نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

مَعْرَكة مُؤتَة
سلسلة غزوات الرسول
(7)


مَعْرَكة مُؤتَة



سميح عَاطف الزَّين


بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَمَا أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلْنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}.
وتأييده سبحانه وتعالى:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَل رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

عمرَة القضَاء
وكرّت الأيام، بعد معاهدة الحديبية وغزوة خيبر، يُمناً وبركةً على الدعوة الإسلامية، إذ حفلت الشهور المعدودة التي أقامها بعدهما الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في المدينة بالأعمال المثمرة. فبعد أن أمِنَ صلواتُ اللَّهِ عليه مقاتلة قريش وغدر اليهود، انصرف للبناء الداخلي في مجتمعه، فأخذ يعزّز قواعد التعامل السويِّ بين الناس، ويسنُّ الأحكام العامة وفق وحي السماء، أو كما يهديه إليها عقله النيِّر، ثم يستقبل الوافدين إليه إيماناً بالإسلام واقتناعاً بنبوَّته، وذلك كله من غير أن يهدأ تفكيره في الطرق والوسائل التي من شأنها إيصال الدعوة إلى جميع الأقطار والأمصار البعيدة، فيرسل الدعاة ليتصلوا بالناس يدعونهم إلى دين التوحيد، دين الإسلام العظيم.
على أن تلك الشهور لم تكن لتخلو من بعض المناوشات التي كانت بعض قبائل الأعراب تتجرأ على القيام بها طمعاً في الغنيمة والسلب، فيسيِّر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، السرايا لتأديبها وإبعادها عن طرق القوافل والناس وعن شتى أنحاء الجزيرة التي أصبحت تحت نفوذه، وذلك لكي يكون في تأديب تلك القبائل عبرة لغيرها فتستقر الأوضاع، ويسود الأمان والاطمئنان في سائر الربوع والمناطق.. وإذا كانت تلك السرايا قد أدت إلى استشهاد بعض المؤمنين المجاهدين، فإنَّ ذلك أمر طبيعي، لأنه ما من قتالٍ ينشب أو حرب تقع، أو احتكاك مسلح يحدث، إلاَّ ويكون من النتائج إصابة أو موت أشخاص كثيرين من فرقاء النزاع.
وفيما عدا تلك المناوشات، ظلت الدعوة الإسلامية طوال السنة السابعة للهجرة، تسير من حسن إلى أحسن، ومن تقدم إلى تقدم، ومن توسع إلى توسع، مكرِّسة هيبة الدين في النفوس، موطِّدة دعائم الإيمان في القلوب. وبانقضاء تلك الشهور كان الحَوْل قد دار على عهد الحديبية، وحان الموعد لخروج المسلمين حاجِّين إلى بيت الله الحرام، كما قضى ذلك العهد. فما إن أهلَّ شهر ذي القعدة من السنة السابعة حتى أعلن رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الاستعداد إلى عمرة القضاء، على أن لا يتخلف عنها أحدٌ ممَّن شهد الحديبية..
وهذا الإعلان جعل الفرحة تعمر القلوب وتنعش النفوس.. فها هي الفرصة قد وأتت لرؤية ذلك البيت المقدس الذي غُرست محبته في قلوب المؤمنين فلا تفارق صورته الأذهان أبداً. وها هي الأماني التي ساروا في العام الفائت لتحقيقها تعود من جديد لتحفزهم على السير وتشدهم إلى الذهاب معتمرين..
واندفع جميع المؤمنين، من أصحاب الحديبية، يتهيأون للخروج الميمون ولم يتخلف منهم أحد قطُّ إلاَّ من كان الله سبحانه قد توفاه أو أناله الشهادة في خيبر أو في سرية من السرايا أو أي عمل كان يقوم به مؤدياً فريضة واجب الجهاد المقدس.. وقام مع هؤلاء المؤمنين جمعٌ من المسلمين ممن لم يشهد الحديبية يُبدي رغبته في زيارة المسجد الحرام، فصار العدد كبيراً حتى بلغ حوالي الألفين من الرجال عدا النساء والفتيان والأولاد.
ولم تدم فترة التهيؤ تلك طويلاً، كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في آخرها قد استخلف على المدينة أبا ذر الغفاري (رضي الله عنه). فما هي إلاَّ أيام معدودات حتى أقبل يوم المسير، فأحرم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على باب المسجد، ثم خرج في تلك الجموع على هدى الله وبركاته..
وسار ذلك الركب الإسلامي يتدفق على الطرقات بأعداده الغفيرة، ويملأ الأجواء بتلبياته ونداءاته.. خرجوا معتمرين ينشرون في الدروب البرَّ والسلام، ويمضون عازمين، متقلدين السيوف والدروع والرماح، لا تنكّراً لعهد الحديبية وهو يقضي بألا يحملوا معهم إلاَّ السيوف في أغمادها، ولكن حذر غدر قريش ولؤمها، لأن تجارب الماضي تشهد بأنَّ هؤلاء القوم لا يتورعون عن ارتكاب الذميمة، وافتعال الشر إذا وجدوا الظروف مؤاتية، والأوضاع مساعدة.. ويسوقون معهم من الهَدْي ستين بُدْنةً، ويقودون من الخيول مئة، لا ليُرجفوا بها على أولئك القوم، وإنما تماشياً مع واجب الحيطة واليقظة، وإعلاناً عن هيبة الدعوة وعلوّ شأوها..
أجل، كانت وجهة الركب زيارة بيت الله الحرام، فلا قتال، ولا حرب، بل البيت الحرام وحده مقصدهم.. ولكن ما إن بعدوا عن المدينة قرابة سبعة أميال، وبلغوا جوار إحدى القرى، حتى دعا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إليه كلاً من قائد السلاح بشير بن سعد، وقائد الخيالة محمد بن مسلمة، وطلب إليهما التقدّم طليعةً للمسلمين على ألاَّ يتخطيا بمن معهما حرم مكة، وأن ينحدروا إذا هم بلغوا مرَّ الظهران إلى وادٍ قريب منها. ومضت خيول المسلمين تلك، تغذُّ السيرَ حتى بلغت الأماكن التي عيَّنها لهم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا بهم يلتقون نفراً من قريش، ما إن رأوهم حتى أرجفهم الخوف، وأربكم الفزع، فطمأنهم المسلمون قائلين: «لا تخافوا، ولا تجزعوا: هذا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يصبّح هذا المنزل غداً إن شاءَ الله»..
ولكنَّ ذلك الاطمئنان لم يهدّىء من هلع قلوب نفر قريش، فخلُّوا المكان وسارعوا إلى مكة يخبرون قومهم بأن المسلمين قادمون بالخيول والسلاح، فإذا الخوف يعمُّ أرجاء مكة كلها، فيقول بعضهم لبعض: «والله ما أحدثنا حدثاً! وإنا لعلى كتابتنا ومعاهدتنا، ففيم يغزونا محمد وأصحابه؟»!.
وكان الركب قد وصلَ إلى حيث نزل الفرسان وحاملو السلاح، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بإناخة الرحال لأخذ قسط من الراحة. أما قريش فكان قد استبدَّ بها القلق، فعاجلت توفِدُ مكرز بن حفص في عدد من الرجال كي يلتقوا محمداً، ويسترحموه، مذكِّرين بالعهد القائم، وبحفاظهم عليه لا يبتغونه نقضاً، ولا يرجون قتالاً.. وجاء ذلك الوفد يعرض على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، استرحام بني قومه، قائلين: «يا محمد! ما عُرِفْتَ صغيراً ولا كبيراً بالغدر، تدخل بالسلاح على قومك وقد شرطت لهم ألاَّ تدخل إلاَّ بسلاح المسافر، السيوف في القرب!».. فتبسَّمَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بلهجة الصادق الواثق: «لا أدخل عليهم إلاَّ بالسيوف». ولما سأل وفدُ قريش عن السلاح، عرفوا أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، سوف يضعه خارج مكة، ولن يدخل به حفاظاً على عهده. عندها أحسَّ ذلك الوفد بأن كلمات رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد نزلت على قلوبهم برداً وسلاماً.. إنه يقول لهم: لم يأتِ غازياً، ولا يريد قتالهم، وهم قد عرفوه صادقاً، لا يقول إلاَّ صدقاً، ولا يفعل إلاَّ حقاً، فما دام يطمئنهم، فليطمئنُّوا!.. نعم لقد هدأ الخوف في نفوس وفد قريش، فالتقط رئيس الوفد «مكرز» أنفاسه، فقال للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «وهذا الذي تُعرف به من البر والوفاء».. ولم يعتِّم أن قام يدعو أصحابه بالعودة، ليقول لبني قومه: «يا معشر قريش! إن محمداً على الشرط الذي شرط لكم.. فلا تخافوا، ولا تجزعوا، فما محمدٌ بالذي ينقض عهوده، ولا بالذي يخون أمانته، إنه جاء معتمراً وحسب، وهذا من حقه، فعليكم أن تفوا أنتم بعهدكم وتفسحوا له في الطريق، بلا مضايقات، ولا خبث ولا مكيدة»!..
آمنت قريش بعد عودة مكرز بن حفص أنَّ ما جاء إليه محمد لا يتعدّى زيارة الكعبة، فجلا أشرافها وسادتها عن مكة نزولاً على صلح الحديبية، وصعدوا إلى التلال المجاورة حيث ضربت الخيام وقبعوا ينتظرون.. وإذا كان صلح الحديبية قد شرط على قريش بأن تجلو عن مكة عند دخول محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه إلى الكعبة، فإنّه كان في نفوسهم من الضغينة والحقد ما هو أقوى من شروط المعاهدات، وبنود المواثيق، فمشاعرُ الكراهية تلك هي التي أبت عليهم البقاء في مكة، فقد كانوا يقولون بعضُهم لبعض: «لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه».. وليت معشر قريش جرَّبوا، فبقوا في مكة، لوجدوا أن نبيَّ الإسلام لا يمنع عليهم ذلك البقاء، بل كان يفضله لأنَّ فيه ما قد يؤلف القلوب، ويبعد التنافر.
إذن السادة والأشراف من قريش يعمهون في حقدهم وكراهيتهم، ولكنَّ آخرين غيرهم كان يملأ نفوسهم حب الشماتة، والرغبة في الاستهزاء من المسلمين، بعدما أشيع في مكة بأن المسلمين قد أصابتهم الحمّى فأنهكتهم، فجاؤوا هزالاً، ضعافاً.. ولذا آثرت هذه الجماعات الأخرى البقاء في مكة لرؤية حالة أولئك الضعاف العجاف وما فعل بهم المرض، أو ما نزل بهم من الإنهاك والتعب.. ولكن سرعان ما تغيّر رأيهم وهم يرونهم على خلاف ما تناهى إليهم.. فها هُمُ المسلمون يدخلون مكة بوجوهٍ تطفح بالحيوية، وبأجساد تمتلىء صحةً وعافية، وسواعد مفتولة، ونفوس قوية، أقلَّ ما يبين على أصحابها ذلك الإيمان الذي به يستقوون..
ونظر أهل مكة إلى هؤلاء الأصحاء، الأقوياء، فإذا بالمنظر يغريهم ويُسْلِمُهم إلى التأمل والعجب.. وكيف لا يعجبون لرؤية أناسٍ يحفون بالنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، فوق ناقته القصواء، وهم يحيطون به بأجسادهم وقلوبهم، لا يتوشحون إلاَّ بالسيوف، ولا يتنقلون إلاَّ بالتوثب، ولا يغريهم شيء من عرض الدنيا إلاَّ محبة هذا النبيِّ الكريم وبلوغ بيت الله الحرام؟!...
ويسير الموكب متهادياً في أرجاء مكة، وأصوات أصحابه تعجُّ بالتلبية لله العلي القدير، الذي منَّ عليهم بهذه العمرة: «لبَّيك اللَّهم لبَّيك».. ويكون عبدالله بن رواحة آخذاً بزمام ناقة النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، فتأخذه نشوة الفرح، ويملأه الحماس، فيندفع راجزاً في سيره أمام الناقة:
خَلّوا بني الكُفَّار عن سَبيله
خلّوا فكلُّ الخير في رسوله
قد أنزل الرَّحمنُ في تَنْزيله
بأن خير القتل في سبيله
يا ربّ إني مؤمن بقيله
إني رأيت الحق في قبوله
اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
ويرى الرسول في إنشاد عبدالله ما ينمُّ عن صيحة حرب، فيأمره قائلاً: «مهلاً يا ابن رواحة! وقل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وخذل الأحزاب وحده».
فنادى بها ابن رواحة بأعلى صوته، وردَّدها المسلمون من بعده بقوة وحماسة، فتجاوبت بأصدائها جنبات مكة كلها، وارتفعت رهبتها إلى قلوب أولئك الحانقين الذين أبوا إلاَّ أنْ يفارقوا بيوتهم لئلا ينظروا ويسمعوا، فيأبى الله سبحانه إلاَّ أن يُسمعهم ما يشاء، وأن يريهم ما يريد رغماً عنهم، وخلافاً لإرادتهم.
لقد كان المشهد فذاً في التاريخ، لم تقع عيون أهل مكة على مثله قط، وكان النداء المنبعث من القلوب، والمدوّي في الآفاق «لبَّيك اللَّهم لبَّيك» يخترق آذانهم بما لم يسمعوا مثله أبداً.. ويبقى ذلك المشهد حافلاً بروعته وبهائه حتى يبلغ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، المسجد، فينزل عن ناقته، ويلتف بردائه، ثم ينتقل بخطوات ثابتة وئيدة حتى يلامس الركن عند الحجر الأسود، فيقول: «اللَّهم ارحم امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة»! ثم لمَّا وصل إلى الركن اليماني راح يمشي والجموع معه تمشي بسبعة أشواط، في طوافٍ كانت تحفل به نفوس أصحابه بإيمان عامر، وقوة بادية، وكانت تنظر إليه قريش من فوق التلال، ويرقبه أهل مكة في صفوفهم المكتظة، فيأخذهم منه جميعاً البهر من كل مكان، فيقولون بعضُهم لبعض: «أهؤلاء الذين تزعمون أن الحمّى أضعفتهم؟.. إنهم لينفرون كما تنفر الظباء»!. وبذلك أدركت قريش أنها تشهد وترى ما يمحو من أفئدتها كل وهم بوهن محمد وأصحابه..
ولما أتمَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون الطواف حول الكعبة المباركة، انتقل بهم إلى السعي ما بين الصفا والمروة في سبعة أشواط، حتى إذا أتمّوها، وقف، صلى الله عليه وآله وسلم، يدعو إلى نحر الهَدْي قائلاً: «هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر».. ونُحِرَ الهديُ عند المروة، وشارك في النحر مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كل من شهد الحديبية مسلماً. وما كادوا ينتهون حتى حلق النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، رأسه، وحلق أصحابه، متممين بذلك فرائض العمرة. عندها بعث، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى «بطن يأجج» قرابة مائتين من المسلمين لكي يقوموا على حراسة الخيل والسلاح حيث تركوها خارج مكة، بدلاً من إخوانٍ لهم كانوا يحرسونها، فلا يفوت على هؤلاء القيام بمناسك العمرة أسوةً بسائر المسلمين المعتمرين.
وأقبل بعد ذلك رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الكعبة، وفي قلبه شوق للتفيّؤِ في ظلالها، وفي نفسه توق للإخلاد إلى السكينة في رحابها.. أوليست الكعبة بيت الله الآمن، وزيارته مباحة لكل قبائل العرب وأبنائها؟ فلِمَ تتعنَّتُ قريش إذن في حرمان محمد وأصحابه من دخوله؟ ولِمَ هذا الظلم والعدوان على المسلمين؟!.. ولكن إذا أمكن لقريش ذلك فيما مضى فإنَّ الله سبحانه أبى إلاَّ أن يخذلها، وأن يدع رسولَه الكريم يعود إلى بيته الحرام معزَّزاً مكرَّماً.. وها هو ذا الرسول الكريم يدخل الكعبة على مرأى من قريش، فيدور في أرجائها، ويتلمَّس مواضع الطهر والعبادة التي كان يقضي فيها كل يوم شطراً من أوقاته، ثم يجلس مستنداً إلى ركن من أركانها وهو يتلو قرآناً كريماً تتردّد أصداؤه في جنبات البيت الحرام آياتِ حقٍّ أنزلت من السماء، لتعيد ذكر الله كما فعل إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) وكما يفعل خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ليبقى هذا الذكر خالداً ما دامت الأرض أرضاً، والسماءُ سماءً..
وظلَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في محرابه ذاك قائماً على ذكر الله العلي القدير، غير آبهٍ بتلك الأصنام والأوثان المنصوبة في جوف الكعبة تعلن عن أباطيل الكفر والشرك، حتى يحين موعد صلاة الظهر، فيدعو بلالاً ليصعد فوق ظهر الكعبة ويؤذن للصلاة!.
وترددت في أرجاء مكة تلك الكلمات الخالدات: الله أكبر، الله أكبر.. وتلك الدعوات الصالحات: حيَّ على الصلاة، حَيَّ على الفلاح.. فترتجف أوصال قريش، وترتعد فرائصها لهذا الأذان، يرتفع عالياً فوق ظهر الكعبة، التي تستمدُّ منها المكانة بين العرب، والسيادة بين القبائل، فتحسُّ بالقهر والذلّ، وتأبى حتى على جوارحها أن تسمع وأن ترى، فيضع بعضُهم أصابعهم في آذانهم يسدونها، ويغطي آخرون وجوههم بأيديهم يحجبونها، كما فعل سهيل بن عمرو وجماعة معه..
ثم لا تقف قريش في غلوائها ضد نداء الحق عند هذا الحد، بل يدفع الضيق والغيظ بعض أبنائها للتعبير عن مشاعرهم الحاقدة بما يخالف كل مألوف في التصرف قولاً وفعلاً، فيقول عكرمة بن أبي جهل، ذاكراً في هذا الموقف عداوة أبيه للإسلام: «لقد أكرم الله أبا الحكم (يعني أباه) فلم يسمع هذا العبد (بلالاً) يقول ما يقول»!.. ومثله يذكر صفوان بن أمية أباه في حقده ضد الدعوة فيقول: «الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى ويسمع هذا الذي نراه ونسمعه»..
ويتمثّل بهما خالد بن أسيد، فيقول: «الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم ابن أم بلال ينهق فوق الكعبة»..
آذى المشهد القرشيين ووقر آذانهم، فلم يطيقوا صبراً على احتماله، فاجتمع نفرٌ منهم بعدما تشاوروا، وأتوْا رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حانقين، قائلين: «يا محمد! إنَّ هذا لم يكن في شرط الحديبية».. فردَّهم الرسولُ الأعظم خاسرين، وهو يعلن لهم أن صُلح الحديبية يخوِّله زيارة المسجد الحرام مع ما تحمل هذه الزيارة من حق للمسلمين في إقامة شعائرهم الدينية: عمرةً، وصلاة، وأَذاناً، ونحراً، وأنَّ منعهم من الأذان فوق ظهر الكعبة هو النقض نفسه لمعاهدة الحديبية، فلتكفَّ إذن قريش عن دعواتها الباطلة، وعن افتراءاتها الجوفاء، لأنها لن تجد أي جدوى من ذلك..
واحتملت قريش آلامها على مضض، واعتصرت حقدها على كيد حتى تنقضي الأيام الثلاثة لإقامة المسلمين في مكة طبقاً لما نصّت عليه معاهدة الحديبية، فلاذت بالسكون، ولم تحاول التحرّش بالمسلمين مرة أخرى.
وانطلق المسلمون أثناء مكوثهم في مكة، يروحون ويجيئون آمنين، لا يجرؤ أحد من المشركين على التصدّي لهم بشيء.. على أنه لم تكن هنالك من حاجة لمثل ذلك التصدي، فهؤلاء المؤمنون لا يأتون من الأعمال إلاَّ ما يدل على البر والتقوى، ولا يتحدثون إلاَّ بما يعبِّر عن القيم والمثل، وهم في ذلك كله مثال الإخلاص لدين الله، ونبراس المحبة لرسول الله.
وما كانت خصال المسلمين الحميدة، وأخلاقهم الفاضلة، إلاَّ لتؤثر في المشركين، فتبهرهم وتدهشهم، فإذا بهم يعجبون بهم حقاً، بل وتمتلىء نفوسهم إعجاباً فيتساءلون:
ماذا فعل الإسلام بهؤلاء الناس؟!..
لم يكن المسلمون يوم هجرتهم من مكة إلاَّ بضع أشتات، يحوطهم الضعف، وينزل عليهم الأذى والعذاب، يفرون من ظلم قريش لهم، ويهربون من استبدادها بهم، فإذا بهم اليوم يعودون، وقد بدّلوا الضعف بالقوة، والشتات بالوحدة، والظلم والاستبداد بالمحبة والتسامح.. إنهم يبدون متآلفة قلوبهم، موحدة أهدافهم، لا اختلاف بين العصبيات، ولا أحقاد بين القبائل حتى أشدّها عداوة في ماضي أيامها، لا يغرّهم تفاخر ولا يوزعهم تدابرٌ، بل تلفّهم إلفةٌ واجتماعٌ، وهم على نهج واحد، ومسيرة واحدة..
نعم هذا ما فعله الإسلام بهؤلاء الناس. وهذا ما سعى إليه محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، وجهد من أجله، إذْ أمكنه حقّاً، بفعل إيمانه وقوة عقيدته، أن يجمع الناس في هذه الوحدة المتماسكة، وأن يجعل قوامها هذا التعاطف والتساند، وأساسها هذا التحرر من الوثنية، والعبودية لله الواحد الأحد.
ذلك ما ظهر لأهل مكة جلياً واضحاً، فقالوا: إنه والله لَدِينُ حق، وإنه لنبيٌّ كريم.. أما سادة قريش فقد أخافتهم مشاعر الناس، وأوجفتهم أحاديثهم فقالوا: لئن بقي محمد وأصحابه في ديارنا ليفتنوننا عن ديننا فلا يبقى أحد في مكة إلاَّ وتَبعَ دينَهُ، فالخير في رحيله عنّا قبل أن يطغى علينا المدُّ وتفرقنا أمواجه الدافقة!.. ولذا، ما كادت الأيام الثلاثة تنقضي حتى أتى سهيل بن عمرو وحويطب بن عبدالعزى، موكَليْن من القوم، يقولان للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «يا محمد! لقد انقضى أجلُك فاخرج عنا».
فقال لهما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «وما عليكم لو تركتموني، فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه».. إذن فالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يعرض تمديد إقامته في مكة!.. ولكن إلى ماذا يرمي من وراء ذلك، وما هي مقاصده؟!..
لقد كانت لإقامة المسلمين وعلى رأسهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في مكة خلال تلك الأيام القليلة آثارها البالغة على الناس، مما جعلهم يتأثرون بالمناقب التي أبدوها وبالخصال التي أظهروها.. وكانت أشدّ الناس تأثراً «برّة بنت الحارث بن حَزْنٍ الهلالية» (أبوها أحد أشراف مكة، وأمها هند بنت عوف) فهي سيدة اشتهرت بالفضل والنسب الرفيع، وهي خالة خالد بن الوليد.
كانت «برة» إحدى أخواتٍ أربع، إحداهنَّ أم الفضل لبابةُ، زوج العباس بن عبدالمطلب، أول امرأة آمنت بالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أم المؤمنين خديجة الطاهرة (عليها السلام).
في بيت هذه الأخت المؤمنة، الشجاعة، عاشت «برّة» إثر فراقها عن زوجها «مسعود بن عمر» بعدما استحكم الخلاف بينهما على الإسلام، إذ كانت تريد أن تؤمن ويؤمن معها زوجها، ولكنه ركب الضلالة والبغي وأبى عليها وعلى نفسه الهدى حتى انتهى بهما الأمر إلى النزاع والافتراق، فذهبت تعيش عند أختها أم الفضل حتى كانت عمرة القضاء، ورأت من أحوال المسلمين ما أعجبها، ومن شأن النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ما جعل قلبها يقفز بين جنبيها تقديراً وحباً. وأفضت «برّة» بمكنون قلبها إلى شقيقتها أم الفضل، ورجتها ملحّة أن تتدخل لدى زوجها العباس ليحدثه بأمر أختها وأمنيتها في الزواج منه لتحظى بالمكانة الرفيعة، والشرف العظيم: زوجة لسيد الخلق وأمّاً للمؤمنين..
ولم يتردّد العباسُ في عرض ما تودُّه «برّة» على ابن أخيه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وما تطمح إليه، فلاقى ذلك قبولاً عند النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، فطلب إليه ابن عمنه جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهو زوج أخت «برّة» من أمها أسماء بنت عميس الخثعمية، وبعثه فخطبها له، ثم تولى العباس من بعد ذلك أمر تزويجها، وهو الذي دفع صداقها أربعمائة درهم.
ورأى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ألاَّ يعرس في مكة إلاَّ بعد انقضاء الأيام الثلاثة المتفق عليها لمكوثه وأصحابه، علَّه يقنع قريشاً بتمديد الإقامة بعد تلك الأيام بغرض تأليف القلوب، وزيادة عُرى التواصل، وانتزاع كوامن الحقد من نفوس هؤلاء القوم، وفي سبيل ذلك كله طلب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، من مبعوثيْ قريشٍ أن يُعرّس بين أظهرهم، ويدعوهم إلى وليمة العرس..
ولكنَّ ذينك المبعوثين رفضا ذلك بعناد وإصرار.. إذْ أدركا بأن مكة ستفتح ولا شك أبوابها طائعة لمحمد إذا امتد مقامه فيها، لأن اجتماعه بالناس في جو الوليمة الهادىء، والتحدث إليهم في نشوة الأنس سيجعل الوشائج تعود بينه وبينهم، إذ إنه قادر على أن يملكهم بقوة نفسه وسحر بيانه، وأن يزيل ما بينه وبينهم من حواجز جهدت قريش في إقامتها طوال سنواتٍ سبعٍ حتى تبعد الناس عنه، وتمنعهم من الوصول إليه. ولذلك قالا: «لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا، ننشدك الله والعهدَ الذي بيننا وبينك، إلاَّ خرجت عن أرضنا فهذه الثلاث قد مضت».
وأثارت هذه الغلظة سعد بن عبادة سيد الأنصار، فقال: ما بال هذين الرجلين يعرض عليهما رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، المودة والقربى وهما لا يبديان إلاَّ المكابرة والمباعدة؟ ثم قام غاضباً إلى سهيل بن عمرو يصرخ في وجهه: «كذبت لا أمَّ لك، لسنا بأرضك ولا أرض أبيك، والله لا يبرح منها إلاَّ طائعاً راضياً». فابتسم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لسعد:
«يا سعد.. لا تؤذِ قوماً زارونا في رحالنا»..
وقد كان قول النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، هذا حسماً للموقف، وإعلاناً منه بالرحيل عن مكة، موفياً بذلك ذمته لما عاهد به قريشاً، ومثله من يفي بالذمم والعهود.
وأذّن مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالخروج من مكة، بعدما خلّف وراءه مولاه «أبا رافع» ليلحق به في صحبة زوجه «برة بنت الحارث» التي أبى عليه القوم أن يعرس بها بين ظهرانيهم..
وما كادَ موكب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يتحرك في المسير، حتى سمع الناس ورأوا فتاةً تركض وهي تصرخ: «يا عم!.. يا عم!..»..
فقد كانت تلك الفتاة عمارة بنت سيد الشهداء، حمزة بن عبدالمطلب، التي وقفت ترقب خروج الموكب النبويِّ وفي عينها دمعة، وفي فؤادها لوعة، تذكر أباها وتتمنَّى لو كان في هذا الركب!. فهي لا تستطيع أن تحبس نفسها عن اللحاق بسيده حين تراه يذهب إلى البعيد وبجانبه علي (عليه السلام) يرافقه.. وحانت من علي (عليه السلام) التفاتة، فرأى عمارة بنت عمه حمزة فأخذها من يدها ثم دفعَها إلى زوجه فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقال: «دونك ابنة عمك لحمايتها، فإنا والله لا نترك ابنة عمٍّ لنا يتيمة بين ظهراني المشركين».. وسُرَّ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك، وبدت السعادة عليه، فأمر بأن يؤتى بأم الفتاة، سلمى بنت عميس، كي تخرج مع المسلمين، بدل أن تبقى وحيدة في مكة، محرومة من الزوج والإبْنة، وأن تظل بلا أنيس، مهيضة الجناح كسيرة الخاطر، وقد كانت زوجاً لأشهر فتيان قريش وأشجعهم..
نعم، تخلّف مولى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أبو رافع بعضاً من الوقت في مكة حتى هيّأت «برّة» نفسها، ثم عادَ وأدرك الركب في محلة «سرق»، وهنالك أعرس النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بزوجه، وأبدل اسمها من «برّة» إلى «ميمونة» لأنه رأى في زواجه منها مناسبة ميمونة عليه وعلى المسلمين، إذ أمكنهم الله تعالى بهذه المناسبة من دخول مكة وزيارة المسجد الحرام بعد حرمان سبع سنين بسبب تعنت قريش وصلافتها.. ومنذ ذلك الحين أغفل الناس اسم «برّة» لينادوا أم المؤمنين بالاسم الجديد الذي أعطاها إيّاه رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو: «ميمونة».. وقد فرحت أم المؤمنين باسمها الجديد، ورأت فيه حقّاً يمناً وبركة..
لم يكن مجيء عمارة بنت حمزة (رضي الله عنه) حادثاً عابراً بالنسبة إلى بعض الصحابة الأبرار. فقد رأى نفرٌ منهم في مجيئها ما يواسي الألم في نفوسهم على فراق أبيها، وما يدخل السعادة إلى قلوبهم بقربها منهم. ولذلك جاءَ كل من جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، يطلبها من علي (عليه السلام) حتى تقيم معه موفورة الكرامة، عزيزة الجانب، كما هي عند علي (عليه السلام). إلاَّ أنه امتنع عن التنازل عن فراقها راضياً، مما جعل هؤلاء الصحابة يأتون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتكمون إليه بأمر عمارة، وكلٌّ يدعي أنه أحقُّ بها من الآخَرين..
فأما علي (عليه السلام) فقد كان يريد الاحتفاظ بها عنده لأنها ابنة عمه حمزة، وهو الذي أخرجها من عند المشركين فله ولاؤها وولايتها.. وكانت حجة زيد أن عمارة هي ابنة أخيه، لأن الرسول آخى بين حمزة وزيد وقت المؤاخاة بين المسلمين، فهو أحق بأن يكون وصيّاً على ابنة أخيه وأولى الناس بها.. وأما جعفر بن أبي طالب فإن عمارة ابنة عمه، وإن مقامها مع زوجه أسماء بنت عميس هو آنس لها لأنّها أخت أمها سلمى بنت عميس، وهذه الخالة أحنى عليها وأقرب إلى القيام على رعايتها.
وقد عَرَض أولئك الصحابة حججهم، وأبانوا محبتهم، فكان حكم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بينهم أن قال: «أما أنت يا زيدٌ فمولى الله تعالى ومولى رسوله.. وأما أنت يا علي فتشبه خَلقي وخُلقي.. وأنت يا جعفر أولى بها لأنَّ خالتها زوجتك ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها».. لقد قضى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعمارة بنت حمزة لجعفر (رضي الله عنه) مؤثِراً واجب الحكم الشرعي على العواطف والأحاسيس لأنه لو أرادَ أن يكون للمشاعر المكان الأول لكان هو، صلى الله عليه وآله وسلم، أولى الناس بها وباحتضانها، إذ كانت عمارة ابنة أخيه حمزة في الرضاعة، كما أفصح له، صلى الله عليه وآله وسلم، وأبان للصحابة: «وهي ابنة أخي من الرضاعة»، وإنه لا يمكن أن ينسى عمَّه حمزة وهو يقف إلى جانبه في الشدة، ويجاهد معه في سبيل الله، حتى استشهد في «أُحُد» فحزن عليه حزناً شديداً، وبكاه وتأثَّر جدّاً لِمّا لم يكن له بواكي في المدينة.. إن ذكرى هذا العمّ المجاهد باقية في نفسه، عزيزة عليه، فلمّا جاءت ابنته إلى المدينة أرادَ أن يعوضها عما عانته من فقدان الأب، ومرارة اليتم، فأحاطها بالرعاية والحنان وإن كانت في بيت جعفر (رضي الله عنه) الذي أسبغ عليها من المحبة والألفة ما جعلها تطمئن إلى الحياة، ثم لم يشأ إلاَّ أن يُكمل سعادتها، فاختار لها «عريساً» يليق بها، ورجلاً يحفظ كرامتها ويحبها، فزوجها من سلمة بن أبي سلمة مؤمّناً لها مصيرها ومستقبلها..
إنَّ هذا الحدب المحمديَّ على ذوي القربى لا يعادله إلاَّ التفاته الدائم واهتمامه بشؤون كلِّ فرد من أفراد المسلمين.. وإذا كان هذا الاهتمام في الشؤون الفردية هو نهجٌ دائم لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لم يمنعه أبداً من أن يكون محور فكرِهِ الشأنُ الأكبر والأهمُ، شأن الأمة بأسرها في رعاية شؤونها كافة وإقبالها على الدعوة تحفزها تلك التربية الإسلامية التي يعمِّق الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، جذورها في النفوس: تعاليم هداية، ومصابيح نور، تشعُّ على الناس حيثما كان المسلمون وأينما وجدوا..
وتلك التعاليم، وإشعاعات ذلك النور، هي ما بهرت أهل مكة في عُمرة القضاء.. وإذا كانت هذه العمرة قد سمِّيت عمرة القصاص، لأنها كانت نوعاً من القصاص بسبب صدّ المشركين للمؤمنين عن العمرة، وزيارة المسجد الحرام، إلاَّ أنها تبقى في جوهرها تحلّق في نورها القدسي وهو يعكس على أهل مكة سيرة الإسلام، إذ يرون أثناءها أناساً لا يسيرون إلاَّ سيرة هذا الدِّين، فيؤدون إلى الله تعالى كل يومٍ صلواته، ولا يأتون معصية، ولا يغريهم الطعام ولا الشراب، ولا تفتنهم في الحياة فتنة! إنهم {لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.. هذا هو الإسلام وهؤلاء هم المسلمون، وما داموا على تلك السيرة، فلا بدّ إلاَّ أن يؤثِّروا في أهل مكة، فكانَ أن هوت إلى الإسلام نفوسهم، وأدركت عقولهم بأنه الدِّين الحق، وبأن نبيَّه صادق مصدّق.. صحيح أن كثيرين من قادة قريش قد جانبت نفوسهم دعوة الحق التي يبشر بها المسلمون، وأعرضوا عن أسباب الإيمان والمودة والرّحِم التي عرضها عليهم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أنَّ آخرين منهم قد سرت تلك الدعوة إلى نفوسهم، وزادهم تطلُّعاً إليها ما يرون من علاء الإسلام وسموّه، ومن هبوط مكانة قريش وأفول نجمها.. وكان من بين هؤلاء الذين هفت نفوسهم إلى الإسلام، ثلاثة رجال معروفين في قريش: خالد بن الوليد بطل المشركين في أُحُد، وعمرو بن العاص مبعوث قريش إلى النجاشي ملك الحبشة، لإغرائه بتسليم المسلمين المهاجرين، وعثمان بن طلحة الموكَلةُ إليه مفاتيح الكعبة المكرمة، بيت العرب المقدس، ومكان حجهم وأمنهم..
هؤلاء الرجال التقوا في صفر من سنة ثمانٍ للهجرة ــــ من غير موعد توافقوا عليه ـــــ واجتمعوا في محلة تدعى «الهدة» ليسيروا معاً إلى المدينة، ويدخلوا في الإسلام.
أما خالد بن الوليد، فيروي قصة إسلامه بأن يقول: «لما أراد الله عز وجل بي ما أراد من الخير، قذف في قلبي الإسلام، وحضر لي رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فليس لي موطن أشهده إلاَّ أنصرف وأنا أرى في نفسي أني في غير شيء، وأن محمداً سيظهر. فلما خرج الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الحديبية خرجت في خيل لأصدّه، حتى إذا وصلنا عسفان، أقمت بإزائه، فصلَّى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليهم، ثم لم يعزم لنا، وكان فيه خير. وكأنه ارتقب منَّا الإغارة عليهم من جديد، فإذا به يصلِّي العصر بأصحابه صلاة الخوف، فوقع ذلك منّا موقعاً، فقلنا: إن الرجل ممنوع. فاعتزلنا، وعدل عن سير خطنا وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشاً بالحديبية قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أأذهب إلى النجاشي أم إلى هرقل، أم أترك ديني إلى يهودية أو نصرانية؟ أفأقيم في عجم؟ أفأقيم في داري؟!..
وبَيْنَا أنا في ذلك حائر لا أدري ما أفعل، دخل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في عُمْرة القضاء، فتغيبت، ولم أشهد حضوره. وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع أصحاب محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، مكة في تلك العمرة، فطلبني فلم يجدني. فكتب إليَّ كتاباً فإذا فيه: [بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك، ومثل الإسلام ما جَهِله أحد، قد سألني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عنك وقال: «أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به فقال: ما مثله يجهل الإسلام! ولو كان جعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيراً له، ولقدّمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة].. فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام، وسرّتني مقالة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ورأيت في المنام كأني في بلاد ضيقة جَدْبة فخرجت منها إلى بلادٍ خضراء واسعة. فلما أزمعتُ على الخروج إلى المدينة لقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب! أما ترى أن محمداً ظهر على العرب والعجم فلو قَدِمنا عليه واتَّبعناه فإن شرفه شرف لنا؟ فقال: لو لم يكن يبقى غيري ما أتَّبعهُ أبداً. فقلت: هذا رجل موتور قتل أبوه وأخوه ببدر. فلقيت عِكرمة بن أبي جهل، فقال مثل ما قال صفوان بن أمية. فذهبت إلى منزلي وأمرت براحلتي فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن أبي طلحة فقلت: إن هذا لي صديق، فلو ذكرت له ما أرجوه، ولكنني تذكرت مقتل أهله يوم أحُدُ: أبيهِ طلحة، وعمّه عثمان، وأخوته الأربعة: مُسافع والحلاس والحارث وكلاب.. فكرهت أن أحدّثه، بأمري، ولكنني عدت وقلت في نفسي: «وما عليَّ وأنا راحل من ساعتي». فحدثته بما آلت إليه الأمور قائلاً: «ألا ترى يا عثمان: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جُحْرٍ لو صُبّ فيه دلو من ماء لخرج؟ ثم أخبرته بما كان موقف صفوان وعكرمة، فإذا به يواعدني على الخروج، ونتفق على محل نلتقي فيه، من يسبق الآخر ينتظره.
وفي الفجر التقينا فغدونا حتى انتهينا إلى «الهدّة» فوجدنا عمرو بن العاص هناك. فقال: مرحباً بالقوم، أين مسيركم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتِّباع محمد. قال عمرو: وذلك الذي أقدمني. فاصطحبنا جميعاً حتى دخلنا المدينة، فأَنخْنا بظهر الحِّرة رحالنا فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فلقيت أخي، فقال: أسرع، فإنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد أُخبر بكم فسُرَّ لقدومكم وهو ينتظركم. فأسرعنا المشي، فما زال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، منذ أطللنا نحوه يبتسم حتى وصلنا إليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد عليَّ السلام بوجه طَلْق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنك رسول الله. فقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألاَّ يُسْلِمُكَ إلا إلى خير». قلت: «يا رسول الله. ادع الله لي يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله». وتقدم عثمان وعمرو فأسلما».
وكما حدَّث خالد بن الوليد عن دخوله الإسلام، كذلك عمرو بن العاص. فإنه يروي قصة إسلامه، فيقول: «لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّاً منكراً، وإني لقد رأيت أمراً فما ترون فيه؟
قالوا: وماذا رأيت؟.
قال: أن نلحق بالنجاشي في الحبشة فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا تحت يد النجاشي، فإنه أفضل وأحبّ إلينا من أن نكون تحت يدي محمد. وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلاَّ خير.
قالوا: إن هذا هو الرأي.
قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له.
وكان أحبُّ ما يُهدى للنجاشي من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدماً كثيراً ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع. فقال: مرحباً بصديقي أأهديت إلي من بلادك شيئاً؟.
قلت: نعم أيها الملك قد أهديت إليك أدماً كثيراً. ثم قربته إليه فأعجبه، وفرّق منه شيئاً بين بطارقته. فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول عدوّ لنا قد وَتَرنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه لأقتله.
وما كاد النجاشي يسمع ذلك حتى غضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربةً ظننت أنه كسره، فلو انشقت الأرض لي لدخلت فيها فَرَقاً منه، ثم جعلت أتلقى الدم بثيابي وأنا أقول له: أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك.
قال النجاشي: يا عمرو! أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى (عليه السلام) لتقتله؟.
قلت في نفسي: «عرف هذا الحق العرب والعجم، وتخالف أنت؟».
ثم قلت للنجاشي: أيها الملك، أكذاك هو؟.
قال النجاشي: ويحك يا عمرو أطعني واتَّبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرنَّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟
قال: نعم.
فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم دعا بطست، فغسل عني الدم، وكساني ثياباً بدل ثيابي التي امتلأت بالدم فألقيتها.
وخرجت على أصحابي وأنا في حلتي الجديدة، فلما رآني أصحابي سروا وقالوا لي: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟
قلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة، وقلت أعود إليه. وكنت طبعاً أكتم إسلامي عنهم..
فقالوا: الرأي ما رأيت.
ولكني لم ألبث أن فارقتهم، وذهبت إلى موضع السفن، فركبت واحدة مع جماعةٍ حتى نزلت البر، فابتعت بعيراً وخرجت أريد المدينة، فمررت على الظهران ومضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا بي ألتقي خالد بن الوليد، وعثمان بن أبي طلحة، فتقدمت وسلمت عليهما وسألتهما: أين يريدان؟ فقال خالد: دخل الناس في الإسلام، فلم يبق أحد، وإني والله أرى أنه قد استقام الميسم وإن الرجل لنبيٌّ، أذهب إليه فأسْلِم.
فقلت: والله ما جئت إلاَّ لأسلم.
ثم قمنا فقدمنا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عنبة يصيح: «يا رباح، يا رباح». فتفاءلنا بقوله، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: «قد أعطت مكة القادة بعد هذَين» فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد. وولى سريعاً، فظننت أنه ذهب يبشِّر رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقدومنا، وقد تبين لنا أنه كان كما ظننت. فأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون حوله، قد سُرّوا بإسلامنا، فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع. ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي حياءً منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، فقال: «إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والهجرة تجُبّ ما قبلها».
ذلك ما كان من أمر إسلام خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، وعمرو بن العاص..
ولم يكن هؤلاء وحدهم من الذين أقبلوا على الدخول في الإسلام بعد عُمرة القضاء، بل إنَّ كثيرين من العرب، فُرادى وجماعاتٍ، جاؤوا إلى المدينة يُسْلِمون على يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فينزلهم في ربوع الإيمان، ويغسل قلوبهم بماء الطهارة، وينقّي نفوسهم بنورانية الحق، فيستوي الإسلام عندهم عقيدة ومنهجاً، ثم يرتحلون إلى المضارب والديار مؤمنين، مخلصين، عابدين، فيراهم الناس على غير حالهم السابقة، ويجدون مسالكهم وتصرفاتهم غير الماضية، حتى إذا عرفوا بأن الإسلام هو صاحب الفضل في هذا التغيير والتبدّل، تأثّروا به كثيراً وأقبلوا عليه قانعين، راضين..
* * *

كُتُب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الملوك والأمراء
وإذا كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد خطَّطَ ودبَّرَ لمهادنة قريش في معاهدة الحديبية، وأعدَّ ونَفَّذَ في خيبر وعمرة القضاء من أجل تثبيت دعائم دولة الإسلام وتقوية هيبتها في النفوس، فإنه كان في الوقت نفسه يتحَسَّسُ الموقف الدولي، ويتفهَّمُ أوضاعه وما يدور فيه من أحداث فيتحرَّكُ وفق مستلزمات الظروف. وعلى ضوء هذا الفهم والتحرك وما يتصِلُ بهما من نتائج كان يُخطِّطُ لإقامة العلاقات خارج حدود دولته، لكي يجعل الترابط قائماً ما بين الاتصال الداخلي والاتصال الخارجي. على أن ذلك الاتصال الخارجي لم يكن منعدماً في الأصل، بل اختلف مداه وزمانه باختلاف الظروف ومسيرة الدعوة. فعندما أقيمت الدولة في المدينة لم يكن هنالك سوى قريش في مكة، واليهود في خيبر وجوارها.. أمَّا قريش فقد انتزع منها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الصلح انتزاعاً، وأما اليهود فلمّا لم يكن ممكناً إجراء صلح معهم، فقد أُخضعوا لسيطرة الدولة، وبذلك لم يعد لهم من كيان مستقل يعترض ذلك الاتصال..
وها إن الأوضاع بعد الحديبية وخيبر قد تبدّلت واختلفت، وأصبح الاتصال الخارجي ممكناً وذلك بما قد يحصل ما بين الدولة وبين الأقاليم التي تقع على أطراف الجزيرة، والتي تشكِّل إما دولاً قوية، أو إمارات تابعة لتلك الدول، أو كيانات صغيرة مستقلة..
ولكن كيف يجب أن يحصل هذا الاتصال الخارجي إلى ما وراء حدود الجزيرة؟
هل يتوفّر ذلك بإقامة العلاقات الدبلوماسية ما بين دولة الإسلام وتلك الدول والإمارات؟ وهل تلك الدول والإمارات تعترف لدولة الإسلام بكيانها المستقل حتى تقبل بإقامة علاقات معها؟ لا، فإن الاتجاه الفكري يَدُلُّ على انعدام الروابط السياسية كافة ما بين الجزيرة وسائر الكيانات الواقعة على أطرافها، لأن هذه الكيانات لم تعبأ يوماً بما يجري في داخل الجزيرة، ولم تهتم قطُّ لظهور الدعوة الإسلامية وسيرها...
ولكن إذا كان هذا شأن تلك الكيانات، فإن تفكير رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان دائماً منصبّاً على إيصال هذه الدعوة إلى الأمصار البعيدة لأن الدين عند الله الإسلام، وهو دين البشر جميعاً، ولأنَّ محمداً هو رسول الله للناس كافة، وهذا هو حكم الله تعالى في عليائه، {وَمَا أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلْنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}
وتأييده سبحانه وتعالى:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَل رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
إذن فالإسلام ليس ديناً خاصّاً بالعرب ولا ديناً خاصّاً بالعجم ولا هو دينٌ للشرق أو للغرب، بل هو دين جميع الأمم والشعوب، دين الناس كافة، وأينما وجد هؤلاء الناس وفي أي بقعةٍ من بقاع هذه الأرض.. وما دام الإسلام ديناً للناس كافة، فيجب ألاَّ يبقى محصوراً في نطاق ضيِّقٍ لا يتعدى حدودَ جزيرة العرب بل يجب أن ينطلق إلى البعيد البعيد متخطياً حدود الأقاليم، ومتجاوزاً الأبعادَ والفوارق.. فهذا هو الاهتمامُ الذي كان يشدُّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى إيصال الدعوة الإسلامية للناس جميعاً. ولقد ازداد هذا الاهتمام بعد أن تمكَّن من تثبيت دعائم دولته واطمأنَّ إلى تركيز سياستها الداخلية، وإلى إعداد أسباب القوة كافةً لسياسته الخارجية..
في هذا الظرف ومن خلال ترقبه مسير الأحداث التي تجري في الداخل والخارج، وبعد تفكير عميق ودقيق، قرَّر الرسولُ الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يوجه الدعوات إلى كل الملوك والأمراء والحكام في أطراف الجزيرة العربية وما وراءها للدخول في الإسلام..
ويتوقف العالم بأسره عند هذا القرار..
إذ كيف يمكن لمحمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وما تزال دولته في بدء نشوئها، وفي أول عهدها بالقوة والنفوذ، أن يخطر بباله دعوة هرقل ملك الروم لأن يغيِّر ديانته النصرانية، ودعوة كسرى ملك الفرس لأن يتخلَّى عن ديانته المجوسية، مع ما يحمل هذا التخلي وذلك التغيير من تنازل عن السلطان، وفقدان للعرش وذهاب للعظمة؟!...
إنه قرار خطير ولا شك ذاك الذي عزم عليه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، من مخاطبة أباطرة وملوك عظام في ذلك الحين، بأدق الأمور وأهم القضايا، ألا وهي العقيدة الدينية!..
وتنبع خطورة ذلك القرار من كون دولتي الروم والفرس أقوى دول العصر يومذاك. فقد كان لهما من المكانة ما يبعث على الرهبة في النفوس والهيبة في القلوب، حتى لا يخطر على بال أي حاكم إلاَّ التقرب إليهما وطلب ودِّهما ورضاهما.. فأمبراطورية الروم بالإضافة إلى رقعة امتدادها الشاسعة كانت تُخضِعُ لسلطانها بلاد الشام ومصر بأسرهما، وأمبراطورية الفرس بالإضافة أيضاً إلى ترامي أطرافها كانت تُسيطر على اليمن والعراق. ولقد كان لهما وحدهما السلطة في تقرير مصير السياسة الدولية، بحيث تمليان على غيرهما من الدول ما تريانه، دون أن يكون لأي من هذه الدول الحق في الاعتراض أو القدرة على التأثير في مجرى الأحداث.. وما قام خارجهما أو خارج سيطرتهما من ممالك أو إمارات فقد بقيت بعيدة عن القيام بأي دور على مسرح السياسة، كما هو الحال مثلاً بالنسبة إلى اليمامة وعُمان والبحرين، التي كانت إمارات مستقلة، واهنة، ضعيفة أمام دولتي الروم والفرس، أو كما هو الحال بالنسبة إلى تهامة والحجاز، أو إلى نجد والطائف، فقد تفرقت عن بعضها تحت النفوذ القبلي، وكانت لا تعرف الوحدة السياسية، ولا كيان الدولة القوية، فالعلاقات بين هذه الدول والقبائل وبين الدولتين الكبيرتين كانت مقتصرة على العلاقات التجارية وخاضعة لمخططاتهما وموافقتهما.
ومن هنا، ومن انعدام قوى الدول في ذلك العصر ــــ باستثناء دولتي الروم والفرس وبفرضهما السياسة التي تريدان، وتحَكُّمهما بمصائر الأمم جميعاً ــــ كانت الخطورة التي تفرض على محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، اتخاذ قراره بدعوة هرقلِ الروم وكِسرى الفرس للدخول في الإسلام إلى جانب دعوته للآخرين.
ولكن متى علمنا بأن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يعمل في سبيل الله بفهم سياسي مستنيرٍ، مستوحىً من الإسلام، فإنَّ أيَّ شأن للأباطرة والملوك يهون في عينيه.. فلقد كان مُحَتَّماً على خاتم النبيّين، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يتوجه بدين الله إلى أولئك الحكام حتى يؤدي الأمانة الكبرى التي عهد الله تعالى إليه بأدائها، وأن يدعوهم إلى اعتناق هذا الدين ليؤمن مَن آمن عن بيّنةٍ، ومَنْ كفرَ وعاندَ فأمره إلى الله سبحانه.. فالغاية تنحصر في إيصال الإسلام إلى الناس، ولا فرق إن كانت هنالك علاقات سياسية بين بلاده والبلاد الأخرى، أو إن وجدت روابط تجارية أو غير تجارية. فهذه كلها بعيدة عن الغاية التي فيها الخير كل الخير لأولئك الحكام وشعوبهم، ولذلك فإنّ قرار النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يحتم دعوة الملوك والحكام للدخول في الإسلام...
وإنَّ أكثر ما يُبرِز عَظَمة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه اتخذ قراره بدعوة جميع الملوك والحكام، بصورة واضحة وصريحة، لا لَبْسَ فيها ولا غموض، ولا ممالأةَ ولا محاباةَ لأحد منهم أبداً.. وفي الوقت نفسه لم يناصب أحداً منهم العداء في دعوته، بل توجَّهَ إلى الجميع، أقوى الملوك وأضعف الحكام، بدعوة الحق المبين، وبلهجة الحاكم النبيل العادل، وبعزم النبيِّ الأمين الصادق، صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك رغم معرفته بقلة حيلة الملوك الصغار، وبالعداوة الشديدة بين ملكي الروم والفرس، وأثر تلك العداوة على مشاعر أهل الجزيرة، بل على سير الدعوة نفسها..
فقد كان، صلى الله عليه وآله وسلم، منذ مبعثه يعيش الأحداث يوماً بيوم، ويرافق التطورات ساعة بساعة، حتى أيام القهر والأذى في مكة.
ولقد شهدت قريش، وشهدت معها قبائل العرب في السنة الحادية عشرة من نزول الوحي على الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم أن ذهب يعرض نفسه على أهل النُّصرة في مِنىً، كيف أنه أعلم الناسَ بخبر الوحي الذي نزل عليه، والذي أكَّد فيه أن الروم، ورغم الهزائم التي حلَّت بها على أيدي الفرس، سوف تعود وتغلب في بضع سنين.
وتفصيل ذلك أنَّه كان عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، يراقب من جملة ما يراقب الحروب التي كانت تدور رحاها ما بين الروم والفرس، والتي كان من جرائها أن اتخذ المسلمون موقفاً يُظهر ميلهم إلى الروم، بينما كان موقف المشركين يؤيد الفرس..
ولكن لِمَ هذا التناقض في المواقف؟.
الحقيقة أن الروابط السياسية كانت معدومة تقريباً ما بين جزيرة العرب والدول والإمارات المجاورة لها، إلاَّ ما كان يتحدث به الناس عن تلك الحروب التي تدور خارج الجزيرة. ولكن عندما ظهر الإسلام أوجد نوعاً من العلائق الروحية، والمشاعر الدينية، جعلت المسلمين يميلون إلى الروم لأنهم أهل كتاب، بينما جعلت هوى المشركين إلى الفرس لأنهم مثلهم على الوثنية. وذلك الشعور الديني المتضارب أدَّى بالجميع إلى متابعة تلك الحروب باهتمام بالغ، فكانَ كل فريق يتمنَّى غلبة الدولة التي يؤيدها. فالمسلمون يؤملون انتصار الروم، والمشركون يتمنون انتصار الفرس.
ولقد ظهر الموقف جلياً، عندما اجتمع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى بني شيبان يدعوهم للإسلام. وقد انتهى لقاؤه بهم، وهو يخبرهم بأنَّ الله سبحانه وتعالى، سوف يمنح لأهل الإسلام بلاد الفرس وأموالهم، بعد أنْ تكونَ الروم قد غلبت الفرس في أدنى الأرض، وهذه الغلبة ستكون في بضع سنين، وتلا قول الله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعَدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} .
وبُهِتَ الناسُ في بادىء الأمر. فتلك هي الفرسُ تسحقُ الرومَ بحروب طاحنة ولا يؤمل أحدٌ أن يقوم للروم بعدها قيامة، ومع ذلك فمحمد بن عبدالله يُنبىء العكس، ويقول بأنّهم بعد غلبهم سوف يغلبون، وفي مدة لا تتجاوز بضع سنوات!.. فهل هذا معقول؟!..
وذاعَ الخبرُ بين القبائل، وباتَ الناس يرددون: إنَّ محمداً يتنبَّأ بأن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين. وصارَ هذا الأمر مدار اهتمام المسلمين والمشركين على حدٍّ سواء نظراً لأهميته البالغة على الجميع. فأما المشركون، وبخاصةٍ قريش، فرأوا فيه مدعاةً للهزء والسخرية، فراحوا يتهكمون على المسلمين وهم يَتَحَلَّقُونَ حولهم ساخرين منهم ومن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يقولون: هاكم محمداً، فقد صار يتنبّأُ، ويعرف الغيب، أليس في ذلك ما يدعو للسخرية؟.. وأما المسلمون، فقد أيقنوا بما تلاهُ رسولهم الكريم لأنه وحيٌ من ربه، فانبروا يحاولون إفهام الناس معاني الوحي، وبأنَّ هذه النبوءة ليست من محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هي من لَدُنْ عزيز حكيم، وحده يعلم الغيب، لأنَّ بيده الغيب والأقدار والمصائر كلها، فلا تقع ورقة من على شجرة إلاَّ أن يشاء لها الوقوع، ولا تسقط شعرة من رأس إلاَّ أن يشاءَ لها هذا السقوط، ينصرُ من يشاء، ويُعِزُّ من يشاء، لأنه على كل شيء قدير.. ولكنْ أنّى للمشركين أن يفهموا ذلك وهم في الجهالة يعمهون؟.
وأما قضية تلك الحروب ما بين الروم والفرس، فتعود إلى تاريخ طويل.. إذ اعتنقَ الأمبراطور الرومي قسطنطين الديانة النصرانية عام 325م، وجعلها ديانة البلاد الرسمية، فآمنت بها أكثرية رعايا الروم، في حين رفض الفرس ترك عبادة الشمس والنار.
وتوالت على حكم الأمبراطورية سلالته حتى كان آخرهم الملك «موريس» وكان ملكاً غافلاً، فقام الجيش بثورة ضده بقيادة «فوكاس» وقتله سنة 602 ميلادية ثم أعلن نفسه ملكاً على الروم بعد قضائه على العائلة الملكية كلها، وأرسل «فوكاس» سفيراً إلى أمبراطور إيران «كسرى أبرويز الثاني» ابن «أنوشروان» العادل. وكان كسرى «أبرويز الثاني» صديقاً وفياً للملك موريس، إذ كان قد لجأ إليه بسبب مؤامرة داخلية في الأمبراطورية الفارسية، فقدم له يد العون لاستعادة عرشه. وقيل إنَّ كسرى هذا تزوج ابنة موريس أثناء إقامته ببلاد الروم. فلما عرف بانقلاب «فوكاس» غضب غضباً شديداً وأمر بسجن السفير الرومي، ثم أعلن الحرب على بلاد الروم، وزحفت جحافله عابرة الفرات إلى الشام. ولم يتمكن «فوكاس» من مقاومة جيوش الفرس التي استولت على مدينتي أنطاكية والقدس، مما جعل حدود الأمبراطورية الفارسية تتسع لتصل إلى وادي النيل.
في ذلك الوقت أرسل بعض أعيان الروم رسالة سريّة إلى الحاكم الرومي في المستعمرات الأفريقية يناشدونه إنقاذ الأمبراطورية، فأرسل هذ الحاكم جيشاً كبيراً بقيادة ابنه الشاب «هرقل» من قرطاجنّة. وسار هذا الجيش في الطريق البحرية، بسرِّية تامة، حتى إن «فوكاس» لم يَدْر به إلاَّ عندما شاهد الأساطيل وهي تقترب من السواحل الرومانية. واستطاع «هرقل» ــــ دون مقاومة تذكر ــــ أن يقتل «فوكاس» ويستولي على الأمبراطورية سنة 610 م.
بيد أن «هرقل» ورغم ذلك الانتصار الذي أحرزه، واستيلائه على السلطة لم يتمكن من إيقاف المدّ الفارسي، حتى ضَاع من الروم كل ما ملكوا من البلاد في شرقي العاصمة وجنوبيّها، ولم يعد العلم الرومي يرفرف على العراق والشام ومصر وآسيا الصغرى، بل علتها راية الفرس.. وهكذا تقلصت الأمبراطورية الرومية، وعمّ القحط، وفشت فيها الأمراض الوبائية، وتتالت الهزائم النفسية في الداخل والعسكرية في الخارج، واستولى الفرس على الصليب المقدس وأرسلوه إلى المدائن، وحينها بات الروم يخشون ويترقبون ضرب العاصمة نفسها واحتلالها.
واستبد اليأس والقنوط بهرقل من تلك الأحوال السيئة، وقرر العودة إلى قصره في «قرطاجنة» على الساحل الأفريقي، لأن شغله الشاغل أصبح إنقاذ نفسه، وبالفعل جهّز هرقل لتلك العودة وخرج ليستقلّ إحدى السفن إلى منفاه الاختياري.. وفي هذا الوقت بالذات جاءه كبير أساقفة الروم باسم الدين والمسيح يرشده وينصحه حتى أمكنه إقناعه بالبقاء.. وبإشارة من الجنرال الفارسي «سين» أرسل هرقل سفيراً إلى «كسرى» طالباً منه الصلح.. وكانت قد انقضت تسعة أعوام على الحرب عندما رضي الأمبراطور الفارسي أن يصالح «هرقل» على شروط معينة، تعتبر مخزية جداً للروم.
بعد طلب الصلح بسنتين أي سنة 621م، وبعد استيلاء الفرس على جميع المناطق الشرقية من دولة الروم، كان وقوع الحدث التاريخي الهام في الجزيرة العربية، عندما تنبَّأ القرآن الكريم بغلبة الروم على الفرس في بضع سنين، أي في الوقت الذي كان فيه الروم بأشدّ الحالات ضعفاً وانهزاماً، وهو الوقت الذي كان فيه المسلمون أيضاً بمكة في أضعف وأسوأ أحوالهم المادية.. وفي تلك الحالة البائسة، صدرت كلمات من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يتلو قرآناً كريماً ينبىء فيه تلك النبوءة العظيمة. بل وأكثر من ذلك ففي هذه السنة بالذات حدث في داخل هرقل انقلاب نفسي جعله يتحوّل من ملك متخاذل، راكن إلى الدّعة والترف، إلى قائد متحمّس غيور، إذ منعَ عن نفسه جميع الملذات، حتى أنه هجر ابنة أخته «مارتينا» التي تزوجها لشدة هيامه بها، رغم أنها كانت محرمة عليه، ليستعد للحرب، ويضع خطة لقهر الفرس..
وبدأ هرقل بتجهيز جيشه عدةً وعتاداً فلما أكمل استعداداته خرج على رأس جنده، فلم يصدق سكان القسطنطينية ما يرون، بل بدا للكثيرين منهم أن هذا آخر جيش في تاريخ الأمبراطورية البيزنطية.
وكان هرقل يعرف أن قوة الفرس البحرية ضعيفة، ولذلك أعدّ بحريته للإغارة على الفرس من الخلف. وسار بجيوشه عن طريق البحر الأسود إلى أرمينيا، وشن على الفرس هجوماً مفاجئاً في الميدان نفسه الذي هزم فيه الإسكندر جيوش الفرس لما زحف على أراضي مصر والشام. ولم يستطع الفرس مقاومة غارة هرقل المفاجئة، فلاذوا بالفرار.
وكان الفرس يملكون جيشاً كبيراً في آسيا الصغرى. ففاجأهم هرقل هنا بأساطيله مرة أخرى، وأنزل بهم هزيمة فادحة. وبعد إحراز هذا النصر الكبير عاد إلى عاصمته القسطنطينية عن طريق البحر بعد أن عقد معاهدة مع «الأفاريين».
وبعد هاتين الحربين، قام هرقل بثلاث حروب أخرى ضد الفرس في سنوات 623 و624 و625 ميلادية، واستطاع أن ينفذ إلى أراضي العراق القديم عن طريق البحر الأسود، مما اضطر الفرس إلى الانسحاب من جميع الأراضي الرومية تقريباً.. وكانت آخر تلك الحروب المصيرية الحرب التي خاضها الطرفان في «نينوا» على ضفاف دجلة في ديسمبر (كانون الأول) عام 627م.
أما من ناحية الفرس، ولما لم يستطع «كسرى أبرويز» مقاومة سيل الروم، فإنه حاول الفرار من قصره «دستكرد». ولكن ثورة داخلية نشبت في الأمبراطورية، واعتقله ابنه «شيرويه» وزج به في سجن داخل القصر الملكي حيث لقي حتفه في اليوم الخامس من اعتقاله.
ولكن «شيرويه» هو الآخر لم يجلس على العرش أكثر من ثمانية أشهر، إذ قتله أحد أشقائه، وبدأ القتال داخل البيت الملكي، حيث تولى تسعة ملوك زمام الحكم في غضون أربعة أعوام. ولم يكن من الممكن، أو المعقول، في هذه الأحوال السيئة، أن يواصل الفرس حربهم ضد الروم.. فأرسل «قباد الثاني» ابن «كسرى أبرويز الثاني» يرجو الصلح. وأعلن تنازله عن الأراضي الرومية، وإعادة «الصليب المقدس».
وفي سنة 627م. توجه هرقل إلى بيت المقدس، ليعيد إليه الصليب المقدس، وليفي نذره، فكان الناس يبسطون له البسط ليمشي عليها، وينثرون عليه الرياحين، احتفاءً به وإجلالاً له..
وهكذا يتبين جلياً من مجرى الأحداث أن نبوءة القرآن الكريم التي أعلنها محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو بمكة سنة 621 ميلادية، قد تحققت في بضع سنين عندما استطاع هرقل أن يقهر الفرس في مدة تقل عن تسع سنوات، لأن البضع (في لغة العرب) مدة دون العشرة. وقد وصف أحد مؤرخي الغرب هذه النبوءة بقوله: «لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعاً، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الأمبراطورية الرومانية»..
وهكذا ومن رؤية الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، للأحداث الدولية عامة، ودقة مراقبته المستمرة لما يدور حول جزيرة العرب خاصة، اتَّخذ قراره بدعوة الملوك والحكام خارج الجزيرة للدخول في الإسلام، وعزم على بعث سفراء له يحملون تلك الدعوة. ثم خرج يوماً على أصحابه وقال لهم: «إن الله تعالى قد بعثني رحمة للناس كافة فلا تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريُّون على عيسى بن مريم» (عليها السلام).
قال الصحابة: «وكيف اختلف الحواريُّون يا رسول الله؟».
قال لهم: دعاهم إلى الذي دعوتُكُم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فَكَرِهَ وجههُ وتثاقل».
ولما تساءل الصحابة عن مقصد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أخبرهم بأنه مرسل إلى الملوك والأمراء: هرقل الروم، وكسرى الفرس، ونجاشي الحبشة، والمقوقس حاكم مصر، والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، رُسلاً تحمل إليهم كتبه التي يدعوهم فيها للإسلام.. وكانت فرحة الصحابة عظيمة جدّاً وهم يسمعون ما عزم عليه الرسولُ الأعظم، فأجابوه لما أرادَ، وقدّمَ كلُّ واحدٍ نفسه للذهاب في المهمة إن شاء الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يوفده بها، وراحوا يدعون إلى الله سبحانه أن ينصُرَ دينه ويُعلي كلمة الإسلام.
واستعدَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فصنع له خاتماً من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله» ليمهر به كتبه، ثم اختار سفراء له لدى أولئك الملوك والحكام، يحملون إليهم رسالة الدعوة للدخول في الإسلام، وهم: دِحْية بن خليفة الكلبي إلى هرقل، وعبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، وحاطِب بن أبي بلتعة إلى المقوقس عظيم القبط في مصر، وعمرو بن العاص السهمي إلى ملكي عمان، وسليط بن عمرو إلى ملكي اليمامة، والعلاء بن الحضرميّ إلى ملك البحرين، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث الغساني ملك تخوم الشام، والمهاجر بن أمية المخزومي إلى الحارث الحِمْيَري ملك اليمن.
.. وحمل كلٌّ من هؤلاء الصحابة كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يبلِّغه إلى صاحبه، فكانوا أول رُسُل يحملون الإسلام خارج جزيرة العرب.
ولقد تضمنت تلك الكتب النصوص التالية:
صورة كتاب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى هرقل.

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى هرقل، ملك الروم
بسم الله الرحمن الرحيم
«من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. وسلام على من اتَّبع الهدى. أمّا بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلِمْ تسلَمْ يؤتك الله أجرك مرَّتَين. فإنْ تولَّيْتَ فعليك إثم الأريسيّين ».
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
وحمل دِحْيَةُ هذا الكتاب وسافر ليُلقي به إلى هرقل وهو في مدينة حمص، ذاهباً إلى بيت المقدس ليوفي نذر الحج الذي قطعه على نفسه إن انتصر على الفرس. وتُلي خطاب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على هرقل وتُرجِم له، فلم يأخذه منه ما يأخذ الملوك عادة من خوف على ملكهم، بل تأثَّرَ به تأثرَ عالِمٍ ينتظر خبراً هاماً له صلة بعمله، ذلك أن هرقل كان رجلاً عنده سعة اطِّلاع ومعرفة بالملاحم وعلم الفلك وأخبار الأنبياء، فلما بلغه كتاب محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يغضب ولم تثر ثائرته، بل بعث من يبحث عن قومٍ لهم صلة بأخبار نبي الإسلام، فذهب الموفدون من عنده يفتشون في كل بلا الشام حتى وجدوا قافلة من قوافل مكة جاءت في تجارة، وكان على رأس تلك القافلة زعيم المشركين يومئذٍ أبو سفيان بن حرب، فدعاهم جنود هرقل إلى مجلس الملك بأمر منه. فلما دخلوا عليه، سألهم بلسان الترجمان:
ــــ «أيكم أقرب نسباً بذاك الرجل الذي يزعم أنه نبي؟».
قال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً إليه أيها الملك.
قال هرقل، يأمر جنوده: أدنوا مني هذا الرجل، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره.
ثم أمر ترجمانه قائلاً:
ــــ قل لهم: إني أسأل هذا (وهو يشير إلى أبي سفيان) فإن كَذَبني فليكذبوه..
وعند سماع أبي سفيان لما قاله الترجمان، تضاربت في نفسه المشاعر، فهو يريد أن يبخس محمداً حقه، لأنه عدوه اللدود، ولكنه يخاف من غضب هرقل إن عرف أنه كاذب.. على أنّ أبا سفيان عادَ وجعل أصالة البداوة، وصفاء الصحراء ينتصران عليه فقال يقنع نفسه: «ولكن الحياءَ يغلبني ولولا هذا الحياء من أن يأثُروا عليَّ كذباً لكنت كذبت، ولكني أفضل الصدق وأجيب به».
وسأل هرقل أبا سفيان قائلاً:
ــــ كيف نَسَبُ من يدعي النبوة فيكم؟.
قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب..
قال هرقل: فهل كان من آبائه من ملك؟.
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فهل قال قوله أحدٌ منكم قطُّ قبله؟.
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟.
قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم..
قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟.
قال أبو سفيان: بل يزيدون.
قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟.
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فهل هو يغدر؟.
قال أبو سفيان: لا، ولكن نحن معه الآن في هدنة لا ندري ما هو فاعل فيها.
قال هرقل: فهل قاتلتموه؟.
قال أبو سفيان: نعم.
قال هرقل: فكيف كان قتالكم إياه؟.
قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال، ينالُ منَّا، وننال منه.
قال هرقل: وماذا يأمركم؟.
قال أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً. واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق، والعفاف والصلة.
فلما فرغ هرقل من استجواب أبي سفيان، تفكَّر ملياً ثم أجمل لترجمانه يأمره: «قل لهذا الرجل:
«سألتك عن نسبه فذكرت أنه ذو نسب فيكم.. وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول الذي يقوله.. فذكرت أن: لا.. فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسّى بقولٍ قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن: لا.. قلت: فلو كان من آبائه من ملك، فهذا رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول، فذكرت أن: لا.. فقد عرفتُ أنه لم يكن ليذَرَ الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أأشراف الناس اتَّبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن الضعفاء منهم أتباعه، وهم هؤلاء أتباع الرسل. وهل إنهم يزيدون أو ينقصون، فعرفت منك أنهم يزيدون... وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد من أتباع هذا الدين الجديد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن: لا.. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر، فنفيت عنه الغدر.. وكذلك الرسلُ والأنبياء لا تغدر ولا يمكن أن تغدر.
وسألتك: بم يأمركم، فأجبت بأنه يأمر أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فهو ينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بدلاً عنها بإقامة الصلاة والتحصّن بالصدق والعفاف..
«هذا ما قلت لي أيها الرجل ولم يكذبك أحَدٌ من بني قومك.. إذن فلتعلم يا هذا: إن كان ما تقول حقاً، فسيملك رجُلُكُمْ موضع قدميَّ هاتين (يقصد موضع العرش الذي يجلس عليه).. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولكني لم أكن أظن أنه في العرب، فوالله لو أني أخلُصُ إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه».
وخرج أبو سفيان وصحبه يزفرون بالتأوه، أما هرقل فقد أمر بإخلاء مجلسه، ليقعد وحده متفكّراً بما جاءه من دعوةٍ، وبما سمعه من أخبار صاحب الدعوة، فأيقن أنه حقاً النبيُّ المنتظر، وخاتم النبيين على الأرض، ومثل تلك القناعة قد هيّأته لقبول الحق إذ جاءَه بشيرُهُ إليه، وقد شاءَ أن يتحرَّى عن صدق هذا البشير، فجاءت الصورة واضحة جلية في أخبار من رأَوا ذلك النبيّ وعايشوه، وبما يؤكد صدق نبوته.
نعم أرادَ هرقل أن يقف على الحقيقة فتحرّاها بدقة، حتى كان مثالاً لمن أرادَ أن يقف على الحق، والحق وحده، دون تعصب لفكرة، أو شطط في المعرفة، فلما اكتملت عنده القناعة السويّة ولم يعد لديه من شكٍ بأنّ ما يُعرض عليه هو الحق، قام إلى الملأ من قومه يستشيرهم في أمره، فأمر بالوزراء والمستشارين ورجال الكهنوت أن يحضروا في مجلسه، حتى إذا اكتمل توافدهم، أغلقت عليهم أبواب دسكرته في حمص، فخاطبهم قائلاً: «يا معشر الروم، هل لكم في الفَلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم؟ لئن أردتم ذلك فاتبعوا هذا النبيَّ الذي جاءتنا دعوته»..
وأجفل أهلُ الجمع وخافوا.. لم يناقشوا ملكهم، ولم يحاوروه، بل جُلَّ ما فعلوه وهو يعرض عليهم ما عرض، أن سكتوا وظلّوا مطأطئي الرؤوس، واهني النفوس، لقد قلقوا على مصيرهم ونفوذهم وعلى الامتيازات التي يتمتعون بها، دون أن يأبهوا لدعوة حق أو لداعي إيمان، فأنكروا في قلوبهم ما يقوله الملك، ولكنَّ أحداً لم يجرؤ على البوح له بمكنون نفسه.. ورآهم هرقل على تلك الحال، وأنهم يحيصون حِيصة حُمُرِ الوحش، فأمر بارفضاض الاجتماع.
وقاموا يسرعون في الخروج، فاصطدموا بالأبواب ما تزال مغلّقة في وجوههم.. وأدرك هرقل ما عندهم من نفرة، وأيقَنَ ما في خَلَدِهم من مطامع، وكان يعرفهم أهل دهاء وخبث، وذوي قدرة على صنع المكائد والدسائس، فخاف على نفسه وعلى ملكه منهم، فأمر سريعاً بردِّهم عليه، وأجلسهم يقول لهم: «ما أظن قادة الرأي في ملكي يبلغ بهم الشطط إلى هذا الحد من اختبارٍ أراد مليكهم أن يمتحن به صلابة مواقفهم، وقوة ثباتهم على دينهم. وقد رأيت من ردة الفعل ما يزيدني اطمئناناً، ويزيدني ثقة بكم».
ومثل لمح البصر تبدلت المشاعر، وتغيّر الموقف، فقاموا إليه يسجدون له خاشعين راضين، وبالمجد له داعين.. وهكذا غلبت الشقوة على هرقل، واستحبّ العمى على الهدى.. لقد برق له نور الحق وأضاءَ وجوده، ولكنه كان للحظات، ما لبث أن خيمت عليه ظلماتُ المطامع، وغطّته سُحُبُ الإغراءات، وغلبته شهوة الملك والسلطان.. لقد وقفت الدنيا ومادياتها في وجه هرقل فصدّته عن الآخرة وروحانياتها، منتصرة عليه بحفنةٍ من الدهاقنة وذوي المطامع، فانصاع إليهم هاوياً في الضلالة والتيه.. ولم يكتف هرقل بالمراوغة والمداهنة، بل ظلَّ الخوف يسيطر عليه، فحتى يُبعد عنه شبح الاغتيال أو الانقلاب عليه، ولكي يُطمئن أولئك الذين يخافهم، انبرى يقدم لهم البرهان على صدق ما يقوله لهم، وكان ذلك البرهان أمرَهُ بقتل كل مسلم يعثرون عليه في بلاد الشام.
هذا ما كان من موقف هرقل وتباعده عن دعوة الحق التي بعثها إليه نبيُّ الإسلام.
ولكن ماذا جرى لرُسُل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الآخرين وهم يحملون كتبه إلى غير هرقل من الملوك والحكام؟.
* * *

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى كسرى، عاهل الفرس
دخل عبدالله بن حذافة السهمي على كسرى في إيوانه بالمدائن، وقد اجتمع من حوله القادة والوزراء والعظماء، فلما سألوه عما يريد قال بأنه يحمل كتاباً من نبي الإسلام إلى عظيم الفرس كسرى أبرويز بن هرمز. فأمَرَ كسرى أحد وزرائه بأن يأخذ الكتاب ويرى ما فيه، غير مهتمٍ لما يقوله عن نبي هذا الرسول القادم عليه.. ولكنَّ سفير النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، رفض أن يسلم الكتاب وهو يقول:
ــــ لقد أمرني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن أسلِّمه إلى كسرى يداً بيد.
ودهش عاهل الفرس، ودهش من حوله، لجرأة هذا الرجل، فطلب كسرى أن يُدنوه إليه، فلما وقف أمامه، تقدم وناوله الكتاب، ففتحه، وكان عنده كاتب من أهل الحيرة، فدفعه إليه كي يقرأه.
وتناول ذلك الكاتب خطاب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وراح يقرأه، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
«من محمد بن عبدالله ورسوله إلى كسرى عظيم الفرس. سلامٌ على من اتَّبع الهدى، وشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده، لا شريك له، وأن محمداً عبدُه ورسوله. وأدعوك بدعاء الله تعالى، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافةً، لأنذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين. أسلِمْ تَسْلَمْ فإن أبيت فعليك إثم المجوس».
واستبدَّ الغضب بكسرى وهو يسمع ما كتب إليه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا به يأخذ خطابه ويمزّقه، ثم أَمَر على الفور بكتاب إلى ــــ باذام عامله على اليمن ــــ يتوعده ويقول له فيه: ألا تكفيني رجلاً خرج بأرضك يدعوني إلى دينه؟ لتكفيَّنه أو لأفعلنّ بك؟؟.
وأمر كسرى بإخراج الرسول فأُخرِجَ وركب راحلته عائداً إلى المدينة يخبر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بما فعله كسرى بكتابه فقال: «فرَّق الله ملكه». وكان رسول كسرى قد بلغ اليمن وسلّم ملكها أمر سيده فاستدعى من فوره رجلَين: أحدهما قهرمانه ويدعى «بابويه» وكان كاتباً حاسباً، والثاني رجلُ عضلٍ وقوة واسمه «خرخرة» ثم بعث بهما إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يحملان كتاباً فيه دعوته للذهاب معهما إلى كسرى.
وخرج الرجلان يغذان المسير حتى بلغا الطائف، فالتقيا رجلاً من قريش، فسألاه عن مقام الرجل الذي يدَّعي النبوَّة، فأخبرهما أنه بالمدينة، ولكنه سألهما عما يريدان منه، فأخبراه بأن كسرى عظيم الفرس غاضبٌ منه، وأنهما جاءا يحملانه إليه. وطار ذلك الخبر في أنحاء الطائف، فاستبشر أهلوه بالخير وراحوا يقولون لبعضهم بعضاً: «إن محمداً قد ناصب كسرى ملك الملوك، كُفيتُمُ الرجل».
وَصلَ موفدا باذام المدينة ودخلا على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقدمان له كتاب سيدهما. فلما قرأه وعرف ما فيه ابتسم لهما، ثم عادَ وسأل: ما حاجتكما إليَّ أيها الرسولان؟
قال بابويه: «إنَّ شاهنشاه (ملك الملوك) كسرى، قد كتب إلى مليكنا باذام يأمره بأن يبعث من يأتيه بك، وها نحن مكلَّفان بالمهمة، فانطلق معنا، فإن فعلتَ كتبَ إلى كسرى يمنعك ويكفّه عنك، وإنْ أبيت فهو من قد علمت، مُهلِكُكَ ومُهلِكٌ قومك، ومخرب بلادك».
ولم يزد قولُ ذلك الرجل رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ تبسّماً، حتى ظنَّ وصاحبُه أنه وافقهما على الذهاب خوفاً ورهبة. إلاَّ أنهما لم يلبثا أن رأيا جمعاً من الناس يحيطون بهما، ويأخذونهما بعيداً عن مجلس مَن جاءا إليه، فخافا على نفسيهما، وأرادا المقاومة، إلاَّ أن الجميع أبدوا اللِّين والرفق، مما جعلهما يطمئنان، ثم زال عنهما كلُّ همٍّ وقلق، عندما أُدخلا إلى منزلٍ وقُدِّم إليهما الطعام بحفاوة وإكرام..
وبات الرجلان في مكانهما حتى اليوم التالي، فاقتيدا إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بناءً لأمره، فلما مَثُلا بين يديه، قال لهما: «أَتدريان أيُّها الرجلان بأن كسرى أبرويز قد قتله ابنه شيرَوَيْه واعتلى العرش مكانه؟».
ولم يصدق الرجلان.. إلاَّ أنهما نزلا على أمر الرسول وهو يقول لهما: «اذهبا إلى سيدكما باذام واخبراه عني بأن الله تعالى قد أوحى إليَّ بمقتل المليك، وأبلغاه أن ديني سيبلغ مدى ما بلغ كسرى وينتهي إلى الخُفّ والحافر، وقولا له إن رسول الله يقول لك: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملّكتك على قومك».. ثم أمَرَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بهدية، فسلَّمها لهما كي يوصلاها إلى سيدهما ويبلّغاه ما رأيا وما سمعا..
وانطلق الرجلان حائرَين.. إنَّ ما قاله محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ليُدهش حقاً ويدعو إلى العجب، ولكن ما عليهما إلاَّ إبلاغ سيدهما ما كُلِّفا بحمله إليه.. ولم يكن عجب أهل المدينة بأقل مما أصاب الرجلَين من عجب ودهشة، ولكن هل في الأمر ما يدهش والرسول الأعظم هو الذي قال إن كسرى قد قتل على يد ابنه؟ لا! إنهم يصدقون قولَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وها هم ينتظرون الوافدين من البعيد لتتأكد لهم صحة الخبر عن بيّنةٍ محسوسة، ومرأى من العين.
وكانت دهشة باذام كبيرة أيضاً عندما عاد موفداه يخبرانه بما قاله لهما النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ويرويان له كل ما وقع تحت أبصارهما وما التقطته آذانهما، فأمعن عامل كسرى على اليمن مفكراً وهو يستمع إليهما ثم قال: «ما هذا بكلام ملك وإني لأرى الرجل نبيّاً، فلئن كان ما ذكره عن كسرى حقّاً فإنه لنبيٌّ مُرْسَل. وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا». ولم يمضِ إلاَّ وقت قصير، كان باذام خلاله في حيرة من أمره، حتى قدم عليه من يحمل كتاباً من شيرويه، وقد جاء فيه: «أما بعد، فإني قتلت كسرى، ولم أقتله إلاَّ غضباً لفارس لما كان استحلَّ من قتل أشرافهم ونحرهم في ثغورهم. فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهيِّجهُ حتى يأتيك أمري فيه».
ولقد كان لكتاب شيرويه أبلغ الأثر على باذام. فقد جاءَ يصدّق رسالة ذلك النبيِّ في بلاد الحجاز إليه، فوقف متفكّراً: كيف أمكنه أن يعلم بالخبر؟ إن المسافة طويلة بين فارس والحجاز، ولا يمكن أن يصل إليها المسافر بمثل هذه السرعة لينقل الأخبار. ثم كيف اتفق لذاك الرجل وحده أن يعلم من دون سائر الناس، إذْ أبدى كل من سمع ذلك منه أعظم دهشة لسماعهم ما يقول، كما أخبره رسولاه.. ثم ألم يقل له «بابويه»: «ما كلمت رجلاً قطُّ أهيب عندي منه؟».. إذن فليس علم ذلك الرجل إلاَّ نبوءات الأنبياء.. فهو إذن نبيٌّ حقّاً..
تلك الأفكار كانت تجاذبت باذام عندما وصله كتاب شيرويه. فلما انتهى إلى ما انتهى إليه من تفكير وآمن بأن محمداً نبيٌّ حقّاً، أسلم مطمئناً، وأسلم الكثيرُ لله ممن كان معه من فارس باليمن، إذ عاشوا الأحداث ذاتها التي عاشها ملكهم باذام لفترة من الوقت والتي جاءت كلها تدفعهم إلى الإيمان بالنبيِّ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن يروه.
وبدخول هذه الفئة في الإسلام، هيّأ الله أرض اليمن لتكون نقطة ارتكاز قوية لدعوة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في جنوب شبه الجزيرة، كما دلت على ذلك الأحوال بعد عامَين اثنَين.
* * *

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى النجاشي، ملك الحبشة
أما الكتاب إلى نجاشي الحبشة «أصحمة» فقد كان نصه:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
«من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاَّ هو الملك القدوس السلام، المؤمن المهيمن. وأشهد أن عيسى بن مريم روح من الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى، فخلقه الله تعالى من روحه ونفْخِه، كما خلق آدم بيده ونفخه. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله. وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلَّغتُ ونصحتُ، فاقبلوا نُصحي والسلام على من اتَّبع الهدى».
وبعد تلاوة الخطاب ووقوف النجاشي على ما جاء فيه، استأذنه حاملُهُ عمرو بن أمية الضمري يشرح مضمونه وتوكيده، فلما أذن له قال عمرو:
«أيها الملك، إنَّ عليَّ قولاً فأرجو أن تسمعني. أنت كأنك في الرِقّة علينا، ونحن كأنا في الثقة بك. لم نظنّ بك خيراً إلاَّ نِلْناه، ولم نَخَفْكَ على شيء إلاَّ أَمِنَّاه. وقد أخذنا الحجة عليك من فِيْكَ، الأنجيلُ بينَنا وبينَك شاهدٌ لا يُرد، وقاضٍ لا يجور. وفي ذلك الموقع الحزُّ وإصابةُ المِفْصَل، وإلاَّ فأنت في هذا النبيِّ الأمي كاليهود في عيسى بن مريم، وقد فرَّق النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، رُسله في الناس فَرَجاك لما لم يَرْجُهم وأَمِنَك على ما خَافَهم عليه، بخيرٍ سالفٍ وأجرٍ ينتظر».
فلمّا انتهى من خطابه، أجابه النجاشي قائلاً:
«أشهد أنه النبيُّ الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس أشفَى من الخبر». ثم حمَّل عمرو بن أمية كتاباً إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم: إلى محمد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من النجاشي أصحمة.
سلام عليك يا نبي الله، ورحمة من الله وبركاته، الله الذي لا إله إلاَّ هو.
أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت في عيسى (عليه السلام). فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت، إنه كما ذكرت. وقد عرفنا ما بعثتَ به إلينا، وقد عرفنا ابن عمك جعفر بن أبي طالب وأصحابك. فأَشهدُ أنك رسولٌ صادقٌ مصدِّق، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يدَيه لله رب العالمين».
تلك كانت إجابة النجاشي ملك الحبشة، وفيها الدلالة الواضحة على إيمان الرجل بصدق النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وتصديقه، فأسلم، ودعا من معه إلى الإسلام ولكنه لم يُكرههم على الإيمان بما آمَن به، لأنه كان ملكاً عادلاً. وقد استجاب لنداء الحق من غير تباطؤ أو تردد، فكان من ذوي الإيمان الصادق والسيرة الحسنة. وقد رُوِيَ أنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، نعاه إلى المسلمين، وصلَّى عليه وذلك في رجب سنة تسع عند الرجوع من تبوك.
* * *

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم،
إلى المقوقس، عظيم القبط في مصر
حمل حاطِبُ بن أبي بلتعة هذا الكتاب وقد جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
«من محمد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتَّبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعوة الإسلام أسْلِم تَسْلَم، أسْلِم يُؤتِكَ الله أجرك مرَّتين، فإن تولَّيت فإن عليك إثم أهل القبط. يا أهل الكتاب: تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بينَنا وبينكم ألاَّ نعبدَ إلاَّ الله ولا نُشركَ به شيئاً ولا يتَّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولَّوا فقولوا: اشْهَدُوا بأنَّا مسلمون».
قَدِم حاطب على المقوقس، فأكرمه وأنزله منزلة جليلة، ثم جمع إليه بطارقته يستشيرهم في أمر الكتاب، فأشاروا عليه بأن يسأل الرسولَ الذي جاءه بالكتاب عن أخبار النبيِّ الذي بعثه به، فدعا المقوقس إليه حاطباً، وقد دار بينهما الحديث التالي:
المقوقس: هلمَّ أيها الرسول وأخبرني عن صاحبكَ، أليس هو نبيّاً؟.
حاطب: بلى، هو نبيٌّ ورسولٌ لله سبحانه وتعالى.
المقوقس: فما له حيث كان هكذا، فقد بلغنا أن قومه آذوه وأخرجوه من بلده إلى غيرها، فلِمَ لم يدعُ على هؤلاء القوم؟
حاطب: أولست تشهد أن عيسى بن مريم هو رسولُ الله؟
المقوقس: بلى.
حاطب: فما له حيث آذاهُ قومه فأرادوا أن يصلبوه ألاَّ يكونَ قد دعا عليهم؟!..
المقوقس: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم.. هاتِ بعضَ ما عندك..
حاطب: أَودُّ يا عظيم القبط أن أتحدث في أمر الكتاب الذي حملته إليك فأقول: إنه كان في هذه البلاد من قبلُ رجلٌ يزعم أنه الرَّب الأعلى، فأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى، فانتقم الله تعالى به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
المقوقس: إنَّ لنا ديناً لن ندعه إلاَّ لما هو خيرٌ منه.
حاطب: ندعوك إلى الإسلام الكافي به الله سبحانه عما سواه، إن هذا النبيَّ قد دعا الناس فكان أشدهم عليه قريشاً وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى. ولعمري ما بشارة موسى بعيسى بن مريم إلاَّ كبشارة عيسى بمحمد بن عبدالله (عليهم جميعهم السلام). وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلاَّ كدعاء أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبيٍّ أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعون وأنت ممَّن أدركه هذا النبيّ.
المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبيِّ مع بطاركتي وأعواني فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب إليه. ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آيات النبوة بأخبارِ الجنِّ والإخبار بالنجوى.. وقد عرفنا ذلك كله قبل قدومكم إلينا، فنحن قد تفحصنا الأخبار في بلاد العرب، ووقفنا على مجرى الأحداث فيها.. وسأنظر..
كان المقوقس أثناء الحديث يحمل كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بين يديه، فلما فرغ من كلامه جعله في وعاء من عاج وختم عليه ثم أمر بحفظه في مكان أمين، ودعا إليه كاتباً يحسن العربية، فملاَّه كتاباً إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، جاء فيه:
«إلى محمد بن عبدالله من المقوقس.
سلام، وبعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبيّاً قد بقي وكنتُ أظن أنه يخرج بالشام. وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتَين لهما مكان من القبط عظيم، وبكسوةٍ ومطيةٍ لتركبها.. والسلام».
وبعد أن ختم الكتاب دفعه إلى حاطب، ثم أمر بالجاريتين والهدايا فأعدَّ الركب، وسار به حاطب عائداً إلى المدينة.
كانت تلكما الجاريتان اللتان أهداهما المقوقس للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، «مارية بنت شمعون» لأب قبطي وأم مسيحية رومية وأختها «سيرين» وقد ولدتا في قرية من صعيد مصر تدعى «حفن» قريبة من بلدة «أنصنا» الواقعة على الضفة الشرقية للنيل تجاه الأشمونين. وقد انتقلتا في مطلع شبابهما الباكر إلى قصر «المقوقس» ــــ عظيم القبط ــــ وعاشتا فيه، حتى جاء حاطب موفداً من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يحمل رسالته إلى المقوقس، فبعث بهما المقوقس إلى النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم.
تركت الأختان بلادهما وفي قلبيهما حزن، وفي عيونهما دمعة، تذكران الأيام التي عاشتاها في البلاد، وتتفكران في الحياة التي تنتظرهما في بلاد جديدة لا تعرفان عنها شيئاً.. ورأى حاطب ما يعتمل في نفسَي الأختين، فأقبل عليهما طوال الطريق يحدثهما حديث الأنس، ويهوِّن عليهما ألم البعد، وكان يمنّيهما بحياة كريمة في ظل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، اللطيف الشفوق، العطوف.. وظلَّ كذلك حتى بلغ الركب المدينة، وقدم على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقرأ كتاب المقوقس وعلم أنه اقتنع بالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبيّاً، ولكنه كصاحبه هرقل الروم تردَّدَ في الدخول في هذا الدين إمّا ظنّاً منه ووهماً بأن النبيَّ المنتظر سيخرج في الشام، وإما خوفاً على ملكه وسلطانه..
وأعتق الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، الأختين، فتزوج من «مارية» ثم تزوج «حسان بن ثابت» من أختها «سيرين». وقد ولدت مارية للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ابنه إبراهيم (عليه السلام) وولدت «سيرين» لحسان ابنه عبدالرحمن.
* * *

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الحارث بن أبي شمر الغساني
كان الحارث بن أبي شمر الغساني حاكماً على دمشق من قبل الروم عندما جاءه كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مع شجاع بن وهب الأسدي، وقد كتب له فيه.
بسم الله الرحمم الرحيم
«من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر. سلام على من اتَّبع الهدى وآمَن بالله. فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقَ ملكك»..
وقد بلغ شجاع دمشق في وقت كان فيه الحارث يستعد لتهيئة الضيافة لقيصر الذي كان سيأتي من حمص إلى إيلياء حيث كشف الله عنه جنود فارس. وقد انتظر شجاع يومَين حتى أمكنه أن يوصل خطاب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الحارث، فلما قرأه رمى به وهو يقول: «من ينتزع مني ملكي؟»، ثم أمَرَ بتجهيز الجيش يريد أن يبعث به إلى المدينة لقتال النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه عادَ وكتب إلى قيصر يخبره بالأمر فجاءه الردُّ بالتريث.. إلاَّ أنه لم يلبث بعدها إلاَّ قليلاً حتى مات ولم يجب على كتاب رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان شجاع قد عادَ وأخبرَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بأمره، فقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «بادَ مُلكه»..
* * *

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم،
إلى هوذة بن علي الحنفي، حاكم اليمامة
حمل سليط بن عمرو العامري كتاب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى حاكم اليمامة وقد جاء نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
«من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي. سلام على من اتَّبع الهدى. واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخُفّ والحافر فأَسْلِم تَسْلَم وأَجْعَلُ لك ما تحت يدَيك».
كان هوذة حاكم اليمامة على دين النصرانية، فلم يرغب في الردِّ على دعوة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، له إلى الإسلام ولكنه بعث إليه جواباً على كتابه قال فيه: «ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتَّبعك».
وكأنَّ هذا الرجل قد أراد الشركة في النبوَّة، أو استخلاف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، له من بعده. فلما جاء ردُّهُ قال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «لو سألني بلحةً من الأرض ما فعلت».
* * *

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم،
إلى المنذر بن ساوى التميمي، حاكم البحرين
بعث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بكتابه إلى المنذر بن ساوى مع العلاء بن الحضرمي. وهذا نص الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
«من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإني أذكرك الله عزّ وجلّ فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رُسُلي ويتَّبع أمرهم فقد أطاعني. ومن نصح لهم فقد نصح لي. وإن رُسلي قد أثنوا عليك خيراً وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم. وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته، فعليه الجزية».
وقد عرض المنذر الإسلام على أهل البحرين، وكانوا هوداً أو مجوساً. وقد دخل في هذا الدين من أحبَّ ومنهم من بقي على دينه. أما مليكهم المنذر فقد دخَلَ في الإسلام وحَسُنَ إسلامه، وقد جاء من البحرين حتى التقى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، واجتمع إليه.
* * *

كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم،
إلى ملكي عُمان جَيْفر وعبد ابني الجلندي
وقد حمل الكتاب إلى هذين الملكين عمرو بن العاص. وقد جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
«من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي. أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام. أسلما تسلما. فإني رسول الله إلى الناس كافةً لأنذر من كان حيّاً ويحق القول على الكافرين. وإنكما إن أقررتما بالإسلام ولَّيتكما. وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن مُلْكَكُما زائل عنكما وخيلي تحلُّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما».
فلمّا وصل الكتاب إلى هذين الأخوين الملكين دخلا في الإسلام وأسلم معهما خلق كثير، ووضعت الجزية على من لم يسلم.
تلك هي الكتب والرسائل التي بعث بها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الملوك والأمراء والحكام على تخوم بلاده. ولقد حملت تلك الكتب والرسائل دعوة الرسول الأعظم لهم ولشعوبهم بالتخلِّي عن دياناتهم ومعتقداتهم والدخول في الإسلام، وهو واثق من قوة رسالته ونصر الله سبحانه وتعالى. ولولا تلك الثقة وذلك الإيمان العظيم لما أقدم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، على بعث سفرائه بقلب ثابت وعزم صادق.
وكان من آثار تلك الكتب أن دخَلَ بعضهم في الإسلام، وأن العرب قد أقبلوا على هذا الدين معتنقين له، وقد تتابعت وفودهم على المدينة تعلن إسلامها. أما غير العرب، خارج حدود الجزيرة، فقد كان منتظراً أن يأتيها الإسلام، لمَّا بدأ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يعد العدة ويهيىء القوة لجهادها. والحق أن في كتب محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ورسائله إلى أصحاب النفوذ والحَوْل والطَّوْل، وإلى ذوي القوة والجبروت لآيات تتصدَّرُ على التاريخ إقدام الأبطال، وعزم الرجال، وثقة الأكفياء. وإنها لتبدو في نظر كل باحث عن الحقائق الكونية، والمعجزات الإنسانية والنصر الإلهي، قوى تندفع من عزم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لوثوقه وثوق اليقين بأن الإسلام سوف ينتشر ويسود حتى يعمَّ نوره الوهاج فجاجاً بعيدة في العالم.
وتبرز أهمية تلك الرسائل التي وجهها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أولئك الملوك والحكام، وبخاصة منهم: هرقل، وكسرى، والنجاشي، والمقوقس، في أنهم لم يكونوا أمراء أو أقيالاً يكثر عددهم في زمان ومكان وحسب، بل كانوا أصحاب مكانة عظيمة في التاريخ السياسي لذلك العصر، لما كان لكل منهم من حَوْل وطَوْل، وسطوة ورهبة... وبذلك يكون عمل الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ذا مدلولات بعيدة لا يُقْدِمُ عليه إلاَّ نبيٌّ مأمور من الله مكلف بالدعوة إلى دينه، بعيد عن كل ظل من ظلال الخوف والضعف، تجلى عليه ملكوت السموات والأرض فتراءى له أولئك الملوك أشخاصاً عاديين، لا قيمة في نظره لكل ما يملكون إن لم يستجيبوا لنداء الإيمان، ويسخّروا ملكيتهم تلك لنصرة دين الله والسير على خطى رسوله الكريم.
وإن في وجود الفارق الكبير بين القوى المادية التي كان يملكها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك التي كان يملكها أعداؤه من أولئك الأباطرة والملوك، لأقوى برهان، وأصدق رد على أولئك النفر من المسلمين الذي يشكُّون في نجاح دعوة الإسلام في أواخر القرن العشرين، بحجة أن الإسلام يفتقر إلى قوة دنيوية كبيرة..
والحقيقة الناصعة التي يجب أن يدركها أولئك النفر وغيرهم أن المسلمين في بقاع الأرض لا تنقصهم القوى المادية، فهم إن لم يكونوا يملكون أعظم قوة مادية في تأثيرها على مصير العالم الحاضر، فإنهم دون شكٍ ولا ريبٍ يملكون القوة الأكثر فعالية والأشدّ أثراً من أي قوى مادية، هي تلك القوة الإيمانية التي يتميز بها الإسلام، وهي نفسها القوة الهائلة التي لا سبيل إلى قهرها إن استطعنا إدراكها والعمل بوحيها.. وإنها للقوة نفسها أيضاً التي استطاع المسلمون الأوائل أن ينتصروا بها حيث أقدموا على قتالٍ، أو سيَّروا جيوشاً، أو أرادوا فتح أمصار..
فما أجدر المسلمين اليوم بتدبر هذه الحقيقة.. إن العالم بأسره ليحتاج إلى الإسلام أكثر من أي وقت مضى، وهو يتعطش إلى هذا الدِّين عطش الظمآن إلى الماء الزلال.. فالمادية التي تطغى على عالم اليوم لا تختلف من حيث المضمون والجوهر عن تلك المادية التي كانت تطغى على العالم أيام ظهور الإسلام. والزمن تغطِّيه دائماً موجات من المادية والروحانية، ومن الإلحاد والإيمان، يتلو بعضُها بعضاً. ولعلَّ هذه اليقظة التي أخذت تدبُّ في عالم اليوم إنما تشير إلى أن موجة الإيمان قد أخذت في الظهور، وأن موجة الإلحاد المادي، الذي أغرق العالم حيناً من الدهر، قد بدأت تنحسر، وأن أمر هذا الإلحاد منتهٍ إلى زوال بإذن الله: «وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ».
* * *

معركة مؤتة
انقضت بضعة شهور على عودة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من عُمْرة القضاء إلى المدينة، وكانت اهتماماته أثناءها منصبَّةً على كيفية السبل التي يمكن سلوكها لنشر الدعوة خارج بلاد العرب، وعلى المنافذ التي يعبر فيها الإسلام إلى الأمصار البعيدة. ولم يكن هذا التطلُّعُ منه، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ بعد أن هيَّأ الأسباب الداخلية لاتصاله الخارجي، وبعث السفراء والموفدين إلى الملوك والحكام على أطراف شبه الجزيرة، بمن فيهم ملك الروم هرقل الذي عادت بلاد الشام تخضع له، وهي البلاد التي رأى الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّها وما جاورها أفضل المنافذ لعبور الدعوة إلى الخارج، بخاصةٍ بعدما أمِنَ جانب اليمن بإذعان عامل الفرس له ودخوله في الإسلام. ولذلك، وبهذه التوجهات، بعث، صلى الله عليه وآله وسلم، خمسة عشر رجلاً من المسلمين إلى «ذات الطَّلح» على حدود الشام، يدعون بدعوة الإسلام، إلاَّ أنّ جزاءهم على دعوتهم هذه كان القتل الذي لم ينجُ منه إلاَّ رئيسهم، إذ حالفه الحظّ، وأمكن له الفرار من أيدي أولئك الناس.
ولقد تأثَّر رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لهذا الحادث أشدَّ التأثر، إلاَّ أن الواجب المقدس الذي يحمله على عاتقه هو فوق التأثرات والمشاعر، ولذا فإن ذلك الحادث لم يُروّعه، ولم يثْنه عن التطلع إلى بلاد الشام، وجعلها أول بلاد يقتحمها الإسلام بهجمة الإيمان، فعادَ وبعث الحارث بن عمير الأزدي رسولاً إلى «الحارث بن أبي شمَّر الغساني» (عامل ملك الروم على بُصرى، وحاكمها يومئذٍ) بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام. ولكن ما إن نزل موفد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، «مؤتة» حتى اعترض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فسأله: أين تريد؟ قال: الشام. قال له: لعلك من رسل محمد؟.
قال له: نعم.. فجنَّ جنون ذلك الأعرابي من غسان وهو يسمع بأن الرجل من رُسُل محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر على الفور به، فأوثقوه ثم ضرب عُنُقَه..
وبلغ خبرُ هذا القتل العمد رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فاغتاظ له، واشتدَّ الأمر عليه كثيراً، لأنه ينطوي في ذاته على خرقٍ فاضحٍ للمناقب والقيم التي تمنع قتل الرسل والموفدين، ولأنه يحمل التحدّي الصارخ لمكانة الإسلام، الذي كان في أول مراحل عهده الذي ثبَّت فيه هيبته في النفوس، وفي بداية الطريق التي أمكنه أن يشقّها معتدلةً بين الناس، وأن يرسّخ بها الأفكار لدى القاصي والداني بأن الإسلام ليس عقيدة كسائر العقائد، ولا مبدأً مثل شتى المبادىء، بل هو دين الله، وبأنَّه مؤيد حقاً بنصر الله.. وتلك الأفكار هي التي كان لها فِعْلُها في الناس، وتأثيرها في النفوس، فأقدم الكثيرون يدخلون في الإسلام، منهم من آمن به عن بيّنةٍ واقتناع، ومنهم من دخله استسلاماً للأمر الواقع، وإن كانت هذه الفئة قد عادت وتذوقت حلاوة هذا الدين، بعدما صارت في رحابه الفسيحة، تطمئن إلى هدايته، وتسمو في ذرى نورانيته..
مثل هذه الاعتبارات، التي كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون جميعاً، يحرصون على التمسك بها بقوة، هي التي جعلت النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يجد في جريمة شرحبيل بن عمرو، جريمة تمتلىء بالخيانة والغدر، وتحفل بالكراهية واللؤم، وبعناصرها هذه تقتضي القصاص والعقاب، بحيث لا يجوز السكوت عنها، خصوصاً وأنها وقعت في أعقاب ذلك الفعل العدواني الآخر في «ذات الطَّلح»، وفي بلاد الشام، التي هي محطُّ الأنظار لعبور الدعوة ودفعها إلى البعيد، وهي أيضاً البلاد التي أبى حكامها الروم، وعُمّالهم عليها، إلاَّ أن يقفلوها في وجه الإسلام، وراحوا، على خلاف ما كان يُظَنُّ منهم كأهل كتاب، يجهزون الجيوش للزحف على المسلمين ومقاتلتهم.. وإذا كان رجال البلاط الرومي وبطانته، قد خافوا على نفوذهم من قبول دعوة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وراحوا يحثون مليكهم على عداوة الإسلام، فإن عمَّال الأمبراطور الروماني، أمثال شرحبيل بن عمرو وغيره، كانوا مثل أولئك البطانة الطامعين يخافون على سلطتهم ومكانتهم، فرفضوا هداية الدين الذي يتوجه نحوهم، وأبوا إلاَّ أن يقفوا جميعاً في جانب واحد يرتكبون الجرائم بقتل المسلمين، ممن تقع عليه أيديهم، ويتعمدون الكفر برفض الإيمان الخالص..
تلك الأسباب كانت قد تضافرت كلها، وجعلت النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يقدم على إجراء خطوة عسكرية في بلاد الشام، وذلك عندما أعدَّ في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة ثلاثة آلاف من خيرة أبطال المسلمين، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة للمسير ومقاتلة الروم ومن معهم من الأعراب في عقر دارهم.
ولقد كان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعرف أن تلك الحملة من جيشه سوف تلاقي الأهوال والصعاب، وسوف تجد من الشدَّة ما لم يعهدوا من قبل، ولذلك قال لهم: صلى الله عليه وآله وسلم، «إن أصيب زيدٌ فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة على الناس، فإن أصيب عبدالله فليرتضِ المسلمون رجلاً من بينهم يجعلونه عليهم أميراً»..
وكان ممن حضر الجمعَ والتجييش، وسمع التأمير يهوديٌّ اسمُهُ النعمان بن فُنْحُص، فتقدم من الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: يا أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميتَ من سميتَ قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، وإنَّ الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان ففلان يقومُ مَقَامهُ، فلو سمّوا مئة أصيبوا جميعاً».
أجل، ذاك عهد الله سبحانه مع أنبيائه ورسله، ومحمدٌ، صلى الله عليه وآله وسلم، هو خاتم النبيين ويدرك ما يفعل عن حق وإيمان قلَّ نظيرهما في وجود بني الإنسان.. ولا شيء في حكمة الله ومشيئته يمنع هداية نبيه الكريم إلى رؤية الأحداث بعين البصيرة، وارتقاب النتائج بإلهام الوحي، ولا شيء أيضاً يحولُ بين فكر محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، الثاقب وتشوّف المستقبل المنظور، من خلال ما آتاه الله تعالى من ملكات وقدرات جعلته في النبيين والمرسلين حامل أعظم رسالة سماوية إلى الأرض، كما جعلته في بني البشر سيّد القادة والمدبِّرين، والمخطِّطين والمنفذين..
ولم يكن ليغيب عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قطُّ ما لدولة الروم من قوة العتاد والسلاح، ومن كثرة الجيوش والمحاربين، وما حققته جيوشها من انتصارات على الفرس غير بعيدة في الزمان، ولكنه مع هذا الإدراك كان يرى بأن الدعوة تستوجب التضحية والفداء، كما تستوجب الإقدام والمثابرة، وما إرساله لحملة زيد بن حارثة إلا ضمن هذا الإطار من التصوّر الهادف والعمل الفاعل أيّاً كانت التضحيات، لأنَّ المسؤولية الجسيمة التي يحملها الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، هي فوق كل المسؤوليات وتتطلب دائماً حملةً يؤمنون بها، ورجالاً يضطلعون بأعبائها، لا ترهبهم المعوقات، ولا تُقْعِدهم العقبات.. أفبعْدَ هذا يسألُ الرسول الأعظم إن كان يستبق استشهاد قادة جنده أو إن كان يسمي من يخلف الذي يُصاب؟!. ولم يقف ذلك اليهودي عند حدّ سؤاله للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، بما سأل، ولكنه عاد إلى زيد بن حارثة (رضي الله عنه) يقول له: إعهد (أوصِ) يا زيد، فإنك لن ترجع إلى محمد إن كان نبياً».. فيقول له زيد (رضي الله عنه): «أشهد أنه رسولٌ صادق بارّ».
ما أحلاه نغماً إيمانياً يتدفق من قلب زيد ومن نفسه، فيدحَضُ كلَّ شك لليهودي أو لغير اليهودي بأن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، هو نبي الله، وهو خاتم النبيين لأنه لا نبيَّ بعده، فلا يحفل بما يوصي به، بل تكون له الشهادة الخالدة الدالَّة على أن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، رسولُ الله.
وبكى ابن رواحة، وهو يودع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب للدنيا، ولا صبابة إليها، ولكني سمِعت قول الله تعالى:
{وَإِن مِّنكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا} .
فلست أدري كيف لي بالصَّدَرِ بعد الورود؟ ثم أنشد:
لكنني أسأل الرحمن مَغْفِرةً
وضَربةً ذاتَ فَرْغٍ تقذفُ الزَّبدا
أو طعنةً بيدَي حَرَّانَ مُجهِزَةً
بحربةٍ تنفذُ الأحشاءَ والكَبدا
حتى يقولوا إذا مرّوا على جَدَثي
يا أرشَدَ الله مِنْ غازٍ وقد رشدَا
ثم وجَّه كلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال:
فثبَّتَ الله ما آتاكَ من حَسَنٍ
تثبيتَ موسى، ونصراً كالذي نُصِروا
إني تفرَّستُ فيك الخيرَ نافِلةً
والله يعلمُ أنّي ثابتٌ بَصِرُ
أنت الرسولُ فمن يُحرَمْ نوافِلَهُ
والوجهَ مِنْهُ فقد أزرى بِهِ القدرُ
.. استعدَّ الجيش للمسير، فعقد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لواءً أبيض ودفعه إلى زيد، الذي لم يسبق له أن تولى قيادة من قبل، ثم أوصاه بأن يأتوا مقتل الحارث بن عمير الأزدي، وأن يدعوا مَنْ هنالك إلى الإسلام، فإن أجابوا قبلوا منهم، وإلا فليستعينوا عليهم بالله وليقاتلوهم..
وانطلق هذا الجيش في أول غزوة له خارج حدود شبه الجزيرة، وفيه أعلام من أهل مكة والمدينة، أمثال خالد بن الوليد الذي كان حديث عهد في الإسلام، فإنه آثر أن يعوّض عما فاته من جهاد في سبيل هذا الدين، فكان مع المنتدبين في تلك المسيرة الهامّة..
وتقدّم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على رأس الجيش حتى بلغ ظاهر المدينة على ثنية الوداع، فوقف يُلقي وصيته على هذا الجيش، ويقول لجنوده: «أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم من المسلمين خيراً. أُغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله. لا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا مكفوفاً، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقربوا نخلاً، ولا تقطعوا شجرةً، ولا تهدموا بناءً».
تلك كانت وصية رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى جنود الإسلام، وهي وصية يجدر بأهل الأرض، ولا سيما في هذا العصر بالذات، أن يتفكّروا فيها وأن يتخذوها عظة لهم فيما يقومون به من حروب.. فالحرب، إن لم تكن تهدف في الأصل لإعلاء كلمة الله وإرساء دينه الذي ارتضاه، فهي ظلم وعدوان.. ومتى قامت الحرب فلها أصول وقواعد لا يجوز تخطِّيها، وفي طليعة هذه الأصول والقواعد، عدم الاعتداء على المستضعفين من طفل وامرأة وكهل ومنعزل عن الناس، ومنها عدم إهلاك الحرث والنسل، وإنزال الدمار والخراب في العمران. فأين منَّا هذه القواعد التي أرساها رسولُ الإسلام في كلمات موجزات، وأين منها حروبُ الناس في الماضي البعيد، وفي العصر الحديث، حتى حروب هذا القرن.. التي لم تحمل لبني البشر إلاَّ الموت يحصد الملايين، والدمار والخراب يعمُّ العالمين، والتي تزرع الظلم والقسوة، وتنشر البغي والفساد حتى لا تذر ناحية من نواحي الخير إلاَّ وتقضي عليه؟!..
كلمات قليلة أوحى بها رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنها تناولت الإنسان في حياته وممتلكاته وحقوقه.. أَلاَ فلتَكُنْ دستوراً للناس وقانوناً للحياة لكي يدرك أهل الفكر والضمير، وأصحاب الحكم والتقرير، فظاعة الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية وباسمها تحت ستار الشعار الباهت: «الأمن والسلم الدوليَّين»..
... وبعد أن أودَعَ الرسولُ الأعظم وصيته تلك لجنوده، عادَ يدعو لهم، ويدعو معه المؤمنون: «صحبكم الله، ودفع عنكم وردَّكم إلينا سالمين».
وكانت المسيرة بأمرٍ من الله ورسوله، انطلق فيها الجيش الإسلامي حتى بلغ «معان» من أرض الشام، فنزل في تلك الناحية، واجتمع قادته يضعون خطة الحرب، فرأوا أن يكون لقتالهم طابع المفاجأة، بحيث يأخذون العدوَّ على حين غرة، أسوةً بما كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يفعله في غزواته وجرياً على عادته في مهاجمة أعدائه..
وبينما كان أمراءُ الجيش منهمكين في وضع تلك الخطة، بلغتهم أخبار حشود كبيرة تزحف لمقاتلتهم.. وذلك أن أنباء مسيرتهم كانت قد سبقتهم، فقام شرحبيل بن عمرو الغساني يجمع من حوله الرجال والمقاتلين حتى بلغ جيشه المئة ألف مقاتل، ولم يكتفِ بهذا العدد الضخم بل كتب إلى هرقل كي يمدَّه بالجيوش من العرب والإغريق، فلم يكن من هرقل إلاَّ أن أخذه الحماس، فانطلق هو الآخر في مئة ألف رجل آخرين حتى نزل «مُآب» من أرض «البلقاء» وهي كورة من أعمال دمشق..
بلغت أخبار تلك الحشود المسلمين وهم في «معان»، فراعهم الأمر، وراحوا يتفكرون بما يفعلون: هل يرجعون إلى المدينة ما دام ليس لهم قدرة على مقاتلة هذه الأعداد الغفيرة من الجيوش، أم يقدمون على خوض المعارك غير عابئين بالكثرة والحشود؟!.. ورأى البعض أن يكتبوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يُعلمونه بواقع الأمر، فإمَّا أن يمدَّهم بالرجال وإمَّا أن يأمرهم بأمره فيمضوا فيه.. وكادَ هذا الرأي يسودُ لولا أن قام عبدالله بن رواحة قائلاً: «أيها المؤمنون! والله إنَّ التي تكرهونها لهي الشهادة التي خرجتم تطلبونها، فإنما هي إحدى الحُسْنَيَيْن: إما ظهور، وإما شهادة»..
ومثل ومض البرق، سرت حماسة الإيمان، واندفعت نخوة الشجاعة إلى الجيش كله، وكانوا قد أمضوا ليلتين في «معان»، قاموا بعدهما يمضون على هدى الله تعالى حتى بلغوا تخوم «البلقاء»، فوجدوا جموع هرقل من الروم والعرب قد تقدمت لتتلقاهم وصارت على مقربة من محلة يقال لها «مشارف»، ولمَّا لم يجدوا في تلك الجهات ما يدفع عنهم؛ عادَ المؤمنون ينحازون إلى مكان أكثر تحصيناً بالنسبة لموقعهم فاتخذوا «مؤتة» منزلاً لهم...
التقت جيوش الضلال من الروم وقبائل العرب أمثال لخم، وجُذام، وبلقين، وبهرا، وبلي في «مُآب» ثم زحفت هذه الجيوش إلى «مؤتة» حيث تمركز المسلمون. هناك في هذه القرية، جرت معارك ضارية ليس فيها تكافؤ في العدد والعتاد.. ثلاثة آلاف يواجهون مئتي ألف، وأين؟ في أراضي بلادهم التي يخبرونها جيداً، والتي خاضوا فيها معارك كثيرة مع أعدائهم الفرس.. ودارت رحى الحرب حامية الوطيس في أعنف قتال وأشدّه، فحمل زيد بن حارثة راية النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، واندفع بها في صدر العدو، يرى تكاثر الأعداء من حوله فلا يَرهبهم، والموت المحتم أمامه فلا يهابه.. إنه يتقدم، ويقاتل هؤلاء الأقوام وهو يعرف أنه ملاقٍ حتفه، ولكنْ ما همَّه موتٌ في هذه الحياة وهو سيلاقي الحياة الأبدية..
وكان زيدٌ يضرب وفي رأسه شريط حياته يدور.. لقد كان عبداً فرفعه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى مرتبة السادة. ولقد صحبه معه على مدار السنين العديدة الماضية، ينفحه بروح الإيمان، وصدق العزيمة، حتى جاءَ اليوم الذي أمَّره فيه على الناس وجعله قائداً لجيشه.. وها هو الآن وفي هذا المقام الرفيع يُقبل على الموت في سبيل ربِّه وفي سبيل إعلاء كلمة الحق.. فهل أرفع شرفاً له من أن ينال هذه المكانة في سبيل الله ورسوله، وهل أعلى وساماً من وسام الجهاد الأكبر، والحظوة بأنبل مصير في تاريخ بني البشر؟!..
ثم تتكاثر على زيد رماح العدو، وتتألب عليه سيوف الباطل، تفجّر دمه، وتمزق أوصاله، فهوي على أرض «مؤتة» شهيداً، وعيناه ترنوان إلى هنالك في البعيد.. إلى المدينة حيث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي بعثه إلى الشهادة وهو في المقام الأسمى، فلا تنطلق روحه إلى العزيز في أعاليه إلاَّ وهي تترنّم بأناشيد الوفاء، وتراتيل الإيمان..
ويتقدم جعفر بن أبي طالب، الشاب الوسيم الذي كان في الثالثة والثلاثين من عمره. تقدم لساحة الوغى بقلب شجاع وإقدام بطوليّ. لم يكن لغيره في هذه المعركة أن يتقدم مثله: فقد ورِثَ الجرأة من بيتٍ دعائمه المجد، ولَبِناتُه الفضائل، وظله الودُّ والرحمة، فهو ابن أبي طالب «عبدمناف» بن عبدالمطلب بن هاشم، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، أول هاشمية وَلَدت لهاشمي، ولقد عايش جعفر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، تحت سقف واحد، ورأى بأم عينيه مكانته عند والده، وما كان يغدقه عليه من الحنان والعطف، وما يمنحه من الرعاية والمحبة، فتأثر بذلك أيما تأثر، فكان مبدأ الأخوة هو السائد المسيطر على العلاقة القائمة بينهما، فلا عجب إن تمتع جعفر بقوة كانت قبساً من نور النبوَّة، كما يدلُّ عليها قول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لجعفر: «أَشْبَهَ خَلْقُكَ خَلْقي، وأشبهَ خُلُقك خُلقي، فأنت مني ومن شجرتي».. ولا عجب إن انبرى في حمَّى المعركة يقاتل قتال الأبطال الأشداء، ويَذُودُ عن حمى الدين ذود الفارس النبيل، فقد اقتحم المعركة وهو يقول:
يـــا حـــبذا الجـــنةُ واقـــتِرابُــــها
طـــــيبةً وبــــارداً شـــــــرابُــــها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها
عليَّ إن لاقيتُها ضِرابُها
وما زال يضرب بالأعداء ضربات تطيح بالأعناق، وتقطع الأوصال، حتى يفري الصفوف فرياً وينزل في القلوب الخوف والرعب. ويراه أعداؤه على تلك الحالة فلا يجدون مناصاً من التكاثر عليه والإحاطة به من كل جانب، وعندها يقتحم جعفر الصفوف، وينزل عن فرسه بعدما أصيبت، ثم يقاتل وهو راجل، ولواء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في يمينه فقطعها العدو، فأخذ اللواء بشماله فقُطِعت هي أيضاً، فاحتضنه بعضدَيه، وما زال كذلك حتى قتل، وقد وُجد في جسده الشريف نحو «تسعين طعنة».
فأية شجاعة أعلى من شجاعتك يا ابن أبي طالب، وأيُّ وفاء ذاك الذي يدفَعك ألاَّ تتخلى عن لواء رسول الله حتى بلغ بك الأمر أن تحتضنه في عضدَين قطعت يمناهما واليسرى؟!. هاهنا في «مؤتة» فليشهد التاريخ على البسالة النادرة، وعلى الأمثولات الرائعات.. وها هنا في «مؤتة»، كما في أية أرض أخرى قتل فيها المؤمنون في سبيل الله، لا يعدون أمواتاً، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون كما وصفهم الله سبحانه في قوله تعالى:
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤمِنِينَ} .
نعم، هوى جعفر (سلام الله عليه) في أرض المعركة، فاندفعت روحه ترفرف نحو ذرى المجد، لتعبر في أجواء المدينة، تحمل وصية الشهيد وهو يقول: «ألاَّ بلَّغي ابن عمي، رسول الله وخاتم أنبيائه بأنني وفيت في مؤتة، وما وهنتُ وما قَلَيْتُ، وما كان عندي إلاَّ خوف واحدٌ، أن تسقُط رايةُ الإسلام من يديَّ، فحميتها حتى قطعتا، ونثرتْ دمائي على الأرض كي تسقيَ في الدروب غرساتٍ يرفرف على أغصانها الإيمان، وتفرخ في الحقول حبات ينبت على أوراقها الحق»...
ألا يا واصلاً مدينة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قل لهم: هناك في أرض الشام جعفر لم يمت بل هو شهيدٌ يفرح بما آتاه الله من فضله، وبما منحه من أجر، ألا فليهنأ له ذوو القربى والمحبُّون لمكانته الرفيعة في جنة الله ورضوانه.
.. ثم تقدم، من بعد مقتل جعفر، عبدالله بن رواحة فيأخذ الراية وهو على فرسه، فجعلت نفسه تحدِّثه بالموت، وتجعله يتردد بعض التردد، ولكنه سريعاً ما أنشأ يقول:
أقسمــتُ يـــــا نفسُ لتــــنزلنَّــــهْ
لــــتنـــــزلــــنَّ أو لتـــــــــــــكرهنّــــــَهْ
قد طالما قد كنتِ مطمئنةْ
مالي أراكِ تكرهينَ الجنَّةْ
ثم يقول مذكراً برفيقَيه:
يا نفس إلاَّ تُقتلي تموتي
هذا حِمام الموت قد صَليتِ
وما تمنيتِ فقد أُعطيتِ
إن تفعـــلي فعلَهمــــا هُــديت
ثم لم يَطُلْ تردّدُ عبدالله بن رواحة، إذ ما لبث أن أخذ سيفه من جانبه، وأقبل على القتال، مقداماً غير هيّاب، مطمئناً غير جَزِعٍ، وما زال يقاتل بطلاً عظيماً حتى استشهد، ولحق بزيد وجعفر إلى الخلود.. فهؤلاء هم قادة الجيش الإسلامي في «مؤتة» يستشهدون ثلاثتهم في سبيل الله، وفي موقعة واحدة، مقدمين أبلغ العظاتِ وأسمى الشهادات.. لقد كانوا يعرفون منذ ولاَّهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إمارة المسلمين بأنهم ملاقو الموت ومع ذلك ارتضوا أوامر الرسول مطمئنين مضحين، لأنهم آمنوا بأنَّ ما يسيرون إليه هو الحق، وفي سبيل الحق لا يأبه المؤمن لشدةٍ ولا لموتٍ، بل يرتجي أمراً واحداً ألا وهو إعلاء كلمة الحق المبين.
وأخذ ثابت بن أرقم الراية، بعد مقتل عبدالله، فقال: «يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم»، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل..
فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، وكان رجلَ حربٍ مجرَّب، وقائداً ماهراً، ما إن أخذ الراية حتى عمد إلى جمع صفوف المسلمين، بعد أن بدأت تدبُّ بينهم التفرقة، ويداهمهم التشتت، وما زال يداور الأعداء، بعد جمع الصفوف، في مناوشات بسيطة حتى انتهى النهار، وتحاجز الجيشان لطلوع الصباح. وأثناء الليل، تدبَّر خالد الخطة التي يستطيع معها أن يؤمن سلامة جيشه، فوزع عدداً من الرجال غير قليل في المؤخرة، وأمرهم إذا طلع الصباح أن يحدثوا جلبة وضجيجاً يوهمون بهما الأعداء أن المدَدَ قد جاءهم من عند النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم. وبالفعل كانت خطة محكمة تلك التي تدبرها خالد بن الوليد، إذ ما إن سمع الروم الضوضاء في مؤخرة جيش المسلمين حتى ظنوا بأنَّ أعداداً غفيرة قد انضمت إليه في الليل وهذا ما جعلهم يخافون، وعن المهاجمة يتقاعسون، لأنَّ ما لاقوه من شدّة المسلمين وسط المعارك، وما أنزلوه بهم من تقتيل ــــ رغم عددهم القليل ــــ كان حَرِيّاً أن يخيفهم، وأن يثبط عزائمهم، بعد أن صاروا جيشاً لَجِباً، بتلك الإمدادات الكثيرة التي وصلتهم.. وانتظر الروم أن يبادئهم المسلمون القتال، وأن يشنوا عليهم الغارات، ولكنَّ شيئاً من ذلك لم يحصل، بل على العكس فوجئوا بهؤلاء الأعداء الأشدّاء ينسَحبون من مواقعهم، مؤثرين الرجوع إلى بلادهم. وبلغ خبر رجوع الجيش الإسلامي على تلك الحالة مسامع المسلمين في المدينة، فوقع في نفوسهم مهولاً مروعاً، وخرجوا من المدينة، كباراً وصغاراً يريدون ملاقاة ذلك الجيش المنهزم بالتأسِّي لما لاقاه.. وبالملامة أيضاً.. ولقد بلغ من تراكض الصبيان ما جعل الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يشفق عليهم من طول ما جرَوا، فقال: «خذوا الصبيان فاحملوهم، واعطوني ابن جعفر». وأخذ، صلى الله عليه وآله وسلم، عبدالله بن جعفر فحمله بين يديه على دابته، وما زال يتقدم الناس حتى بلغوا «الجرف»، وهناك كان استقبال مرير للمقاتلين، إذ أقبل الناسُ عليهم يحثون التراب في وجوههم، وهم يقولون: «يا فُرَّار، فَررتم في سبيل الله؟!».. فيقول الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «ليسوا بالفُرَّار، ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله تعالى»..
تلك هي عادة الجموع لا ترحم في أحيان كثيرة، بل تندفع وراء المشاعر مُعماةً عن الحقيقة.. فقد ظنت جموع المسلمين أن جيشهم قد هزم، ولكن الحقيقة كانت على خلاف ذلك، بدليل ما أكّده رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ينفي عن ذلك الجيش تهمة الفِرار، وما أثبتته الوقائع أثناء القتال في «مؤتة»..
فلقد كانت أسباب الفرار أمام الجيش الإسلامي متوافرة وعديدة، إذ كان مقدّراً له، بعد مقتل قادته الثلاثة، أن يترك المعركة ويهيهم على وجهه مدحوراً، بما يمكّن العدو من لحاقه وإنزال أقصى الضربات به. ولكنَّ ذلك الجيش لم يفرّ، بل صمد في وجه أعدائه وثبت لمدة سبعة أيام في أعنف قتال وأشد معارك. لقد قابل العدو وهو في حالات من الضعف والخَوَر، وظل ثابتاً أمامه رغم تلك الحالات التي تدفع إلى الشتات.. يضاف إلى ذلك موافقة الجيش لخالد بن الوليد على خطته والبقاء في ساحة القتال، فلو لم تكن في نفوس ذلك الجيش القوة الكافية، وفي قلبه الشجاعة الزائدة لما كان قبل بالخطة، ولكان آثر الانسحاب تحت جنح الظلام، ولو فعل لكان عندها عُدَّ منهزماً. أما وأنه ثبت في مكان المعركة، وبثباته ذاك أجفل الأعداء وأرهبهم، حتى منعهم عن مهاجمته، فتلك هي البطولة حقّاً، وذاك هو الصمود بعينه.. لا، لم يكن مقدراً لثلاثة آلاف أن يهزموا مئتي ألف، ولكنَّ ثباتهم أمام هذه الجحافل يعتبر نصراً بذاته..
وإذا كان هذا هو واقع الجيش الإسلامي عامة، فإن ما قام به قادة هذا الجيش من بطولات ليعتبر فوق التصوُّر، وأعلى من كل نصر للأعداء. لقد أقبلوا على الموت بحماس بالغ النظير، وخاضوا أشد المعارك ضراوة، بإيمان المسلم الصادق الذي يعرف أن دينه يأمره أن يقاتل في سبيل الله، وهي التجارة الرابحة وحدها، كما في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
نعم ذلك كان الفوز العظيم الذي ناله قادة الجيش الإسلامي، وبفضل هذا الفوز قادوا المؤمنين في القتال الصعب المرير، فهل يُعَدُّ ذلك الجيش فَرَّاراً؟!.. لا والله، بل هو الكرَّار إن شاء الله تعالى...
ولقد حزن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لمقتل الأمراء الثلاثة حزناً كبيراً، وبلغ الألم من نفسه أن بكاهم بأسىً، وبكى المستشهدين معهم في «مؤتة». ولقد طاف، صلى الله عليه وآله وسلم، على بيوت الشهداء، يواسي أهلهم وأبناءهم، حتى انتهى به المطاف إلى بيت ابن عمه جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فدخل على منزل جعفر، وطلب إلى زوجه أسماء بنت عميس أن تأتيه بغلمانها الثلاثة: عبدالله، وعون ومحمد. فلما أتته بهم، راح يقبلهم ويشمهم وعيناه تذرف بالدمع، ثم وضع عبدالله بن جعفر في حجره وأخذ يمسح رأسه وهو يقول: «اللَّهم إنَّ جعفراً قد قدم إليَّ أحسن الثواب، فاخلُفه في ذريته بأحسن ما خلَفْتَ أحداً من عبادك في ذريته». ثم التفت إلى أسماء وقال لها: «يا أسماء.. ألا أبشرك؟».
قالت: بلى.. بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قال: «إن الله سبحانه قد جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة».
وكان، صلى الله عليه وآله وسلم، يقصد أن الله تعالى قد أبدل جعفراً (رضي الله عنه) جناحين عوضاً عن يديه اللتين قطعتا وكان يحتضن بهما لواء الإسلام ولواء رسول الله.
رضي الله عن جعفر ذي الجناحين، وصاحب الهجرتين، أبي المساكين، المدافع عن لواء المؤمنين، فقد كان يحب المساكين ويجلس إليهم، يخدمهم ويخدمونه، ويحدثهم ويحدثونه، فكان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يكنّيه «أبا المساكين». وكان يقول عنه: «كان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب ينقلب بنا فيطعمنا ما في بيته» ومثله أولئك «يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً». وصدق الله العظيم الذي يورثهم المجد في الدنيا والآخرة، فيكونون الوارثين عن حق للخلد: «أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون»..
تلك كانت معركة «مؤتة»، بما حفلت من مخاطرة وجرأة، ولكنها، رغم المخاطرة والجرأة، كانت ضرورية لإرهاب الروم فيرون فيها بأس المؤمنين وقتالهم وإن قلَّ عددهم، كما كانت لازمة حتى ترتسم أمام المسلمين طريق الجهاد في مقبل الأيام وهم ينشدون نشر دينهم في البلاد، كما دلت عليه الأحداث المتعاقبة.
* * *



المصادر
1 سورة سبأ، الآية: 28.
2 سورة التوبة، الآية: 33.
1 سورة الروم، الآيات: 1 ـ 6.
1 الأريسيون: تعني الخدم والحشم أو الفلاحين. وقيل هم قوم من المجوس لم يعبدوا النار ويزعمون أنهم على دين إبراهيم (ع). وقيل إنهم أتباع عبدالله بن أريس (رجل كان في الزمن الأول) قتلوا نبياً بعثه الله إليهم. وقيل غير ذلك. فيكون قصد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، واحدة من اثنتين إما أن هرقل يحمل إثم رعاياه إن صدهم عن الإسلام وإما أن هرقل يحمل الإثم الذي حمله الأريسيون عندما قتلوا النبيَّ الذي بُعث إليهم.
1 سورة آل عمران، الآية: 64.
1 كان جيفر هو الملك لأنه أَسَنُّ من أخيه عبد. وكلمة الجلندي ليست اسماً وإنما هو لقب وقد تعني «قَيْلاً» أو «كاهناً» في لهجات أهل عمان كما جاء في «تاريخ العرب قبل الإسلام».
1 مؤتة: قرية تقع الآن على بعد 12 كيلومتراً جنوب الكرك في الأردن. والمسافة بين المدينة ومؤتة 1100 كيلومتر تقريباً. وقد قطعها المسلمون على ظهور الإبل والخيل، وانقطع عنهم المدد والميرة والخبر بعد ما خرجوا من بلدهم، وهم يدخلون في أراضي العدو لقتاله.
1 سورة مريم، الآية: 71.
2 ذات فرغ: ذات سعة. والزبد هنا: رغوة الدم.
1 سورة آل عمران، الآيات: 169 ـ 171.
1 سورة التوبة، الآية: 111.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢