رغم أن مهانة الرُّسل لا تُحتمل ولا تُغتفر، وغفَر لها تلك الحماقة التي ارتكبتها... ولكنَّ هذا لم يزدها إلاَّ إمعاناً في الغرور والكراهية، فراحت تبعث في جوف اللَّيل سفهاءها يرمون عسكر المسلمين بالحجارة، ويُسمعونهم شتى أنواع الشتائم وأقذر السباب، والمسلمون ساكنون لا يردون عليهم بشيء، حتى كانت إحدى الليالي وجاء خمسون رجلاً من قريش كعادتهم للتحرّش بالمسلمين، فقاموا إليهم يمسكون بهم ويقودونهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كي ينظر في أمرهم، فما كان منه، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أن عفا عنهُم وطلب إطلاق سراحهم...
تلك الفعال الشنيعة من قريش، وما قابلها من سماحة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وخلقه العظيم، كانت لها أصداؤها المدوِّية على الرأي العام في مكة، حتى باتت غالبية هذا الرأي في جانبه، ولو أرادَ دخولها في ذلك الحين لوجد أنه لا يقف في وجهه كثيرون، بل على العكس يلقونه مرحبين، ويستقبلونه معتزِّين... ولكن مقاصدَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كانت بعيدة، فترك لقريش أن تثوب إلى رشدها، وأن ترعوي عن غيّها، وتفكر فيما آل إليه أمرها، من استنكار الناس لأفعالها، والاستهجان من مواقفها، وأدركت قريش ذلك، فغلب عليها السكون، وارتضت بالمفاوضة والركون إلى السلام..
وأرادَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يمتحن قريشاً مرة أخرى، ففكّر في أن يبعث رجلاً إن أتاها ركنت إليه واطمأنت لمفاوضته، وقد يكون عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) هو ذلك الرجل، فلما عرض عليه الرسول الكريم هذا الأمر يستشيره فيه، أبدى عمر عذره في عدم الذهاب بقوله: «يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها».
ودعا رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إليه صهره زوج ابنته، عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وأوفده إلى قريش مفاوضاً..
فذهب عثمان (رضي الله عنه) إلى مكة، فلمّا بلغها لقيه أبان بن سعيد، فطلب إليه أن يجيره، فأجاره أبان، الوقت الذي يفرغ فيه من أداء رسالته.. وقصد عثمان (رضي الله عنه) أبا سفيان بن حرب، واجتمع إليه في عدد من أشراف قريش، يخبرهم بأن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لا ينفك يريد زيارة المسجد الحرام.. ولكنَّ القوم ثاروا في وجهه وأبوا ذلك قائلين: «يا عثمان! إن شئت أن تطوف أنت بالبيت فطُفْ».. فأجابهم عثمان (رضي الله عنه):
«ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: إنما جئنا لنزور البيت العتيق ولنعظّم حرماته، ولنؤدي فرض العبادة عنده. وقد جئنا بالهَدْي معنا فإذا نحرناها رجعنا بسلام»..
ورفضت قريش مُصرّة على عنادها.. ورفض عثمان (رضي الله عنه) أن يفارق مكة قبل أن يصل إلى ما يمكّن من تقارب وجهات النظر، وبذلك طالت المفاوضات بينه وبينها ثلاثة أيام، الأمر الذي أقلق المسلمين عليه، ثم سرت الإشاعة بأنَّ قريشاً قد غدرت بعثمان بن عفان وقتلته، وكانت تلك الإشاعة كافية لأن تهيج غضب المسلمين، وأن يطلبوا من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعزم على القتال... إلاَّ أن الرسول الأعظم كان لا يزال يصرُّ على تنفيذ خطة السِّلم، وقد أعطى لقريش كل الفرص كي تأنس منه هذا الموقف، وهو لا يريد أن يفقد الأمل مع أن الفرصة آتية لا شك فيها، ولكن عليه أن يحسب لجميع الاحتمالات حسابها فهو وإن كان يستبعد قتل قريش لعثمان، إلاَّ أن ذلك لا يمنعه من اتخاذ التدابير التي يمليها الموقف. لذلك عزم على القتال إن تأكد له غدْر قريش بصاحبه، فقال لمن حوله: «لئن فعلت قريش فلا نبرح حتى نناجز القوم»..
ولكي يهدّىء رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من ثائرة غضب المسلمين، ويمنَعَ ذلك الهياج الذي سيطر عليهم، دعاهم إليه، ثم وقف تحت شجرة وطلب إليهم أن يبايعوه.. ولبّى المسلمون طلب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبلوا يبايعونه جميعاً، ألاَّ يفروا حتى الموت.. وقد أبدوا من عميق الإيمان أخلصه، ومن قوة العزيمة أصدقها، ودُعيت تلك البيعة ببيعة الرضوان، وفيها نزل قولُ الله تعالى:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} .
لقد كانت نفوس المسلمين قد عزمت على القتال، ولكنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يؤمّل السلم الذي أراده، فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يطلب منهم البيعة، وهم على تلك الحالة، فإذا هي سكينة تنزل عليهم من السماء، وتفعل هذه السكينة فعلها حتى يعودَ عثمان بن عفان (رضي الله عنه) سالماً، لم تتطاول عليه قريش بسفاهة، أو تنل منه بأذى، بل عاد موفور الكرامة، مرفوع الجبين وقد أدَّى تلك المهمة الصعبة التي انتدبه لها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
.. وتناهى سريعاً خبر البيعة إلى قريش، فخافت على نفسها، ورأت أنَّ الأمر لم يعد يحتمل التسويف والمماطلة، لأنَّ المسلمين قد ملُّوا الانتظار وهي ما تزال تعاند في مواقفها. ولذلك ائتمرت وأقرّت بأن تفاوض على صلح يقيم التوافق بين مطالبها ومطالب محمد، ويكون سبيلها للتخلّص من المأزق الذي أوقعت نفسها فيه.. ولكنَّ قريشاً، ورغم الضيق الذي كانت تشعر به، فقد أرادت أن تحفظ ماء وجهها، فوضعت المطالب التي تريدها، ثم بعثت سهيل بن عمرو، أخا بني عامر، ليفاوض في تلك المطالب، وهي توصيه قائلةً: «ائتِ محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلاَّ أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً».
وجاء سهيل بن عمرو إلى الحديبية يطرح مطالب قريش على بساط المفاوضات.. وعرف النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بتلك المطالب فوافق على البحث فيها، لأنه رأى أن مجرد إقامة عهد بينه وبين قريش إنما يحقق المقصد الذي أراده، فلا يضيره أن يزور هو والمسلمون البيت الحرام هذا العام أو أن يزوره العام المقبل، إن شاء الله تعالى، فذلك أمرٌ مفروغ منه، ولكنَّ الأهمَّ أن يجعل قريشاً توقع على العهد، لأن في هذا التوقيع اعترافاً منها بالإسلام ديناً من أديان جزيرة العرب، وبحقوق أبناء هذا الدين في زيارة البيت العتيق، بل وهم أولى من غيرهم بزيارته بعد أن جعله الله سبحانه قِبلةً للمسلمين فأعطاه قدسية أعلى من قدسية قريش له، لأنها وهي تقدِّسه فإنها لا تقدّسه للعبادة وحسب، بل لغاية دنيوية أيضاً، وهي الحفاظ على مكانتها بين العرب، تلك المكانة التي نالتها بفضل هذا البيت ووجوده في بلدها مكة. كما أن إقامة صلح ما بين محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وقريش من شأنه أن يعزل اليهود في خيبر، الذين لا يزالون يطمعون في محاربته والقضاء عليه، وتلك العزلة ستحول بينهم وبين التزلّف لقريش وإغوائها على الوقوف بجانبهم في الحرب ضد محمد، صلى الله عليه وآله وسلم. وأهم من ذلك كله، أن الرسول الكريم سيفرض في شروط صلحه ما يمنع قريشاً من الوقوف في وجه انتشار الدعوة الإسلامية، فتنطلق تلك الدعوة آمنة من الغدر ونصب المكائد لها..
من أجل هذه المقاصد البعيدة، رضي رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يفاوض في مطالب قريش كما عرضها سهيل بن عمرو، فقال لأصحابه من حوله مستبشراً الخير: «قد سهُل أمركم.. القوم ماتّونَ إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصُلحَ، فابعثوا الهَدْيَ وأظهِروا التَّلبية، ولعلَّ ذلك يلين قلوبهم».
.. واهتزّت أرجاء الحديبية بأصوات التلبية، فحملت الرياح الأصداء تنشرها في أجواء مكة، وتنفذ إلى داخل بيوتها، فترتعد أوصال ساكنيها، وترتجف قلوبهم لوعةً وأسى...
ودخل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في المفاوضات مع سهيل بن عمرو.. فكان سير تلك المفاوضات شاقاً للغاية، إذ كان ابن عمرو يُبدي كثيراً من التشدّد، ويجهد في فرض المطالب التي يرجو تحقيقها، وقد أعلن أكثر من مرة رغبته في التوقف والانقطاع عن المفاوضة، إلاَّ أن الرسول الأعظم، وبما عهد فيه من حكمة وحنكة، وبما عرف عنه من دقة في السياسة، وقدرة على المحاورة، كان يحول بين ابن عمرو ورغبته تلك، مبدياً من التساهل، ما أدهش الصحابة، ومن التسامح ما عقلَ ألسنتهم، وإن كانوا في قرارة أنفسهم مُغضِبين على ابن عمرو لصلافته وتشدّده، وكأنه يمثّل أصحاب القوة الغالبة ومن بيدهم اتخاذ القرار بينما الواقع هو خلاف ذلك تماماً..
ومهما يكن من أمر، فقد تتابعت المفاوضات، وجرت مناقشة المسائل المطروحة كافة، حتى التأم الأمر على الصلح، ولم يبق إلاَّ كتابة المعاهدة. فدعا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) ليكون كاتب الوثيقة فجلس أمام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى جانبه سهيل بن عمرو، وقد أحاط بهم جمع غفير من المسلمين ومن المشركين..
وبدأ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً لعليّ: «اكتب: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم»..
فقال سهيل بن عمرو: «أمسك! لا أعرف من هو الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم».
وتابع قائلاً: واكتب: «هذا ما صالح عليه محمد رسولُ الله سهيل بن عمرو».. فعاد ابن عمرو يعترض ويقول: «أمسك! لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكنْ اكتب اسمَك واسم أبيك».. فوافق الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على ذلك وأشار إلى علي قائلاً: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو».
.. وكان الصحابة يرقبون ما يجري، والدم يغلي في عروقهم من اعتراضات ابن عمرو، ولكنَّ ثقتهم المطلقة برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقناعتهم التامة بصدقه، وبُعد تفكيره، قد عَقَلَتْ ألسنتهم، فمنعتهم من الجهر بما يجيش في صدورهم، فظلوا صامتين.
وتابع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يملي على علي (عليه السلام) نصَّ المعاهدة حتى اكتملت، فجاء أبرز بنودها:
1 ــــ إقامة هدنة بين المسلمين وقريش لا يجوز أثناءها أن يجري قتال أو تدور حرب.
2 ــــ من أسلَمَ من قريش وأتى محمداً بغير إذن وليّه ردَّه عليه، ومن ارتدَّ من المسلمين وجاءَ قريشاً فلا يردّونه عليه.
3 ــــ من أحبَّ من العرب محالفةَ محمد فلا جُناحَ عليه، ومن رغب في محالفة قريش فَلَهُ ذَلك.
4 ــــ رجوع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا، على أن يعودوا إليها في العام التالي، فيدخلوها ويقيموا فيها ثلاثة أيام وليس معهم من السلاح إلاَّ السيوف في أغمادها، ولا سلاح آخر.
5 ــــ مدة المعاهدة عشر سنين من تاريخ توقيعها.
وجرى التوقيع، وأشهد الشهود: رجال من المسلمين ومن المشركين..
ومن جرائها حالفت خزاعة محمداً، بينما حالف بنو بكر قريشاً.
لكنّ تلك المعاهدة برغم توقيع الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على وثيقتها، وقبوله بشروطها، لم تُرضِ كثيرين من المسلمين، حتى أنَّ بعضهم ضاق بأمرها صبراً، فثارت ثائرتهم، وعلا معسكرَهم الهياجُ، وهم ينددون بقريش وصلافتها، فأتى عمر بن الخطاب النبيَّ، صلَّى الله عليه وآله وسلم، بعد نقاش جرى بينه وبين أبي بكر الصديق (رضي الله عنهما) يبادره بقوله: ألستَ برسول الله؟.
قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: بلى!.
قال عمر: أولسنا مسلمين وهم مشركون.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: بلى.
قال عمر: فعلام نعطي الدنيَّةَ في ديننا؟.
قال رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا عبدُ الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يُضيِّعني».
وكأنما أرادَ الله سبحانه أن يمتحن صبر المؤمنين وقوة وفائهم للعهد الذي أخذه النبي الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، على نفسه فبعث إليهم في تلك الساعة التي اضطربت فيها النفوس أحد المسلمين، وهو أبو جندل بن سهيل بن عمرو ذاته، رئيس وفد المفاوضة، وقد جاء هارباً من مكة يرسف في قيوده، مؤملاً أن يلحق بإخوانه المسلمين ويذهب معهم قبل مغادرتهم الحديبية، بعدما بلغه نزولهم هناك، فعمل ما في طاقته حتى يفلت من السجن، وقد وافته الفرصة لذلك، فهرب يلوذ بالجبال، ويتجنب الطرقات، حتى قدر على إدراك الحديبية، ولكن في ساعة كان العهدُ فيها قد جرى توقيعه، وأصبح ملزماً للطرفين..
ورآه المسلمون يندفع نحوهم على تلك الحال المزرية، فتلقَّوْه مهللين، مكبرين، وكأنه جاء تنفيساً عن الكرب الذي يملأ نفوسهم في تلك الساعة.
وكان سهيل بن عمرو يرقب احتضان المسلمين لابنه، فجنَّ جنونه لمرآه، وأطاح الغضب برشده، فتقدّم إليه يضربه على وجهه بأقسى شدّة، مما زادَ في غضبهم، وجعلهم يحيطون بذلك الأب القاسي، ليمنعوه عن أخيهم في الدين، فإذا بسهيل بن عمرو يصرخ بأعلى صوته: «يا محمد! هذا أول من قاضيتك عليه، ردّه».. وهنا تدخل رسولُ الله في الأمر، فطلب إلى ابن عمرو أن يترك أبا جندل وشأنه بعيداً عن العهد وشروطه، ولكنَّ ابن عمرو أبى عليه ذلك، وعادَ إلى ضرب ابنه من جديد؛ وحاول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يثنيه عن رأيه فقال له: «هَبْه لي أو أَجِرْه من العذاب»، فما نفع ذلك شيئاً مع ابن عمرو، بل قال: لقد تمَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
فراح أبو جندل المسكين يصرخ:
«يا معشر المسلمين أَأُرَدُّ إلى المشركين يفتنونني عن ديني»!..
ولكنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، رمق أبا جندل وقال له مواسياً: «يا أبا جندل! اصبر واحتسب فإنَّ الله جاعِلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم»..
ولم يكن أمام أبي جندل إلاَّ الرضوخ لحكم الله، فخفض صوته ولاذ بالصمت، وأسلس الزمامَ لأبيه يُعيده إلى مكة كما جاءَ يَرْسُفُ في القيود..
لقد حزن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، على أبي جندل كما حزن عليه سائر المسلمين، وتمنَّى أن يخلّصه من كربته، ولكنَّ قسوة الأب قد غلبت وهو يحتجّ بالعهد، مما اضطره للسكوت وفاءً لهذا العهد، الذي ما وقعه إلاَّ لِمَا رأى فيه من خيرِ ومصلحة الأمة التي يجب احترامها والحفاظ عليها إذا ما تعارضت ومصلحة الفرد. لقد كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مطمئناً إلى ما فعله، ولكن ما أغاظه هو ما بدر من المسلمين من هياج وعدم رضى على العهد، دون أن يتفكروا في النتائج التي سيحققها في مستقبل أيامهم، فذهب إلى خيمته وما تزال آثار الغيظ بادية عليه، فسألته زوجه أم سلمة (رضي الله عنها) عما به قائلة: «ما شأنك يا رسول الله»؟!..
فأخبرها، صلى الله عليه وآله وسلم، بما عليه الناس من غضب وهلع، فقالت:
«يا رسولَ الله، أنت القدوة لأبناء أمتك، وما رأيت مؤمنين أكثر إخلاصاً لرسالتهم، ولا أشدَّ حبّاً لله ولرسوله من هؤلاء المسلمين الذين تخلوا عن الدنيا ومباهجها واتبعوا دعوتك. فعلى بركة الله يا رسول الله تَحْلِقْ وتَتَحلّل، فستجدهم بعون الله راضين، يُقبلون على ما تقبل عليه، ويفعلون مثل ما تفعل».
وزادت طمأنينة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بحديث أم سلمة (رضي الله عنها)، فخرج وحلق إيذاناً بالعُمرة، وقد امتلأت نفسه بالسكينة والرضا.. وما إن رأى المسلمون صنيع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى تواثبوا ينحرون ويحلقون، وإن تخلّف البعض عن ذلك مُقصِّراً.. ولاحظ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك، فقال: «يرحم الله المحلِّقين».
فسألوه: والمقصّرين يا رسول الله؟.
فأعاد: «يرحم الله المحلقين».
وخافت الجماعة التي قصّرت، فجاءت تسأله مسترحمةً: والمقصرين يا رسول الله؟.
فقال، صلى الله عليه وآله وسلم: والمقصرين..
ولما أرادوا أن يعرفوا منه لِمَ خصَّ بالرحمة المحلّقين أولاً، أجابهم: «لأنهم لم يشكُّوا»...
لقد استجاب المسلمون، فنحروا الهَدْي، وحلقوا الرؤوس، وأحلوا من الإحرام، ولكنَّهم كانوا في قرارة نفوسهم لا يزالون على مضض من أمر الصلح الذي أنفذه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم... فقد وجدوه مجحفاً بحقهم، وقد أوقع فيهم الحيف والغبن، فتساءلوا: ولم ذلك؟!.. أمِنْ أجل إقامة صلح مع قريش وهي الأضعف والأذلّ، أم من أجل سلامتهم وهم لن يتوانوا عن قتال، ولم يقصروا عن حرب؟!...
ولشدة ما كان يعتمل في نفوسهم، جاؤوا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يستجلون الحقيقة، فقالوا له: «يا رسول الله، لقد وعدتنا بزيارة المسجد الحرام، وها نحن عائدون ولم ندخله»...
فكان جوابه: «أكنت حدثتكم أنكم تدخلونه هذا العام؟».
قالوا: لا...
قال: فإنكم ستدخلونه، وتطوفون به إن شاءَ الله...
قالوا: وكيف نردُّ إلى الكفار من جاءنا مسلماً، ولا يردون علينا من جاءهم مرتدّاً؟.
قال: من ذهب منّا إليهم فلا ردّه الله، ومن جاءنا منهم فرددنا، فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً.
وأدخَل حديث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بعض الطمأنينة إلى نفوسهم، فهدأوا وسكنوا، وراحوا يتهيّأون للرحيل...
وكانت إقامة المسلمين في الحديبية قرابة عشرين يوماً، أذّن بعدها مؤذن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بالعودة إلى المدينة. وقد شاءَ الله سبحانه، حتى لا يبقى في نفوس المسلمين أثر للقلق مما أنفذ رسولُه من عهد، أن يجعل الأمن في قلوبهم، والسكينة في نفوسهم، فأنزل على رسوله الكريم وهم في طريق العودة «سورة الفتح»... نزل بها جبريل الأمين على قلب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، فتلاها على مسامع المسلمين آياتٍ بيّناتٍ مباركاتٍ من أولها إلى آخرها وهي قوله تعالى:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطَاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} .
إلى آخر السورة الكريمة...
وما أن فرغ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من التلاوة حتى أيقن المسلمون أن معاهدة الحديبية كانت فتحاً مبيناً حقاً للمسلمين، وأدركوا أن الجموحَ الذي أخذ بأنفسهم لفترة من الوقت، إنما كان هفوةً ارتكبوها، فاستغفروا الله وأثنوا عليه...
وهكذا حقق الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، الأغراض التي قصدها من معاهدة الحديبية، وقد تجلت بما يلي:
1 ــــ غيّرت الرأي العام من عداوته للدعوة الإسلامية إلى قبولها واقعاً لا مفرَّ منه، وذلك ليس عند قريش وحسب، بل عند العرب عامة، وهذا القبول يشكل الاعتراف بالإسلام ديناً، وبمحمد بن عبدالله رسولاً لهذا الدين.
2 ــــ الاعتراف بمكانة المسلمين، والإقرار من قريش بأنهم فريق قوي يُتَّفَقُ معه على مفاوضات، وتُبْرَمُ معه المعاهدات.
3 ــــ أكَّدت قوة إيمان المسلمين وشدَّة إقدامهم على المخاطر. إذ لا ينبغي التجاهل بأن قريشاً كانت أقوى قبائل العرب وألدّ أعداء الإسلام، وأنَّ ذهاب المسلمين إلى مكة، معقل قريش بالذات، يبيّن ذلك الإقدام، والاستهانة بالموت في سبيل الله تعالى.
4 ــــ فَصَلت اليهود عن قريش وأبعدت كل تحالف بينهم في المستقبل.
5 ــــ جعلت المسلمين المستضعفين داخل مكة يشكلون جيباً داخل معسكر العدو، إذ خففت قريش من ظلمها لهم، وتركت لهم بعض الحرية التي سلبتهم إياها من قبل بصورة كاملة...
6 ــــ بيّنت للمسلمين أن المناورات السياسية هي من وسائل الدعوة الإسلامية، وأن الطريقة في السياسة هي من جنس الفكرة: صِدقٌ ووفاءُ عهدٍ.. لكن الوسيلة يمكن أن يتخلّلها دهاء، بإخفاء الغايات الحقيقية عن العدو، والسُّبل التي يمكن اعتمادها للوصول إلى تلك الغايات.
ولكنَّ أبرز النتائج التي حققها صلح الحديبية، وأبعدها أثراً، يبقى ذلك الفتح المبين على الإسلام والمسلمين... فالإسلام منذ أن ظهر ديناً للقضاء على الشِرْك، قامت ضدّه العرب بأجمعها، لا تتورع عن استخدام أي عمل أو القيام بأي شيء يمكّن من منْع هذا الدين أن يُبصر النور، ويُعَرِّف من اعتنقه بأنه سيلاقي الظلم والاضطهاد حتى من أقرب الناس إليه، ومع ذلك راح أتباعه يتكاثرون شيئاً فشيئاً حتى شكلوا القوة التي تقف في وجه أعدائه.. وقريش كانت العدوّ الأول، وهي يومئذٍ صاحبة الكيان السياسي الأقوى في شبه الجزيرة، تتأثر القبائل الأخرى بمواقفها، وربما تحذو حذوها في كثير من الأحايين... وهذا أمر واقع في حياة الدول والشعوب، نراه اليوم، كما كان قائماً في الماضي..
ولذا فإن عقد صلح مع قريش، سيكون من جرائه نزع تلك العداوة من نفوس قبائل العرب ضد الدعوة الإسلامية مما يؤمن لها سبيل الانتشار بعيداً عن العوائق والسدود في وجهها، إذْ يجد المسلمون الفرصة لكي يقوموا بنشر دينهم، بعد أن شغلوا خلال السنوات الماضية بالحروب التي شنّت ضدهم، وأخذت غالب أوقاتهم. وهذا ما حققته بالفعل معاهدة الحديبية، إذ كان الصلح حقاً، فتحاً مبيناً للمسلمين، أتاحه الله سبحانه لهم بفضل حكمة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وبُعد نظره ودقة فهمه السياسي.
* * *



المصادر
1 سورة التوبة، الآية: 102.
1 سورة النحل، الآية: 126.
1 سورة ق، الآية: 16.
2 سورة إبراهيم، الآية: 34.
1 سورة البقرة، الآية: 186.
1 سورة الأحزاب، الآية: 25.
2 سورة الأحزاب، الآية: 26.
1 موضع قرب المدينة بينه وبين سلع ثمانية أميال.
2 الرضع: اللئام.
1 غلّ من المغنم يَغُلّ (بالضمّ) غُلولاً: خان.
1 الهديُ: ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام.
1 داخرين: أذلّةً صاغرين.
1 سورة الفتح، الآية: 18.
1 سورة الفتح، الآيات: 1 ـ 3.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢