فَتحُ مكَّة
سلسلة غزوات الرسول
(8)
فَتحُ مكَّة
سميح عَاطف الزَّين
بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}.
فتح مكة
إن الدخولَ الجماعي في الإسلام، الذي شهدته قبائل العرب المتاخمة لبلاد الشام، والذي أقبلت عليه بعد غزوة «مؤتة» لم يَهُزَّ قريشاً وحلفاءها، كما كان جديراً بهم أن يهتزّوا له؛ بل ولم تتفكر قريش بما قد تصير إليه الأحوال في قاصي الجزيرة ودانيها، فظلت على الوهم بأنَّ المسلمين قد هزموا في موقعة «مؤتة» هزيمةً نكراء، وأنهم باتوا في حالة يُرثى لها، أقلّها الضعف والهوان.. وهذا ما أعادها إلى مراجعة حساباتها، وردَّها إلى طريق التفكير بحرب محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ونبذ مواقفها السابقة معه.. وهي المواقف التي أُجبرت فيها بعدَ «الحديبية»، على التخلّي عن السيطرة التي كانت لها، والتي أفقدتها الهيبة، وخسارة مكانتها الأولى، بعد «عُمرة القضاء».. فما عليها إذن، والحالة تلك، إلاَّ العمل لاستعادة تلك السيطرة كاملة، واسترداد الهيبة والمكانة غيرَ منقوصتين، وهذا لن يكون إلاَّ بمقاومة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، مقاومة ضارية، والشروع في قتال من دخلوا معه، بحكم عهد الحديبية.
ولمَّا كانت خزاعة هي التي دخلت في عقد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وبنو بكر هم الذين دخلوا في عقد قريش، فقد رأى هؤلاء، أن الفرصة باتت مؤاتية بضعف المسلمين، لأنْ ينقضّوا على خزاعة، ويصيبوا منها بثاراتهم القديمة، التي كانت ما تزال تغلي في النفوس منذ حروب الجاهلية وأيامها، وإن كانت قد هدأت مع ظهور الإسلام، وصرفهم هذا الظهور للانشغال به، عن القتال في ما بينهم.
ولم يُخْفِ بنو الدّيل من بني بكر بن عبادة نيّاتهم تلك عن بعض سادة قريش، فوافقوهم على غزو خزاعة وتقتيلها، بل وراحوا يحرضونهم، ويمدونهم بالسلاح، حتى يُقْدِموا على ما يُضمرون..
وهكذا كان، فخرج نوفل بن معاوية الدّيلي في بعض من قومه قائداً، وخرج معهم جماعة من قريش كان فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وحويطب بن عبدالعزى، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، ومكرز بن حفص، حتى أَتوا خزاعة، في الليل، وهم على ماءٍ لهم بأسفل مكة يدعى «الوتير». وفوجىء بنو خزاعة بالمهاجمين ينزلون بهم الطعن والتقتيل، فقاموا يدافعون عن أنفسهم، إلاَّ أنهم وجدوا أن الفرار هو خير سبيل لهم للنجاة؛ فأدركوا البيت الحرام يحتمون به. وكان الأعداء ما زالوا في أثرهم، فما إن رأوهم دخلوا البيت الحرام حتى توقفوا، وقال بنو بكر لقائدهم نوفل بن معاوية: «يا نوفل! إنا قد صرنا في حرم البيت العتيق، إلهَكَ، إلهَكَ».
فما كان من ذلك الكافر اللعين إلاَّ أن قال: «لا إله له اليوم. يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه».
ولمَّا رأى بنو خزاعة أن أعداءَ الله لا يأبهون لحرمة بيته المقدس، وأنهم ما زالوا وراءهم يريدون تقتيلهم، انقلبوا إلى بيت أحد زعمائهم، بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يُقال له رافع، بعد أن كان قد قتل منهم ما يزيد على عشرين رجلاً..
وانتهت أخبار عدوة بني الدّيل وحلفاء قريش إلى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي، في الغداة إلى المدينة، وأتى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالسٌ بين الناس في المسجد، يقصُّ عليه ما حدث، ويستنصره على أولئك الذين نقضوا عهده وقتلوا حلفاءه.
وكان مما قاله شعراً:
يَــــا رَبِّ إنِّــــــي نَــــاشِدٌ مُـــــحمَّدا
حِلْفَ أَبينا وأبيه الأَتْلَدَا
قَـــــــدْ كُنْتُمُ وُلْــــــــــــداً وكنــــــــا وَالِداً
ثُمَّتَ أَسْلَمْنا فَلَم نَنْزِعْ يَدَا
فانصُرْ هَداكَ الله نَصْراً أَعْتَدَا
وادْعُ عِبَادَ الله يَأْتُوا مَدَدَا
فِيـــــهمْ رَسُولُ الله قــــــــــــد تَجَرَّدا
إنْ سِيمَ خسْفاً وجْهُهُ تَرَبَّدا
في فَيْلَقٍ كالبحر يجري مُزْبِدا
إنَّ قُريشاً أَخْلَفوكَ المَوْعِدا
وَنَـــقَضُـــوا مِيْثاقَـــــــــــكَ المُــــؤكَّدَا
وَجَعَلوا لي في كَداءٍ رَصَدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لستُ أَدْعُو أَحَداً
وهُـــــــــمْ أذلُّ وأقـــــــــــلُّ عَـــــــــــــــدَدَا
هـــــم بيَّتونا بالوَتِيرِ هُجَّــــــدا
وقَتَلُونـــــا رُكَّعـــــــــــاً وَسُجَّـــــــــــدا
فانْصُرْ هَداكَ الله، نصراً أَيِّدا
فرغ عمرو بن سالم من شكايته وطلبه للنصرة، فقال له رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «نُصرت يا عمرو بن سالم». ولم يلبث أن جاءَ، بعد عمرو، زعيم خزاعي آخر هو بُدَيْل بن ورقاء، في نفرٍ من خزاعة، ليشكوا الأمر نفسه إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بما أصابهم من بني بكر، ومظاهرة قريش عليهم، فطمأنهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وهدّأ من غضبهم وألمهم..
فماذا على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يفعل، وهذه قريش ومن دخل في عهدها، نقضوا معاهدة الحديبية؟ لقد أعطى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لقريش في تلك المعاهدة الكثير مما طلبت وأصرَّت عليه، لا لشيء إلاَّ ليجعلها ترتدُّ عن الضلال، وتثوب إلى الرشد، فيعمُّ السلام والأمان في ربوع شبه الجزيرة، ولكنها بدت الآن ــــ فيما فعل بعض قادتها ــــ لا تعبأ بسلام، ولا تحفل بمواثيقَ أو عهود، بل تعمل على إعادة العداوة المستفحلة، وتفتعل الشرَّ راضية، وإنها ولا شك ستزيد في غِيّها وضلالها إن لم يعاجل إليها بعمل يقهرها، ويفرض عليها الاستسلام والخضوع. ولقد رأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن لا شيء يجعل قريشاً مرغمة على إقامة السلام الذي يريد، ونشر الدين الذي يحمل، كما أنه لا شيء يعادل نقضَها للعهد، إلاَّ الزحف عليها في عقر دارها، وفتح مكة أمام المسلمين والعالم أجمعين، إذا شاء الله ربُّ العالمين.. نعم هذا ما عَزَم عليه الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، بعدما تناهت إليه أخبار نقض العهد، وبعد أن استنصره حلفاؤه.
وعَرَفت قريش بأن بني خزاعة هُرعوا إلى المدينة يخبرون محمداً بما حصل، فإذا بتفكيرها ينقلب على غير ما كانت وجهته السابقة، فقد اجتمع حكماؤها وأهل الرأي فيها يتشاورون في ما بينهم، فأدركوا أن ذلك النفر الذي حرّض بني بكر، وساعدهم على قتل خزاعة، قد أوقعها في الخطر.. فقد عادَ أصحاب الرأي هؤلاء يعون ما لمحمد، صلى الله عليه وآله وسلم، من قوة، وما عنده من عزم، وهو لن يسكت أبداً على ما قام به أهل الفتنة ولن يكون أمامَهُ إلاَّ حربٌ شعواء يشنها عليهم، قد لا تُبقي ولا تذر..
إنَّ هذا التقدير حصل في حسبان أولئك العقلاء من قريش وجعلهم يبعثون بزعيمهم أبي سفيان بن حرب إلى محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، كي يثبت المعاهدة ويطيل في مدة الهدنة..
وخرج أبو سفيان من مكة حاملاً هموم قريش على عاتقه يريد المدينة، حتى إذا كان في محلة تدعى «عسفان» رأى من بعيدٍ بُدَيْل بن ورقاء وأصحابه، فخاف أن يكون هؤلاء القوم قد أتَوْا محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، قبله، وأخبروه بما حدث، مما يجعل مهمته أصعب، فإذا به يستحثّ راحلته ويتقدم منهم سائلاً:
«من أين أقبلت يا بُدَيل؟».
وأدرك بُدَيْل ما يريده أبو سفيان بن حرب، فقال، محاولاً أن يعمي عنه الحقيقة:
«سرت في خزاعة في بطن هذا الوادي...»..
قال أبو سفيان:
ــــ أوَما أتيتَ محمداً؟.
قال:
ــــ لا..
ثم لم يلبث بُدَيل ورفاقه أن خلّوه منصرفين عنه، ولكنهم ما كادوا يمضون في طريقهم حتى قال أبو سفيان في نفسه: «لئن كان قد جاء المدينة فقد علف بها النوى»، فعمد إلى بَعْرٍ راحلته يفتحه، فإذا به يجد حدسَهُ قد صدقه، فيقول: «أحلف بالله لقد جاء بُدَيلٌ محمداً». وشعر أبو سفيان بخوف شديد، ولذا آثر ألاَّ يأتي محمداً ويلقاه مباشرة، بل يتوسل إليه لدى شخص عزيز عليه.
وعلى هذه النية تابع أبو سفيان طريقه حتى دخل المدينة، فذهب من فوره إلى بيت ابنته أم حبيبة (رضي الله عنها) زوج رسول الله، وفي نيتِه أنْ يستريح عندها من وعثاء السفر، ومن ثمَّ يطلب إليها أن تكلم زوجها بأمره.
دخل أبو سفيان على ابنته، فقامت تتلقاه بالترحاب، ثم تدعوه إلى الجلوس. فتقدّم أبو سفيان يريد أن يجلس على فراشٍ وَجَدَه ممدوداً، فإذا به يرى ابنته تسرع وتطوي هذا الفراش عنه. فأجفل من هذا التصرف، وقال لابنته بدهشة واستغراب:
«إيه بنية، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟!»..
قالت أم حبيبة المؤمنة الصادقة:
«بل هو فراش رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله».
وفوجىء أبو سفيان بن حرب بما لم يكن يتوقعه في حياته، فأم حبيبة هي ابنته، وهي ذاتها التي توجه إليه المهانة والذلّ، فتمنعه من الجلوس على الفراش الخاص برسول الله؟.. فلم يتمالك نفسه أن يبدي ما داخَلَهُ من إحساس، فقال لها:
«أما والله، لقد أصابكِ شرٌّ يا بنية»..
قالت:
ــــ «بل هداني الله تعالى للإسلام، وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر. واعجباً منك، وأنت سيد قريش وكبيرها»!.
قال:
«أأترك ما يعبد آبائي وأتّبع دين محمد؟».
فقالت:
«بل هو دين الله الواحد الأحد. وهو الدين الذي يخلِّص من الشوائب والأدران، ويحفظ المكانات والكرامات».
ولم يعد أبو سفيان قادراً على الاحتمال، فخرج مُغضِباً، يجرُّ أذياله، مضعضعَ النفس، كليمَ الفؤاد، لا يدري ماذا يفعل، ولكنه جاءَ في مهمة لا يستطيع أن يتخلَّى عنها، فسعى إلى المسجد يريد محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم. ودخل عليه من فوره يكلمه في توثيق المعاهدة وفي زيادة مدتها، إلاَّ أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يردَّ عليه بشيء.. وألحَّ أبو سفيان في الكلام، والنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يجيب، حتى قنع أن لا جدوى من كلامه، فقام خارجاً والصدمة تكاد تقتله، لقد نالَ أول صدمة من أقرب الناس إليه، من ابنته أم حبيبة، وها هي ذي صدمة أخرى تقع على رأسه بأشدّ من تلك، فما هذا العذاب الذي ينزل به؟!..
تلك كانت أحاسيس أبي سفيان، وهو يسحب نفسه سحباً في طريقه إلى بيت أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) علَّهُ يجد عنده ما يواسي به جراح نفسه، ولكنه لم يجد إلاَّ الرفض، إذْ أبى عليه الصدِّيق أن يكلم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بأمره، فذهب إلى دار عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وعرض عليه أمره.. وكان الحالُ هنا أسوأ من قبل، إذْ ما إن كلَّمَ عمرَ حتى أغلظ له في الردّ، وقال له:
«أأنا أشفع لكم إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فوالله لو لم أجد إلا الذرَّ لجاهدتكم به».
وضاقت الدنيا في وجه أبي سفيان بن حرب، وهو يرى في إعراض الناس عنه ما يرى، إذ أحسَّ بنفسه حقيراً، ذليلاً، لا كيان له، ولا كرامة. إنَّ أحداً لا يعبأ به، وإن خاطبوه فبأنفةٍ واستعلاء، أو كراهية ومجافاة! وإذا كان هذا شأن الناس في المدينة فماذا عليه بعدُ أن يفعل؟ هل يخرج إلى قريش ولم يصل بعد إلى حلٍّ؟ لا! إنها مسألة حياة أو موت، فمصير مكة وقريش متوقف كله على مساعيه هنا..
... ولم يرَ أبو سفيان إلاَّ الذهاب إلى بيت علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلعله الرجل الأخير الذي يلقاه ويجد عنده ما لم يجده عند صاحبَيه أبي بكر وعمر.. ودخلَ أبو سفيان على علي (عليه السلام) ليجده مع زوجه فاطمة ــــ بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ــــ وبين يديها ابنها الحسن (عليه السلام) طفل صغير ما زال يدبّ، فقال له: «يا عليّ، إنك أمسُّ القوم بي رحماً، وقد جئت في حاجة فلا أرجعنَّ كما جئت خائباً. إشفع لنا عند محمد». فقال له علي (عليه السلام): «ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على أمرٍ فلا نستطيع أن نكلّمه فيه»..
وأدرك أبو سفيان حراجة الموقف، فالتفت إلى فاطمة (عليها السلام) قائلاً:
«يا بنت محمد، هل لكِ أن تأمري بُنَيَّكِ هذا ــــ يعني الحسن (عليه السلام) ــــ فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟».
قالت فاطمة الزهراء: «والله ما بلغ بُني هذا أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على رسول الله».
قال: «يا أبا الحسن! إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ، فانصحني».
قال أبو الحسن: «والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم إلحق بأرضك».
قال: «أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟».
قال أبو الحسن: «لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك».
وقام أبو سفيان، فأتى المسجد، قائلاً: «أيها الناس! إني قد أجرت بين الناس».
ولم يلبث أن خرج يركب بعيره وينطلق عائداً إلى مكة، خالي الوفاض، يجرُّ أذيال الخيبة، إذ لم يستطع أن يحقق شيئاً ممَّا جاءَ إليه.
وقدم أبو سفيان على قومه، فسألوه: «ما وراءك يا أبا سفيان؟».
قال: «جئت محمداً فكلمته، فوالله ما ردَّ عليَّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيراً. ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم. ثم جئت عليَّ بن أبي طالب فوجدته ألين القوم وقد أشارَ عليَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا يُغني»!
قالوا: «وبما أمرك؟».
قال: «أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت».
قالوا: «فهل أجاز محمدٌ ذلك؟».
قال: لا!
قالوا: «ما زاد الرجلُ أن لعب بك، فما يُغني عنا ما قلت».
قالَ: «والله، ما وجدت غير ذلك»!.
صحيح أنَّ أبا سفيان بن حرب قد ترك المدينة، وفي نفسه الألمُ والذلُّ، وعادَ إلى قريش ليخبرها بسوء الحظ الذي حالفه، رغم كل ما بذله من جهد كي يشفع لها عند محمد!.. ولكن ما درى أبو سفيان أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يكلمه في شيء إلاَّ أنه لم يكن ليريد شرّاً بمكة وأهلها.. وكيف يدري ورسولُ الله يريد من وراء فتح مكة، فتحاً للقلوب على الإيمان، وهدىً للأنفس إلى الحق. إنه يريده فتحاً بدون قتال، ولا مقاومة، فلا تراق فيه قطرة دم واحدة إلاَّ أن يكون هنالك من أهل الشرك مَن وجب قتلهم بالحق. ومن أجل هذه الغاية، ولكي لا يشيع الأمرُ في الناس، وتستعدّ قريش للمقاومة، ويكون القتال أمراً مفروضاً لا مفرَّ منه، نعم من أجل هذه الغاية، لم يشأ أن يحادث أبا سفيان بن حرب في زيادة مدة المعاهدة، لأنه يريد أن ينهيها ليقيم مكانها سلاماً مبنياً على العدل والحق والشريعة، يدوم إلى أبد الدهر، ما دام في مكة إنسان، وما دام على وجه هذه الأرض أناس..
ومن أجل هذه الغاية أيضاً، وزَّع رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الحراس على مفارق الطرق، ومداخل المدينة، يرقبون كل قادم إليها، أو مارٍّ بجوارها، فلا يدعون غريباً يدخل، ولا يتركون أحداً يمرُّ إلاَّ ويردّونه..
لقد أرادَ أن يكون أمره سراً، حقناً للدماء، وصوناً للأنفس، حتى أن ما عَزَمَ عليه من فتح مكة لم يَقُلْه لأحد من الصحابة، بل كان يخطط، صلى الله عليه وآله وسلم، بتأنٍّ ورويَّة، حتى تأتي العواقب سليمة والنتائج محققة.
وكان فيما يخطط له رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن تسير معه حشودٌ كبيرة من الناس إلى مكة، فبعث إلى مَن حوله من القبائل وإلى الأعراب في البادية أن يأتوا ويحضروا رمضان في المدينة. وما إن بلغت دعوة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، تلك القبائل حتى راحت تتوافد، ومعها الرايات، إلى أرض المدينة وتقيم فيها المضارب بعضها إلى جانب بعضٍ حتى غصت المدينة وضواحيها بالوفود.. ولما رأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن الجموع التي لبَّت النداء كثيرة، وأنها تكفي للمسيرة التي أرادها، أعلم الناس بزحفه إلى فتح مكة، وأمرهم بالتهيؤ والاستعداد للخروج.
وفيما أخذ الناسُ يتأهبون للمسير، وتأكَّدَ لحاطب بن أبي بلتعة أن هذا المسير بات وشيك الوقوع، عمد إلى امرأة من «مُزينة»، يسلّمها كتاباً أوصاها بأن توصلهُ لقريش وفيه يعلمهم بما أزمع عليه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأن تُبقي أمر هذا الكتاب سراً وتخفيه في مكان آمن حتى لا يطّلع عليه أحد. ولكي يأمن إيصال هذه المرأة لكتابه، دفع إليها بعض المال وعادَ يكرر وصيته بأن تكتم سره ولا تعلنه لأحد..
فأخذت تلك المرأة الكتاب، وأخفته في ضفار شعرها، ثم خرجت تسلك طريقاً بعيداً عن عيون الحراس. ولكن ما إن غادرت المدينة، حتى علم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأمرها، إذ جاءه الوحي بما فعله حاطب، فدعا على الفور إليه عليَّ بن أبي طالب وقال له: «إنَّ أحد أصحابي كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا، وقد كنت سألت الله عز وجل أن يعمي أخبارنا عنهم، وقد حملت الكتاب امرأة سوداء، سلكت طريقاً غير مألوف، فهيَّا أدركْها ثم انتزِعِ الكتاب منها، وبعد ذلك خلِّ سبيلها».. ثم استدعى الزبير بن العوام وأمَرَه أن يخرج مع علي (رضي الله عنهما).
وانطلق الصحابيان تعدو بهما خيلهما يبحثان عن المرأة، فأدركاها بـ«الخليقة»، وتقدّم منها الزبير يسألها عن الكتاب، فأنكرت وأقسمت أن أحداً لم يعطها كتاباً لقريش. ولكنَّ الزبير لم يأبه لما قالت، بل انكبَّ على رحالها يبحث فيه، ويحاول أن يجد الكتاب الذي تخفيه.. ورأت تلك المرأة أن تتخلص من الرجلين، فراحت تذرف الدمع باكية، وهي تندب حظّها الذي أوقعها في ورطة لا تعلم عنها شيئاً، وتبدي ضعفها وقلة حيلتها تجاه أناس يَسْتَعْدُونَ عليها.. وأفلحت تلك المرأة بالكذب والمراوغة، وبالتظاهر بالمسكنة والفقر، وبوقع هذه التهمة الشنعاء عليها حتى جعلت الزبير يتأثر لحالها، ويرق قلبه لها، بشكل كادَ معه أن ينسى المهمة التي جاءَ من أجلها فارتدَّ نحو علي (عليه السلام) يقول له: «ما أرى يا أبا الحسن معها كتاباً، فارجع بنا إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نخبره ببراءة المرأة»..
وما كاد علي (عليه السلام) يسمع ذلك حتى قال له:
«ويحك يا زبير، أيخبرني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأنها تحمل كتاباً، ويأمرني بأن آخذه منها، وتقول أنت إنَّهُ لا كتاب معها»؟!.
ولم يلبث عليٌّ (عليه السلام) أن اخترط السيف، وتقدم من المرأة قائلاً، وعيناه تقدحان بالغضب: «أما والله لتُخرِجِنَّ الكتابَ أو لنكشفنَّكِ، ثم لأضربَنَّ عنقك بسيفي هذا».. وحاولت المرأة أن تراوغ معه كما فعلت مع صاحبه، إلاَّ أنها رأت عنده من الانفعال والإضرار، ومن الجدية فيما يقول، ما جعلها تثق بأن الرجل متأكد مما معها، وأنها إن لم ترضخ له، فلسوف تنال عقاباً قد يكون الموت.. وإزاء تخوفها على حياتها قالت: «أَعْرِض بوجهك عني»..
وأشاح عليّ (عليه السلام) بوجهه عن المرأة الماكرة، فإذا بهل تحلُّ ضفائرها وتخرج منها الكتاب ثم تدفعه إليه، فيأخذه علي (عليه السلام)، دون أن يقول لها شيئاً، ثم يأتي الزبير، ويذهبان إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يسلمانه الكتاب.
فتحَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الكتاب وقُرِىءَ له ما فيه، فدعا حاطباً يسأله: «ما حملك يا حاطب على هذا؟»..
وأسقط في يد حاطب وأطرق مأخوذاً، فلم يدرِ بما يجيب.. وبعد لأيٍ جاهد فيه نفسه، قال لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والغصة تكاد تقتله: «يا رسولَ الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيّرت وما بدّلت، ولكني كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصلٍ ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم، وكان مَن معك من المهاجرين (ممن له أهل ومال بمكة) لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إن فاتني النسب في قريش أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا ارتضاءً بالكفر بعد الإيمان».
ذلك هو العذر الذي أبداه حاطب بن أبي بلتعة، فهل كان حقاً معذوراً؟.
وهل يُعذر مَن يخالف أمرَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، رغم ما يحمله هذا الأمر من إخفاء خبر الفتح ابتغاء سلامة الناس، وتحقيقاً للهدف الأعلى الذي هو نشر الدعوة وتثبيتها؟
ولئن عُذِرَ أحدٌ من عامةِ الناس، قد يَجْهَلُ حقيقةَ الدعوةِ وسموّ مَرامِيها، فهل يُعذرُ صحابيٌّ جليلٌ رافق الدعوة في مختلف مراحلها ورافق الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في شتى الحالات التي مرَّ بها؟.
نعم لقد كان حاطب ممَّن صاحبوا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، آمَنَ به وبالدين الذي يدعو إليه، وجاهد في سبيل هذا الدين حق الجهاد، وحضر المعارك كلها، بما فيها معركة بدر، وتحمَّل المسؤولية التي عهدت إليه يوم حمل كتاب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى المقوقس عظيم القِبْط. ومن هنا تأتي الغرابة فيما قام به من تصرف، والاستهجانُ لِمَا فعل..
ولكن! أليس في الإنسان ضعف؟.
بل أوَليست حالات الضعف عند بني البشر عديدة ومتنوعة، حتى لا تكاد تقع تحت حصر، وحتى ليمكن القول بأنه ما من مخلوق بشري إلاَّ وعنده نقطة ضعف تتأصَّلُ في أعماقه فتؤثر فيه دائماً؟ بل وأحياناً تسيطر عليه إحدى حالات ضعفه فتجعله يتصرف بأعمال لا يرضاها هو لنفسه؟ أوليسَ في الناس من يكون ضعفه تجاه المال، أو النفوذ وحُبِّ السلطة والحكم، حتى ليضعف أمام أي شيء في سبيل تحقيق هذه النزعة؟ أو قد يكون الضعف حيال المرأة التي يشتهيها، فتغلب عليه شهوته وتستبد به حيال أبسط الحركات التي قد تأتيها؟ أو قد يأتي هذا الضعف من حب الإنسان لعياله وعاطفته تجاه الآباء والبنين؟..
بلى، هذه حالات من ضعف بني البشر، وهي تختلف عند الواحد عن الآخر، باختلاف تكوينه الشخصي، والعوامل الذاتية أو المؤثرات الخارجية، التي تفعل فعلها في الشخصية الإنسانية.
فإذا كان هذا هو الإنسان في تكوينه، فإنَّ حاطب بن أبي بلتعة يكون قد مرَّ بحالة من الضعف تجاه أهله في مكة وخوفه عليهم من قريش ـ إذا كان صادقاً فيما ادَّعاه ـ إذ ربما توهَّمَ بأن قريشاً إن أدركها خبرُ زحف المسلمين لفتح مكة، سوف تعمد إلى قتل المسلمين المستضعفين في مكة، فرغب في أن يكون هو الذي يبعث هذا الخبر إليها، تفادياً لما قد يصيب أهله، وهم ممن ليس عندهم أحد يحميهم أو مال يردُّ عنهم!..
ومما لا شك فيه بأنه كانت لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، معرفة تامة بأحوال بني البشر، وبالعوامل الذاتية والخارجية التي تؤثر في تكوين شخصيتهم، أو في دفعهم إلى القيام بعمل من الأعمال. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد ربَّاه على عينه (وهو القائل: ولتُصْنَعَ على عيني)، ليعدّه لأعظم رسالة سماوية إلى الأرض، إلاَّ أنَّ هذا الإعداد الإلهي هو نفسه الذي حمل في ذات الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، المعرفة بالنفس الإنسانية، وبما تحفل به هذه النفس من مشاعر، وبما يعترضها من مؤثرات.. ولقد رأى في اعتذار حاطب ما ينمُّ عن حالة من الضعف اعترته خوفاً على الأهل والولد. وهذه الحالة، لا بد وأن تكون عابرة، لأن ماضي الرجل كله يشهد على صدق إيمانه، وجهاده في سبيل الله، وحسن بلائه في الذود عن رسول الله، وعن حرمات هذا الدين الذي أنزله الله رحمةً للعالمين.
ورأى الرسولُ الأعظم أن ما ارتكبه حاطب من خطأ، وإن كان فادحاً، إلاَّ أن هذا الخطأ لا يعدل ذلك الماضي الحافل بالتضحية والعطاء، وإنَّ في عدالة بني البشر ما يأخذ بالأسباب التخفيفية، وحتى بالأسباب التي تمنع أحياناً العقاب، فإذا كانت هذه عدالة الناس، فكيف يجب أن تكون عدالة النبوة؟..
وأرادَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يظهر عفوه عن حاطب، فقال لمن حوله: «أما إنه قد صدقكم فيما أخبركم به»..
أما حاطب، وكان الندمُ قد أخذ منه كل مأخذ، فأبدى بتأثّر شديد أنه لن يرتكب بعد اليوم خطأ، وأثنى على كرم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ورحمته به، وحَمد الله سبحانه على غفران خطيئته..
وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى في أول سورة «الممتحنة» من القرآن الكريم، حكمه الذي يحذّر فيه المؤمنين من موالاة أعداء الله ومصانعتهم، ومن إفشاء بعض السرّ لهم أيّاً كان الدافع للموالاة، ومهما كان السبب للإفشاء، لأن العدو عدوٌّ حيثما كان، ومهما اختلفت أوضاعه وأحواله، وإن التقرب إليه وموادّته أو محاباته إنما هي خيانة ما بعدها خيانة، فقال سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ * لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
وانتهت حادثة حاطب بن أبي بلتعة بالعفو عنه، فقد شفعت له أعماله وتضحياته في سبيل الدعوة. وعزم الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، على المسير، فاستخلف على المدينة أبا رُهَم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، ثم خرج لعشرٍ خلَون من شهر رمضان سنة 8هـ في نحو عشرة آلاف من المسلمين، كان فيهم المهاجرون والأنصارُ وكل من جاء المدينة من قبائل العرب، خرجوا مؤلفين أكبر جيش عرفته المدينة حتى ذلك التاريخ..
وسار جيش المسلمين تعجُّ به الطرقات، لا يضرب خيامه في بطاح إلاَّ واكتست أرضها حتى لا يكاد يبدو منها شيء للناظر.. كانوا يسعون إلى مكة، ولا يرغبون بسفك دمٍ ولا بقتْلِ بريء، ولا يعتزمون سلْبَ مالٍ أو اغتيال حق، بل على العكس من ذلك كله كانت غايتهم سامية وهي فتح أغلاق البلد الحرام، ورفع الحواجز والسدود التي أقامتها قريش، فيكون ذلك البلد ــــ كما أراد له الله سبحانه وتعالى ــــ مثابةً للناس وأمناً، يسوده دينُ الحق الذي أُنزل على قلب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، محمد بن عبدالله، سيّد المرسلين وخاتم النبيين، ليُخرج الناس، كل الناس، من الظلمات إلى النور، ولذلك كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يدعو إلى الله في تلك المسيرة: «اللَّهم خُذِ العيونَ والأخبارَ عن قريش حتى نَبْغَتَها في ديارها»..
وكانت تلك الأيام في شهر رمضان، وهو شهر الصوم المبارك، فخرج الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون صائمين، ولكن ما إن بلغوا الكُدَيْدَ ــــ ما بين عُسفان وأمج ــــ حتى أفطر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لأن في شرع الإسلام أنَّ من كان على سفر رُخّصَ له أن يفطر، بدليل قوله تعالى:
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
والله سبحانه وتعالى يحب أن تُؤتى رُخصُهُ (= كما يحبُّ أن تؤتى عزائمُه)، فما دام قد رخَّص للمسافر بالإفطار فعليه ذلك، لأن الصيام في السفر وفي الصحراء خاصة يكون شاقاً ومضنياً، لكثرة ما يلاقي المسافر الصائم من إجهاد قد لا يحتمله، ولذلك كانت حكمة الله تعالى ــــ وهو الرؤوف بعباده، الرحيم بخلقه ــــ الترخيص بالإفطار في السفر، إبعاداً للنفس عن المشاق، وتمكيناً للجسم من الاحتفاظ بقواه.. وعلى هذا فالأَوْلى بمَنْ خرج للجهاد أن يفطر، لأن الجهادَ، أو القتال في سبيل الحق، يتطلب استجماع سائر القوى الجسدية والمعنوية، وإن الأجساد ولا شك تتعرض للفتور، وقد تخور من عدم تناول الطعام والشراب، فَدَرْءاً لإضعاف المجاهد، وتمكيناً له من القيام بواجبه وجب عليه أن يُفطر، وهكذا الأمر في كل حالة تتطلب من الإنسان بذل الجهد، وتوفير القوة، في سبيل نفعه الشخصي أو في سبيل النفع العام، ولكن بشرط أن يتقيَّدَ الإنسان في حدود الله وأحكام شريعته، لا أن يتخذ من أي عمل أو مسعىً شاقٍّ يقوم به ذريعة لكي يفطر، غير عابىء برُخص الله سبحانه التي لا يجوز تجاوزها في أي حالٍ من الأحوال، لأن للإفطار في السفر شروطاً ينبغي التقيد بها حرفيّاً.
نعم، قد أفطَرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في الكُدَيْدِ لأنه صارَ على سفر، ولكنَّ بعض المؤمنين من غير العارفين تحرَّجوا من الإفطار. فهم في شهر رمضان، شهر الصوم والتوبة والمغفرة، ويريدون أن يصوموا كي ينالوا الثواب على هذا الصيام.. وأدرك الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ما يعتمل في الأنفس، فطلب إليه إناءً، واعتلى على راحلته في وضح النهار، فشرب أمام الناس. فلما رأوه، أفطروا.
وعادَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يتابع طريقه في المسلمين، فلقيه في محلة تدعى «نيف العقاب» ــــ فيما بين المدينة ومكة ــــ بعض ذوي قرابته كان منهم أبو سفيان الحارث بن عبدالمطلب (ابن عم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة (ابن عمة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عاتكة بنت عبدالمطلب ــــ وهو أيضاً أخو أم سلمة (زوج النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم) من أمها.
وكان قد خرج مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من أمهات المؤمنين السيدتان أم سلمة وأم حبيبة (رضي الله عنهما)، فجاء عبدالله بن أبي أمية إلى أخته أم سلمة، يطلب إليها أن تكلم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كي يأذن له ولصاحبه بالدخول عليه في قبته، فأتته أم سلمة وقالت: «ابن عمك وابن عمتك يلتمسان الدخول عليك يا رسولَ الله»، فأجابها: «لا حاجة لي بهما. فأما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال»..
لماذا يرفض رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك وهو المسامحُ الكريم؟!..
إن عودةً إلى الماضي، وإلى أيام مكة بالذات، تُبين ما لاقى المسلمون عامة، والنبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، خاصة من عنتِ قريش وصلافتها، وما لجّت فيه من عذاب ومقاومة، وما غالت فيه من سخرية وأذى، حتى لم يبق أحدٌ من المسلمين إلاَّ ونالَهُ ما ناله من تلك المآسي.. وكان أبو سفيان الحارث بن عبدالمطلب شاعراً، فاستغلَّ خبرته الشاعرية وانبرى يهجو النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بأقذع القول وأمرِّه، حتى وصلت به القحة لأن ينالَ منه في عرضه وشرفه، مما آلم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وساءه.. وأما عبدالله بن أبي أمية فقد تعمَّد السخرية منه على مرأى من الناس، يوم جاءت قريش تطلب منه المعجزات لتصدقه وتؤمن بنبوته، فطلب منه يومذاك عبدالله ما ينمُّ عن الحقد والإذلال، إذ قال: «والله ما آمنت بك حتى تتخذ سُلَّماً إلى السماء، فتعرج فيه وأنا أنظر إليك ثم تأتي بصكٍّ وأربعة من الملائكة يشهدون بأن الله أرسلك»..
هذه المواقف الخبيثة، من الحارث وعبدالله، ومن كل رجال قريش، لم تكن لتسيء إلى شخص رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وحسب، بل هي التي عرَّضت المسلمين للأذى، ووقفت في مسيرة الدعوة تمنعها من الانطلاق، وتقيم الحواجز فيما بينها وبين الناس، ولذا لم يكن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لينسى أصحابها، أو ليسامحهم، لمجرد أن أتوا يلتمسون الدخولَ عليه، فكان رفضه لذينك الرجلين..
وخرج الخبرُ لهما: «إنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يأبى أن يراكما».. فما كان من الحارث بن عبدالمطلب بعد أن سمع ذلك، إلاَّ أن أمسك بيد ابن صغير له يدعى جعفراً، كان معه، وهو يقول: «والله ليأذنَنَّ لي أو لآخذنَّ بُنيَّ هذا ثم نذهبَنَّ في الأرض فنموت عطشاً وجوعاً»..
وعادت السيدة أم سلمة تخبر رسولَ الله بأمر ابن عمه، وما عزم عليه وبرفقته صغيره، فإذا بقلبه الكبير يرق لهما، ويرحم الصغير جعفراًـ أوَليس هو النبيُّ الذي أرسلَهُ الله تعالى رحمةً للعالمين ــــ فيأذن لهما بالدخول عليه.. ويتقدم منه الحارث وعبدالله، يبديان العذر عما أسلفا، والندَم على ما فعلا، ثم أعلنا إسلامهما بين يديه، صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت هذه أول بركة من بركات المسير لفتح مكة..
وعاد رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يتابع المسيرة، فلقيه في الطريق عمُّهُ العباس بن عبدالمطلب خارجاً في عياله إلى المدينة إذ كان العباس قد بقي في مكة يقوم على السقاية، ولكن عندما عادَ أبو سفيان بن حرب بعد ذهابه للمدينة طالباً توثيق معاهدة الصلح، وأخبر قريشاً بما جرى معه، قام بينهم الجدلُ والنقاشُ، فمنهم من يرى إيجاد وسيلة لمفاوضة محمد، ومنهم من يرى ـ وكانوا الأغلبية ـ بأن محمداً سوف يزحف عليهم بما لا قِبَلَ لهم به، وكان العباسُ يدرك قوة المسلمين، فآثر ألاَّ يدخل مع المشركين في الجدال، بل أن يتركهم ويخرج في عياله، علَّه يجد هو الطريق التي تنجي قريشاً مما ينتظرها، فلما لقيَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في الطريق، وكان في محلة تدعى «الجُحْفة» أَمَرَ بأهله أن يُصحبوا إلى المدينة، وعادَ هو مع جيش المسلمين الساعي إلى مكة..
وكان هذا اللقاء مصادفة مباركة، لما قام به العباس من دور هام، في حقن الدماء، وتيسير الأمور، وتذليل العقبات في طريق الفتح.. فقد مضى جيش المسلمين حتى بلغ «مُرَّ الظهران»، وهنالك أمر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بالنزول، وكان الوقت عشياً، فطلب إلى الناس أن يشعل كل واحدٍ ناراً له، وكانوا عشرة آلاف نفس، فامتثلوا، تلبية لأمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.. وإنه ليس يسيراً علينا أن نتخيَّلَ منظرَ عشرةِ آلافِ نار موقدة!، ولا ما تحدثه ألسنة اللهب المتصاعدة من أنوار تسطع في جوف الظلمة فتحيل فضاءَ الصحراء متلألئاً وهّاجاً، وأطرافها منيرة وضّاءة. كما أنه ليس يسيراً عَلينا أن نُقدّر ما يبعث هذا المنظر من رعب في القلب، وخوفٍ في النفس، لمن يكون عدوّاً لأصحاب هذه النيران.. لقد كان ذلك كله فوق ما نتصوره، لأننا لم نره فعلاً أو لم نصادفه..
ونظَرَ العباس فيما حولَهُ، وامتدت أنظارُه تلاحق الأبعادَ التي تمتدُّ إليها الأنوار، فأيقنَ أن قريشاً هالكة لا محالة، إنْ هي أصَرَّت على الغيّ والعناد..
نعم أدرك أبو الفضل، العباس بن عبدالمطلب، أنَّ الخطر قد بات حالاًّ، وهو لن يداهم قريشاً وحدها، بل وأهل مكة جميعاً، مُنزلاً فيهم أفدَحَ الخسائر في الأرزاق والأعناق، وهذه نتيجة حتمية للظلم والضلال، إذ مهما تطاول الظالمون، ومهما ظنوا أنَّهم قادرون، فلسوف يأتي يوم يسحق فيه الظلمُ أهله، ويقضي القهر على صانعيه..
وأخذَ التفكير بالعباس فيما يجب عليه فعله كي يوفر على المسلمين مشقة القتال، ويؤمِّن في الوقت نفسه أهلَ مكة بإنقاذهم من الهلاك المحتوم.. ويُفصحُ العباس عما دار في خلده من وساوس ساعتئذٍ، فيقول: «واصباحَ قريش! والله لئن دخل رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مكة عنوةً قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر».. وأسرع من فوره يعتلي بغلةً بيضاء لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويخرج عليها، راغباً في الذهاب إلى «الأراك» علَّهُ يجدُ حطّاباً أو صاحب لبن، أو أي إنسان، فيبعثه إلى مكة، كي يخبر أهلها بمكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة.
ولم يكن خروج رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد بَلَغَ قريشاً إلى هذه اللحظات، فقد عميت عنها الأخبارُ، بفضل تدبّر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقدرته على التخطيط، ولم يصل إلى مسامعها شيء عن مسيرة جيش المسلمين، ولكنها كانت تعيش في الوساوس والقلق، فخرج في تلك الليلة ثلاثة من رجالها هم: أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، في محاولة لاستطلاع أخبار المدينة، ومعرفة ما إذا كان محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، قد خرج عليهم بجموع المسلمين.
وقد تكون نية بديلٍ مختلفةً عن غاية صاحبيه في ذلك الخروج، فهو يتمنى الزحف وينتظره، بينما هما يخافانه ويرجوان ألاَّ يكون، إلاَّ أنَّ ثلاثتهم اتفقوا على شيء واحد وهو معرفة الأخبار، فكانوا يتحدثون فيما بينهم، عندما اقترب منهم العباس، وأنصت لهم، فعرف من يكونون، فإذا به يسمع أبا سفيان يقول: «ما رأيت كالليلة نيراناً قطُّ ولا عسكراً!». فيجيب بُدَيْلٌ: «هذه ربما خزاعة قد حَمَشَتْها الحرب». فيقول أبو سفيان: «خزاعة أذل وأقلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها».
وإذ ذاك تقدم منهم العباس منادياً على أبي سفيان بكنيته: «يا أبا حنظلة»!..
وعرفَهُ أبو سفيان، فردَّ عليه متسائلاً: أبا الفضل؟.
قال: نعم، وها قد جئتكم..
وما إن وصل العباس حتى بادره أبو سفيان يسأل بدهشة:
ــــ ما لك، فداك أبي وأمي؟.
قال: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في الناس، واصباحَ قريشٍ والله!
قال: فما الحيلة؟.
قال: والله لئن ظفر بك ليضربَنَّ عنقك، فاركب في عَجُز هذه البغلة حتى آتيَ بك رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأستأمنه لك.
وأردف العباسُ أبا سفيان خلفه ثم طلب إلى صاحبَيه أن يعودا إلى مكة. وجاءَ به إلى معسكر المسلمين، وكان كلما مرَّ على نارٍ من نيرانهم يقولون: من هذا؟ ولكن عندما يرون بغلة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والعباسُ على ظهرها، يستدركون قائلين: «عم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على بغلته».. وما زال العباسُ على الدابة، وأبو سفيان خلفه، حتى مرَّ أمام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فقال عمر: «من هذا؟».. ثم تقدَّم يعترض الطريق أمامَهُ، فلمَّا عرفه حيَّاه، وسأله عمَّن يصحب معه، فلما وجده أبا سفيان صرخ في وجهه: «أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد» ثم خرج يريد أن يأتيَ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قبلهما، فأسرع العباسُ على البغلة فسبقه، ولكن ما إن أدخَلَ أبا سفيان على قبة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان عمر في أثره، فدخل يبدي الغضب ويقول: «يا رسولَ الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه»..
وتدخل العباس، فقال: «يا رسولَ الله، إني أجرته».
ثم جلس العباس إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يأخذ برأسه وهو يقول في نفسه: «والله لا يُناجيه الليلة دوني رجل»..
ولم يسكت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، بل أخذ يلحُّ في قتل أبي سفيان حتى يريح المسلمين من شرّه، والعباس بن عبدالمطلب يأبى عليه ذلك، وما زالا يتجادلان في شأن الرجل، حتى قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم:
«اذهب به يا عباس إلى خيمتك، فإذا أصبحنا فأتني به».
وبات أبو سفيان تلك الليلة في خيمة العباس. فلما نودي بالفجر هبَّ الناس من رقادهم يلبّون نداء الصلاة، ففزع أبو سفيان وقال للعباس: ما يريدون؟ قال له: سمعوا النداء بالصلاة فهبّوا يلبون؛ فلما أبصرهم أبو سفيان يركضون ويسجدون وراء النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يا عباس، ما يأمرهم بشيء إلاَّ فعلوه.. فقال له العباس: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه. وطلع الصباح وأتى العباسُ إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له الرسول الأعظم: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يَأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلاَّ الله».
قال أبو سفيان: «بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد علمت أن لو كان مع الله إله غيره، لقد أغنى عني شيئاً بعدُ».
قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يَأْنِ لك أن تعلم أني رسولُ الله؟».
قال أبو سفيان: «أما هذه، فإنَّ في النفس منها شيئاً».
والتفت إليه العباسُ مُغضِباً، وقال له: «ويحك يا أبا سفيان! أسلمْ واشهدْ أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تُضرب عنقك».
وتفكَّرَ أبو سفيان بن حرب قليلاً، وهو مطرق إلى الأرض، ثم رفع رأسه ونظرَ إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يشهد شهادة الحق: «لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله».
وسُرَّ العباس بإسلام أبي سفيان، فقال للنبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «يا رسولَ الله، إن أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً».
وهنا يبرز العباس رجل حكمة وبصيرة. فقد رأى بأنه لو أتيحت لأبي سفيان، وهو زعيم قريش، وسيّد مكة، ميزة عن غيره، فإنها قد تكون إحدى السبل لدخول المسلمين مكة بلا مقاومة أو قتال، إذ عندما ترى قريش بأن رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان حليماً مع أبي سفيان فلم يقتله، وكان كريماً معه فمنحه مكانة معينة، فإنها سوف تطمئن على مصيرها، وتستقبل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين لا كأعداء فاتحين، بل هُداةً، مسالمين، آمنين... ولعلَّ نية العباس كانت تلتقي مع تصميم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء لفتح مكة بدون إهراق نقطة دم أو قتل أحد إلاَّ بالحق. وإنه للرسولُ الحكيمُ، الذي لا تفوته لفتةٌ، فأدرك ما يرمي إليه عمه العباس من طلبه «أن يجعل لأبي سفيان شيئاً»، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم، من دخل منزل أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابَهُ عليه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن».. فلمعت عينا العباس بالفرح، وقام يستأذن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يصحب أبا سفيان إلى آخر المعسكر، فقال له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خَطْم الجبل حتى تمرَّ به جنود الله فيراها»، وكانت غاية النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من هذا الحبس أن يرى زعيم قريش ما عند المسلمين من قوة، فيسارع إلى بني قومه فيحدثهم بما رأى بالعين المجرَّدة، وبالبيّنة الدالة، لكي يعلموا أنه لا جدوى لهم من المقاومة إن ابتَغَوْا مقاومة.
واتخذ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كل أُهبة لدخول مكة، ثم أَمَرَ بالمسير، فأخذت القبائل تمرُّ براياتها أمام العباس وأبي سفيان الذي حبسه في مضيق الوادي كما أمره رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. فكانت كلما مرّت قبيلة، سأل أبو سفيان:
ــــ من هذه؟.
فيقول العباس:
ــــ هذه سُلَيْم..
فيقول أبو سفيان:
ــــ ما لي ولسُلَيْم.. ثم يسأل: ومن هذه؟.
ــــ هذه مزينة!.
ــــ ما لي ولمزينة..
ــــ ومن هذه؟.
هذه قبيلة بني غفار.. و... و...
وما زالت القبائل والكتائب تمرُّ، حتى مرَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في كتيبته الخضراء، وقد لبس أصحابها الدروع والحديد فلا يُرى منهم إلاَّ الحِدَقُ، فبُهر أبو سفيان، وسأل:
«سبحان الله! ومن هؤلاء يا عباس؟»..
قال: «هذا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في المهاجرين والأنصار».
قال أبو سفيان: «ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة! والله يا أبا الفضل لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك الغداةَ عظيماً».
قال له العباس بغضب: «يا أبا سفيان! إنها النبوَّة».
قال: «فنعم إذن»..
قال العباس: «النجاءَ إلى قومك».. هيَّا يا أبا سفيان إليهم بسرعة منجية وإلاَّ فهم هالكون..
واندفع أبو سفيان إلى مكة يصرخ بأعلى صوته: «يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»..
وهُرِعت زوجه هند بنت عتبة، أم معاوية بن أبي سفيان، تأخذه من لحيته وشاربيه وهي تصيح: «يا آلَ غالب! اقتلوا هذا الشيخ الأحمق، ولا تدعوهم، بل قاتلوهم دفاعاً عن أنفسكم وبلدكم. قُبَّح هذا الرجل من طليعة قوم» .
وصاح فيها أبو سفيان: «ويلك، أسلمي وادخلي بيتك»، ثم عادَ ينادي في الناس: «ويحكم لا تفرقكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»..
قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟.
قال: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن».
وتشاور الناس فيما بينهم، فأجمعوا على أن أبا سفيان صادق اللهجة هذه المرة، وأنه لا يريد بهم إلاَّ خيراً، فانصرفوا يتفرقون، منهم من دخل داره، ومنهم من ذهب إلى المسجد ليحتميَ فيه..
وتناهت صرخة أبي سفيان إلى مسامع أهل مكة جميعاً، فسمع أبو قُحافة والد أبي بكر الصديق، وكان لا يزال على الشرك، وقد بلغ من الكِبر عِتيّاً، وطلب من حفيدةٍ له أن تأخذ بيده ــــ لأنه يومها كان مكفوف البصر ــــ وأن تصعد به على جبل «أبي قبيس». فلما صارَ الشيخ هناك، جلس وبجانبه صغيرته واقفة ترقب البعيد البعيد، فسألها: «ماذا ترين؟».
قالت: «أرى سواداً».
قال: «تلك الخيل».
قالت: «لقد انتشر هذا السواد».
فقال: «تلك الخيل قد دُفِعَت إلى مكة، فأسرعي بي إلى بيتي».
وفي هذه الأثناء، كان جيش المسلمين قد انتهى إلى «ذي طُوى»، وأشرف على أبواب مكة، مزوّداً بأوامر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، التي تمنع القتال، إلاَّ إذا فرض عليهم هذا القتال فرضاً ولم يجدوا إلى ردّه من سبيل، أو وجدوا في دخولهم أحداً من جماعة باغية قد سمّاهم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كُلاَّ باسمه، فهؤلاء يقتلونهم ولو وجدوهم متعلقين بأستار الكعبة.
وفرَّق الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، الجيش على مداخل مكة بشكل يمكنه معه أن يُطْبِق عليها من جميع النواحي، فجعل الزبيرَ بن العوام على الجناح الأيسر وأمره الدخول من ناحية الشمال، وجعل خالد بن الوليد على الميمنة وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وجعل سعد بن عبادة على فرقة الأنصار وأمره أن يدخل من جانبها الغربي، ثم قدّم بين يديه أبا عبيدة بن الجراح ليدخل هو، صلى الله عليه وآله وسلم، من أعلى مكة، في ناحية «أذاخر»..
وتقدمت فرق الجيش الإسلامي كل فرقة بطريقها، فلما بلغ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، «الأبطح» أمر أبا عبيدة بالتوقف، ثم طلب أن تُضربَ له قبته، فنزل فيها مع أهله، ولما قيل له: «يا رسول الله، ألا تدخل دارك»؟ قال: «وهل أبقى لنا عقيل من دارٍ؟»..
ومضت فرق الجيش تدخل مكة بدون أدنى مقاومة، وقد أخذت الحمية سعد بن عبادة وهو يمرُّ أمام أبي سفيان بن حرب، فقال: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستَحَلُّ الحُرُمة».. وتردَّدَ قولُهُ هذا بين المسلمين مستهجنين، فنقلوه إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لأنَّ فيه ما يخالف أوامره الصريحة بعدم القتال، فجاءه نفرٌ من الصحابة المقربين، كان فيهم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف (رضي الله عنهم) يقولون: «يا رسولَ الله، ما نأمن أن يكون لسعدٍ في قريش صولة»!. فأمَرَ الرسول الحكيمُ ابنَ عمه، عليَّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن يأتي سعداً فيأخذ منه الراية ويعطيها لولده قيس وأن يقول أمام الفرقة: «اليوم يوم المرحمة». ولقد كانت غاية النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ألاَّ يكون في نفس سعدٍ شيءٌ لانتزاع الراية منه، فإن أعطيت لابنه فتكون كأنها أخذت منه إليه، ولأنه أراد، صلى الله عليه وآله وسلم، ألاَّ يحمل راية الأنصار إلاَّ أنصاري حتى يكون لهم مقام الفتح برجالهم وقادتهم.
وظلت فرق جيش المسلمين في تقدمها وسط الأمان والهدوء، ما عدا فرقة خالد بن الوليد، إذ اعترضتها جماعة من قريش على رأسها صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وهؤلاء كانوا من أشدّ الناس عداوة للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والإسلام، وهم الذين اشتركوا في تحريض بني بكر ليغيروا على خزاعة، بل كانوا معهم في الإغارة، وإنهم لم يكونوا أبداً راغبين في الإسلام، ولا في دخول محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، مكة، بل ظلوا مكابرين وأبَوا إلاَّ أن يُعِدّوا للقتال عدّته، حتى إذا مرت فرقة خالد بن الوليد، انبروا يمطرونها بالنبال، إلاَّ أن الحظ لم يسعفهم إذ اتخذ خالد التدابير التي تحمي فرقته، ثم أمرها بالانقضاض على هؤلاء المعتدين وإنزال أشدّ العقاب بهم، وإنْ هي إلاَّ فترة وجيزة، حتى قتل منهم ما يزيد على اثني عشر رجلاً، فلما رأى صفوان وعكرمة وسهيل، أن الدائرة قد دارت عليهم وعلى جماعتهم لاذوا بالفرار تاركين أصحابهم للقتل، ولكنَّ هؤلاء لم يلبثوا إلاَّ قليلاً وتفرقوا مولّين الأدبار، وبتفريقهم وهروبهم هدأ الوضع تماماً، ولم تبدر من غيرهم أدنى إشارة بالمقاومة، إذ أسلست قريش كلها القياد وهدأت راضية بالنجاة والأمان..
وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يرقب من أعلى مكة مجرى الأمور، فلما بصرَ بتلماع السيوف في أسفل مكة غضب مُنكراً أيَّ قتال، فأرسل من يستطلع له الخبر، حتى إذا علم باستعداء تلك الجماعة من قريش على فرقة خالد، قال: «قضاء الله خير».
نعم كانت الخيرة فيما اختارَه الله سبحانه وتعالى، كما ذكر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اختارَ الله تعالى لمكة أن تكون بلداً آمناً فيدخلها يوم الفتح ويصون فيها المقدسات والحرمات، مذهباً عنها كلَّ غلٍّ وحقد، مزيلاً كل أسباب العداوة والبغضاء، فلا انتقامَ ولا قتلَ إلاَّ لمن بغى وأفسَدَ فهؤلاء كتب عليهم القصاص ليكونوا عبرة لغيرهم ولمن بَعُدَ عن الحق ورام باطلاً. ومن أجل ذلك كان أمرُهُ أيضاً، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن تقتل جماعة باغية، قام أفرادها بأعمال إجرامية تستوجب إهدار دمهم، وإنزال القصاص بهم، وإن طالت المدة بين ارتكابهم لتلك الجرائم وبين اليوم الذي أمكن فيه الله تعالى لرسوله أن يطالهم وينالَ منهم.
ولعلَّ التذكير السريع بأعمال هؤلاء الأشخاص يبين مدى فداحة ما ارتكبوه، فأحدهم عبدالله بن أبي سَرْح، كان قد دخل في الإسلام ثم ارتدَّ مشركاً. وقد لجأ يوم الفتح إلى عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وكان أخاه في الرضاعة، فغيّبه حتى هدأ الناس، ثم أتى به رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يستأمنه، فأعرض عنه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يجب بشيء. وما زال عثمان يلحُّ في طلب الأمان له حتى قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم». وقد رغبَ (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) أن يقوم إليه أحد الصحابة فيقتله إذ قال لهم: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا، حيث رآني كففتُ، فيقتله؟».
قالوا: «ما يُدرينا، يا رسول الله ما في نفسك، هلاَّ أَوْمَأْتَ إلينا بعينك».
قال: «إنه لا ينبغي أن يكون لنبيٍّ خائنة الأعين، وما كان لنبيٍّ أن يقتل بالإشارة».
ومنهم عبدالله بن خطل، وكان اسمه «عبدالعِزّى» فلمَّا أسلم سمّاه رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، «عبدالله». وبعثه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مصدّقاً، أي يجمع الصدقات، وكان معه مولى له مسلمٌ، فلمَّا نزلا منزلاً طلب إلى مولاه أن يذبحَ ويصنع له طعاماً، أي يُعدّ له طعاماً، وعندما أفاق ولم يجده قد أعدَّ له ما طلب، عدا عليه وقتله عمداً ثم ارتدَّ إلى قريش مشركاً، وأقام بعد ذلك في مكة يهجو النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بشعره. وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت إحداهما تدعى فرتنا والأخرى قريبة. فلما كان يوم الفتح قتله سعي بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي. أما جاريتاه فقتلت منهما قريبة، واستؤمن رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لفرتنا فأمّنها.
ومن تلك الجماعة عِكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، فقد كانا من أشدّ الناس عداوة للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وللمسلمين. فأما عكرمة، فقد أسلمت زوجه أم حكيم، وهي ابنة عمه الحارث بن هشام. فلما كان الفتح هرب عكرمة وصفوان نحو ساحل البحر يريدان الذهاب إلى اليمن، إلاَّ أنهما أعيدا والسفينة على أهبة إقلاعها، إذ لحقت بعكرمة زوجه المؤمنة بعدما استأمنت له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كما لحق بصفوان ابن عمه عمير بن وهب الجُمَحي بعد أن أخذ له الأمانَ من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أُتيَ بهما رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم عكرمة، وطلب صفوان من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يمهله بالخيار شهرين فقال له: «أنت بالخيار أربعة أشهر».
ومنهم أيضاً الحويرث بن نُقيذ، وقد كان يُعظّم القولَ في النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ويكثر من أذاه في مكة. قتله علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). وقتل من هذه الجماعة أيضاً مِقْيَس بن صبابة. فقد كان له أخ يسمى هشاماً، ظن رجل من الأنصار، في غزوة «ذي قرد»، أنه من العدو فقتله خطأ، فأعطاه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ديتَهُ، ورغم ذلك عاد مِقْيس وقتل الأنصاري بأخيه ثم رجع إلى قريش مرتداً إلى الكفر. فكان جزاؤه القتل على يد رجل من بني قومه يدعى «نميلة بن عبدالله الليثي».
ومن هؤلاء الذين أَمَرَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بقتلهم كعب بن زهير بن أبي سلمى، فقد كان مثل أبيه شاعراً ولكنه سخَّر شعره لهجاء النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والنيل من أعراض المسلمين، وكان له أخ مسلم يدعى بَجيراً، فكان يؤذيه لإسلامه. فلما كان يوم الفتح هرب كعب من مكة، وما زال متخفياً حتى عاد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى المدينة فجاءه مسلماً، تائباً. وقد أنشده قصيدته المعروفة بمطلعها: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول».
وفي هذه القصيدة مَدَحَ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ومن جملة ما قال فيه:
نُبّئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمولُ
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ
ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنِّي بأقوال الوُشاة ولم
أُذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل
إن الرسول لَنُورٌ يُستضاء به
مهنَّدٌ من سيوفِ الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أَسلموا زولوا
وأحدهم أيضاً هبّار بن الأسود، كان ــــ من شدة أذاه للمسلمين ــــ أنِ اعترضَ مع الحويرث بن نقيذ راحلة زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم هجرتها إلى المدينة، فنخس الراحلة حتى أجفلت وأوقعت ابنة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أرضاً، مما آذاها كثيراً فأسقطت جنينها، وما زالت منذ يومها مريضة حتى توفاها الله تعالى. وقد جاءَ هبّار إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نادماً، تائباً، فعفا عنه.
وكان الحارث بن هشام ــــ أخو أبو جهل ــــ وزهير بن أمية، من أشد الناس في كفرهما وفي الاعتداء على المسلمين، وقد هربا يوم الفتح واختبآ في بيت أم هانىء، بنت أبي طالب، فجاءت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، واستأمنتهما ثم أتت بهما بعدها إليه فأسلما تائبين.
وآخر رجال هذه الجماعة هو وحشي بن حرب، قاتل حمزة بن عبدالمطلب (رضي الله عنه) غدراً يوم أُحد. وقد هرب يوم فتح مكة إلى الطائف، حتى كان دخول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إليها، فجاءه مسلماً، فقال له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُرِيَنِّي وجهك». فخرج من حضرة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وهام على وجهه في البلاد حتى توفاه الله سبحانه في حمص.
ومن النساء اللواتي أمر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بقتلهن كانت مولاةً لعمرو بن هشام بن عبدالمطلب تدعى سارة، فقد كانت تغني أيضاً بهجاء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استؤمِن لها فأمَّنها وعفا عنها (عليه وعلى آله الصلاة والسلام). ومن هذه النسوة كانت هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان بن حرب. وقد اشتهرت بأنها أكثر النساء عداوة للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وللمسلمين، وكان من فعالها المعروفة أن مثّلت بسيد الشهداء حمزة ولاكَتْ كَبِده. وقد حاولت يوم الفتح أن تهيج قريشاً وتدفعها للقتال ولكنها خسئت ولم تفلح، فارتدت إلى داخل بيتها تقعد ملومة مكظومة. وقد استؤمنت من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأمّنها.
فثلاثة رجال وامرأة لاقوا القتل فقط ممن أهدر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم الفتح دمهم، وفي هذا أكبر دليل على ما يحمل الإسلام من تعاليم سامية في التسامح والعفو عند المقدرة.
على أنه لم يكن لمقتل هؤلاء الأفراد، ولا لمقاتلة تلك الجماعة من قريش في أسفل مكة، أيُّ أثر على مسيرة الفتح المبارك، فهذه جيوش المسلمين تدخل مكة وهي تحمل معها الأمن والسلم، وتنشر في ربوعها الهدوء والطمأنينة..
لقد جاؤوها مسلمين، يفتحون أحضانهم لمن آذوهم وهجَّروهم، ولمن تحزَّبوا عليهم وقاتلوهم، لا يرغبون في ثأر ولا يريدون انتقاماً، بل ليناً في المعاملة ورأفة وتسامحاً.. وهذه هي العلاقات التي أرادها النبيُّ الكريم بين جيشه الفاتح وبين أهل مكة. ولقد تشدَّدَ في هذه العلاقة وأرادَها، لأنها تنبع من وجدانه الإنساني، وتفيض من نبوَّته السمحاء. وإنَّ في تصرفه، ومسلكه، ما يفرض على جيشه الاقتداء به. فها هو الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، يدخل مكة، لا كما يدخل الفاتحون من ذوي الكبرياء والجبروت، بل بخشوع وتواضع، مكبّاً على راحلته، حتى ليكاد رأسه الشريف يلمس قَتَبَ الراحلة، وفي ذلك الخشوع والتواضع آيات الشكر لله تعالى على ما أنعم عليه من هذا الفتح المبين، وما أنزل به من هذا الفضل الكبير.
لقد رأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في دخول جيش المسلمين مكة بلا كبيرِ قتالٍ، نعمةً عظيمةً أفاضها الله سبحانه عليه، فكانت هذه النعمة دافِعَة للتواضع، والقيام بحقها وشكرها، لأنَّ الشكر لكل نعمة لا يكون إلاَّ بنعمةٍ من قبيلها أو توازيها. فشكر القوة يجب أن يكون بالرفق والعدل، وشكر الرفعة يجب أن يكون بالتواضع والتسامح، وهذا ما برز به محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، عظيماً إلى أبعد حدود العظمة، فقد أوتي القوة والرفعة في فتح مكة، فكان تواضعه، وكان عفوه، أسمى من القوة والرفعة، فشرّفها جميعها وشُرِّفت به، لأنه لا أحد في العالمين غيره اجتمعت له التربية الربانية إلى التربية الذاتية لتجعله أعظم إنسان في الخلائق، فلا يبدر منه إلاَّ ذاك الذي شهده أهل مكة وجعلهم يشهدون له بأنه النبيُّ الحليم، والرسول الكريم.
لقد عاد محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى البلد الذي عذَّبه وآذاه وهجَّره، عزيزاً منتصراً، ولكنَّ هذا كله قد ذهب إلى ما لا رجعة، وها هي الجبال والأغوار التي تلقّى فيها الوحيَ تستقبله بين أحضانها فخورةً والشعابُ التي أوى إليها وقت الظلم تبتسم مُعْتزَّةً، وها هو البلد الحرام يفتح له الأبواب مشرعةً، ومسجده في البيت العتيق يدعوه لتثبيت دعائم الإيمان وتحطيم أصنام الشِّرْك وأوثان الكفر، فنزل (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) من أعلى مكة، على ظهر ناقته القصواء، وأمامه لواؤه الأبيض ورايته السوداء «العُقاب» ليفتح مكة ويدخلها والمسلمون آمنين، مطمئنين، فسارَ به الركب، وهو يقرأ «سورة الفتح» ليكون، كما أرسله الله تعالى شاهداً ومبشراً ونذيراً للعالمين..
نعم نزل الرسول العظيم لفتح مكة، شكوراً بقراءة «سورة الفتح» وانتهى إلى الكعبة الشريفة، يحفُّ به الناسُ من جميع الجوانب، فاستلم الحجر الأسود وكبَّر، فكبَّر المسلمون وراءه حتى ارتجت أركان مكة لهذا التكبير، ثم راح يطوف على راحلته، وهو في كل طوافٍ يستلم الحجر الأسود، ويعود بعده إلى طواف جديد، حتى أكمل سبعة أشواط. ولقد كان للعرب حول مكة أصنام كثيرة، بلغت ستين وثلاثمائة صنم، راح النبيّ أثناء طوافه يطعنها بمحجن في يده ويقول:
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} .
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} .
نعم هذا هو الحق من رب العالمين، وما يبدىءُ الباطلُ وما يُعيد؟!..
فتلك الأصنام والأوثان التي عبدها العربُ، ومثلهم عَبَدْتها أمم وشعوب في الأرض كثيرة، ها هي تهوي بضربة محجنٍ من يد رسولٍ كريم، ونَبِيٌّ عزيز، بُعِث ليمحوها من حياة الناس، فلا يكون بعدها جاهلية ولا كفر أو شِرْك، بل دينٌ لله الواحد الأحد، يُسلم فيه الإنسان لربه، ويسيرُ به على صراط مستقيم حتى تكون له السعادة في الحياة الدنيا، ويفوز بالنعيم في جنات خلدٍ عرضها السموات والأرض في الحياة الآخرة..
وهذا الحق هو الذي جاء محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، يفتح به ولأجله مكة، فكان له هذا الفتح مؤيداً بنصر عزيز من الله سبحانه، فينزل بعد الطواف حول البيت الحرام عن راحلته، ويقبل إلى الكعبة الشريفة يريد دخولها، فيتقدّم منه علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقد جاءه بالمفتاح يضعه بين يديه، ولكنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يدعو إليه حاجب الكعبة، عثمان بن طلحة، ويطلب إليه أن يفتح هو الباب، فيمتثل عثمان ويدخل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه أسامة بن زيد ومؤذنه بلال..
وينظر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى رحاب الكعبة الشريفة، فيرى الأصنام والأوثان، ما تزال في جوفها، فيأمر من فوره بإخراجها وتحطيمها. ويتقدم هو، صلى الله عليه وآله وسلم، من تمثال حَمامةٍ من عيدانٍ فيكسرها بيديهِ ويلقيها إلى الأرض، ثم ينظر إلى صورة إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) وقد نقشت على الجدار تظهرهما يستقسمان بالأزلام، فيقف أمامها مليّاً ويقول: «قاتلهم الله، جعلوا النبيِّين يستقسمون بالأزلام! والله ما استقسما بها أبداً. ما شأن إبراهيم وإسماعيل والأزلام! ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين». فأمر بالصورة، وبصور الملائكة على شكل إناثٍ ذوات جمالٍ أن تطمس كلها وأن تمحى. وكان هُبلُ كبير آلهة قريش ما زال في داخل الكعبة، فجرى تحطيمه. وما زال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يأمر بإخراج الأصنام وتحطيمها حتى طهّر البيت الحرام منها، وأتمَّ بذلك وفي أول يوم لفتح مكة القضاء على الوثنية في البيت الحرام، ثم أغلق باب الكعبة على نفسه، واستقبل الجدار قبالة هذا الباب، حتى إذا كان عنه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلَّى.
وما كاد رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يفرغ من صلاته هذه، حتى عادَ يدور في رحاب البيت، مكبّراً ثم يفتح باب الكعبة الشريفة ويقف مخاطباً الناس، فقال: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعَى فهو تحت قدميَّ هاتين إلاَّ سدانة البيت وسقاية الحاجّ. أَلا وقتل الخطأ مثل العمد، السوط والعصا فيهما، الدية مُغلّظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها.
«يا معشر قريش! إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب. يقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
«يا معشر قريش!! ويا أهل مكة! ما تظنون أني فاعل بكم؟».
قالوا: «خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم».
قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثريبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغفرُ الله لكمُ وهوَ أَرْحَمُ الراحمينَ. إذْهَبُوا فأنتم الطُّلقاء»..
هذه هي العظمة وروعة التسامح، فقد أمكن الله تعالى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من رقاب قريش عنوةً، فلم يبادلهم الأذى والعذاب والعداوة، وكلَّ ما أرادوه به من شرٍّ بمثله، بل أعتقهم منها جميعها، وأحلَّهم من كل الأخطاء وحرَّرهم من جميع الجرائم، التي ارتكبوها بحقه وبحق أصحابه وأتباع دعوته، ولذا سُمُّوا الطُّلَقَاء، فكان حقاً أوَّل فاتح في التاريخ ضرب مثلاً أعلى في هذا العفو، وما أجمل العفو عند المقدرة!.
لقد خطب رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في أهل مكة، وأعطاهم الأمان، مضمّناً خطبته بعض الأحكام الشرعية مثل القتل الخطأ، وماهية الديّة، ومركّزاً فيها على العلاقة الطيبة، وهي التعارف بين الشعوب والناس، إذ في هذا التعارف نفع للإنسانية وخير للبرية، ولكن مهما عمل الإنسان، وأقام من علاقات، فإنَّ أعلى مرتبة يصل إليها وينال المكرمة على أساسها هي التقوى.
وبعد هذه الخطبة دعا إليه عثمان بن طلحة، فأعطاه مفتاح الكعبة وقال: «خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة».
ويروي عثمان بن طلحة بنفسه، تسليم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، له مفتاح الكعبة، وهو يسترجع ذكرى أيامٍ مضت كان له فيها من محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، مواقف معينة، فيقول: «كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يومي الإثنين والخميس، فأقبل الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يوماً قبل هجرته إلى المدينة، يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فاعترضْتُهُ مغلظاً في القول، حتى نلت منه، فحَلمَ عني وقال: «يا عثمان! لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت». ورددتُ متطاولاً عليه في الأذى فقلت له: «لقد هلكتْ قريشٌ يومئذٍ وذلَّتْ». فقال لي: «بل عمرت وعزَّت يومئذٍ». ووقعت كلماته في أذنيَّ موقعاً أحسست بصدقها. ثم تتالت الأيام حتى كان يوم الفتح، فدعاني نبيُّ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إليه وقال لي: «يا عثمان! ائتني بالمفتاح».. فامتثلت مسرعاً أناوله مفتاح الكعبة وأنا أتذكر ذلك اليوم الذي اعترضته فيه، وقال لي ما قال، فلم أجرؤ على النظر إليه. وبعد أن أخذ المفتاح، وعادَ فدفعه إليَّ قال: «خذوها خالدة تالدة. يا عثمان! إنَّ الله تعالى استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف». فقلت: نعم يا رسولَ الله. وانصرفت من أمامه، فاستوقفني وقال: «ألم يكن الذي قلت لك يا عثمان، سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت». فقلت: بلى يا رسولَ الله، وأشهد أنك رسولُ الله صلَّى الله تعالى عليك وسلّم».
هذا ما رواه عثمان بن طلحة عن مأثرةٍ من مآثر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي هذه الرواية ما يدلُّ الناسَ على صدق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يأتيه الوحي من السماء، وما يبيّن تسامي النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عن سلوك البشر، فلا يحفل بموقف عدائي، كموقف عثمان بن طلحة، بل يرتفع إلى ذرى الإنسانية التي تزخر بالتسامح والمحبة والخير.. وليس أدلُّ على هذا التسامي لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ معاملته، ليس فقط لعثمان، بل ولأهل مكة جميعاً، وما منحهم من عفو عام، وعفو خاص حتى لبعض الذين أهدرَ دمهم وطلبَ قتلهم.
وبعد أن أعطى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة، دفع السِقاية إلى عمه العباس بن عبدالمطلب، وكانت من قبلُ لأبيه، وقد قام بها العباس خير قيام، ثم كانت لابنه عبدالله من بعده. وتلك السقاية كانت تقوم على ملء أحواض من الجلد بالماء العذب فيشرب منها الحجيج، أو يطرح فيها تمرٌ وزبيب في بعض الأحيان، فيأكل الناس.
وكان وقت صلاة الظهر قد حان، فصعد بلال فوق ظهر الكعبة مؤذناً للصلاة. وتجاوبت أرجاء مكة لنداء الإيمان حتى يبقى هذا النداء خالداً على الأزل بأن: لا إله إلاَّ الله، وبأن محمداً رسول الله. وهو النداء الذي يهْدي المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها إلى دعوة الفلاح والخير، ويذكرهم بأن الله سبحانه وتعالى هو وملائكته يصلُّون على النبي، فأولى بكم أيها المؤمنون أن تصلّوا عليه وتسلّموا تسليماً.
وصلَّى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بالمؤمنين، ثم نادى مناديه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلاَّ كسره». وبعد هذه المناداة لإزالة كل معالم الشِرْك والكفر في مكة، بعث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، سراياه لتحطيم الأصنام في كل ناحية وجدت فيها حول مكة، وقد كان العرب قد اتخذوا لهم أصناماً كثيرة، وجعلوا لها بيوتاً، يعظمونها فيها، ويهدون إليها، ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة، فذهبت تلك السرايا تكسّر الأصنام وتمحو كلَّ أثر لها حتى يستقر الإسلام ديناً لله وحده في جزيرة العرب.
وأتى رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ذلك الصفا يدعو الله سبحانه، على ما أنعم عليه وجزاه به من فتح مبين. وكان الأنصارُ يرون كل ما يجري، فلمَّا انصرف النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الدعاء على الصفا، راحوا يقولون فيما بينهم: «أترون أنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ فتح الله أرضه وبلده يقيم فيها؟».
لم يكن تهامسُ الأنصار فيما بينهم إلاَّ حباً برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ورغبةً أكيدة في ألاَّ يتخلى عنهم، حتى تظل لهم المكرمات بجواره، والاعتزاز بالإحاطة به. وقد عرف رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد إتمامه الدعاء مخافتهم تلك، فقال لهم: «معاذَ الله المَحْيا محْياكم والممات مماتكم».. فسلام الله عليك يا رسول الله ما أعظمك وما أوفاك..
فأيُّ جانب من جوانب حياة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يحفل بالعظمة.. أوَليس الوفاء هو أحد عناصر العظمة في حياة الإنسان؟ وهل أعظم من وفاء محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما يؤثر البقاء في المدينة، بين أولئك المؤمنين الذين ناصروه، رغم ما يحمل هذا البقاء من تخلّ عن الموطن مكة، حيث موطن الآباء والأجداد، ومثوى الأهل والأحبة، وحيث نشأ وترعرع وتلقّى الوحي من السماء! هذا الوفاء وما فيه من التضحية بالمشاعر الشخصية، هو الوفاء المحمدي، فكان قراره، صلى الله عليه وآله وسلم، بأنه سيعيش بين الأنصار ما دام فيه عرقٌ ينبض بالحياة، حتى إذا توفاه الله سبحانه وتعالى ومات، طلب أن يدفنوه في أرضهم، لأن قوله كان صريحاً وواضحاً للأنصار: «المحيا محياكم والممات مماتكم».
وعادَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من الصفا، فجلس في المسجد، يأتيه الناسُ مبايعين على الإسلام، وداخلين في دين الله أفواجاً. ولقد استقبل، صلى الله عليه وآله وسلم، أولاً الرجال في تلك المبايعة، يُسْلِمون على يديه مهتدين. وكان أن تقدم أحد الرجال، فلمّا صار بين يديه أخذته الرعدة، فقال له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «هَوِّنْ عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد». وكان ممن بايعه في ذلك اليوم على الإسلام، معاوية بن أبي سفيان وأبو قحافة، عثمان بن عامر التيمي (والد أبي بكر)، فقد ذهب الصديق وجاء بأبيه، فأعلن أبو قحافة إسلامه يوم الفتح، بعد أن انقضت عشرون سنة على إسلام ابنه الصديق.
ولما فرغَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من مبايعة الرجال، بايع النساءَ، وكانت بيعته لهن أَنْ وضعَ إناء بين يديه، ولمَّا أخذ عليهن البيعة وأَعطينه إياها، غمس يده في الماء ثم أخرجها، فغمست النساء أيديهن بعده. فإنْ دلت بيعة النساء على شيء فإنما تدلّ على أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن يصافح النساء ولا يَمسّنَّ امرأة إلاَّ إذا كانت حِلاًّ له أو ذات محرم منه، فإن ذلك محرَّم في شرع الإسلام.
وكان بين النسوة، وقد اجتمع عدد كثير منهنَّ، هند بنت عتبة (زوج أبي سفيان بن حرب، وأم معاوية) جاءت متنقبة، متنكرة، خائفة من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لفعالها الشنيعة السالفة، فلمّا اجتمعن إليه قال لهنّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم:
«تبايعنني على ألاَّ تُشركن بالله شيئاً».
فقالت هند: «وإنك لتأخذ علينا أمراً ما تأخذه على الرجال وسنُؤْتيكَهُ».
وتابع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من غير أن يردَّ عليها فقال: «ولا تَسْرقْنَ».
فقالت هند: «إنَّ أبا سفيان رجل شحيح يا رسول الله».
فعرفها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: «وإنك لهند؟».
قالت: «نعم! فاعفُ عما سلَفَ، عفا الله عنك».
وعاد يخاطب جميع النساء فقال: «ولا تَزْنيْنَ».
فعادت هند تقول: «أَوَ تَزْني الحُرَّة؟».
وتضاحك بعض مَنْ كان في المسجد وهم يرون أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يبد اعتراضاً على المرأة.
وتابَعَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قوله للنسوة: «ولا تقتُلْنَ أولادكنَّ بوأْدٍ ولا إسقاط».
وقالت هند: «ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً فأنت أعلم».
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ولا تأتِين ببُهتانٍ تفترينَهُ بين أيديكن وأرجلكن».
قالت هند: «وإن إتيان البهتان لقبيح».
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ولا تَعْصينني في معروف».
فقالت هند: «ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف».
تلك كانت بيعة النساء، وهي بيعة هامة لأن الإسلام ساوى فيها بين الرجال والنساء. وما دامت البيعة من الأمور العامة المهمة، فإنه يكون قد فرض وجوب مشاركة المرأة للرجل في هذه الأمور. ومن هنا تتبدى أهمية بيعة النساء ولا سيما أيضاً فيما حفلت به من إقرار النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لمجموعة من القواعد العائلية والمجتمعية والإنسانية التي تبرز المرأة عنصراً فاعلاً في المجتمع، يتوقف إلى حد بعيد، على سلوكها وتصرفها، صلاح هذا المجتمع أو فساده.
فالمرأة من خلال البيعة هذه، يجب أن تكون مؤمنة بالله، فلا تشرك به شيئاً، وأن تكون أمينة على المال والحقوق فلا تسرق، وأن تكون شريفة في عرضها فلا تزني، وتحفظ النسل السليم، ولا تقدم على قتل المولود، إنْ جنيناً وإنْ بعد الولادة، حفاظاً على قدسية الحياة، وصوناً لأبناء المجتمع من الهلاك، وأن تكون صادقة لا تقول إلاَّ الحق بعيدةً عن زور أو بهتان أو ادِّعاء باطل، ولا تعصي الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم ــــ والحاكم عامة ــــ في معروف.. وذلك كله بتنزيل الخالق العزيز في محكم كتابه الكريم:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وإنَّ في بيعة النساء على هذا النحو ما يحفل بأمور الحياة كلها، مما يعطي للمرأة الدور الهام والكبير في المجتمع، ويبرزها ذلك العنصر الفاعل في بناء الإنسانية السامية.
وفي مبايعة الرجال والنساء على الإسلام، كان اطمئنان قريش على مصيرها قد اكتمل، فلم يعد عندها أدنى خوف من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ولا قلق على حياتها، إذ رأت من عفوه ورحمته فوق ما كانت تتصور، ومن حسن صنيعه أبعد مما كانت تعتقد، فأقبلت على الإسلام، رجالاً ونساءً، قانعة راضية.
ولما كان الغدُ من يوم الفتح، عثرت خزاعة على رجل من هذيل، وهو مشرك، فقتلوه. فغضب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقام في الناس خطيباً فقال:
«يا أيها الناس. إن الله حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرىءٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً أو يعضد فيها شجراً.. ولم تُحْلَلْ لأحد كان قبلي، ولا تُحَلّ لأحد يكون بعدي، ولم تُحْلَلْ لي إلاَّ هذه الساعة غضباً على أهلها ثم رجعت كحُرمتها بالأمس، فليبلّغ الشاهدُ منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلَّها لرسوله ولم يُحللها لكم يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع. لقد قتلتم قتيلاً لأَدِيَنَّه، فمن قتل بعد مقالي هذا فأهله بخير النظريْن: إن شاؤوا فدمُ قاتله، وإن شاؤوا فَعقْلُه» .
وأقام النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في مكة يهدي الناس للإيمان، ويفقههم في الدين، مطبقاً الأحكام الشرعية بصورة تامة وكاملة لا هوادة فيها، ولا مراعاة ولا تهاون. فعندما أقدمت امرأة من قريش على السرقة، وهي مخزومية اسمها فاطمة، وثبتت عليها التهمة، كان لا بُدَّ من وجوب تطبيق الحكم الشرعي عليها بإنزال حد السرقة وهو القطع، والقطعُ جابرٌ للسرقة.
وقد فرضت هذه العقوبة لأن مفهوم السرقة في الإسلام هو أخذ المال خُفيةً عن مالكه أو نائبه على شرط أن يكون نصاباً عليه، وأن يخرج من حِرْزِ مثله، وأن لا تكون في هذا المال شبهة سواء أخذ المال ليلاً أو نهاراً، وسواءٌ دخل السارق إلى المكان بالخلع أو بغيره، مقنّعاً أو ظاهراً، مسلحاً أو أعزلَ. فكل أخذٍ للمال على وجه الْخُفية يعتبر سرقة، ويوجب إنزال العقوبة بالسارق، أي حد السرقة، لأن هذا الحد لله تعالى ولو كان فيه حق لآدمي، ولذلك لا يسقط بإسقاط صاحب الحق.
والآية على عقوبة السرقة صريحةٌ لقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَافْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} .
ولأن موجب القطع ثبتَ، فوجب من غير مطالبة، بدليل حادثة المخزومية، إذ قرَّر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وجوب إنزال عقوبة قطع يدها.
ولكنَّ قريشاً، كانت ما تزال حديثة عهد بالإسلام، أفزعها الأمرُ وصَعُبَ عليها كثيراً أن تقطع يدُ سيدة من نسائها، فجاء نفرٌ من أشرافها إلى أسامة بن زيد، يتوسّطون لديه حتى يستشفع بها عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لعلمهم بحبِّ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، له، وذهب أسامة يفاتح النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بالأمر فغضب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: «أتشفع في حدٍّ من حُدود الله؟».
واستدرك أسامة خطأه، فقال: «أستغفر الله يا رسولَ الله»!...
فلما كان العشي قام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «ما بالُ أقوامٍ يشفعون في حدّ من حُدود الله، فإنما أهلكَ مَن كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، فوالذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
هذا هو التطبيق الأمثل لمن أراد أن يقيم مجتمعاً صحيحاً تسوده العدالة والمساواة. وما هلاك الشعوب من جراء ما يستشري فيها من فوضى، وما ينزل بها من جور وفساد وظلم إلاَّ بالتباعد عن العدالة والمساواة اللتين يُقضى عليهما بتضييع حدود الله، أو بعدم الاهتداء إلى هذه الحدود وجعلها الأسس للبناء العام..
ولو ألقينا نظرة على واقع دول هذا العصر، لرأينا أنها جميعها، حتى أكثرها تقدماً ومدنية ــــ كما تدّعي ــــ قد تحكمت فيها نزعات الظلم والتفرقة والفوضى والتسيُّب إلى أبعد الحدود، لأن المخارج التي أوجدتها لمعالجة أمراض مجتمعاتها كافة كانت لا تتعدى نظريات وضعية تلاقي القبول والإيجاب بصور متفاوتة ولكن من غير الإجماع على جدواها بصورة مطلقة، بخلاف حدود الله عزَّ وجل التي لو طبقت لجعلت الناس جميعاً سواسية أمام القانون وفي تطبيق النظام بحيث ينالُ كل ذي حقٍّ حقه بلا منازع..
ولعلَّ الأحداث التي يشهدها العالم المعاصر تدلُّ على فشل الأنظمة السائدة فيه. لو أخذنا مثلاً جزئياً، حادثةَ انقطاع التيار الكهربائي في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، وهي من كبريات مدن العالم وتبلغ أعلى المستويات في التنظيم وفي مظاهر التمدّن والتقدّم.. فتلك الحادثة، إن دلّت على شيء هام، فإنما تدلُّ على اللاأخلاقية الحادة التي ظهرت في الحرائق التي أشعلت في الأسواق، والسرقات التي حلَّت بالمتاجر، وقضت في بضع ساعات، على أموال تقدر بملايين الدولارات الأميركية، وكان ذلك بفعل المواطنين في المدينة أنفسهم، حتى قيل إن الشرطة ــــ وهي المطلوب منها المحافظة على الأمن والنظام ــــ عادت وشاركت في تلك الأعمال التخريبية..
فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة لحادثة معينة، وفي مدينة معينة، فما بالنا بما يقع في أقطار الأرض كلها من سرقات، يقدم عليها الأفراد، وتقوم بها العصابات المجرمة، التي اتخذت لنفسها منظمات للإرهاب والسطو، تارة على المصارف، وتارة على المتاحف والمعارض، وطوراً على البيوت الآمنة، أو على المحلات والمكاتب أو أي مكان آخر ترى فيه غنيمة تسرقها أو كريمةً تسلبها من أصحابها... وقد بلغت هذه العصابات حدّاً من القوة، عجزت السلطات العامة، في أغلب بلدان العالم عن إيقافها عند حدودها، رغم كل الجهود التي تبذلها، والمخططات التي تضعها للتصدّي لها والقضاء عليها.
ولو أخذنا الأمر من جانب آخر، وفكرنا بما يدفعه العالم من نفقات باهظة على صناعة الأقفال والخزائن الحديدية، المختلفة الأشكال والأنواع، والمتقدمة في تقنيتها، وكل ذلك من أجل حفظ الأموال والوثائق والسندات من السرقة، لقدّرنا كم هي الأموال التي تهدر لمواجهة السرقة.. وكذلك الأمر بالنسبة لكميات الأجور والرواتب التي تدفع سنوياً، للحراس من قبل السلطات والشركات، والأفراد، لصيانة أموالهم وممتلكاتهم من الاعتداء عليها بالسرقة.. فقطعاً إنَّ ما ينفق في هذا السبيل يبلغ مئات الملايين من الدولارات سنوياً.. وهذه كلها هَدر للجهد والمال بسبب فشل الأساس المعتمد لمنع السرقة..
أما في الإسلام فإننا نجد الأساس السليم فيما شرَّع من حدِّ السرقة، وقد قضي على هذه الجريمة، في كل مرة طبق هذا التشريع في دنيا الناس، وما نشهده اليوم في المملكة العربية السعودية لَخيرُ دليل وأوضح مثال على منع الناس عن السرقة، إن لم يكن بالشكل المطلق والباتّ، فبأعلى نسبة في العالم بدون جدال..
هذا هو حدُّ السرقة ومدى أثره في حفظ المجتمع الإنساني في جانب واحدٍ من جوانبه الهامة.
* * *
حدود الله تعالى
في مكة المكرَّمة أتمّ الله سبحانه وتعالى حدوده. وقد طبَّقَ رسولُ الإسلام، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الحدود، كما رأينا في تطبيق حد السرقة على المخزومية، رغم أنَّ قريشاً كانت ما تزال في بداية عهدها بالإسلام. وما هذا التطبيق، إلاَّ لأن حدود الله سبحانه، هي السياج الحق للدولة الإسلامية. فبإتمام هذه الحدود وإقامتها، تكون إرادة الله تعالى، قد حَصَّنت الدولة الإسلامية، بالحصن الفكري، وبالنهج العملي.. وهذه عين الرعاية من الله تعالى لهذه الدولة. فالله سبحانه وتعالى قد جعل رعايته التامة للدولة التي تطبق أحكامه السماوية، وأحكام الدين الذي ارتضاه للبشرية في آخر عهودها من النضج والوعي: «إنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإسْلاَم».
ولكي تبقى هذه الرعاية الإلهية رضىً من الله سبحانه ورحمة، كان لا بد للإنسان من أن يحيط نفسه بالسياج الفكري، وأن يحمي ذاته بالنهج العملي، فإن لم يفعل فإنما يكون قد تعدّى على حدود الله، وخرج على السياج العام. ومن يتعدَّ على هذه الحدود فجزاؤه العقاب الشديد في الدنيا، يُفرض على شكل عقوبة مادية تنزل بالمعتدي حتى يعود إلى سواء السبيل، وفي الآخرة حسابُه على ربه عزَّ وعلا.. ومن أجل ذلك فإن هذا العقاب الشديد كان ينطوي على غايتين: فهو، في ذاته، زاجر قوي عن الحرمات (وفيها التَّعدي)، وهو في عقوبته المادية تحرير للإنسان من جرمه، إذ إنَّ هذه العقوبة تجبر الفعل القبيح الذي ارتكبه الإنسان. فيتبين جلياً أن التهديد يكون لكل غافل وظالم لنفسه، عند إقامة حدود الله، وذلك لقوله تعالى:
{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .
فحدود الله تعالى هي إذن لصالح الفرد، مثلما هي لصالح الجماعة. ولذا فهي تشكل الأهداف العليا التي تصون المجتمع الإنساني. وقد أنزلها الله تعالى تشريعاً سماوياً، مكرّسة بكتابه العزيز، ليكون لها تشريع سماوي ثابت، غايتُه هداية الإنسان وخيره المطلق. ومن هنا فإنَّ هذه الحدود ليست من صنع الإنسان، ولا يمكن أن تكون من صنع الإنسان، بل إنها من أوامر الله ونواهيه، فكانت ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل، ولا يمكن أن يطرأ عليها أي تعديل.
وإذا كان لا بد لكل مجتمع إنساني من أهداف عليا يكون فيها دوامه واستقراره وتقدمه، فإن أهداف المجتمع الإسلامي العليا لا يمكن تحقيقها إلاَّ بتطبيق حدود الله. ومن هنا كان علينا أن نوضِّح أحكام هذه الحدود والتاريخ الذي وجبت فيه هذه الأحكام.
فما هي هذه الحدود، وما مفهوم كل منها؟.
إن أصلَ الحدِّ هو ما يقام بين شيئين فيمنع اختلاطَهما. فحدّ الدار أو الأرض ما يميزها عن غيرها، وكذا حدّ كل شيء، هو ما يحيط به ويميزه عن غيره ويتميَّز به.
وقد تطلق الحدود ويُراد بها المعاصي لقوله تعالى:
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} .
وتطلق أيضاً على شرائع الله ومحارمه، لقوله تعالى:
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .
فحدود الله تعالى هي محارمُهُ..
والحدود اصطلاحاً هي عقوبات مقدرة شرعاً في معصية لتمنع من الوقوع في معصية مثلها.
أما المعاصي التي تستوجب الحدود أو إنزال العقوبات فهي ثمانية:
الزنا وقد فرض حدُّه للحفاظ على صحة نسل الإنسان.
والقذف وقد فُرِضَ حدُّه للمحافظة على الكرامة الإنسانية.
والسرقة وقد فُرِضَ حدّها للحفاظ على الملكية الخاصة.
والقتل العمد وقد فُرِضَ حدّه للمحافظة على حياة الإنسان وحرمة نفسه.
والردّة وقد فُرِضَ حدّها للحفاظ على الدين.
وقطع الطريق وقد فُرِضَ حدّه للحفاظ على الأمن.
والبغي وقد فُرِضَ حدّه للحفاظ على الدولة.
وشرب الخمر وقد فُرِضَ حدّه للحفاظ على العقل.
وهذه الحدود التي تعني العقوبات التي تنزل بالفاعل، لا تطبق إلاَّ في المعاصي الخاصة التي يكون لله تعالى حق فيها، فلا تطبق على غيرها، ولذا لا يصح فيها العفو، لا من الحاكم ولا من الذي اعتدي عليه أو على ماله، فهي حق لله سبحانه، ولا يملك أحد من الناس إسقاط هذا الحق بحال من الأحوال.
ولقد ضربنا مثلاً على تطبيق عقوبة السرقة أو حد السرقة فيما سبق، فلنحاول الاهتداء سريعاً إلى الحدود الأخرى، ثم ينتهي التركيز على حدّ شرب الخمر، لما في الخمر من أحكام استدلَّ بها البعض خطأ، للقول بإمكانية تطبيق الأحكام الشرعية في الإسلام على دفعات، وليس تطبيقاً كاملاً في كل مرة يسودُ نظام الإسلام.
فأما عقوبة الزنا أو حد الزنا، فهي ثابتة في قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وحد الزنا عام، لأن لفظة «الزاني» و«الزانية» من الألفاظ المفردة التي يراد بها العموم أو الجمع، ولذا فهذا الحدّ يشمل المُحْصَنَ وغير المُحْصَن من الرجال والنساء على السواء. ويثبت الزنا بأحد ثلاثة أمور: الإقرار، والشهادة من أربعة رجال مسلمين أحرار عدول بدليل قوله تعالى:
{وَالَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} .
والحبلُ عند المرأة. ولكلٍّ من هذه الأمور الثلاثة أحكامه الخاصة في الفقه..
وأما عقوبة القذف فهي من الناحية المادية ثمانون جلدة، ومن الناحية المعنوية عدم قبول شهادة من يرمي بالقذف كذباً، واعتباره فاسقاً.
والقذف هو الرمي بالزنا، سواءٌ كان رمياً للرجل أو للمرأة، وقد وجب على من يرمي بالزنا أن يأتي بأربعة شهود من المسلمين أحرار عدول، كما في حالة الزنى، فإن قذف ولم يأتِ بالشهود، كان قذفه بهتاناً وأُنزل به حدّ القذف أو العقوبة.
وقذفُ المؤمنات الغافلات المحصنات حرامٌ قطعاً. ولكنَّ من قذف زانية وأتى بشهداء فلا يُعد قاذفاً. وقد جاء تحريم القذف في الكتاب والسنة. ففي الكتاب هو في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وفي قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواُ فِي الْدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
وروي عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: «اجتنبُوا السَّبْعَ الموبقَات». قالوا: «ما هُنَّ يا رسولَ الله؟». قال: «الشّرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق، وأكلُ الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يومَ الزَّحف، وقذفُ المحْصنات الغافلات».
وهنا يَرِدُ اللِّعان بدلاً عن القذف، وذلك بأن يرمي الرجلُ زوجته بالزنى، لا غيرها من النساء. فيجب عليه في هذه الحال أن يحلف أربع مرات أنه صادق فيما يرمي به زوجته. وقد نزل قول الله تعالى في اللِّعان:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الْصَّادِقِينَ} .
ولقد نزلت آيات حد الزنى، وحد القذف، قبل غزوة بني المصطلق أو أثناءها، وهي الغزوة التي عقبها حديث الإفك وطبّق فيها الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، حد القذف على ثلاثة أشخاص ارتكبوا إثم القذف. والملاحَظُ أن العقوبة نزلت لمن ثبت عليهم الكلام، وقام الدليل على تصريحهم بالقذف، بخلاف عبدالله بن أبيّ بن أبي سلول، الذي تولى كِبْرَ الإفك ولكنه كان داهية، مخادعاً، كان يوعز بالإثم بين الناس وهو متكتم لا يُظهره صراحة، مثله مثل المنافقين في كل زمان ومكان، قد يسلمون من العقاب على آثام يرتكبونها ولكنَّ مصيرهم إلى الله سبحانه وتعالى، فهو أعلم بما تُخفي الأنفس وبما في الصدور.
وأما حَدُّ القتل فيجب التفريق فيه بين أنواع القتل وهي أربعة: عَمدٌ، وشبه عَمدٍ، وخطأ، وما أجري مجرى الخطأ. فعقوبة قتل العمد هي قتل القاتل جزاء على ما ارتكب من جريمة، ما لم يَعْفُ أولياء المقتول، فإن عفوا فَدِيَةٌ مُسَلَّمةٌ إلى أهله إلاَّ أن يَصدقوا، وذلك لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .
وقوله عَزّ وجَلّ:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وقد قال النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «العَمْد قَوَدٌ إلى أن يعفوَ وليُّ المقتول».
وأما عقوبة القتل شبه العمد فَدِيّةٌ مغلّظة، وهي مئةٌ من الإبل (أو ما يقابل ثمنها اليوم)، ولا يقتل صاحبه لأن القتل شبه العمد هو ما يقصد به الإيذاء دون القتل، فإن أفضى فعل الإيذاء إلى قتل، وقع على القاتل حد القتل شبه العمد، ويقال له: «عمدُ الخطأ وخطأ العمد» لاجتماع العمد والخطأ فيه.
وقد قال النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «قتل شبه العمد مُغلّظٌ مثل العمد».
وعقوبة القتل خطأً تختلف باختلاف أحد نوعيه:
فالأول هو أن يأتي الشخص فعلاً لا يريد به إصابة المقتول فيصيبه ويقتله، كما لو كان يصطاد فأصاب إنساناً فقتله، وعقوبته دفع الديّة وهي مئة من الإبل وعتق رقبة، في الكفارة، فإن لم يجده فصيام شهرين متتابعين.
والثاني أن يقتل أحدٌ شخصاً يظنه كافراً حربيّاً، ويتبيَّن أن هذا الرجل قد أسلم وكتم إسلامه.. فعقوبة هذا النوع الكفارة فقط لا الديَة. ودليل ذلك قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} .
وأما ما أجري مجرى الخطأ فهو أن يصدر من الشخص فعل بغير إرادته فيتسبب عنه قتل شخص، كما لو لعب أحد بالسلاح فانفلتَ منه طلقٌ جبراً فقتل إنساناً، أو كما لو أفلتت مكابح السيارة فدهست شخصاً وقتلته.. فحكمهُ حكمُ النوع الأول من القتل الخطأ، أي أن الدية فيه مئة من الإبل، وتجب فيه الكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. والقتل يثبت بالإقرار والبيّنة..
فالقصاص شُرِّعَ وجوبُه في السنة الثانية للهجرة، إذ نزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ومن مُجمل أحكام القتل يُستنتَج بأن القتل محرَّمٌ بغير حكم شرعي، وأما القصاص بحكم القصاص فإنَّه يجوز، وقد استباحت خزاعة أن تأخذ بثأرها من بعض بني بكر عند الفتح، فقتلت، فنهاها النبيُّ نهياً قاطعاً ودفع دية القتيل. ولقد قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن أعدى الناس من قتل بذحول الجاهلية» (أي بأحقاد وثارات الجاهلية).
ثم تتابعت أحكام القرآن تبيِّن حدود الله سبحانه، وجعلت حد المرتد القتل. والمرتد هو من رجع عن دين الإسلام. فمن ارتدَّ من الرجال والنساء، وكان عاقلاً بالغاً دعي إلى الإسلام ثلاث مرات، وضُيِّق عليه، فإن رجع نجا وإلاَّ قُتل. ولذلك أمر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بقتل بعض المرتدين وذوي الجرائم يوم فتح مكة، ولم يقتل منهم إلاَّ أربعة، وتاب الأحد عشر الآخرون فنجَوْا. قال الله تعالى:
{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه». والتوبة تقبل من المرتدّ إذا لم تتكرر ردَّتُه. والذي تكررت ردَّتُه لا تقبل توبته لقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} .
ويكون حدُّ أهل البغي فَرْضَ القتال عليهم حتى يرجعوا. وأهل البغي هم الذين خرجوا على الدولة الإسلامية ـ والخارجون على القانون في كل دولة دستورُها الإسلام ـ ولهم شوكة ومنعة، أي هم الذين شقوا عصا الطاعة على تلك الدولة وشهروا في وجهها السلاح معلنين العصيان والحرب. فعلى الخليفة أو الحاكم أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون عليه، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ادَّعَوا شُبهة كشفها، وإن أُلبسَ عليهم فاعتقدوا أن ما فعله مخالف للحق، أبان لهم دليله وأظهر لهم وجه الحق، فالإسلام أمرَ أن يُشهَرَ السيف أو السلاح في وجه الحاكم إذا رأت الرعية منه كفراً بواحاً عندهم فيه من الله سبحانه برهان، أو إذا لم يطبق أحكام الإسلام. فإن خرجوا بشيء من ذلك إجابة لطلب الشرع فعليه أن يبيِّن لهم وجه ما يشتبهون فيه أو يعود عن خطأه، فإن رجعوا عن البغي تركهم لأنه لا يجوز بقاؤهم على خروجهم، وإن لم يرجعوا قاتلهم وجوباً، ولكن لا قتالَ حربٍ وإنما قتال تأديب. ولذا يَحْرُم قتالُهم بما يؤدي إلى إفنائهم أو إتلافهم إلاَّ لضرورة. وإن الأصل في حد البغاة قول الله تعالى:
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وإذا كان في الرعية من يخرج على الطاعة فيكونون بُغاةً طمعاً في الحكم، فإنَّ فيها أيضاً من يخرج طمعاً في السلب والنهب وترويع الناس وهم قطَّاعُ الطُّرق الذين يتفقون على القتل والسرقة وتكون لهم قوة يقاومون بها الدولة. فهؤلاء فعالُهم كلها إفسادٌ وسعيٌ وراء الشر، والعقوبات التي تنزل بهم أو ما يسمى حد الحرابة: القتل أو القتل والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، والنفي من الأرض. وتكون العقوبة بحسب الذنب المرتكب، ويحصر هذا الذنب في ثلاثة: القتل، وأخذ المال، وإخافة السبيل، فمن قَتَلَ وأخذَ المال قُتِلَ وصُلِبَ، ومن قتل ولم يأخذ المال قُتِلَ، ومن أخذ المال ولم يَقْتُلْ قُطِعَتْ يدُه ورجلُه من خلاف، وإن أخاف السبيل ولم يأخذ مالاً يُنْفَى من الأرض.. فإن لم يفعلوا غير إخافة السبيل فلا حدَّ عليهم، لأن الحدَّ عقوبة مقدَّرة بحسب النص، لقوله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاؤُواْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَواْ مِنَ الأَرْضِ} .
وقيل إن جماعة من «العرنيين» قتلوا راعي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، واستاقوا النّعَم فبعث في أثرهم إحدى السرايا، فأعادتهم، وأنزل بهم حدَّ قُطَّاع الطُّرق وكان ذلك في السنة السادسة للهجرة.
ويبقى من حدود الله السماوية حدُّ شُرب الخمر، وهو ما اختلفت فيه الآراء بين اتجاهين: اتجاه أول يقول بوجوب تطبيق الأحكام الشرعية، بما فيها الحدود تطبيقاً كاملاً إذا ما أريد إقامة المجتمع الإسلامي الصحيح ووفقاً لأحكام الكتاب والسنَّة، واتجاه آخر يقول بإمكانية تطبيق الأحكام الشرعية بصورة تدريجية مستندين في ذلك إلى ما نزل في القرآن الكريم من آيات تتعلق بالخمر، ومعتبرين هذه الآيات بمثابة تحريم تدريجي جاء على دفعات ولم يكن دفعة واحدة. ومثل هذا الاتجاه القائم على فهم معين لأحكام الخمر إن هو إلاَّ تفسير خاطىء لما تضمنته الآيات القرآنية من معانٍ، وخلافاً لما حصل في تاريخ الإسلام، إنْ في عهد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وإنْ في عهد الفتوحات الكبرى.. ولا نخال أحداً يروم اتجاه التطبيق التدريجي إلاَّ لغاية أبعد ما تكون عن الإسلام، ألا وهي ترقيع أنظمة الحكم التي يطبقونها في بلدانهم وتعامل مع القوانين الوضعية التي تسود هذه الأنظمة الأرضية. هذا إن اعتبرنا أن القانون هو السيد في نظام حكم ظاهره الادِّعاء بالإسلام وباطنه أكثر ما يكون بُعداً عن الإسلام. ولذا، ودرءاً للمفاهيم الخاطئة في تطبيق الأحكام الشرعية، كان لا بُدَّ من توضيح معاني الآيات التي ذكرت الخمر والمُسكر على السواء، حتى نهتدي إلى حكم تحريم الخمر، وهل كان بمنهج متوالٍ أم بمنهج واحد ثابت، وبآيةٍ واحدة لا غير!.. فقد وردت في القرآن الكريم، في «سورة النحل» الآية المباركة:
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْتَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ في ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ففي هذه الآية ذكر الله تعالى رزقاً حسناً في مقابل رزقٍ سيِّىء. فوضع «السكر»، وهو كل شراب مسكر يمكن أن يتخذ من ثمرات النخيل والأعناب مقابل الرزق الحسن الذي يؤخذ من ثمرات النخيل نفسها كالخلِّ والشراب والرطب والتمر والزبيب وغيرها، وفي هذا التقابل تلميح صريح إلى أن السكر سيِّىء. لأن ما يضاد الرزق الحسن يجب أن يكون رزقاً سيِّئاً. إذ إنَّ الرزق الحسن هو شيء آخر ومختلف تماماً عن الرزق السيِّىء.
فهنا جاءت مجرد لمسةٍ من بعيد، للضمير المسلم الوليد، ليس فيها أي تحريم للخمر وإنما هي إشارة فقط إلى أن الشراب المسكر من بعض الثمرات هو رزق سيِّىء.
وكان نزول الآية في مكة قبل الهجرة..
ثم نزلت بعد ذلك في المدينة ــــ بعد تساؤل وإلحاح الصحابة عن الخمر والميسر ــــ الآيةُ المباركة في «سورة البقرة»:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا} .
فإذا كان الناس يتساءلون جاءهم الجواب من رب العالمين أنَّ ما يسألون عنه هو الضرر بعينه. لأن معنى «الإثم» الضرر، مقابل كلمة «منافع». فيكون الضرر في الخمر والميسر أكبر بكثير من النفع. إذن فالله سبحانه وتعالى يذكر الضرر والنفع، وليس في ذلك لا تدليل ولا تلميح ولا إشارة أو إيماء لتحريم أو تحليل. فهو بيانٌ من الله تعالى للجماعة الإسلامية بأن ما يسألون عنه، هي أشياء ضارة، ومن رأى الضار فعليه الابتعاد عنه من أجل نفعه ونفع الجماعة على السواء، فلا يهدر المسلم قواه في أشياء ضررها أكبر بكثير من نفعها.
ثم كان بعد ذلك تنبيهٌ من الله العزيز، أنَّ على المؤمنين، وهم من يريد بهم الخير، ألاَّ يأتوا الصلاة وهم سكارى، أي تائهي العقلِ، شاردي الذهنِ حتى يعلموا ما يقولون، وكان ذلك التنبيه بتعبير قرآني رائع، واضح المعنى، سهل الفهم، ليس فيه لَبْسٌ ولا تعقيد، وهو قولُه تعالى في «سورة النساء»:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الْصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلْواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ الِّنسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} .
فإذا كانت الصلاة هي صلة المخلوق بالخالق، وهي الصلة التي يبرهن فيها هذا المخلوق عن عبوديته لذلك الخالق العظيم، فإنَّ على المؤمن أن يحترم قدسية هذه الصلاة، التي تجعله في حصرة الله تعالى، واقفاً بين يديه على أهبة الاستعداد، وبكامل القوى والمدارك، غير غافل عمَّا يقول أمام هذه الحضرة القدسيّة السنيَّة، وعالماً بما يصدر عنه أمام ذي العزة والجلال.. وحريٌّ بنا أن ننطلق من واقع الحياة التي نعيشها، فندرك كم يكون اهتمامنا إنْ في الهندام، أو في اللياقة، أو في الانتباه والحذر عندما نتحدث إلى صاحب شأنٍ من بني الإنسان، أو لمن نريد منه قضاء حاجة. فإننا نتدارك كل نبرة تصدر عنا، وكل عبارة نريد أن نتفوه بها.. فإذا كان هذا شأننا مع إنسان مثلنا لا يتعدى كونه صاحب نفوذ أو مقدرة معينة، فكيف يجب أن يكون شأننا ونحن بين يدي الله عز وجل: خالقنا، وصاحب السلطان المطلق، القدير، المتعالي، صاحب الفضل والمنِّ علينا في كل شيء، حتى في الكلام الذي نتوجه به إلى أهل الأرض!.. إننا بالحقيقة نجلّ المفاضلة، أو المقارنة بين مخلوق وخالقه، ولكن لعلَّ في التفكر وفي العودة إلى النفس الإنسانية وما تعيشه في واقعها ما يفرض القناعة والاهتداء إلى الحكم السليم.. فالصلاة هي الصلة بالله تعالى، وعلى الإنسان أن يكون كامل الوعي والإدراك في صلاته حتى يعلم ما يقول وهو في حضرة الله العزيز الحكيم. وإن هذا الوعي والإدراك ينبئان عن معنى العبادة الصحيحة، فمن أرادَ أن يعيش لحظات السناء في هذه العبادة، وجب عليه أن يُعطي لهذه الصلاة حقها، ولا يمكن أن يؤدي حقوقها إن جاءها تائه العقل لا يعرف ما يقول..
وإنَّ في الآية الكريمة ما يدلل على حب الله تعالى لعباده المؤمنين، الذين يوجه لهم التنبيه بالانتهاء والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يضيّع العقل، وليس في هذا التنبيه تركيز على الخمر، حتى ولا أتت الآية أبداً على ذكر الخمر، بل كانت الآية بياناً للمسلم بألاَّ يقرب صلاته وهو شارد الذهن..
وهنا نجد أيضاً أن لا تحريم للخمر، بل نهي عن الاقتراب إلى الصلاة بغير وعي كامل. فكل ما يُذهب هذا الوعي، سواء كان شراباً مسكراً أم حدثاً محزناً أو مفرحاً مرّ في حياة الإنسان، وأثّر فيه، فعليه أن يجلوَهُ عن عقله وعن ضميره عند الصلاة، حتى تكون هذه الصلاة الصلة الخالصة ما بين الإنسان وخالقه.
وهكذا نجد أن في «سورة النحل» بياناً للرزق الحسن من الرزق السيِّىء.. وفي «سورة البقرة» بياناً للضرر والنفع.. وفي «سورة النساء» محبة من الله ولطفاً بالتنبيه على إقامة الصلاة بعقل سليم وإدراك تام.. وليس في هذه الآيات مطلق تحريم للخمر، بل لم يذكر الخمر في سورتي النحل والنساء بتاتاً.. بل يأتي التحريم للخمر في سورة المائدة بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الْصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ} .
فسبحان الله كم هو لطيف بعباده، يتوجه إلى المؤمنين بالمخاطبة المباشرة الدَّالة على أن الخمر هي رجسٌ.. وأي رجس؟!.. رجسٌ من الشيطان.. فأي مؤمن بعد هذه المخاطبة المعبِّرة يقبل بأن يدنِّسه هذا الرجس الشيطاني الخبيث.. ثم لا تقف محبة الله لعباده المؤمنين بتحذيرهم بالابتعاد عن هذا الرجس، بل يأمرهم بالابتعاد عنه بصورة كاملة إذا ما أرادوا فلاحاً. ويتكامل العطف الرباني وهو يحذِّر من غواية الشيطان يتخذ له مسرباً لنشر العداوة والبغضاء بين المؤمنين بالخمر والميسر، وليس فقط غاية الشيطان زرع هاتين الآفتين الكفيلتين بالقضاء على الحياة السليمة بين الناس، بل وصدّ المؤمنين عن ذكر الله، وعن الصلاة، حتى يحلَّ بهم غضب الله.
إن هذا البيان الرباني، وما يحمل من أبعاد سواء في التعامل بين الناس، أم في علاقتهم بخالقهم، لا يكتفي بذلك، بل يتكامل بالأمر الصارم: فهل أنتم منتهون؟.. وهذا هو التحريم..
نزلت الآية بتحريم الخمر بعد غزوة بني النضير في السنة الرابعة للهجرة، فبلَّغها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، للناس، فاندفع المسلمون إلى زقاق الخمر يكسرونها، ويريقون ما فيها إلى غير رجعة..
فقد جاء الأمر بالتحريم فامتثل المؤمنون وانصاعوا عن قناعة ورضىً، لأن نفحة الإيمان لا توازيها مقادير من النشوة مهما كبرت.. إنها النفحة التي ترتقي بصاحبها في معارج الإشراق الروحاني حتى يحقق السعادة الحقيقية، وكل سعادة ما خلا رضا الله باطلة ولا يمكن أن تكون سعادة.. عن وائل بن حجر أن طارقاً بن سويد الجعفي سأل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عن الخمر، بقوله: «إنما أضعها للدواء».. فكان جواب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الناهي الجازم: «إنه ليس بدواءٍ ولكنه داء»..
وهكذا يمكن القول بأن تحريم الخمر، لم ينزل على دفعات، وفي عدة مناسبات، بل كان التحريم في الآيتين من «سورة المائدة» وأما غيرهما فلم تكن مقدمات، وإنما تمهيدٌ لتحريم الخمر، وتبيانٌ لمسائل تتعلق بالخمر وبكل شيء مسكر، وما يكون له من أثر على الإنسان إن من الناحية الصحية أو الذهنية أو الدينية.. وهذا تأكيد على عدم صحة الاعتقاد القائل خطأ بتطبيق الأحكام الشرعية على دفعات، استناداً لتأويل خاطىء وفهم معين للآيات القرآنية التي تناولت أحكام الخمر والمسكرات..
يبقى أن نذكر عقوبة شارب الخمر.. فمن البديهي ـ والخمر محرَّم ـ أنه يجب الحدّ على من شرب الخمر، لما روي عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: «من شرب الخمر فاجلدوه». وقد انعقد إجماع الصحابة على أن حدّ الشارب لا ينقص عن أربعين جلدة ولا يزيد على الثمانين. ولا يجب الحدُّ حتى يثبت شرعاً بأحد شيئين: الإقرار أو البيِّنة، ويكفي أن يشهد أحد الشاهدين على شرب الخمر والآخر على القيء.
تلك هي الحدود التي حدّها الله لصيانة المجتمع الإنساني، والتي لم تكن إلاَّ عقوبات تنزل بمن يخالف أوامر الله ونواهيه لأنه يضرُّ نفسه ويضرُّ أبناء مجتمعه.. ورفعاً لهذا الضرر الفردي والجماعي كانت العقوبات في الإسلام زواجر وجوابر. أما الزواجر فلزجر الناس عن ارتكاب الجرائم، وأما الجوابر فلكي تجبر عن المسلم عذاب الله تعالى يوم القيامة.
وكون العقوبات زواجر ثابت بالنص القرآني لقوله تعالى:
{وَلَكُم فِي الْقِصَاص حَيَاة يا أولِي الأَلْبَاب}.
فتشريع القصاص في الحياة معناه أن إيقاع القصاص هو الذي يكون أبقى للحياة الصحيحة السليمة، ولا يكون ذلك في إبقاء الحياة لمن وقع عليه القصاص، لأن في القصاص قد يكون موته، بل حياة مَنْ شاهدَ وقوع القصاص، وهذا ما يعني كون العقوبات زواجر، أي أنها تزجر الناس عن ارتكاب الجرائم وذلك بالامتناع عن ارتكابها خوفاً من نزول القصاص بهم.
وكون العقوبات جوابر، أنها تدرأ الخطر عن المجتمع، وتطهر الإنسان من أخطائه، ولقد ثبت عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال عن المخزومية بعد أن طبَّقَ عليها حدّا السرقة: «إن يدها طهرتها وسبقتها إلى الجنة». وذلك أن تلك المرأة قد أسلمت وحسن إسلامها بعد قطع يدها، فكان تطبيق حد القطع عليها بداية لصلاح نفسها وسلوكها، وكان هذا الصلاح طريقها إلى الجنة..
ولم تكن إقامة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في مكة إلاَّ إقامة قصيرة لا تزيد على ثمانية عشر يوماً من الفتح، ورغم هذه الإقامة الوجيزة قام بتطبيق الإسلام كاملاً، وشهدت مكة لأول مرة في تاريخها موازين العدل والحق تقوم بين الناس، لا فرق بين قوي وضعيف، ولا بين صاحب نسب أو غير صاحب نسب، بل الكل سواسية في الإسلام، ولا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاَّ بالتقوى..
وأكثر ما أدهش أهل مكة معاملة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لهم. فقد وقف محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، من هؤلاء الناس الذين كانوا ألدَّ الأعداء لدعوة الإسلام، وأشدَّ الناس إلباً عليه وعلى المسلمين، موقفاً فريداً في تاريخ الفاتحين، وقد جاء موقفه الفريد متلازماً مع إنسانيته ومع نبوته فهو لم يكن مَلِكاً ولا قائد احتلال يبتغي إرضاخ الشعوب لإرادته، وكسب الأمجاد والثروات، وإنما كان رحمةً من الله أرسلها لعباده. فهو (عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام) صاحب العفو والرحمة، وأينما حلَّ حلّت الرحمة في أثره لتشمل الصديق والعدو، والمؤمن والكافر، يأخذ كل واحد منها بحظّه كما تأخذ بقاع الأرض من بركات الغيث المنهمر، فيثمر خصبها أو يلطف جوها، أو تلين قوتها.. ولم يكن إقبال الناس على الإسلام، خائفين أو مكرهين، بل إن تلك المعاملة المحمدية هي التي دفعتهم إلى هذا الدين، وهم يرون في النبيِّ الذي يبلّغه، وفي الرسول الذي ينشره إنساناً لا يستوي معه بشريّ في الخُلُق. نعم كان إقبالهم بفعل محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وحُسْنِ صنيعه فيهم، وذلك قبل أن يستقر الإيمان في القلوب، وتهوي إليه الأفئدة، فتتخذ من هذا الإيمان، ومن ترشيد محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إليه، الأساس الذي يثبت ويدوم ليصير عقيدة راسخة في النفوس وفي العقول..
... نعم نزل عفو النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وتسامحه، برداً وسلاماً على قلوب قاسية طالما اضطرمت عليه بالعداوة والبغضاء، ولطالما أعماها الحقد، حتى أبعدها عن التجاوب مع الإيمان، ومع حامل الدعوة لدين الإسلام.. لقد عادَ أصحابُ تلك القلوب إلى أنفسهم فوجدوا أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قد ظلَّ نيّفاً وعشرين عاماً ينشد هدايتهم، ويستعمل شتى الوسائل والطرق لإيصال الخير والحق لهم، ولكنهم ظلوا عنه متباعدين، وعن دعوته عمياً وصمّاً لا يفقهون، يقولون:
{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} .
ووجدوا أن محمَّد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان كلما قدّم لهم المودة، بادلوه بالكراهية، وكلما أراد إقامة علاقة حسنى جابهوه بالإساءة.. فكذبوه وقاطعوه، وقاتلوه، وألَّبوا عليه القبائل والأحزاب، وظلوا طوال تلك السنين العشرين يتربصون به الدوائر، ويتحينون شتى الفرص للإيقاع به.. فلما أظهره الله تعالى عليهم، وأمكنه من رقابهم، لم يأبَهْ أبداً لما سلف منهم، ولم يقف مطلقاً عند ما فعلوه، بل قضى على كل ما كان منهم بصفح جميل، وعفو شامل، لم يكونا ليصدرا إلاَّ عن نفس عظيمة وعن نفس محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بالذات، بدليل قوله تعالى:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .
وهكذا وبرحمة الله ورأفة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن فتح مكة، فتحاً لبلد عدوٍّ، بل كان في صميمه فتحاً من الله تعالى لقلوبٍ مُغْلَقَةٍ وطيّاً لعنان نفوسٍ مستكبرة، وإذا بالغالبية الساحقة من تلك النفوس قد غدت تفيض بالحب والإخلاص، وتدين بالطاعة والولاء، ثم راحت تنضوي تحت لواء رسول عزيز هو منها ولها، طائعة مستسلمة تدخل في دين الله راضية مطمئنة، وصدق الله العظيم، حيث يقول:
{وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
ولقد فتحت مكة أبوابها، كما فتح أهلُها قلوبهم، فإذا كلمة الله هي العليا، ودينه صاحب السلطان الأوحد، وإذا كل المقاليد ملقاة بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فلا شِرْك بعد اليوم، ولا صدَّ عن بيت الله الحرام، وكان ذلك هو النصر المؤيد من الله تعالى، والفتح المبين... ودانت مكة لدولة الإسلام، ولم يبقَ في شبه الجزيرة إلاَّ بعض الجيوب الداخلية في حنين والطائف، فلا بدَّ أن يكون التوجُّهُ إلى تلك النواحي..
المصادر 1 الأتلدا: القديم العهد.
2 الشيء العتيد: الشيء القوي الجسيم.
3 المدد: العون.
4 تجرّد: تهيّأ.
1 سيم: طُلب منه وكلف.
2 الخسف: الذل.
3 تربدَ: تغير إلى الغُبرة.
4 كداء: موضع بأعلى مكة.
5 رصَدَ الشيء: راقبه.
6 بيّتونا: غدروا بنا ليلاً.
7 هُجَّداً: نائمين.
8 ركعاً وسجداً: كان فيهم مسلمون يصلون لله تعالى.
1 الذّر: صغار النمل.
1 سورة الممتحنة، الآيات: 1 ـ 3.
2 سورة البقرة، الآية: 184.
1 حمشتها: حزمتها وأحرقتها.
1 يَأنِ: يَحِنْ.
1 خطم الجبل: المكان الذي يضيق به الطريق.
1 طليعة القوم: حارسهم أو سيدهم.
1 سورة سبأ، الآية: 49.
2 سورة الإسراء، الآية: 81.
3 محجن: عصا منعطفة الرأس.
1 خلفة: ناقة حامل.
2 سورة الحجرات، الآية: 13.
1 سورة الممتحنة، الآية: 12.
2 يعضد: يقطع.
1 العقل هنا مقصود فيه عدم مطالبة أهل القتيل بدم القاتل، ولكن تدفع الدية لهم.
2 سورة المائدة، الآية: 38.
1 سورة الطلاق، الآية: 1.
1 سورة البقرة، الآية: 229.
2 سورة الطلاق، الآية: 1.
1 سورة النور، الآية: 2.
2 سورة النساء، الآية: 15.
1 سورة النور، الآية: 4.
2 سورة النور، الآية: 23.
3 سورة النور، الآيات: 6 ـ 9.
1 سورة البقرة، الآية: 178.
2 سورة البقرة، الآية: 179.
3 سورة النساء، الآية: 92.
1 سورة البقرة، الآيتان: 178، 179.
2 سورة البقرة، الآية: 217.
3 سورة النساء، الآية: 137.
1 بواحاً: أي جهاراً.
2 سورة الحجرات، الآية: 9.
3 سورة المائدة، الآية: 33.
1 سورة النحل، الآية: 67.
1 سورة البقرة، الآية: 219.
2 سورة النساء، الآية: 43.
1 سورة المائدة، الآيتان: 90، 91.
1 سورة فُصِّلت، الآية: 5.
2 سورة التوبة، الآية: 128.
3 سورة فُصِّلت، الآية: 34.