نبذة عن حياة الكاتب
سلسلة أعلام التصوف
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : السير
عدد الصفحات : ٩٢٩
تاريخ النشر : ١٩٨٨

البُسْطَامِيّ
سلْسِلة أعلامِ التصوّف


البُسْطَامِيّ
دراسة وتحليل

سَميح عَاطِف الزّين

الشركة العالميّة للكتاب
دَار الكتاب اللبنّاني ـــ مَكتبة المدرَسَة






بسْم الله الرَّحمن الرَّحيم

الهاربون من المسؤوليات في الحياة
مَنِ الهارب من الحياة؟

هل رأيت سعيدًا في حياته الشخصية أو العالمية، أو ناجحًا
في أعماله، أو مرموقًا بين أترابه، أو من هو سليم الصحة والعقل
ويحاول أن يهرب من واقعه الجميل فيكون هاربًا من الحياة؟

الهاربون من المسؤوليات في الحياة
مَنِ الهارب من الحياة؟
هل رأيت امرءًا سعيدًا في حياته الشخصية أو العائلية، أو ناجحًا في أعماله، أو مرموقًا بين أترابه، أو مَنْ هو سليم الصحة والعقل، يحاول أن يهرب من واقعه الجميل، فيكون هاربًا من الحياة؟
لا!... إنَّ أيًّا من هؤلاء، وغيرهم من الذين وجدوا سبيلًا يشدهم إلى الحياة، لا يمكن أن يفكروا في الهروب منها، لأنَّ هذا الهروب معناه عدم مواجهة مشاكلها وصعابها، أو عدم قدرة الإنسان على تحمُّل ما تفرزه المشاكل والصعاب من آلام ومتاعب، مما يجعله يستسلم إلى نوعٍ من القهر النفسي، أو خيبة الأمل، أو الذل الوجداني. وضعف الصبر هذا يدفعه إلى البحث عن أسلوب جديد في الحياة، يتوهم فيه وجود الراحة التي ينشد، والملاذ الذي إليه يأوي، ويختلف هذا الأسلوب عند الأفراد باختلاف نزعاتهم وميولهم، فقد يكون في الاندفاع وراء الملاذِّ والشهوات، وقد يكون في الانفراد والعزلة، أو في التقشف والجوع والسهر إلى غير ذلك من الأساليب التي تخرج على مسار الحياة الطبيعي.
على أنه غابَ عن هؤلاء الهاربين من الحياة، أن لجوءهم إلى أي نوع من أنواع الهروب هذا، سوف يؤدي حتمًا إلى إفساد الغرائز وإهلاكها، ولا سيما أنَّ الإلحاح في تجويع البدن، وإماتة الإحساس الجنسي ـــ وهما مصدر الطاقات الظاهرة والباطنة في حياة الإنسان ـــ قد ينتهي بالإنسان إلى أن يصبح فريسةً للوساوس، والخيالات الفاسدة والخواطر السوداء، كما قد يغدو متبرمًا بالحياة، ساخطًا على كل شيء فيها، ساعيًا لما يقرّب إليه الخلاص منها، وذلك بعد أن تصبح الحياة عنده بلا غاية وبلا مطلب، ممَّا يدفعه إلى القيام بأي عمل أرعن، بما فيه الانتحار الذي هو أفظع ما يصل إليه الإنسان في وجوده. والعجيب في أمر الإنسان، أنه متى فقد الغاية من الحياة، أو بمعنى آخر إذا لم يعد لديه هدف معين يسعى إلى تحقيقه، فإنَّ بين أفراده مَن لا يتوانى عن رفض الحياة، حتى لو كانت كل سبل الراحة المادية متوافرة له.
وهذا ما نجده عند كثيرين في الغرب، ممن تأمنت لهم كل سبل الرفاهية والدعة، إذ يقدمون على الانتحار، لأن الدوافع المعنوية ماتت عندهم، ولم يعد هنالك ما يشدُّهم إلى الحياة.
إذن، فالحياة محك اختبار عظيم للإنسان: فإما أن ينجح في هذا الاختبار، فيواجه الحياة بكل حُلْوها ومُرَّها، وإما أن يسقط في هذا الاختبار عندما يفقد القدرة على المواجهة. ثم تكون النتيجة الهروب من هذه الحياة بالقضاء عليها، أو باعتماد نهج جديد لا يتوافق مع المفهوم السليم عن الحياة، وما تتطلَّبه من كفاح ومثابرة، ومعاناة وجلد. وكثيرًا ما نجد عند هؤلاء اللامبالاة في اللباس وحب تحقير النفس والجسد، وهذا ما عرف عند الناس خطأ بالزهد، أو بصورة أوضح، هذا ما نشهده اليوم في الحركات التي قامت في الغرب، وانتشرت منه إلى سائر أقطار الأرض، حيث ظهرت بأشكال مختلفة مثل الإدمان على الرقص والغناء، أو تلك الأنواع من الفنون المختلفة، التي نجد أصحابها يلهثون وراء المتعة الجسدية، واللذة الحسية، أو ينغمسون في المسكرات والمخدرات للهروب من واقع الحياة، وما إلى ذلك من أساليب التهافت على الانفلات من القيم والمبادئ السامية، التي تشكل محور الحياة المستقيمة، ومدار الوجود الحقيقي...!
تطغى على الغرب اليوم موجات فكرية غريبة، لا تقل بشاعة عن تلك التي سادت العصور الوسطى. ففي حين أن تلك العصور اشتهرت بالإقطاع والعبودية، وتحكُّم الأسياد برقاب العباد، مما أهدر كرامة الإنسان وقضى على وجوده المادي والمعنوي، نجد اليوم، في عصرنا هذا، موجاتٍ فكريةً جديدةً لا تقل أثرًا في الحط من كرامة الإنسان، وإبعاده عن قيمته الإنسانية، حتى بات أصحابها عبيدًا لانفعالاتهم النفسية، وكأنهم عادوا إلى قاعدة الاستعباد، لكنه الاستعباد النابع من ذواتهم، والذي اختاروه بملء حريتهم وإرادتهم، والسبب في انتشار هذه الظواهر الجديدة إنما يعود إلى الحرب العالمية الثانية، وما خلّفته من مآسٍ وويلات، وما أدت إليه من خراب ودمار.
لقد انتهت تلك الحرب فعلًا، وسكت أزيز الطائرات، وخرست أصوات القنابل المدوية، ولكن ماذا وجد الناس من حولهم، ولا سيما الشبان منهم؟!
لقد وجدوا الدور خرابًا، والاقتصاد منهارًا، وحيثما ذهبوا كانت تطالعهم قبور الأحباء، وتلاحقهم ذكريات الأعزاء.
هذا ما وجدوه، وما كان يحيط بهم بالفعل، وينتصبُ ماثلًا أمام أعينهم باستمرار، يستوي فيه المنتصرون والمنهزمون على حد سواء، لأنهم كلهم ذاقوا طعمه مرًّا، وشمُّوا رائحته آسنةً، ورأوا مفعوله قاتلًا! فنشأ عند الجميع نوع غريب من الشعور، كان مزيجًا من اليأس والقلق والتهوُّر.
وفي ردِّ فعل عنيف، قام دعاة الإصلاح في الاجتماع والاقتصاد والعمران، يشدُّون عزائم الشباب، ويحركون همم الأمم، فاستوى كل شيء من جديد، بل أحسن مما كان عليه من قبل، فعادت عجلة الحياة إلى الطريق السويّ، وانتظمت دورات الاقتصاد، واندفع العمل في التصنيع والبنيان، وإقامة المدن والمنشآت، حتى غدت الأماكن أجمل مما كانت، وباتت الحياة رخاءً أكثر من السابق، ولكن هل أذهب ذلك كله المرارة من النفوس، وأبْعَدَ عنها وساوس القلق والخوف واليأس؟!
لا نظن ذلك، لأنَّ ما خلّفته تلك الحرب البشعة كان أقوى من أن تمحوه مظاهر الحياة الجديدة، لذلك عاش الجيل الجديد في أوروبا، بل كل من أذهلتهم النتائج التي تمخَّض عنها الصراع الدولي، الذي عادَ يستشري من جديد، عاشوا حياة فكرية مضطربة، وحالةً نفسية متعثرة، ودليلها ما شهدته باريس ـــ وهي مرآة العالم المتحضِّر وبيت الرصد للموجات الفكرية والانفعالات النفسية في كل أوروبا ـــ ومعها عواصم الغرب كلها، من حالات الاضطراب الفكري والتعثر النفسي، إذ امتلأت بالأماكن والجحور التي تعجُّ بأولئك الذين خلَّفوا الحياة السويَّة وراءهم، وهاموا على وجوههم حيارى، ظامئين، يطلبون الفرح واللذة من أي سبيل كان.
ومن هؤلاء اليائسين أبلغ اليأس، ومن هؤلاء المقبلين على المتعة في شراهة المجانين، تولدت تلك الشرارات الفكرية الجديدة، فكانت غريبة الألوان، متعاكسة الاتجاهات، تبني عالمًا للفكر بقواعد مبتدعة، لا ارتباط بين مقدماتها ونتائجها. ولعلَّ أهم مظاهر هذا العالم الفكري الجديد تلك التي تجلّت فيما عرف بالبيتلز (Beetles) في أوروبا، والهبيين في أميركا، أو فيما راج في سوق السينما والتلفزيون من أفلام خلاعية، أو أفلام عنف وجاسوسية، وفيما انتشر على نطاق واسع من بيوت اللذة والمتعة، ومواخير الدعارة والقذارة، إلى جانب أماكن المخدرات والمسكرات، وظهور العصابات والمافيات التي عجزت الحكومات عن مقاومتها، والسيطرة عليها. هذا بالإضافة إلى تلك النظم السياسية والاقتصادية، التي تحمي الاحتكارات الجشعة، وتحمي التمايز الطبقي، أو تلك التي تهيمن كلية على الدولة والمجتمع، وأدوات الإنتاج، بحيث تقتل المبادرة الفردية، وتقضي على الحرية الشخصية إلَّا ضمن إطار النظام، والإيمان بعقيدة الحزب الحاكم.
ولم يكن الفن بعيدًا من هذا العالم الفكري الجديد، بل على العكس، كان له فيه صرحٌ كبير، لكنه صرحٌ تلاقت فيه أنواع شتّى من الفنون كالموسيقى والنحت والرسم والتصوير، والشعر والكتابة، على ملامح جديدة لم تكن معروفة من قبل، وهي ملامح لا تنبئ عن عمل حضاريّ، وليست أكثر من تعبير عن مشاعر أصحابها المنجذبة بالفرح واللذة، الساعية وراء المتعة والنسيان. لقد اعتدَّ هؤلاء بفنونهم أيما اعتداد حتى صار يشار إليهم بالبَنان، فأقاموا الحفلات والمعارض، في جميع الأقطار، لكنَّ غالبيتهم ظلوا مشردين في الطرقات، يعرضون نماذجهم الفنية على الأرصفة أو في أمكنة مختصة بهم، همُّهم كسب دريهمات من ورائها، حتى يشتروا بها لباسًا من نوع مميَّز، يأنف الإنسان العادي من ارتدائه، أو حتى يؤمِّنوا بها لقمة العيش أو المسكر الذي يخدر أعصابهم ويجعلهم يهيمون في النشوة والخيال!!!
ولقد قامت صرخات مدوية في الغرب، ترفض تلك المظاهر البشعة والفنون المبتذلة، وتعلن مساوئها وما تجرُّ إليه من انعدام روح المسؤولية، وعدم رؤية المستقبل بصورة واضحة، تعيد للإنسان ما فقده من كرامة، وتوصله إلى ما يطمح إليه من سعادة إلا إن تلك الصرخات لم تؤد إلى أيّ نتائج إيجابية، وما زال الإنسان يعيش واقعًا مؤلمًا، يدفعه إلى الهرب من الحياة بمختلف الصور والأشكال.
إن هذه الصورة الحقيقية التي تشير إلى فترة من فترات اختلال التوازن في الفكر العالمي، عقب أزمة الحرب الماضية، قد أدت إلى تنحية عدد كبير من أبناء الجيل الماضي عن الحياة الواقعية، فتعلقوا بأسوار الوهم، ووقفوا يصرخون بآرائهم المضحكة حينًا، والمحزنة حينًا آخر.
إن هذه الفترة التي اختل فيها ميزان الإدراك والتصور، واختلطت فيها المقاييس المنطقية والعقلية بالمشاعر والانفعالات، والرؤى المغلوطة، تقرِّب إلينا، من الواقع الملموس، صورة لما يشهده العالم من تأثير الصدمات الشديدة في اتِّزان المقاييس الفكرية، وفي وضوح الغايات المختلفة في الحياة، ولما كانت الإنسانية، وهي تتقدم في ساحة الحياة الرحيبة المتماوجة، لا تملك أن تلتمس طريقها الصحيح إلا بدليل واحد هو الفطرة السليمة المستقرة في جوانحها، ثم، لما كانت هذه الفطرة السليمة تستنكر ببداهتها «الهروب من الحياة» وتستقبح تزييف الواقع، أو الفرار منه، أو محاربته بالصور الكاذبة، كانت تلك الفترة التي أعقبت الحرب الكبرى والحرب العالمية الثانية ـــ والتي امتازت بكثرة عدد الخائفين من الواقع، والذين يمكن وصفهم بضحايا الفن وسواقط الفطرة ـــ جديرةً بالدراسة والتأمل، وحَرِيَّةً بملاحظة المتناقضات العقلية التي ازدحمت بها واشتهرت عنها، وكانت من أكبر العوامل التي أدت إلى هذا الموقف الشاذ الذي يقفه العالم من نفسه، في هذا الوضع الخطير.
وقد لا يكون غريبًا أن تكون هذه هي وجهة النظر الأوروبية إلى الموضوع. فإنه، على الرغم من هذا الاختلال في ميزان العقل المعاصر، فإن بعض المفكِّرين الذين رمقوا هذه الحالة المؤلمة من بعض الزوايا، ظهروا وتنبؤوا بالمصير السيّئ. وقد أعطَوا مثالًا على ذلك تطاحن أصحاب مبدأ «الكلية» في ما بينهم، وعدم قدرتهم على شرحه للناس. وهذا أمرٌ طبيعي، لأنه نوع من الاختلاط الجسدي والعقلي، يُعرف ولا يُعَرَّف، ويمارس بالقدوة ولا يُشرح باللفظ، أو مثال دعاة «السريالزم» من تلاميذ العقل الباطن، الذين يدأبون على نشر ترَّهاتهم، ويقتتلون كالأنعام في سبيل محاربة العقل الواعي، بمنطق العقل الواعي، وبين هؤلاء وأولئك ظهرت طائفة، من الذين فقدوا أبناءهم في الحرب، أخذت تهدر الوقت في الهذيان عن «الأرواح» وكيفية استحضارها والتحدُّث إليها، وذلك بعد أن كان قد ظهر ما يعرف بـــ «علم الرُّوح» في بلدان أميركا وأوروبا، وأنشئت له هيئات ومعاهد عدّة أخذت أسماء مختلفة مثل «الكلية البريطانية للعلم الروحي» التي أسست عام 1920، «والمعمل الوطني للبحث الروحي» في جامعة لندن الذي أسس منذ عام 1925 والذي يصدر جريدة، ونشرة منتظمة بأعماله «والمعهد الدولي لما وراء الرُّوح» و«المعهد السيكولوجي العام» في فرنسا وغيرها من المعاهد والجمعيات في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية.
وهكذا نشهد الهاربين من الحياة ينقسمون فريقين متعاكسين في الاتجاه، متفقين في النتيجة: فريق «المُدْمنين» وفريق «الروحانيِّين». ويقوم أبناء الفن بالخلط بين الحياتَين، فهم في حياتهم اليومية فُسَّاقٌ فاجرون مُدمنون، فإذا ما ظهروا على صفحات الكتب أو الصحف أمام «الزبائن» فهم النجوم الساطعة في سماء الفن. وهم أهل القداسة والحماسة الذين يحلِّقون فوق الأبراج العاجية إلى آفاق العوالم النورانية والإلهية!

ولعلَّ القارئ لا يستكثر على هؤلاء المرضى بعقولهم، هذا التحديد لحقيقتهم، إذا ما علم أنه، خلال الفترة بين الحرب الكبرى الأولى والحرب العالمية الثانية، أُنشئت آلاف البيوت التي انطوت جدرانها على أفظع مشاهد الدعارة الشاذَّة باسْم الفن، وباسم التجارب الحيوانية على مشاعر الإنسان وجسده لابتكار صور وألفاظ جديدة.
وإن هؤلاء الهاربين من الحياة كان لهم نُظراء في عالم الشرق القديم، أولئك الذين اتبعوا طريق الزُّهد، متقمِّصين حياة التقشُّف والجوع والسهر، هائمين على وجوههم في الأسواق والفلَوات، لا يلوون على شيء، وليس لهم من همٍّ سوى الابتعاد عن شؤون الحياة، وتناسي موجباتها وأهدافها، متوهِّمين أنَّ في زهدهم ذاك ما يحقق لهم السموَّ الروحيَّ، ويرفعهم إلى أعلى المراتب حتى يتصلُوا بالحضرة الإلهية.
ولقد ظهرت هذه الحالة بصورة واضحة، بعدما ضعفت الدولة الإسلامية، إذ راحت تعاليم الصوفية ومذاهب الزهاد من «الروحانية» يتردّد صداها في خواطر الأتباع من الموالي والأعاجم بحكم ما أَلفوه قديمًا من تقاليد المجوسية وطقوسها الصوفية، وما ورثوه من أنظمتها وعاداتها وأفكارها. وكذلك وجدت طائفة متصلة الحلقات من رجال التصوف والزهد، تعيش إلى جانب الطوائف الأخرى التي نبتت على أرض الوثنيات القديمة لتدَّعي في الإسلام بما تشاء، ولتعمل على تغشية دعوته الكريمة بالجهالات والضلالات والخرافات.
فقد قام في بلاد فارس في القرن الثالث قبل الهجرة مذهب يعرف بالمانوية كانت تعاليمه خليطًا من العقائد الوثنية الهندية. وهو يدعو إلى الزهد في الحياة، والتقشُّف في العيش، واستعجال الفناء من طريق إضعاف الجسم بالجوع والمرض والإهمال، وذلك بحجة تقوية الروح، وتخليص النفس من أدران الجسد!
وقد ظل هذا المذهب المانوي قائمًا إلى أن فتح المسلمون بلاد الأعاجم، فدخل فريق كبير من أتباعه في الإسلام، لكنهم سرعان ما وجدوا تبدلًا كبيرًا في نمط الحياة التي ألفوها، إذ حلَّ النظام والتنظيم بدل الفوض التي كانت سائدة، وانتشرت الحوافز للعمل بدلًا من الدعة والكسل، وحلَّ العدل محل الظلم، وعمت هداية الله تعالى وشريعة الحق بدل التعاليم العميقة الفارغة، وهذا كله جعل ذلك الفريق الصوفيَّ المانويَّ ـــ في طبيعته ـــ يحقد على الإسلام، ويضمر العداء لمن جاؤوه به. وراح أتباعه يعملون في الخفاء على استنبات عقائدهم المانوية في حقل الشريعة الإسلامية، فكانوا كمن يبذر مع الزرع بذور الآفة التي تأكله، ولم تلبث هذه البذور المانوية الشريرة أن أثمرت الانحلال والضعف في نفوس من لم يعرفوا طبيعة الإسلام العملية من حديثي العهد به من الأعاجم، ومن قصرت همَّتهم عن إدراك مقاصده السامية، وتفهُّم ما في قوانينه من دواعي التنشيط المجتمعي، وأغراض البعث الحيوي ما أرادوه للأفراد. فلما تمَّ لهؤلاء الكهَّان المضللين ما أرادوه من توهين النفوس، وتوطئتها لقبول فكرة الزهد على أنها، هي دون غيرها، حقيقة الإسلام ولبابه، عملوا على إشعال الفتنة بين هؤلاء الزهاد والكسالى بإثارة المسائل الجدلية بينهم، ونقلها إلى الناس عنهم. فبدأوا باقتفاء ما لا يدرك من حقائق الوجود، وأخذوا في مطالبة الدين الجديد بالانحراف معهم إلى عالم التيه الفلسفي ليستأنفوا ما بدأه الكهنة القدماء من الخوض في تلك الأسئلة التي لا جواب عنها حول: الروح، والقدَر، وأصل الخليقة، والخير والشر. وبذلك استحكمت الفوضى العقائدية نتيجةً لاشتغال الناس بالجدل، وانقسمت كلمة المسلمين بتعصب كل فريق منهم لرأي، وانحياز كل فرد منهم إلى جماعة، ومن ثمَّ نشأت الفرق التي فرقت وحدة الأمة، وأتت على بنيانها من القواعد، في حين أن المسلمين العرب باتوا في هذا الخضم مجتمعين وحدهم على دينهم، مصطلحين على تسمية هؤلاء الشعوبيين المتكلمين الذين دعوا إلى الإلحاد من طريق الزهد باسم «الزهاد الزنادقة». ولم يسلم كثير من العرب من الانغماس في تلك التيارات، بل لقد غاص الكثيرون منهم في خضمِّ هذه الموجات الجارفة، وكان منهم سادة وقادة وواضعو أسسٍ وقواعد لتلك الضلالات التي نحن في صدد دراستها وتحليلها.
وهكذا، مُنيت تعاليم الإسلام بالنزعات المانوية على أرض الأعاجم، فبرزت لأول مرة في تاريخ الإسلام، فكرة الزهد ينادي بها زعماء طائفة «الروحانية» من أمثال رياح بن عمرو القيسي الذي اتخذ «الزهد» وسيلة يتقرب بها إلى الله، وقسم الزهد مراتب جعل نهايتها مرتبة سماها مرتبة «الخلَّة» أي كما يَدَّعي، على وجه الخلّة مع الله وعدم الكلفة في ما بينهما. ومنهم ابن حيان الحريري صاحب المذهب الذي يحض على مطاوعة ما يشتغل به القلب حتى لا يقف حائلًا بين تحقير الدنيا ونبذها! ومنهم أبو العتاهية الشاعر الذي كان يتغنى بالزهد فأكثر فيه القول، وهو أطمع الناس في المال والجاه! ومنهم عبد الواحد بن زيد أول من أدخل نظام «الخانقاه» في الحياة المجتمعية ليجتذب به المتعطلين والمستضعفين، وكان من الزهّاد الذين وقفوا جهودهم لاختراع الأحاديث ووضعها في فضل الزهد والزهاد!!!
ثم ظهرت بوادرُ الصوفية، فهضم أفرادها الكثر تعاليم هؤلاء الزهاد، وإن تجنبوا ـــ بدافع الحذر ـــ ما وقع فيه أسلافهم من إعلان العقائد المانوية والظهور بمظهر الزيغ والإلحاد، وقد تسمَّوا بالصوفية ليدفعوا عن أنفسهم ما اشتهر به الزهاد من فاحش القول والعمل، لذا أظهروا الصلاح والتقوى، إلَّا إنهم غالوا في أسباب التقشُّف حتى البَلَه.
وفي عصر الترجمة ورواج الفلسفة اليونانية وتعاليم الأفلوطينية قام في الأمة الإسلامة فريق ممن كانت غايتهم التوفيق بين الفلسفة والدين، كالفارابي وابن سينا، يفلسفون الزهد بمنطق اليونانيين من أمثال فيثاغورس وأفلاطون وغيرهم من اليونانيين الذين انحصرت برامجهم الأخلاقية في صرف الناس عن حياة الترف إلى حياة التقشُّف والزهد.
إلى هذه الفرق التي استمدت فكرتها من المانوية الفارسية أو الفلسفة اليونانية، يرجع نشوء فكرة «الزهد» وقيام حركة «التصوف» في البيئة الإسلامية خارج البلاد العربية. وقد تعددت صور هذه الفكرة وتكيّفت بحسب أهواء الرجال: ففريق يبني زهده على التشاؤم والسخط على العيش، لشدة ما أصابه من الحرمان. وفريق آخر من الزهاد يقيم مذهبه على عدم المبالاة فيبيح المحظورات تحقيرًا للدنيا!!! وفريق ثالث جعل غايته من الحياة حمل النفس على المكروه حتى يستوي عنده الخل والعسل، والقبيح والمليح، وتختلط عنده الحدود بين الحلال والحرام، فتسقط عنه التكاليف!!! وفريق رابع ذهب إلى أن الدنيا كلها حرام، فحسْبُ المرء منها ما يقيم الأود ويدفع الموت.ومنهم من تظاهر بالزهد واتخذه حرفة لجمع الأموال. فكم من زاهد من هؤلاء كان يدعي الفقر والعوز في حياته، فوجدت أكداس مكدسة من الذهب في مخلفاته بعد مماته. وفريق غير هؤلاء اتخذ الرباطات والتكايا مقرًّا دائمًا له لإظهار الزهد.
على أنه مهما اختلف أولئك الزهاد أو الصوفية في مذاهبهم، فقد اتفقت كلمتهم على أن الزهد هو ترك الدرهم والدينار، وتحريم الامتلاك والادِّخار، والتجرد من العمل والكسب، والإعراض عن الزواج والطيبات من الرزق، والاكتفاء باللقمة الخشنة والخرقة البالية، وفضلًا عن ذلك لزوم الخلوة للقضاء على حظ النفس، فما أشبه ذلك بحياة تؤدي إلى الموت الأبيض، وهو عبارة عن نوع من العقوبات، عرفتها فرنسا في القرون الوسطى، تقضي بتجريد المجرمين من أبناء الأشراف من حقوقهم الشخصية كافة كالميراث والزواج والتملك، وحرمانهم من الاتجار ومزاولة الأعمال، وإلزامهم فضلًا عن ذلك حياة خاصة حتى تستنفد أعمارهم، وتستهلك أيامهم.
إن هذا «الموت الأبيض» كان يؤدي، إذن، إلى حياة هي بمنزلة حكم بالإعدام على شخصية بعض الأفراد، بحيث لا يعود من معنى لحياتهم أبدًا، وهي حياة تشبه، في كثير من تفاصيلها، معيشة الحرمان والخمول التي يُفني فيها العاجزون والمتصوفون أعمارهم باسم الزهد والتقشُّف والتصوُّف، ولكن مع فارق أن هؤلاء يحكمون على أنفسهم بأنفسهم، في حين أنه في الموت الأبيض تكون أعراف المجتمع وقوانينه وقواعده السائدة هي التي تحكم على الأفراد!!!
وعندما يحرّم الزهاد والصوفية المكاسب ـــ بما يؤدي إلى إيقاف الدولاب الاقتصادي ـــ فإنهم يقولون بأن البيع والشراء باطلان، وأن السعي في طلب الرزق معصية لأنه سوء ظن بالله، وتكذيب لوعوده، وهم يعنون بذلك قوله تعالى: [وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا] (هود: 6) ناسين قوله عزَّ وجلّ: [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ] ( الملك: 15) وأن الرِّزق يُسعى إليه ولا يسعى بنفسه، فلا ينزل خبزًا مخبوزًا ولا طبخًا ناضِجًا ولا أسماكًا مقليَّة وفراريج مشويَّة، ومتناسين أن من تضيق به الحال ويهاجر، [يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً] (النساء: 100) وأن من قعد ينتظر دخول الرزق عليه من تلقاء نفسه، لن يدخل عليه إلَّا الجوع والوسخ والذل، نتيجة هروبه من مسؤوليات الحياة.
وهم ـــ أيضًا ـــ يقولون إن فقدان المال خير من وجوده وإن صُرِف في طريق الخير (كما يرى أبو حامد الغزالي)، لأن التدبير للمال يشغل القلب عن العبادة، ويعدّون المال كذلك بأنه حجاب النفس، وأن حبسه يتنافى مع التوكل!
أما عن المطاعم فيقولون: إن الأفضل ترك المباح. وهم لذلك لا يذوقون الطيبات، وفيهم من يحرِّمها، ويمتنعون عن كل ما يصلح أبدانهم، ومنهم من لا يتناول الطعام حتى تضعف قواه، وتصيبه الخيالات الفاسدة فيهذي من فرط الجوع والألم، ويدَّعي وهو على هذه الحال ـــ من المكابرة الغبيَّة ـــ أنه من الواصلين، وأنه يرى من العجائب ما لا يراه الناس، وأنه يطلع على الغيب ويخاطب الملائكة! بل إن من شِرارهم من يدَّعون حلول الخالق ـــ تبارك وتعالى ـــ في أجسادهم الغانية، وغير ذلك مما أُثر عن الصوفية، ومما أدى الإسراف فيه إلى نشوء ما يعرف في أوساطهم «بفضيلة الجوع» التي أدت إلى قيام فكرة «معاقبة الجسم لتكفير الذنوب» وتأديب النفس بالجوع والسهر، والمبالغة في تحمُّل المشاق.
كما أن كتب الصوفية نفسها تروي الأخبار الغريبة عن ذلك. فقد جاء في الرسالة القشيرية عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: حفظت القرآن وأنا ابن ست سنوات. وكنت أصوم الدهر وقوتي خبز الشعير إلى أن بلغت اثنتي عشرة سنة. فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فسألت أهلي أن يبعثوني إلى البصرة أسأل عنها، فجئت البصرة وسألت علماءها فلم يشف أحد منهم صدري بجواب مقنع، فخرجت إلى عبادان وفيها رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بن عبد الله، فسألته عنها فأجابني. ثم عدت إلى تستر،وجعلت قوتي من الشعير فاشتريت شعيرًا بدرهم، فكنت أفطر كل ليلة على أوقية من خبز الشعير بغير ملح ولا أدام، فكان ذلك الدرهم يكفيني إلى سنة كاملة. ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال وأفطر ليلة، ثم خمسًا وأفطر ليلة، ثم سبعًا وأفطر ليلة، ثم خمسًا وعشرين وأفطر ليلة. وبعدها خرجت أسيح في الأرض. فتصورْ قوَّة هذا السائح بعد أن صار يأكل يومًا ويطوي على الجوع خمسةً وعشرين، ثم لا تعجبْ، واسأل أَكَلَةَ الشعير عن القوة التي يعطيها هذا الطعام وصدِّق، أو لا تصدِّق قوله!
وجاء في (تلبيس إبليس) لابن الجوزي أن رجلًا قال لأبي يزيد البسطامي: أريد أن أجلس في مجلسك الذي أنت فيه. قال: لا تطيق ذلك، فقال له الرجل: إن رأيت أن توسع لي في ذلك. فأذن له أبو يزيد وجلس الرجل يومًا لم يطعم فيه فصبر على الجوع، فلما كان في اليوم الثاني، قال له: يا أستاذ، لا بد مما لا بدَّ منه. فقال له البسطامي: يا غلام، لا بد من الله، فقال: نريد القوت! قال البسطامي: القوت عندنا طاعة الله. قال: يا أستاذ، أريد شيئًا يقيم جسدي في طاعة الله عزَّ وجلَّ. فقال له البسطامي: إن الأجسام لا تقوم إلا بالله. وصدّقْ قول هذا «الملاك» الذي يعيش بالتسبيح والتقديس، وقد قطع مرحلة أكل الشعير!
وفي طبقات الشعراني أن إبراهيم الدسوقي أحد أقطاب الصوفية، في القرن الرابع الهجري، كان إذا ألبس المريد خرقة الصوفية يقول له: اعلم يا ولدي أن صحة هذه الطريقة وقاعدتها ومجلاها ومحكمها الجوع. فإذا أردت السعادة فعليك بالجوع ولا تأكل إلا على فاقة، فإن الجوع يغسل من الجسد موضع إبليس.
وهكذا ابتدع الصوفية تجويع الجسد باسم الزهد، متناسين أن الجوع يولِّد الوهن والضعف، وأن العقل السليم في الجسم السليم، وأن مع الجوع لا يعود الفرد قادرًا على العمل، وعلى تحصيل الرزق بل حتى على مواجهة أبسط أمور الحياة بما تستحق من العزيمة والصبر، فيصبح الصوفي وكأنه عالة على مجتمعه وعلى أمته.
ومثل بدعة الجوع، كانت للصوفية بدعٌ أخرى في اللباس. فقد اعتبروا أن أهمّ مظاهر الزهد عندهم يكون في لبس المرقَّعات والصوف حتى صاروا به يعرفون. وقد جاء في (تلبيس إبليس) لابن الجوزي أن هشام بن خالد قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول لرجل لبس الصوف: إنك قد أظهرت آلة الزاهدين، فماذا أورثك هذا الصوف؟ فسكت الرجل. فقال له: يكون ظاهرك قطنيًّا وباطنك صوفيًّا.
وقيل لأحد الصوفية: أتبيع جبتك الصوفية هذه؟ فقال: إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد؟
وكان أويس القرني، كما تذكر كتب الصوفية، يلتقط الخرق والرقع من المزابل فيغسلها في الفرات ثم يخيطها ويلبسها، وبعضهم كان يأخذ ثوبين أو ثلاثة مختلفة الألوان فيجعلها خرقًا ثم يخيطها ثوبًا ليظهر للناس أنه مجموعة من الخرق البالية: وكان هذا النوع من المرقَّعات أحب إلى هؤلاء من لبس الصوف لأنه أدل على الزهد من الصوف.
وجاء عن مالك بن دينار أنه كان يقول محذِّرًا الناس من أحابيلهم: إنكم في زمان أشهب، لا يبصر زمانكم إلا البصير، بين أناس قد انتفخت ألسنتهم في أفواههم فطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فاحذروهم على أنفسكم حتى لا تقعوا في شباكهم.
وكان أبو الحسن البسطامي أحد شيوخهم، يلبس الصوف صيفًا وشتاءً، ويقصده الناس يتبركون به. فلما مات وجدوا عنده أربعة آلاف دينار، مما يبيِّن كيف أن اختيارهم لباس الصوف والمرقَّعات كان نوعًا من الدجل والرياء.
هذا بعض ما جاء في كتب الصوفيَّة، وهو قليل من كثير مما نقله عنهم الثقات، ليظهروا تلك الأنماط من العيش التي ابتدعها الصوفية باسم الزهد، الذي كانوا يتظاهرون به. بل وما أرادوه إلّا لتضليل العوامِّ من الناس، وتجريد المفاهيم الإسلامية من محتواها الذي يتّفِقُ مع العقل والفطرة، ويساير الحياة مهما بلغ شأنها من التقدم والرقي.
وهكذا نجد أن الهاربين من الحياة، سواء في الغرب أو في الشرق، هم أناس لم يعرفوا معنى الحياة، ولم يقدروا الحياة حق قدرها، أو أنهم عرفوها وفشلوا أمام مسؤولياتها فلجأوا إلى ما يغطي فشلهم ويُخفي جبنهم بما طلبوه من مظاهر الشهرة عن طريق الشذوذ عن قواعد الحياة وسننها، وعن طريق الجرأة على سنن الله في خلقه ونواميسه لعباده. ولئن كانت أوروبا قد عاشت في دياجير القرون الوسطى، ثم جاءت حقبة القرن العشرين بآفة الحرب الأولى، وأعقبتها آفة الحرب الثانية، لتحفر في النفوس كل عوامل اليأس والقلق، ولا سيما بعدما اشتد الصراع الدولي بوجود الجبارين، وانتشرت الأسلحة الاستراتيجية الفتَّاكة حتى بات الخوف على المصير علة العلل، مما أوجد الاختلال في التوازن الفكري، وأنشأ ذلك العالَم الرهيب من أناس هم ضحايا الصراعات والأفكار، فانساقوا وراء الموبقات والمفاسد، والانحلال الأخلاقي، ـــ أقول: لئن كانت أوروبا قد انزلقت في هذه الهوَّة الخُلقية وعانت هذه العوامل الرهيبة، فإن الشرق أيضًا بصورة عامة، وبلاد المسلمين بصورة خاصة، لم تسلم هي الأخرى من كثير من الآفات والأمراض التي نخرت نفوس الكثيرين من أبنائها، فانقادوا وراء الخرافات والأضاليل التي ابتدعها دعاةُ مضللون، أطلقوا عليها اسم «الزهد» أو «التصوف» إما لإضعاف المسلمين، وتفتيت بنيانهم الديني والأخلاقي، وإما لخدمة أهوائهم ومصالحهم الشخصية، حتى يكونوا أصحاب مقامات، وذوي نفوذ ومراكز، ولو في ظل العجز والتخلف وفقدان المنعة والسيادة.
وإذا كانت الحالات التي ظهرت في الغرب قد وصلت إلى المرض الذي يدفع للهرب من الحياة، فإنَّ تلك الأحوال التي ظهرت في بلاد المسلمين بستار الزهد أو التصوف هي أكثر من هروب من الحياة، بل هي ضرب من الجنون قد أصاب أصحابه نتيجةً للإمعان في العُزلة، والمغالاة في الجوع والسهر، وكبت الغرائز وإفسادها. فإن المرضى بجنون «الزهد» أو «التصوف» يصابون بذلك الإحساس المعقد الذي يصوِّر لهم الدنيا كأنها رجس وشرور وآثام، فيدفعهم إلى الهرب منها. بل إن حياتهم نفسها تصبح عندهم كأنها إثم يجب الخلاص منه، والتكفير عنه، فيحاولون القضاء عليها، وهم يتوهمون بأنهم يجدون لذة شاملة في تعذيب النفس، والركض وراء البلاء، والتعرض له، أو طلب وقوعه بأي سبيل. ومن هنا نشأت عندهم فكرة «التمحيص والاختصاص بالبلاء». ثم نمت هذه الفكرة عندهم حتى سادت تعاليمهم وسيطرت على أحوالهم كافة، وأضحت عماد دعوتهم وطريق سلوكهم وارتقائهم.
وإنَّ فكرةً شأنها وقوامها تفضيل البلاء على النعماء، والفقر على الغنى، والمرض على العافية، لهي أشد الأمراض المجتمعية خطرًا، وأكثرها إفسادًا للعقول والنفوس. ومن هنا فإننا نجد الصوفي يخضع لتعاليم شيخه خضوعًا تامًّا، ويطيعه طاعة عمياء، حتى يمتلكه الشعور بالمذلة والصَّغار، ويدفعه هذا الشعور إلى مهانة نفسه، وعدم تقدير شخصيته، فيوقن أنه دون الناس في كل شيء.
وقد يلازم هذا الإحساس صاحبه حتى لا يعود قادرًا على التخلص منه، فتأتي بالتالي تصرفاته تعبيرًا عمَّا في نفسه. لذلك فهو لا يتوانى عن المبيت في المقابر أو في الخربات أو على المزابل، إذ يعد نفسه من الأموات أو المهملات، كما أنه لا يأنف أكل فضلات الناس، أو ملازمة دورات المياه في المساجد وغيرها، يتعهدها بالنظافة، كما أنه لا يتورع عن أن يعلِّق مخلاةً في رقبته يروح بها ويغدو، شأنه شأن الحيوان الأعجم الذي يُطعم التبن والشعير، أو أن يحمل نعليه فوق رأسه ويسير بهما في السوق أمام الناس ليظهر بمظهر نافرٍ عن مظاهر الآخرين في كل حال.
فهل يقبل الإنسان، سواء في شرق الأرض أو في غربها، بمثل هذه الحالات الغريبة الشاذَّة؟! وهل الذين يقومون بها إلَّا هاربون حقًّا من مسؤولياتهم يُعدّون الحياة بنظرهم غالبةً بمقدار ما يلفظونها ويستهينون بها؟
على أن الإسلام كان صريحًا في موقفه من هذه الدعوات كلها، واضح الرأي بهذه الأضاليل. فقد قال تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] (القصص: 77). وقال تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] (الأعراف: 32). وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للهَ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] (البقرة: 172). وقال سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ] (الأنفال: 24)...
إذن، فأين الدَّعوة في قول الله تعالى إلى الزهد، وإلى التقشُّف، وتجويع البدن، ولبس المرقَّعات والصوف، وإيلام النفس والجسد بمختلف أنواع التعذيب؟ إنها على العكس، دعوةٌ إلى الأخذ من الدنيا بنصيب من دون أن ننسى الآخرة، ودعوةٌ إلى أكل الطيِّبات من رزق الله سبحانه، والتمتع بزينة الله تعالى التي أخرجها لعباده، بل هي دعوةٌ إلى العمل من أجل إيجاد الرزق الذي فيه الحلال والطّيب، وكل ما يُفرح قلب الإنسان، ويشفي غليله، ويحمي نفسه، وإن في الرزق حياة الإنسان، لأنه، بلا طعام ولا شراب، لا يمكن أن يقوى على العيش، ولا يمكن أن تستمر حياته. وما فعله الصوفيون كذبٌ مصطنعٌ. ومَنْ يتحدَّ سُنن الطبيعة يُنْتَقمْ منه. [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] (الطلاق: 1) ، [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (البقرة: 229) والصوفيون ظالمون لأنفسهم، وظالمون لغيرهم، وهم ـــ بالتالي ـــ ظالمون شديدو الظُّلم بما نسبوا إلى ربهم.
وتبقى سيرة الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، نموذجًا حيًّا يقتدي به المؤمنون على مرِّ العصور والدهور. فها هوذا يرى يومًا رجلًا يلبس ثيابًا وسخةً، فيبادر قائلًا: أما كان هذا يجد ما يغسل ثيابه؟! وجاءه مرةً رجلٌ بثيابٍ رثَّة رديئة، فقال له: هل لك مال؟ قال الرجل: نعم يا رسول الله. فقال له: من أي المال؟ قال الرجل: من كل المال آتاني الله من الإبل والخيل والغنم وغير ذلك. فقال، صلى الله عليه وآله وسلم، له: إذا آتاك الله مالًا فَلْيُرَ عليك، وإذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى آثار النعمة عليه.
وجاء عن الصحابة الأبرار أنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذا خرج كان في أحسن هيئة في زيِّه ولباسه، وأنه أنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص حين التزم صيام النهار وقيام الليل وترك النساء والملذات، وقال له: أرغبت عن سنَّتي يا عبد الله؟ قال: بل سنَّتك ما أبغي. قال له، صلى الله عليه وآله وسلم: فإني أصوم وأفطر وأنام وأنكح النساء، ومن رغب عن سنَّتي فليس منِّي، وهو موقفه نفسه من جماعة من صحابته أراد كل واحد منهم أن يتخذ لنفسه حالةً خاصةً، إما بالصوم، أو بالصلاة، أو بهجر الأزواج أو بالعزوبة وما إلى ذلك، فقد نهاهم عن ذلك وأمرهم باتِّباع سنَّته التي تقوم على الاعتدال في كل شيء.
وكان، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، يحث المسلمين دومًا على العمل ويرغِّبهم فيه حتى لا يكون الإنسان كلًّا على غيره. وإن قوله، صلى الله عليه وآله وسلم، مشهور عن صاحب يدٍ كان يكد ويعمل في سبيل عياله، إذ أمسك يده وقال: «هذه يدٌ يحبُّها الله ورسولُهُ».
وما زال القرآن يطالب المسلمين بالعمل الصالح ويوصيهم به، حتى جعل ذلك شعاره وشعار الإسلام في تحديد منهاجه في الدنيا والآخرة: [وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى]، ولم يكن القرآن، وهذه هي دعوته في استنهاض الهمم للعمل والكفاح، ليهمل أمر المال، فهو عصب الحياة، وعليه تقوم دعائم النشاط في الأمة، فجعل له مكانًا بارزًا في قوانين الحصول عليه، والإنفاق منه، والتوريث فيه، وذلك كله بخلاف ما دعا إليه الصوفية، وعملوا ضدَّه.
إذن، فليس في القرآن الكريم، ولا في سيرة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما يدعو إلى الزهد، أو إلى التصوُّف. وقد أتى القرآن الكريم على مادة «الزهد» في موضوع واحد فقط، وعلى صورة ليس بينها وبين معاني الزهد عند الصوفية أدنى ارتباط، وذلك في قوله تعالى في سورة يوسف: [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ]. أي من غير الرَّاغبين فيه لأنه بنظرهم قد يشكل عبئًا عليهم، فأرادوا التخلص منه بأقل ثمن.
فعبارة: [وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ] ليست اصطلاحًا على التقشف، بل هي أداء للمعنى البسيط للكلمة، وهو عدم الرغبة في أي شيء على السواء، من غير تحديد، ومع ذلك فالصوفية يتبجَّحون بعراقة الزهد في الإسلام مع امتناع النص وانعدام الصلة.
والقرآن الكريم قد حدَّد طوائف «المسرفين» و«العاملين» و«العاجزين» وهو ما فتئ من حيث الإسراف يبيِّن أن هلاك الأمم ودمار الشعوب هو في تهافتها على الترف، وافتتانها بزخارف النعيم، وفقدانها بذلك القوة على النضال ومغالبة الخطوب، فقال سبحانه وتعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] (الإسراء: 16). ولهذا السبب وحده حذَّر القرآن الكريم من الاطمئنان إلى رغد العيش، ومتاع الدنيا، مع أنَّ ما فيها متاع قليل، ومثَّل لحياتها بحياة الزرع والنبات، وهي حياة قصيرة الأمد، حتى لا يخلُد الناس إليها فتلهيهم عن الجد، وتشغلهم عن الحق، وتستجرهم إلى الترف، ثم تغريهم بالإثم والتكاسل، حتى تسلمهم آخر الأمر إلى الفسوق والطغيان، فتكون عاقبتهم كمن قال الله تعالى فيهم: [وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ] (الأحقاف: 20).
وأما من حيث العمل فقد توهم بعض الصوفية، أو أرغموا أنفسهم على التوهم، بأن هذه الآيات إنما جاءت لتصرف الناس عما أخرج الله تعالى لعباده من طيِّبات الرزق، وما وهبهم من النِّعم، لتسلك بهم بعد ذلك في طريق الزهد والتقشف، في حين أن الثابت من اتجاهها الصريح أنها لحماية الإنسانية من الفساد والطغيان، لا لصرف الناس عن الأرزاق والطيبات، والعمل والكسب بحسب ما أمَرَ الله تعالى من أجل أن تستوي الحياة وتعمر. كما أن هذه الآيات الكريمة لا تعني، ولا يُستدل بشيء منها على وجوب التجويع والظمأ والمهانة، لأنَّ القرآن لم ينزله الله تعالى لكبت الغرائز الإنسانية أو نقض الطبيعة البشرية، أو تكليف النفوس شططًا. فهو لم يغفل قطُّ أمر الدنيا، ولم يغفل قطّ أمر الآخرة، بل دعا الإنسان إلى العمل من أجل هذه وتلك، حتى تكون رسالة الحياة مستوفية شروطها، وأهمها قيامها على الاعتدال سواء في حياة الأفراد أو في حياة الأمم. لذا فقد أبان القرآن الكريم أن هلاك الأمم يكون بالإعراض عن نِعم الله، وجحودها وكفرانها، كما يكون دمارها بسبب الترف ومطاوعة الشهوات. ومن هنا فإن الحياة الإسلامية العادلة هي وسط بين الحالتَين: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (البقرة: 268). [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] (الفرقان: 67) (أي وسطًا).
وأما من حيث العجز فإن الله سبحانه وتعالى لا يحب العاجزين ولا الكسالى الذين يسلكون طريق الاستضعاف ولا يعملون جاهدين للوصول إلى مراكز القوة والمنعة والاستغناء. وهذه المجموعات الفاشلةُ من البشر ليس لها مأوى في الدار الآخرة إلا جهنَّم، لأنها لا تستحق، في نظر الإسلام، أن تنعم بالجنَّة، إذا لم تسعَ لها سعيها. وفي ذلك يقول تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْـمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوْا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا] (النساء: 97). وأما العاملون بإخلاصٍ وصدق فهمُ الذين يستحقون الراحة والاستقرار، والنعيم الدائم، والنهاية السعيدة، ومرافقة الأنبياء والصالحين والملائكة المقرَّبين. وفي ذلك يقول تعالى: [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الـْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (النحل: 32).
وأخيرًا تبدو واضحةً، مما جاء في القرآن، وفي سنَّة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تلك الدعوة إلى حياة عادلة لا إسراف فيها يجرُّ إلى الترف والفسوق، والخيلاء والكبرياء، ولا تقتير فيها يؤدي إلى تعذيب النفس وإهانتها وفساد غرائزها. وإذا ما حذَّر الدين من الدنيا والانصراف إلى ملاذها، فلكي لا تكون مبالغة في هذا الانصراف فيغفل الإنسانُ ما لنفسه عليه من حق، ويغرق في موبقات المادة وشهواتها، ويهدر ما لغيره عليه من حقوق من جراء إسرافه وتماديه في أمور الدنيا، وبالتالي ينسى دينه، ويتنكر لإيمانه، فيخسر من جراء ذلك كلَّ شيء، لأنه وقع في المعاصي والمحرمات، وليس من ينتشله من عذاب أليم أعدَّه الله تعالى للعاصين.




الرُّوحُ والنَّفْسُ والجسَد

لعلَّ أجلَّ الغايات وأسماها في خلق الإنسان
استخلافه في الأرض

الرُّوحُ والنَّفْسُ وَالجسَد
لعلَّ أجلَّ الغايات وأسماها في خلق الإنسان استخلافه في الأرض، إذ الخلافة تعني في المفهوم اللغوي عند الإنسان النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه، وإما لعجزه. وإما لموته. وهي في المفهوم القرآني لتشريف المستخلَف، كما بيَّن سبحانه وتعالى عند ذكر خلق الإنسان، وذلك بما شَرَّفه به من خلافة كما فعل مع أوليائه في الأرض لقوله تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ](فاطر: 39)، وقوله تعالى: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ] (الأنعام: 165).
ولكي تأتي هذه الخلافة مستوفية حقَّها وحقيقتها، فيما يلزم لقيامها، ووجودها، فقد جاء خلْق الإنسان في أحسن تقويم، وفي أحسن الصور، وذلك لقوله تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: 4) وقوله تعالى: [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] (التغابن: 3).
والصورة هي ما تراه العين من شكلٍ في أيّ شيء يميّزه من غيره، وما يتمتع به من خصائص. وهي نوعان: أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة من الإنسان، بل كثير من الحيوان، مثل صورة الإنسان والحيوان والنبات والجماد الخارجية المتمثلة في جسده. والثاني معقول يدركه الخاصة من دون العامة كالصورة التي اختُصّ بها الإنسان من العقل أو التمييز أو الرؤية، وكصور المعاني التي خُصَّ بها مخلوق من دون آخر. والنوعان عناهما سبحانه وتعالى بقوله: [فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ]. إذ ليس في المخلوقات كالإنسان في حسن قوامه وتكامل أعضائه، بالإضافة إلى ما منحه الله تعالى من عقلٍ مفكّرٍ ورأي مدبِّر.
وقد أُريد بالصورة، ماخُصَّ الإنسانُ به من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، التي فضَّله الله بها على كثير من خلقه. وفي هذا الخلق تشريف لآدم، ورفعة لمقامه وسمو خلْقه، ولأولياء الله من بني آدَمَ بعد أبيهم (عليه وعليهم السلام).
وما دامَ للإنسان هذا الخلْق، وما دامت تلك وظيفته فلا يكون مستغربًا أن يكون الإنسان سيد المخلوقات على هذه الأرض، وأن ينشئ الحضارات، ويقيم المَدَنيات، وأن ينطلق في آفاق الفكر حتى يتخطّى حدود أرضه التي عليها يعيش، فيستكشف العوالم البعيدة بمنظاره، ويحطّ بقدميه على أقرب الكواكب السيارة إليه.
ولكن على الرغم من ذلك كله، هل عرف الإنسان حقيقة تكوينه؟ أي حقيقة هذا الخلق الذي هو عليه بكل ما فيه من عناصر مادية وغير مادية؟ أم أنه أدرك بعض هذه العناصر ولم يدرك بعضها الآخر؟ لأنه مهما بلغ من سعة العلم والمعرفة، فإنَّ علمه يبقى قليلًا بالنسبة إلى علم الله سبحانه وتعالى.
ما من شك في أنَّ «الإنسان هو ذلك المجهول» كما عبّر عنه ألكسيس كاريل Alexis Carrel أي الكائن الذي لم يستطع أحد أن يحدِّده تحديدًا نهائيًّا وأخيرًا، من حيث تكوينه غير الفيزيولوجي، ومن حيث قدراته وإمكاناته على الإبداع والاكتشاف والعطاء أكثر فأكثر. فكلما تقدمت بنا العلوم، أذهلتنا هذه القدرة للإنسان فيما وصل إليه. وتزداد بنا الحيرة عندما نعلم أنَّ ما نراه اليوم من إنجازات الإنسان ليس إلَّا شيئًا يسيرًا مما ينتظره في المستقبل، بحسبما تعد به النظريات العلمية في مختلف فروع العلوم، وفي مختلف المجالات. وطبعًا كل ذلك بفعل الإنسان «الذي اختلفت النظرة إليه والذي أيًّا كان حكمه على نفسه، أو حكم الناس عليه، وأيًّا كان موضعه من النجاح أو الفشل، ومن نضج الفكر أو سلامة الفطرة، فإن العلم عاجز في النهاية عجزًا تامًّا عن أن يتفهم فهمًا صحيحًا كيف جاء إلى هذا الوجود، وكيف نما، وكيف تطور، ومن أين جاء، وإلى أين يعود، وكيف يفكر، وكيف يتخبط في فكره وفي شعوره إلى آخر الحدود، ومع ذلك تحنو الطبيعة عليه حنُوًّا عجيبًا حينًا، وتقسو عليه أحيانًا، كيما يصبح في نهاية المطاف هو السيد الآمر فيها لا العبد المسود».
ويعبّر ابن خلدون، عن هذا العجز العلمي، بالعجز العقلي ليس عن إدراك كُنه الإنسان لذاته فحسب، بل عن إدراك كنه الأشياء بذاتها فيقول: «ولا تثقنَّ بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات، وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رأيَك في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك، في بادئ رأيه، منحصر في مداركه لا يعدوها. والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق وراءه». لكنَّ ابن خلدون يعود ويستدرك، لئلا يفهم من كلامه اتهام العقل بالعجز المطلق، فيقول: «وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، وأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال. وهذا لا يدل على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن العقل قد يقف عنده، ولا يتعدَّى طوره، حتى يكون له أن يحيط بالله وصفاته، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه».
ولعلَّ هذا العجز كان فعُدَّ السبب في اختلاف النظرة إلى الإنسان من حيث تكوينه الذي خلقه الله تعالى عليه... فعُدَّ عند بعضهم مادة مثل سائر المواد، في حين أن بعضهم الآخر عُدَّ عبارة عن روح لا صلة لها بالمادة مطلقًا، في حين استقرَّت غالبية الأفكار على اعتبار الإنسان كائنًا من روح وجسد، لكنها، في الإجمال، خلطت ما بين «الروح» و«النفس» ولم تميِّز بينهما. فتارة يعبّرون عن الروح بالنفس، وتارة يعبّرون عن النفس بالروح، في حين أن لكل منهما ماهيته الخاصة، ومميزاته التي تجعله مستقلًا عن الآخر، وإن كانا يتشاركان في مَدِّنَا بالحياة كما يظهر لنا ذلك في كل شيء في وجودنا: بقيامنا وقعودنا، ومأكلنا ومشربنا، وسيرنا ونومنا، وتفكيرنا وشعورنا، وما إلى ذلك من مظاهر هذا الوجود وحركته.
فأما مدارس المادية فقد صورت الإنسان كأنه «قطعة من جماد لا تختلف عن غيرها إلّا بوظائفها العضوية؛ أو أنه كائن يحبو على قدمين لا يختلف كثيرًا عن تلك التي تحبو على أربع، بحيث إن جمهرة من العلماء الماديين ـــ الذين يؤمنون بقوة المادة كل إيمان ـــ أنكروا الروح وعدّوها وهمًا مطلقًا وخرافة باطلة، معتقدين أن وجود الإنسان يتحقق في هذه الحياة، أي في دنيا الأرض، فإن مات أو فنيَ كانت حتمية زواله إلى الأبد، لذلك أنكروا حقيقة الحياة بعد الموت». وعلى هذا فقد اخترع أصحاب المذهب المادي تفسيرًا لنشأة الحياة الأولى من المادة الميتة. فزعم بعضهم أن أصل الحياة كُريَّة بسيطة ذات خلية واحدة، وزعم آخرون أن الحياة عبارة عن كتل زلالية حية صغيرة هي أدنى من ذات الخلية الواحدة وأبسط، لذلك سمَّوها (مونير Monère) أي الوحدة البسيطة في اليونانية، وزعموا أنها تتكون من الجماد (بالتولُّد الذاتي). ومن أشهر القائلين بذلك العالم البيولوجي الألماني «أرنست هِيجل» الذي يقول:
«إن الكون مؤلف من المادة، والمادة مؤلفة من الذرات. ومن هذه المادة ظهر كل ما في الكون من أحياء وغير أحياء. وحركة العالم هي حركة تطور دائم، يبتدئ من أبسط الذرات، وينتهي إلى أرقى الكائنات. فهذه الكائنات كلها، حيُّها وجمادها، تتألف من عناصر واحدة، لا فرق في ذلك بين حيٍّ وغير حيّ، لأن عناصر المواد العضوية موجودة بذاتها في المواد غير العضوية، وإن في الإمكان تحضير بعض مركَّبات عضوية بطريقة صناعية». وعلى هذا الأساس يقول هيجل إن أبسط أنواع الحيوان نشأ من مادة (غير حيَّة) بطريق التولُّد الذاتي.
هذه خلاصة نظرة الماديين التي تُرجع الإنسان، مثل سائر الكائنات، في نشأته إلى مادة غير حيَّة عن طريق التولد الذاتي، والتي تنفي بالتالي قيمته الروحية والنفسية، مما ينتقص كثيرًا من قدره، ومن حقيقة تكوينه.
ثم جاء العلم الروحي ليبرهن بأن الإنسان روح لا جسد، كما يعبِّر عن ذلك الدكتور (رؤوف عبيد) الذي يقول: «وجوهر علم الإنسان الآن هو علم الروح بعدما تبين أن «الإنسان روح لا جسد» وأن للعلم الروحي دوره الفاعل في تقدير قيمة الإنسان واحترام مشاعره البناءة وعقله الباحث عن الحقيقة أبدًا. ولا أعتقد أن ثمة فلسفة أخرى يمكنها أن تزعم أنها تحترم قيمة الإنسان وتقدرها حق قدرها مثلما يفعل بحث علمي يقوم على أن الإنسان روح لا جسد، وأنه خالد لا يموت، وأنه يسير سيرًا حثيثًا في طريق التقدم والكمال، بالغة ما بلغت ضآلة قدره بحسب مظهره الخارجي الآن ـــ وفي ماضيه السحيق ـــ من ناحيتَيِ الخلق أو المعرفة».
وبمثل هذا الاعتقاد كان عنوان مؤلَّف الدكتور عبيد (الإنسان روح لا جسد) الذي فسَّر اختياره له بقوله: «قد يعترض بعضهم ابتداء على هذا العنوان قائلًا: لماذا لا تقول إن الإنسان روح وجسد معًا فتكون أقرب إلى الواقع؟ لكن الواقع هو أن الإنسان في العلم الروحي، روحٌ فقط، ذلك أن الجسد الأرضي إن هو إلا رداء بال يحبس الروح، ويذلها إلى حين، فهل يصح أن نعرِّف شخصًا بالرداء الذي يرتديه ولو كان من أفخر نوع، فما بالك إذا كان من تراب؟! وهل يصح أن نعرف درَّة ثمينة بصندوق من طين يحتويها إلى حين؟!».
ويتابع قائلًا: «لذا كان من الشائع في هذا العلم (أي العلم الروحي) القول إن الإنسان روح لها جسد، لا جسد له روح. وأقرب من ذلك إلى الصواب في رأيي أن أقول: إن الإنسان ـــ وهو يمثل الذات الواعية الناطقة فينا ـــ محض روح. أما الجسد المادي فهو المظهر الخارجي الذي به نتعارف إلى حين، فلا صلة له بتعريف هذه الذات، ولا هو ملك لها، بل هو ملك لأمه الأرض التي منها جاء وإليها يعود».
وبين أصحاب العلوم المادية الذين ينكرون حقيقة الروح، وأصحاب العلم الروحي الذين يرون الإنسان روحًا لا جسدًا، أجمع الباحثون الآخرون على أن الإنسان هو «روح وجسد» أو «نفس وجسد»، لأنهم لم يميِّزوا ـــ كما قلنا ـــ في كثير من الأحيان بين (الروح) و(النفس) وعدّوهما شيئًا واحدًا؛ فهذا الفيلسوف والشاعر العربي أبو العلاء المعري يقدم برهانه على إمكان بعث الأجسام بقدرة الذي خلقها وصوَّرها وأنشأها أول مرة، فيقول:
إذا ما أعظُمي كانت هباءً فإنَّ الله لا يُعْييهِ جَمْعي
وقوله:
ومتــى شــاءَ الـــذي صـوَّرنـا أشعَرَ الموتَ نشورًا فانتشر
وقوله:
وأعجَبُ ما تخشاه دعوة هاتفٍ أتيتم فهبُّوا يا نيام إلى الحشر
أما في الروح فيقول:
أمــا الجسومُ فللــتراب مــآلهـــا وعييت بالأرواح أنَّى تذهبُ
وقوله:
روحٌ إذا اتَّصلت بجسم لم يــزل هو وهْيَ في مرض الفناء المكمدِ
إن كنتِ من ريحٍ فيا ريح اسكني أو كنت من نارٍ فيا نار اخمدي
وقوله:
إن يصحب الروح عقلي بعد مظعنها للموت عني فأجدر أن ترى عجبا
وإن مضت في الهواء الرحب هالكــة هلاك جسمي في تربي فواشجبا
فهذه كلها أقوال لا نفهم منها سوى أن الروح شيء غير الجسد، وأنها تتصل به لتقاسي ألم الحبس، ويقاسي هو ألم الحياة، وأنَّ أبا العلاء لا يدري ما الروح، وما إذا كان لها وجود مستقل عن الجسد أو هي وظيفة الجسد في حياته وتفنى بموته. لكنَّ كرهه الحياةَ، يجره إلى افتراض كونها ريحًا أو نارًا، كما زعموا، يتمنَّى سكونها أو خمودها.
أما الشيخ الفيلسوف ابن سينا، الذي يُعدّ إمام فلاسفة المسلمين في دراسة النفس فإنه يؤكد حقيقة الإنسان من نفس وجسد، فيقول في رسالته (معرفة النفس الناطقة وأحوالها): «اعلم أن الجوهر الذي هو الإنسان في الحقيقة لا يفنى بعد الموت ولا يبلى بعد المفارقة عن البدن بل هو باق لبقاء خالقه تعالى. ذلك أن جوهره أقوى من جوهر البدن، لأنه محرك البدن ومديره ومتصرِّف فيه. والبدن منفصل عنه تابع له. فإذًا لم يضر مفارقته عن الأبدان وجوده»...
ويقول أيضًا: «ثم إن الإنسان في نومه يرى الأشياء ويسمعها، بل ويدرك الغيب في المنامات الصادقة بحيث لا يتيسر له في اليقظة. فهذا برهان قاطع على أن جوهر النفس غير محتاج إلى هذا البدن، بل هو يضعف بمقارنة البدن ويقوى بتعطُّله. فإذا مات البدن وخرب تخلَّص جوهر النفس عن جنس البدن».
ويقول أيضًا: «لو كانت القوة الناطقة قوة جسمانية لكان لا يوجد أحد من الناس (على مرِّ السنين) إلا وقد أخذت قوته تنقص، ولكن الأمر في أكثر الناس على خلاف هذا. بل العادة جرت في الأكثر أنهم يستفيدون ذكاء في القوة العاقلة وزيادة بعيدة. فإذًا ليس قوام القوة المنطقية بالجسم والآلة، وإذًا هي جوهر قائم بذاته».
أما ابن القيم الجوزية الذي توفي عام 751 هجري فإنه يميِّز تمييزًا واضحًا ما بين الروح والنفس والجسد، وذلك عندما يتساءل عن ماهية النفس، وهل هي الروح فيقول: «ما حقيقة النفس، وهل هي جزء من أجزاء البدن، أو عرضٌ من أعراضه، أو جسم مساكِنٌ له مودَعٌ فيه، أو جوهر مجرَّد؟ وهل هي الروح، أو غيرها؟ وهل الأمَّارة واللوَّامة والمطمئنّة نفس واحدة لها هذه الصفات أم ثلاث أنفس؟».
وبعد أن يستعرض مختلف الآراء في هذه الأمور ينتهي إلى ترجيح الرأي القائل: «إن الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس. وهي جسم نوراني علوي خفيف متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكًا لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية. وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح».
ويأتي ابن مسكويه فيفضِّل نظرية المعرفة الحسيَّة والعقلية، معتبرًا أن النفس هي مكمن المعرفة العقلية. لذلك فإنه بعد أن يتكلم عن النفس، ويبرهن على أنها ليست بجسم ولا عَرَض، يقول: «إن الجسم قواه لا تعرف العلوم إلا من الحواس. أما النفس فإنها، وإن كانت تأخذ كثيرًا من مبادئ العلوم عن الحواس، فلها من نفسها مبادئ أُخر، وأفعال لا تأخذها عن الحواس البتة، وهي المبادئ الشريفة العالية، التي تبنى عليها القياسات الصحيحة. وذلك: إنها إذا حكمت أنه ليس بين طرفي النقيض وساطة، فإنها لم تأخذ هذا الحكم بشيء آخر، لأنه (أوليّ) ولو أخذته من شيء آخر لم يكن أوليًّا.
فالحواس تدرك المحسوسات فقط. وأما النفس فإنها تدرك أسباب الاتِّفاقات، وأسباب الاختلافات، التي في المحسوسات، وهي معقولاتها التي لا تستعين عليها بشيء من الجسم، ولا آثار الجسم.
وكذلك إذا حكمت على الحس، أنه صدقٌ أو كذب، فلست تأخذ الحكم من الحس، لأن الحسّ لا يضادّ نفسه، ونحن نجد النفس العاقلة فينا، تستدرك شيئًا كثيرًا من أخطاء الحواس. ثم إن النفس إذا علمت أنها أدركت معقولاتها، فليست تعلم هذا العلم من علم آخر، فإنها لو علمت هذا العلم من علم آخر لاحتاجت في ذلك العلم نصًّا إلى علم آخر، وهذا يمرُّ بلا نهاية.
فإذن، علمُها «بأنها علمتْ»، هو من ذاتها وجوهرها، أعني «العقل» وليست تحتاج في إدراكها ذاتها إلى شيء آخر غير ذاتها.
وأما عن مصير النفس بعد الموت، فإن ابن مسكويه يقول: «الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها، وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدنًا، كما يترك الصانع استعمال الآلة. وإن النفس جوهر غير جسماني وليست عرضًا، وإنها غير قابلة للفساد، وإن ذلك الجوهر مفارق جوهر البدن، مباين له كل المباينة بذاته وخواصه وأفعاله وآثاره. فإذا فارق البدن على الشريطة التي شرطها من الخير بقيَ البقاء الذي يخصُّه، ونُفيَ من كدر الطبيعة، وسعد السعادة التامة، ولا سبيل إلى فنائه أو عدمه».
هذه آراء طائفة من العلماء والشعراء والفلاسفة المسلمين الذين تحدثوا عن الروح والنفس والجسد. وهم في جلّهم لم يبحثوا موضوع «الروح» بصفته مستقلًّا عن موضوع «النفس»، لأن من تحدث عن النفس، لم يتحدث عن الروح، والعكس بالعكس، ومن تحدث عنهما كان حديثه نوعًا من الخلط بينهما حتى ليظهر أنه يعدّهما شيئًا واحدًا.
ولعلَّ بعضًا من أولئك العلماء استطاع أن يميّز بوضوح بين الروح والنفس، كما هي الحال عند ابن القيم الجوزية، الذي تساءل عن حقيقة النفس وهل هي الروح، ثم عادَ وفرَّق بينهما معتبرًا أن الروح جسم نورانيّ علوي يسري في أعضاء الجسد ويمنحه الحسَّ والحركة الإرادية، في حين أن النفس هي مصدر المعرفة العقلية، وعلمُها ينبع من ذاتها ولا تحتاج إلى إدراك هذه الذات لأي شيء آخر غيرها.
ومن علماء الصوفية الذين تحدثوا عن النفس والروح الشيخ الأكبر (كما يسمونه) محيي الدين بن عربي، فقد كتب في (تحفة السفَرة إلى حضرة البررَة) يقول: «قال الله تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا] (الشمس: 7) الوصول إلى المقامات لا يحصل إلّا بتزكية النفس، وتنقية القلب، وتخلية الروح. والمقصود بالذات تخلية الروح. ولا تحصل تخلية الروح إلا بتصفية القلب، ولا تحصل تصفية القلب إلا بتزكية النفس، فالتزكية من مقدمة الواجب. وذهب بعض المشايخ إلى أن تزكية النفس تحصل بتصفية القلب، لأنه من اشتغل بتزكية النفس لاتحصل تزكيتها بالتمام والكمال إلّا في مدة طويلة، ومن اشتغل بتصفية القلب تحصل تزكيتها في مدة قليلة».
ويتابع في فصل تزكية النفس قائلًا: قال اله تعالى: [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ] (يوسف: 53) وقال ابن عربي: «أعدى عدوّك نفسك بين جنبيك» فيفسِّر ذلك بقوله:
«النفس قوة شهوية تتعلق بجميع البدن على السوية، وهي منشأ الصفات الذميمة، وتزكيتها طهارتها عن جميع الصفات الذميمة واتصافها بالصفات الحميدة. اعلم أن الغضب والشهوة صفتان ذاتيتان للنفس، وجميع الأوصاف تتولد ـــ منها ـــ وتزكيتها باعتدالها. لأن الهوى إذا تجاوز يتولد منه الشره والحرص، والأمل، والخسة والدناءة والبخل والجبن والغيبة والبهتان. وإذا تجاوز الغضب يتولد التكبر والعداوة والحدة والعجب والفخر والخيلاء والكذب. وإذا اعتدلت صفة الهوى يظهر في النفس الحياء والجود والسخاء والمحبة والشفقة والتعظيم والصبر. وإن اعتدلت صفة الغضب فيظهر فيها التواضع والحلم والمروءة والقناعة والشجاعة والبذل والإيثار. وإن تعادلنا يظهر فيها التزكية، فالتزكية تحصل باعتدال هاتين الصفتين».
وفي فصل في تحلية الروح يقول ابن عربي: قال الله تعالى: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي] (الإسراء:85) ، وقال النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «الأرواح جنود مجندة». فالروح جوهر لطيف نوراني غني عن التغذية. وللروح ستّ حالات. حالة العدم. قال الله تعالى: [هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ] (الدهر: 1). وحالة الوجود في عالم الأرواح. قال النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي سنة». وحالة التعلق. وحالة النفخ: [وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي] (الحجر: 29) وحالة المفارقة [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] (آل عمران: 185). وحالة الإعادة [وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا] (الكهف: 47).
أما فائدة حالة العدم فلحصول المعرفة بخلقة نفسه وبقدم صانعه. وأما فائدة حالة الوجود في عالم الأرواح فلمعرفة الله بالصفة الذاتية من القادرية والعالمية والحياتية والوجودية والسمعية والبصرية والمتكلمية والمريدية. وأما فائدة تعلقه بالجسد فلاكتساب كمال المعرفة في عالم الغيب والشهادة من الجزئيات والكليات.
وأما فائدة نفخ الروح في الجسد فلتحصيل المعرفة بالصفات الفعلية من الرازقية والثوابية والغفارية والرحمانية والرحيمية والمنعمية والمحسنية والوهابية، وكثواب الرزق في مقام العندية الذي قال الله تعالى فيه: [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ] (القمر: 55).
وأما فائدة الإعادة فلحصول التنعمات الأخروية التي قال عنها الله في حديث قدسي: «وأعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
ثم يضيف ابن عربي قائلًا: «إذا اشتغلت النفس بالعصيان واتِّباع الشيطان يظهر في الروح نقطة سوداء، فمتى ازداد عصيان النفس يزداد سواد الروح حتى إذا اسودت النفس بالكلية فانسدَّت أبواب لطف الله تعالى لأن له وجهين: وجه إلى عالم الغيب، ووجه إلى عالم الشهادة فكل فيض يصل إليه من حضرة الله تعالى يؤدي إلى القلب، والقلب يقسم إلى سائر الأعضاء فيظهر في الأعضاء فعل مناسب لذلك الفيض. فانجلاء سواده يحصل بالإيمان كما قال علي رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمظة (اللمظة هي النكتة من البياض) في القلب فمتى ازداد الإيمان ازدادت اللمظة، فإذا ازداد الإيمان انجلى حتى ينجلي بالكلية وزالت حجبه، فإذا انجلى بالكلية فيظهر فيه مشاهدات الروحانية والغيبية».
وأما السهروردي فقد اعتبر بأن الجسم ليس سوى سجن حبست فيه الروح، فما دامت فيه يبقى مرتهنًا، ولكن إلى زمن، فإن أدركه الموت، انفلتت من عقاله، لذا فإن الموت ليس غير نقلةٍ من دنيا الأرض. وفي ذلك يقول:
أنـا عصـفور وهــذا قفصي طرت عنه وبقي مرتهنا
وأنا في السور هذا جسدي كان ثوبي وقميصي زمنا
وأنــا الآن أنــاجــي مـــلأً وأرى الله جــهارًا عـلنا
لا تظـنوا الموت مــوتًا إنـه ليس إلا نقــلة من ههنا
هذا وبعد هؤلاء العلماء والشعراء والفلاسفة المسلمين، بعدة قرون، قام عدد من فلاسفة الغرب الذين بحثوا في العلاقة ما بين الكيان المادي والكيان الروحي للإنسان، وكانت لهم لذلك نظريات متباينة، استقت من آراء الفلاسفة المسلمين الشيء الكثير، قبل أن تستوي نظريات فلسفية مستقلة.
ومن فلاسفة الغرب هؤلاء نجد أن (توماس أكويناس) اتهم ابن رشد بالإلحاد والإنكار لأنه أنكر وجود الشخصية الفردية الإنسانية، وقال بفنائها مع الجسد. فبينما نراه من ناحية يعرِّف الشخصية بأنها مزيج من الجسم والنفس، ويُعدّ، في بعض أقواله، الجسم والنفس حقيقة واحدة موحدة، نراه من ناحية أخرى يقول إن النفس حقيقة غير جسمية، وإنها شيء روحي يبعثه الله فينا. وفي حين يقول: إن هذه القوة الروحية الموجودة فينا تبقى بعد موت الجسد، يقول حينًا آخر: إن النفس ليست ذات شخصية، فهي لا تقدر أن تحس أو تريد أو تفكر بل هي طيف لا قوة له، ولا يستطيع أن يقوم بعمل بغير الجسم، وإنها لا تكوِّن شخصية منفردة خالدة إلَّا إذا عادت للاتحاد مع الجسم. أي إنه يُقرُّ ببعث الإنسان بعد موته نفسًا وجسدًا.
أما الفيلسوف (ديكارت) فقد اعتمد في نظريته على تفسير الحياة، وكيفية اتصال العقل الروحاني بالجسد المادي، على القول: بأن أصل الحياة هو الدم. وبعد أن يعلل مفهوم الدورة الدموية، يعود ويردُّ الاتصال ما بين العقل الروحاني والجسد المادي إلى وسيط هو الغُدَّة الصنوبرية. لكنه في النهاية ـــ وعندما يجد نفسه عاجزًا عن إثبات ماهية الروح، وكيف تتصل بمادة الجسم ـــ يعود فيؤكد قائلًا: إننا لا نستطيع أن نعرف كيف يتم هذا الاتصال بين الروح والمادة، فلم يبقَ لنا إلَّا أن نعلله بأنه آية من آيات الخلاق الحكيم القادر، تمامًا كما قال القرآن الكريم بذلك، أي بأن الروح سرٌّ إلهيّ ولا يعلم الإنسان من أمرها شيئًا.
وكذلك (مالبرانش) أيضًا فقد كان مثَلُه مثلَ (ديكارت) ولم يوفَّق إلى تفسير الاتصال بين العقل الروحاني والجسد المادي، لذلك انتهى إلى القول بأن: «الأفكار الإلهية هي وحدها التي تتمتع بالوجود، ونحن نرى هذه الأفكار بالله، فليس هناك أفكار فطرية مركوزة في عقولنا، ولا أفكار صنعيَّة تكوِّنها عقولنا، ولا إدراكات حسيَّة تتلقاها هذه العقول من الأشياء، لكن الموجود هو الأفكار الإلهية، ونحن لا ندرك العالم الخارجي بذاته، بل ندركه بالله الذي عنده علم الكُلّ».
وهذه هي نظرية الرؤية بالله، أو المشاهدة. وبمقتضاها لا يرى (مالبرانش) لزومًا لإقامة البرهان على وجود الله، ما دمنا نراه ونرى به كل شيء ـــ بحسب ادِّعائه ـــ، فلسنا نعرفه من طريق الأفكار الفطرية والأوليات البديهية الموصلة إلى إثبات وجوده بالبرهان، بل نحن نعرفه بالرؤية، والبداهة المباشرة، فلا حاجة إذن، لإثبات وجوده بالأدلة والبراهين.
وهذا ما قال به بعض الصوفية. وهو كلام لا يتوافق مع البحث الفلسفي الذي يقوم على النظر العقلي الخالص أو البرهان العقلي القاطع. فالقاعدة أن الإيمان بالله لا يمكن أن يكون عن طريق (المشاهدة) الصوفية أو غير الصوفية إذ جلَّ عن أن تراه العيون، بل يكون بالعقل الذي وهبنا الله تعالى إيَّاه، وبالبراهين العقلية التي أعطانا ـــ سبحانه ـــ القوة والقدرة على تركيب مقدماتها واستخراج نتائجها. ولولا ذلك لما دلَّنا في كُتبه، وعلى لسان رُسله، على هذه البراهين، وقد قال تعالى في القرآن الحكيم: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] (فصلت: 53). وقال تعالى: [وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] (يوسف: 105). ثم قال تعالى: [بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ] (العنكبوت: 49).
على أنَّ هذا الإيمان الصوفي الذي اعتنقه (مالبرانش) قد أدَّى به إلى إنكار الاتصال ما بين الروح والجسد إنكارًا تامًّا، ويسلِّم بجبريَّة مطلقة هي التي تسيِّر الإنسان في كل شيء، وذلك عندما يقول: «إن الفعل لله وحده، فلا الأرواح تعمل ولا الأجسام تعمل. لكن هذا النظام الذي نشاهده ونظن أنه اتصال بين الروح والجسم، ما هو إلَّا تناسق بين ميول الأرواح وحركات الأجسام. وكل ذلك من فعل الله وحده، فهو يخلق الميول والرغبات وحركات الأجسام، وهو يحرك الأجسام وفق ميول الأرواح».
ولعل (مالبرانش) لم يميِّز بين ماهية الروح وماهية النفس، فاعتبر أن الميول والرغبات تكون للروح، في حين أنها في الحقيقة تنبع من النفس، وليس للروح أي شأن بها، وهذا ما جعله يقول بميول الأرواح ورغباتها بحيث تتحرك الأجسام وفق هذه الميول.
وعلى النهج نفسه يأتي (لايبنز) ليفسِّر الاتصال بين الروح والجسم بنظريته المعروفة (بالتناسق السابق التوطيد) فيقول إن العالم بما فيه من أجسام وأرواح يتكون من (ذرَّات روحيَّة) وكل ذرَّة مستقلة عن الأخرى، وتسير بمقتضى قوانين لها من دون أن تتصل بسواها. وكل ذرَّة فيها جانب مادي (منفعل) وجانب روحاني (فاعل). وهذه الذرَّات تسير بإرادة الله وتعمل بقدرته، بصورة يظهر منها أن بعضها يتصل ببعض، وهي في الحقيقة لا تتصل، لكن قدرة الله تجعل كل ذرَّة تسير سيرًا يوافق سير الذرَّات الأخرى، أي إنه يقول أيضًا بجبريَّة تخضع لها هذه الذرَّات التي تتألف منها الأجسام والأرواح.
ويتابع (لايبنز) شرح نظريته فيقول: وهكذا شأن العقل والجسد. فللعقل نظامه، وللجسد نظامه، لكنهما بإرادة الله يسيران مستقلَّين بتوافق وتناسق (موطَّد سابقًا) بحيث يستحيل أن يتخلف عمل أحدهما عن عمل الآخر. فكل خلجة عقلية تقابلها حركة في الجسد كأنَّ بينهما علاقةً واتصالًا، وهما في الحقيقة غير متصلَين ولا متفاعلَين، لكن هذا الذي يظهر لنا من التوافق هو أثر (التناسق السابق التوطيد) الذي وضَعَهُ الله فيهما.
وعلى خلاف ما ذهب إليه كل من (مالبرانش) و(لايبنز) في اعتقادهما بالجبريَّة التامة في حياة الإنسان، يقول الفيلسوف (كانْتْ) بحرّية الإرادة التي يتوصل إليها عن طريق ما يسميه (القانون الأخلاقي أو الضمير)، كما يستدل بحرية وإرادة على يوم الحساب وعلى خلود النفوس في حياة أخرى.
وهكذا فإن (كانْت) عندما انتهى به الأمر إلى الإقرار بصعوبة البرهنة على وجود الله بالعقل النظري، عاد واخترع عقلًا آخر أسماه (العقل العملي La raison Pratique) ويعني به الضمير، وبوساطة هذا العقل العملي استدلَّ على وجود الله تعالى. وما يهمنا هنا أنه بوساطة هذا العقل الذي يقول عنه (كانتْ) إنه قانوننا الأخلاقي الذي فطرت عليه نفوسنا كما فطرت عقولنا على قوانينها المنظمة لها، يستدل على خلود النفوس فيقول: «إن قانوننا الأخلاقي يستلزم أن نكون أحرارًا في اختيارنا للخير والشر (على عكس القائلين بالجبريَّة). ونحن نرى في هذا العالم أن فاعل الخير من النادر أن يُكافأ على عمله، بل نرى أن فعل الخير كثيرًا ما يكون مجلبة للشقاء والبلاء، فلا بد، إذن، من أن تكون لنا حياة أخرى ننال بها جزاء ما فعلناه من الخير، وهذه الحياة الأخرى توجب أن تكون النفوس خالدة لتنال جزاءها. ولا مجال لإنكار خلود النفوس لأنه يؤدي إلى إنكار القانون الأخلاقي الذي قلنا إنه حقيقة لا ريب فيها».
هذا هو الدليل الأخلاقي الذي اختاره (كانتْ) ليس لإثبات خلود النفوس فحسب، بل وبه استدلّ على يوم الحساب، وعلى وجود الديَّان الحكم العادل، القادر، الخالد، الذي يعود إليه وحده إقرار العدالة في اليوم الآخر.
وهكذا يتبين من ملخص بعض الآراء والنظريات عند بعض العلماء والفلاسفة من المسلمين، وبعض العلماء والفلاسفة من المسيحيين وغيرهم، أن تلك الآراء لم تتفق على ماهية العلاقة ما بين الروح والجسد (أو ما بين النفس والجسد) وكيف يتم الاتصال ما بين الكيان الروحي والكيان المادي للإنسان، وهذا بطبيعة الحال ناجم عن عجز الإنسان عن فهم حقيقة الروح، كما يقرِّرُه ويؤكده الدِّين الإسلامي.
وبما أننا لسنا في معرض مناقشة تلك الآراء والنظريات، للوقوف على وجه الصواب والخطأ في كل منها، فإنَّ ما نريد تأكيده، هو أن الإنسان في تكوينه ثلاثة عناصر: الروح والنفس والجسد، وقد قدَّرها الخالق العظيم وأوجدها في هذا الإنسان حتى يستوي في أحسن تقويم، وأحسن صورة. وإنَّ باجتماعها فيه تتحدَّد الحياة التي يحياها بكل مظاهرها العقلية والفكرية والحسية.
وسوف نبيِّن لك أيها القارئ الكريم كيف أنَّ كلًّا من الروح والنفس، هو عنصرٌ مختلف عن الآخر، وله وظيفة خاصة يقوم بها، من دون أي تشابك أو اختلاط بينهما.
فأما الروح فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم لتدلَّ بلفظها الواحد على معانٍ متعددة:
فقد أريد بها أولًا جبرائيل، عليه السلام، بقوله تعالى: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ] (الشعراء: 193) وأريد بها ثانيًا الشريعة الإسلامية، بقوله تعالى: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا] (الشورى: 52). ثم أريد بها قدرة الله ومشيئته، بقوله تعالى: [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي] (الحجر: 29). وأريد بها أيضًا إدراك الإنسان صلته بالله سبحانه وتعالى، أي كون الأشياء مخلوقة لخالق خلقها وأنها تعبِّر عن صلة المخلوق بالخالق، وأن الروح هي إدراك هذه الصلة. لذلك كانت الروح سرَّ الحياة، ومحركة الجسد، وباعثة الحياة، وموقظة الشعور بها، ومن دون هذه الروح تنعدم الحياة.
إلا إن ماهية الروح، ومعرفة حقيقتها، وكيف تبعث الحياة في الجسد ـــ أو كما عبَّر عنه الفلاسفة كيف يتم اتِّصال العقل الروحاني بالجسم المادي ـــ فهذه أمور أُغلقت على الإنسان، ولم تستطع العقول النيِّرة إدراكها، لذلك بقيت اللغز الكبير الذي عجز الإنسان عن حلِّه، فصرَف الله تعالى الناس عن التفكير فيها لتحديدها بقوله العظيم لرسوله الكريم: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً] (الإسراء: 85).
وفي تقديرنا أن الإنسان لن يكون قادرًا على حلِّ هذا اللغز، مهما تقدمت به العلوم، ومهما بلغ عنده النضوج الفكري، لأنَّ القرآن الكريم يؤكد عجز الإنسان، وقصر علمه عن إدراك حقيقة الروح لقوله تعالى: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح].
ولكن إذا كنا عاجزين عن إدراك حقيقة ماهية الروح، فإنَّ بعض أئمة المسلمين قد أشار إلى عمل الروح التي يكون بها التنفُّس والتحرك، لذلك فهي التي تبعث الحياة والحركة في الإنسان، ويمكن تحديدها وتعريفها بهذا القدر البسيط ـــ والعظيم في آنٍ ـــ وهي أنها: من أمرِ الله الذي يتيح للمخلوق الحيِّ هذه الحياةَ وتلك الحركة.
أما النفس فقد ورد ذكرها أيضًا في كثير من آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ] (يوسف: 53)، وقوله تعالى: [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] (المدثر: 38)، وقوله تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 7 ـــ 10). أي: قد أفلح من زكاها باختيار الأعمال الصالحة وجعلها متَّصفةً بالصفات الحسنة، يعني عرَّفها معنى الطاعة وبعثَها في الطريق المستقيم، وقد خاب من دسَّاها بتمرُّغ صاحبها في حمأة الأعمال السيئة والصفات الرديئة. وعلى هذا تتَّصف النفس إما بالطاعة وإما بالمعصية، لأنها هي التي تجتني الخير أو تجتلب الشرَّ. وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قرأ هذه الآية يقول: «اللّهُمَّ آتِ نفْسِي تَقْوَاها، أَنْتَ وَلِيُّها وَمَوْلَاهَا، وَزَكِّهَا وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها».
وبمقتضى هذه الآيات وغيرها يتبيَّن أن النفس هي التي تُسأل يوم القيامة عمَّا عملت من خيرٍ أو شرٍّ، لذلك كانت للنفس ملكةُ المعرفة عند الإنسان، لقوله تعالى: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا] وكان بها العقل والتمييز، والاطمئنان والقلق، والراحة والنصب، والجوع والعطش، والشبع والارتواء، والحسد والطمع، والقناعة والرضى، إلى ما هنالك من مُدْرَكات وأحاسيس وغرائز.
ومن هنا كانت الروح والنفس شيئين متغايرين. لذلك فإن الآيات القرآنية عندما تتحدث عن الروح أو عن النفس فإنها تميِّز بين خصائص كلٍّ منهما بوضوح، كما يستدلُّ على ذلك من الآيات التي ذكرنا بعضها ولم نذكر أكثرها.
ويفرِّق ابن عباس، رضي الله عنه، بين الروح والنفس، فيقول: «يوجد في بني آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها التنفُّس والتحرك. فإذا نام الإنسان قبض الله سبحانَهُ نَفْسَهُ ولم يقبض روحه. وإذا مات قبضَ الله سبحانه نفسَهُ وروحَهُ». وهذا ما نُقل أيضًا عن الإمام الباقر، عليه السلام، إذ قال: «ما مِن إنسانٍ ينام إلَّا وتعرُج نفسُه إلى سماءِ الله وتبقى روحه في بدنه، ويصير بينهما شعاع كشعاع الشمس، فإذا أذِن الله بقبض الرُّوح أجابتِ النفسُ، وإذا أذِنَ الله ببقاء الروح رجعت النفس».
وما قاله ابن عباس والإمام الباقر، رضي الله عنهما، جاء تفسيرًا لقوله تعالى: [اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الزمر: 42).
وقال الله تعالى: [وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (الأنعام: 60).
ومن منطلق هذا التوضيح القرآني كان الرسول الأعظم عندما يستلقي على جَنْبِهِ الأيمن يدعو الله سبحانه وتعالى بقوله: «اللّهم إنْ أمسكتَ نفسي فاغفر لها، وإن أرسلْتَها فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين».
هذا عن الروح والنفس، أما عن الجسد، فهو وإن كان عند الفلاسفة عنصرًا ماديًّا، يعيق الروح (أو النفس)، بحيث يكون سجنًا لها في هذه الحياة ـــ كما يدَّعون ـــ إنه في الحقيقة من أعظم آيات خلق الله إبداعًا وتكوينًا، وأروعها في إتقان صنعه وفي اتِّزانه وحُسن تقويمه، وتناسب حركاته وتوافق غاياته، ولا نريد أن نستفيض في تعداد مزايا هذا الجسد، وكيف يؤدي كلُّ عضو أو جهاز فيه ـــ من أدق الشُّعيرات إلى أكبر الأعضاء، أو أهم الأجهزة ـــ دَوره بدقة متناهية وتنظيم عجيب، بل نكتفي بالإشارة فقط إلى أنه كلما تقدَّمت علوم الطب المختلفة، اكتشفت عوالم في تركيب الإنسان تقف العقول قاصرةً حائرة أمامها وأمام هذا التنظيم والإحكام والتعديل والترابط والتجاوب والتعاون والتناسق بين ملايين الملايين من الذرات والخلايا والأعصاب التي تمنحنا الحياة، بحيث لا يسعها إلَّا أن تسبِّح الخالق العظيم الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديرًا [صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] (النمل: 88) [مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ] (تبارك: 3) [فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ] (المؤمنون: 14). وهكذا، وبمقتضى كتاب الله المبين، نعرف أنَّ الله تعالى قد خلق جسد الإنسان ـــ بداية ـــ من ترابٍ، ثم نفخ فيه من روحه فحلَّت به الحياة، ثم وهبه ملكة العلم والمعرفة حتى تكون لديه قابلية الربط للمعلومات فيتكوّن عنده الإدراك أو التمييز، فتقوم على أساس هذا الإدراك أو التمييز حريةُ الاختيار عند الإنسان.
وإذا كانت بداية الخلق من تراب، فإن الله تعالى أوجَدَ نظامًا خاصًّا يتتابع الخلق من جرائه وعلى أساسه، فخلق الزوجَين: الذكر والأنثى، اللَّذين باجتماعهما يكون هذا الخلق، وفي ذلك يقول الله تعالى في محكم آياته البيّنات: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْـمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ] (المؤمنون: 12 ـــ 15). ويقول سبحانه وتعالى: [الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ] (السجدة: 7 ـــ 9). ويقول سبحانه أيضًا: [وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى] (النجم: 45). ويقول عزَّ وجلَّ: [وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (الذاريات: 49). ويقول تعالى: [وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا] (فاطر: 11) ويقول عزّ من قائل: [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ] (آل عمران: 6)... [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ] (الزمر: 6).
فيكون الإنسان في حقيقته كائنًا حيًّا من جسد وروح. ومن تداخل الروح بالجسد تتكون النفس، ثم يتكون الإنسان بعدُ، من جسدٍ وروحٍ ونفس.
على أن بعض الأديان قد نظرت إلى أن الكون فيه المحسوس والمغيَّب، وأن الإنسان فيه السموُّ الروحي والنزعة الجسدية، وأن الحياة فيها الناحية المادية والناحية الروحية، وأن المحسوس يتعارض مع المغيَّب، وأن السمو الروحي لا يلتقي مع النزعة الجسدية، وأن المادة منفصلة عن الروح. لذلك فهاتان الناحيتان (الروحية والمادية) منفصلتان عندها، لأن التعارض بينهما أساسي في طبيعتهما ولا يمكن امتزاجهما، وإن كل ترجيح لإحداهما في الميزان فيه خفضٌ لوزن الأخرى. ولهذا كان على مريد الآخرة أن يرجح الناحية الروحية.
من هنا قامت في المسيحية سلطتان: السلطة الروحية والسلطة الزمنية «ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، ولما كان رجال السلطة الروحية هم رجال الدين وكهنته، فقد عملوا كي تكون السلطة الزمنية بأيديهم حتى يرجحوا عليها السلطة الروحية في الحياة، الأمر الذي أدَّى إلى نشوء النزاع بين رجال الحكم الذين بأيديهم السلطة الزمنية، ورجال الكنيسة الذين بأيديهم السلطة الروحية، وأدَّى الصراع الذي نشب يومئذٍ إلى حصر السلطة الروحيّة برجال الكنيسة، وإبعادهم عن السلطة الزمنية. ثم نشأت نظرية فصل الدين عن الحياة لأنه كهنوتي، وكان هذا الفصل من الأسس التي قام عليها المبدأ الرأسمالي الذي يُعدّ أساس الحضارة الغربية الحديثة.
على أن هذا المبدأ يُعدّ أيضًا قوام القيادة الفكرية التي يحملها الاستعمار الغربي للعالم، ويدعو إليها، ويجعلها عماد ثقافته، ويزعزع بالتالي على أساسها عقيدة المسلمين بالإسلام، لأنه يقيس الإسلام بالمسيحية على طريقة القياس الشمولي، لذلك نقول: إن كل من يحمل هذه الدعوة: «فصل الدين عن الحياة» أو فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، إنما هو موجَّهٌ بتوجيه قيادة فكرية أجنبية، أو هو جاهل بالإسلام، لأن الدِّين الإسلامي يرى أن الأشياء التي يدركها الحس هي أشياء مادية. والناحية الروحية مخلوقةٌ وموقوفةٌ للخالق عزَّ وجلّ، لذلك كانت الروح تُتيح إدراك الإنسان لصلته بالله تعالى، وعلى ذلك فإنه لا توجد ناحية روحية منفصلة عن الناحية المادية، ولا توجد في الإنسان أشواق وميول روحية، ونزعات ورغبات جسدية، بل في الإنسان حاجات عضوية، وغرائز لا بد من إشباعها. ومن هذه الغرائز غريزة التديُّن التي هي منتهى التقديس للخالق، ومنتهى الاحتياج إلى الخالق المدبِّر، وهي ناشئة عن العجز الطبيعي في تكوين الحياة.
وإنَّ إشباع هذه الغرائز لا يسمَّى عمليّةً روحية ولا عمليّةً مادية، بل هو إشباع فقط. إلَّا إن هذه الحاجات العضوية والغرائز إذا أشبعت بنظام مفروضٍ من عند الله تعالى، بناء على إدراك الصلة بالله، كانت مسيَّرة بالروح التي هي هنا «الشريعة الإسلامية» أي أوامر الله ونواهيه. وإذا أشبعت من دون نظام، أو بنظام من عند غير الله، كان ذلك إشباعًا ماديًّا بحتًا، وهذا هو الذي يؤدي بالإنسان إلى الشقاء.
وبناء على هذا تكون الروحانيات في الإسلام، هي الأعمال المادية المتعلقة بأوامر الله تعالى ونواهيه. أما الأعمال التي لا تكون مسيَّرة بأوامره ونواهيه فإنها تقف عند حدود الماديات، وهي لا تتعلق أبدًا بالأوامر والنواهي الربَّانية. وعلى هذا الأساس تُبنى جميع أفكار الإنسان وتصرفاته، بحيث لا يعود هاجسه كيف يتم الاتصال ما بين الروح والجسد، لأنَّ هذا الاتصال موجود وثابت، وهو بفعل الله سبحانه وتعالى الذي يهب فيه الحياة للإنسان، ولكل كائن حي، وفق القانون الإلهي الذي حدَّد كيفية الخلق وجعلها خاضعة لمشيئته وحده، من دون أن يكون للإنسان أيّ علاقة بهذه الكيفية، التي فرضت عليه، والتي لا يستطيع، مهما بلغ سعةً في العلم أن يغيرها أو يعدِّلها، وهذه حقيقة راهنة لا مجال لإنكارها، إذ لم يقدر الإنسان، ولن يقدر أن يغير شيئًا في قانون الخلق الإلهي، لأنه أعجز من أن يخلق بعوضة، فكيف يقدر أن يغير الناموس الأزليّ الثابت الذي أوجده الله تعالى دلالةً على قدرته وعظمته؟ وذلك قولُه تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَّرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 73 ـــ 74).
وأما الاختلافات في الرأي التي ظهرت حول البعث، وهل يكون بالروح أم بالنفس، وهل إن انحلال الجسد في التراب هو انحلال نهائي ودائم، فهذه الاختلافات كثيرة ومتشعبة، عند الفلاسفة، بحيث لا نجد نظرية كاملة تعيد الأمر كلَّه إلى الله سبحانه، فهو قادر على أن يعيد الإنسانَ كما أنشأه أول مرة. وذلك لا يعجز الله سبحانه في شيء، ما دام يقول للشيء: كن فيكون.
ومن تلك الآراء حول كيفية البعث القول ببقاء النفس بعد فناء الجسم، وتناسخها من بدن إلى بدن على نحو يصبح بينها وبين الثاني من العلاقة مثل ما كان بينها وبين الأول. ويدَّعي القائلون بالتناسخ أن النفس المطيعة لله تعالى تنتقل بعد موت الجسم إلى أبدان السعداء وأهل الجاه والثراء، وإذا كانت عاصية شقية تنتقل إلى أبدان الحيوانات، وإذا كانت ممعنة في الشقاء اختير لها بدن أخسّ وأكثر تعبًا وعناء.
وجاء عن صدر المتألهين في كتابه المبدأ والمعاد من الأسفار: «إن النفس الإنسانية إذا انتقلت إلى بدن إنسان سُمِّي ذلك نَسْخًا، وإذا انتقلت إلى بدن حيوان كان مَسْخًا، وإذا انتقلت إلى النبات فهو الفَسْخ، وإلى الجماد فهو الرَّسْخ»، والقائلون بالتناسخ بجميع أشكاله لا يلتزمون، على ما يبدو، بالبعث والحساب، بل تنتقل النفس عندهم من كائن إلى كائن، وتظل تنتقل إلى ما لا نهاية!!!
ومثل فكرة التناسخ شاعت في كثير من الأوساط فكرة التقمُّص، وهي تقوم على أن الجسد أو الجسم البشري ثوب للنفس أو الروح، تتقمصه الروح عند الولادة وتنتقل منه بالموت فورًا إلى جسد مولود آخر من دون تمييز جنسيّ أو عنصريّ أو مكانيّ، وتظل بعد كل موت تخلع الثوب البالي وتلبس ثوبًا جديدًا إلى نهاية الأجيال.
وإذا كان التناسخ يقوم على إنكار البعث والحساب، فإنَّ التقمُّص، على خلاف ذلك، يأخذ بنظرية الثواب والعقاب على قاعدة العدل الإلهيّ في محاسبة الأرواح بعد مرورها في الدهر الطويل، لا في مدى حياة واحدة بخيرها وشرها وقصرها وطولها، بحيث يمنحها الدهر الطويل فرص الاكتساب والتطور والامتحان والتبدل كي تحاسب حسابًا عادلًا على مجموع ما كسبت. وفي أدوار انتقالها من جسد إلى جسد تكتسب من المعرفة والعلوم الروحية ما ينقلها من درجة إلى درجة في مراقي التكامل، حتى تبلغ درجة الإمامة إذا كانت مؤهَّلة، وهي منتهى الرفعة وأعلى مراتب الدِّين في آخر أدوار التقمُّص المقصود منه بلوغ الكمال الإنسانيّ.
وتعود عقيدتا التناسخ والتقمُّص إلى قدماء المصريين وتعاليم فيثاغورس وبوذا وغيرهم ممَّن قَصَرَ همَّه على كشف الغطاء عن أسرار الروح ومصيرها. وقد علل أفلاطون نمو المعرفة في الأجيال البشرية وطاقة استيعابها للحقائق، فافترض مرور الأرواح في حياة سابقة.
وإذا كان الصوفية قد تمسَّحوا بالروح، فإنَّ عقائدهم في الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، إنما هي إنكار للبعث والحساب في حقيقتهما.
فالحلول يعني أن الله سبحانه يحل في الإنسان وفي غيره من أجزاء هذا الكون، وذلك عندما يتجرد هذا الإنسان من كل أثرٍ من آثاره، وصفة من صفاته، فيتلاشى الجسم تقريبًا ويذهب ولا يبقى فيه إلَّا الحالُّ، وبذلك يكتسب المخلوق صفة الخالق ويصبح (هو هو)، كما يعبِّر أبو يزيد البسطامي عن نفسه.
والاتحاد يعني أن يصبح الاثنان شيئًا واحدًا بعد اتّحاد بعضهما ببعض، وهو يحصل عندما تزول من الإنسان كل صفة من صفات الجسم، ويزول عنه كل ما هو غير روحاني. وعندما يتم ذلك يتحد الإنسان بالله، ويصبح كل ما لله من الصفات والإمكانيَّات لهذا الإنسان، بنحوٍ تكون الكلمتان: «الله والإنسان» تعبيرًا عن معنًى واحد. وقد جاء في جمهرة الأولياء للسيد محمود أبي الغيطى أن الجنيد (وهو من شيوخ الصوفية الكبار) قد خطا الخطوات الفاصلة فانتقل من حالتَيِ الفناء والبقاء اللَّتين يمر بهما الصوفيّ إلى فكرة الاتحاد. وذهب إلى أن المتصوف قد يصل إلى درجة تتحد فيها الروح اتحادًا تامًّا بالخالق، وذلك بالتجرد عن حول العبد وقدرته إلى حول الله وقدرته فيقوى بذلك وتتلاشى شخصيته البشرية في الذات الإلهية عن طريق عدم رؤية العبد لنفسه.
أما وحدة الوجود فيبدو من آراء الفلاسفة والمتكلمين وغلاة الصوفية أن المراد منها هو أن الموجود وواجب الوجود شيء واحد، فلا واجب بمعنى كونه علَّةً لغيره، وآخر ممكن ناقص يستمد وجوده من الغير، بل الموجود واحد هو الله الأزلي وهو واجب الوجود. والله سبحانه هو عين الموجودات، فكل شيء هو الله، والاختلاف في الموجودات اختلاف في الصور والصفات وليست الموجودات إلَّا صورًا للموجود الواحد.
هذه تعاريف سريعة للحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود، وهي الأفكار التي بنى عليها الصوفية معتقداتهم التي سوف تكون مدار بحوث لاحقة في هذا الكتاب ـــ إن شاء الله ـــ وقد أشرنا إليها هنا لتعلقها ببحث الروح والنفس والجسد، وما يؤول إليه الإنسان بحسب معتقداتهم تلك، بحيث يرتفع إلى مرتبة الألوهية بعد أن يتخلى عن صفاته البشرية.
على أنه مهما كانت الحال، فإن الحلول، أو الاتحاد، أو وحدة الوجود، بالإضافة إلى التناسخ والتقمُّص، أفكارٌ جميعها نوع من الأوهام والافتراضات التي لا تقوم على أساس علميّ ثابت، ولا على قواعد دينية معروفة. وقد ظهرت هذه الأفكار أول ما ظهرت بين المعتقدات الصينية والهندية، ومنها انتقلت إلى الزرادشتية والمانوية، وأخذها في ما بعد غلاة الصوفية كالبسطامي والشبلي والحلَّاج والجنيد وابن عربي والجيلاني وغيرهم، في جملة ما أخذوه، وحاولوا إدخاله تعاليم الإسلام. وسواء كان ذلك منهم عن حسن نية، أو عن سوء نية فقد حكم عليهم المسلمون وقالوا: إنها نوع من البدع والخرافات لتضليل الناس وتشويه العقيدة الإسلامية.
أما فيما يتعلق بالإسلام، فقد وردت الآيات في القرآن المجيد صريحة ودالَّة على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وعلى بعث الإنسان، بحيث يكون هذا البعث كاملًا: بالروح والنفس والجسد، فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: [أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى] (القيامة: 36 ـــ 40).
وأما عن بعث الإنسان، فقد قال تعالى: [أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ] (القيامة: 3 ـــ 4). وقال تعالى: [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (يس: 78 ـــ 83).
ففي هذه الآيات بيِّنات واضحة صادقة على إحياء الموتى يوم القيامة، وعلى بعث الأجسام، لأنَّ مَن خلقَها وأنشأها أول مرة من العدم قادرٌ على أن يعيد خلْقها وإنشاءها مرة أخرى، فيجمع العظام وهي رميم، ويسوِّي بنانَ الإنسان من جديد، حتى يكون الحساب، وحتى تكون الجوارح كلها شاهدة على الإنسان فيما كسبت نفسُهُ في دنيا الأرض، وفي ذلك يقول الله تعالى: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (النور: 24).
ويقول تعالى: [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (يس: 65).
إذن، فلا مجال لإنكار البعث الذي يكون فيه إحياء الموتى، وإعادة خلْقهم كما كانوا حتى يكون الحساب، ويكون الثواب والعقاب. وأما من ينكر ذلك، ويدَّعي خلودًا للنفوس أو للأرواح قبل يوم الحساب الموعود، فقد أنكر غيرهم من قبل وقالوا: [إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] (الأنعام: 29) وكان إنكار الكافرين أشدَّ، إذ قالوا: [هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ] (ق: 1 ـــ 2) لكنَّ الله العليم الحكيم رَدَّ على أولئك جميعًا بقوله تعالى: [أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ] (ق: 15).
هذه حقيقة الإنسان في حياته على وجه الأرض، حيث يتوجب عليه القيام وفق أوامر الله ونواهيه، فتكون أعماله المادية والروحية في هذا السبيل، لا في غيره، وإلَّا فقد عصى خلْقَهُ وخالقَهُ. وأما إحياؤه بعد موته، وحقيقة بعثه، فلا مجال للبحث فيهما، ما دام القرآن الكريم يقررهما في كثير من آياته البيِّنات، ويعطينا الأدلَّة والبراهين على البعث والنشور وعلى الحساب والجزاء، أفلا يتفكَّرون ويعقلون؟





أبو يَزيد طيفور البسطامي

أبو يزيد طيفور البسْطامي
وهذه شخصية أخرى من شخصيات «العشق الإلهيّ» الذين قبعت في أعماقهم عقيدة المجوسية، وساروا على طريق الزهد والتقشف الهنديين، وهم يتظاهرون بلباس التَّقوى حتى يخفوا الخرافاتِ التي طغت على عقولهم، ويختبئون وراء الدين حتى يستروا الأوهامَ التي عششت في أذهانهم، هذه الشخصية هي أبو يزيد طيفور البسطامي.
ولد طيفور البسطامي في مدينة بسطام من أعمال فارس فنُسبَ إليها. وكان جدُّهُ مجوسيًّا، ثم اعتنقَ الإسلامَ، مما كان له أثرُهُ الكبير على حفيده طيفور الذي راحَ يتقلّب بين المجوسية والإسلام منذ إدراكه وحتى وفاته التي كانت عام 261 هجري (874 ميلادي) بعد أن عاشَ نحو سبعين سنة.
ويُعَدُّ البسطاميُّ من كبار الصوفيين في بغداد إبّانَ القرن الثالث الهجري، وهو القرن الذي بدأ بمذهب «الحب الإلهيّ» على نسقٍ جديدٍ، وانتهى بمذهَبي «الاتحاد» و«وحدة الأديان»، على يد الحلّاج من متصوفة هذا القرن.
وهذا التطور في المذاهب كان لا بدَّ من أن يمرَّ بسلسلة متتابعة الحلقات تُفضي كل واحدةٍ منها إلى الأخرى. ذلك أنَّ متصوفة القرن الثاني كانوا يُعَدُّونَ أقربَ إلى الزاهدين منهم إلى المتصوفين لما كان يغلب عليهم من طابع الرضى، والتسليم، والتقبّل لكل ما يُفضي إلى الله حتى يكون منعُهُ وعطاؤه عند عبده سواء. بيد أنَّ هذا الطابعَ الزهديّ عادَ وانقلب عندهم إلى تجربة عاطفيةٍ نفسية تقوم على انجذاب الروح إلى المحبوب، والاتصال به، والتمتع بمشاهدة جماله وجلاله، وهي حالةٌ، يقول المتصوفون عنها، إنها لا تُدرك إلَّا بالذوق، ولا تُنالُ إلَّا بالرياضات وبذل المجهود المتصل من أصحاب الاستعدادات.
وهكذا تكون عناية الصوفية قد توجهت إلى الحب الإلهيّ، حتى بلغت في القرن الثالث شأوًا بعيدًا، وصارَ لهذا الحب مفهومٌ جديدٌ يختلف عمَّا كان عليه من قبلُ. وتبرز هذه العناية عند المحاسبيّ المتوفى عام 243 هجري، الذي وضعَ فصلًا خاصًّا بها، هو أشبه ما يكون برسالةٍ تحدَّث فيها عن أصل حبِّ العبد للربِّ، معتبرًا هذا الحبَّ مِنَّةً إلهية أودعها الله بذرةً في قلوب محبيه، كما تحدَّث فيها عن اتحاد المحبّ بالمحبوب، وما يؤدي إليه هذا الاتحادُ من كشفٍ لأسرار الوجود.
ولكنْ، ومنذ أواسط هذا القرن، بدأ الكلام عن فناء المحب بالمحبوب وبقائه فيه، وهو الموضوع الذي أولاه عنايتَهُ الخاصَّة أبو سعيد الخراز الذي توفي عام 286 هجري، والذي قيل «إنه أول من تكلَّمَ عن الفناء والبقاء».
ويبرز هذا الفناءُ في أول أمره فناءً عن الحواس في أثناء مشاهدة الحق. بمعنى أنَّ الصوفيّ الذي يكون في حالة تأمل يفقد في أثناء تأمله الإحساس بكل ما يحيط به من محسوسات، وذلك نتيجة استغراقه في هذا التأمل. ومن هنا قال السراج في تعريفه: «وهو ذهاب القلب عن حسِّ المحسوسات بمشاهدة ما شاهَدَ، ثم يذهبُ عن ذهابه، والذهابُ عن الذهاب إلى ما لا نهاية له».
وهذا الفناء عن الحواس لم يلبث أن تطور عند الصوفية إلى حالةٍ أخرى، وهي الحالة التي يفقد فيها الصوفيُّ وعيَهُ فقدانًا تامًّا، ويستهلك وجوده في وجود الحق، كما عبَّر عن ذلك القشيري عندما قال: «بالاستهلاك في وجود الحق» وهو يقصد فناء الصوفيّ عن فكره وإرادته عن طريق التأمّل في وجود الحق، واستهلاكه في ذلك استهلاكًا لا وَعْيَ فيه، أي ما يسميه الصوفية «الفناء المطلق».
على أن لهذا «الفناء المطلق» شروطًا قاسية من شأنها إنْ تحققت، أن تقطعَ الفانيَ عن كل شيءٍ سوى الله، فيتّحد به ويصيرا معًا شيئًا واحدًا، فيصحُّ أن يدّعي بعدَهُ أن وجوده قد احتوى كل وجود، وأنه اتحد بكل شيء وأصبحَ والوجودَ كلَّه شيئًا واحدًا، وبهذا يستوي عنده كل شيء في الوجود.
وهذا الشبلي ـــ أحد كبار الصوفية ـــ يبدأ تجربة اتحاده بأن يرى السويَّةَ في كل شيء: فاللّاوراء هو الوراء، واللانهاية هي النهاية، وكل شيء، مهما كان صغيرًا أو كبيرًا هو جزء من اللانهاية (وبما أنه هو اللانهاية، فكل شيء منه). ويفصح عما يعني حين يرى «أن كلَّ شيء هو الله، أي إن الله هو الكلُّ في الكلِّ»، وفي هذا نجدُ أن الفناء في ذات الله هو الذي يشكل وحدة الوجود بشكل واضح. وقد لُخِّصت صفات الفناء الصوفي في نقاط أربع:
1 ـــ تعطُّل الحياة الشعورية ـــ أي حالة الوعي العادية ـــ تعطُّلًا يترتّب عليه فقدانُ الشعور بالموجودات والنفس أيضًا.
2 ـــ عدم الدوام، فإن الفناء قد لا يدوم أكثر من ساعتين.
3 ـــ في خلال هذه المدة يتم نوع من الاتصال الإدراكي بموضوع التأمل في صورة لحظات خاطفة سريعة يعبَّر عنه «بالكشف».
4 ـــ الشعور ـــ في بعض الأحيان، وعند بعض الصوفية ـــ بالاتِّحاد مع موضوع التأمل. وقد يتسع الشعور بالوحدة فيشمل المتأمل وموضوع التأمل والوجود بعامة.
والواقع أن فكرة «فناء المطلق» الذي يؤدي إلى «وحدة الوجود» قد تسرَّبت إلى الصوفية من تعاليم هندية، بل هي عقيدة من عقائد البراهمة التي تقوم على أُلوهية براهما، وقد ظهرت البراهمانيّة في الكتب الهندية التي دوَّنها كُهَّان هذه العقيدة منذ عصور قديمة، ثم غمرَها الزمن بعض الشيء إلى أن قام بعض الكهَّان المجدِّدين، بتوضيحها وتفسيرها وفق التعاليم القديمة، ومن ثَمَّ تولوا نشرها بِحُلَّةٍ جديدة تجعلها أقرب إلى الفهم. وأبرز أولئك المجددين من الكهان الفلاسفة، كان الكاهن المتصوف «شنكارا» الذي استطاع أن يفسر البراهمانيّة وأن يعيد إليها المكانة التي فقدتها مع ظهور البوذية في الهند. والمعاصرون الذين كتبوا عن «شنكارا» يرون أنه عاش في القرن الثامن الميلادي، وهم يلخصون آراءه لدين «براهما» على النحو التالي:
«1 ـــ ليس المنطق هو الذي يُعْوِزُنا بل هي البصيرة النافذة، وبهذه البصيرة نَعْرف ما هو أبديٌّ دائمٌ وما هو زمنيٌّ عابر، وبها نستخرج الكل من الجزء.
«2 ـــ الإقبال على البحث والتفكير عن طواعية واختيار طلبًا للمعرفة.
«3 ـــ الصبر والهدوء والترفع للتحرر من الجهل مع القضاء على الحاسة الفردية لبلوغ «الاندماج السعيد في براهما» الذي هو المعرفة الكاملة والاتحاد اللانهائيّ.
«4 ـــ الله هو الوجود، والكون الحقيقيّ كلّه والله شيء واحد».
وإن «براهما» الذي يمثَّل الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في عقيدة البراهمانيّة يتَّصف بسائر الصفات، ويوجد في كل الأشياء، لكنه يسمو على الشَّبه، ويترفَّعُ عن الفوارق. وكلُّ أوجه الاختلاف بين الأشياء والخصائص والصفات، وكل الشهوات والغايات، فإنَّ «براهما» هو سببُها ومسبِّبُها معًا، و«براهما» هو جوهر العالم الخفيّ الذي لا تحدُّهُ قيودُ الزمان.
وهكذا نجدُ في البراهمانيّة فكرة الاندماج السعيد في «براهما» وهو ما يعبّر عنه الصوفية «بالفناء المطلق» الذي به تتحقق وحدة الوجود. وهذه الفكرة التي ترجع بأصلها إلى عقائد الهند القديمة، عرفها الصوفية من أولئك الذين أسلموا في بلاد فارس، وبلاد السند، وبلاد ما بين النهرين، بصورة عامة، وذلك إثر الفتوحات الإسلامية السريعة. أما دخولها العالم الإسلامي وظهورها فيه فقد كان في القرن الثالث الهجري عندما اعتنقَها البسطامي والحلَّاج والجنيد، إلى أن تركّزت بشكل عقيدة صوفية ثابتة في أيدي ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما.
ومثل فكرة وحدة الوجود تسرّبت أيضًا في أواسط القرن الثالث الهجري إلى العالم الإسلامي عقيدة «الحلول» فاعتنقَها أبو يزيد البسطامي، وأبو حمزة الخراساني، والحسين بن منصور الحلَّاج وغيرهم.
ويشرح الحلَّاج عقيدة الحلول هذه، فيقول: «من هذَّب في الطاعة جسمه، وملك نفسه، ارتقي به إلى مقام المقربين، فإذا لم يبقَ فيه من البشرية نصيبٌ، حلَّ فيه روحُ الله الذي كان منه عيسى بن مريم، وإنَّ فِعْلَهُ حينئذٍ فعلُ الله»!
ويشرح إخوان الصفاء في رسائلهم فكرة الحلول، في معرض كلامهم عن صفات الله تعالى، فيقولون: «هو الفائض منه وجود الموجودات، وهو المُظهر صورَ الكائنات في الهيولي، المبدعُ جميعَ الكيفيّات بلا زمان ولا مكان، بل قال: كُنْ فكانَ، وهو موجود في كل شيء من غير المخالطة، ومع كل شيء من غير الممازجةِ، كوجود الواحد في كل عدد».
ومما لا ريبَ فيه أن «وحدة الوجود» أو «الحلول» هما من النزعات التي يختلط فيها الوهمُ على أصحابها، حتى يَظنّوا أنَّ لهم القدرة على الوصول ـــ في حالات معيّنة كمثل حالة الفناء المطلق ـــ إلى العزّة الإلهية؛ وأن يصيروا و«الذات الحق» ذاتًا واحدة، أو أنَّ الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يختارهم من بين سائر الكائنات حتى يحِلَّ فيهم عن طريق الفيض.
ولقد عبّر عن هذه النزعة الصوفية، المغايرةِ للإسلام، والمشوهةِ للأديان، المستشرق جولد تسيهر في كتابه (الشريعة والعقيدة في الإسلام) بقوله: «ولقد ارتفعت بعض الأصوات من المتصوفة تنادي بأنَّ العلم بوحدانية الله يشتمل على عنصر من عناصر الاتحاد والإخاء بين البشر، في حين أن الشرائع والأديان تسعى لإثارة التفرقة والانقسام في ما بينهم».
وفي تقديرنا أنَّ كل مستشرق بحث في التصوّف والصوفية إنما كانت غايتُه مدح هذا المعتقد وأهلَهُ، لأنه يرمي من وراء ذلك إلى تقريب التصوف من أفهام الناس وتحبيبه إليهم كي تبرز في الإسلام أفكارٌ متناقضة فتشوّهه وتُبعدهُ من حقيقته. لكنَّ جولد تسيهر هنا، من حيث يدري أو لا يدري، وفي معرض تفريقه بين معتقد الصوفية ومعتقدات الأديان السماوية، جاءَ يفضحُ الصوفية، وكأنَّ الله سبحانه وتعالى أرادَ كشفَهم على لسانه حتى يحصحص الحقُّ ويزهقَ الباطل.
هذه المعتقدات لكونها غريبة عن الإسلام، كانت وراء كثيرٍ من أحوال الصوفية، وهي الأحوال التي يطَّلعون في أثنائها على عالَمٍ يختلف تمامًا عن عالَمِنا الحسّي: عالَمٍ ـــ كما يتخيلون ـــ كلُّه جمال وجلال ونورانية، لا تحدُّه حدود ولا تقيِّده قيود. فهم يزعمون أنهم يشهدون في هذه الحالة جلال الله سبحانه، ويشعرون بالصلة الوصيلة بينهم وبينه، صلة تبلغ بهم مرتبة «الاتحاد» به، بل يشعرون أن الحق سبحانه في وحدةٍ مع الأشياء والموجودات، وأن الحق والخلق وجهات لحقيقة واحدة، فيهتف أحدهم «أنا الحق». ومثل هذه الكلمات الجريئة هي ما عبَّر عنه الصوفية باسم «الشطحات»، والتي كان لأبي يزيد ـــ كما سنرى ـــ الجرأة على إذاعتها والجهر بها. وقد قيل عنه إنه كان ذا تأثير كبير على تطوُّر التصوف نحو مذهب وحدة الوجود.
ومن تلك الأحوال، التي يباشرها الصوفية في أثناء فنائهم في الله ما يسمّونه حالة الكشف. وهي حالةٌ من المعرفة، أو هي الطريق الصحيح إلى المعرفة، وهم لذلك يعوِّلون تعويلًا كبيرًا على القلب لمعرفة الله تعالى، في حين أنهم يطرحون في هذا المضمار العقل بمقدماته المنطقية الخالية من الذوق الذي من شأنه عدم الخضوعِ للصّيَغ المنطقية. فهم يعرفون الله لأن الله عرَّفهم ذاتَه هبةً منهُ وتكرُّمًا، لا لأنهم فكَّروا وقدَّموا المقدِّمات ورتَّبوا عليها نتائجها. فهم يعرفون الله بالله، أما غيرهم فيحاول معرفة الله بعقله.
وقد تكون حيرتهم في الله معرفة، في حين لا يعترف العقل بأن الحيرة معرفة. يقول ذو النون المصري: «عرفت ربِّي بربِّي، لولا ربِّي ما عرفت ربِّي». ويقول: «أعرَفُ الناسِ بالله تعالى أشدُّهم تحيُّرًا فيه». ويقول: «معاشرةُ العارف كمعاشرة الله تعالى، يحتملك ويحلم عنك، تخلُّقًا بأخلاق الله عزَّ وجلّ». والمعرفة بالله عند صوفية القرن الثالث جعلتهم يتكلمون في ذاته وصفاته وأسمائه. ولهم في ذلك كلام أشبهُ ما يكون بتقسيمات «المتكلِّمين». فقد عرّفوا التوحيد، وخاضوا في الأسماء، والصفات، والنبوَّة والرسالة، والولاية والعرش، والجنة والنار، كما تكلَّموا في الإرادة، والقدرة وغير ذلك من المسائل الكلامية.
ولأبي يزيد البسطامي كلام طويل في الذات والاسم والصفة، مما يدل على أن هذا القرن شهد البذور الأولى لكل النزعات والآراء الصوفية التي جدّت في ما بعد.
وهكذا فإنَّ النِّصف الثاني من القرن الثالث كان خصبًا بالنسبة إلى أفكار الصوفية، إذ تبلورت فيه كل تلك المذاهب والآراء، في حين أن النصف الأول ظلّ يسبح في «وهج الحب الإلهي».
وَرَدَّ جماعةٌ على أبي يزيد البسطامي فقالوا: «يا أبا يزيد: كنّا نسمع كلام ذي النون وأبي سليمان، وننتفع به، ومنذ سمعنا كلامك تُبَشِّرُنا تركنا كلامهما». فقال: «نعم القوم تكلَّموا من بحر صفاء الأحوال، وأنا أتكلم من بحر صفاء المنَّة، فتكلَّموا ممزوجًا، وأتكلم صِرْفًا، كم هو الفارق بعيد بين من يقول: أنا وأنت، ومن يقول: أنت، أنت!».
ولم يزل البسطامي يتكلم من بحر صفاء المنَّة ـــ كما قال ـــ حتى جاء الجنيد فأرسَى القواعد لمذاهب التصوف وشرحها، وتكلم فيها كلام المتمكِّن، ومهَّدها تمْهيدًا ميسورًا لتلاميذه ومريديه، فقد «تطورت المذاهب الصوفية ونظمت على يدي الجنيد» الذي توفي في أواخر القرن، لذلك استحق أن يطلق عليه لقب «سيد الطائفة».
على أنه وإن كانت المذاهب الصوفية في القرن الثالث تدين للجنيد بالتنظيم فإنها تدين للحلَّاج بما هو أكثر من التنظيم، إذ استطاعَ بشخصيَّتِهِ القويّة، ومنطقِهِ الجريءِ وكلماتِهِ الصريحةِ ـــ كما سنرى ـــ أن يوسِّع من هذه المذاهب، وأن يعدد من مسائلها، وأن يربط بين هذه المسائل ربطًا واضحًا بدأ به طورًا جديدًا في التصوف، وهو طور سمَّاه بعضهم «فلسفة التصوف».
وهكذا انتشرت تلك الآراء في أوساط الصوفية انتشارًا واسعًا، فاعتنقها أبو يزيد البسطامي، وراح يسلك في سبيلها مختلف طرائق الرياضات والمجاهدات، حتى أفنى عمره في قهر نفسه وتعذيبها. ويروي القُشيري في ترجمته للبسطامي، أنَّ أهون ما أخذ به نفسه من الرياضات والمجاهدات كان امتناعُهُ عن الماء عامًا كاملًا. وهذا الكلام ـــ إذا صحَّ ـــ فإنما يعني أن البسطامي قد أخذ على نفسه العهد بالابتعاد عن الاغتسال والنظافة طوال سنة بكاملها لا عن تناول الماء، إذ إنّ الإنسان لا يستطيع العيش بلا شرب ماء طوال هذه المدة، كما يؤكد العلم. وحتى ابتعاد أبي يزيد عن الاغتسال فإنه غير مشفوع له لأنه يجافي طبيعة الإسلام، وما فريضة الوضوء التي تتقدَّمُ الصلاةَ خمسَ مرات في اليوم على الأقل، إلَّا مما شَرَّعَهُ الدينُ القويمُ في حضّه على الطهارة، فأين، إذن، البسطامي ورياضاته الصوفية من طبيعة إسلامنا العظيم؟! والحقُّ، أنَّ تلك الرياضات نوعٌ من الهوس طغى على فؤاد إنسانٍ فجعله يتصوف، لكنَّ تصوُّفه كان كمثل تصرّف مخبولٍ انطفأت أنوار الحقيقة عنده، فقادَهُ عمى البصيرة إلى مجاهدة النفس وتعذيب البدن. وهذا كله على خلاف ما يتطلبه الإسلام من الإنسان في تعامله مع الدِّين والدنيا على سواء [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] (البقرة: 185).
ونحن لا نتجنَّى على الرجل، فها هو يُمعن في مجاهداته حتى تسْلُب منه العقلَ، فيعبد نفسه مدَّعيًا الألوهية، فيقول: «أنا هو، وهو أنا، وهو هو»، ويقول: «سبحاني ما أعظم شأني»، ومثل هذه الكلمات الجريئة ـــ المتأتِّية عن الاتحاد أو عن حالة الجمع ـــ أطلق عليها الصوفية اسم «الشطحات». والشطح كما يقول الجرجاني كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى كما نجدُ في قول البسطامي (سبحاني)، وقولِ الحلَّاج (أنا الحق،. فقد قيل للجنيد: إن أبا يزيد (البسطامي) يسرف في الكلام، فقال: وما بلغكُم من إسرافه في كلامه؟ قالوا: سمعناه يقول: «سبحاني، سبحاني أنا ربِّي الأعلى» فقال الجنيد: «إن الرجل مستهلكٌ في شهود الإجلال، فنطق بما استهلكه لذهوله عن رؤيته إيَّاه، فلم يشهد إلا الحق تعالى فَنَعَتَهُ فَنَطَقَ به». وليست هي المرة الوحيدة التي دافع فيها الجنيد عن البسطامي، فقد قيل إنَّ أبا يزيد كان أول من أدخل بسلوكِهِ الرياضاتِ العنيفة «الفناءَ الهنديَّ» في التصوف، فلمَّا وجد الجنيدُ أن الناس يحاربونه، أخذ يُفلسف فكرة الفناء، ويلتمس لها من طرائق التأويل ما يربطها بالدين، لذلك سمَّى الفناءَ «الميثاق» ووصفه بأنه طريقُ الوصول إلى الله، وسبيلُ القرب منه، لكن ذلك بقِي بالقدَر الذي عَمِيَ على بعض الناس فقط، وسمح لهم بقبول الفكرة، في حين أن حقيقةَ الفكرة لم تخفَ على الغالبية منهم.
وكما اعتنقَ البسطامي فكرةَ «وحدة الوجود» في مثل تلك الشطحات التي رأينا، فقد أخذ أيضًا بالحلول، وها هو كما يتبيّن من كتاب «الإنسان الكامل» يشرح كيفية حلول الله فيه فيقول: «رَفَعَنِي (أي الله سبحانَه وتعالى) مرةً فأقامني بين يديه، فقال لي: يا أبا يزيد! إن خَلْقي يُحبّون أن يروك. قلت: يا عزيزي وأنا أحب أن يروني. فقال: يا أبا يزيد، إني أريد أن أُريكَهُمْ، فقلتُ: يا عزيزي إن كانوا يحبون أن يَروني وأنت تُريدُ ذلك، وأنا لا أَقدرُ على مخالفتك، فَزَيِّني بوحدانيتك، وأَلبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديَّتك حتى إذا رآني خلقُك قالوا: رأيناك، فيكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك، ففعلَ بي ذلك»!!! وقد كان ابن سالم في البصرة، كما يقول السراج «يكفَّر البسطاميَّ لقوله: سبحاني، سبحاني».
وتختلط فكرة الحلول عند البسطامي بالعشق الإلهي، فيحار أيهما يريد، وأيهما يرغب في أن تستقرَّ حالُه عليها. ويبدو هذا الاختلاط في قوله: «خَرَجْتُ من بايا زيديَّتي كما تخرج الحيةُ من جلدتها، ونظرت فإذا العاشقُ والمعشوقُ والعشق واحدٌ، لأن الكل واحد في عالم التوحيد». ومن قبيل ذلك، ما ورد أيضًا في «تذكرة الأولياء» من أن البسطامي كان عندما يتكلم عن الحق، يمتص شفتيه ويقول: «أنا الشارب والشراب والساقي». وللبسطامي في الحب الإلهي شطحات واسعة وإشارات مجملة كثيرة. فمن ذلك شعورُه بالاتحاد بين المحب والمحبوب كما في قوله:
بُـــعْدُكَ مِنّي هـــو قُـربــاكَ أَخَذْتَني عَنْــكَ بِمَعْنــاكَ
لا تَفْرُقُ الأوصافُ ما بَيْنَنا إِنْ قيل لي: يا! كنتُ إيّاكَ
فَسبحانَ مَن يُمهل ولا يُهمل، يصبر على العاصي حتى كأنه لا ذنْبَ له!!!
والبسطامي يصف الحب بأنه شراب إلهيّ، فقد كتب إليه يحيى بن معاذ قائلًا:
«سكرتُ من كثرة ما شربتُ من كأس المحبة»
فكتب إليه أبو يزيد يقول: «غيرك شرب بحار السماوات والأرض وما روي بعد، لسانُه خارجٌ على صدره وهو يصيح: العطش، العطش... وأنشد في ذلك:
عجبت لمن يقولُ ذكرتُ ربي وهل أنسى فأذكُرُ ما نَسيتُ
شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ فما نَفِدَ الشرابُ وما رَوِيــتُ
ويعتقد البسطامي بأن الله ـــ سبحانه ـــ قد اختار لمحبته طائفة من خلقه أحبَّهم قبل أن يُحبّوه، فقال في ذلك: «غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء: توهمتُ أني أذكره، وأعرفه، وأحبه، وأطلبه... فلما انتهيت رأيت: ذكرُهُ سَبَقَ ذكري، ومعرفتُه سبقتْ معرفتي، ومحبتُه أقدمُ من محبتي، وطلبُه لي أولًا حتى طلبته»، ادّعاء باطل، وبهتان فاضح، فمتى كان الله تعالى غيرَ غنيٍّ بذاته وبصفاته عن الخلائق والعالمين، ومتى كان سبحانه يفتقر إلى غيره؟!!!
ثم يذهب البسطامي في ادّعاءاته حتى يظنَّ أن «الله (سبحانه) اطّلع على قلوب أوليائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صِرفًا فشغلهم في العبادة» فأين نجد مثل هذا التصوّر والوهم إلَّا عند هذا الصوفيّ المتعنّت الذي يفتري على الله، سبحانه وتعالى، ويتقوّل بما ليس له فيه حق؟ وأين هو بافترائه هذا من قول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56).
ويسخرُ البسطاميُّ ـــ بعد ادّعائه بمعرفةِ ما أرادَهُ الله تعالى من أوليائه ـــ من علماء الشريعة، وتقوده هذه السخريةُ إلى حدِّ التّعَالي عليهم، فيتصورهم مجموعةً من الناس البسطاء، الذين يدّعون العلم والتعلّم، فيخاطبهم قائلًا: «أخذتم علمكم ميتًا عن ميّت وأخذنا علمنا عن الحيّ الذي لا يموت» وقصده أن علماء الشريعة يأخذون علمهم عن النبيين والمرسلين وهؤلاء قد ماتوا جميعًا، في حين أن الصوفية لا يقبلون بما حَمَلَهُ المبعوثون من الله عزَّ وجلَّ إلى أهل الأرض، بل يتجاوزونَهُ حتى يتلقوا علمهم عن الله تعالى مباشرة. ولِمَ؟ لأنهم يزعمون أنهم وحدهم أصحاب العلم اللّدني، وأولياءُ الله المخلصون، الذين خصَّهم الله تعالى بهذه الميزة على كل من عداهم من الخلق!!!
ثم مَن هم علماء الشريعة عند البسطامي، وما قيمة علمهم المحدود؟ وهو الذي يشطح به الخيالُ حتى يجعله يتوهَّمُ بأن علم الصوفية لا حُدود له، فهو فوق كل العلوم، بل فوق علم النبيين أنفسهم، فيقول: «لقد خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله».
إذن، الصوفية فوق الأنبياء والمرسلين!!! أليس في هذا كذبٌ فاضح؟ وصدَقَ الله العظيمُ، عندما يخاطبُ رسولَهُ الكريمَ، صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله تعالى: [فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ] (الأنعام: 33). إنَّ البسطامي يدّعي لنفسه ولجماعته الصوفية علمًا فوق علم الأنبياء وتكاليف أبعدَ من تكاليفهم، لأن للأنبياء، على حَد زعمِهِ، رسالات محدودة، تقف عند ساحل البحر الصوفيّ ولا تتعدّاه، في حين أن الصوفية يخوضون غمار هذا البحر بما لهم من «ميزات خارقة»، و«مقامات عالية»، وما إلى ذلك من مهاترات، وترهات، وسخافات!!!
فما هذا الكفر الذي سمعه المسلمون في حينه، والذي ما زالوا يتناقلونه حتى اليوم؟! إن المسلمين ومِنْ ورائهم حكامُهُم الذين تغاضَوْا عن ذلك، هم المسؤولون عن جريرة ما ارتكب البسطامي وأمثالُه، لقد حاسَبَ أولئك الحكامُ المتعدّي على سلطانهم ونسوا مَنْ تطاولَ على سلطانِ الله تعالى، وسلطانِ رسلِهِ وأنبيائه. [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى الله] (الزمر: 32)، [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (هود: 18)؛ [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ] (الزمر: 60)... ألا إنَّ لأبي يزيد وأمثاله موقفًا، أيَّ موقفٍ، هناك!!!
لأنَّ أيَّ تصوّرٍ مغالطٍ لحقيقة النبيين والمرسلين ليس إلَّا حماقة وجهلًا
ولأنَّ أيَّ ادعاء بعلم يعلو على علم هؤلاء ـــ عليهم جميعًا الصلاة والسلام ـــ محضُ كذبٍ وافتراء
فإنْ قالَ الصوفيةُ بأنَّ علمَهم فوقَ علم الذين بعَثَهُمُ الله بالحق، وأوكل إليهم حمل رسالاته، فمَعْنى ذلك أنَّ أولئك الصوفية لا يحفلون بكتاب الله وسنّة رسوله، وإلَّا كيف أمكن لأحد شيوخهم القدامى، المسمّى بالبسطامي، أنْ يدّعيَ بأنهم يتلقون علمهم من الله مباشرةً، أي خارج نطاق كتاب الله المبين الذي أنزله الله تعالى على قلب رسوله محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وختَمَ به رسالاته إلى الأرض؟!
قد يأخذنا العجب من هكذا حماقات، لكنَّ الدهشة الأَدْهى تكون عندما نَعلَمُ أن البسطاميَّ، وهو يدعي أنه على دينِ محمدٍ، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي أُنزلَ عليه القرآن الكريم من ربه، يخالفُ هذا الدّينَ عندما يدّعي لنفسه شفاعة فوق شفاعة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ومعراجًا كمعراجه، فيقول في شفاعته تلك المتوهّمَة الخادعة: «محمد يشفع في أمته وأنا أشفع في جميع الخلائق»، أما عن معراجه فلا يحدثنا شيئًا، وكان عليه حتى تكمل معه صورة الافتراء أن يعلن بأنَّ «سورة المعراج» في القرآن الكريم تعنيه هو، وليس سيِّدَ المرسلين محمَّدَ بن عبد الله، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام!!!
وإنَّ جوابنا الأوحد على كل هذه الادعاءات والضلالات قولُ الله تعالى: [سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ] (القمر: 26). ويتجاوز البسطاميُّ علماءَ الشريعةِ إلى النبيين والمرسلين، ثم يتجاوزُ هؤلاءِ جميعًا حتى يصلَ إلى الله تعالى، وتذهبُ به تخيلاتُه الصوفيةُ حتى يتعدَّى على حرماته القدسية، فيدّعي لنفسه بطشًا أشدَّ من بطش الله ـــ جلَّ وعلا ـــ وذلك حين سمع قارئًا يقرأ القرآن، ويتلو الآية الكريمة: [إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ] (البروج: 12)، فيقول: «إنَّ بطشي أشدُّ من بطشه»!!!
لو أدركَ البسطاميُّ وعَقَلَ، لَعَرَفَ قصة الذبابة التي خرقت أُذُنَ «النمرود» الطاغية، صاحب الغطرسة والبطش، واضْطُرَّتْ حرَّاسهُ، بتوسُّلٍ منه، أن ينهالوا بالضرب على رأسه بحذاء علَّ طنينها يَخِفُّ، فيرتاح قليلًا، لكنَّ ذلك لَم يُجْدِهِ نفعًا، وقتَله طنينُ الذبابة، لو تذكر البسطامي في تلك اللحظة التي نطق بها كفرًا، وجَعًا كان قد ألمَّ به لعرَف مقدَار وهنِهِ، وقلة حيلته في عالم الدعةِ، وليس في عالم البطش.
ويتمادى البسطاميُّ في الغيّ والضلال، حتى تحلَّ به أطوارٌ غريبةٌ من التصوّر تقرُبُ من فقدان الوعي، فإنْ هو رأى نارًا، استذكر أنَّ في الآخرة نارًا، ولكن بغير مدلولها القرآني، ومعناها العقابيّ لكل كافر، مخادع، ظالم، متكبّر، مدعٍ، فلنستمع إليه يقول: «ما النار؟ اجْعَلْني من أهلها وإلّا أطفأتُها، ما الجنةُ إلَّا لعب صبيان، هَبْ هؤلاء اليهود، ما هؤلاء حتى تعذبهم؟» ويقول أيضًا: «وَدَدْتُ أنْ قد قامتِ القيامة حتى أنصُبَ خيمتي على جهنم» فلما سأله أحدهم: ولم ذلك يا أبا يزيد؟ أجاب: «لأني أعلم أن جهنَّم إذا رأتني تخمدُ وأكون رحمةً للخلق».
ما بال هذا البسطامي ينسى ما قاله الله تعالى عن جهنم في محكم كتابه الكريم: [إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ] (المرسلات: 32) فكيف يتوقّى هذا القزم شرها؟ ألم يعلم أن جهنم سوف تكون له ولأمثاله [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا] (النساء: 56). أم كيف يثبت أمامها عند رؤيتها وهي [إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا] (الفرقان: 12)...
هذه بعض ملامح جهنّم التي يتمنَّى البسطامي أن تقومَ القيامةُ حتى ينصب خيمته عليها ليطفئ نارها المتلظيةِ تغيُّظًا وزفيرًا؛ هل كان يتحمل البسطامي أن يضع إصبعَهُ في نارٍ أوقدها؟ قطعًا لا! إذن، فكيف به على احتمال نار جهنم؟! وما تلك القدرة التي يحوز حتى يكون في مقدوره أن يطفئ جهنَّم ـــ التي لا يعلم مدى اتساعها إلَّا الله ـــ بخيمة حقيرة، محدودةٍ، لا تقوى على حرّ الشمس ولا تصمد أمام الريح؟! ثم هو يهزأ بالجنّة، ويُعدّها لعِبَ صبيان، في حين أنَّ الله سبحانه وتعالى، وصفَ جنّة خلدِهِ بأن عرضها السماوات والأرض، يتمنّاها كل مؤمنٍ صادق، وعدٌ من الله حق، لقوله تعالى: [جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا] (الفرقان: 15). وقوله تعالى: [مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ] (الرعد: 35).
فهلّا كنتَ قرأت القرآن يا أبا يزيد حتى تعرف ما الجنة، وما النارُ؟
أما كان أحسنَ عُقبى لك أن تكون مِنَ المتقين؟ فتتَّقي الله تعالى في نفسك وتبتعد عن ضلالك؟ ولكن كيف يكون من المتّقين يا أبا يزيد، من سوّلت له نفسه ادعاءً أنه بات لا يرى مع نفسه، في كل الوجود، إِلَّا ذاتَهُ، وذلك عندما يقول، وهو قولك: «حججتُ مرةً فرأيت البيت (أي الكعبة). وحججتُ ثانيةً فرأيت صاحبَ البيت (أي الله سبحانه وتعالى). وحججت الثالثة فلم أرَ البيتَ ولا صاحب البيت» أي إنّ الكعبة الشريفة اتّحدت به، واتَّحدَ به الله عزَّ وعلا، فلم يَعُدْ يرى ـــ في وحدة الوجود ـــ إلَّا نفسه، وهذا لعمري منتهى الإنكار، والبهتان، والضلال!!!
ثم يُوغِلُ البسطامي في حماقاتِه وترهاته إلى أبعد من ذلك بكثير، عندما تجده يحكي عن نفسه من أنه زهد في الدنيا وما فيها، ثم زهد في الآخرة وما فيها، ولم يبقَ أمامَهُ سوى الله (تعالى)، فهمّتْ نفسه لولا أن سمِعَ هاتفًا يقول له: يا أبا يزيد، إنك لا تقوى معنا!!!
تأمَّلْ عبدٌ مسكين، تائهٌ، ضعيف يعيشُ على تعذيب نفسه، وقد لا يقوى على ردّ بعوضةٍ تقرصُ جسمَهُ، هذا العبدُ يأخذُهُ الغرور، ويتلبَّسُهُ الشيطان، حتى يكونَ له ذلك التخيّل الذي يوحي لنفسه الشريرة العاصية بما تكادُ مَعَهُ أن تَهُمَّ بالله العليّ، العظيم، المقتدر، الجبّار؟!
نستغفر الله ونعوذ به من كل شيطانٍ رجيمٍ، ومن كل مارق لعين!
لقد كانت لإبليس معصيةٌ عندما عَدَّ خلقَه من نارٍ أفضلُ من خلقِ آدم من طين، لكنَّهُ عندما ارتكب تلك المعصية ظلَّ على اتّزانه في معرفة حدودهِ فلم يتخطَّها، لذلك دَعَا ربَّهُ ملهوفًا، وقال: «أُنْظِرني إلى يوم يُبعثون»، وهذا طلبٌ فيه رجاءٌ بأن يَدَعَهُ الله تعالى حيًّا إلى يوم الدين، حتى يغويَ من الناس أصحابَ الإرادة الضعيفة، الذين تكون في نفوسهم قابليّة لذلك، إلَّا عبادَ الله المخلصين، لأنه لا يقدر عليهم...
هذا ما كانت عليه حالُ إبليس في المعصية التي ارتكبها، أما البسطامي، وبما ادَّعى، فهو أكبرُ من عاصٍ، بل فاقَ إبليس كثيرًا في معصيته. ذلك أن عصيان إبليس كان بعدم السجود لآدم، وبإظهار المجادلة لله تعالى، في حين أنَّ البسطاميَّ خرقَ كلَّ النواميس ليتطاوَلَ على العزّة الإلهية، وكان من قبلِ هذا التطاول قد استخفَّ بالمرسلين، بعد أن هزأ من رجال الدين. فهل يمكن أن نسمّي هذا معصيةً، أم كفرًا، أم زندقة، أم نفاقًا؟ أم أنه لا يمكن أن نطلق على ذلك التطاول أيّ تسمية؟!
ويذهب البسطاميُّ في الشطح حتى لا يعود أمامَهُ إلَّا أن يدّعي الألوهية، فيدّعيها بكل صفاقة ويقول: «سبحاني ما أعظم شأني»!!!
وتظهر حقيقة البسطامي: جنونًا وخبلًا يلفّان كل إدراك لديه. لكنَّ إخوانه الصوفية، وفي مراوغةٍ فاضحة، يحاولون أن يخففوا من غلواء ادعاء صاحبهم، فيقولون: إنه صاحب شطحات!!!
فأي شطحاتٍ هذه؟
هل التعدّي على قدسية الله تعالى، وإفراغُ الألوهية من كل معانيها، شطحات؟ ثم ما هذا التعبيرُ الغريبُ عن ديننا؟ إنه اختراعٌ من الصوفية، ليس دفاعًا عن البسطامي وكل صاحب «شطحات» فحسب، بل دفاعٌ عن وجودهم بأسره حتى لا يهبَّ الناسُ للقضاء عليهم إن أدركوا حقيقة ما يرمون إليه، لذلك كان منهم ذلك الاختراع الذي انطلى على الناس باسم الشطحات فظلوا منساقين وراء ترهاتهم وأباطيلهم.
إنَّ البسطامي ـــ وحاله كما نرى ـــ لا يعدو كونه أحد أولئك الذين قال الله تعالى فيهم، وهو يخاطب رسولَهُ الكريم: [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] (الفرقان: 43) وهو خطاب من الباري عزَّ وجلّ ليواسي به قلب رسوله الحبيب، صلى الله عليه وآله وسلم، بعدما عانى كثيرًا من كيد المشركين، ومن جموح أهوائهم، واستهزائهم بما يدعو إليه. لأنهم لم تنفعهم دعوة، ولم تقنعهم حجة، بل ظلوا يكابرون وعليه يتطاولون، وبه يمكرون، وكان السبب في هذا الموقف للمشركين، تلك العلّة الكامنة في نفوسهم التي تأبى الإيمانَ، وتريد السيرَ وراء الأهواء، حتى باتت أهواؤهم بمنزلة الآلهة التي يعبدون، ومَن اتّخذَ هواه إلهًا لا يمكن أن يعبد الله تعالى إلهًا واحدًا أحدًا لا يشرك به شيئًا، ما دام ذلك الهوى قد استحكم في نفسه وأعماها عن الهداية والحق.
وإننا لنجد في واقع حياة الإنسان، أنَّ النفس التي يَغلبُ عليها الهوى، هي النفس التي تحلَّلَتْ من كل مكرمةٍ، وجعلَها هواها تنفلتُ من كل المعايير والمقاييس، وتتحلَّلُ من كل الموازين والقواعد، فلا تعود تخضع إلَّا لرغباتها، ولا تتحكَّمُ بها إلَّا شهواتُها، ولا تتعبَّدُ إلَّا لذاتها، حتى يصبح بالتالي هواها الطاغي معبودها الذي تتّخذه إلهًا تطيعه وتأتمرُ بأوامره المضلّلة الذميمة. وهذا ما أَبَانَهُ القرآنُ الكريم بقوله تعالى: [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)‏ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] (الفرقان: 43 ـــ 44).
والبسطامي على حقيقته، ليس أكثَرَ من ذاك الصوفيّ الذي اتخذ إلههُ هواهُ يعبده، كُفْرًا وإلحادًا، بعدما رأينا من تطاوله: على العزّة الإلهية ـــ وهذه وحدها تكفي ـــ وعلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى النبيين والمرسلين كافة، وعلى علماء الدين، الشيء الكثير، بل كان تطاولُهُ أبعَدَ من أيِّ مدًى يمكن أن يصل إليه هوى مغرورٍ، ملحدٍ، مُمعنٍ في إلحادِهِ.
وعلى الرغم من كل ذاك الذي قال به البسطاميُّ واعتقَدَهُ، فقد فتن به بعض كبار الصوفية، واتخذه بسطاؤهم إمامًا وقدوة. لذلك راحوا يدافعون عنه ويسمّون ادّعاءاته بالشطحات والإشارات المجملة. ولقد كان الجنيد أحد مشايخ الصوفية وكبرائهم الذين تطوعوا للدفاع عن البسطاميّ، عندما راح يلتمس له المعاذير، ويؤوّلُ أقوالَهُ بما لا يتفق أبدًا مع واقعها ومفهومها، معتبرًا أنَّ تلك الأقاويل الجريئة، الوقحة، والضّالة المضلّة مجرد ادعاءاتٍ وشطحات، كما أنَّ ابن الجوزي ينقل عن الغزالي ما يُفيدُ بأنَّ أبا تُراب التخشيبي قال لأحد مريديه: «ولو رأيت أبا يزيد البسطامي مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرةً».
ما هذا النوع من الدجل المتفق عليه من أفراد تلك العصبة الدسّاسة، التي اتخذت الصوفية عقيدةً لها ومذهبًا؟! ومن البسطامي حتى تكون رؤيتُهُ تغني عن رؤية الله عزَّ وجلَّ؟!
فأولًا: إنه سبحانه وتعالى مستحيل الرؤية، فهو ليس كمثلِهِ شيءٌ مما تصوِّرُه الأوهام وتتخيّلُهُ المخيِّلات، فيكون الصوفية بقولهم ذاك، يريدون أن يزرعوا في النفوس فكرة التجسيد والصنمية والوثنية.
وثانيًا: ماذا كان في وجه البسطاميّ من الهيبة والصفاء والبهاء؟ وما النشوة التي تُحدثُها رؤيته لمن وقعت عليه عيناه؟ وما النفعُ الدنيويُّ أو الأخرويُّ الذي يجتنيه الرائي حين ينظر إلى البسطامي؟ قيل: «إن النظر إلى وجه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عبادة» وهذا حقٌّ باعتباره الرسولَ الأعظم، وخاتم النبيين، الذي حَمَلَ أسمى رسالات الله إلى عباده كافة، وهداهم إلى الصراط المستقيم. أما أن ينظر المرءُ في وجه رجل جدّف على الإسلام، فهذه دعايةٌ من الصوفية الذين قبلوا أن يكونوا الأداة لتنفيذ المؤامرة على الإسلام من أولئك الذين راموا اجتثاث العقيدة الإسلامية من القلوب، وهدفوا إلى غرس تلك الافتراءات مكانها، في محاولة يائسةٍ لبعث الإلحاد بعد أن توارى عن الديار الإسلامية.
ولعلَّ أغرب دفاع عن البسطامي ما احتوته «الرسالة القشيرية» التي يدّعي صاحبها أنّ البسطامي كان شديد التمسك بالكتاب والسنّة، وذلك عندما ينسب إليه القول: «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرقى في الهواء فلا تَغْترّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود وأداء الشرائع»!
ونحن نتساءل: ولكن هل يمكن أن يصدر هذا القول عَمَّن كان عنده ادّعاء بالألوهية، أو مِمَّن كان يُسبِّح نفسَهُ، أو ممن كان لا يتحرَّجُ عن الإعلان على الملأ قائلًا: «أنا هو، وهو أنا»؟!
هل هذا المدّعي يحتاج إلى أمرٍ أو نَهْيٍ؟ وهل تكون لديه حدود، أو يقرُّ أو يعترفُ بحدود؟ أم هل يقبلُ أن يقَعَ عليه تكليفٌ أو أن يؤدي فرائض، أو أن يعتنقَ شريعة؟!
أم أنها المغالطة التاريخية التي يرتكبها عادةً أناسٌ لا يريدون إلَّا تزوير الحقائق، فيُلبِسونَ من أجل ذلك الباطلَ ثوبَ الحق، ويخلطون الشرَّ بالخير؟!
هكذا اعتمدَ الصوفيةُ الذين هم على شاكلة البسطامي، تلك المغالطة التاريخية، عندما ادّعوا زورًا وبهتانًا أنهم من المسلمين، في حين أنهم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن الدين الإسلامي، كما نعرفه، وكما يعرفه العالمُ، من خلال كتاب الله المبين، وسنّة رسوله الكريم.
ولا نخالُ البسطاميَّ إِلَّا ذلك المجوسيّ أو الوثنيّ الذي كفر بوحدانية الله عزَّ وجلَّ، واختبأ وراءَ ثوبه الصوفيّ، مظهرًا الإسلام، لتحقيق أغراضه الدنيئة التي كان يطمع في الوصول إليها. وليس هذا الذي نقوله عنه تجنِّيًا عليه، بعدما رأينا، ما رأينا، من كفره، وزندقته، ونفاقه، وما سوَّلت له نفسُهُ من ارتكاب المعاصي التي يحاربها الإسلام، الذي ما أنزلَهُ الله تعالى إلَّا من أجل محاربتها حتى تقومَ من بعدها الحقائق المطلقة التي توصِلُ في النهاية إلى حقيقة معرفة وجود الله، وسناء عظمته.
والأصل المجوسيّ لتصوّف البسطامي يُقِرُّ به زعيمُ المستشرقين في التصوف نيكلسون، وذلك عندما أرجَعَ مذهَبَ البسطامي الصوفيّ إلى الأصل المجوسيّ، وإن كانَ قد صادَمَ فيما أقرَّ، ومن غير أن يدري، آراءه المصطنعة في قيام التصوّف ـــ كما يزعم ـــ على قواعد إسلامية.
ذلك هو أبو زيد طيفور البسطامي، صاحب الشهرة الواسعة في عالم التصوّف، الذي مزج في آرائه ما بين العشق الإلهيّ والحلول، واعتنق مذهبَ «وحدة الوجود» حتى انتهت به الحال إلى وثنيةٍ لا يعبُدُ بها إلَّا نفسَهُ التي استبدَّت بها الأهواءُ والنزعات، حتى باتت أقوالُهُ أكثر شرًّا من الوثنيات القديمة التي عَبَدَ أتباعُها أصنامًا لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عن الحق شيئًا.












المصادر
1 مراغمًا: المراغَم: المضطرب والمذهب في الأرض.
2 باعتبار أن كنيته: أبو يزيد.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢