نبذة عن حياة الكاتب
سلسلة أعلام التصوف
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : السير
عدد الصفحات : ٩٢٩
تاريخ النشر : ١٩٨٨

الحَلَّاج
سلْسِلة أعلامِ التصوف



الحَلَّاج
دراسة وتحليل

سَميْح عَاطِف الزّين


الشركة العالميّة للكتاب
دار الكتاب اللبناني ـــ مكتبة المدرَسَة




بسْم الله الرَّحمن الرَّحيم

أبو المغيْث الحسَين بنُ منصُور
المعروف بالحلَّاج
كان الحسين بن منصور من مواليد بيضاء في بلاد فارس، وقيل إنه نشأ بـــ «واسط»، أو «تُستر» من أعمال فارس، والمرجَّح أنَّ نشأته كانت بـــ «تستر» إذ كانت في هذه البلدة تلمذته لسهلِ بن عبد الله التستري.
وكان جد الحسين بن منصور مجوسيًّا، مما يجعل عهده بالمجوسية ليس بعيدًا، وربما كان لأصله هذا الأثر الكبير في إقباله على التصوف.
وما قيل عن لقبه بالحلَّاج يعود إلى أنهُ عملَ وهو في واسط عند حانوتي للقطن، وقد تركه صاحب الحانوت في عملٍ له، حتى إذا عادَ وجَدَ أن عامله الحسين بن منصور قد حلج قطنَه كلَّه، وكان بحسب الرواية أربعة وعشرين ألف رطلٍ، فسمِّي عندها حلَّاجًا... لكنَّ هذا السبب لا يُعدّ مقبولًا لاعتماده في لقب الحلَّاج. بل إنَّ الأقرب إلى الأخذ به هو أنَّه لُقِّبَ بالحلَّاج لابتداء كلامه على أسرار المريدين، فصار يُدعى «حلَّاج الأسرار»، ويؤكد ذلك مكاتبة أهل خوزستان له ومخاطبتهم إيّاه بهذا اللقب.
وتبدأ حياة الحلَّاج الصوفية، منذ كان في السادسة عشرة من عمره، عندما اتصل بسهل بن عبد الله التستري، الصوفي المشهور، وراح يتتلمذ له، ويأخذ عنه شدَّة مجاهداته وحَمْلَهُ على نفسِه، وقد بقي على ذلك مدة سنتين لبس في أثنائها خرقة الصوفية...
وخرج الحلَّاج من بلدة «تستر» إلى البصرة، إلَّا إنه لم يُقم فيها طويلًا إذ ما لبث أن غادرها إلى بغداد ليلتقي مشيخة الصوفية، وتكون صحبته مع عمرو بن عثمان المكي، والجنيد بن محمد، وأبي الحسين النوري، أما مخالطته فكانت في بادئ الأمر للمكي إذ لازمه قرابة ثمانية عشر شهرًا، تزوج على إثرها من ابنة أبي يعقوب الأقطع، وهذا ما أثار حفيظة شيخِهِ المكي، فأعلن عداوته له، لعدم رضاه عن هذا الزواج، مما دفع بالحلَّاج للانصراف إلى الجنيد بن محمد، يبثُّه شكواه من المكي، فيطيِّب الجنيدُ خاطره، ويرحِّب به معه، وهو ينصحه بالصبر والاحتمال.
لم تطل صحبة الحلَّاج للجنيد، ولا يُستبعد أن يكون الاتصال بينهما قد ظل سطحيًّا، إذ سرعان ما تركه الحلَّاجُ متوجّهًا إلى مكة، لإِداء فريضة الحجّ لأول مرة.
ويظهر أن خيبة الأمل التي مُنِيَ بها الحلَّاج لدى مشايخ الصوفية في بغداد، هي التي جعلته يُؤْثرُ المجاورةَ في مكّة المكرمة لمدةِ سنةٍ كاملة، عكف خلالها على المجاهدة العنيفة حتى لفت الأنظار إليه.
ويَروي النهرجوري في هذا فيقول: «دخل الحسين بن منصور مكة، وكان أول دخلته، فجلس في صحن المسجد سنةً لا يبرح من موضعه إلَّا لطهارةٍ أو طواف. وكان لا يبالي بالشمس ولا بالمطر، يُحملُ إليه كلَّ عشيَّةٍ كوزُ ماءٍ للشرب، وقرصٌ من أقراص الخبز، فيأخذ القرص ويعضّ أربع عضّات من جوانبه، ويشرب شربتَين من الماء، شربةً قبل الطعام وشربةً بعده، ثم يضع باقي القرص على رأس الكوز، فيُحمل من عنده».
وعن إقامة الحلَّاج تلك يقول الكتاني: «دخل الحسين بن منصور مكةَ في ابتداء أمره، فجهدنا حتى أخذنا مرقعته. قال السوسي: أخذنا منها قملةً فوزنّاها فإذا وزنها نصف دانق من كثرة رياضته وشدة مجاهدته».
ومهما كانت تلك الروايات، وسواء صحّت أو لم تصحّ من أنَّه كان هناك أشخاص يهتمون بأمور شخص معين صوفي أو غير صوفي، حتى يصلَ هذا الاهتمام لأن يَزِنوا قملةً عن ثوبه، فإنَّ الواضح في الأمر هو أن للرواية دلالتها لدى أصحابها، وقصدهم من ورائها أن يُظهروا الحلَّاجَ ذاك الشخص الذي كان يُرهق نفسَه بالرياضة والمجاهدة إلى درجة شديدة.
ولكنْ هل إنَّ مجاهداتِ الحلَّاج تأتلفُ مع كرامة الإنسان، لو أخذناه في حياته العادية، أو تتوافق مع نظرة المؤمن إلى الدِين والحياة؟
إن مجاورةَ الحلَّاج، بدلَ أن تقوم على العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، وفقَ ما أمرت به الشريعةُ، نجدها مجاورةً يغلب على صاحبها الجوعُ والعطشُ، ولا يتعرّف فيها على نظافة البدن مع أن النفس المؤمنة الكيّسة تأنف من ذلك وخصوصًا إذا كانت تريدُ العبادة... فقد صارَ مفهومًا أن الإسلام براءٌ من مثل هذه العبادة، التي إن عرفت عند بعض الناس، فإنما تكون نهجًا لا علاقة له بالدّين. هذا إن لم نقل إنَّها افتراءٌ على الإسلام لأغراضٍ دنيئةٍ وخبيثة، ومنها أن يلصقوا به أمورًا غريبةً عنه، حتى يظهر أتباعُهُ على تلك الصورة التي ظهر فيها الحلَّاج من القذارة والمنظر الكريه، في حين أنَّ الإسلام بمصدريه، الكتاب والسنّة، يأنفُ من كل شيء يحطُّ من قدر الإِنسان وكرامته، ويرفض كل ما يُسيءُ إلى الإنسان في مظهرِهِ وجوهره. لذلك جاءَ الإسلام، يحضُّ الناسَ على الاهتمام بكل ما يتعلق بنظافةِ البدن والثوب، والاعتناء بالهندام، والحفاظ على الشخصية، مثلما يحضُّهم على تهذيب النفس، وتقويم الخُلُق، واتباع كل ما من شأنِهِ أن يرفَعَ من قيمة الإنسان، ويساعده على الترقّي والتقدم والمجاورة في مكة المكرمة، وهي نوعٌ من العباداتِ المستحبّة، يجب أن تقوم على هذه المفاهيم، فإنْ خرجت عليها، خرجت من معنى العبادة كما يراها ويقرُّها الإسلام. من هنا نَهيبُ بكل إنسانٍ، أرادَ أن يتستَّر وراء العبادة فلبسَ من أجل ذلك قناع الزيف والغدر، أن يثوبَ إلى رشده، وأن يتّقي الله تعالى في نفسه، فلا يقومُ بأفعالٍ لا تُرضي الله ورسولَه، ولا يُقرّها الإسلام. وإلَّا فإنَّ فعاله تكون نوعًا من الشذوذ الذي يفضح صاحبَهُ، ويفضَحُ معه مَنْ يُقرّونه على تلك الفعال!!
فالحلَّاج، إذن، أقامَ في مكة، مجاورًا على تلك الصورة البشعة من القذارة ومجاهدة النفس، طوالَ سنة كاملة. ثم رجع بعدها إلى بغداد ليعود فيلتقي الجنيد ثانيةً. ولكن سرعان ما دبَّ الخلاف بينهما من جديد، وربما أشدَّ من السابق. وقد كان ذلك عندما أراد الحلَّاج أن يستفسر من صاحبه، كونه سيد الطائفة الصوفية، عن مسألةٍ خطرت له، فعدَّها الجنيدُ نوعًا من التحدّي الذي ينمُّ عن ادعاء الرجل، لذلك لم يُجبْهُ عنها. وهذا ما أدّى إلى تعميق هوة الخلاف بينهما.
ولكن لنا أن نتساءل:
هل إن مجرد طلب الحلَّاج أو استيضاحه عن مسألةٍ ما، كان كافيًا لأن يثير حفيظة الجنيد عليه، أم أنَّ وراءَ خلافهما أسبابًا أبعدُ من ذلك؟
من المرجّح أن الجنيد لم يكن يرغب في أبي المغيث إلى جواره، فنوى أن يتخلّص منه. ويعود ذلك إلى ما كان يقوم به الحلَّاج من تصرفات يغلب عليها طابع التقلّبات الحادة. فهو قد اعتادَ منذ صباه على الظهور بمظاهر عدة: كأن يلبس المسوحَ أو المصبّغات من الثياب، أو أن يرتديَ العباءةَ والعمامة، ويذهبَ بهما إلى الأسواق، أو أن يتركهما ويتّخِذَ زيّ الجنود ويمشي في القباء. فهذه التصرفات، بتلوّنها وتعددها، كانت تثير غضبَ الجنيد، لأنه هو الشخصيةُ الكبيرةُ، وصاحب المقام الرفيع بين الصوفيين، فلا يعقل أن يزاحمه رجلٌ مثلُ الحلَّاج، ولو بالمظاهر، على مكانته، أو أن يقبل به إلى جانبه ـــ على الأقل ـــ وهو يتصرف على تلك الشاكلة التي تُسيء إلى سمعته وتحطُّ من قدره، فأبعده عنه، صارفًا النظر عن مصاحبته له...
ويبدو أنَّ العاملَ الأهمَّ في استحكام الخلاف بين الرجلين كان تخوّف الجنيد من الحلَّاج. فقد بدا واضحًا ما للحلَّاج من شخصيةٍ قوية جعلته محطّ الأنظار في كل مكانٍ حلَّ فيه، وما كان له من نفوذٍ قويٍّ على الأتباع والمريدين جعلهم يؤثرونَهُ ويميلون إليه، فهذه الأمور أورثت الرجلَ حسدًا، ليس من الجنيد وحده، بل من كبار الصوفية أيضًا، لذلك راحت علاقته تسوء بهم جميعًا، فكان لا بد من أن يظهروا النقمة عليه.
وبسبب تلك النقمة ودَّعَ أبو المغيث الحسين بن منصورالحلَّاج التلمذة على بابِ الجنيد، وذهبَ إلى «تستر»، بلد نشأته الأولى على تعاليم الصوفية، حيث لبس هناك ثيابَ الشيوخ، وبدأ بإلقاء تعاليمه، فأقبل الناسُ عليه بشغف، وصارَ له أتباعٌ ومريدون كثيرون.
ولم ينعم الحلَّاج بذلك النجاح الذي أحرزه طويلًا، إذ لم يَسلَمْ، حتى وهو في ذلك البلد البعيد، من ملاحقة أعدائه له. فما كاد يبلغ تلك المكانة في أنظار أهل تستر حتى جاءت كُتُب عمرو بن عثمان المكي تحمِلُ عليه بشدة وتتحدث عن انحرافاته، وهذا ما آذاهُ كثيرًا ودفعَهُ إلى خلعِ ثيابِ المشيخة الصوفية، ولبسِ القباء عوضًا عنها، والانصراف إلى صحبةٍ جديدة لا علاقة لها بالصوفية.
ويبدو أن الحلَّاج لم يتبع هذا الطريق الجديد بدافع التخلص من المضايقة التي سبَّبتها له كتب المكي، بقدر ما كان ينوي أمرًا يريد تحقيقه ولكن بسبيل أيسَرَ مما كانت عليه سبلُهُ من قبل، فكان لا بد من أن يعودَ إلى سيرتِهِ الأولى، غير ملتزم بأثواب المشيخة التي قد تحول بينه وبين مبتغاه... وعزمَ على أن يتعلَّمَ أشياءَ جديدة لا يعرفها أولئك المدّعون من كبار الصوفية، وهذه غير متوافرة إلَّا في البعيد، فشدَّ الرحالَ إلى بلاد الهند، حيث كانت رحلته الأولى إلى الشرق.
لقد أرادَ الحلَّاج أن يتعلَّمَ السِحْرَ في الهند حتى تتوافر له القدرةُ في دعواه، كما يخبرنا الحاسبُ في روايته عن أبيه، وقد بعثَهُ المعتضد إلى الهند للحصول على معلوماتٍ كان يريدها. وفي السفينة التقى رجلًا يدعى الحسين بن منصور، وصَفَهُ بأنه كان حسن العشرة، طيّب الصحبة. وقد سألَهُ قبل أن يفترقا عما حدا به للسفر إلى تلك البلاد، فقال له: جئت لأتعلم السحر وأدعو الخلق إلى الله.
ومثل والد الحاسب يقول أيضًا المزين: «رأيت الحسينَ بن منصور في بعض أسفاره، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى الهند لأتعلم السحر أدعو به إلى الله عز وجلّ».
واستغرقت رحلة الحلَّاج تلك خمس سنوات، عادَ بعدها إلى فارس، يدعو الناسَ من جديد إلى اعتناق آرائه الصوفية، ويجمعُ حوله المريدين، ويصنّف الكتب التي بوساطتها، يذيعُ تلك الآراء وينشرها. فعُرف في هذا الوقت باسم «عبد الله الزاهد» وعندما انتقل إلى الأهواز، وظهر نشاطه فيها راح الناس يخاطبونه بـــ «حلَّاج الأسرار».
ويظهر أن نجاحَهُ الجديدَ، وكثرةَ التفاف المريدين من حوله، وتفوقَه في استمالةِ العامة، كلَّ ذلك جعله يتناسى الأزمة التي عصفت به من جراء عداوة المكي له، فلبس ثياب الصوفية، وخرج إلى مكة حاجًّا للمرة الثانية، وبرفقته نحو أربعمئة مريد.
جاءَ الحلَّاج إلى مكة مطمئنًّا تحفُّ به الأتباع والخدمُ من كل جانب. لكنَّ عاثر حظّه أبى إلَّا أن يرافقَهُ كلما جاء للحجّ، فلم يكد ينزل في تلك الديار حتى تصدّى له أبو يعقوب النهرجوري، وكان من دأبه المجاورة، وانبرى للطعن عليه، كونه من تلاميذ الجنيد والمكي. وهذا ما جعَلَ المتاعبَ تقعُ على رأس الحلَّاج من جديد، وتضطره لمغادرة مكةَ سريعًا، والعودة إلى الأهواز، حيث ترك زوجه وولده، ليحملهما ويذهب إلى بغداد، ومعه جماعةٌ من كبار الأهواز.
أقام الحلَّاج في بغداد مدة سنة، سافَرَ بعدها برحلة ثانية إلى الأقطار الشرقية. وراح يطوف في بلاد الهند، من مقاطعة إلى أخرى، يصعّد في نهر السند تارةً، ويرافق القوافل الأهوازية تارة أخرى... وقد تعرَّف إلى تلك القوافل وهي تجوب تلك الأصقاع، وتأتي محمّلة بالديباج المنسوج على الطراز التستري، وتعود مثقلة بمختلف أنواع البضائع ومنها الورق الصيني الجميل (المعروف بورق ساسيو). وكان هذا الورق ما سطَّر عليه تلامذةُ الحلَّاج مؤلفاتِهِ التي كتبها والتي جمعوها من بعده.
ويظهر أن الحلَّاج قد وفِّقَ في هذه الرحلة أكثر من سابقتها. فهو لم يصل، فحسب، إلى أماكن جديدة لم يعرفها من قبل، بل تعرف إلى مانوية وبوذية التركستان، وجمَعَ له أصحابًا كثيرين في كل بلدٍ دخلَهُ ظلّوا على اتصالٍ به بعد رجوعه إلى بغداد، فكانوا يكاتبونَهُ بألقاب مختلفة، حتى صارت له ألقاب عدة بحسب البلدان ولدى الأقوام... فأهل الهند كانوا يلقبونه (المغيث)، وأهل ماسين وتركستان يخاطبونه (المقيت). وقد سمّاه أهل فارس (أبا عبد الله الزاهد)، وأهل خراسان (المميَّز). ومن بلاد خوزستان يكتبون إليه باسم الشيخ (حلَّاج الأسرار)، وقد سمّاه قوم في بغداد «المصطلم» وآخرون في البصرة (المحيِّر).
ولئن كانت للحلَّاج هذه الألقاب فهي لا تشفع له في كثرة سقطاته التي وقع بها، وفي زلّاتِ لسانِهِ التي أطلقها ـــ كما سيتبين لنا ـــ لذا فهي لا تعدو كونها، كما قال الشاعر:
ألقابُ مملكة في غير موضعها كالهرّ يحكي انتفاخًا صورةَ الأسد
وهذا ما يبدو واضحًا، إذْ لم تخفف تلك الألقاب من النقمة التي ثارت عليه، ليس من كبار الصوفية فحسب، بل من الحكام أيضًا الذين راحوا يلاحقونه للقبض عليه حتى اضطر للهرب والالتجاء إلى مكان يحميه، فلم يجد إلَّا البيتَ الحرام ملاذًا له وأمنًا، فذهب إلى مكة المكرمة، وأقام مجاورًا فيها لمدة سنتين.
وظن الحلَّاج أن مدة إقامته تلك قد تكفي لتناسي الأحقاد عليه. لكنه أخطأ الحساب، فما إن عادَ إلى بغداد حتى وجد الأجواء كلها مشحونة ضدَّه، ووجد أنَّ ألدَّ أعدائه وأكثرَ المناوئين له هم من أصحابِهِ الصوفية أمثال محمد بن داود، وعلي بن عيسى، والشبلي وغيرهم. وهذا ما آلمه أشدَّ الإيلام لأنه يفترض بهؤلاء أن يدافعوا عنه، كونه واحدًا منهم. إلَّا إنهم، على خلاف ما توقع، كانوا أشدَّ الحاقدين عليه، وأكثرهم كراهية له. ولعلَّ هذه العداوة هي التي قادته إلى حتفه، إذ سرعان ما أُلْقي القبض عليه وزُجَّ به في السجن، لتبدأ منذ ذلك الحين ما قيل بأنها «محنة الحلَّاج».
أما دوافع أعداء الحلَّاج للإيقاع به فكانت كثيرة. لكنَّ أبرزها كان حقد كبار الصوفية عليه، وحسدهم له، بسبب افتتان الناس به وإقبالهم عليه، واجتماعهم من حوله، فاتخذوا حجةً للإيقاع به قولَهُ الصريح: «أنا الحق». ومهما كانت دوافع أعدائه أو التُّهم التي وجهت إليه، فقد حوكم الحلَّاج وصَدَرَ بالنتيجة قرار بإعدامه، فقُتل وصُلب على مرأى من الناس جميعًا في بغداد.
وحول مقتله، ورد في تاريخ اليافعي: «أنه أجمع علماء بغداد على قتله، ووضعت القيود في يديه وهو يقول: الله في دمي فإنه حرام... ولم يزل يردد ذلك وهم يثبتون القيود، وحُمل إلى السجن، وأمَرَ المقتدر بالله بتسليمه إلى صاحب الشرطة ليضربه ألف سوط، فإن مات، وإلَّا يضربه ألفَ سوطٍ أخرى، ثم يضرب عنقَهُ. فسلَّمه الوزير للشرطي وقال له: إن لم يمت فاقطع يديه ورجليه وحزَّ رأسه وأحْرِقْ جثته، ولا تقبل خُدَعَهُ... فتسلّمه الشرطيُّ وأخرجَهُ إلى باب الطاق يُجَرُّ في قيوده، فاجتمع عليه خلقٌ عظيم. وضربه ألف سوط فلم يتأوَّهْ. ثم قطع أطرافه، وحزَّ رأسَهُ، وأحرق جثته، ونصب رأسَهُ على الجسر. وذلك في عام 309 هــ».
ورويَ أيضًا أنه «لما قطعت أعضاؤه واحدًا واحدًا لم يتأوه، ولم يُظهر الألم وكان يقول: وحُرمة الوُدّ الذي لم يكن يطمعُ في إفسادِهِ الدهرُ، ما قُدَّ لي عضوٌ ولا مفصلٌ إلَّا وفيه لكم ذكرُ»!!!
ومثل هذه الروايات مبالغ فيها لا ريب، لأنه لا يُعقل أن يقطع عضوٌ لأحد من أعضاء جسده، من غير أن يصرخ أو أن يتأوَّهَ من الألم، ولكن إذا أخذت هذه الروايات بمعانيها الصوفية فهي تدل على أن كثرة الرياضات والمجاهدات النفسية والجسدية، التي كان يقوم بها الحلَّاج في خلواته، قد أماتت الحِسَّ والشعور لديه. وحينئذٍ أصبح الألم واللذة على حد سواء!!!
وهكذا يتبين أن هذا التلخيص لحياة الحلَّاج قد ارتكز على أسفاره وتنقلاته بين البلدان والأمصار، وأظهر ما كان للرجل من شخصية قوية، جعلته يبطن أسرارًا لا يريد أن يطَّلع عليها أحَدٌ قبل أن يُحكم الخطة، ويتدبَّر الوسائل التي توصِلُهُ إلى مآربه. وهذا ما قاده إلى الاضطراب والتلوّن في تصرفاته، حتى أجفَلَ أهلَ العلم، وأصحابَ السلطان منه، بل أورثَهُ نقمةً من كبار الصوفية أنفسهم وتخوّفًا على مراكزهم، حتى كانت النتيجة ذلك المصيرَ المحتوم، وتلك النهاية المشؤومة التي انتهى إليها.
لكن هذا التلخيص يبقى مع ذلك المنطلق لتوضيح تلك التصرفات التي قام بها الحلَّاج، وبناها على معتقداته الصوفية، كما يبقى المقدمة لتيسير سبل معرفة الرجل على حقيقته، وتفسير آرائه ونظرياته تفسيرًا يتفق مع واقع حياته.
ولعلَّ أول ما يلفت الباحث، في هذا الصدد، أن الحلَّاج بدأ حياته الصوفية، مثل الصوفيين الآخرين جميعًا، لكنه كان يتميّز منهم بأنه عَمَدَ منذ البداية إلى اتباع المجاهدات والرياضات، وحمل مختلف أنواع المشقات من غير أن يعتمد في ذلك على طريقة خاصة، بل كان يأخذ عن مختلف طرائق الصوفية ويتّبع مختلف أحوالهم، حتى اكتنزت في نفسِهِ عقيدةُ الألوهية ضلالًا وكفرًا، وسيطرت عليه نزعات المجد والسلطان طمعًا وعنادًا.
وعَنْ حَمْلِهِ على نفسه يروي الخطيب البغدادي عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: «سلَّم أستاذي أبو عبد الله المغربي على عمرو بن عثمان المكي، فجاراه في مسألة، فجرى في عرض الكلام أن قال المكي:
ها هنا شابٌّ على أبي قُبيس حاله كذا وكذا...
فلما خرجنا من عنده صعّدنا في الجبل وكان وقت الهاجرة، فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على صخرة في الشمس والعرق يسيل منه. فلما نظر إليه أبو عبد الله المغربي رجع، وأشار إليَّ بيده أنْ أرجع. فخرجنا ونزلنا الوادي ودخلنا المسجد. فقال لي أبو عبد الله: إنْ عشتَ قد ترى ما يلقى هذا، لأنَّ الله يبتليه بلاءً لا يطيقه، قَعَدَ بِحمْقِهِ يتصبَّرُ مع الله... فلما سألنا عنه قيل بأنه الحلَّاج».
إذن، فهذا مثالٌ واضحٌ على شدة المجاهدة التي كان يقوم بها الحلَّاج حتى تصل به إلى حدّ الجلوس على جبل أبي قبيس في مكة المكرمة وقت أن يكون الحرّ على أشدّه، وكأنه يريد أن يتعذّب تحت أشعة الشمس المحرقة حتى تتحقق المجاهدةُ التي يريد!!!
على أنَّ المجاهدات والرياضات إجمالًا، وإن كانت معروفة عند صوفية القرن الثالث، إلَّا إن الحلَّاج انفَرَدَ عنهم جميعًا عندما اتخذ من الآلام والمعاناةِ شيئًا مقصودًا لذاتِهِ، وهي نظرةٌ لم يشاركه فيها أحَدٌ. ونستدلُّ على هذا الاتّجاه عنده بقوله:
أُريدُكَ لا أريدُكَ للثوابِ ولـــــكنّي أريـــدُكَ للــعقــابِ
فكلُّ مآربي قد نِلتُ منها سوى مَلْذوذِ وجدي بالعذابِ
فالحلَّاج هنا يعبّر عن أمرين: معنى الثواب والعقاب، وحبه لله تعالى...
فأما الأمر الأول فهو أنه لا يقصد ثوابَ الآخرةِ وعقابَها، بل إنه يطلق كلمة الثواب على النعيم مطلقًا، وكلمة العقاب على العذاب مطلقًا، وهذا ابتكار جديدٌ لم يتوصل إليه أحَدٌ من الصوفية قبله.
وأما الأمر الثاني فهو أنه لا يُريدُ من حبّهِ إلَّا آلام الوجد لأنه يجد فيها لذةً لا يجدها في ألوان النعيم الأخرى، أي إن المعاناة في الحب عنده يجب أن توصِل إلى العذاب، وهذا العذاب هو لذة خالصة لا يعرفها، ولا يتذوق حلاوتَها إلا الخاصة من المحبّين.
وبهذين الأمرين يكون الحلَّاج قد مَزَجَ بين مذهبه الخاص في معنى الثواب والعقاب، ومذهب الحب الإلهي كما كان شائعًا عند متصوفة القرن الثالث.
فالحلَّاج، إذن، قد أضاف إلى التصوف مسائلَ جديدة لم تكن معروفة قبله، مثلَ مذهبِهِ الخاص في الثواب والعقاب، ومسائلَ في السرّ كما روى السراج الطوسي صاحب اللمع (أقدم كتب التصوف في العالم الإسلامي) عندما قال: «ويُحكى عن الحسين بن منصور الحلَّاج ـــ رحمه الله تعالى ـــ أنه قال: أسرارنا بِكرٌ لا يفتضُّها وهمُ واهم... فهذه مسألة في السرّ لم يتكلم فيها أحدٌ مثل الحلَّاج»!!!
والحلَّاج، وإنْ تفرَّدَ في بعض النواحي الصوفية، فإنه في النواحي العملية للتصوف يشارك سائر الصوفية في عصره. لذا نجده يتّخذ من الزهدِ سبيلًا للتعبير عن الجانب العملي في تصوّفه، ويقف هنا عند حدّ الزهد حتى يبقى الجانب العملي دونَ آرائه الجريئة في التصوّف.
ومن كلامه في الزهد قوله: «من أرادَ أن يصل إلى المقصود، فلينبذ الدنيا وراء ظهره». ثم أنشد:
عــليكِ يا نــفسُ بالتســلّي ألعِزُّ في الزهد والتخلّي
عليكِ بالظلمة التي مِشْكا تُهــا الكشفُ والتجــلّي
ونظرة الحلَّاج في الزهد قد أقامَها على أساسٍ دينيّ، كما يظهر من هذه المقطوعة الشعرية التي يُروى أنه أنشدها. وفيها يقول:
دُنيــا تُخــــادِعني كـأنّي لستُ أعرفُ حالَهــا
ذمَّ الإلَـــهُ حَـــرامَهــــا وأنا اجْتَنَبْتُ حلالَهَا
مَـــدَّتْ إليَّ يَـــمينَهــــا فَـــرَدَدْتُهَا وشِـــمالَها
ورأيتُـــــها محـــتاجـــةً فَوَهَبْتُ جُملتَها لهــا
ومتى عرفتُ وصالَها حتى أخافَ مَلالَها؟
يطلب الناس وصالها، لكنَّ شاعرنا الصوفيَّ يمتنع عن طلب ذلك الوصال، بل يرفضه في غير عناء، لأنه لم يجرب الوصال حتى يهمه الهجر. والأبيات نفسها في القطعة منسوبة، في بعض المراجع، إلى الشاعر محمود بن الحسن الوراق (المتوفى عام 223هـــ).
ونسبتها هذه للوراق ربما تكون أقرب للقبول نظرًا إلى ما فيها من جودة السبك، التي هي ميزة أسلوب الوراق. في حين تبدو مقطوعات الحلَّاج، وفي الموضوع نفسه، ليست في مثل هذا اللين، ولا على تلك السلاسة والقوّة.
ولئن كان الحلَّاج قد اعتنق فكرة الزهد للتعبير عن الناحية العملية في التصوف، فإن النواحي النظرية والآراء الصوفية كافة، كانت في صلب معتقداته، حتى جعلته في مصاف شيوخ الصوفية، وإن اختلف عنهم في طرائق معينة. ومن تلك الآراء التي اعتنقها: العشق الإلهي، وعقيدة الحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود. وهذه هي أفكار الصوفية الرئيسية. أما ما جاؤوا به غيرها، أو ما استَنُّوا لأنفسهم من طرائق فإنها لا تعدو أن تكون فروعًا بُنيتْ على تلك الأفكار الرئيسية.
وفكرة الحلول اعتنقها ـــ كما رأينا ـــ أبرزُ مشايخ الصوفية أمثال البسطامي والجنيد، بشطحات أو إشارات مجملة، في حال أنها تشكل لدى الحلَّاج عقيدة يؤمن بها بكل صراحة وإصرار. لذلك فهو لم يتورّع عن الإفصاح عنها جهرًا كما يقول في كتابه الطواسين: «من هذّب في الطاعة جسمه، وملك نفسه، ارتُقِيَ به إلى مقام المقرَّبين. فإذا لم يبقَ فيه من البشرية نصيبٌ حلَّ فيه روح الله الذي كان منه عيسى بن مريم»!. (وقد قيل إنَّ هذا ما تسبَّب بقتله).
والحلَّاج كما قال بالحلول، قال أيضًا بالاتحاد مثل بقية الصوفيين، فتفوَّه بشطحات مثل شطحات البسطامي والشبلي، وذلك في مثل قوله: «أنا الحقّ»... ولكن ما تميَّز به الحلَّاج من غيره من الصوفية هو أنه كان يقول بالاتحاد ولكن مع بقاء كل عنصر من عنصرَيْه، اللاهوتيّ والإنسانيّ، على ما هو عليه من دون تغيُّر. لذلك يُعدّ «حلوليًّا» أكثر منه «اتحاديًّا». وقد لازمته عقيدةُ الحلول حتى آخر حياته. ويُروى أن أمير الأهواز كتب إلى بغداد بعدما ألقي القبضُ على الحلَّاج عام 301هـــ. معلنًا أن البيّنة قد قامت عنده على أنَّ الحلَّاج يدَّعي الربوبية ويقول بالحلول، وربما كان يعني بذلك قولَ الحلَّاج: «أنا الحقّ». وقد ردَّ الحلَّاجُ هذه التهمة عنه عندما قال بأنه يعبِّر بذلك عن الحالة المعروفة عند الصوفية بحالة «الجمع».
ومن المعروف في عالم التصوف ـــ كما أشرنا إليه مرارًا ـــ أن الحب الإلهيّ كان طابع القرن الثالث الهجري بشكل خاص، فكان من الطبيعي أن يعتنق الحلَّاج ذلك المذهب. لكنه اختلف فيه عن بقية الصوفية عندما لوَّنَهُ بألوان نفسه المتوثِّبة، فكان يصيح في الأسواق وهو في حالة من الجذبة والطرب:
«يا أهل الإسلام، أغيثوني، فليس يتركني (أي الله سبحانه وتعالى) ونفسي فأتهنَّى بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه» فتأمَّلْ هذه الهرطقة السمجة من صوفيّ يستعدي الناس على ربِّه ليُغيثوه من ظلمه بأن حال بينه وبين نفسه، ثم هو لا يطيق هذا الدلال من الله!!! أو ليست هذه هرطقة ما بعدها هرطقة!!!
وكما جعَلَ الحلَّاج الحب الإلهي مختلفًا عن ذي قبل بما صبغه به من ألوان، كذلك بلغ عنده ذلك الحب مدى أوسع مما وصل إليه الصوفية الآخرون. فلأول مرة في تاريخ التصوف، يتجاوز الحب الإلهيُّ مع الحلَّاج، ذاتَ الله إلى النبيِّ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول في ذلك: «إن نورَ محمد أشرقَ قبل أن يكون الخلق، ومنه استمدَّ الأنبياءُ هديهم، والأولياءُ معارفهم، لتجلِّيه على مَرِّ الأيام فيهم. وهذا النور القديم كما هو مصدر هداية هو مصدر خلق، فمنه كانت الأكوان، ولولاه لما كان وجود». ويقول أيضًا: «أنوار النبوة من نوره برزتْ، وأنوارُهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوارِ نورٌ أنوَرُ وأظهرُ وأقدمُ مِنَ القدمِ سوى نورِ صاحبِ الكرم. همتُه سبقتِ الهمم، ووجودُه سبقَ العَدَمَ، واسمُه سبقَ القلمَ، لأنه كان قبل الأمم».
ونظرية الحلَّاج هذه في «النور المحمديّ» كان لها أثرها الذي برزت به في الأزمنة المتعاقبة. فهي، وإن ظهرت في أشكال وتسميات مختلفة عند الصوفية، فإن جوهرها الذي نادى به الحلَّاج بقي كما هو على مر الأزمان.
وكما برز هذا الأثر الحلَّاجيّ في دنيا التصوف، فإننا نجده أيضًا في الأدب العربي حيث اختلف مديحُ الحلَّاج وحبُّهُ للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عن فن المديح المعروف في هذا الأدب، وذلك عندما طبعَ شعرَهُ بطابع «الحب الإلهيّ» الذي لا يتناسبُ وشخصيةَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. لكنَّ هذا الطابَعَ استقرَّ مع الزمن في الأذهان فبقي المدّاحون يستقون من معين الحلَّاج وينسجون على منوالِهِ، وكأنَّهم يماشون عقيدتَهُ في الحب الإلهيّ.
وتظهر هذه العقيدةُ عند الحلَّاج في قوله:
كانت لنــفسيَ أهـــواءٌ مـــفرَّقةٌ فاستج مــعــتْ إذ رأتْــــك العـــينُ أهــــــوائي
فصــارَ يحســدني مَـــن كنت أحســـدُهُ وصرتُ مَوْلى الورى إذ صرتَ مولائي
تــركــتُ للنــاس دنيـــاهُمْ ودينَهُـــمُ شُـــغْلًا بــذكــرِكَ يــا دينــــي ودنيـــائي
ثم غاص في هذا الحب حتى ذهل عن نفسه، فقال مدَّعيًا:
أنا من أهوى ومَن أهوى أنا نحن روحان حَلَلْنا بَدنَا
فـــإذا أبصــرتني أبـــــصرْتَهُ وإذا أبصــرتَهُ أبـــصرتنا
أليس في نظرة الحب هذه يظهر «الاتحاد» الحلَّاجيُّ بأوضح صوره؟!
ثم أليسَ هو نفسه من يعبّر عن هذا الاتحاد في كتابه (الطواسين ـــ ص 31) عندما يقول: «رأيت ربي بعين قلبي... فقلت: من أنتَ؟ قال: أنتَ»! أي إن الاتحاد قد تمَّ بين الرائي والمرئيِّ فأصبحا شيئًا واحدًا.
والحلَّاج في حبه الإلهيّ قد يبلغ ما لم يبلغه شاعرٌ آخر من الصوفية إبّان القرن الثالث الهجري، عندما يقول:
سكنتَ قلبي وفيه منكَ أسرارُ فَليَهنكَ الدارُ بل فليَهنكَ الجارُ
ما فيه غيرك من سرٍّ علمتُ به فانظر بعينك هل في الدار ديّارُ؟
وليلةُ الهجر إنْ طالتْ وإنْ قصُرَتْ فمُؤنسي أَمَلي فيها وتذكارُ
إني لراضٍ بما يُرضيك مــن تَلَفـــي يا قاتـــلي! وَلِما تختارُ أختارُ
إنَّ في هذه الأبيات، كما يتبيّن، أحوالَ الحُبّ المختلفة التي قد تجري على صاحبها، والتي من الممكن أن يتغنّى بها إنسانٌ حيال محبوبه من البشر الذي سيطر على قلبه فانفرد به، وملكه حتى أصبح لا همَّ له سوى رضا ذلك المحبوب، ولو كان في هذا الرضا تلَفُ المحب المدنف. أما أن تقالَ لربّ العزّة، ويهنأ رب العزة بسكنى ذلك القلب، وبجيرة ذلك الجار، فإنَّ قولَ مثل هذا من المسلم كفرٌ، بل إصرارٌ على الكفر.
ويطغى ذلك الحبُ على الحلَّاج حتى يستحيل كلَّ شيء في حياته: فهو نفسُهُ، وحديثُهُ، وذاكرتُهُ، وخيالُهُ، وحزنُه، وفرحُهُ، كما يبدو في هذه الأبيات من شِعره:
والله ما طلعتْ شمسٌ ولا غَرَبتْ إلّا وحبُّـك مقرونٌ بأنـــفاسي
ولا خَــلَوْتُ إلى قـــومٍ أحـــدّثُهُمْ إلَّاوأنتَ حديثي بين جُلَّاسي
ولا ذكــرتُك محزونًا ولا فَرحًـــا إلّا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممتُ بشرب الماء من عطش إلّا رأيتُ خيالًا منك في كاسي
هذا هو الحبُّ الإلهيُّ عند الحلَّاج يظهر في المواجيد والأشواق كما يظهر في الحلول والاتحاد، يصلح لأن يخاطب به البشرُ بعضهم بعضًا، في حين أن الصوفية تتخذه طريقًا لمخاطبة الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وَبَثِّهِ أشواقَهم وعواطفَهم على مهمة النمط نفسه الذي اتبعَهُ شيخُهم الحلَّاج، ومن قبله رائدتُهم رابعة العدوية!!!
ولا تقتصر آثار «الحب الإلهيّ» عند الحلَّاج على مشاعره، ومختلف حالاته النفسية، بل تترتّب عليها نتائج مهمة تجعله يقول بوحدة الأديان... فعنده: ما دام جميع الناس يحبون الله، فيجب أن يكون هذا الحبُّ دينَهم. أما ما يظهر من ديانات مختلفة ومتنوعة، فهي وجهات نظر متعددة لكنها تهدف إلى حقيقة واحدة. فلئن كان أهل كل دين قد نظروا إلى الله نظرة تخالف نظرةَ الآخرين، فإن الجميع ينشدون شيئًا واحدًا، ويجمعهم أمرٌ واحدٌ: وهو حبُّ الله. وهذا هو المهم وما يجب اتخاذُهُ مذهبًا.
وهنا نجد الحلَّاج حتى في العقائد المتباينة والمتناقضة، يُعدّ جميع الناس محقّين، لأن ذلك التناقض أو التباين القائم في نظرتهم إلى الدين لا يعدو كونه اختلافًا في الأسماء والصفات والمعاني... وطبعًا هذا لا يأتلف في نظرنا مع الحقيقة. فإمَّا أنَّ الدين الإسلامي هو خاتم الأديان وناسخها، وأن شريعته هي آخر الشرائع وخاتمتها، وأنَّ حلال محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامَهُ حرامٌ إلى يوم القيامة، وأنَّ ذلك كله حق وصدق، وإما فلا إسلام، ولا إيمان بالواحد الأحد... صحيح أنَّ الدين عند الله الإسلام، وقد نزلت الرسالات السماوية تترى بهذا الدين وتكمّل بعضها بعضًا، إلا إن معظم الناس لم يقرّوا بذلك، وتوزعوا بين الديانات الثلاث المعروفة: اليهودية والنصرانية والإسلام.
وعلى الرغم من أنَّ هذه الديانات الثلاث موجودة وقائمة حقيقةً إلَّا إنَّ الحلَّاج لا يعترف بذلك، بل ينادي بوحدة الأديان، حيث يقول:
تفكرتُ في الأديان جِدَّ محقّــــقٍ فَأَلْفيتُها أصلًا لـــــه شِعَـــبٌ جمًّا
ومن منطلق هذا التفكير، يتخذ الحلَّاج لنفسه دينًا خاصًّا به، فيكون له دينه، وللناس دينهم:
مالي وللناس كم يَلْحُونَني سفَهًا ديني لنفسي ودينُ الناسِ للناسِ
ويبدو أنَّ الحلَّاج كان على اطلاع ومعرفة واسعة بالنصرانية واليهودية، وبعض العقائد الأخرى كالمجوسية والبْراهمانية. ومعرفته تلك بالنصرانية ربما جعلته يقتبسُ عنها اصطلاحَيِ «اللاهوت» و«الناسوت»، ليعبّر بهما عن العنصر الإلهيّ والعنصر الإنساني في الاتحاد الذي ينطوي في جوهره على الحلول. ويظهر ذلك من قوله في الصفحة (130) من كتابه (الطواسين):
سبحانَ من أظهرَ ناسوتُهُ سِرَّ سنـــا لاهـــوتِهِ الثاقِبِ
ثــم بــدا لخــلقِهِ ظـــاهِرًا في صورةِ الآكِلِ والشاربِ
حتــى لقــد عــايَنَهُ خَلْقُهُ كلحظة الحاجبِ بالحاجبِ
ولقد أخذ الحلَّاج بالتجسيد، هذا المذهب القائل بثنائية الطبيعة الإلهية، على ما يبدو، عن النصارى السريان الذين استعملوا اصطلاحَيِ اللاهوت والناسوت للتدليل على طبيعة السيد المسيح عيسى بن مريم ـــ عليه السلام ـــ لكنه وصفَ اتحادَ اللاهوت بالناسوت ـــ أو الروح الإلهيّ بالروح الإنسانيّ ـــ على أنه حلول، وفكرة الحلول هذه يقرنها المسلمون بالنصرانية وإنْ أخذها الصوفية عن الديانات الهندية الشرقية.
أما فيما يعود إلى اليهودية، فإن الحلَّاج تأثَّر منها بذلك الأثر الذي يقول: إن الله خلق آدم على صورته.
والكلام عند الحلَّاج على وحدة الأديان يستلزم كلامًا آخر في الجبر، لأنَّه نتيجة طبيعة لتلك الوحدة. وعلى هذا فإنَّ الحلَّاج «يرى أن الله شغل بكل دين طائفةً لا اختيارًا منهم بل اختيارًا عليهم، فمَن لامَ أحدًا ببطلان ما هو عليه فقد حكم بأنه اختار ذلك لنفسه» ومعنى هذا أن القول ببطلان معتقدٍ من المعتقدات الدينية خطأ وضلال، وأنَّ التوحيد الذي يراه الموحدون ليس أكثر صحة من التثليث أو من أي معتقدٍ آخر.
والحقيقة أنَّ هذا الاعتقاد لا يتوافق مع ما يؤمن به المسلمُ من أنّه: لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، واحد، أحدٌ، فردٌ، صمدٌ، فإنْ خرج المسلم على هذه القاعدة في التوحيد، فقد خرج على إسلامه. وميزة الحلَّاج أنَّه يعرف هذا تمامًا، لذلك فهو يُصرّح بكل جرأة، أنه كفَرَ بدين الله (الإسلام) بعدما رأى أن الكفر واجبٌ لديه. ويؤكد لنا ذلك قوله:
كفرتُ بدين الله والكفر واجبٌ لديَّ، وعند المسلمين قبيحُ
إذن فالحلَّاج يُقرُّ إقرارًا صريحًا بأنَّ القول بغير التوحيد كفرٌ، وبما أنه لا يُؤمن بفكرة التوحيد، فقد بدا له واجبًا عليه أن يعتنقَ الكفرَ دينًا.
ولئن بلغ الإنسانُ حَدَّ الكفر، فماذا له بعدَهُ. وأيّ صوفية هذه التي يقولون بها، وهي تتخذ الكفر دينًا؟ هذه هي صوفية الحلَّاج، ومن سارَ على دربه الضالّة المضلِّلة!
لقد أراد الحلَّاج، من منطلق نفسه المضطربة، أن يتفوق على شيوخ الصوفية حتى يظهر للملأ بأنه هو وحده صاحب الشأن العظيم الذي يجب أن يُشار إليه بالبنان، ويكون له من دون غيره المقام الرفيع، فلم يجد وسيلةً أجدى لذلك من الخروج على العقيدة، واتخاذ الكفر دينًا، ومن ثم الإتيان ببدعة جديدة في التصوف يبُزُّ بها الآخرين.
وقبل أن يُعلن الحلَّاج كفرَهُ ذاك، هاجت به نفسه مطالبةً بالتغيير، فاندفع يبيّن الطريقة التي يريد أن يموتَ عليها، وفي الوقت نفسه يفضح نفسه بما يخالجه من قلق ويأس، فيقول:
ألا أبــــلغْ أحبــــائـــي بـــأنّي ركبتُ البحر وأنْكسرَ السفينةْ
على دين الصليب يكون موتي ولا البــطحا أريــد ولا المدينة
وقد صدَق حدسُ الحلَّاج فمات على الصليب، لكنه لم يمت على دين المسيح عليه السلام، ولا على أي دين آخر، إلَّا دين الكفر الذي ابتدعه لنفسه. نعم لقد تجلى صدق حدسه ذاك بتلك الميتة التي لاقى، والتي لا يستأهلها وحده، بل كلُّ من يبغي في الأرض فسادًا مثله، امتثالًا لوعد الله الحق، بقوله تعالى: [إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ]...
وتأسيسًا على موقفه من وحدة الأديان ينبري الحلَّاج لإظهار رأيه في مسألة الجبر الذي يقتضي التفريق بين الإرادة والأمر، فيتبنَّى موقف إبليس في رفضه السجود لآدم، معتبرًا أنَّ الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ لم يُرِدْ ـــ على حد زعمه ـــ السجود في الأزل، على الرغم من الأمْرِ الذي صَدَرَ عنه لإبليس بالسجود، ولذا فقد رأى إبليسُ أنَّ هذا الأمر ظاهريٌّ فقط (وهو في حقيقته ابتلاء) وأنَّ الله وحدَه هو أحق بالسجود له. ولهذا «لما قيل لإبليس: اُسجد لآدم، خاطب الحق: اِرفع شرف السجود عن سوى إلّاك حتى أسجد له. إن كنت أمرتني فقد نهيتني. قال: فإني أعذبك عذاب الأبد. فقال: أولست تراني في عذابك لي؟ قال: بلى. فقال: فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب، افعل بي ما شئت»!
وبعد أن يتخذ الحلَّاج جانب إبليس، ويجعله سيّدَهُ وقائدَهُ في عدم الامتثال لأوامر الله ونواهيه، يعود ليفاضل بين موقف إبليس (لعنه الله) وموقف موسى (عليه السلام)، فيرى أنَّ موقف إبليس في رفضه للسجودِ أقْيَمُ، وهو أشبه ما يكون بموقف محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إلَّا إنَّ هنالك بعض الفرق بينهما وهو أن محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يرجع إلى حوله وقوّته، فقال: «بك أصول وبك أجول» في حين أن إبليس اعتمد على حوله وقوّته، فقال: «أنا خير منه» أي من آدم عليه السلام.
وبعد أن يقف موقف إبليس، ويأنس من نفسه قوةً كبيرة، يجد أن هذه القوة أو الفتوة إنما تفوق قوة إبليس وقوة فرعون على حدٍّ سواء. ويعبّر عن ذلك بما يورده في كتابه (الطواسين ـــ ص 50) فيقول: «تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوة، فقال إبليس: إذا سجدت سقط عني اسم الفتوة. وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطتُ من منزلة الفتوة... وقلت أنا: إن رجعت عن دعواي (التي يقول فيها: أنا الحق) سقطت من بساط الفتوة».
وعلى هذا فإن الحلَّاج يرى أنّ إبليس وفرعون ـــ على الرغم من اللعنة والعذاب اللذين لحقا بهما من الله العلي القدير ـــ مثالان رائعان من أمثلة الفتوة لعدم تراجعهما عن دعواهما. لذا فقد اتخذ منهما قدوةً لعدم الرجوع عن دعواه الخبيثة تلك، فأكمل قائلًا: «فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون. إن إبليس هُدِّدَ بالنار وما تراجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليمّ وما تراجع عن دعواه ولم يقرَّ بالوساطة البتَّة».
وإذا كان الحلَّاج قد أصاب بخصوص إبليس الذي لم يتراجع عن دعواه، فإنه أخطأ بالنسبة إلى فرعون عندما اعتبر أنه لم يتراجع عن دعواه ولم يُقرَّ بالوساطة. فهذا جهل وكذب، وافتراء على الحقيقة أيضًا. ذلك أنَّ فرعون تراجع عن دعواه وأقرَّ بالوساطة، بدليل قول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ] .
كما أنَّ سيده وقائده إبليس اللعين لم يحتفظ بفتوته وعناده وكبريائه أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، بل تضاءل وتخاذل وَخَزِيَ وذلَّ، وظهر عليه الضعف والصغار إذ قال: «ربِّ فأنظرني إلى يوم يبعثون» فقد طلب النظرة والإمهال، وتحمل ذلَّ السؤال، ولم تظهر فتوته، ولجأ إلى رجاء رب الأرباب الذي يعطي من سأله، ويجيب من دعاه لأنه أكرم الأكرمين.
وإذا كان الحلَّاج قد أتْحَفَ التصوُّفَ بما أظهرَ من تلوين جديد للحب الإلهيّ، وبما أبدى من آراء جديدة كفكرةِ وحدة الأديان، واتخاذِ الكفر دينًا، واعتمادِ إبليس وفرعون أستاذين له، فإننا نراه في المقابل، لا يأتي بجديد، ولا يزيد على أقوال المتصوفة شيئًا، في تفسيره «للوجد»، وهو الحالة التي تنشأ عند الصوفية عن الذكر في الخلوات فهذا الذكر عندهم كان أهمَّ من الصلاة وقراءة القرآن، لأنَّ أناسًا منهم كانوا، ولا يزالون، يهتّمون بالرقص في حلقات الذكر أكثر من اهتمامهم بأداء الصلاة، مع أنَّ سنّة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في ترك الصلاة واضحةٌ صريحةٌ في قوله، صلى الله عليه وآله وسلم: «تارك الصلاة عمدًا يُقتل مع الإِصرار على الترك» وبعض الصوفية كانوا أحيانًا يهملون الصلاة، ويرون أن الذكر يُعين على استحضار حالة الوجد، التي تشكل حالة انجذاب تنشأ عن مثيرات خارجية من ذِكر وسَماع، ولكن من غير أن يكون لأحدٍ سلطانٌ عليها. لذا فهي في نظرهم هبةٌ من الله تعالى، يهبها لمن يشاء من عباده، لا بل هي كما يقول بعض الصوفية: «سِرُّ الله عند عباده المؤمنين» وفي حالة الوجد هذه، يقول الحلَّاج:
مواجيدُ حـــقٍّ، أوجَدَ الحقُّ كلَّها وإنْ عجزت عنها فُهومُ الأكابِرِ
ومـــا الــوَجدُ إلَّا خَطْرَةٌ ثم نَظْرَةٌ تُنَشــّي لَهِيـــبًا بيــن تلك السرَائِرِ
إذا سَكَنَ الحقُّ السريرةَ ضوعِفَتْ ثــلاثةُ أحـــوالٍ لأهـــلِ البصائِرِ
ولعلَّ أدقَّ ما عبَّر عنه الحلَّاج في الوجد قوله: «وما الوجد إلَّا خطرة ثم نظرة» وهو يعني بذلك أن الوجد عبارة عن «خَطْرَةِ ذكرِ الحقِّ تعالى» في سرائر أوليائه التي تغني الإنسانَ عن نفسه، فيتجلَّى له الله تعالى في نظرةِ حال فنائه عن نفسه، لأنه يبقى في ربّه، ولعلّه كلام قد يغفل عنه الصوفية المعاصرون الذين اتّبعوا طرائق تلك الثلة الملحدة في الدين، والتي لبِسَتْ لبوس الزهد لتصطاد البسطاء من الناس.
ويحذّر الحلَّاج من الركون إلى الذكر في الخلوات والاغترار به، لأنَّ رؤية الذكر حجابٌ عن المذكور، ولا يتم الكشف إلَّا بالغيبة عن كل ما عدا الله حتى عن «الكشف عن نفسه» كما يقول ابن عباد النقري في المخاطبات «رؤيتك للرؤية حجبة»... وفي هذا يقول الحلَّاج:
أنت المولِّهُ لي لا الذِّكْرُ وَلَّهَني حاشا لقلبي أن يعلقْ به ذكري
الذكرُ واسطةٌ تُخْفِيكَ عن نظري إذا تَوَسَّمَهُ من خاطري فكري
وإذا كان الحلَّاج يجعل الذكر، في هذين البيتين، وساطةً فإنه في البيتين التاليين يجعل هذه الوساطة كفرًا، فيقول:
إذا بلَغَ الصبُّ الكمالَ من الهوى وغابَ عن المذكورِ في سطوةِ الذِّكرِ
فشاهَدَ حــقًّا حين يُشهِدُهُ الهوى بــأنَّ صـــلاةَ العـــارفينَ مـــن الكُفرِ
وإذا كان الذكر والصلاة، ومظاهر العبادة جميعها وسائط وحجبًا دون رؤية الله تعالى، فإنَّ الكشف لا يتمّ إلَّا بالفناء عن النفس فناءً تامًّا. لذا يقول:
بدا لــكَ سِرٌّ طالَ عنــك اكتشــافُهُ ولاحَ صباحٌ كنتَ أنتَ ظلامُهُ
وأنتَ حِجابُ القلب عن سرِّ غيبه ولـــولاكَ لم يُطبَعْ عليــه ختامُهُ
وهكذا يتبيّن ذلك التنوع في الآراء التي اعتمدها الحلَّاج والتي كان لها أكبر الأثر في إغناء مذاهب التصوّف أو في تفصيلها وإظهارها على حقيقتها التي تماشي ذهنية الصوفية. أما كيف استطاعَ الحلَّاجُ الوصولَ إلى ذلك التنوّع فمردُّهُ إلى اطلاعه على الثقافات الشرقية خلال الرحلات والأسفار التي قام بها، إلى جانب اقتباسِهِ شيئًا من الثقافة اليهودية والنصرانية.
أما أسفارُهُ إلى الشرق فقد أفادته كثيرًا بما اطلع عليه من أنماط حياة الشعوب التي دخلَ بلادها ومعرفة معتقداتها المتنوعة فتأثَّر بها وأخذَ عنها ما يتناسب مع خطه الفكري ودعوتِهِ الصوفية. ولقد أظهَرَ تأثُّرَ الحلَّاج بالثقافات الشرقية بعضُ كتّاب الصوفية كالسهروردي الذي يقول عنه، بأنه قد أشارَ إلى رجعةِ النفس حين صاحَ:
أقتلوني يا ثقاتي إنَّ في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي وحــياتي في مماتي
ولعلَّ هذا أيضًا ما عناه الحلَّاج، وأرادَ الذهاب إليه، في قوله:
هيكليُّ الجسمِ نوراني الصّميم صَمَدِيُّ الروح ديّانٌ عليــم
عـــادَ بالـــروح إلى أربــابـــها فبقِي الهيكلُ في التُرب رَمِيمْ
وبالإضافة إلى ثقافته الواسعة تلك فقد كان الحلَّاج على علم بالكيمياء والطب والسحر...
ففيما يتعلق بالكيمياء والطب، نجدهما من العلوم المعروفة في المجتمع الذي عاش فيه الحلَّاج، بل كانا يُعدّان من العلوم الضرورية لكبار رجال عصره. وقد أخذ الصوفية بتلك العلوم حتى يستعينوا بها على نشر آرائهم، كما فعَلَ مثلًا ذو النون المصري ـــ وهو من كبار الصوفية ـــ الذي كان على معرفة بالكيمياء.
أما السحرُ فقد رأينا أنَّ الحلَّاج قد سافر إلى بلاد الهند كي يتعلم السحرَ ويدعو به إلى الله تعالى، وبما أنه لا يمكنه أن يدعُوَ أُناسًا إلى اعتناقِ عقيدة جديدة إلَّا إذا كان على علمٍ، أو على الأقل، على إلمام بعقيدتهم الأصلية، فإنَّ الحلَّاج يكون قد تعلَّم عقائد أهلِ البلاد التي زارها، واتبَعَ الوسائل التي يعتمدونها، ومنها السحر، كما هو مشهور عن البلاد الهندية. ويدلُّ على تعلمه السحرَ فعلًا ما أتى به من شعوذاتٍ وأفانين أذهلت الناس وخدعت أعينهم، مثل إظهاره للرائي ما يخيّل معه أنَّ الحلَّاج يقوم بإحضار أطعمةٍ في غير حينها، أو ما يستعمل من أساليب لمداواة المرضى، فقد روي أنه كان لنصر القشوري ولدٌ عزيز عليه أصابته حمَّى شديدة جعلت طبيبَهُ يمنع عليه أيَّ طعام أو أكل إلَّا التفاح، ولكن من أين يأتي الأب بالتفاح وهم في أواخر فصل الشتاء في بغداد؟ ويبدو أنَّ ذلك الطبيب كان على صلة وثيقةٍ بالحلَّاج، ولا يستبعد أن يكون من أتباعِهِ، لأنَّه بعد وصفته التفاح للولد المريض أشارَ على الأهل الاتصال بالحلَّاج علَّه يداويه، فذهبوا إليه يدعونه، فجاءَ إلى دار نصر وهي تغصّ بالوجهاء وكبار قادة الجيش، ففرح الحلَّاج لمرآهم لأنه كان يتوسَّمُ خيرًا بالعسكريين وهو يقول عنهم: إنهم أسرع رجال الدولة تحسسًا بآلام الشعب، ورغبةً بالإصلاح، ما لم يبتلِهِمُ الله بجنون العظمة...
جلَسَ الحلَّاج فاتجهت الأنظارُ كلُّها إليه. عندئذٍ طلب أن يأتوه بالمريض، فلما صارَ أمامَهُ، رفَعَ يديه إلى السماء مبتهلًا، والقوم واجمون، ثم لم يلبثوا أن أخذتهم الدهشة إذ رأوا تفاحةً جميلةً تظهر في إحدى يديه، فصاحوا: من أين لك هذه؟
فابتسم الحلَّاج وقال: من الجنة!
ولكن... ما إن شطر الخادم التفاحة وقدَّمها للغلام حتى وجَدَ قلبها فاسدًا فصرخَ الخادمُ: إن فاكهة الجنة غير متغيرة وهذه التفاحةُ فاسدة!
وهنا ظهر ذكاء الحلَّاج وقدرتُه في السيطرة على المواقف، إذ أجاب على الفور:
هذه التفاحة خرجت من دار البقاء إلى دار الفناء فحلَّ بها جزءٌ من البلاء.
هذا مثالٌ على شعوذة الحلَّاج وأفانينه السحرية وهو لم يتعلّم السِّحرَ، كما لم يتعلم الطب والمداواة بالأعشاب، ولم يلمّ بمطالع النجوم والتعزيم إلَّا بعدما اكتشف أنَّ في قرارة نفسه قوة مذهلة للتأثير في الناس. لذلك صمّم على إنمائها واستخدامها لمآربه التي كانت تساورُ نفسهُ، فاستطاع أن يغويَ كثيرًا من الناس وأن يفتنهم، حتى كَثُرَ من حوله المريدون والأتباع، ولكن نسيَ الحلَّاجُ أنَّهُ، وإنْ أفلح في سحر أعين الناس، خسر عند ربه خُسرانًا مبينًا، لقوله تعالى: [وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى] ...
ولعلَّ تلك الأفعال التي كان يقوم بها الحلَّاج، وما توافر له من معلومات كثيرة، جَعَلَتْهُ يدّعي بأنه صارَ قادرًا مقتدرًا، لا يعوقُهُ شيءٌ عن الإتيانِ بما يُريد من المعجزاتِ. لذلك تحدَّى معجزة الله الكبرى، عندما ادّعى، كفرًا وزورًا، بأنه قادر على التأليف من مثل القرآن، بل إنه قادر على معارضته.
فقد رويَ عن لسانِ عمرو المكي أنه كان يقول: «كنت أماشيه (أي الحلَّاج) في بعض أزقة مكة، وكنت أقرأ القرآن، فسمِعَ قراءتي، فقال لي: يمكنني أن أقول مثلَ هذا... ففارقته»!!! كما روي عن محمد بن يحيى الرازي أنه سمِعَ عمرو بن عثمان المكي يلعنُ الحلَّاج ويقول: «لو قدرت عليه لقتلتُهُ بيدي». فقال له: «إيش الذي وجَدَ الشيخ عليه؟ فقال: قرأت آيةً من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلف مثله، وأتكلم به». أما معارضته للقرآن فقد ذكرها صاحب (الطبقات الكبرى) في ترجمته للمكي حيث قال: «وحكى (أي المكي) أنه رأى الحسين بن منصور وهو يكتب شيئًا، فسأله: ما هذا؟ فقال: هوذا أعارضُ القرآن... فدعا عليه وهجره».
إذن، فهذا هو الحلَّاج يدّعي القدرة على التأليف من مثل القرآن، ويدّعي أيضًا معارضتَه!!! وبذلك يكون قد افترى على كتاب الله فكفر كفرانًا مبينًا. بل فاق كفرُهُ بذلك كفرَ الذي كذَّبَ بالقرآن وكان لآيات الله عنيدًا. ذلك: [إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ] .
فهذا الرجلُ المعانِدُ لآياتِ الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وهو الوليد بن المغيرة، استكبَرَ على أن يؤمِنَ بالدين الجديد، فحاقَ به الكفرُ، وكان مصيرُهُ جهنم على تقديره الكاذب. والحلَّاج استكبَرَ على الله تعالى حين ادّعى بأنه يؤلف مثل القرآن، وأنه يقدر على معارضته، في حين أنَّ الله سبحانه وتعالى جَعَلَ القرآن منزَّهًا عن عبث العابثين، وعَنْ طغْي الطاغينَ، فكان أمْرُهُ حسمًا نهائيًّا وجزمًا رادعًا لكل من تسوِّلُ له نفسُهُ أن يدّعي قدرةً على محاكاة القرآن أو الإتيان بمثله. لقد قال جلَّ وعلا: [قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ...
وهذا الأمرُ الإلهيّ، لم يكن تحدّيًا للإنسِ والجن فحسب، بل كان المعجزةَ القائمة أبدًا، التي أعجزت الخلائقَ كلها من الإنس والجنِ، فأقرّوا بعجزهم، إلَّا الحلَّاج فقد أبَى هذا الإِقرار لأنه فَكَّر وقدَّر، فقتل كيف قدَّر، ثم قتل كيف قدَّرَ!!!
هذا الاستكبارُ من الحلَّاج قد يكون دافعُهُ هَوَسَ نفسِهِ الذي طغى عليه، فزيَّن له أن يخالف أمرَ الله، بعدما أظهر مخالفتَهُ من قبل لتعاليم الأديان، والشرائع السماوية، وكأنه يريد أن يتّبع القاعدة التي تقول: خالفْ تُعْرَف... ولأيِّ شيء؟ حتى تزداد معرفةُ الناسِ به ويقبلوا عليه، هذا هو طموحُ الحلَّاج ـــ على ما يبدو ـــ الذي جَعَلَهُ يرتكب تلك الخطيئة القاتلة وهو يدّعي التأليف من مثل القرآن الكريم!!!
دعنا منه، فوالله لولا رجاؤنا بالله أن يَعصِمَ المؤمنين فلا يُؤخَذوا بنفاقِ الرجل وخداعه، لما عَرَضنا له، ولا لأمثاله من الصوفيين المدّعين، المفترين على الإسلام! والحق يقال: إنَّ أناسًا كثيرين من قبل، ومنهم بعض شيوخ الصوفية أنفسهم، رفضوا رفضًا قاطعًا ادعاءات الحلَّاج تلك، وعدّوها ـــ عن حق ـــ من الكبائر، فجعلوا يَدْعُونَ عليه، حتى قيل في الروايات: إنَّ ما أصابَهُ من صَلْب وقتلٍ، وما أنزل به من عذاب، إنما كان بفعل تلك الدعوات!!!
ولئن أنكَرَ جماعةٌ من الصوفية على الحلَّاج ادعاءاتِهِ الباطلةَ لأسبابٍ قدَّروها، فإنَّ شيوخًا منهم لا ينكرون عليه مُجمَلَ آرائه، بل ينقدون فقط الطريقة التي اتبعها للجهر بتلك الآراء الجريئة. لذا فإنَّ أصحاب الشطط هؤلاء، يرون أنّ ما قاله بصورة عامة، وما ادّعاه من اتحاد بالله بصورة خاصة (الذي أفصح عنه بعبارته المعروفة: أنا الحق) كان بنظرهم صحيحًا، لأنَّهم هم أنفسهم من معتنقي فكرة الاتحاد تلك.
فالصوفية، إذن، لم ينقموا على الحلَّاج بسبب آرائه، بل كان انتقادهم، أو لومهم له، على الطريقة التي أذاعَ بها تلك الآراء ونشرها بين الناس، حتى أفشى السرَّ الذي كاشفَهُ به مولاه، كما يزعمون. ويعترف أحدُهم، وهو الشبلي بذلك، فيقول: «كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلَّا إنه أظهرَ وكَتَمتُ» وقد روي عن الشبلي أيضًا أنه وقف على الحلَّاج وهو مصلوبٌ، فنظر إليه بأسًى ومرارة وقال: «ألم نَنْهَكَ عَنِ العالمين»!!!
فالشبلي يعترف بالباطنية الصوفية، لذلك يلوم صاحبَهُ على إظهار ما كان يجب أن يخفيه، لكنه يُقرُّ بأنه كانَ أحَرَصَ على كتمان الأسرار التي، إن ظهرت سافرةَ الوجهِ، فإنها تُضرُّ بالمذهب الصوفي وأتباعه.
على أنَّ الحلَّاجَ نفسه كان من دُعاة كتم الأسرار الصوفية عن كل من «لا يفهمها من العامة وأهلِ الظاهرِ» كما يزعم. وكان أيضًا من القائلين: «بأنَّ من أذاعَ تلك الأسرار فقد أخلَّ بآداب الطريق واستحقَّ وقوعَ العقابِ به». وهذا ما يظهر جليًّا في قوله:
إذا النفوسُ أذاعت سِرَّ ما عَلِمَتْ فكلُّ ما حَمَلتْ من عقلِها حاشا
مَــن لم يَصُنْ سِرَّ مَـــولاهُ وســيّدِهِ لم يــأمَنوهُ على الأسرار ما عاشا
وعاقــبوه على مــا كـــانَ مِنْ زلَلٍ وأَبدَلُوهُ مكــانَ الأُنسِ إيحاشــا
وجــانَبُوهُ فلــم يَصْــلُحْ لِقُــربِهِمْ لمّــا رأَوْهُ على الأســـرار نبَّاشــا
وإن قناعته تلك بضرورة الحفاظ على أسرار الطائفة وكتمانها عن العامة، هي التي دفعته إلى ابتداع طريقةٍ في القول تقرب إلى الألغاز والأحاجي في بعض الأحيان، كما فَعَلَ في لفظ اسم الجلالة (الله) حين قال:
أحْــرُفٌ أربَــعُ بها هــامَ قلبــي وتلاشَتْ بها همومي وفكــري
(ألِفٌ) تَأْلَفُ الخلائِق بالصُّنْعِ، (ولامٌ) عــلى المـــلامة تجـــري
ثـــم (لامٌ) زيـــادةٌ في المعــاني ثم (هاءٌ) بها أَهيم... أتدري؟!
يبقى أن نشير إلى أنَّ الحلَّاج، ربما كانَ صاحبَ مطامع سياسية، وأحلام للوصول إلى الحكم كي يتمكن من إدارة شؤون الناس، بعدما أفلح في أن يكون صاحب رأي، وذا أهمية في حياة الصوفية. وقد يكون اتخذ لذلك وسيلةً تلك الآراء التي كان ينشرها بين الناس علَّها تجمع كثيرًا من المريدين والأتباع الذين يؤيدونَهُ، ويناصرونَهُ فيما يقوم به أو يقدمُ عليه. وبالفعل، عندما نجح الحلَّاج في استمالةِ الناس إليه، اعتبر في فترة من الفترات بأنه أصبح ذا خطر سياسي يتهدّدُ الحكم القائم.
أما الطريقة العملية التي اتّبعها في ذلك فهي إقناع المريدين والأتباع بفائدة الصلوات، ونصائح الأولياء من الأبدال (وهم الأقطاب الروحيون للعالم عند الصوفية) ورئيسهم المحجوب (ويعني به القطب).
وظنَّ أولئك الناسُ أن الحلَّاج هو الرئيس المحجوب، كما قال الأصطخري: «إن كثيرًا من علية القوم رأوا حينئذٍ في الحلَّاج أنه هو ذلك الرئيس المحجوب الملهم، وكان لهم معه مراسلات فيها هداية روحية، مما هيَّأ له الخوضَ في السياسة العامة».
وهكذا يتبيّن أنه كان للحلَّاج آراءٌ كثيرة ومتنوعة. وهي على كثرتها أوردها، في الغالب، شعرًا حتى كان أول صوفيٍّ له ديوانٌ شعريّ، وأثرُهُ في الشعر الصوفي يبرز بوضوح في جميع الموضوعات التي طرقَها، ولا سيما في التجديد الذي أدخله على مسائل الصوفية، والذي لم يسبقه إليه أحَدٌ من صوفية عصره.
ففي الموضوعات الصوفية المعروفة أفاض في الحب الإلهيّ بخاصة، الذي كانَ طابعَ القرن الثالث الهجريّ، وعنه نشأت مسائل التصوف الأخرى أو ما يُدعى بعقائد الصوفية كالاتحاد، والحلول، والفناء، والجمع، والكشف وما إلى ذلك.
أما في الموضوعات التي جدَّد فيها فقد ترك شعرًا وفيرًا في الاتحاد، ووحدة الأديان، وفي الدين الخاص الذي اعتنقهُ خلافًا لمعتقدات سائر الناس.
وبذلك يكون الحلَّاج قد تناول كل موضوعات التصوّف من غير أن يؤثر بعنايته موضوعًا على آخر، في حين أن كل شاعر صوفيّ غيره كان يهتَمُّ بموضوع واحد، ولا يُعرّج على غيره إلَّا لِمامًا.
وبتناوله لموضوعات التصوف جميعها، استطاع الحلَّاج أن يوجد تحديدًا لكل موضوع منها، كما استطاع أن يقيم التمايز بصورة نهائية بين الشعر الزهديّ والشعر الصوفيّ. مع العلم أنه ليس في شعره غير مقطوعتين عن الزهد، وإحداهما منسوبة إلى غيره والمرجح أنها ليست له، في حين أن باقي ديوانه من الشعر الصوفيّ.
ذاك هو الحلَّاج: في آرائه ومعتقداته، وفي حياته ومماته آثر الصوفية مذهبًا وطريقًا، فاشتطَّ به الفكر، وغلب عليه خيال الادّعاء حتى عصى الرحمن، ونبذَ الأديان، واعتنقَ عقيدة واحدة هي عقيدة الكفر والزندقة التي أدّت به إلى ذلك المصير المشؤوم الذي كتبه الله تعالى عليه، وهو الصلب والقتل.
ونقول في خاتمة الكلام عن الحلَّاج، لإِخواننا المسلمين، ثبتهم الله تعالى بالقول الثابت، ما قاله الله تعالى لرسوله الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم: [وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ] .
أجارنا الله تعالى، وكلَّ أخٍ مسلم، من ذلك، فإنما أغرى تلك الطائفة بذلك المروق، جهلُ المريدين والسُّذج من بسطاء الناس، وسكوتُ معظم العارفين، وتغاضي السلطان عمَّن عصى الرحمن الرحيم.





الشِّعر الصوفي
في القرن الثالث الهجري

الشِّعْر الصوفيّ
في القرن الثالث الهجري
بعدما تحدثنا عن شخصيات ثلاث من الصوفية المتقدمين، وهم: رابعة العدوية، أبو يزيد البسطامي، والحلَّاج، وأظهرنا أهم الأفكار التي اعتنقوها والتي كانت تدور حول العشق الإلهيّ، ووحدة الوجود، وعقيدة الحلول، وبعد أن بيّنا آثار تلك الأفكار على أصحابها إذ جعلتهم يسنُّون لأنفسهم نمطًا خاصًّا من الحياة يقوم على المجاهدات والرياضات، أو على الادِّعاءات والشطحات، وبعد أن أكدنا على تناقض تلك الأفكار مع الفطرة الإنسانية، وعدم توافقها مع الكتاب والسنَّة، بل مخالفتها الصريحة للإسلام.
بعد ذلك كله، كان لا بد من تسليط الضوء على الشعر الصوفيّ خلال القرن الثالث الهجريّ حتى نتمكن من إبراز ملامح ذلك الشعر، والأنماط التي ظهر فيها، والمواضيع التي عالجها، بسبب ما كان لظاهرة التصوف من أثَرٍ كبير على الشعر العربيّ إثْرَ اشتدادِ الاختلاط بالأمم الأخرى غير الإسلامية إبَّان العصر العباسيّ.
فالشعرُ بوجهٍ عام فهمه العربُ القدامى على أنَّهُ الألفاظ والمعاني البيانية والصور الحسيَّة. ومع ذلك فقد روى لنا الشعر العربي أَنساب العرب وتاريخهم وأيامهم ووقائعهم، فكان بذلك محمدة الأدب، وعلم العرب الذي اختُصت به من دون سائر الأمم. قال أبو هلال العسكري: «إن الشعر ديوانُ العرب، وخزانةُ حكمتها، ومستنبطُ آدابها، ومستودعُ علومها... وله مراتب عالية في موسيقى الألفاظ وجمالها». ومن مراتبه العالية التي ذكرها العسكري: «النَظْمُ الذي به زِنَةُ الألفاظ وتمامُ حسنها، وليس شيءٌ من أصناف المنظومات البشرية يبلغ في قوة اللفظ منزلة الشعر» والشعر العالي هو ما توخى الصدق أبدًا، كما عبَّر عن ذلك شاعر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حسان بن ثابت، حين قال:
وإنَّ أشعرَ بيتٍ أنتَ قائِلُهُ بيتٌ يقالُ إذا أنشدتَهُ: صَدقَا
وهذا حقّ فعلًا، لأن: «خير الشعر ما دلَّ على حكمةٍ يقبلها العقل، وأدبٍ يُحَبُّ به الفضلُ، وموعظةٍ تروِّضُ جماحَ الهوى» على حد تعبير الجرجاني.
أما من حيث البنية فإنَّ ابن رشيق القيرواني يُعدّ الشعر «اللفظ والوزن والمعنى والقافية معًا»، وأنَّ الشاعر «إنما سمِّي شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليدُ معنى ولا اختراعُه، أو استظرافُ لفظ وابتداعُه كان اسمُ الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة».
وعلى هذا يمكن القول بأن الشعر من عهد ابن سلّام إلى عهد ابن خلدون ـــ وعلى كثرة المجاري الفكرية التي تغلغلت في الشعر العباسي ـــ لم يكن ليتجاوز، بصورة عامة، الأوزان الموسيقية، والقافية، والألفاظ الجيدة، والصور الحسيَّة وما فيها من تشابيه واستعارات، أي بخلاف ما يراه الجرجاني من أن خير الأدب ما حرَّك الأخلاق، ونشَّط العقل، وأبرز العواطف الإنسانية.
وفي متابعةٍ للوقوف على مضامين الشعر العربي في تلك الحقبة التاريخية، نجد أن معظم ذلك الشعر في عهد الأمويين والعباسيين، كان بعيدًا من الفكر والواقع، منصبًّا على مدح الخلفاء والأمراء. وكان همُّ الشاعر أن يُعنى بالألفاظ البديعيَّة والصور البيانيَّة، من غير أن يتجاوز المحسوس الجزئي. وهذا ما حمل النقاد القدماء على اعتبار الشعر «صناعة يجب أن يتوخى فيها الشاعرُ الإجادةَ اللفظية، والإتقانَ المعنوي» لذلك لم يكن للشعر القديم حظٌّ كبيرٌ في التأمل الفكري، والتحسُّس بالواقع، لكي يرتفع فوق المصالح الذاتيَّة الآنيَّة. وظل معظم الشعراء في العصور العربية القديمة لا يصوِّرون إلَّا ما يرونه ببصرهم لا ببصيرتهم.
إنَّ هذه اللمحة الخاطفة عن الشعر القديم، وخصوصًا إبّان العصور العباسية، تدفعنا إلى سبر غور الحياة الفكرية من مجمل نواحيها يومذاك، حتى نهتدي إلى الأسباب التي دعت إلى نشوء الشعر الصوفي.
من الرجوع إلى حافظة التاريخ نجد أن الحياة في المجتمع الإسلامي لم تكن ذات طابع واحد في مختلف مراحل تاريخها، بل كانت متعددة المظاهر، وتعرّضت لمؤثرات خارجية كثيرة استجابت لبعضٍ منها، ولم تستجب لبعضها الآخر، إلَّا إنها، في الوقت نفسه، كان لها هي الأخرى آثارها في النواحي الفكرية، وهي الآثار التي لا تزال قائمة، في كثير منها، حتى اليوم.
أما أبرز الاستجابات للمؤثرات الخارجية، فكان ما أُخذ عن الفلسفات والثقافات المنتشرة، عن طريق النقل والترجمة، ثم القيام على مناقشتها مناقشة فكريّة رائعة، مبنيّة على الكتاب والسنَّة حتى غدَت لنا نوعًا من المعارف التي لا يُستهان بها. وهذا ما عبر عنه الجاحظ معترفًا بفضلها عندما قال: «لولا ما أودَعَتْ لنا الأوائلُ في كتبها، وخلَّدت من عجيب حكمتها، ودوَّنت من أنواع سِيَرِها حتى شاهدنا بها ما غابَ عنا، وأدركنا ما لم ندركه إلَّا بهم، لَمَا حَسُنَ حظُّنا من الحكمة، ولَضعف سببُنا إلى المعرفة». وتبقى الفلسفة اليونانية ولا سيما الأفلاطونية الحديثة، من خلال ذلك النقل، وحدها ذات التأثير الكبير في فلاسفة ذلك العصر، وفي علماء الكلام والمعتزلة منهم بخاصة، وفي الصوفية...
فأما الفلاسفة فقد اشتهروا بما نقلوا عن الكتب اليونانية، وبما أقدموا عليه من دراستها وتحليلها كي يستمدوا منها ما كان يعينهم على تأليفهم. وكان أكثر ما أخذوه عن كتب أرسطو، والأفلاطونية الحديثة. وأشهر تلك الطائفة من الفلاسفة كان الكندي والفارابي وابن سينا في المشرق، وابن باجه وابن طفيل وابن رشد في المغرب. وفلسفتهم هذه ظلت ـــ كما يقول (دي بور ـــ De Boer): «انتخابية... قوامها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق».
وعن تلك الفلسفة التي انتشرت بشكل واسع في العصر العباسي، نشأ شيء من الشعر الفلسفي يقوم على البحث والتحليل كقصيدة «النفس» لابن سينا، وغيرها من القصائد التي عبَّر فيها الفلاسفة عن أفكارهم ومعتقداتهم. كما نشأ أيضًا نوع من القصص يعالج مواضيع فلسفية بحتة مثل قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل الأندلسي، التي هي عبارة عن تحليل وتوضيح للفلسفة الأفلاطونية الحديثة، ومعالجة وتبيان للاستشراق الصوفي.
ومثل الفلسفة نشأ في العصر العباسي علم الكلام، لكنه تفرق إلى مذاهب عدّة أشهرها الأشعرية والمعتزلة والجبرية.
ولكن ما يلاحظ هنا أن الحياة الفكرية، بصورة عامة، كانت إبّان تلك الفترة تُساير الخليفة وأهواءه، فإن كان من أنصار الفكر والبحث، وكان راغبًا في تشجيع العلوم والأدب، عزَّز تلك الحياة ورفع شأنها، وشجَّع فيها الترجمة والنقل؛ وإن كان من أعدائها، حاول القضاء عليها وطمْس آثارها، وتكفير أهلها. بيد أن حريَّة الفكر بلغت أوجَها في عصر المأمون، بسبب ما كان لهذا الخليفة من نزعة عقلية، ومن ميل إلى مذهب المعتزلة القائلين بوجوب التوفيق بين النصوص الدينيَّة وأحكام العقل، فاندفع نحو فلسفة الإغريق يبحث عما يبرر موقفه أو يؤيد آراءه.
وفي خضمّ تلك الحياة الفكرية، كان لا بد للتصوُّف من أن ينشط، ويتخذ مكانة خاصة به. فالصوفية لم تكن ربيبة العصور العباسية، لكنها اختمرت فيها، بما أدخل عليها من أفكار هلِّينية وفارسيَّة وهنديَّة حتى أصبحت حركة قائمة بذاتها. وكانت هذه الحركة الصوفية: «حركة معاكسة للنظر العقلي في الدِّين، وحصره في قوالب لا تتغيَّر» كما عبَّر عن ذلك فيليب حتي. أما الصوفيون ـــ على ما وصفهم عبد الله بن علي السراج الطوسي في كتابه «اللمع في التصوف» ـــ فهم «مع الله في الانتقال من حال إلى حال، (وإن الله) معهم أين ما كانوا، وإنه حاضر لا يغيب، وهو بكل مكان لا يسعه مكان ولا يخلو منه مكان». وبهذا دعَوا إلى الحلولية، وواجب الاتصال بالله، فهو عندهم كل الكمال، وكل الجمال، وكل الحق، لذا فقد عُني شعرهُم بمناجاة الله، والتعلق به تعلقًا شديدًا، حتى تنتهيَ الحال بالشاعر إلى القول بالاتحاد.
أما السبب في نشوء هذا اللَّون من الشعر فيعود بشكل خاص إلى ما وصلت إليه الخلافة العباسية من ضعف، وتجزئتها إلى ممالك عدّة، حتى أصبحت نهبًا للغزاة والفاتحين. وقد عظم فيها نفوذ الأتراك والإيرانيِّين المسلمين، وأصبح الخليفة العباسي آلةً في أيديهم، فراح عندها الشعر يمجِّد الله بعيدًا من الفوضى والضوضاء.
وهكذا يتبين أن الشعر العربي، بعدما اعتاد حياة القصور الارستقراطية التي كانت تحميه من العوز والفقر، وبعد أن تلاشت تلك القصور، وذهب أهلها، وحل فيها الدمار، كان لا بد من أن يتَّجه به الشاعر إلى ناحية أخرى للتعبير عن أفكاره ومشاعره. وحيث إن بعضهم وجد في الصوفية الملاذ الذي يعوزه فقد التجأ إلى الصوفية، وراح ينشد شعره في الحب الألهيّ، ومناجاة الله تعالى.
والشعر الصوفي، بوجه عام، ليس فيه محتويات فكريَّة من نفسه، لكنه يستطيع أن يتمازج مع المادة التي تقدمها كل المذاهب الفلسفية، والديانات المختلفة، وإنما في إطار العاطفة الصوفية التي تمتلك على الصوفي كل حواسه، إنه، لما كانت العاطفة منبعها القلب، فقد جعل الصوفية القلب أهم من العقل، بل إنَّ القلب عندهم هو كل شيء، وهو، كما يزعمون، يجب أن يكون «عرشًا للرحمان». لذا فقد صرَّحوا في عدّة مناسبات بعدم جدوى العقل في قطع الطريق إلى الله سبحانه، وعلى هذا الأساس كان الشعر عند الصوفية تعبيرًا عن خلجات نفوسهم، فظهرت فيه فنون متنوعة كالمناجيات، والاستغاثات، والأوراد، والأذكار، والمدائح النبويَّة، وما إلى ذلك من ألوان شعريَّة شاعت في أوساطهم.
والميزة الظاهرة في الشعر الصوفي هي خلوُّه من التزلف إلى أصحاب الشأن، والتملُّق إلى ذوي النفوذ، كما هي الحال في فن المديح لدى بعض الشعراء، إذ كان يقوم هؤلاء بالتسكع على الأبواب، أو الاستجداء في مجالس الملوك والأمراء والوزراء.
ونتيجة لتلك الميزة، لم يقم الشعر الصوفيّ على الرغبة والرهبة، بل كان قصدُه التصوف نفسهُ تلبيةً لنزعةِ حبِّ التعبير عما يجول في النفس من خواطر، وما يجيش فيها من مشاعر، وبذلك ظهر على شكل أبيات منفردة، أو على شكل مقطوعات صغيرة من خلال معالجة مواضيع غير صوفية، ثُم تطور إلى مقطوعات كبيرة، بل إلى قصائد تتناول المواضيع التي تعبر عن الذوق الصوفيّ البحت، والمشاعر الصوفية الخالصة. وقد تنوعت مواضيع الشعر الصوفيّ، إلّا إن أهمها كان في «الوجد» و«الحب الإلهيّ» و«وحدة الوجود» التي اختلطت في كثير من الأحيان بالحلول أو بما يسمَّى عندهم «جمع الجمع»، وهي المواضيع التي نورد بعض ما قيل فيها من شعر صوفيّ، خصوصًا فيما يعود إلى الحب الإلهيّ وما نشأ عنه من غزل ورموز.
فأما الوجد، على حد تعبير أبي سعيد بن الأعرابي: «فهو رفع الحجاب، ومشاهدة الرقيب، وحضور الفهم، وملاحظة الغيب، ومحادثة السرّ، وإيناس المفقود، وهو فناؤك من حيث أنت». لذلك فقد كان الوجد عند الصوفية انفعالًا نفسيًّا قويًّا، يحركه السماع، ويسيطر على الإنسان حتى يجعله في شبه غيبوبة عن ذاته، وهذا موافق لقول الغزالي: «ثم يثمر الفهمُ الوجدَ، ويثمر الوجدُ الحركةَ بالجوارح». وكثيرًا ما تكون هذه الحركة نوعًا من الرقص يقوم به صاحبه بصورة لا إرادية، فيأتي هذا الرقص متناسبًا مع الألحان التي يسمعها أو الأشعار التي ينشدها، أي بمعنى آخر: يكون الرقصُ عند الصوفيّ استجابةً غير إرادية لما توحيه الألحان.
سئل يحيى بن معاذ الرازي (المتوفى عام 258هـــ) عن الرقص، فقال:
دَقَقْنا الأرضَ بالرقـــ ـــصِ على غَيْبِ مَعَانِيكَا
ولا عَيْبَ على رقْصٍ لِـــعَبْـــدٍ هــــائِـــــمٍ فِيكا
وهــــذا دَقُّنـــــا للأر ضِ إذْ طُفْنــــا بِواديـــكا
هذا الرقصُ الصوفيّ، يستوقف المؤمن المفكر ليقول للصوفيين: أليس الأَوْلى بهم أن يدقّوا الأرض بركبهم وأيديهم وهم قائمون، راكعون، ساجدون بين يدي الخالق ـــ سبحانه وتعالى ـــ بدلًا من دقها بالرقص كفعل من لا يعرف شعائر العبادة التي أنزلها الله العظيم على لسان نبيّه الكريم؟!
ثم ألم تكن هذه حالُ المشركين الذين كانوا يتعبّدون الله تعالى عند الكعبة الشريفة: رقصًا وغناءً، وتصفيقًا ومكاءً ؟!
وهلَّا تفكَّر الصوفيةُ بدلًا من الرقص وضرب الأرض بالأرجل، في عظيم خلق السموات والأرض، وفي أنفسهم، وفي كل ما يحيط بهم من آيات الله، بما فيها من دقة الصنع وعجيب الخلق، حتى يكون لهم الثوابُ الذي أُعِدَّ للمتقين العارفين؟
وهلَّا شَغَلَهُمْ شأنُ أمتهم الإسلامية بدلًا من الترنّح يمنةً ويسرةً حتى تأخذهم حالةٌ من النشوة والارتخاء فلا يعودوا يدرون ماذا يفعلون، ويغيبون عن الحقيقة والواقع؟
إنَّ أشدَّ ما يثير العجب أن يُستخَفَّ عبدٌ صالحٌ وقورٌ عند ذكر الله تعالى، فيتعدّى طوره ثم ينقلب إلى غِرٍّ طائش يقفز وينطّ!!! وهذا، والله، ليس من صلاحِ الدين ولا من وقار النفس، في شيء، بقدر ما هو نزعٌ من الشيطان الذي يستخفُّ الذين لا يعلمون. هذا فضلًا عن أن تصرّفات كريهة مثل هذه لا تكون إلَّا تغطية لشذوذٍ أو انحراف عن طريق العبادة الحقة التي لا نجد فيها رقصًا ولا دقًّا، ولا طبلًا ولا زمرًا، وإنْ هي إلَّا تغطية بدائية لا تخفى على البسطاء، فكيف بالعقلاء الذين يرون في مظاهرها مروقًا من الدين، أيَّ مروق؟!
فلو تبصّرنا في شعائر الإسلام، ومنها الصلاة، والصوم، والحج، لوجدنا أنَّ أيَّ شعيرة من هذه الشعائر تقودُ إلى الطريق المستقيم، والسلوك القويم، بحيث تراعي تربية البدن، وتهذيب النفس، وتنوير العقل، وتقوية الإرادة، وتجعل التَّماسُك الماديّ والمعنويّ قويًّا عند الإنسان
لو أخذنا الطواف في بيت الله الحرام، مثلًا، لوجدنا أنه يشدُّ الإنسان الطائف إلى حالة من الشعور الذي يرتقي بصاحبه إلى الخشوع والاطمئنان لذلك الخالق العظيم الذي هداه النجدين فينبري ملبيًا، مسبّحًا، مهللًا ومكبّرًا، وتراه في أجواء حجّه خاشِعَ القلب، قويَّ الإيمان، ذليلَ النفس بين يديْ عظيم السموات والأرض، لا ينفعل بتهريج، ولا يأخذه تصايحٌ، بل يعيش بين الرهبة والرغبة، ويمتثل لحسن الأدب في الدعاء والابتهال، مناجاته إقرارٌ بالعبودية، وتسبيحه انعتاقٌ من أدران الدنيا، وتكبيره تعظيمٌ لربِّهِ الذي لبَّى دعوتَهُ، فحجَّ إلى بيته، وطاف بأركان هذا البيت يلتمس أمنًا من الله تعالى الذي جَعَلَ بيته مثابةً للناس وأمنًا... أما أن يُلبّيَ، فيحجَّ ويطوف رقصًا وضربًا على الأرض بالأرجل، أو هزَّ الرقبة والأكتاف إلى حالة الترنّح، فهذا ليس حجّ المؤمنين الصادقين بل حجُّ الذين [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً] وهؤلاء هم المشركون: [الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا] . فإذا كانت تلك أحوال الصوفيين في الرقص، فلا عَجَبَ إنْ كانوا يتواجدون على الشعر أكثر من تواجدهم على القرآن... فهذا الحسين بن يوسف أحد كبار رجال التصوف، كما نقل القشيري عن لسانه، يقرأ في المصحف فلا يهتزُّ لذكر الله تعالى، ولكن يأتيه صوفيٌّ وينشده هذا البيت من الشعر:
رأيتــك تبني دائمًا في قطيعتــي فلو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
فإذا به قد تصايح وبكى ثم قال: «يا بنيّ لا تلم أهل الرأي على قولهم إن الحسين بن يوسف زنديق! فها أنا وقت الصلاة وأنا أقرأ القرآن فلم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليَّ القيامة بهذا البيت الذي أنشدت»!!!... وأعنف من هذا قول التلمساني الصوفيّ وقد عاتبه بعض الناس على إقراره كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي، وفيه ما فيه، فقال وهو يميل بعطفه كبرًا: «القرآن كله شرك، وإنما التوحيد من كلامنا»!!!
ويعلّل الغزالي هذا التواجد للصوفية على الشعر من دون القرآن بالأسباب التالية:
1 ـــ إن آيات القرآن لا تستوعب جميع أحوال المستمعين.
2 ـــ إن القرآن محفوظ ومكرر على الأسماع، والتكرار من دواعي ضعف أثره في القلوب.
3 ـــ إن لوزن الكلام تأثيرًا خاصًّا في النفس.
4 ـــ إن الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفوس بالألحان، والألحان من شأنها أن تغيِّر في أوزان الكلام فتمد المقصور وتقصِّر الممدود، وهذا غير جائز في القرآن.
5 ـــ إن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد إيقاعات وأصوات أُخَر موزونة خارج الحلق، كالضرب بالقضيب والدفّ، وهذا ما يقوّي التأثير في النفس، وهو لا يجوز في القرآن.
6 ـــ قد يغني المغنّي ببيت لا يوافق حال السامع، فينهاه، ويطلب أن يُغنّي بيتًا آخر، وهذا لا يجوز في القرآن.
7 ـــ إن القرآن صفة من صفات الله تعالى، لأنه كلامه، ولو كشف للناس ذرةً منه لَما أطاقوا، ولتحيَّروا، ودهشوا، في حين أنه يوجد توافق بين الأشعار والألحان، لأنَّ فيهما جميعًا شيئًا من الحظوظ البشرية.
وهذه الأسباب التي أوردها الغزالي، بعضها غير معقول وغير مقبول، وبعضها الآخر تغلب عليه روح الاعتذار عن الصوفية، كما تغلب على معظم الناس في هذا الوقت روح تبرير الغناء والرقص والسُّكر وغيرها من الموبقات، فإنه لو خطر لأحد ما أن يدافع عن كل باطل لوجد له كلامًا ميسورًا طيِّعًا، وإن كان غير معقول وغير مقبول عند كثيرين غيره. أما أن يُدفع الحقُّ بالباطل فهذا مما لا يستقيم فيه كلام كما فعل الغزالي حين دافع عن شذوذ بعض الصوفيين. وأيًّا ما كان الأمر، فالصوفية في سماعهم آثروا الشعر على القرآن، واختاروه ليعبّر عن أحوالهم ومواجيدهم، لقد استعانوا بالشعر الحسي في السماع، واضطلعوا بمهمة الرواية إلى جانب مهمة الإنشاء، وبذلك أصبحت مجالس السماع عند الصوفية، من بعض الوجوه، ندواتٍ للأدب الصوفي البعيد من الدين كلّ البُعد.
ويتخذ الشعر الحسيُّ عند الصوفية معنًى دينيًّا ـــ كما يظنُّون ـــ أو تعبيرًا عن الوجد. فقد روى صاحب «مصارع العشاق» أنّ صوفيًّا تواجد على أبيات لعبد الصمد بن المعذل وهي:
يا بديعَ الـــدَّلِّ والغَنَجِ لَكَ سُلطانٌ على المُهَجِ
إنَّ بيتًا أنـــتَ ســـاكنُهُ غيرُ محتاجٍ إلى السُّــرُجِ
وجهُكَ المأمولُ حجتُنا يومَ يأتي الله بالحُـــجَجِ
ثم قال: «والصوفية إذا قالوا: «وجهك المأمول» تقوَّلوه إلى ما لَهُم في ذلك من المعاني» وهو يقصد بذلك المعاني التي يضمرونها في نفوسهم.
ومثل الوجد كانت المناجاة عند الصوفية، وقد نشأت هذه المناجاة في أثناء الخلوات التي كان الصوفية يعقدونها، والتي كانت ذات تأثير كبير في نفوسهم، إذ كانوا يحرصون على أن تؤديَ الخلوةُ مهمتَها الكاملة وهي الارتفاع بالنفس إلى الملكوت الأعلى. لذا فقد رأوا أن المناجاة التي يردّدونها في خلواتهم، لا بد، ولكي يقوى تأثيرها، من أن تكون ذات قيمة أدبية، فظهر في الشعر الصوفيّ لونٌ جديد أطلقوا عليه تسمية: المناجاة...
ومن الأمثلة على هذه المناجاة، ما قاله الشبلي:
مِحـــنَتي فِيـــكَ أنَّنــي لا أُبــالي بِمِــحْنَتِــي
يا شفائي من السّقــا مِ وإنْ كنـــتَ عِلّتي
تُبتُ دَهرًا فَمُذْ عَرَفــ ــتُكَ ضيّعتَ تَوْبَتي
قُربُكُمْ مِثلُ بُعدِكُــمْ فمتى وقتُ راحتي
ومنها مناجاة النوري بقوله:
إنّي اتَّقيتُك لا مَهَـــا بَـــــةَ مِــنْ مُحاذرَةِ المَصيرِ
أنَّى وكيفَ وأنتَ لي إلْفٌ يفوقُ مَدَى السَّميرِ
نُوفي السرَّائِرَ سِرَّهــا وَيَحُوط مكنونَ الضميرِ
لكن أُجِلُّكَ أن أُجـــ ـــلَّ سِوَاكَ للحظِّ الحقيرِ
وأما الحب الإلهيّ فقد كان له النصيب الأوفر في الشعر الصوفي، وقلّما تخلو مقطوعة صوفية من أثر ذلك الحب، وقد رأينا كيف أنّ «الحب الإلهيّ» نشأ عند رابعة العدوية، ثم راح يتطور يومًا بعد يوم، حتى صار «عشقًا إلهيًّا» ورأينا فعال ذلك «الحب» و«العشق» عند البسطامي والحلَّاج.
ونظرًا إلى ما كان للحب الإلهيّ من تأثير في الذوق الصوفيّ ومشاعر الصوفية فقد أدّى دورًا مهمًّا في أشعارهم حتى لَيمكن القولُ بأن كثرة هذه الأشعار إنما تعود بسببها إلى «الحب الإلهيّ».
فهذا إمام العاشقين، ذو النون المصري (المتوفى عام 245هـــ)، كان من السباقين الأوائل إلى نظم الشعر الصريح في الحب الإلهيّ، وذلك عندما خاطب ربه قائلًا:
حبُّـــــك قــــد أَرّقَنـــي وزادَ قلــــبي سَــــقَــمَا
كَتَـــــمْتُهُ في القــــلــب والأحشاء حتى انْكَتَمَا
لا تَهــتِكِ السِّـــــــــتْرَ الذي ألْبَسْتَني تكَرُّمــا
ضيّعتُ نفسي سيدي فَــــــــــرُدَّها مُسَــــــلّما
ولكي يعبّر عن هواه الذي يحيله أقرب المقربين إلى الله تعالى فإنه يقول:
اطلُبُوا لأنفسِكُــــم مثلَ ما وجدتُ أنا
قد وجدتُ لي سَكَنًا ليس في هواه عَنَــا
إن بَعُدْتُ قَرَّبَنــــــي أو قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَـــا
ونحن نلاحظ أنَّ هذا الشعر لذي النون قد نظم على البحر القصير مثله مثل معظم الأشعار الصوفيّة التي نظموها على هذا البحر. ولعلَّ هذا النظم ناجم عن تأثير الانفعالات النفسية، والنزوات العاطفية، والأحوال الذوقية التي كانوا يعيشونها، وهي انفعالات وأحوال كانت تعرض لهم في أثناء ما يسمونه «السُّكر الروحيّ» بحيث لا تتوافر لهم القدرة على الصنع ليأتوا بالبحور الطوال، ما داموا في حالة معاناة متناهية من جراء تلك الأحوال.
والسُّكر الروحيّ عندهم هو نوع من الحب الذي برَّح بهم وجدُهُ حتى رأوه بمنزلة الشراب الإلهيّ.
كتب يحيى بن معاذ إلى البسطامي يقول: «سكرتُ من كثرة ما شربت من كأس المحبَّة» فكتب إليه رادًّا:
«غيرُك شربَ بحار السماوات والأرض وما روي بعد، لسانه خارج من صدره وهو يصيح:
العطشَ... العطشَ... وأنشد البسطامي في ذلك:
عجبت لمن يقول ذكرتُ ربِّي وهل أنسى فأذكُرُ ما نَسيتُ
شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ فما نفد الشرابُ وما رَوِيتُ».
وفي بيان تأثير كأس المحبة، قال أبو حفص النيسابوري: «من تجرع كأس الشوق يهيم هيامًا لا يطيق، ولا يفيق منه إلَّا عند المشاهدة» وكان ذو النون يقول: «لم أرَ أجهل من طبيب يداوي (سكرانًا) في وقت سُكره»!...
وقد أكثر المتصوفة من استعمال كلمة «سكر» حتى صارت من مصطلحاتهم الفنية، وفي بيان شرحهم لحقيقة سكرهم، فرقوا بينه وبين الغيبة، فقالوا: «الفرق بين السكر والغيبة، أن الغيبة تكون بوارِدٍ من ذكر عقاب أو ثواب ينشآن من شدة الخوف، أو قوة الرجاء، وأما السكر فلا يكون إلَّا لأصحاب المواجيد. فإذا كوشِفَ العبدُ بنعوت الجمال، حصل له السكر، وطَرِبَ الروحُ، وهامَ القلبُ»... أي إن الغيبة حال أولئك الذين ينظرون إلى الآخرة فيعبدون الله لأنهم يرجون رحمته ويخشون عذابه، أمّا السكر فحالٌ خاصّة بأهل المحبة الذين تعلقت أرواحهم بالحق سبحانه، فوجدوا في مشاهدة جماله جنَّتهم، وفي حجبهم عنه عذابَهم.
إنَّ مثل هذه المقولة ليست إلَّا نوعًا من الاصطلاحات الصوفية، ونحن لا نعلم كيف يستقيم معهم ذلك التفريق بين الحالين: الغيبة والسكر، فلو حاولنا القبولَ ببعض ما يبدون لكان العقل يقضي بأن من يكاشَفُ بنعوت الجمال الربانيّ ينبغي له أن تأخذه الهيبة والخشية، وأن يضعف من تجلّي العظمة التي ما بعدها عظمة، مثلما صعق موسى، عليه السلام، عند جبل الطور من خشية الله وخرَّ مغشيًّا عليه. كما ينبغي له أن يخشع قلبه وتلين نفسه، ويلفُّه جوٌّ إيمانيٌّ رهيب كذلك الذي كان يلفُّ النبيَّ محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، عند نزول الوحي عليه. أما أن يسكر من شدة الوجد، وينتشي بسكره ويتلذّذ! فهذا ادعاء عن حالةٍ ما رأوها ولا عرفوها، والدليل على ذلك أنهم ادّعوا الحبّ الإلهيّ خيالًا وتصورًا لا يمتّان إلى الواقع بصلة، وربَّما تبريرًا لعواطفهم التائهة، حتى نشأ عن ذلك الحب نوع من الغزل الصوفيّ الصريح. كما جاء في غزل يحيى بن معاذ الرازي الذي يقال إنه كان من أسبق صوفية القرن الثالث إلى الإنشاء في هذا الغزل الصوفيّ. ويظهر ذلك في هذه الأبيات المليئة بالحب الصريح لله تعالى:
طربُ الحب على الحـب مـــــع الحــــب يــدوم
عــجبًا مِمَّـــنْ رأينـــــــــا عــــــلى الحـــب يــلوم
حول حب الله ما عشـــ ـــت مع الشوق أحوم
وبـــه أقــــعد ما عشــــ ـــت حــيـــاتي وأقـوم
فهذه الأبيات واضحةٌ في الحب الإلهيّ والتفاني فيه. وقد اختار لها صاحبها بحرًا قصيرًا يتناسب «والسكر الروحيّ» الذي كان يهيم به الصوفية، فيجعلهم يطربون حتى تصبح لهم تلك الحال الخاصة بأهل المحبة ـــ كما بيّناه ـــ وكان الأجدر بهم أن يجعل الحبُّ قلوبَهم تخشع، ونفوسهم تخضع لعظمة الخالق وجبروته.
ويدلّل يحيى بن معاذ على حبه لله تعالى بقرائن يتوسَّلُها في أسماء الله الحسنى، كما في قوله:
رضيتُ بسيّدي عِوضًا وأُنسًا مِنَ الأشياءِ لا أبغي سِواهُ
فيـــا شوقًــــا إلى مَـــلِكٍ يراني عـــلى ما كنت فيه ولا أراه
فالقرينة هنا هي باستعماله كلمة «ملك» للتدليل على ذكر المحبوب، كون هذا المحبوب يرى المحبَّ في كل حال، في حين أنه هو لا يراه.
ويتناول يحيى بن معاذ حقيقة الحب الإلهيّ ـــ الذي كان يدّعيه ـــ في مقطوعة من خمسة عشر بيتًا، كما رواها صاحب «مصارع العشاق»، وذلك عندما يبدؤها بقوله:
كلُ محبوبٍ سوى الله سَرَفْ وهمـــومٌ وغمـــومٌ وأَسَــفْ
كل محبوبٍ فَمِنْـــهُ خَــلَــفٌ ما خلا الرحمانَ ما مِنْهُ خَلَفْ
حتى يُظهر في آخرها حقيقة حبه، فيقول:
إنَّ ذا الحـــب لمــن يَفْنى له لا لـــدارٍ ذاتِ لهـــوٍ وطُـــرَفْ
لا ولا الفردوسِ لا يألفُها لا ولا الحوراءِ من فوقِ غُرَفْ
وهو في هذه المقطوعة، يبيّن أن المحبين لله سبحانه وتعالى، لا يحبونه خوفًا من عذابه، ولا رغبة في ثوابه، بل يحبونه لأنه ـــ سبحانه ـــ أهل للحب، ولأنهم لا يرجون إلَّا مطالعة وجهه الكريم، وهو النهج الذي نفسه اتبعه الصوفية كلهم ـــ في الحب الإلهيّ ـــ من قبل، ومن بعد، وهو نهج قد بيّنا خطأه باستمرار. لكنّنا نضيف هنا، أنَّ مثل ذلك الادعاء لا يعني إلَّا هزء الصوفية بالجنة والنار وكأنهم يرفضون ـــ من حيث يعلمون أو من حيث لا يعلمون ـــ كلَّ ما جاء في القرآن الكريم من الترغيب في الجنة والترهيب من النار، وهما الأمران اللذان صدع بهما جميع رسل الله تعالى واحدًا بعد واحد، وكانا في صميم كل رسالةٍ سماوية نزلت إلى العباد تبشر وتنذر، فهم (الصوفية) إذن، فوق القرآن وفوق أوامر الرحمان، وفوق جميع الأنبياء الذين طمعوا بالثواب والجنة، واستعاذوا من العقاب والنار، ومن سخط الله العزيز الجبار... فتأمل!!!
وتبلغ تلك الصراحةُ مداها البعيد، في أواخر القرن الثالث، على يد الجنيد بن محمد، الملقب «بسيد الطائفة» والمتوفى عام 298هـــ. إذ إنه تناول مسائل التصوف بالشرح والتفصيل، بالنثر وبالشعر على السواء، وذلك بأسلوب واضح، صريح، لا أثر فيه للرمز أو لإغلاق المعاني، ومن الأمثلة على صراحته قوله في الاحتراق والتعذيب:
يــا موقِــدَ النـــار في قلبــــي بقــدرتِهِ لو شِئتَ أطفيتَ عن قلبي بكَ النارَا
لا عارَ إنْ مِتُّ من خوفٍ ومِنْ حَذَرٍ عـــلى فِعـــــالك بي لا عــار، لا عارا
وقد روى عنه جعفر الخلوي، أنه عندما أراد أن يصور حالة الجفاء، قال:
مالي جُفيتُ وكنت لا أجفى ودلائــل الهجران لا تَخفـــى
وأراك تسقينـــي وتمـــزجُني ولقد عهدتُك شاربي صِرْفا
قد يكون هذا التصوير للجفاء مقبولًا مِنْ مُحبٍّ جافاه حبيبُه وساقيه، الذي كان يشرب ويسقيه، أما أن يخاطبَ به الله، عزَّ وجلَّ، فتلك هي جرأة وقحة على الله لم يسبق لها مثيل إلّا عند الصوفيين!
ويقول الجنيد في معنى الجمع والتفرقة، وبصراحته المعهودة:
وتحقــــقتُك فــي السِّرِ فنـــــاجاك لســــــاني
فاجــــتمعنـــا لمعـــــانٍ وافـــــترقنـــا لمـــعانِ
إن يكن غيَّبكَ التَعظـــ ـــيم عن لحْظِ عِيــاني
فلـــقد صيَّرَك الوجدُ مـــن الأحــشاءِ داني
ولعلَّ أهمَّ ما ألحَّ على بيانه شعراء القرن الثالث من الصوفية، هو اعتبارهم أنَّ حبَّ العبد لله تعالى يكون مِنَّةً يسبغها سبحانهُ على من يشاءُ من عباده الصوفيين وحدهم، وإن كان لم يَخُصَّ بها أنبياءه وصفوة خلقه! وذلك التخصيص لهم شيء مُقدّر في الأزل، إن الله تعالى ـــ في عرفهم ـــ اختار لمحبته طائفةً من خلقه أحبَّهم قبل أن يحبوه، كما بيّن ذلك أحدهم بقوله:
وله خصائِصُ يكلَفونَ بِحُبّهِ اختارهم في سالِفِ الأزمانِ
اختارهم من قبلِ فِطرةِ خلقِهِ بـــودائِعٍ وفـــوائِدٍ وبيــــــانِ
ولكن مَن هُم أولئك «الخصائص»؟! ولمَ وحدهم وقع عليهم الاختيار لتكليفهم بحب الله سبحانه؟! وكيف كان ذلك؟! ولماذا؟!
وما الودائع والفوائد والبيان؟ وكلها خفيّات على الناس...! لا نعرف شيئًا من ذلك وإن كنا نجزم بأنهم عرفوا بما لم يعرفوا.
ومثل هذا التخصيص لطائفة معينة من الناس الذي سيطرت فكرته على الصوفية، نجد أيضًا أنَّهم خصّوا أنفسهم بفكرة الإخلاص في الحب الإلهيّ، وعدم التغيّر في هذا الحب، مهما تألبت الأحوال على أصحابه. ويعطي سحنون بن حمزة (المتوفى عام 296هـــ) مثالًا على هذا الإخلاص، فينشد قائلًا:
وكـــان فؤادي خـــاليًا قبــــل حبكـــــمْ وكان بذكر الخلق يلهو ويمرَحُ
فلـــما دعـــــا قلبي هــــــــواك أجابَــــــهُ فلســتُ أراهُ عن فِنـــائِك يبرحُ
رُميـــــتُ بِبَيْنٍ منك إن كنــــت كــــاذبًا وإن كنتُ في الدنيا بغيرك أفرحُ
وإنْ كـــان شيء في البــــــلاد بأسرِهـــا إذا غبتَ عن عيني بعينيّ يلمحُ
فإنْ شِئتَ واصلني وإن شئت لا تَصِلْ فلستُ أرى قلبي لغيرك يصلحُ
ليس من عيب في هذه المقطوعة، سوى أن صاحبها خاطبَ ربَّه في مطلعها بصيغة التعظيم (حبكم) ثم سرعان ما تحوّل عن ذلك وكأنَّ الحجاب ارتفع بينه وبين خالقه فصَار يخاطبه بالإفراد. وهذا يعني أن التكليف قد ارتفع بين «المحب والمحبوب»، فصارت المخاطبة ندًّا لندٍّ؟
ويتخذ الإخلاص في الحب طابعًا خاصًّا عند السري السقطي، (المتوفى عام 257هـــ)، يتمثل بما رواه عنه ابن أخته الجنيد بن محمد البغدادي إذ قال: «سألني (السري) يومًا عن المحبة، فقلت: قال قوم هي الموافقة، وقال قوم الإيثار، وقال قوم كذا وكذا، فأخذ (السري) جلدة ذراعه ومدَّها فلم تمتدّ، ثم قال: وعزّتِهِ تعالى لو قلت: إن هذه الجلدة ليست على هذا العظم من محبته لصدقت، ثم غشي عليه» أليس في هذا الانفعال العصبيّ طابع خاصّ للحب حقًّا، عندما نجده يظهر على هذا النحو من البراعة في فنِّ التمثيل الذي أتقنه ذلك «السقطي»، ليرينا بأنه كان يلاقي من المحبة أهوالًا تلصق الجلد بالعظم، وبأنَّ المحبة الصادقة لا يمكن أن تكون إلَّا كذلك، وهذا في مفهومه شيء لا يعرفه إلَّا المجربون من أهل الحب، لأنَّ:
من لم يبق والشوق حشوَ فؤادِهِ لم يدرِ كيف تفتّتُ الأكبادُ
ولنستمع إلى الجنيد في إكمال الدور التمثيليّ، عندما يروي كيف دخل يومًا على «السقطي» ليعوده، بعد أن اعتل، فقال له: «كيف نجدك؟» فقال:
كيف أشكو إلى طبيبيَ ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
ويتابع الجنيد: «فأخذت المروحة أروحه. فقال لي: كيف يجد رَوْح المروحة منْ جوفه يحترق من داخل. ثم أنشأ يقول:
القلب محترقٌ والدمــع مستبقٌ والكربُ مجتمعٌ والصبرُ مفترقُ
كيف القرارُ على من لا قرارَ له مما جناهُ الهوى والشوقُ والقلقُ
يا ربِّ! إن كان شيءٌ فيهِ لي فرجٌ فامنُنْ عليَّ به ما دامَ لي رَمَقُ»...
وإذا كان بعض الصوفية لم يتهيبوا الإعلان بصراحة عن حبهم لله سبحانه وتعالى، فنظموا شعرهم بأسلوب لا أثر فيه للرمز واتبعوا تلك الصراحة فترة من الزمن، فقد عاد بعضهم فكفَّ عنها مؤثرًا التلميح على التصريح أو استعمال الرمز، كما فعل الشبلي بعد مقتل صاحبه الحلَّاج، إذ خاف على نفسه، من أن يحيق به العذاب نفسه، فكفّ عن الصراحة ليستعمل أسلوبًا في الحب الإلهيّ يمكن صرفه إلى الغزل الإنسانيّ، كما في مثل قوله:
إذا ما كنتَ لي عيدًا فـــما أصنــعُ بالعيـــد
جرى حبُّك في قلبي كجريِ الماء في العود
ومن قبيل ذلك ما روي عن الشبلي أيضًا من أنه كان يومًا في حلقته، فقال: «الحق يفنى بما به يبقى، ويبقى بما به يفنى، فإذا أفنى عبدًا عن إيّاه أوصله به، وأشرفه على أسراره. ثم بكى وأنشأ يقول:
لها في طرفها لحظات سحرٍ تُميتُ بها وتُحيي من تُريد
وتسبــي العالمين بمقلتيها كــأنَّ العالمين لها عبيـــد
ألاحظها فتعلم ما بقلبي وألحَظُها فتعلمُ ما أريد».
وقد سأل يومًا أحدهُم الشبلي قائلًا: هل يتحقق العارف بما يبدو له؟
فأجابه: «كيف يتحقق بما لا يثبت، وكيف يطمئن إلى ما لا يظهر، وكيف يأنس بما لا يخفى؟ فهو الظاهر الباطن، الباطن الظاهر، ثم أنشأ يقول:
فمن كان في طول الهوى ذاق سلوةً فـــــإنّيَ مِنْ لَيْـــلَى لها غيرُ ذائقِ
وأكـــــبر شيء نِلـــتُهُ مِـــنْ وِصــالِها أمانيُّ لم تصدُقْ كلمحةِ بارقِ»
فالشبلي، كما هو معروف عنه، يتوخّى الحب، ويعبّر عن ذلك الحب بالغزل الإنساني، لكنه في الحقيقة، وفي كل ما يرمز إليه من هذا الغزل، ليس له مرادٌّ إلَّا حبّ الله كما هي حال أهل الصوفية في ادعائهم ذلك. وليس الشبلي وحْدَه، من استعمل ذلك الأسلوب الرمزيّ، بل إن كثيرين من الصوفية كانوا يعمدون إلى معاني الغزل الإنسانيّ حين الكلام عن المحبّ، كما يعمدون إلى معاني الخمريات حين الكلام عن الحب نفسه. فمن قبيل ذلك ما قاله أحدهم: «إنَّ لله تعالى شرابًا يسقيه في الليل قلوب أحبائه، فإذا شربوا طارت قلوبهم في الملكوت الأعلى حبًّا لله تعالى وشوقًا إليه»، ثم أنشد:
غرستَ الحبَّ غرسًا في فؤادي فلا أسلـــو إلى يـــوم التنادي
جــرحتَ القلب مني باتصال فشوقٌ زائــــدٌ والحــــبُّ بادِ
سقاني شــربةً أحيـــا فــؤادي بكأس الحب من بحر الوداد
فلـــولا الله يحفــظ عارفيــــه لهَــــامَ العـــــارفونَ بكل واد
ونحن لا ندري ـــ ولا حتى المُنَجِّم الذي يعيش على الخزعبلات يدري ـــ لماذا أحبَّ الله ـــ سبحانه ـــ تلك الحفنة من عباده، واختصَّها بشراب المحبة، وبالمعرفة، فحفظها من التِّيه والضياع، ولم يسبغ هذه النعمة على من اصطفاهم وفضّلهم على العالمين مثل إبراهيم، عليه السلام، وقد اتخذه خليلًا، وموسى، عليه السلام، وقد صنعه على عينه، وعيسى، عليه السلام، وهو «كلمته وروحه»، ومحمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو حبيبه المختار وخاتم أنبيائه الأبرار؟!
إنَّ ذلك الادّعاء علمُهُ عمد ربّنا، وكفى بربّنا ـــ عز وجلَّ ـــ شهيدًا ووكيلًا.
ولنا أن نتساءل:
لماذا استعمل الصوفية الرمز، ولمَ كانت عندهم تلك النزعة من التستر والكتمان؟
لعلَّ الأسباب التي حدت بهم إلى ذلك كثيرة. لكنَّ أهمها يعود إلى تهيّب مشايخ الصوفية من إذاعة شعرهم الصريح، وخوفهم من نسبته إليهم، وذلك إمَّا لجرأة ما فيه من قول وهُجْرٍ على دين الله تعالى، بما يجعل الفقهاء يهاجمونهم لأجله، وإمّا لأن الحالة التي يصوّرونها في شعرهم لا تتناسب والمكانة التي يحتلونها. ذلك أن الجو العاطفيّ الذي يقال به الشعر، يقتضي في غالب الأحيان، أن يصدر عن إنسانٍ دهشٍ بحالة من الشعور معينة تدفعه لأن يقول ما يعبّر فيه عن مكنونات نفسه وخوالجها، وربما لا يكون ذلك متوافقًا مع المعتقدات السائدة في محيطه أو متناسبًا مع الأوضاع العامة في بيئته، فيحاول أن يتنصَّلَ مما قاله وينسبه إلى غيره، من أجل ذلك نجد أن كثيرين من شيوخ صوفية القرن الثالث، وأكثر بكثير مما كان عليه الأمر في القرن الثاني، قد نسبوا ما قالوا من شعرٍ إلى طائفة دعوها بالمجانين. وقد غلب على شعر هذه الطائفة من المجانين طابع الحب الإلهيّ أكثر من أي طابع آخر، حتى قيل بأن الحب الإلهيّ هو العلة فيما أصابَ تلك الطائفة من وَلَهٍ وحيرة، فظنه الناس عندها جنونًا.
يروي السري السقطي عن واحدة من عقلاء المجانين قولها:
معشرَ الناسِ! ما جننتُ ولكن أنــا سكـــرانةٌ وقلبـــيَ صـــاحِ
قد غَــــــلَلْتُمْ يدي ولمْ آتِ ذَنْبًا غيرَ هَتْكِي في حبِّهِ وافتضاحي
أنا مفتونةٌ بحبِّ حبيبٍ لستُ أبغــي عـــــن بابِـــــهِ مِنْ بَرَاحِ
فصلاحي الذي رأيتُمْ فَسَادي وفسادي الذي رأيتُمْ صلاحي
ويكثر ذو النون من الرواية عن هؤلاء المجانين لأنه كان يقصدهم في مظانِّهم. فقد قصد واحدًا من أهل المعرفة في جبل اللكام، فقيل له: إنه مجنون. فلما جاءه وجده شاخصًا بَصَرَهُ وهو يقول:
أعميت عيني عن الدنيا وزينتها فأنتَ والروحُ شيءٌ غيرُ مفترِقِ
إذا ذكـــرتُك وافى مقلتي أرَقٌ مِنْ أولِ الليلِ حتى مطلعِ الفَلَقِ
وما تطابقتِ الأجفانُ عن سِنَةٍ إلَّا رأيتُكَ بَيْنَ الجَفـــنِ وَالحَـدَقِ
ويروي ذو النون عن مجنون لَقِيَهُ ببيت المقدس، قولَه:
هجرتُ الورى في حبِّ مَنْ جاء بالنِّعَمْ وعِفْتُ الكرى شوقًا إليه فلم أنَمْ
ومَوَّهتُ ذكـــري بالجنونِ عــن الوَرى لأكتُمَ ما بي من هـــواه فـــما انكتَمْ
فلـــما رأيتُ الحـــبَّ والشوقَ بائِحًا كشفتُ قناعي ثم قلتُ: نعمْ، نعمْ
وهكذا يبقى عقلاءُ المجانين مجهولي الأسماء عند من يحدِّثون عنهم، فالسقطي يروي عن واحدة، وذو النون عن كثيرين، ومثلهما ما رواه الحسين بن يوسف عن قصة شاب منهم، إذ يقول: «كنت قاعدًا بين يدَيْ ذي النون، وحوله ناس، وهو يتكلم عليهم، والنَّاس يبكون، وشاب يضحك... فقال له ذو النون: ما لك أيها الشاب!... الناس يبكون وأنت تضحك؟ فأنشأ يقول:
كُلُّهم يعبدونَ من خوفِ نارٍ ويَرَوْنَ النجاةَ حَظًّا جزيلا
ليس لي في الجنانِ والنارِ رأيٌ أنا لا أبتغي بحبّي بديلا
فقيل له: فإن طردك، فماذا تفعل؟
فقال:
فإذا لم أجد من الحبّ وصْلًا رمتُ في النارِ منزلًا ومقيلَا
ثم أزعجتُ أهلَها ببـــكائي بُكرةً في ضِـرَامِهَا وأصيــلَا
معشرَ المشركين نُوحوا فإنّي أنا عبدٌ أحببتُ مولًى جَلِيلَا
لمْ أَكُنْ في الذي ادّعيتُ محقًّا فَجَزاني بِهِ العذابَ الطويلَا!
والروايات عن العقلاء المجانين منتشرة في أكثر الكتب الصوفية. وقد كثرت التراجم عنهم بصورة خاصة في كتاب «صفوة الصفوة» لابن الجوزي. ومهما تكن الاعتبارات لوجود تلك الروايات والتراجم، فإنها أدت غرضها بشكل تام، إذ أمكن لمشايخ الصوفية من خلالها، أن يذيعوا آراءهم وينشروها بين الناس، ولكن بتلك الطريقة التي ابتدعوها، والتي من شأنها أن حفظت لهم مكانتهم، ولم تجعل الثائرة تثور عليهم بعد أن انكشف أمرهم.
ويبقى أخيرًا موضوع الاتحاد بالله وما أنشأوا فيه من شعر.
فقد تغنّى الصوفيون جميعًا بالحب، كما رأينا، حتى أصبح عندهم مذهبًا سماويًّا، بعد أن كان شكلًا أرضيًّا، وصار كيانًا أزليًّا دائمًا بعد أن كان متغيِّرًا غير ثابت.
وينطلق الصوفيّ في هذا الحب حتى يتحقق له الاتحاد بالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وتبدأ حالة الشعور بالاتحاد عند الدخول في مرحلة «الجمع» أو «سُكر الجمع» كما يسمِّيه بعضهم، أو «المحو» كما يعبِّر عنه بعضهم الآخر، وهو حالة الغيبة وفقدان الحس بالأشياء، والنفس أيضًا، وهو يطابق حالة الفناء، ويترتب على هذا الفناء عن النفس بقاءٌ في الله، وهنا «يعزل المحب نفسه عن صفاتها بأن ينظر كأنه بمنزلة النظر لا الناظر، ويسمع ويعي كأنه بمنزلة السمع والوعي لا السامع والواعي، ويتكلم كأنه بمنزلة الكلام لا المتكلم، وذلك كله لكي يصبح المحب الذي استحال إلى نظر وسمعٍ ووعيٍ ولسانٍ (عينَ المحبوب) في مقام «الجمع» لذلك قال الصوفية: «الجمع ما سلب عنك».
ويعبّر عن ذلك صوفيّ فيقول:
ذكـــرتُك لا أنــي نسيتـــك لمــحةً وأيسر ما في الذكر ذكرُ لساني
وكدتُ بلا وجدٍ أموتُ من الهوى وهــامَ عليَّ القلــبُ بالخَــفَقانِ
فلما أراني الــوجدُ أنك حــاضري شَهِدْتُكَ موجودًا بكل مكانِ
فخــاطبتُ موجـــودًا بغير تَكَلُّم ولاحظتُ مَعْلومًا بغيرِ عِيانِ
ولعلَّ ابن الفارض هو أكثر شعراء الصوفية إنشادًا. فهو الذي غنَّى الحبّ، وهو الذي جمع المحبين إلى لوائه، وجنَّدَهم تحت قيادته. فالحبّ بنظره هو إمامه، لأنه يفقِّه الإنسانَ ويرفعه، وهو الذي ينقذه من ظلمات الجهل. والحبّ أيضًا عنده هو الحياة، والحياة هي أن ترى الله، وتتحد به، لذلك كان الحبُّ ملَّته، ودينه الذي يدين به، فإن مالَ عنه مال عن حياته كلها.
وما دام الحبّ عند ابن الفارض دينه وعقيدته وجوهره، فهو إذن، سبيله إلى المعرفة الكبرى، والوصول إلى الله، ثم الاتحاد به حتى يصبح وإيّاه واحدًا. وحين يتحقق هذا الاتحاد بالله والفناء فيه، تحصل النشوة القصوى والسعادة العظمى.
ويصف ابن الفارض حاله من الغبطة والسعادة عندما يسمع بذكر الحبيب، فيسكر، ويغيب عن الوجود الأرضيّ، حتى يصحو مرة أخرى بعد «المحو» فتتوحَّد لديه الأسباب، وتتجرد النفس، وتسعد بسمِّوها وقدرتها الإلهية، فيقول في ذلك:
فيغبــط طــرفي مسمعي عنــد ذكرها وتَحســدُ مــا أغــنيتُ منــي بقــيّتي
وعانقت ما شاهدتُ في محو شاهدي بمشهده للصحو من بعد سكرتي
ووحدت في الأسباب حتى فقــدتها ورابطــة التــوحيد أجــدى وسيلةِ
وجـــردت نفسي عنهــما فتــجردت ولـــم تــكْ يــومًا قــطُّ غيرَ وحيدةِ
وهذا التجريد، عند ابن الفارض، يجعله متحررًا من المادة كليًّا حتى يصبح جمالًا غير محسوس، وغير ملموس، وجوهرًا يشعر به القلب، وتصعد إليه النفس لتتحد به، فيصبحان واحدًا. وفي ذلك يقول:
فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسانُ الحال عني مُخبرا
فأدِرْ لحاظَكَ في محاسن وجهه تلقى جميعَ الحسنِ فيه مصوَّرا
وهكذا نجد أن ابن الفارض يبحث دائمًا عن الله ليقترب إليه، ويتحد به، ويفنى فيه فناء مفارقًا، ويصبح قادرًا على كل شيء. فهو يرى في ذلك ذاته بذاته، وأن كل ما كان من صلاة أو حجّ فقد كان له هو، ومُوجَّهًا إليه. بل يرى أنَّ روحه هي سبب للأرواح كلها، فلا شيء في الكون إلَّا من فيض طينته، كما يصرح بذلك، من دون أي وجل أو خوف، عندما يقول:
وهــا أنا أُبــدي في اتحــاديَ مبــدئي وأنهي انتهائي في تواضُــــعِ رِفعتـــي
ففي الصحو بعد المَحوِ لم أكُ غيرها وذاتـــي بـــــذاتي إذ تجـــلّتْ تجـــلَّتِ
وبي موقـــفي لا بــل إليَّ تَوجُّـــهي كـــذاك صــلاتي لي ومـــنّيَ كعــبتــي
وروحيَ للأرواحِ روحٌ، وكــلُّ ما تَرَى حَسَنًا في الكون من فيضِ طينتي
ولا يحيد ابن الفارض عن رأيه، في ادعاء الألوهية، بل يرى أنه هو مسيّر الأكوان كلها، عندما يقول:
وما سارَ فوق الماء أو طار في الهوا أو اقتــحم النــيران إلَّا بهمَّتـــي
ومِنّـــيَ لو قامـــت بِمَيْــتٍ لطيفةٌ لــردَّتْ إليـــه نفسَـــهُ وأُعيدَتِ
ولا ناطقٌ غيــري ولا نـــاظِرٌ ولا سميعٌ سوائي مِنْ جميع الخليقة
وأنجُمُ أفلاكي جَرَتْ عن تَصَرُّفي بملكي وأملاكي لملكيَ خَرَّتِ
أي إنه، وبمثل ذلك التصور الأرعن، يرى نفسه «الإله» القادرَ على كل شيء، العالِـمَ بكل شيء، ويزعم أنَّ الكائنات بأسرها إنما تَرِثُ عنه الكمال، فيقول في ذلك:
فلاحـــيَّ إلَّا عن حـــياتي حيــاتُهُ وطوعُ مرادي كلُ نفسٍ مريدةِ
ولا قـــــائلٌ إلَّا بلـــفظي محـــدّثٌ ولا نـــاظرٌ إلَّا بنــــــاظِرِ مقلتي
ومن لم يَرِثْ عني الكمال فناقص عـــلى عقبيه ناكس في العقـــوبةِ
ولتصوير ألوهيته، فإنَّ ابن الفارض يستعمل ألفاظَ القرآن الكريم، وصفات الله تعالى، ولكنْ بأسلوبه الرخيص الذي يقول فيه:
أنا النورُ المبيــنُ أنا الحقُّ اليقيـــــنُ
أنا القرآنُ أُتــلى أنا الحبل المتـــــينُ
أنا عرشُ التجلّي أنا الروح الأمينُ
وتختلط عليه الأمور، حتى يرى نفسه أنه «الإله»، وأنه القرآن، وأنه الدين، وأنه العرش، وأنه جبريل الأمين!
فهلَّا قرأت وتأملت أيها القارئ العزيز؟!
نريدك أن تحكم بعين العقل على ذلك المارق، الكافر، المخادع
فبالله، كيف يمكن لابن الفارض أن يكون هو «الإله»، في حين أنه هو في واقعه، وحقيقة وجوده، يعيش في صوفية، وفي مِدْرَعةٍ قذرة بالية، محشوةٍ قملًا وبراغيث، يتمرّغ فيها بدار النسك والحرمان!
لا أيها المتوهم القاصر، المهين، الذليل، إنَّ الله تعالى لبس الكبرياء رداءً، والعزَّة جلبابًا، ومن صفاته الجبروت والعظمة والقدرة
لا أيها البشريُّ الضعيف، الفاني، إنَّ الله تعالى هو وحده النور المبين، والحق اليقين، والقرآن قوله تعالى، وكتابه المبين، وفيه دينه القويم المتين، وهو وحده صاحب العرش العظيم، وبأمره كان يتنزل الروح الأمين، جبريل عليه السلام، وهو الحق، والروح الأمين. إن هذه حقًّا بعض صفات الله تعالى، وهي صفات لا يمكن أن تكون إلَّا لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، وخسئ أي بشريٍّ يمكن أن يتصور لنفسه صفة من هذه الصفات. وهل يمكن لصاحب عقل أن يدّعي ما ادعاه ابن الفارض، وهو يعرف أنه لا بد من أن يسجّى يومًا بين يدي الملك عزرائيل، عليه السلام، ليقبض روحه وينقلها إلى حيث يشاء الله؟!
ليس المقصودُ حقيقةً التعليق على ما قالَهُ ابن الفارض بقدر ما نبتغي لفت النظر إلى ما ذهب إليه كي يقرأه كلُّ مؤمن بل كلُّ إنسان بإمعان، فيتأمل في تلك الافتراءات على الله كذبًا، وفي تلك الادعاءات شططًا، التي قال بها ابن الفارض وغيره من أمثالِهِ، فلا يقع فريسةً لعذوبة قولهم، ولا يَغُرَّنَّهُ قولٌ مُنَمَّقٌ فيه خبث ودهاءٌ أكثر مما فيه أيُّ شيء آخر، ومن ثَمَّ فلا يتوهَّمُ بعض المؤمنين الصادقين، طيبي القلوب، أن تلك الادعاءات والشطحات هي الطرقُ الصحيحةُ إلى حقيقة وجود الله عز وعلا!
ثم يأخذ صوفيٌّ آخر عن ابن الفارض تلك النزعة في الادِّعاء، حتى يصلَ إلى ما وصَلَ إليه سلفهُ، وهذا الصوفيّ يُعدّ من أشهر الصوفية في عصره، وهو عبد الغني النابلسي. إذ نظم مواجيده الإلهية في ديوان سمَّاه: «ديوان الحقائق ومجموع الرقائق في صريح المواجيد الإلهية». ففي هذا الديوان قصائد كثيرة عن الحب الإلهيّ، وكلها تدور حول المعاني التي قال بها الصوفية. إلَّا إنه حين يصل ـــ بوهمه ـــ إلى الاتحاد بالله سبحانه وتعالى، يتخذ لنفسه، هو الآخر، صفة الألوهيَّة، فيقول:
أنا صاحــبُ الأمرِ الإلهي أنـــا آمِـــرٌ أبـــدًا وناهــــي
أنا ذو العيونِ وذو الوجوهِ وذو النفــوسِ بلا تناهـــي
ولِمَ تلبَّس «صاحبُ الأمر الإلهيّ» بهذا الوجه الكالح الذي لا يستحي ولا يخجل؟ وكيف بنا لو كلَّفْنا هذا «الأمرَ الناهي» أن يخلق ذُبابةً، أو أن يمنع بعوضةً أن تهشم أنفه؟ أم كيف حالهُ إذا سألناه وهو «ذو العيون» عمًّا وراءَ جدار بيتِه؟؟؟
نعم... لقد ساء ذو الوجهين واللسانين. فكيف «بذي الوجوه» التي يقبِّحها الله ويقبِّحها الناس؟!!!
ثم إن لنا أن نسألَه هو وأمثالَهُ من الصوفية:
وهل ينتهي دور أحدكم إذا غالبته المنون؟
إذن، فأين الاتحاد ـــ الذي تدّعون ـــ والموت ملاقيكم، وهو حق لا ريب فيه؟
أم أنَّ ما تدّعون عن «الاتحاد» ليس إلَّا باطلًا بباطل، وكذبًا بكذب؟ وهذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها.
وهكذا نرى كيف أن بعض مشايخ الصوفية وصَلَ بهم الشطط إلى حد الادِّعاء بما ادّعوهُ مما هو في منتهى الزلل والخطأ، إذ لا ريب في أنَّ نَزْغًا من الشيطان ـــ لا مسًّا من الجنون ـــ قد أصابَ عقول أولئك المدَّعين، حتى ظنوا ظنونهم تلك، وقالوا ما قالوا من شعرٍ يعبِّر عن تلك النزعة الشيطانية الوقحة الجريئة على قُدس أقداس القدرة الإلهية.
ومهما يكن من أمر، فإننا نرى أنّ الصوفيين على تنوعهم، واختلاف توجهاتهم، وفي جميع مراحل التاريخ، كانوا يتَّخذون من الحب الإلهيّ مذهبًا يدينون به، ويعيشون من أجله، لا يأتمرون في ذلك بأمر ناصحٍ، ولا ينتهون بنهي عالم، بل يقولون، ويظلمون، ويفعلون ما يحلو لهم، تبعًا لأهوائهم ورغباتهم، غير مُبالين بما يقره الإسلام، أو يرضى عنه الله ورسولُهُ، لأنهم كانوا أبعدَ الأبعدين من الله تبارك وتعالى، وممَّا جاء به رسوله الكريم، صلَّى الله، عليه وآله وسلَّم.






المصادر
1 حلج: ندف القطن حتى خلّص الحبّ منه.
2 يونس: 90.
3 طه: 69.
4 المدثر: من 18 إلى 24.
5 الإسراء: 88.
6 الأنعام: 70.
7 المُكاء: الصفير.
8 الأنفال: 35. تصديةً: تصفيقًا.
9 الأعراف: 51.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢