نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

غزوَة خَيبَر
سلسلة غزوات الرسول
(6)


غزوَة خَيبَر



سميح عَاطف الزَّين


بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

غزوة خيبر
عادَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من الحديبية، مطمئنّاً إلى ما هداه الله تعالى إليه، وما منَّ عليه به من فتح مبين. وإذا كان ذلك الفتح قد أرضى نفسه وملأ وجدانه، فإن خطته التي اعتزم تنفيذها لم تكن قد اكتملت بعدُ.. فقد كان بلغه قبلَ خروجه قاصداً الحجَّ، أن اليهود وقريشاً يأتمرون به، ويُعِدُّون العدّة لغزو المدينة من جديد. ولذلك كان من مقاصده في ذلك الخروج إقامةَ سلامٍ مع قريش حتى يأمن غدرها من ناحية الجنوب، فلا يبقى أمامه إلاَّ معالجة أمر يهود خيبر المقيمين في ناحية الشمال من المدينة.. فلما كان له ما أراد، وأقام عهد الحديبية، عادَ إلى المدينة يتفكّر في شأن هؤلاء اليهود، والطريق الذي يسلكه معهم.. وقد دار في خَلَد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إقامة صلحٍ معهم على غرار الحديبية، إلاَّ أنه رأى ذلك غير مفيد، لما في نفوسهم من ضغينة عليه، ولِما لهم من ثارات قديمة تدفعهم إلى البقاء على عداوتهم كلما تذكروا الخسائر التي حلّت بهم، والهزائم التي لحقتهم من جراء تلك العداوة التي جعلتهم ينقضون العهود.. كما أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، رأى أنه لا يمكن ترك أولئك اليهود على حالهم، لأنه لا يُؤمَنُ لهم جانب، فهم في حصون منيعة، وعندهم من الثروات والأموال، ما يجعلهم قادرين على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية، والحؤول دون انتشارها. كما أنه ليس ما يمنع هؤلاء اليهود بعد أن نفضوا يدهم من قريش الآن، من أن يتوجهوا إلى الملوك خارج جزيرة العرب، يوغرون صدورهم بالحقد على الإسلام ونبيّه، ويقنعونهم بإعلان الحروب ضده، وتجييش الجيوش لقتاله، إذ يبيِّنون لهم أنه يقيم سلطاناً قد يهدِّد كيانهم وعروشهم بالزوال.. إذن فإن صالح الدعوة يستوجب القضاء على شوكة يهود خيبر قضاءً تاماً، حتى لا تقوم لهم بعد ذلك ببلاد العرب قائمة أبداً.
وهكذا لم يمكث رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالمدينة، بعد عودته من الحديبية، إلاَّ بضع عشرة ليلة، حتى أمَرَ الناس بالتجهيز لغزوة خيبر، على ألاَّ يغزو معه إلاَّ من شهد الحديبية. أما غيرهم ممَّنْ يريدون الخروج غزاةً متطوعين فلهم ذلك، ولكن لا يكون لهم من الغنيمة شيء..
وفي وقت قصير اكتمل الاستعداد، فاستخلف الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، ثم انطلق في شهر المحرّم من السنة السابعة للهجرة في ألف وستمائة مقاتل فيهم مئتا فارس. وأخرج معه عشرين امرأة من نساء الصحابة، لمداواة المرضى، وإسعاف الجرحى، وتقديم الماء والطعام أثناء القتال. فراحوا يُغِذّون المسير مسرعين حتى يفاجئوا العدو، على حين غرة، قبل أن يعلم بخروجهم؛ فما انقضت ثلاثة أيام حتى كانوا قد قطعوا الطريق ما بين المدينة وخيبر، ونزلوا «بالرجيع» ليحولوا بين أهل خيبر وغطفان إذ كان هؤلاء مظاهرين لهم على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يقدرون على مدّهم بما يعوزهم في الحرب..
وكان وصول المسلمين إلى خيبر ليلاً، ولذلك لم يُغِر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، تطبيقاً للنمط الذي اتّبعه وهو أنه، صلى الله عليه وآله وسلم، كان إذا أتى قوماً بليل لم يُغِرْ حتى يُصبح..
أما اليهود فكانوا يتوقعون أن يغزوهم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بعدما أقام عهد هدنة مع قريش، وقد تشاوروا في الأمر فرأى بعضهم أن يوحِّدوا قواهم مع يهود وادي القرى وتيماء، فيشكلوا كتلة واحدة للتصدّي لجيش المسلمين عندما يغزوهم، بينما رأى البعض الآخر أنَّ إقامة حلف مع محمد هو أجدى وأحسن، إذ يأمنون به خطره ويحولون دون خروجه إليهم. ولكن غلب عليهم الحقد الدفين في نفوسهم وأخذتهم الغطرسة، فآثروا الحرب على سِلْم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فباتوا مطمئنين إلى مِنعةِ حصونهم، وشدّة قوتهم، ينتظرون خروج المسلمين إليهم، حتى يذيقوهم من العذاب أمرّهُ، ومن الهوان أشدّه.. وبهذا الاطمئنان عمَّى الله تعالى عليهم البصر والبصيرة وسدَّ منافذ التفكير، فلم يشعروا بنزول الجيش الإسلامي قرب حصونهم، حتى إذا كان الصباح، وقد خرجوا إلى أعمالهم في زراعة الأرض والنخيل وقد حملوا معاولهم ومكاتلهم إذ بهم يفاجأون بذلك الجيش أمامهم، فيولّون الأدبار وهم يتصايحون وينادون:
«محمد والله.. محمد والخميس.. لقد جاء محمد بجيشه»..
ورآهم المسلمون ينكصون على أدبارهم هكذا، فأراد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يزيد في فزعهم، وفي تخويفهم، فراح يصرخ فيهم قائلاً: «الله أكبر خرجت خيبر!.. الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحِ قومٍ فَسَاء صباح المنذرين». وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما وطىء أرض خيبر، قد نزل عن راحلته، ثم رفع يديه نحو السماء يتضرع إلى الله سبحانه، ويسأله النصر على الأعداء مبتهلاً بهذا الدعاء:
«أللَّهم ربَّ السمواتِ وما أَظْلَلْنَ، وربَّ الأرضين وما أَقْلَلْنَ، وربَّ الشياطين وما أَضْلَلْنَ، وربَّ الرياح وما أَذْرَيْنَ. نسألُك خيرَ هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرِّ ما فيها».
ووقف المسلمون أمام حصون خيبر متأهبين للقتال، ولكن لم يتبيّن لهم الأمر جليّاً، ولا قرَّروا بأيٍّ من تلك الحصون يبدأون، ولا في أيٍّ منها تجمعت مقاتلة اليهود وقواها، ذلك أنَّ حصون خيبر ومساكنها كانت موزعة في مناطق ثلاث، وفي كل منطقة أقيمت الحصون المنيعة، على سفوح الجبال أو على رؤوس الهضاب.. في منطقة «النطاة» قامت ثلاثة حصون كانت: حصن الناعم، وحصن الصعب بن معاذ، وحصن الزبير، ويقال له حصن فلّة. وفي المنطقة الثانية التي كانت تدعى: «الشق» برز حصنا «أبيّ» و«البريء». أما في المنطقة الثالثة وهي «الكتيبة» فقد قامت حصون: الوطيح، والسَّلالم، والقموص ويقال له حصن نزار. ولقد ساعد على إقامة تلك الحصون انتشار قرى خيبر في واحة كبيرة خصبة، ذات ماءٍ وفير، وزروع ونخيل كثيرة، وهذا ما جعلهم يبنون الحصون المنيعة والبيوت المتينة، وقد أقاموها لتشكل خِصّيصاً معاقل لهم تمنع عنهم العادين، وتردّ الغازين. وقد أمكن ليهود خيبر بفضل ما منحتهم طبيعة تلك البلاد من منعة وخيرات أن يتدربوا على فنون الحرب، ويتمرّسوا على ضروب القتال حتى برزوا أقوى بني يهود في جزيرة العرب، وأعلاهم شأناً وأوفرهم مالاً وسلاحاً.
وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يترقبون بحذر ويقظة، كان اليهود قد أسرعوا يُلجئونَ النساءَ والأولادَ، ويجمعون الأموال في حصون «الكتيبة» بينما يستعدُّ مقاتِلوهم في حصون «النطاة» وقد عقدوا لواء القيادة لأحد زعمائهم: سلام بن مشكم..
ولئن كان المسلمون قد أمضَوْا بعض الوقت، لا يعرفون الحصن الذي تجمَّع العدو فيه للقتال، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد مهَّدَ لهم هذا الأمر، إذ رأَوا اليهود يعتلون حصن «الناعم» في منطقة «النطاة»، كأنهم كانوا يدلّون على أنفسهم ومكان حشودهم، فاندفع المسلمون إلى ذلك الحصن يريدون اقتحامه، إلاَّ أن اليهود كانوا قد أعدّوا العدة فراحوا يرمونهم بالسهام والنبال، ويرمونهم بالحجارة، فقتل محمود بن سلمة بِرَحَى ألقيت عليه، وتقهقر المسلمون إلى الوراء يحتمون خلف دروعهم، وهم يردّون على العدو بمثلِ السلاح الذي كان يرميهم به.
ومضت بضع ساعات على تلك المناوشات المتبادلة، رأى أثناءها اليهود عدم الجدوى منها، إذ إنها في الواقع لا تصيب المسلمين بخسارة، بل تضيّع السلاح اليهودي وتذهب به بدداً، وهم أضنُّ من أن يفقدوا شيئاً منه لحاجتهم الماسّة إليه في مثل هذا الظرف العصيب.
إذن ماذا يصنعون؟.
هل يبقون على تلك الحال داخل الحصن؟ ولكن إلى متى وهم لا يمنّون النفس بمددٍ يأتيهم من البعيد، أو بعونٍ يقدمه لهم أحد من القبائل؟.
وثمّة أمر هام يعوّلون عليه أيضاً وهو اعتدادهم بالقوة واعتزازهم بالخبرة في القتال، مما يجعل كرامتهم تأبى عليهم الاكتفاء بموقف الدفاع، والظهور بمظهر الجبن والتخاذل.. هذا ما تفكّر به زعماء اليهود فائتمروا بالخروج إلى المسلمين ليجعلوها معركة طاحنة تقتل منهم من تقتل وتُجلي الناجين عن أرضهم!.
وهكذا انطلق اليهود خارج الحصن، فتلقَّاهم المسلمون بمقاومة عنيفة، ودار بين الفريقين قتال شديدٌ مريرٌ، إذ كان كلُّ فريق يريد أن يُنزل بعدوه الضربة القاضية، ولكنه لم يقدر على ذلك، فاليهود بألوفهم العديدة وبغرورهم بأنفسهم كانوا يتوهمون بأنهم سيسحقون المسلمين. وهؤلاء بقوة إيمانهم، وببسالة أبطالهم كانوا يرجون تحقيق النصر.. ولكنَّ أيّاً من الفريقين لم ينَلْ من الآخر إلاَّ عندما قُتِل قائد اليهود سلام بن مشكم، فإذا بهم يرتعدون لمقتله، ويهلعون لفقده، فيرتدّون سريعاً إلى الوراء، ويدخلون الحصن وهم يُحكِمون إغلاقه خوفاً من لحاق المسلمين بهم. وينقضي أول يوم للقتال على ذلك النحو، فلا المسلمون قدروا على فتح الحصن، ولا اليهود قدروا على التغلب عليهم.. ومرَّت بضعة أيام أخرى، كان اليهود يخرجون أثناءها من حصن «الناعم» صفوفاً مدججة بالسلاح، ويهجمون على المسلمين، والأوهام كانت لا تزال تأخذ بعقولهم وهم يرددون: «محمد يغزونا! هيهات! هيهات!».. فيلقاهم المسلمون بالمقاومة التي ألفوها، وبالشدّة التي تمرّسوا بها، فلا يلبثون أن يرتدوا إلى حصنهم خاسئين كما خرجوا منه خائفين.. ودامت تلك الحال سبعة أيام متواصلة، فرأى المسلمون بعدها أنهم قد أُجهدوا فعلاً، وقلَّ معهم الزاد، مما قد يؤثر على صمودهم واستمرارهم في القتال.. وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعطي كلَّ يوم لواءه لأحد الصحابة كي يقود المسلمين إلى فتح الحصن، فيرجع ومن معه منهوكي القوى، تعبين، دون أن يقدروا على فتحه.. فقد أُعطي اللواء في اليوم الأول إلى أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) فقاتل ومن معه قتالاً شديداً، ولكنه عادَ بدون جدوى، فأعطاه من بعده في اليوم الثاني إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقاتل وأصحابه قتالاً أشدَّ من قتال الأولين، ولكنه عجز عن فتح حصن «الناعم».. فبدا للمسلمين أن هذا الحصن ــــ لمنعته ــــ قد بات مستعصياً عليهم. إلاَّ أن الرسولَ الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، بدَّدَ تلك الفكرة من رؤوسهم عندما قال لهم:
«أمَا والله لأدفعنَّ غداً بلوائي إلى رجل يحب الله ورسولَه ويحبُّه الله ورسولُه، ولَنْ يرجعَ حتى يفتح الله عليه». فارتاح المسلمون قاطبةً لهذه البشارة بالفتح، ثم اشرأبَّت أعناق القوم ــــ من أبطال المسلمين ــــ تتطلَّع إلى من يُعطي الرايةَ في غدٍ ليفتح الله على يديه، وليكون الفائز بحب الله ورسوله له!..
فما إن صلّى رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، صلاة الغداة من اليوم الثاني حتى دعا إليه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فجاءه وهو أرمدُ العين، وجَلَسَ بين يدَيه، فأمسك الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، برأسه، وراح يمسح على عينيه ويرقيه بتلاوة آيات من القرآن الكريم، وهو ينفخ فيهما، ويُمسّدهما بشيءٍ من ريقه الشريف، حتى شعر عليّ (عليه السلام) بأنه قد برىء من الرمد، وأن رأسه قد صفا، ونظره قد قوي، فوقف أمام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، متأهباً، مستعداً، وهو في أحسن حال، فناوله الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، اللواء، وأمَرَه أن يقود المقاتلين لفتح ذلك الحصن الذي ظنَّ اليهودُ أنه استعصى على المسلمين.. ولقد شاءَ عليٌّ أن يتقدّم وهو على بيّنةٍ من أمره، فسأل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «علامَ أقاتلهم يا رسول الله؟».
فقال له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «على أن يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسولُ الله بحقها، فإن فعلوا حقنوا منَّا دماءهم وأموالهم، وحسابُهم على الله عزَّ وجلَّ».
واندفع عليٌّ (عليه السلام) إلى حصن الناعم في مقدمة الجيش، فما إن رآهم اليهود حتى خرجوا إليهم، يسبقهم فارس مقدام، عليه مغفر يمانيٌّ قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يمتشق من السلاح سيفاً ودرعاً ورمحاً وخناجر على جانبيه، فكان كأنه في إقدامه يهب الموت لعدوّه قبل أن يلقاه.
وقبل أن يقترب ذلك الفارس صرخ عليّ (عليه السلام) باليهود، داعياً إياهم إلى الإسلام، فذهبت صرخاتُهُ أصداءً في الفضاء، لا تقع في مسامع العدو موقع قبول ولا رضى.. وكان الفارس اليهودي قد اقترب من صفوف المسلمين وأخذ يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحبُ شاكي السلاحِ بطلٌ مجرَّبُ
أطعنُ أحياناً وحيناً أضربُ إذا الـــليــــوث أقبـــلت تلــهَّـــبُ
إنَّ حِمايَ للحِمَى لا يُقْرَبُ
فانطلق عليّ (عليه السلام) للقائه بقوة المؤمن الصادق وبعنفوان البطل الأبيّ، وهو يردُّ عليه راجزاً:
أنا الذي سمَّتني أمي حيدرهْ أكيلكم بالسيف كيل السَّندرة
ليثٌ بغاباتٍ شديدٌ قَسْوَرَهْ
ثم الْتقَى البطلان، وثار النقع تحت حوافر فرسَيهما، وارتفع الغبار فوق رأسَيْهما في مبارزة عنيفة مريرة، كان يشهدها المقاتلون من الفريقين فتهلع لها قلوبهم، وترتعد لمرآها فرائصُهم، فاستطاع مرحبُ اليهودي أن يقارب علياً (عليه السلام) وأن يوجه إليه ضربة أرادها كالصاعقة، ولكنَّ علياً أمكنه تلافيها وهو يحيد عنها فذهبت في الهواء طائشة خائبة، ثم لم ترتدَّ يدُ صاحبها منها، حتى كانت الضربة النجلاءُ، من مُبارزه عليٍّ (عليه السلام) قد هوت فوق رأسه تفدُّ المغفر الذي عليه، وتفلقه شقَّين حتى تصل إلى الأضراس في حلقه، فهوى محربُ، بطلُ اليهود الأكبر، عن ظهر فرسه، مجندلاً على الثرى، يفور منه الدم الغزير ليَرويَ التراب من تحته..
ورأى المحاربون اليهود ما حلَّ ببطلهم مرحب، فاندفعوا نحو المسلمين في هجمة شرسة عاتية، وقد استبدَّ بهم الحقد، وهاجت في نفوسهم الضغينة، فأرادوا أن يستأصلوا أعداءهم من على وجه الأرض استئصالاً.. ولكن من أين لهم ذلك الوهم الخادع، وكل واحد من المسلمين بطلٌ مقدامٌ بحيث كانوا ينقضُّون عليهم كالليوث الكاسرة، فيفرقون صفوفهم، ويشتتون جموعهم.. ولكنّ واحداً منهم كان يدور حول عليّ (عليه السلام) ويلحقه ويترصَّده من مكان إلى آخر، وهو يريد أن يختلسه بضربة تعجل عليه، ثم ما زال كذلك حتى أمكنه الدنوّ منه، فأهوى عليه بسيفه، فتلقَّى عليٌّ ضربته بدرعه، غير أنها وصلت إلى مقبضه فقطعته وأطاحت به من يده، فما كان من علي (عليه السلام) إلاَّ أن عاجله بسيفه البتّار، وأهوَى عليه بإحدى ضرباته البكر النجلاء، لتفلق هامه وتَذَرَهُ على البطحاء شطرَين..
ولم يكن اليهود قد شهدوا في سالف أيامهم مثل تلك الضربات التي تفلق هام الرجال، فراعهم الهلع، وأخافهم الفزع، فتقهقروا إلى الوراء مرتدين إلى الحصن، فارِّين لهول ما رأوا، ثم حاولوا إغلاق بابه وإحكام إقفاله من الداخل، ولكنَّ علياً (عليه السلام) كان أسرَعَ من أن يمكِّنهم من إيصاده جيداً، إذ اندفع نحو الباب يشدُّ به إلى الوراء حتى اقتلعه بيديه ثم حمله يتترس به، ويهجم على الأعداء يدحوهم به دحواً حتى أبعَدَهُم عن المدخل، فرجع وجعل الباب جسراً على الخندق الذي كان أمام الحصن كي يعبر عليه المسلمون، ويلاحقوا الأعداء من ناحية إلى ناحية، ومن زاوية إلى زاوية، حتى قتلوا منهم عشرات الرجال وفرَّ الباقون من أمامهم، فطاردوهم حتى أجلوهم عن الحصن تماماً ولم يبقَ منهم فيه أحدٌ.. وعندها هدأ القتالُ وانتهت تلك المعركة بفتح حصن «الناعم» على يدَي علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه)، فدعاه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إليه، يضمُّهُ إلى صدره، فرِحاً بقوة بأسه وشجاعته، شاكراً الله تعالى على ما أنعَمَ عليه وعلى المسلمين من نص عزيز..
وكان شاعر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حسان بن ثابت، يرقب ذلك الحنان يُفيضُه رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على حبيبه وأخيه علي (عليه السلام) فينفُذُ أثره إلى مشاعره، ويلتقي في ذهنه مع صور جولات علي (عليه السلام) وصولاته، فاستأذن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وأنشد في ذلك شعراً معبّراً، صارخاً، كان من جُملته:
وكان عليّ أرمدَ العين يبتغي
دواءً فلما لم يحسّ مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلةٍ
فبورك مَرْقيّاً وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم صارمًا
كميّاً مُحباً للرسول مواليا
يحبُّ إلهي والإله يحبه
به يفتح الله الحصونَ الأوابيا
فأصفى لها دون البرية كلِّها
عليّاً، وسمَّاه الوزيرَ المؤاخيا
واطمأنَّ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، واطمأنَّ معه المسلمون إلى ذلك الفتح العظيم، وحقَّ لهم أن ينالوا قسطاً من الراحة بعد جهاد دام عدة أيام، فأخلدوا إلى السكون في ديار خيبر، وقد وقف الحراسُ مترقبين لكل حركة، حذرين من أي غدر قد يفاجئهم به العدو..
ولكن ما شهدوه من بطولة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشجاعته في ذلك اليوم كان عجيباً حقّاً، فقضوا سهرتهم يتحدثون بتلك القدرة الفائقة، وكانوا يتساءلون: كيف أمكن لعليّ (عليه السلام) أن يقدر على قلعِ ذلك الباب الضخم ورَفْعِهِ بين يديه، والهجوم به على الأعداء يدحوهم به دحواً.. فقام نفرٌ من ثمانية رجال، بينَهم أبو رافع، مولى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وذهبوا إلى الباب يريدون أن يرفعوه، فما قدروا على أن يقلبوه قلباً، وحاولوا ذلك مرات عديدة، فأعجزهم ثقلُ الباب، حتى أن أحدهم قال: كنا عشرين نحاول رَفْعهُ كما رفَعَهُ عليٌّ فلم يستطع الضوء أن ينفذ من تحته!.. وكانوا كلّهم أمناء صادقين، فعادوا إلى الرجال يتحدثون بما حاولوا ولم ينجحوا، وراحوا يثنون على قوة عليّ (عليه السلام) ويحمدون الله سبحانه على ما مَنحَ أحد أبطالهم من القوة حتى أمكنه فتح الحصن..
ثم باتَ المسلمون تلك الليلة هانئين، مرتاحين.. وما إن طلع الصباح وأدَّوا فريضة الصلاة، حتى راحوا يتهيأون للقتال، فما كاد عمار بن ياسر يفرغ من استعداده حتى شعر بدافع يلحُّ عليه برؤية علي (عليه السلام) والتحدث إليه، فقصد خيمته ودخل عليه فوجده قد وضع أمامَهُ بعض الخبز اليابس ووعاءً فيه ماءٌ لتناول طعام الفطور. ودعاه عليّ (عليه السلام) لمشاركته في الأكل، فشكره مبدياً الشبع، ثم جلس بجانبه يريد البدء في الحديث، فإذا به يرى ما يدهشه ويعقل لسانه عن الكلام. فقد كان عليٌّ (عليه السلام) يأخذ الرغيف اليابس بين يديه، ويجهد بكسر قطعة منه ليضعها في فمه فلا يقدر فيكسره على رُكبته. ويراقب عمار ذلك المشهد في تكراره فلا يرى عليّاً (عليه السلام) إلاَّ وقد صعب عليه كسر رغيف الخبز اليابس.. وتعجب عليّ من تحديث عمّار به، فسأله:
ــــ يا عمار! لماذا تحدّق فيَّ وأنت دَهِش؟!..
فقال عمار: والله لقد أخذني العجب مما رأيته بالأمس وما أراه اليوم؟!..
قال عليٌّ: وماذا رأيت بالأمس وماذا ترى اليوم؟.
قال عمار: لقد شهدت معك البارحة فتح الحصن، فرأيت جبلاً عظيماً لا يقف في وجهه شيء مهما عظم، وأرى اليوم إنساناً عادياً، يأخذ رغيف الخبز اليابس كي يكسره فلا يكاد يستطيع ذلك!.. لا، ليس من السهل عليَّ أن أصدِّق بأن داحي باب خيبر يعجزه رغيف يابس!..
فابتسم عليٌّ (عليه السلام) وقال: يا عمرا! بالأمس كنت أقاتل لله تعالى فكانت قدرة الله تعضدني والآن أبذل جهداً لنفسي فهذه قدرتي.
ها هنا تكمن العظمة في نفوس العظماء..
ليس من الصعب على الرجل ـــ أي رجل ــــ أن يكسر رغيف خبز يابس... ولكنَّ أبَ المائدة، وتقديرَ قيمة لقمة العيش التي جعل الله تعالى فيها حياة الإنسان هي بعض شمائل الرجال العظماء. ولم تكن شيمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلاَّ التأدب أثناء تناول الطعام، وإعطاء لقمة العيش قدرها الحقَّ، فلا يعقل أن يكون قاسيَ القلب وهو يحاول كسر الرغيف، بل يأخذه على هون ويكسره بلين، حتى ليبدو لناظره بأنه واجدٌ صعوبة في ذلك.. ولكن ليس هذا المهمّ، وإن كان ينمُّ عن أرفع الأخلاق وأسماها، بل إنَّ ما يستوقف الإنسان، ويجعله متأملاً، متفكراً، ذلك الإيمان العميق في قلب عليّ (عليه السلام) وهو يؤكد أن الله سبحانه يهب لرجاله المخلصين من القوة ما يجعل أعمالهم كالمعجزات، عندما تكون الغاية خالصةً لله، ويكون الجهد مرصوداً لنصرة دين الله تعالى.. أما في الشؤون الخاصة، وفي الأمور المتعلقة بحياة الإنسان الشخصية، فيشمخ عليٌّ (عليه السلام) في بساطته، وفي تقشفه، ولا سيما في تواضعه، فلا يفاخر بأنه أتى عملاً عظيماً أبداً، وإنما يجعل الفضلَ كله لله تعالى وحده.
نعم هذا هو الإيمان الصادق، الذي يستحق صاحبه تلك المكرمة السنية فيكون محبّاً لله ولرسوله، وحبيباً لله ولرسوله..
نعم ذاك هو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه). بطلُ خيبر الأول الذي استطاع أن يدحر اليهود مع رفاق أوفياء في حصن «الناعم»، ويضطرونهم إلى ترك الحصن والفرار منه، يلتحقون بحصن «الصعب» ويحتمون في داخله.. ولكنْ هل تكون لهم حمايةٌ في ذلك والمسلمون جادّون في أثرهم؟!.. لا، ما كان اليهود قادرين على تأمين سلامتهم حين لاذوا بذلك الحصن هاربين، فقد كان المسلمون أقدر على اقتحامه، وأسرع في فتحه من حصن الناعم، إذ لم يكادوا يضربون الحصار عليه لمدة وجيزة، حتى أظفرهم الله تعالى بالغلبة على عدوِّهم، فأخذوا منه الأسارى، وغنموا الأموال والخيرات.. ولقد كان زاد المسلمين قد نفد أو أوشك على النفاد، وكاد الجوعُ يعضُّهم بنابه، وأوشك الجفافُ أن يرهقهم بشدته، ولذلك ما إن فتحوا حصن «الصعب بن معاذ» ووجدوا ما وجدوا فيه من تمْرٍ وعسل وسمن وزيت وقمح، وشتى أنواع المؤن ومختلف أصناف المتاع، حتى أقبلوا يسدون الجوع مُشبَعين ويُذهِبون العطش مرتوين.. وفوق المتاع والمؤن الوفيرة، عثر المسلمون في ذلك الحصن على دهليز قادهم إلى كهفٍ مليءٍ بآلات الحروب وأدواتها من السيوف والدروع والحراب والنبال، وفي جانب منه وضع منجنيق كبيرٌ، ندر وجوده في بلا العرب، فسُرّ المسلمون بالعثور عليه سروراً عظيماً..
لقد كانت ذخائر الحصن كثيرة، وأصبحت غنائم للمسلمين، وكادت تغريهم بحَمْلِها وتشغلهم عن متابعة القتال ــــ تماماً كما حدث يوم أُحُد ــــ في حين أن حصون الأعداء كانت ما تزال عديدة ولم يفتحوها بعد.. من أجل هذا، ولكي لا يكون هنالك توانٍ من المسلمين في أداء الواجب، بعث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من ينادي في الناس بأمر منه أن: «كُلوا واعلُفوا ولا تَحْمِلوا». فكان ذلك تطبيقاً لقاعدته، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما أعلن: «لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرَّتَين».. إذ لا مجال للانصراف إلى الغنائم، والانشغال بها، ما دام إخضاعُ اليهود، والاستيلاء على بلادهم لم يتمَّ بعدُ..
... وفرَّ اليهود بعد سقوط حصن الصعب بن معاذ إلى حصن الزبير الذي يقوم على رأس قمة عالية، تجعل مهمة اقتحامه أمراً صعباً، والوصول إلى داخله أمراً شاقاً.. وبالفعل واجهت المسلمين عقباتٌ كأداء في حصارهم لذلك الحصن، إذ كان عدوّهم يعلو فوقهم، مسدداً إليهم السهام والنبال التي كانت تنزل عليهم كوابلٍ من المطر، فتمنعهم من التقدم، وتجبرهم على البقاء في أماكنهم، حتى دام الحصار ثلاثة أيام وهم على تلك الحال. ثم بعث الله سبحانه أحد أسرى اليهود يخبرُ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بوجود جدول وراء الحصن يزوِّدُ أهلَهُ بالماء، فأمر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، على الفور بالحؤول دون وصول اليهود المحصورين على الحصن إلى ذلك الماء. فوجد اليهود أنه لا يمكنُهم البقاء بعد ذلك داخل الحصن معتصمين فيه، مَخافَةَ أن يموتوا عطشاً، فخرجوا لمواجهة المسلمين، ودار قتال عنيفٌ بين الفريقين، قتل فيه لليهود عشرة رجال مقابل رجل واحد من المسلمين، ثم دارت الدائرة في النهاية على اليهود وغُلبوا على أمرهم، ففروا إلى الحصون الأخرى، ودخل المسلمون حصن الزبير، وبسقوطه في أيديهم صارت منطقة «النطاة» وحصونها جميعاً تحت سيطرتهم.
وكان فرار اليهود في هذه المرة إلى حصن «أبيّ» في منطقة «الشق»، فاندفع المسلمون يصعدون جبل «شمران» الذي يقع على رأسه ذلك الحصن، فيحاصرونه من جميع الجهات، ثم لا يلبثون أن يشنّوا عليه هجوماً عنيفاً، بقيادة أبي دجانة الأنصاري، لا ينتهي إلاَّ بفتحه وهروب المقاتلين اليهود من فوق الجُدُر التي كانت توصلهم إلى حصن آخر هو «حصن البريء» حيث يستجمعون قواهم، ويستعدون للقتال من جديد، محتمين بمناعة الحصن، معتمدين على متانة بنيانه.
وزحف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بجيشه وراء عدوه الهارب، فتلقّاهم اليهود بالنِّبال والحجارة التي كانت تسقط عليهم مثل وابل المطر، حتى أن نَبْلاً أصاب ثوبَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلق به. وإذْ رأى، صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه لا قبل للجيش على التقدّم وإلاَّ تعرض لخطر شديد أمر بالمنجنيق فنُصِب. وعندما رأى اليهود أن قذفهم بتلك الآلة الهدامة لا محالة واقعٌ، انتابَهُمُ الهلعُ، فولّوا هاربين، وللحصن وراءهم مخلّين.. عندها دخله المسلمون دونما حرب، وراحوا يشكرون الله تعالى على ما أيَّدهم به من نصر عزيز.. وباستيلاء المسلمين على حصن «البريء» تكون منطقة «الشق» قد سقطت في أيديهم، كما سقطت منطقة «النطاة» من قبلُ، ولم يبق أمامهم من بلاد خيبر إلاَّ المنطقة الثالثة والأخيرة وهي منطقة «الكتيبة» التي لاذ اليهود في أشدّ حصونها منعة، وهو حصن «القموص» الذي كان لبني الحقيق وتحت إشرافهم وهم يعتبرون أبرز زعماء اليهود وأعلاهم قدراً، فجمعوا النساءَ والذراري فيه، وخبَّأوا الكنوز والثروات... وتحوَّل المسلمون إلى ذلك الحصن وأخذوا يضيّقون الخناق على أصحابه في حصارٍ شديد دام بضع ليال، أمكنهم بعدها فتحه على يدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) أيضاً، فاندفعوا إلى داخله يقتلون من اليهود بضعة عشر رجلاً، ويسبون النساءَ والذراري ويأسرون عدداً من الرجال والمقاتلين كان بينهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، الذي أبى أن يفارق الحصن مفضِّلاً الأسر على تركه..
وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعرف أن كنانة هو الذي حمل كنز بني النضير يوم أجلاهم عن المدينة، فلما جيء به أمامه، صلى الله عليه وآله وسلم، سأله عن الكنز فأنكر معرفته بمكانه. ولكنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، حذره من إنكارِه ذلك وقال له:
«أرأيت إن وجدناه عندكَ أأقتلك؟.
قال كنانة: نعم!..
وراح المسلمون يبحثون عن الكنز من دون أن يعثروا عليه، حتى قادهم شخص إلى خربةٍ كان يرى كنانة بن الربيع يتردد إليها كثيراً، ويقيم الساعات الطوال فيها، فحفرا في تلك الخربة فوجدوا الكنز، عندئذٍ أَمرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أحد الصحابة، محمد بن مسلمة، أن يضرب عنق هذا اليهودي الخبيث عقاباً له على كذبه وعداوته.
وكان بلال ـ مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ـ قد اقتاد من الأسرى والسبابا امرأتين، إحداهما صفية بنت حُييّ بن أخطب ــــ زوج كنانة بن الربيع ذاته وقد اقترن بها بعد فراقها عن سلام بن مشكم وهي ما تزال في سن السابعة عشرة من عمرها ــــ والأخرى ابنة عمّ لها. وقد خطر لبلال أن يمرَّ بهاتين المرأتين على قتلى اليهود حتى تريا مصارع قومهما، وما حلَّ بهؤلاء القوم لشدة كيدهم للإسلام وتآمرهم على نبيِّه الكريم، فإذا بقريبة صفية، وما إن رأت ذلك المشهد القاسي حتى أخذت بالعويل والصراخ، ثم ارتمت على الأرض تحثو التراب على رأسها، وتشدّ بشعرها، وتمزق ثوْبها، وبلغت بها الفجيعة أن كادت تقتل نفسها، فأخذها بلال من يدها، وقادها أمام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهي على تلك الحال، فما إن نظر إليها الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كره ما تفعل، فصرخ بمن حوله أن يبعدوها عنه وقال لهم: «أُغربوا عني بهذه الشيطانة».
والتفت رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى صفية، فإذا هي شابَّة في ريعان الصبا، يتهلل وجهها بالجمال والوقار، وتنطق قسماته بالألم والحزن، إلاَّ أنها تأبى أن تظهر ذلاًّ أو مهانة، بل كانت تتماسك وتتجالد بأنفةٍ وكبرياء، مما جعله يرحم مشاعرها، ويغضب لما فعله بلال بها وبرفيقتها فأنَّبه بقوله: «أُنزِعت منك الرحمة يا بلال حتى تمرّ بامرأتين على قتلاهما؟»!.
فأجاب بلالٌ آسفاً: «ما ظننت أنك تكره ذلك يا رسول الله. وأحببت أن تريا مصارع قومهما».. ثم راح يبدي ندمه، ويقسم بألاَّ يعود إلى ذلك أبداً، فصَرَفه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الرحيم بالناس من وجهه. لقد كانت صفية ابنة سيّدٍ في قومه، وسليلة نسب نبوي، فهي تعود في نسبها إلى «هارون بن عمران» أخي موسى (عليه السلام)، وأمها بَرَّة بنت سموأل أخت رفاعة بن سموأل من بني قريظة، فأراد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن ينزلها منزلة كريمة، وأن يعاملها معاملة حسنة، بما يخفف عنها الأسى، ويقلِّل من شأن المصاب عليها، فأمر أن تُنحى جانباً عن السبايا، وأن يوضع عليها رداؤه، فكان ذلك إعلاناً منه بأنه اصطفاها لنفسه.
أجل، فُتِحَ حصن «القموص» ولم يبقَ أمام المسلمين إلاَّ حصنان هما: «الوطيح» و«السلالم». فأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، جرياً على ما كان يفعل كل مرة، أن يُضرب الحصار عليهما، وأن يزيدوا في تشديد ذلك الحصار بما يفرض على القوم الاستسلام العاجل..
ورأى يهود خيبر أن ملاذهما الباقي أصبح يمثِّله هذان الحصنان، فهما آخر معاقلهم، والمطاف النهائي لمقاومتهم وقتالهم، فإن خسروهما خسروا كل شيء، وحلَّ بهم الخراب والشتات.. ولذلك صمّموا على متابعة المقاومة والموت دونهما، وقرَّروا أن يبذلوا كل ما تبقّى لهم من قوة منعاً لسقوطهما في أيدي عدوِّهم، إلاَّ أن شيئاً من ذلك لم يُجْدِهم نفعاً، وذهبت جميع محاولاتهم وجهودهم أدراج الرياح، إذ لم تعد عندهم قوة كافية لصد الهجوم، وسلاحهم قارب على النفاد، وأبطالهم الذين يعوّل عليهم قتلوا، وزعماؤهم وقادتهم تهاوَوا واحداً إثر واحد.. لقد أمكنهم الثبات أياماً ثلاثة، إلاَّ أنهم فقدوا بعدها كل جَلَد وصَبْر، فرأوا أن الكارثة قد حلّت ولم يعد منها مفرّ، وأن بقاءهم على المقاومة يعني الهلاك التام وقَطْع دابرهم نهائياً.. حيال هذا الواقع ـ ولمَّا لم يعد بيدهم حيلة ـ رضخوا إلى الاستسلام وطلبوا الصلح حقناً لدمائهم، فخرج نفرٌ يحمل رايةً بيضاء، فقادوهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى ينظر في أمرهم..
لقد جاء هؤلاء النفر من يهود خيبر يطلبون من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الصلح على أن يحقن دماءَ المقاتلين منهم، وأن يترك لهم الذرية، وعلى أن يخرجوا من خيبر، ويخلّوا وراءهم كل ما لهم من أراضٍ وزروع، وما عندهم من أموال وأسلحة وخيول..
وقبل رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا الصلح لأنَّ مقصده الأول والأخير من غزو خيبر إنما كان لقطع دابر الفتن، والقضاء على مصادر المؤامرات التي كان يحيكها اليهود ضدّه، وضدَّ الدعوة. وها قد أظفره الله تعالى بهذه الفئة الباغية، التي أنكرت تعاليم كتبها، وحاكت جميع المكائد للمسلمين، وتفنَّنت في مقاومة الإسلام خلافاً لتلك التعاليم، فلِمَ لا يقبل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا الصلح وهو الرسولُ الذي بُعث رحمة للعالمين، وهو رؤوف بسائر العالمين.. وخصوصاً بعد أن دفع الله تعالى عنه وعن المسلمين كيد هذه الفئة الباغية الضالَّة؟.
ولا رَيْبَ في أنّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يرغب يوماً في قتال، ولا في معارك أو حروب، بل كان عمله المتواصل أن يصدِّق أهل الجزيرة بدعوته، وأن يؤمنوا بأحقية هذه الدعوة، ويخلّوا سبيلها كي تنتشر بلا عوائق، ولكنَّ المشركين واليهود أبَوا ذلك، وقاموا يحاربون الدعوة في سبيل القضاء عليها واستئصال الداعين إليها، ولذلك لم يكن ثمّة مفرٌّ من إعداد القوة التي تردُّ هجمة الأعداء، وتلزمهم بالرضوخ لسلطان الدَّعوة، فمن أراد ذلك بالسِّلم سالموه، ومن ابتغى القتال كان السيفُ الحدَّ الفاصل بينهم وبينه.. ولذلك لما جاء يهود خيبر مستسلمين يطلبون صلحاً لم يبخل عليهم نبيُّ الإسلام، صلى الله عيله وآله وسلم، بهذا الصلح، ولكنه اشترط له فقال: «وبرئت منكم ذمة الله ورسوله إن كتمتوني شيئاً».. فوافقوه وصالحهم..
وبفتح حصون «الكتيبة» واستسلام اليهود، انتهى ما كان لهم من سلطان سياسي، ومن قوة مادية، في المدينة من قبل، وفي بلاد خيبر الآن.. إذن ليرحلوا عن أرض الجزيرة كلِّها، لأنه لا يمكن لهم البقاء فيها إلى جانب الإسلام.. إلاَّ أن اليهود، بعدما عزموا على الخروج من تلك البلاد، عادوا إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يستعطفونه بالسماح لهم في البقاء ببلادهم، ويبدون رغبتهم عن الهجرة إلى غيرها، على أن يعملوا في الأرض ويأخذوا نصف ثمارها مقابل عملهم، فوافقهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على ذلك ولكنه حذّرهم ونبّههم إلى أنه إذا شاءَ أن يخرجهم خرجوا، فقبلوا راضين.. ولقد كان أيضاً في جملة مقاصد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من تلك المصالحة مع اليهود توفير الأيدي العاملة، وتأمين الخبرة اللازمة، لاستغلال أراضي خيبر حتى تبقى معطاءة، والمسلمون مجنّدون في غالب الأوقات للدفاع عن الدعوة والعمل على نشرها، مما كان يستنزف جهودهم وبصرفهم عن السعي وراء المعاش إلاَّ في فترات قليلة من السنة، ولولا فضل الله تعالى عليهم، بما يهبهم من نصر، ويفيء عليهم من غنائم لكانت المجاعة قد حلَّت بهم..
وأما اشتراط الرسول الأعظم على اليهود إخراجهم متى شاء، فكان من أجل ردعهم عن التآمر، وإبعادهم عن المكائد، لأنه وإن كان قد أمِنَ بأسهم بسقوط خيبر، وآمَنَ بأن لن تكون لهم قوة مانعة بعدها، إلاَّ أنهم يبقون أهل دهاءٍ ومكرٍ وخبث، ولا يتورعون عن سلوك شتى الطرق الملتوية، واستخدام مختلف الوسائل المنحطَّة والأساليب الدنيئة للوصول إلى أغراضهم والنيل من كرامة الآخرين، فحتى لا يكون لهم سبيل إلى ذلك، ولكيلا تسوِّل لهم أنفسهم معاودة التآمر ـ وما داموا قد طلبوا عدم الخروج ـ من أجل ذلك كله كان شرطُ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي اشترطه سيفاً مُصْلَتاً فوق رؤوسهم، يهددهم دائماً بطردهم النهائي من جزيرة العرب حين يشاء..
وكان بين الغنائم التي أحرزها المسلمون في حصون خيبر، صحائفُ مقدسةٌ من التوراة، فلما رأى اليهود معاملة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الحسنة لهم، زادتهم طمعاً به، فطلبوا أن يعيد لهم تلك الصحائف التي من بينها صحف تحتوي على وصية موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل من بعده، وكان بنو النضير قد حملوها معهم عند إجلائهم عن المدينة.. فأمر الرسول الكريم بردِّ تلك الصحائف إليهم، مما يدل على ما كان لهذه الصحائف في نفس رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من المكانة العالية، الأمر الذي جعل اليهود يشيرون إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بالبنان ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ميلادية إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضاً صحف التوراة، بل يتذكَّرون ما فعله بُخْتُنْصّرَ من قبلُ حين قتل اليهود وأسر الرجال والنساء والأطفال، وهدم الهيكل وأحرق ودمَّر.. وهم الآن يَرون البون الشاسع بين أولئك الفاتحين وبين رسول الإسلام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام لما وجدوا في تعامله معهم من رحمةٍ ولطفٍ وخُلقٍ سمحٍ رفيع..
ولمَّا فرغ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من إعطاء الصلح ليهود خيبر، بعث إلى أهل «فَدَك» ـ وهي قرية يهودية تقوم بالقرب من خيبر وفيها قوم من بني مرة، وقوم من بني سعد بن بكر، أن يدخلوا في الإسلام أو يسلِّموا أموالهم. فوقع الذعر في قلوبهم عندما جاءتهم رسلُ النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم كانوا يعلمون ما حلَّ بأهل خيبر، وما وصلت بهم الحال لمقاومتهم وعنادهم، فارتضوا بالتناول عن نصف أموالهم من غير قتال. وبذلك كانت «فدك» خالصة لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه لم يوجف عليها بخيل أو ركاب، أي لم يهاجمها ولا أعمل فيها حرباً ولم تؤخذ بقتال، بخلاف خيبر التي أصبحت فيئاً بين المسلمين لما جاهدوا في سبيل الله حتى أمكنهم فتحها بالقوة. ولذلك فقد قسَّمَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، غنائمها بين المسلمين، بعد أن خَمّسها، فأعطى الراجل سهماً، والفارس ثلاثة أسهم: له سهم ولفرسه سهمان، كي يحثَّ المسلمين على اقتناء الخيول والاعتناء بها لتكون أداة مفيدة مساعِدَةً لهم في حروبهم مع المشركين والأعداء. ثم أعطى من خُمسِهِ ما أراده الله تعالى لذوي القربى من الأهل، رجالاً ونساءً، كما أعطى للسائل واليتيم وابن السبيل، وكذلك أعطى شيئاً من تلك الغنائم لبعض النسوة والموالي ممن شهدوا خيبر، دون أن يسهم لهم، واستبقى فدك لنفسه كما قُلنا لأنها مما أفاء الله تعالى عليه..
لقد كانت مغانم خيبر كثيرة زادت على كل المغانم التي كسبها المسلمون حتى ذلك الوقت، وقد قدّر عبدالله بن رواحة الذي أقامه رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكيلاً على بلاد خيبر، يقسم الغلال كلَّ عام، أنَّ ما في خيبر من تَمْرٍ فقط بلغ حوالي أربعين ألف وَسَق (الوسق حمل بعير)، هذا من التمور عدا المتاع الكثير ومختلف أنواع الغلال والمؤن والأموال.. وبذلك جرى تقسيم تلك المغانم، على المسلمين ممن شهدوا الحديبية وخيبر معاً، تطبيقاً لأمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ دعا للخروج إلى غزوها من كانوا معه في الحديبية، كما ذكرنا سابقاً، إلاَّ من شاءَ أن يخرج غازياً متطوعاً فلا يكون له سهم في الغنائم، ولكنه ــــ وهو نبيُّ الرحمة ــــ قد أعطى منها كلَّ من وجده بحاجة، أو كانت أحوالُه تفرض عطاءه.. ومن هؤلاء الذين برَّهم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، المهاجرون إلى الحبشة، فقد كان قبل خروجه إلى خيبر قد أرسل كتاباً إلى النجاشي، يطلب فيه أن يبعث المهاجرين من المسلمين، فوصَلَ هؤلاء بصحبة جعفر بن أبي طالب المدينة، والتقوا مع أبي موسى الأشعري وقومه، فلما علموا بخروج الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى خيبر لحقوا به إلى هناك، ولكنهم وصلوا عندما كان النصرُ قد تمَّ للمسلمين، فقام النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يستقبلهم بالسرور والبهجة، ويفرح جزيل الفرح لعودة جعفر، فيقول له: «ما أدري بأيهما أنا أُسَرُّ، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟»، فقسمَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لهم من الغنائم ما أراده الله سبحانه وتعالى..
وفي التدليل على مغانم خيبر الوفيرة، قصةُ رجل من المسلمين جاءَ يوماً إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يطلب أن يزوجه إحدى النساء، دون أن يكون لديه صِداقٌ معجَّل لها. فلمَّا سأل المرأة عن القبول بذلك وافقت، فقال للرجل:
«أترضى أن أزوجك فلانة؟» (ولم يذكر مَهراً).
قال الرجل: نعم يا رسول الله.
فسأل المرأة: «أو ترضين أن أزوجك فلاناً؟».
قالت: «نعم يا رسول الله»..
وعاشا زوجين سعيدين حتى إذا أتاه الأجل أوصى الرجل قائلاً: «لقد زوّجني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من امرأتي من غير أن أعطيها شيئاً، وإني أشهد أنني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر».
وبعد وفاة ذلك الرجل، أرادت أرملته أن تبيع سهمه في خيبر فبلغ ثمنه يومذاك مئة ألف درهم.
هكذا كان فتح خيبر الذي أفاض الخيرات على المسلمين، كما دلّت قصة الأرملة التي باعت سهماً واحداً من فَيْءِ تلك البلاد بمائة ألف درهم!.. فلم يكن ذلك الفيءُ إلا نعمة كريمة من الله سبحانه منَّ بها على جنوده المخلصين، لتبقى نفوسهم متوثبة دوماً لنصرة دينه العزيز، ولا تشغل بأمور الدنيا ولو كانت من الأمور الضرورية للكسب والمعاش، لأن الوقت كان حرجاً، والظرف على الدعوة كان صعباً، فإن لم تجد من يذود عنها، ويحمل لواءها، فلا يمكن أن يكتب لها النجاح، ولذا فإنَّ شأنها كان بلا ريب أهمَّ من الكسب والمعاش، حتى إذا بلغت مداها، وأراد لها الله تعالى أن تستقرَّ، عادت القاعدة العامة، وهي الالتفات إلى الكسب والرزق الحلال، بما تفرضه سنَّة الحياة.
وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يزال مقيماً في خيبر يرتب شؤونها، ويبعث برسُلِه إلى اليهود من حولها، عندما أتته هدية زينب بنت الحارث، امرأة سلاَّم بن مشكم، وكانت تلك الهدية شاةً مشويةً أرادت أن تخصَّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس ومن حوله أصحابُه ليأكلوا.. ولكن، ما إن تناول رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قطعة من ذراع تلك الشاة، ولاك منها مضغة حتى لفظها، لأنه لم يُسغ طعمها، وأحسَّ فيها رائحةً غير مقبولة، بخلاف ما فعل أحد الصحابة، بشر بن البراء بن معرور، الذي كان قد ازدرد ما تناوله من الشاة وأكله.. فأَنِفَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لحم تلك الشاة، وأمر الصحابة ألاَّ يتناولوا شيئاً منها وقال لهم: «إن هذا العظم يخبرني بأنه مسموم».. ثم دعا إليه صاحبة الهدية، يسألها عمَّا وضعت في الشاة حتى صار لها طعم غريب ونكهة غير مألوفة، فلم تُنكر زينب بنت الحارث أنها وضعَت فيها السمَّ، بل اعترفت بجريمتها وقالت: «لقد سألتُ عن أي عضوٍ من الشاة أحب إليك، فقيل لي: الذراع، فأكثرت فيه السُمّ، ثم جعلته في سائر الشاة».
وسألها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «وما حملكِ على ذلك يا امرأة؟».
قالت: بلغتَ من قومي ما لم يَخْفَ عليك، فقلت: إن كان كاذباً أو ملكاً استرحنا منه، وإن كان نبيّاً فَسَيُخْبَر ولم يَضُرَّه».. وسواء كانت تلك المرأة صادقة فيما قالت، أو أنها احتجت به حتى تخفف من عقاب جريمتها، فإنَّ الجريمة قد وقعت ومات بشر بن البراء بسبب السم.. فأراد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقتلها به، ولكنه عادَ وتجاوز عنها أنفةً من قتل النساء، وتقديراً بأن لديها دوافع للغدر به، فهي امرأة موتورة، قد قُتِلَ أبوها وزوجها، وأُخْضِعَ بنو قومها، وفي ذلك ما يكفي لملء قلبها بالحقد، والتفكير بتدبير تلك الحيلة الخبيثة..
فماذا يريد اليهود بعد هذا التسامح الكريم من محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم؟.
لقد حرص على أن يقيم معهم العلاقات الطيبة، لأنهم أهل كتاب وقد وجدوا في كتبهم ما يدلُّ على نبوته، ولكنهم بدل أن يؤمنوا به، أو يصدِّقوه على الأقل، شهروا له العداوة، وأعلنوا الحرب على دعوته.. ثم لمَّا خسروا المعارك أقام معهم المواثيق والعهود، وقد كان أمَّنهم ويؤمّنهم في ديارهم وأموالهم، ولكن بدل أن يحفظوا عهوده لهم، كانوا دائماً ينقضونها ويتآمرون على قتله، ويعملون على استئصال دعوته.. بل لقد أوغلَ اليهود في عداوتهم إلى أن صاروا يشكلون خطراً مستفحلاً على الإسلام، وصار لا بدَّ من كسر شوكتهم وإزالة نفوذهم السياسي والاقتصادي والماديّ، فلمّا غزاهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وهزمَهم شرِّ هزيمة عادَ يصالحهم على البقاء في ديارهم، ولم يَحرمهم من تراث تاريخيٍّ هامٍّ لهم.. وفوق هذا كله، وما يُفاخَرُ به من نبل أخلاق نبيّ الإسلام معهم، أن تلك المرأة الخبيثة التي عملت على قتله مسموماً، نظر إليها بعين التسامح، وعفا عنها.. فهل يطلب اليهود أكثر من ذلك؟.
نعم طلبوا! فرغم الضعف الذي هم فيه، والهزيمة التي لحقت بهم، جاؤوا بعد الصلح يشكون لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن بعضاً من المسلمين يقع في حرمهم، فما كان منه، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أن جمع المسلمين وخطبهم، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: «يا معشر المسلمين. إن بني يهود شكوا إليَّ أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمَّناهم على دمائهم وأموالهم التي بين أيديهم، وعاملناهم على أراضيهم، وإنه لا تحل أموال المُعاهدين إلاَّ بحقها».. فكان المسلمون بعدها لا يأخذون من بقولهم وثمراتهم شيئاً إلاَّ بثمن.. حتى بعد فتح خيبر ورجوع المسلمين إلى المدينة، كان اليهود يبدون دوماً الاعتراض، ولا يجدون إلاَّ برّاً بهم ورحمة. فعندما كان يذهب عبدالله بن رواحة لتقسيم الغلال بينهم وبين المسلمين، كانوا يقولون له: «لقد جُرْتَ علينا»، فلا يكون من عبدالله إلاَّ أن يخيِّرهم: «إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلنا».. فلا يكون جوابهم إلاّ القول: «بهذا قامت السموات والأرض»..
وهكذا كانت معاملات الفاتح الرحيم محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، لبني اليهود، ولا نظن أن فاتحاً غيره في التاريخ كانت له مع الشعوب التي أَخْضَعها والبلدان التي احتلها المعاملة ذاتها، ولقد كان حريّاً باليهود بعد تلك المعاملة أن يرجعوا إلى تعاليم التوراة، فيصدِّقوا محمداً ويتخذوا الإسلام ديناً، ولكنهم ظلُّوا مكابرين، معاندين: {حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ} ..
... وأخيراً انتهى رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من تثبيت الأمور في «خيبر»، واطمأنَّ إلى رضوخ أهل «فدك»، فأذّن مؤذنُهُ بالانصراف، ثم عزم أن تكون عودته للمدينة عن طريق «وادي القرى»، الوادي الذي تتوزع فيه قرى صغيرة عديدة، تسكنها جماعات من اليهود، تقوم حياتها على الزراعة لما فيها من تربةٍ خصبةٍ، وعيون وآبار في تلك الأراضي الواقعة ما بين خيبر وتيماء... ونزل الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بالجيش الإسلامي قريباً من «وادي القرى» وبعث إلى أهلها يدعوهم إلى الإسلام، فأبوْا وتجهزوا للقتال، فما كان منه، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أن أمر بمحاصرتهم وتضييق الخناق عليهم، حتى دام ذلك الحصار أربعة أيام، شن بعده المسلمون هجوماً شديداً عليهم، فلم يستطيعوا دفعه، بل أذعنوا إلى الاستسلام بعد أن قُتل منهم أحد عشر رجلاً. وطلب أهل «وادي القرى» الصلح من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كما فعل مع أهل خيبر، فأعطاهم الصلح بالروحية ذاتها من الرحمة والشفقة على الناس.. وعندما رأى أهل «تيماء» أنه لم يبقَ غيرهم من اليهود، وأنه لا قِبَلَ لهم على مواجهة المسلمين وقتالهم، بعثوا إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يطلبون الصلح دون أي قتال، فوافقهم عليه مقابل جزية يدفعونها كل عام.
وبذلك سقطت بلاد اليهود، وانتهى كل ما كان لهم من نفوذ في جزيرة العرب، وأصبح المسلمون بمأمن من ناحية الشمال إلى الشام، كما أمِنوا بعد صلح الحديبية ناحية الجنوب.
وهدأت المعارك، ولم يعد من قتال في هذه النواحي، بينما كان سُعر المعركة ما زال يحتدم هناك في نفوس قريش، إذ لم تكن أخبار فتح خيبر، وسقوط معاقل اليهود قد وصلتها بعدُ، ولم يكن قد أتاها من يبدّد ذلك الانقسام الذي شهدته بين رجالها وأبنائها منذ أن تناهت إليها أخبار غزوة خيبر، وقد وقفوا في جانبين: جانب يرى في قوة اليهود، وكثرة عددهم وعدتهم، وفي محالفة غطفان لهم، عوامل تؤمن لهم الغلبة، فيقول: «تظهر يهود وحلفاؤها»، وجانب يأخذ عبرةً من ماضي المسلمين وما عندهم من إيمانٍ قويٍّ بالدين الذي اعتنقوه، فيرى في هذا الإيمان، وما يمنحه لهم من عزم، وفي قتالهم وما يجهدون بتنظيم أسلوبه ودقة تخطيطه، وعلى الأخص في وحدتهم وتماسكهم واستهانتهم بالموت في سبيل عقيدتهم.. يرى في ذلك كله أكبر الأثر الكفيل بتحقيق نصرهم، فيقول: «يظهر محمد وأصحابه»..
ثم يشتد الحماس عند كل فريق، فيتمسك برأيه، مصرّاً على تقديره، حتى يقع بينهم الرهان الكثير، فتقبع قريش كلها في ترقب وانشغال بال وهي تنتظر أن تصلها الأخبار حتى أنها لتبعث كل يوم جمعاً من رجالها يقفون على مفارق الطرق ليسألوا كل قادم أو عابر عمَّا آلت إليه الحرب بين محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ويهود خيبر، ولكنَّ أحداً لم يعطها الجواب الذي تريد حتى عِيْلَ صبرها، إلاَّ أنَّها لم تملَّ الانتظار ولم تقلع عن الترقب.. وظلت قريش على تلك الحالة حتى قدم عليها الحجاج بن علاط السُّلمي..
وكان الحجاج قد دخل حديثاً في الإسلام، فلم يعرف بأمره أهلُ مكة. وقد شهد خيبر مع إخوانه المسلمين، فلمَّا أتمَّ الله سبحانه لهم فتحها، أتى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يستأذنه في الذهاب إلى مكة، قائلاً:
«يا رسول الله، إنَّ لي بمكة مالاً أودعته أم شيبة بنت أبي طلحة، وديوناً متفرقة عند تجار أهل مكة، وقد جئت أستأذنك بالذهاب لمكة واسترداد مالي»..
وأعطاه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الإذنَ بالذهاب، إلاَّ أن الحجاج لم يتحرك من مكانه، بل عادَ يستأذن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يقول شيئاً. وأجابه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى ما طلب، فقال: «ولكن لا بد لي يا رسولَ الله من أن أقول». وأدرك النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ما يرمي إليه الحجاج، فهو يريد أن يوارب في الحديث، ويحابي في الحقيقة حتى يأمن قريشاً على نفسه، وحتى يكون له سبيل إلى جمع ماله، فأذن له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بذلك قائلاً: «قل...»:
وقدم الحجاج إلى مكة، حتى إذا كان في محلة تدعى «ثنية البيضاء» على إحدى مداخلها، وجد رجالاً من قريش ما إن رأوه قادماً نحوهم، حتى هبُّوا واقفين، وقد سمعهم يقولون: «هوذا الحجاج بن عِلاط عنده ــــ والله ــــ الخبر»..
وكان الحجاج يتوقع من قريش أن تستطلع منه الأخبار، بل وأن تلحَّ عليه في السؤال، ولذلك لمَّا بادروه قائلين: «أخبرنا يا حجاج عما وراءك. فقد بلغنا أن محمداً ــــ القاطع لرحمه ــــ قد زحف على خيبر، بل على اليهود وريف الحجاز»، ردَّ عليهم الحجّاج قائلاً:
يا معشر قريش.. قد عرفت ذلك، وعندي من الخبر ما يسرُّكم».
ومثل ومض البرق، انكبَّ عليه أولئك الرجال، يمسكون بزمام ناقته، ويحيطون به من كل جانب، وهم يلحّون عليه في السؤال: «إِيه يا حجاج! أتخبرنا بما عندك؟».
قال الحجاج بدهاء: «هُزِمَ هزيمة لم تسمعوا بمثلها قطُّ، وقتل أصحابُه شرَّ مقتل، وهو الآن أسيرٌ بين يدي عدوه، يقولون: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيثأرون منه بين أظهرهم بمن أصاب من رجالهم».
لم يذكر الحجاج اسم النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنَّ رجال قريش أيقنوا أنه يقصد محمداً، فأطار الخبرُ صوابهم، وراحوا يركضون نحو منازل مكة وهم يصيحون، ويصرخون: «يا معشر قريش! يا معشر قريش! لقد جاءكم الخبر. وهذا محمد إنما تنتظرون أن يُقدَم به عليكم فيُقتل بين أظهركم».
وإنْ هي إلاَّ تلك الصيحات، حتى خرجت مكة بأسرها إلى الساحات يملأونها، وإلى الأزقة يعجُّون بها، وهم يزغردون بالفرح، ويهزجون بالنشوة.. إنه منتهى الأمل الذي يصبون إليه.. هزيمة محمد هي وحدها ذلك الأمل، فلِمَ لا يفرحون، ولِمَ لا ينتشون؟!...
عمَّ الابتهاج أنحاء مكة فرقصوا وغنوا.. وتناسى أصحاب الرهان ما تراهنوا عليه: فأمَّا من كان يقول بأن محمداً سينتصر فلم يعد يهمه الآن (وقد بلغته هزيمته) أن يخسر لأنه على استعداد لأن يدفع أضعافاً مضاعفة من رهانه طالما أن محمداً قد هُزم.. وأمَّا من كان يقول بأن الغلبة ستكون لليهود فلا يعبأ برهان يأخذه طالما أن الخبرَ عنده أهم من أي مالٍ!...
هكذا سيطرت عليهم الأوهام، فطابوا بها نفساً، وأقبلوا على الحجاج، وهو من زفَّ لهم البشرى، يريدون أن يولموا له الولائم، ويقيموا المآدب على شرفه.. ولم يمانع الحجاج بن علاط بذلك بل رجاهم التريث في الأمر، ولكي يزيد في إيهامهم، راح يتذرع برفض الدعوات قائلاً:
«يا قوم! إن أردتم تكريمي فأعينوني على جمع مالي بمكة من غرمائي، فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فِلِّ محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هنالك».
وانطلت على قريش حيلة الحجاج، فراحوا يعينونه على جمع ماله بكل طيب خاطر، ثم إنه لم يلبث أن قصد أم شيبة، يطرق بابها، ففتحت له بقلب مفعم بالسرور، ودعته إلى تناول الطعام، ولكنه رفض قائلاً: «يا أم شيبة هلاَّ أعطيتني مالي المودع عندك علَّني أَلحق بخيبر فأصيب من فرص البيع ما لا يفوِّت عليَّ ربحاً كبيراً؟».
وقامت أم شيبة من فورها، تدفع إليه بماله، وهي تودِّعه بأماني النجاح في طريقه، فانصرف عنها، ليطوف على من بقي من تجار مكة يستوفي منهم ديونه، حتى إذا كان عند أحدهم جاءه العباس بن عبدالمطلب، باحثاً عنه في كل مكان حتى التقاه، وما كاد الحجاج يراه حتى عرف ما يريد منه، فتقدم نحوه مسرعاً، وأشار إليه بالانفراد جانباً. وفي غفلة من القوم، بادره العباس سائلاً: «يا حجاج! ما هذا الذي جئت به؟».
قال الحجاج: «وهل تحفظ ما أضع عندك؟».
قال العباس: لستُ متهماً..
قال الحجاج: «إذن فاستأخرني حتى أفرغ..».
وبقي الحجاج ملحاحاً في طلب ماله، محتجاً بالعجلة والذهاب للمتاجرة به، فلمَّا كان له ما رغب وفرغ من جمع ذلك المال، ذهب يلتقي العباس قائلاً:
«احفظ عليَّ حديثي ثلاثاً يا أبا الفضل ــــ فإني أخشى الطلب ــــ ثم قل ما شئت».
قال له العباس: «أَفعل».
قال الحجاج: «فإني ــــ والله ــــ تركت ابن أخيك عريساً على بنت ملكهم، ولقد افتتح خيبر وأحرز ما فيها وصارت له ولأصحابه».
قال العباس بلهفة ودهشة: «ما تقول يا حجاج؟!».
قال له: «إي والله، فاكْتُمْ عني. ولقد أسلمتُ وما جئت إلاَّ لآخذ مالاً لي خفتُ من أن أُغْلَب عليه. فإذا مضت ثلاثٌ فأَظْهِر أمرك فهو ــــ والله ــــ على ما تحب».
خرج الحجاج من مكة مطمئناً إلى ماله الذي جمع.. وانتظر العباس بفارغ من الصبر، حتى إذا انقضى اليوم الثالث من خروج الحجاج، لبس أجمل حلة لديه، وتطيّب بالعطر، ثم حمل عصاه وخرج حتى أتى الكعبة طائفاً.. ورأته قريش على تلك الحال، فظنت أنه يريد أن يموِّه وقع المصيبة على نفسه، ويُذهب عنه الحزنَ لهزيمة ابن أخيه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فجاؤوا يقولون له: «هذا ــــ والله ــــ التجلّد لِحَرِّ المصيبة». فما كان من العباس إلاَّ أن قهقه في وجوههم وقال: «كلا، والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبرَ، وتُرك عربساً على ابنة ملكهم، وأحرز أموالهم!».
قالوا متعجبين: «هراء!.. ومن أتاك بهذا الخبر الكاذب؟!».
فقال لهم العباس: «الذي جاءكم بخبركم.. فلقد دخل عليكم مُسْلماً فأخذ ماله وانطلق، هازئاً بكم، ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معهم»!..
قالوا مغضبين: «يا لعباد الله!!.. لقد سخر بنا عدو الله وقدر على أن يستغفلنا؟.. أَمَا والله لو عَلِمْنا، لكان لنا وله شأن».
وهمدت قريش مكظومة، حتى أن كثيرين لم يريدوا أن يصدِّقوا ما قاله العباس، واعتبروه إيهاماً لهم.. ولكنَّهم لم يلبثوا بعده إلاَّ قليلاً حتى جاءهم الخبر اليقين. فقد توافد القادمون إلى مكة من جميع الجهات، وكانوا كلُّهم يؤكدون خبرَ العباس بن عبدالمطلب، حتى لم يبق مجال للشك عند قريش بنصر محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، على بلاد خيبر، فقعدت ملومة، محزونة..
لا، لم تكن قريش لتتوقع أن تنهار خيبر بهذه السرعة، وهي على ما هي عليه من التحصين والمنعة، ولم تكن لتعتقد بأن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، قد بلغ وأصحابه هذا الحد من القوة.. فَنَصْرُهُ قد أذهلها حقاً، وجعلها تبدّل أفراحها بالحزن، وابتهاجها بالكآبة..
ولئن كان خبر انتصار المسلمين ذاك قد أدهش قريشاً وأذهلها، فإنه بالحقيقة انتصار يدعو إلى التأمل والتفكير.. فاليهود كانوا من القوة الظاهرة بحيث يُظن أنهم لا يُقهرون.. كان عندهم عشرة آلاف مقاتل مدرّبين على فنون القتال وضروبه، ماهرين في الرمي، أشدّاء في الاقتحام حتى عُرفوا كأشدّ الطوائف اليهودية بأساً في الحروب.. وكانت لهم حصون كبيرة، منيعة، ملئت بآلات الحرب على اختلافها، وبالمؤن الوفيرة على تنوعها.. ولم تكن لتنقصهم أسباب الحمية التي تدفعهم للاستهانة بالموت حماية للحرم، أو ذوداً عن الوطن أو دفعاً للعدوان.. ولذلك لم يكن متوقعاً لهم أن يُهزموا وهم على تلك الأحوال، بخلاف المسلمين الذين لم يزد عددهم، عندما جاؤوا يغزون بلاد خيبر وما جاورها، على ألف وستمائة مقاتل، لا يحملون معهم من آلات الحرب إلاَّ السيوف والرماح والقِسِيَّ والنبال، وقد ولجوا أرض المعركة ولا حصونَ تحميهم، ولا معاقلَ تمنع عنهم، إلاَّ ما حملوا في جوارحهم من بأس وعزيمةٍ كانا أقوى من الحصون وأمنع من المعاقل.
وعلى رغم هذا الاختلاف بينهم وبين اليهود، ومع وجود ذلك البون الشاسع في تكافؤ القوى وتهيؤ الأسباب، فقد استطاعوا أن يحققوا ذلك الانتصار الباهر. وعلى مَن؟ على ذلك الشعب الذي استبدت به روح الغرور وطغى عليه عنفوان الغطرسة، حتى طَنَّ بنو يهود أنهم هم الأقوى و«أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهمْ مِنَ الله، فأتاهم الله مِنَ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا»، بعدما قذف في قلوبهم الرعبَ وزلزل بهم، فكانوا فِرقاً أشتاتاً.
هذا النصرُ الرَّباني هو ما أذهل قريشاً، وأدهشها بعد أن تحققت خبره. ومثلها بُهِرْتْ بهذا النصر قبائلُ العرب وجموعُهم، فقالوا متعجِّبين: «خيبر تسقط؟!».
وكان يأخذهم العجب أكثر، فيزيدون: «وتذعن اليهود في شتى ديارهم، وفي سائر أماكن وجودهم: في «فدك» و«تيماء» مستسلمين بلا قتال، وتنهارُ «وادي القرى» ببضعة أيام... إنه حقاً لَلْعَجبُ العجاب؟!»..
نعم لقد أَخَذَ هذا النصرُ من رب العالمين بألباب الناس، وجعلهم يُقِرُّون بأنه بات للمسلمين قوة يُخشى بأسُها، وشدة يُرهبُ سلطانها. إنهم لا يقيمون للكثرة وزناً، ولا تردهم الحصون أو تعوقهم القدرات، بل إن أيديهم تضرب بسرعة مذهلة حتى أنه لا يقف بوجههم حائل، ولا يَعوق تقدمَهم مانع..
ولئن سيطرَ الذهولُ والانبهارُ على قريش فأطارا صوابها، إلاَّ أنها عادت تستفيق من الذهول لتدرك الحقيقة المرة وهي أن حلفاءها اليهود وشركاءها في عداوة الإسلام قد قضي عليهم حقاً، وزال كلُّ ما لهم من نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري في أقاليم الحجاز، أو أنَّ هذا النفوذ قد تقلَّص إلى الحد الذي ينبىء بمحو آثارهم، وآثار أفكارهم الدينية.. فماذا يمكن لقريش أن تفعل حيال هذا الواقع المرير؟.
هل تقدرُ بعدُ على إشهار العداوة للمسلمين، وفرض القتال عليهم كما كانت تفعل من قبل؟ لا لن تقدر قريش بعد اليوم على القيام بما كانت تبديه من صلافة وغطرسة، بل إنها تجد نفسها حيال قوة المسلمين ملوية العنق، واطئة الجبين، وتحس كأنَّ أيديها قد غُلَّت إلى أعناقها.. وتحاول أن تفتش عن سبيل للخلاص فلا تقع عليه وفي مواجهتها هذا السيل الجارف الذي لا تستطيع له صدّاً، وتضيع أمام هذا القضاء النازل الذي لا تملك له ردّاً.. لقد فاتتها الحيلة بالمقاومة، وبعدت عنها الطريق إلى القرار، فلا ترى إلاَّ الاستسلام للأمر الواقع، والمكوث في ديارها منتظرة ما قد يداهمها به القدر من أحداث...
تلك كانت الآثار التي خلّفتها غزوة خيبر على المكابرين والمشركين..
أما بالنسبة للمسلمين فقد كان الأمر مختلفاً تماماً، إذ جاءت النتائج عظيمةً مشجِّعة للغاية.
فإلى جانب النصر وما ينطوي عليه من تعزيز الثقة بالنفس، كان ذلك الفيءُ الكبير من المغانم التي أذهبت عنهم الفقر والحاجة إلى حد بعيد، ولكن الأهم من ذلك كله هو أن شعورهم بالاطمئنان إلى ولوج الدعوة شتى الدروب التي باتت تمهّد لانتشارها داخل جزيرة العرب وخارجها، قد أخذ طريقه إلى النفوس والقلوب.
لم تستغرق غزوة خيبر وما جاورها من بلاد اليهود إلاَّ نحواً من شهر ونصف الشهر، فقد ذهبت إليها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في أوائل المحرم من السنة السابعة للهجرة ورجع منها ظافراً في النصف الثاني من صفر.
وكان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قد اختار أثناء تلك الغزوة، من سبايا خيبر صفية بنت حييّ بن أخطب لِما وجد فيها من علائم الاحترام والاعتزاز بالكرامة، فأكرمها إلى أبعد حدود الإكرام، ورفعها إلى أعلى مراتب الإنسانية فأعتقها، وترك لها بعد عتقها أن تختار ما بين الإسلام فيتزوجها أو اليهودية فتبقى في بني قومها.. ولقد اختارت صفية ما هو أقرب إلى نفسها، وما رأته أوثق إلى الحق، فقالت للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، بلهجة واثقة: «يا رسول الله! لقد آمنت بالإسلام، وصدقت بك قبل أن تدعوني حيث صِرْتُ إلى رحلك، وما بي في اليهودية أرب، وما لي فيها والدٌ ولا أخٌ، وقد خيَّرتني بين الكفر والإسلام فالله ورسوله أحب إليَّ من العتق وأن أرجع إلى قومي.. وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»..
ودخلت صفية في الإسلام طائعة، مختارة، فعقد عليها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قرانَهُ ولكنه لم يُعرّس بها على الفور لانشغاله في ترتيب الشؤون العامة، بل أنزلها في رحله عزيزة الجانب، موفورة الكرامة، يسعى جاهداً أن يؤمِّن لها الراحة، وأن يُدخل الطمأنينة إلى نفسها، حتى يذهب عنها الحزن والأسى لما حلَّ بها من نكبات ومصائب. فلمّا كان في طريق العودة إلى المدينة، ونزل العسكر في مكان يقال له «تبار» على بعد ستة أميال من خيبر، مالَ، صلى الله عليه وآله وسلم، يريد أن يعرّس بها. فرآها لا تزال في جوِّ ذكر المواقع والحروب والقتلى، فتركها حتى بلغ المكان المسمى «الصهباء» فنزل يأخذ قسطاً من الراحة، فأقبلت صفية عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، تبدي استعدادها وتهيؤها للعرس، مما جعله، صلى الله عليه وآله وسلم، يطلب من أم سليم بنت ملحان ــــ والدة أنس بن مالك ــــ أن تقوم على تهيئتها، وقال لها ولمن كان معها من نساء: «عليكنَّ بصاحبتكنَّ فأمشطنها»..
ونشطت أم سليم للمهمة مسرورة، ولكن لم يكن معهم فسطاط ولا سُرادق، فأخذت عباءتين وشدّتهما وسترت بينهما إلى شجرة، فمشطت صفية وعطَّرتها، حتى إذا فرغت ظهرت صفية عروساً مجلوّة، فقالت أم سليم، إنها لم تَرَ بين النساء أضوأ منها، ولم تشمّ رائحةً أطيَب من رائِحتها منذ ذلك اليوم.
وأُدخلت عروس محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، عليه في خيمته، فقام يستقبلها بوجه يطفح بشراً، ويجلسها بجانبه يحدثها حديث الاطمئنان، ويُقبل عليها بالعطف والحنان، فتستجيب بنفس راضية وبقلب ملؤه السعادة. وبقيت صفية في عالم الأحلام حتى أعادتها كلمات رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الواقع إذ سألها: «ما هذا؟»، مشيراً إلى آثار لكمة قرب عينيها كانت ما تزال باقية، فتنهَّدت طويلاً وقالت: «يا رسول الله، إنِّي رأيت في المنام، ليلة عرسي كنانة بن الربيع وكأنَّ قمراً أقبل من يثرب حتى وقع في حِجري. وفي الصباح أفقت وما زال ذلك الحلم في مخيلتي لا يفارقني، ترتسم صورته أمام ناظريَّ فأحسُّهُ وكأنه حقيقة راهنة أشهدها في اليقظة، مما أشعرني بالسعادة، ورجوت أن يشاركني زوجي هذه السعادة فأقبلت أقصُّ عليه رؤياي في المنام، فإذا به يُجَنّ جنونه بعدما سمع مني ما قلت، وينهالُ عليَّ بالضرب وباللَّكمات واللَّطمات على وجهي مما جعل آثار إحدى لطماته باقية حيث ترى، وكان لا ينفك أثناء ضربه يصرخ بي ويقول: [ما هذا إلاّ أنك تمنين ملك الحجاز محمداً] وما زال بي كذلك حتى أفلتُّ من بين يديه وأنا أبكي من اللَّوعة والحرقة».
وراح النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يطيّب خاطرها، ويخفف عنها وقع ألم الذكرى وهو يتمنى لها بأن يعوّضها الله سبحانه مَن هو خير من كنانة.. فأقبلت عليه سعيدة، تريد أن تدفن كل ماضي حياته في ظلِّه الظَّليل. ثم سأل رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بتؤدة: «ما حملَك يا صفية على الامتناع في المنزل الأول؟»..
فقالت بحزم: «ما حبسني يا رسول الله، إلا خشيتي عليك قرب اليهود»..
إذن فقد كانت المرأة حكيمة، وفية، مخلصة لإيمانها ولرسول دينها الجديد، فخافت عليه من غدر اليهود. ومضت تلك الليلة المباركة، واستيقظ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في الصباح الباكر، فإذا به يسمع حركةً حول خيمته، فيسأل عن صاحب الحركة فإذا به أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، فيخرج الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لملاقاته ويستفسر منه عما أبكَرَ به في تلك الساعة، فيسكت أبو أيوب قليلاً ثم يقول للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «الحقيقة أنني لم أنمْ ليلتي يا رسول الله، وإنما بقيت ساهراً، أطوف حول الخيمة، وقبضة يدي على سيفي، أحاذر كل حركة، وأرقب كل سكنة»..
ولكن ما الذي يؤرق أبا أيوب ويجعله ساهراً متيقظاً، محاذراً؟ فعندما سأله الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عن السبب في ذلك قال: «يا رسول الله! لقد خفت عليك من هذه المرأة، فقد قتل أبوها وزوجها، وأظفرنا الله سبحانه ببني قومها، وأنها لا تزال حديثة عهد بالإسلام، فخفت عليك منها يا رسول الله»..
لقد أفرَحَ هذا الوفاءُ قلبَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وزادَه اطمئناناً، فدعا لأبي أيوب بما يستحق على الوفاء والمحبة قائلاً: «اللَّهمَّ احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني».
وأَزِفَ موعدُ المسير، فأُذِّن في العسكر للعودة إلى المدينة محفوفاً بنصر الله ونعمائه..
وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد رأى ألاَّ تقيم صفية مع إحدى زوجاته فلما وصَلَ المدينة أنزلها في بيت أحد الصحابة «حارثة بن النعمان» حتى يبتني لها حجرة قرب المسجد أسوة بنسائه الأخريات..
فلم يكن زواج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من أم المؤمنين صفية حدثاً عابراً، بل كانت له مقاصده البعيدة التي يرمي إليها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إن من الناحية الإنسانية أو الاجتماعية أو السياسية، وإن كانت تصبُّ كلها في نطاق الدعوة وصالحها، شأنه في الزواج من سائر أمهات المؤمنين قبلها. إلاَّ أن هذا الزواج من صفية بنت حيي بن أخطب قد ارتدى طابعاً خاصاً بالنسبة لنساء المدينة جمعاء، لكثرة ما سمعن عن جمالها وحسن أخلاقها وأدبها. ولذلك أردن بعد نزولها في منزل «حارثة» أن يقفن بأنفسهن على جمال زوج الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، الجديدة، وأن يرينَ عن كثب إن كانت حقيقتها تطابق الأصداء التي ذاعت عنها، فرحن يتوافدن على منزل «حارثة» ويجلسن إلى أم المؤمنين صفية، وكلهن إعجابٌ بما وهبَ الله سبحانه وتعالى لها من حسن الخُلق، وجمال الخَلْق.
وكانت الغيرة قد أخذت من نفس أم المؤمنين عائشة كل مأخذ، حين كانت تسمع ما تتحدث به النساء عن محاسن صفية وجمال خصالها، فصممت على أن تذهب لرؤيتها، وخرجت من منزلها متنقِّبة على حذر، إلاَّ أنها لم تعلم بأن رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان قد رآها أثناء خروجها، وأدرك ما ترمي إليه، فلما عادت دخل عليها يسألها: «كيف رأيت يا شقيراء؟»..
قالت، والغيرة ما تزال تملأ قلبها: «رأيت يهوديَّة»!..
ولكنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، نهاها عن ذلك قائلاً لها: «لا تقولي ذلك فإنها أسلمت وحَسُنَ إسلامها».. وفي الوقت الذي كان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يُعِدُّ لعقيلة بني النضير ــــ أم المؤمنين صفية ــــ بيتها الزوجي، كان يُعِدُّ في الوقت ذاته لبيت زوجي نبويٍّ آخر، يُدخِل فيه زوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب التي كانت قد عادت مع مهاجري الحبشة في صحبة عمرو بن أمية الضمري الذي كان مبعوث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى النجاشي كي يعقد له قرانه على أم حبيبة ويعود بها وبمن بقي في تلك البلاد من المهاجرين الأولين.. وكانت أم حبيبة قبل هجرتها إلى الحبشة قد تزوجت من عبيدالله بن جحش، وأقامت مع زوجها في مكة حتى بعث الله محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، نبيّاً فآمنا به ودخلا في الإسلام، رغم معارضة أبيها أبي سفيان بن حرب، أحد زعماء مكة، وقائد المشركين فيما بعد.. وقد جاءها هذا الأب الكافر، مراتٍ عديدة يقول لها: «ابنتي رملة، اتركي دينَ محمد بن عبدالله وتخلَّصي من هذا الصابىء عبيدالله، وأنا أكفل لك عزة العيش وأجعل أسياد قريش يطلبون يدك»!..
ولكنَّ رملة لم تستجب لتوسلات أبيها، ولا لإغراءاته، ممّا عرَّضها وزوجَها لظلم قريش واضطهادها، حتى إذا حاقَ بهما العذاب، مثل سائر المسلمين، هاجرا مع من هاجر إلى بلاد الحبشة..
وأقامت «رملة بنت أبي سفيان بن حرب» مع زوجها عبيدالله بن جحش في ديار الهجرة ردحاً من الزمن، ثم لم يلبث عبيدالله أن ارتدّ عن دينه الجديد الذي من أجله هاجر، واعتنق النصرانية، دين أهل الحبشة في ذلك الوقت. وسعى عبيدالله أن يَرُدَّ زوجه رملة عن الإسلام، إلاَّ أنها أبتْ عليه ذلك وخذلته شرَّ خذلة، فتفارقا كلٌّ في حال سبيله، لتعيش رملة مع طفلتها حبيبة، وحيدة في تلك الديار، تذوق مُرَّ العزلة والفقر، وتلاقي من الصعاب ما يجعل أيامها تمتلىء بالهموم، ولياليها تثقل بالتعاسة..
وفي خضم هذا الظرف العصيب الذي كانت تعيشه تلك المرأة الصابرة، جاء يوماً من يطرق بابها، فإذا هي جارية قد بعثها النجاشي إليها بأمر هام. ودخلت تلك الجارية حجرة «رملة» تقول لها: «يا سيدتي، إن الملك يقول بأن نبيَّ العرب قد بعث إليه يخطبُك منه، فاختاري من تشائين ليكون وكيلاً عنك في هذا الزواج إن أردتِه»..
وأحسَّتْ أم حبيبة بدوارٍ في رأسها وأوشكت أن تهوي على الأرض مُغمىً عليها.. هل حقاً ما تقول هذه الجارية؟!... سبحانك يا رب!... يا من أنت وحدك قادر على أن تغير بين لحظةٍ ولحظة، الأحوال والأقدار.. أنتَ الإلهُ، وعينُك ساهرة على خَلْقك، فرحماك يا صاحب الرحمة والنعمة...
وهل بعدُ من رحمةٍ أوسعَ وأعظمَ من أن تنتقل أم حبيبة من مآسي الوحدة، ومهانة الاغتراب وذل الفقر إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، فتصير زوجاً للرسول الأعظم محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم؟ إنها حقاً لمفاجأة مذهلة لأم حبيبة، ولكنّها بعد أن أفاقت من الذهول واستيقنت من البشرى، أقبلت على الجارية تخلع سواري الفضة من يدها وتقدمهما هدية لها على بُشراها، ثم لم تلبث أن أرسلت في طلب «خالد بن سعيد بن العاص بن أمية» أحد المهاجرين من بني قومها، لتوكّله بأمر تزويجها.. وجاء خالد بن سعيد يقول للنجاشي بأنه وكيل أم حبيبة، فبعث ملك الحبشة في طلب جعفر بن أبي طالب ليكون شاهداً على عقد التزويج.. وتمَّ العقد وأصدقَ النجاشي أمُّ حبيبة أربعمائة دينار عن النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دعا إليه جميع المسلمين في الحبشة وأولم لهم وليمة الزواج قائلاً:
«اجلسوا وأولموا، فإن سنَّة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعامٌ على التزويج»..
وفي صبيحة اليوم التالي جاءت جارية ملك الحبشة تحمل إلى أم المؤمنين «أم حبيبة» هدايا نساء الملك من عود نَدٍّ وعنبرٍ وطيبٍ، وقد رغبت أم المؤمنين أن تهدي تلك الجارية خمسين ديناراً من صِداقها، إلاَّ أن الجارية رفضت أن تقبلها وقالت لها: «إن الملك قد أجزل لي العطاء، وأمرني أن لا آخذ منك شيئاً، كما أمَرَ نساءه أن يبعثن إليك مما عندهن من طيب، فحملتُه إليك».
ولقد احتفظت أم المؤمنين «أم حبيبة» بتلك الهدايا لكي تحملها معها إلى بيتها بجوار النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي أرادَ أن يعوِّض على ابنة زعيم قريش ــــ أبي سفيان بن حرب ــــ عما لاقته من مرارة الهجرة وقساوة الوحدة والاغتراب، فما رأى إلاَّ رفعها إلى أعلى المراتب بين النساء، وإدخالها البيت النبويَّ زوجةً عزيزةً موفورة الكرامة، عليَّة المكانة أين منها مكانة أبيها بل ومكانة سائر أشراف العالم وزعمائهم..
وعاشت «أم حبيبة» كما عاشت «صفية» مثل سائر أمهات المؤمنين، في كنف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يغدق عليهن من الحنان والرأفة، ومن المحبة والألفة، ما يجعلهن راضيات، هانئات.. ولم تكن أجواء الطمأنينة مقصورة على آل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وحدهم، بل كانت تعمُّ المسلمين جميعاً، ما دام الرسول الأعظم يرعى شؤونهم كافةً بالرعاية ذاتها لأهل بيته، ولا سيما تلك الرعاية الدائمة على التثقيف بأمور دينهم وأحكامه، وترسيخ المفاهيم الإسلامية في مجتمعهم المناهض لمجتمع الجاهلية وعاداتها.
وعاشَ المسلمون في تلك الأجواء الرحبة، ملتفِّين حول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، متحابين، متآلفين حتى لَيندر أن توجد وحدةٌ مثل وحدتهم، أو لُحمة مثل لُحمتهم عند أيٍ من الأمم والشعوب الأخرى.. فكلُّهم على طريق واحد ومصير واحد، وجميعهم يعملون من أجل هدف أعلى مشترك وهو إعلاء كلمة دين الله عزّ وجلّ، بلا تنافر ولا تنابذ فيما بينهم، بل تنافس أبداً على الإخلاص للدعوة، وتسابق على محبة الله ورسوله. وإنّ في جدال عمر بن الخطاب وأسماء بنت عميس (رضي الله عنهما) لأروع مثلٍ على ذلك التسابق.. فقد جاءت أسماء مع زوجها جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الإنسانِ الحبيبِ إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع من جاؤوا من مهاجري الحبشة في صحبة عمرو بن أمية الضمري على سفينتين أمَّنهما عليهما نجاشي الحبشة، ليقيموا مع الأهل والإخوان في المدينة، بعيداً عن الاغتراب والوحدة، ينعمون في ظلال الوحدة الإسلامية، ويحيون بأنفاس اللحمة المحمدية، رغم تفرقهم في الجاهلية إلى بطون مختلفة من قريش وغير قريش، ورغم تباعدهم، قبل دخول الإسلام، في الحسب والنسب.. إلا إنهم الآن جميعاً مسلمون، وليس في مدينة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أجواء إسلامية، قوامها المحبة والتعاون، والألفة، والاجتماع..
وفي هذه الأجواء الطيبة، التقت أسماء بعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) وهي في زيارة لابنته حفصة زوج رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد دخل عمر (رضي الله عنه) عليهما هانىء البال، رخي العيش، يُسلّم والسرور بادٍ عليه.. وكأنه رغب في سروره هذا، أن يلاطف أسماء زوج جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنهما) فقال: «الحبشية هذه، البحرية هذه؟» أي يقصد أنها جاءت من الحبشة منقولةً مع المهاجرين على سفينة في البحر..
وردت عليه أسماءُ، ملاطفةً أيضاً، وهي تقول: «نعم!..».
فتابع عمر (رضي الله عنه) قائلاً: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم»!.
وعندها نفرت أسماءُ وقالت: «كلا والله! كنتم مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يُطعم جائعكم، ويعظُ جاهلكم. وكنا في دار البيداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله ــــ تعالى ــــ ورسوله. وأيمُ الله لا أطعم طعاماً ولا أذوق شراباً حتى آتيَ رسولَ الله وأسأله. لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه».
وقامت أسماءُ من فورها، تأتي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وتخبره بما دار بينها وبين عمر بن الخطاب، وتسأله: أي من المهاجرين أولى بالفضل؟ فقال لها الرسول الأعظم: «ليس بأحقَّ منكم، فله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».
وكان ذلك هو التنافس بين المؤمنين.. تنافس على كسب الفضل والأجر، وعلى محبة الله ورسوله. وفي هذا التنافس موطن الشرف ومؤمل الفخار، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..
هاجروا مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أوفياء، أمناء، فنالوا نعمة الموعظة وشرف الجهاد..
وهاجروا وحدهم لواذاً واحتساباً، فذاقوا ألم العزلة ووحشة الغربة.. ولكنهم عندما عادوا إلى موطن الدعوة، يحملهم الإيمان ذاته الذي ارتحل بهم إلى البعيد، عادوا ينضوون، مثل سائر المهاجرين الآخرين، تحت لواء القائد الأعلى، والرسول الأعظم، ليشاركوا في حمل عبء الرسالة، ويَحْيَوا الجهاد ونُصرة الدين.
فأصحاب الهجرة، وأصحاب الهجرتين، كانوا مسلمين صادقين، ولكنَّ الأجر كان على قدر المشقة والبلاء.. فمن كان له هجرتان فحقه بالأجر والثواب أكثر ممن له هجرة واحدة، وتلك هي حكمة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تنبع من صدق إيمانه وسموِّ فكره، فكفى بهم جميعاً جنوداً لدين الله، أحباءَ لرسوله، وكفى بالمتنافسين في سبيل إعلاء كلمة الله والإخلاص لرسوله اعتباراً وافتخاراً.. نالوا جميعاً الفضل والأجر، فهنيئاً لهم على ما نالوا، ونعيماً لهم على ما استحقوا..
في هذه الأجواء التي تعبق بالإخلاص والتفاني، وفي هذه الرحاب التي تزدان بالمحبة والوئام، عاش المسلمون في ظلال الإسلام، وفي رعاية الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، حياة نقية، طاهرة، تبقى على الزمان مثالاً خالداً لكل أمة أرادت أن تعيش الحياة الحقة، ولكل شعبٍ رامَ المجدَ والسؤدد.. وكيف لا يعتلي الإسلام بأبنائه إلى ذرى المجد، وكيف لا يشُقُّ لهم طريق الحياة الأفضل، وهو يرعى الفرد في أدقّ شؤون حياته مثل رعايته لشؤون الجماعة كلها، وها هي تلك الرعاية تبرز فيما انبثق عن عهد الحديبية من حوادث فردية، وما كان لها من آثار على حياة الجماعة عامة.. فقد تضمن ذلك العهد أحكاماً كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، حريصاً على الالتزام بها بصورة كاملة، إلاَّ أنَّ ما خرج على تلك الأحكام، ولم يكن فيه للفرد الإسلامي أو للجماعة الإسلامية مصلحة، لم يكن ليقيِّد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في شيء، وإن خالف مصالحَ قريش ومآربها.. فإذا كان عهد الحديبية قد قضى بردِّ كل مسلم من قريش يخرج من غير إذن وليه، فإنَّ ذلك العهد لم يتطرق في أحكامه إلى النساء، ولم يأتِ على ذكرهنّ، ولذلك لم يقبل رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن تُردَّ المهاجراتُ إليه من قريش، إن جئنه مؤمنات، مهتديات.. فقد هاجرت بعد الحديبية إليه نسوة كثيرات من قريش، ترفضن البقاء على الشِّرْك مع أزواج مشركين، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط إحدى تلك المهاجرات. ونظراً لمكانة أهلها بين القوم ــــ إذ كان أبوها من أشراف مكة وسادة قريش، وأخوها عثمان بن عفان من الأم ــــ خرج أخواها عمارة والوليد، ابنا عقبة بن أبي معيط، يطلبان إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يردَّها إلى قومها بحكم عهد الحديبية، ولكنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، رفض ذلك، مبيّناً لهما أن العهد لا ينطبق حكمه على النساء، وأن النساء إذا استجرن وجبت إجارتهن، والأهم من ذلك، أن المرأة إذا أسلمت لم تعد حِلاًّ لزوجها المشرك ووجب التفريق بينهما..
ولذلك ردّهما الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يسلِّمهما أم كلثوم، بعد هجرتها إليه مؤمنة.
على أنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقبل المرأة المهاجرة، ويمتنع عن ردّها بعد امتحانها للوقوف على صحة إيمانها. وقوام ذلك الامتحان أن تُستحلف المرأة بأنها لم تهاجر، ولم تفارق زوجها ناشزاً، وإنما هاجرت لله ورسوله، مفَضلَةً الإسلام على كل شيء.. ففي هذه الحالة يصبح من الواجب عدم إرجاعها إلى زوجها الكافر لأنها لم تعد حِلاًّ له، ولم يعد هو حِلٌّ لها.. وفي ذلك نزل قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنْفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْئَلُواْ مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنْفَقُواْ ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
هذه هي أحكام الله سبحانه وتعالى، تسوِّي العلاقات العادلة حتى في حالة الاختلاف في العقيدة وفي نمط الحياة وأسلوب التعايش بين الأمم والشعوب.. فالمؤمن والمؤمنة حقوقُهما مصونة، وكذلك الكافر حقوقُه مصونة، في ظلِّ هذا الحكم الإلهي، عندما يتوجب الافتراق بين الرجل والمرأة.. وتلك أحكام الله ثابتة في شرع الإسلام، ومنها يتَّضح صريحاً أنْ ليس من عقيدة أو مبدأ إلاَّهُ ــــ الإسلام ــــ إن رُمنا عدالةً في الخلق..
على أنه ــــ بالمقابل ــــ كان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حازماً في تطبيق ما نصت عليه معاهدة الحديبية، حريصاً على الإيفاء بجميع شروطها، وذلك انسجاماً مع خُلقه العظيم، وتكريساً منه لإقامة العلاقات السليمة واحترام المواثيق والمعاهدات، وتنفيذ أحكامها دون أي إخلال بمنطوقها عملاً بأوامر الله سبحانه وتعالى، ومنها قوله تعالى:
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} .
فقد أتاه يوماً وهو، صلى الله عليه وآله وسلم، في المدينة، رجلٌ يدعى أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية ــــ حليف بني زهرة ــــ وكان قد أسلم وحُبِس بمكة، إلاَّ أنه استطاع الإفلات، فخرج منطلقاً إلى المدينة، بدون إذن مولاه. وعرف المشركون بأمره، فبعث أزهر بن عوف والأخنس بن شَريق، رجلاً من بني عامر ومولى له إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ومعهما كتاب كي يردَّ أبا بصير إلى قومه. فلما وصله كتاب ذينك المشركَيْن، دعا إليه أبا بصير وقال له: «يا أبا بصير. إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمتَ، ولا يصح في ديننا الغدر، وإنَّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك».
قال أبو بصير: «يا رسول الله! أتردُّني إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟».
فعاد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يؤكد عليه بقوله: «يا أبا بصير! انطلق فإنَّ الله سبحانه سيجعل لك ولمن معَكَ من المستضعفين فرجاً ومخرجاً»..
وامتثل أبو بصير لأمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وخرج مع الرجلين يجرُّ رجليه جرّاً وفي نفسه لوعة وأسى عما ستفعل به قريش بعد إرجاعه لها..
إنه يتصور ما سيلاقي من ألم وشقاء، ويتخيّلُ العذاب الذي سينزل به كي يُفتن عن دينه، فيزيد ذلكَ في آلامه، ويجعله تائهاً عن صاحبَيه اللَّذين يقودانه إلى ذلك العذاب.. وفيما هو غارق في همومه تلك إذا بفكرة تلمع في خاطره، فيتحول فجأة تجهّمُ وجهه إلى ارتخاء، وعبوسه إلى تبسُّم، ويقبل على الرجلَين، محدثاً، ممازحاً، يتذكر ما عنده من طرائف فيحكيها، وما حصل معه من حوادث فيرويها، حتى آنسا منه صُحبةً وسُرّا لرفقة طريقه..
وظل أبو بصير على ثرثرته وتحدثه، حتى بلغوا «ذا الحليفة»، وهنالك أمكنه أن يغافل الرجلين، ويعاجل بامتشاق سيف العامريّ بيده، ثم يهوي عليه بضربة قاتلة، تُردِيْهِ من فوره..
ويلتفت أبو بصير إلى المولى يريد الإجهاز عليه أيضاً، إلاَّ أنه لم يجده بجانبه، فقد رأى ذلك المولى ما حلَّ بالعامري، فانطلق مسرعاً يطلب النجاة بنفسه، وكان قد بَعُدَ كثيراً في طريقه إلى المدينة عندما وقع نظر أبي بصير عليه، فاشتَدَّ في أثره ليلحقَ به..
لقد اندفع ذلك المولى يريد المدينة، فلمّا بلغها توجه إلى المسجد يريد الوصول إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كي يحتمي به ويشتكي إليه، وما إن رآه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مقبلاً على تلك الحالة حتى قال للصحابة من حوله: «إنَّ هذا الرجل قد رأى فزعاً».. فما أن تقدم منه حتى سأله: «ويلك ما لك؟».
قال المولى: «لقد قتل صاحبُكم صاحبي»..
وطلب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من الرجل أن يهدِّىءَ من روعه وأن يخبره بما حدث، فراح يروي ما حصل في الطريق، وكيف قتل أبو بصير صاحبه العامري، وهو لا يكفُّ عن اللهث والتأوّه.. في هذه الأثناء كان أبو بصير قد طلع، متوشحاً السيف، فأسرع يتقدم من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ويَمْثُلُ بين يديه وهو يقول:
«يا رسول الله، قد وفيت ذمتك، وأدّى الله عنك. أسلمتني للقوم وقد امتنعتُ بديني أن أُفتن أو يُعبث بي».. فلم يكن من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أن قال: «ويلُ أُمِهِ، مُسعِر حربٍ لو كان معه رجال»..
فخاف أبو بصير مما قاله رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وشعر بأنه لن يتأخر عن تسليمه إلى قومه، فالتزم بالصمت. ثم خرج من حضرته منطلقاً إلى البراري والطرقات حتى نزل العيص على ساحل البحر، في طريق قريش إلى الشام..
وكان المولى الذي جاء مع العامريّ قد خرج أيضاً عائداً إلى مكة يخبر المشركين بما أصابَ صاحبه على يد أبي بصير، وكيف خرج هذا إلى البراري والقفار لا يلوي على شيء، ولكنه يتمتع بالحرية بعيداً عن الظلم والجَوْر.. وإذا كانت أخبار هذا المولى قد أغضبت قريشاً وأحنقتها، إلاَّ أنها وقعت في مسامع المستضعفين من المسلمين، المغلوبين على أمرهم، مثل النسائم تهبُّ على تائهٍ في وسط الهاجرة، لتشُدَّ من عزمهم، وتجعلهم يتحفّزون لاغتنام الفرص والإفلات من قيود المشركين، هاربين من جورهم إلى البعيد.. وكان أبو جندل بن سهيل بن عمرو أول من استطاع الهرب بعد تلك الحادثة، فلم يأتِ المدينة خوفاً من أن يردّه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى قريش، بل راح يبحث عن أبي بصير حتى اهتدى إليه، فأقام معه.. ومثل أبي جندل خرج كثيرٌ من مستضعفي المسلمين، الواحد تلو الآخر، حتى بلغ عددهم حوالى سبعين رجلاً، التفوا كلُّهم حول أبي بصير وأقاموا معه على مناوأة قريش والتصدّي لها، لا يتركون لها عيراً تمرُّ إلاَّ اعترضوها، يقتلون من استطاعوا من رجالها، ويأخذون ما وصلت إليه أيديهم من أموالها.
وأفزَعَ أمرُ هؤلاء الرجال قريشاً، وهم يغزون قوافلها، ويهاجمون تجارتها، حتى باتوا يشكلون مصدر خطرٍ ليس فقط على الأرواح، والأرباح التي يجنون من تلك التجارة، بل وعلى حياتهم كلِّها، لأنهم إن استمروا في ذلك، فإنهم سوف يحرمون قوافلهم من الخروج، ويوقعونهم في الحاجة والفقر..
ورأت قريش أنها عاجزة عن القضاء على هؤلاء الرجال، فبعثت إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، تسأله بأرحامها إلاَّ آوى هؤلاء المسلمين حتى يتركوا الطريق آمناً، وتطلب إليه الرِّفق بها والعطف عليها حتى لا تقع في التهلكة..
ولكم كان ارتياح رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كبيراً وهو يتبلَّغ رسالة قريش تلك. فهي لا تنطوي فقط على الضعف وقلة الحيلة، بل تحمل أيضاً تنازلاً صريحاً عن الشرط الذي أصرَّت عليه في معاهدة الحديبية وهو أن يردَّ إليها كل من أتاه من المسلمين في مكة بغير إذن وليّه.. نعَم سقط ذلك الشرط، وأصبح الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في حلّ منه، يستقبل من يأتيه من المسلمين مهاجراً من عنت قريش وظلمها، كما يستقبل المهاجرات المؤمنات، بلا قيد ولا شرط..
اطمأنَّ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى سقوط الشرط الجائر، فبعث إلى أبي بصير يطلب إليه القُدُوم ومن معه إلى المدينة، وأن لا يعترض بعد اليوم أحداً من رجال قريش، أو يتعرَّض لعيرها... ولكنَّ أمر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، كان قد بلغ أبا بصير وهو مشرفٌ على فراق الدنيا لمرض أصابه، فتلقَّاه برضًى واطمئنان ثم أغمض عينيه مرتاح الضمير لأنه قدر على أن ينجو من عذاب قريش، وأن يتخلَّص من فتنتها له عن دينه، ثم ينتصب لها هو وأصحابه قوةً تهدد كيانها، وتزرع الأخطار في دروبها، حتى جعلها تذلّ، وتنزل عن تلك الغطرسة التي تتعالى بها وتتفاخر..
ودُفِنَ أبو بصير في المكان الذي كان فيه، ثم ارتحل أصحابه إلى المدينة، نزولاً على أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعادَ طريق الشام آمناً أمام قوافل قريش..
هكذا كانت الأوضاع تسير بعد معاهدة الحديبية، من حسن إلى أحسن، ومن انتصار إلى انتصار.. كل ذلك والإسلام آخذ في الانتشار في الجزيرة، لا تخلو منه بقعة من بقاعها، ولا يغيب عنه حدثٌ من أحداثها.. فقد استوى سلطانه متراميَ الأطراف، بعد القضاء على نفوذ اليهود، حتى عمَّ أقاليم الحجاز كلها، إذ لم تعد قريش تشكل تلك القوة التي تستطيع الوقوف في وجه الدعوة، ولم يعد لليهود ذلك الشأن الذي يعرقل مسيرتها..
* * *


المصادر
1 يعني أقتلكم قتلاً ذريعاً. والسندرة: ضرب من الكيل.
1 سورة البقرة، الآية: 109.
1 فِلِّ محمد: ما بقي من أثر محمد، أي ما تبقى مما أخذ من محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
1 سورة الممتحنة، الآية: 10.
2 سورة النحل، الآية: 91.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢