نبذة عن حياة الكاتب
سلسلة أعلام التصوف
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : السير
عدد الصفحات : ٩٢٩
تاريخ النشر : ١٩٨٨

ابْنُ عَرَبيّ
سلسلة أعْلامِ التصوّفْ

ابْنُ عَرَبيّ

دراسَة وتحليل
سَميح عَاطِف الزّين



الشركة العالميّة للكتاب
دَار الكتاب اللبناني ــ مَكتبة المدرَسَة





بسم الله الرَّحمن الرَّحيم



الكرامةُ والولايَةُ عنْدَ المُـتَصَوِّفِين


لقد أدَّت فنون السحر دورًا مهمًّا في المجتمعات القديمة
عندما اتخذها الكهان ورجال الحكم
وبطانته وسائل لإخضاع الناس

الكرامةُ والولايةُ عنْدَ المتصَوِّفين
لقد أدَّت فنون السحر دورًا مهمًّا في المجتمعات القديمة، عندما اتَّخذها الكهان ورجال الحكم وبطانته وسائل لإخضاع الناس، وإرهاب عقولهم ونفوسهم، لتبقى لهم السيطرة المطلقة على خيرات المجتمع، ويبقى أولئك الناس يرسفون في أغلال الأوهام والضلال.
وإذا كان فقراء الهنود هم أكثر من اشتهروا بفنون السحر هذه، فإننا نجد اليوم أشخاصًا كثيرين في المجتمعات المتخلفة والمتقدمة على السواء، لا يزالون يتقنون هذه الفنون، ويقيمون لها البرامج والحفلات، أو يشتركون في (السيركات) وغيرها، ليقدموا الألاعيب التي تدهش العقول، وتطغى على المشاعر، بحيث لا يجد لها المشاهدون تفسيرًا عقليًّا، ومع ذلك فإنهم يندفعون لمشاهدتها، ودفع أموالهم للتسلية بحضورها.
وإذا كان السحر واقعًا لا يمكن لنا نحن المسلمين إنكاره، ما دام قد ورد ذكره في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: [فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى] (طه: 66)، وفي قوله تعالى: [إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى] (طه: 69)، فإنَّ من الحقائق الثابتة لدينا أيضًا أن السحر شعبذة تغري عامّة الناس، وقد تفتن الخاصة أيضًا، ذلك لا يمكن أن يحقق أغراضه الدنيئة. ومهما بلغ الساحر من قوة التسلط على العقول، ومن إتيان الخوارق التي لا تخضع للنواميس الطبيعية، والتي تخرج على القاعدة العامة التي تربط الأسباب بالمسببات، فإنَّ سحره يبقى عبثًا، ولا يفلح الساحر أبدًا حيث أتى، كما أبانَ لنا ربُّ العالمين.
ومن عجيب ما يفعله هؤلاء السحرة أن يظهر أحدهم أمام الجموع وكأنه يقطع يده بسكين ثم يردها إلى مكانها، أو كأنه يجلس في نار متأججة من دون أن يحترق، أو يحبس نفسه في مكان مغلق بإحكام ثم يغادره من دون أن يكسر أقفاله، أو يبدو كأنه يرتفع في الهواء بغير سُلَّم، أو يوقف في الجو حبلًا يصعد عليه ومعه غلام، والحبل ساكن في الهواء، أو أنه يذبح إنسانًا ويفصل رأسه عن جسمه ثم لا يلبث أن يعيده إليه، وما إلى ذلك ممَّا يسحرون به أعين الناس من التخيلات والأوهام التي تخالف النواميس الطبيعية المألوفة.
والحقيقة أن السحرة قد يصلون إلى هذا الحد من قوة التأثير في الآخرين بفعل التدرُّب الذي يجهدون فيه أجسامهم ونفوسهم، بما يقومون به من رياضة شاقة وطويلة. فهم يمنعون أجسامهم عن الماء والطعام والنوم لأيام عدة ولا يتناولون إلَّا ما يقيم أودهم من القوت اليسير أو العقاقير. ومنهم من يدفن نفسه تحت أكداس الأتربة والرمال بلا وقاء ولا كساءٍ مدة طويلة. ومنهم من يتحمل الأثقال التي تنوء تحتها أكبر الحيوانات ويصعد فوقه فيلٌ ضخم من دون أن تتكسَّر عظامه.
وكل هذه الرياضات والتدريبات من أجل تطويع الجسم وإخضاعه لعامل الإرادة، إلَّا إنها تؤدي بهم إلى حالة من اللاشعور التام، فلا يعود أحدهم يحسّ معها ببردٍ أو حرّ، وجوع أو شبع، وراحة أو ألم. وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى هلاك الحواس والغرائز وإفساد عملها، وشل مفعولها.
أما ترويض أنفسهم، والتحكم بقواهم العقلية، فهم يمارسون لأجل ذلك، بالإضافة إلى تلك الرياضات، طرائق شتَّى مثل قطع العلائق والروابط المجتمعية، والخلوة الطويلة في مكان مقفر، وحبس الشهيق في الصدر، وتحديق النظر في شيء ثابت لا تبارحه العين، وترديد كلمة معينة على نغم واحد، وحصر الذهن في موضوع معين لا يتعداه الفكر، إلى غير ذلك من الممارسات والتجارب التي يتوصلون بها إلى طرد المؤثرات والمشاغل كافة عن الأذهان، وإخراج الطاقات البدنية والعقلية عن وظائفها الأساسية وتجميعها لغرض واحد: هو الخروج عن المظهر العام للناس في كل شيء، ومخالفة القوانين المألوفة للحياة الطبيعية. والعجيب في أمر هؤلاء السحرة الذين يتبعون تلك الرياضات البدنية الشاقة، والانتحار الذهنيّ المتكرر، أنَّ أحدهم يصير بعدها وكأنه قد تلاشت فيه حدود الأشياء، وتساوت في نظره الأضداد: فهو لا يحب ولا يكره، ولا يعرف ولا ينكر، ولا يُسرُّ ولا يحزن، وهو يذهل عن نفسه حتى لا يشعر بما يصدر عنه من انفعالات أو يدخل عليه من مؤثرات.ولعلَّ بفعل ذلك تتولَّد عنده القدرة على الإتيان بأعمال السحر أو التخييل أو التنويم، فيراه الناس قادرًا على أن يهدئ الأسد الغاضب بنظرة، ويلاعب النمر الجائع فلا يأكله، ويختفي عن أنظار المشاهدين وهو في وسطهم يحادثهم ويسائلهم، ويقرأ الأفكار في الأذهان حتى يتوهم البسطاء أنه يرى البعيد ويعلم الغيب.
وتنتشر أفانين هؤلاء المشعوذين بين الناس فيهرعون إليهم لاسترجاع ضائعٍ أو قضاء حاجة بعيدة، أو استرداد حبيب مفقود، أو جذب إنسان وامتلاك حبه، وما إلى ذلك من أفانين السيطرة الحسية على عامة الناس، وأحيانًا كثيرة على الخاصة منهم!!!
ولئن كان حذقة السحر والشعوذة قد أفلحوا في إيهام بعض العقول بقدرتهم على الإتيان بما لا يأتيه غيرهم، فإن أحداثًا كثيرة أثبتت خداعهم وتزييفهم، وفضحت كذبهم واحتيالهم، فتعرَّضوا للضرب المبرح ممن كذبوا عليهم، وأُقيمت الدعاوى عليهم أمام المحاكم ممن سلبوهم أموالهم بالخداع والتزوير. طبعًا بعد أن لم يتحقق لهؤلاء وأولئك الذين لاذوا بهم أي رجاء قصدوهم بشأنه.
ولقد شاعت تلك الأفانين السحرية في أوساط المتصوفين، وراجت حول شيوخهم الأعاجيب المختلفة، فانبروا يروون للأتباع من الخوارق ما سلب عقولهم، وجعلهم يخضعون لرغبات الشيوخ وأوامرهم.
ولقد اتبع بعض المتصوفين في تلك الأفانين الطرائق نفسها التي يتبعها السحرة والمشعوذون، وسمَّوا ذلك مجاهدة للنفس ورياضة للعقل والجسد. فكثر عندهم الصمت، والجوع والسهر، والعزلة، والتشرد في الأرض، وغير ذلك من الأفعال التي كانوا يقومون بها، كما رأينا في بحث «المجاهدة».
ولقد كانت غاية أولئك المتصوفين الذين سلكوا طرق المجاهدات والرياضات إماتة الأحاسيس، والقضاء على نوازع النفس، حتى تتحقق لهم مرتبة «الفناء المطلق» التي يتدرجون فيها من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، بحيث يذهلون فيها عن أنفسهم، ولا يعودون يفرّقون بين حق وباطل، وبين فضيلة ورذيلة، وبين هدى وضلال. وعندها ينادون بحلول الإله في أبدانهم، أو يعلنون اتحادهم بالعوالم، وتأثيرهم في قوى الكون، وقدرتهم على تسخير جميع الكائنات العليا والدنيا لمشيئتهم. فالملائكة تهبط إليهم بالطعام والشراب، والوحوش المفترسة تخافهم وتطأطئ رؤوسها لهم، والأرض تطوى لهم فيطوفون في أرجائها بمثل لمح البصر، ويدَّعي هؤلاء المتصوفون أنَّ كل ذلك يحصل لهم بعد زوال الحجب عن بصائرهم، وانكشاف الغيب أمام أعينهم، فيرون الماضي السحيق، أو المستقبل المغيَّب البعيد، ويحيلون عناصر الأشياء بلا قانون: فيقلبون التراب ذهبًا، والحصى فاكهة ونقدًا، ويطفئون النار ببصقة، ويفكون العاني والأسير، ويحضرون الغائب والمفقود، ويشفون المرضى والمقعدين، إلى غير ذلك من المزاعم التي حشيت بها أدمغة بعض المتصوفين وكتاباتهم.
وهكذا انتشرت تلك الخوارق بين أتباع الصوفية، ففعلت في العقول الخاوية مثل فعل السحر وأكثر، وأصابت عدواها العامة فصدَّقوا بها، حتى أصبحت عند الناس الميزان الذي توزن به أقدار الرجال.
وفطن شيوخ الصوفية لشدة تأثير أفانينهم تلك في مختلف الأوساط التي دخلت إليها، فاتخذوا منها دليلًا على صحة دعواهم، وتحدَّوا بها المعترضين والمناوئين لأفكارهم، لكن الأذكياء منهم رأوا فيها ما يحقق لهم ميزة التفوق في ابتداع الكرامات، وأرادوا أن يبرزوا على أنهم هم أصحاب تلك الكرامات، فبذلوا من أجل ذلك الغالي والنفيس، ومنهم من سافر إلى بلاد الهند كي يلتقي المهرة ممن يمارسون فنون السحر، فيأخذ عنهم ما يحقق له غايته. ومن هؤلاء كان الحسين بن منصور الحلاج، الذي سافر إلى الهند غير مرة، وقضى فيها بضع سنوات، حيث تعلَّم وتدرب، وعاد يظهر للناس ما يبهر الأعين، ويجمع الأتباع والمريدين. ومن الأعمال التي كان يقوم بها، أنه كان يدخل تنورًا يضطرم بالنار، فيجلس في ناحية منه، والخباز يخبز في ناحية أخرى، ثم يخرج من دون أن تمسَّ جسمَهُ النارُ. والواقع أنه كان يعمد قبل دخوله التنور إلى دهن جسمه بمادة الطلق التي لا تؤثر فيها النار، وهي مادة الأسبستوس المعروفة اليوم والتي تصنع منها ملابس خاصة لرجال الإطفاء، يرتدونها عند مكافحة الحرائق.
ومن أساليبه أيضًا في تضليل الناس واستقطابهم، كما جاء في تلبيس إبليس لابن الجوزي «أنه كان يخرج أحيانًا إلى البرية فيدفن الخبز واللحم والحلوى في الأرض، ويخبر بعض خواصه بذلك، ثم يقول لأصحابه: إذا رأيتم أن نخرج للسياحة. فيخرجون معه، فإذا بلغوا المكان، قال له صاحبه الذي أطلعه على ذلك: نشتهي الآن أن نأكل الخبز واللحم والحلوى، فينزوي الحلاج عنهم ويصلي ركعتين، ثم يقول لصاحبه: احفر هنا، فيحفر المكان ويستخرج منه ما دفنه فيه، فيعتقد من معه بأن ذلك لكرامته على الله». ومن أساليب الحلاج أيضًا في المخادعة أنه كان يستعمل الحمام الزاجل، ليأتي بأخبار البلاد البعيدة، من أصحاب له هنالك، في حين أنه كان يروي أمام الناس أنه عرف أخبار تلك البلاد بفعل ما له من مكرمة عند الله تعالى.
ولقد استطاع الحلاج بفعل حيل الذكاء هذه أن يوهم عقول السذج بأنه صاحب كرامات، حتى وصلت به الحال، إلى أن يدعي بسبب تلك الكرامات، الألوهية، ويطلب من أتباعه السجود له، والتوجّه إليه بالعبادة!!!
ومن أخبار الكرامات التي تتناقلها كتب التصوف ما جاء في نور الأبصار للشبلنجي في معرض حديثه عن كرامات عبد القادر الجيلاني «أن رجلًا من أهالي بغداد قال له: إن ابنتي اختطفت من سطح داري وهي عذراء. فقال له الشيخ عبد القادر: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ واجلس عند التل الخامس، وخطّ عليك دائرة في الأرض وقل وأنت تخطها: بسم الله الرحمن الرحيم على نية عبد القادر. فإذا كانت فحمة العشاء مرت بك طوائف الجن على صور شتى فلا يرعبك نظرهم، وفي السحر يمر بك ملكهم في جحفل منهم، فيسألك عن حاجتك، فقل له: بعثني إليك الشيخ عبد القادر، واذكر له ما جرى لابنتك. قال: فذهبت وفعلت ما أمرني به، فمرت بي صور مزعجة المنظر، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يمر في الدائرة التي صنعتها بأمر الشيخ، ووقفت في وسطها. وما زالوا يمرون زمرًا زمرًا إلى أن جاء مليكهم راكبًا فرسًا وبين يديه أمم منهم، فوقف بإزاء الدائرة وقال: يا إنسيّ ما حاجتك؟ فقلت له: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر. فنزل عند ذلك عن فرسه وقبل الأرض، وجلس خارج الدائرة هو ومن معه. ثم قال: ما شأنك؟ فذكرت له ما جرى لابنتي، فقال لمن حوله: علي بمن فعل هذا، فأُتِيَ بمارد ومعه ابنتي. وقيل له: إن هذا مارد من مردة الصين. فقال له: ما الذي حملك على أن اختطفت هذه البنت من تحت ركاب القطب؟ فقال: إنها وقعت في نفسي. فأمر به وضربت عنقه. ثم قلت له: ما رأيت مثل هذه الليلة من امتثالك أوامر الشيخ عبد القادر. فقال: نعم إنه في داره ينظر إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فيفرون من هيبته. وإن الله تعالى إذا أقام قطبًا مكنه من الإنس والجن وسلطه عليهم».
ومن أخبار كرامات الصوفية أيضًا ما حكاه الشعراني في طبقاته عن يوسف العجمي الكوراني من أنه «كان يسكن بلاد العجم، ويلتزم في تصوفه طريقة الجنيد، فجاءته الأوامر من السماء بالانتقال إلى مصر أولًا وثانيًا فلم يلتفت، وفي المرة الثالثة قال: اللَّهم إن كان هذا الطلب حقًّا وصدقًا فاقلب لي عين هذا النهر لبنًا حتى اشرب منه بقصعتي هذه. فانقلب النهر لبنًا وشرب منه. ثم غادر بلاد فارس إلى مصر وتولّى بها شؤون الطريقة، وتنازل له عنها حسن التستري أحد شيوخ الصوفية، وتولَّى مع ذلك خدمته. وظهرت له في مصر، كما يدعي الشعراني في طبقاته، الكرامات والخوارق التي تبهر العقول ولم يتيسر نظيرها لأحد من الأنبياء»!!!
ومضى الشعراني في طبقاته يحدث عن الصوفي العجمي ويقول: «أنه اتفق للشيخ يوسف أن خرج من خلوة الأربعين فوقع بصره على كلب فانقادت له جميع الكلاب وصار الناس يهرعون إلى الكلب في قضاء حوائجهم. فلما مرض ذلك الكلب اجتمعت حوله الكلاب تبكي وعليها مظاهر الحزن، فلما مات ارتفع صراخها وعويلها فسخَّر الله لها بعض الناس ودفنوه، فكانت الكلاب بعد دفنه تزور قبره، واستمرت على ذلك حتى مات كل من كان في عصره من الكلاب».
وقد قال الشعراني في طبقاته: «ولما مات الشيخ العجمي قام من بعده بمهمّات الطريقة تلميذه الشيخ حسن التستري وانتهت إليه رئاسة الطريقة. وكان السلطان، كما يدعي الشعراني، يتردد عليه لزيارته، غير أن حساده من أعضاء الدولة استطاعوا أن يصرفوه عنه، ويغيروا رأيه فيه، وهمَّ بحبسه أو نفيه، كما أرسل وزير الدولة ليسد باب زاويته. وكان الشيخ التستري خارج مصر مع حاشيته، فلما رجعوا ووجدوا باب الزاوية مسدودًا، وأخبروا الشيخ بأن الوزير قد قام بهذا الأمر بأمر من السلطان، قال: ونحن نسد أبواب بدنه وطبقاته، وبمجرد أن نطق بذلك أصيب الوزير بالعمى والطرش والخرس، كما انسد أنفه ودبره ومات في ساعته. ولما بلغ السلطان ما جرى لوزيره بوساطة الشيخ ذهب إليه وصالحه وفتح له باب الزاوية. وكان عسكر السلطان كله قد أعلن العصيان وانقاد إلى الشيخ التستري على حد تعبير الشعراني».
وحدث الشعراني في صفحة 95 من المجلد الثاني من طبقاته عن «الشيخ محمد بن أحمد الفرغلي وكراماته الكثيرة، في جملة من تحدَّث عنهم وعن كراماتهم من الصوفية. وجاء في ما نسبه إلى الفرغلي أن امرأة اشتهت الجوز الهندي فلم يجدوه لها في مصر. ولما أخبروه بذلك قال لأحد أتباعه ونقبائه: ادخل هذه الخلوة واقطع لها خمس جوزات من الشجرة التي تجدها داخل الخلوة. فدخل الخلوة ووجد فيها شجرة من الجوز الهندي، فقطع لها خمس جوزات ورجع. ثم دخل بعد ذلك فلم يجد شيئًا.
ودخل عليه بعض الرهبان فاشتهى بطيخًا أصفر في غير أوانه فأتاه به في الحال، وأقسم بالله بأنه لم يجده إلَّا خلف جبل قاف».
ومضى الشعراني يقول: «إن التمساح قد اختطف بنتًا لمخيمر النقيب، فجاء إلى الشيخ الفرغلي باكيًا وأخبره بما جرى لابنته. فقال له: اذهب إلى الموضع الذي خطفها منه وناد بأعلى صوتك: يا تمساح تعال وكلم الفرغلي. ولما فعل ذلك، خرج التمساح من النيل كالمركب ومشى، والناس بين يديه يمينًا وشمالًا يمشون معه، إلى أن وقف على باب الشيخ الفرغلي. فاستدعى الفرغلي الحداد وأمره بأن يقطع جميع أسنانه. ثم أمره بأن يلفظ البنت من جوفه فلفظها وخرجت منه حيةً كالمدهوشة. ثم أخذ عليه العهد بأن لا يخطف أحدًا، فرجع التمساح باكيًا إلى الماء. واستطرد الشعراني في حديثه عنه يقول: إن الشيخ فرغلي ادَّعى بأنه كان يمشي بين يدي الله تحت العرش، ويتحاور معه فيقول له الله كذا، ويقول هو له غيره!!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا».
ومن طرائف كراماتهم ما رواه الدكتور مبارك في كتابه «التصوف الإسلامي» عن الشيخ حيدر الصوفي: «أن هذا الشيخ كان يقيم في بلاد خراسان، وقد أقام زاوية في الجبل مكث فيها أكثر من عشر سنين، فاشتد الحرُّ عليه ذات يوم فخرج منفردًا إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور لم يعهدهما أصحابه من قبل. وأذن لأصحابه بالدخول عليه، فلما رأوه منشرحًا بعد إقامته تلك المدة الطويلة في خلوته منعزلًا عن الناس سألوه عن سبب ذلك، فقال: بينما أنا في خلوتي، إذ خطر ببالي أن أخرج إلى الصحراء منفردًا فخرجت، ووجدت كل شيء من النباتات ساكنًا لا يتحرك من شدة الحر. وبينما أنا أسير مررت بنبات له ورق فرأيته في تلك الحالة يميس بلطف ويتحرك من غير عنف كالثمل النشوان، فجعلت أقطف من أوراقه وآكل فحدث عندي من الارتياح والنشوة ما ترونه. ثم هدى أصحابه إلى هذا النوع من الحشيش وأوصاهم بكتم السرِّ عن العوام وقال: إن الله قد خصكم بسر هذا الورق ليذهب بأكله همومكم ويجلو به أفكاركم، ثم أمرهم بزرع هذا الحشيش حول ضريحه بعد موته. وقد ذكر الشعراء هذه الحشيشة وسمَّوها مدامة حيدر، وفي ذلك يقول محمد الدمشقي:
دعِ الخمر واشربْ من مدامة حيدرٍ مغيَّرةً خــضراء مثــل الــزبرجـدِ
يعاطــيكها ظــبيٌ مــن الترك أغيدٌ يميس على غصن من البان أملدِ
فتــحسبــها فـي كــفِّه إذ يُــديــرها كــرقم عــذار فــوق خــد مورَّدِ
وقال الدكتور مبارك: لقد شاع الحشيش في البيئات الصوفية، وكان للصوفية أياد في نشره بين الجماهير الصوفية الفارسية والمصرية. ويقال إن بعض الناس في مصر لا يزالون يستعملونه إلى غير ذلك من حكايات الكرامات التي شحن فيها الشعراني طبقاته وغيره من مؤلفي التصوّف الذين ملؤوا بطون كتبهم منها، بحيث تظهر وكأنها من وحي السماء، بينما في الحقيقة تبقى لطخة في تاريخ المسلمين، وسخرية للأجيال، ومعول هدم وتخريب بيد أعداء الإسلام».
ومما جاء في الكتاب نفسه (التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق ـــ المجلد الثاني) للدكتور زكي مبارك: «أن أحد الصوفيين خطب امرأة ذات جمال، وقبل زفافها إليه أصابها الجدري، فاشتد حزن أهلها لذلك خوفًا من أن يستقبحها، فأراهم الرجل أن عينيه أصابهما رمد وأنه فقد بصره، وزفت إليه وذهب عن أهلها الحزن، وبقي عشرين سنة مطبقًا عينيه لا يفتحهما لا سرًّا ولا علانية. وبعد مضي عشرين سنة على زفافهما توفيت ففتح عينيه كما كان قبل زفافها. فسأله إخوانه عن سر رجوع بصره بعد عشرين سنة، فقال: إن بصري لم يذهب ولم ترمد عيناي، ولكني تعمَّدت ذلك لأجل أهلها حتى لا يحزنوا»!...
هذا وتذكر كتب الصوفية أحد شيوخ بغداد، وقد وقف أمام أتباعه على شط الفرات وقال: لئن لم تخرج إليَّ الساعة سمكة فيها ثلاثة أرطال، لا تزيد عليها ولا تنقص لأرمينَّ بنفسي في النهر. ثم زعموا أنه خرجت له السمكة كما اشترط. فلما بلغ ذلك «الجنيد» سأله إن كان حقًّا يرمي بنفسه لو لم تخرج؟ فقال: نعم!
ومن حكايات الصوفية في باب الكرامات حكاية إحياء «البدوي» فتاة ميتة سخر أبوها من البدوي ومن هيئته وقد تقدم للصلاة عليها. فأراد البدوي إظهار كرامته، فمد يده إلى الفتاة فانبعثت واقفة!!! ومثلها حكاية إخراج الدسوقي لغريقٍ قضى في بطن الحوت سبعة أيام.
أما شفاء المرضى فأمر يدَّعيه أهون الصوفية شأنًا. وأمثلة هذا الادعاء في زماننا لا تعدُّ ولا تحصى، نجدها كل يوم في تلك الأم التي تهرع إلى الشيخ الصوفيّ ترجوه أن يعيد العافية إلى وحيدها الذي يذوي من المرض، بدل أن تذهب إلى عيادة الطبيب، أو إلى مستوصف القرية لفحصه وإجراء الاختبارات لكشف علته، أو في تلك الزوجة التي تلجأ إلى شيخها كي يداويها من العقم، أو ليعِدَّ لها حجابًا أو تميمة لابنتها الحولاء حتى تشفى عينها من الحول وما إلى ذلك من الأحجبة والتمائم والرُّقى والتعاويذ التي يستعملها الطُلَّاب، أو يلجأ إليها المشغوفون بالحب، وهي تشكل في مجتمعاتنا داءً وبيلًا ينخر في أذهان البسطاء منا، وكل ذلك «باسم الدين وكرامات الشيوخ، وتقوى العابدين السائحين...»!!!
فأي مسلمين هؤلاء الذين يوهمون هذه العقول، وأي مسلمين هؤلاء الذين ينخدعون بمثل تلك الأوهام؟ ومتى كان المجتمع الإسلامي يُبنى على الخزعبلات والترَّهات والأضاليل؟ ومتى كان كتاب الله، القائم فينا أبدًا، يدعو إلى غير التفكُّر، والتعقُّل، والتبصُّر، ويخاطب دائمًا أصحاب الألباب أن الحقائق، والحقائق وحدها، هي مبتغانا، لأنها هي السبيل إلى الهدى والإيمان، والعيش السويِّ، والحياة الفاضلة.
هكذا استعمل بعض الشيوخ المتصوفين تلك الخرافات والأكاذيب والمخادعات، التي لا تختلف بشيء عن الشعوذات السحرية، للوصول إلى المآرب التي كانوا يخططون لها، كالحصول على الجاه والثروة، وكاستقطاب الأتباع والمريدين. لكن الأهم من ذلك كله، هو نيلُ الشيخ لقب «الكرامة»، وعدُّه من أصحاب «الكرامات». على أن بعضهم كان، إذا تحقق له ذلك، سيطرت عليه حالة من الغرور والإحساس بالتفوق، قد تبلغ به أحيانًا درجةً من التعاظم والتكبر على مخلوقات الله تجعله «مريضًا بجنون العظمة». فيترفع الشيخ المريض عن مجالسة الأتباع لأنهم دونه شأنًا، ويميل إلى العزلة عن الناس لاتقاء خطرهم. وقد يشتدُّ به «مرض العظمة» حتى يتوهم أنه بلغ من علو القدر ما لا يدانيه فيه وفي عظمته إنسان، وأنَّ الناس يجب ألَّا ينغِّصوا عليه حياته الرفيعة، أو يقلقوا مكانته الممتازة، ليعيش في جو خياليّ لا وجود له إلَّا عنده، ولا مكان له إلَّا في نفسه.
ومن هذه الأحوال والأنماط ما نقرأه في ترجمة الرفاعي «شيخ الطريقة المعروفة» من أنه كثيرًا ما كان يتجلَّى عليه الحق بالعظمة فيذوب حتى يصير بقعة ماء، ثم تدركه الرحمة فيجمد شيئًا فشيئًا حتى يرجع إلى بدنه كالمعتاد! وفي هذا يقول الرفاعي لأتباعه: «لولا لطف الله ما عدت إليكم».
ومن هذه الأحوال أيضًا ما نقله الشعراني عن ابن عربي في الفتوحات المكية من أن «الحلاج كان يدخل بيتًا يسميه (بيت العظمة)، وكان إذا دخله ملأه كلَّه بذاته! وأنهم لما دخلوا عليه ليأخذوه للصلب كان مقيمًا في ذلك البيت، فما قدر أحد أن يخرجه منه، حتى جاءه الجنيد وقال له: «سلّم إلى الله تعالى»!...».
هذا غيض من فيض من الحكايات والروايات التي تتناقلها كتب الصوفية، أو الكتب التي تبحث في التصوف عند المسلمين. ومنها يظهر للعيان كيف استخدم شيوخ الصوفية «الكرامات» التي ادَّعوها لتحقيق مآرب شتى. بل لقد عدَّت الكرامات ركنًا من أركان التصوف عندما يستغرق الصوفي في الأحوال والمقامات، لذلك قيل: إن الكرامة عند الصوفية معناها «كل عمل خارق للعادة يجريه الله على أيديهم إكرامًا وتعظيمًا لهم. وهي تقابل المعجزة التي كانت تجري على أيدي الأنبياء. والفرق بينهما كما يدَّعي القشيري في رسالته أن الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة في الظروف التي تضطرهم لذلك، في حين أن ذلك لا يجب على الصوفية وأوليائهم. ويدَّعي القشيري أيضًا في رسالته أن الكرامة لا تظهر في المقدرات على حد تعبيره، كإيجاد إنسان بدون أبوَين، وتحويل الجماد، كالحجر مثلًا، إلى حيوان ونحوه. وكل شيء فيما عدا ذلك يدخل في نطاق إمكانياتهم»!
وإن الرَّد البسيط على هذه «الإمكانيات» التي لا تعدو في حقيقتها الخرافاتِ والأوهام التي هي من نسج خيالات الصوفية، هو أنه إذا كانت المعجزات حقيقةً مسلَّمًا بها في حق الرسول، فلا ضرورة لأمثالها ونظائرها في حق مدَّعي الصلاح من الصوفية! ثم ما فضل المتصوفين على الناس، وهم ممن لا يهتمُّون إلَّا بأنفسهم، ولا يعملون شيئًا في سبيل الصالح العام؟! ولو كانت الكرامات دليل صلاح وتقوى ـــ كما يقولون ـــ لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أَحقَّ بها من هؤلاء المتمشيخين المتأخرين الذين تنسب إليهم الكرامات بغير حساب.
ولقد حار الصوفية في دفع هذا الاعتراض حتى لم يجدوا آخر الأمر بدًّا من اختراع بعض الكرامات ينسبونها إلى الصحابة الأطهار، ليتناقلها الناس عنهم، وتكون لهم حجةً على صحة ادِّعاءاتهم هم. ولكن فاتهم أن حياة الصحابة والتابعين قد تزكَّت بالجهاد والشهادة، وليس بعدهما مرتبة لا في الكرامة ولا في الولاية، وليست بطولاتهم الصادقة في حاجة إلى أن يلصق بها شيء من الروايات الكاذبة أو الكرامات الخادعة لرفع أقدارهم التي لا ترضى أن ترتفع بشيء غير الإسلام. أما شيوخ التصوف فليس لهم شيء يفخرون به غير ادِّعاء الكرامات، فإذا ما نزعت عنهم فماذا يبقى لهم؟ وبماذا يوهمون البسطاء من أبناء أمتنا للالتجاء إليهم حتى يقنصوا دُريهماتهم؟ من أجل ذلك يحرص أتباع التصوف على الدفاع عن كرامات الشيوخ حتى يبقى باب الرزق مفتوحًا، ويكون لهم ذلك التأثير في سحر العقول، وتسخيرها لأغراضهم ومنافعهم... أما فيما ينفع الأمة ـــ وهو أول واجب ديني يقع على عاتق كل مسلم ـــ فلا شيء منه عند شيوخ الصوفية، وأتباع التصوف. وهذه التعاليم الصوفية هل تجد فيها دعوة إلى الرشد، أو ثورة على الضعف، أو حثًّا على العمل؟ أم أنها تدور كلُّها حول السُّبل التي تؤول إلى حلول الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في أبدانهم، والطُّرق التي تؤدي إلى اتحادهم بالحق، أو المشاهدة العينيَّة للخالق الأعلى، هذا فضلًا عن الإثم والعدوان في ادِّعاء الألوهية، والقدرة على تسيير شؤون الكون وإخضاع العوالم لمشيئتهم؟!!! وبعيدًا من هذا، ماذا يفيد المسلمين حكاية إحياء البدوي للموتى، أو مقدرة الشاذلي على إحالة التراب تبرًا؟ أو إرشاد الشيخ حيدر أصحابه إلى الحشيش، أو إحضار الفرغلي ثمرة الجوز الهندي إلى امرأة وغيرها من حكايات أهل «الكرامات» التي امتلأت بها بطون كتبهم؟ نعم ماذا يفيد المسلمون من هذه الأخبار، فهل تغني من جوع أو تسد حاجة، أو تورث غنًى؟ وهل هي تاريخ مشرِّف للمسلمين يتفاخرون به أمام غيرهم من الشعوب، في حين أن هؤلاء يدفعون إليهم بالكتب العلمية والأدبية التي يفاخرون بأنهم أنشأوا على أساسها الحضارات، وأقاموا المدنيَّات، وسبقونا أجيالًا بعيدة في مضمار الرقي والتقدم؟!
إن جلَّ ما تفعله تلك الحكايات الصوفية أنها قد تهيج أناسًا أغلقوا أفهامهم من دون الحق بحكم ما ورثوه اضطرارًا من تقاليد لم يعنوا بامتحانها. ولو زادت درجة الوعي عندهم قليلًا لرفضوا مثل هذه الحكايات، ولقالوا: لا، ليست هذه من الإسلام في شيء فهي تبعدنا عن حقيقة ديننا وصدق إيماننا، ألا فلْيتقِ هؤلاء الله تعالى في دينه المتين، ولْيعلموا أنَّ الله ـــ جلَّ وعلا ـــ يمهل ولا يهمل، وكل نفس بما كسبت رهينة، وإنا لَنرجو أن يرجع هؤلاء المنهوكون، المترددون، إلى صدق الشعور في فهم حقيقة الإسلام خالصة من شوائب التصوف، وغبار الوهم، وضلال الاستكانة!!!


الولاية
ولا يرتبط بالكرامات إلا الصوفيون الذين يدَّعون «الولاية» لذا قالوا إنها لا تتحقَّق ولاية بغير كرامة. ثم قالوا إن الكرامة لا تكون إلا نتيجة للعمل بالكتاب والسنَّة، وهي أمارة للصدق على صحة السلوك. ومعنى الولاية في كمالها عند الصوفية تسخير قوى الكون للوليّ بقوة روحانية، فتصير له القدرة على إتيان المعجزات والخوارق، والإخبار بالغيب، والتلقِّي من الهاتف، والنطق بالسريانية من دون تعلُّم. أي إنَّ الولي يصبح في منزلة أو مقام لا يمتنع فيه عليه عسير، ولا يستحيل أمام إرادته أمر، حتى إنه يقول للشيء «كن فيكون»!!! لذلك فقد اتخذوا شعارًا لهم «كل ما كان معجزة لنبيٍّ جاز أن يكون كرامةً لوليّ».
وطريق الوصول إلى الولاية هو «العلم اللَّدُني» الذي يدَّعون تلقِّيه عن الله تعالى بلا وساطة. ويقولون إنه أصح وأحكم من العلوم المكتسبة المحصلة بالتعليم، وفيه غناء عنها. أما موضوع هذا العلم فهو: الفيوضات والتجليات والكشف والكرامات. وتتألف مادته من تفسيراتهم الغريبة لما يقع تحت سمعهم وبصرهم، ومن أقوالهم التي يلقونها في المناسبات ويسمُّونها «فتوحات العارفين وبُشريات الواصلين». والتحقق بهذا العلم معناه الولاية، وفي فروع هذا العلم استخدامهم الطِّلسمات والحروف والأرقام في شفاء الأمراض وكتابة التعاويذ. ويرجع الصوفية أصل هذا العلم إلى صاحب موسى، عليه السلام، الخضر، عليه السلام، فهو عندهم إمام الأولياء والسالكين، يلتقيه الشيوخ عيانًا كما يزعمون، ويتلقون عنه الأسرار، لأنه لم يمت، ولن يموت إلى آخر الزمان. وهو يقيم بالمسجد الأقصى، ويطوف بالأكوان، ويحضر في كل مكان، لذلك فهو يلقى الصوفية عند ذكره عليه السلام!!!
وهكذا فإنَّ الولي عند الصوفية هو من «توالت طاعته وتحقَّق قربه واتَّصل مدده». وقد جاء في الرسالة القشيرية أن الوليَّ له معنيان:
أحدهما فعيل بمعنى مفعول وهو من يتولَّى الله سبحانه أمرَه، ومنه قوله تعالى: [وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] فلا يكله إلى نفسه لحظة واحدة بل يتولَّى هو رعايته.
والثاني فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولَّى عبادة الله تعالى وطاعته. فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان لله تعالى.
وكلا الوصفين واجب حتى يكون الوليُّ وليًّا، فيجب قيامه بحقوق الله سبحانه على الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله له في السراء والضراء. ومن شرائط الوليِّ أن يكون محفوظًا، كما أن من شرائط النبيِّ أن يكون معصومًا.
وجاء في دائرة المعارف (وجدي)، كما قال أبو علي الجوزاني بأن «الولي هو الفاني في حالة البقاء في مشاهدة الحق سبحانه، وقد تولى الله سبحانه سياسته فتوالت عليه أنوار التولّي ولم يكن له من نفسه خِيار ولا مع غير الله قرار».
وجاء في الرسالة القشيرية أيضًا أن الخزاز كان يقول: «إذا أراد الله تعالى أن يوالي عبدًا من عبيده فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذَّ الذكر فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس به، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو، فحينئذٍ صار العبد زمنيًّا فانيًا ووقع في حفظه سبحانه وبرئ من دعاوى نفسه».
وجاء في طبقات الشعراني «أن من الأولياء الشيخ أبا عليّ. وكان من أكمل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى. وهو كثير التطورات، تدخل عليه في بعض الأوقات فتراه جنديًّا وفي بعض الأحيان تجده سبعًا، ثم تدخل عليه فتراه فيلًا، وأحيانًا تدخل عليه فتجده صبيًّا. وهكذا يظهر في أكثر أوقاته بأشكال متباينة وصور مختلفة». وجاء في الطبقات أيضًا «أن الشيخ محمد شعيب دخل الخلوة على الشيخ محمد الغمري فرآه جالسًا في الهواء له سبع عيون... ويقول الشعراني: إن الشيخ علي أبو خوذة كان من أرباب الأحوال ومن الملامتية ، وكان يتعمد الأعمال التي توجب الإنكار عليه، فإذا أنكر عليه أحد أعماله عطبه.
ويقول الجنيد: لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الأولياء حتى يشهد عليه ألف صديق من علماء الرسوم بأنه زنديق، لأن أحوالهم وراء العقل والنقل». ثم يضيف إلى ذلك: «ولا يكون الوليّ وليًّا عند الصوفية حتى يثبت لأشد الأهوال وأعظمها خطرًا، ولا يتزعزع من مكانه حتى ولو فوجئ بما لا يطيقه أحد من الناس، لأن الوليّ يجلسه الله على كرسي التوحيد ويرفع عنه الحجب ويدخله دار الفردانية، ويكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره عليهما يبقى بلا هو ويفنى في الله».
ومن قبيل هذا ما زعمه (ابن عربي) في صدر كتابه (الفتوحات المكية) من أنه نُصب له كرسيٌّ بين يدي الله تعالى وحوالَيه عظماء الملائكة والأنبياء لاختياره لختم الولاية. وقد توهم الدسوقي وغيره من مشايخ الصوفية ذلك، وأعجبوا به!.
ومظاهر الولاية عندهم تكون في قذارة الثياب، وإطالة الشعر، وارتداء الخرقة والمرقعة، والتشرد في الأرض، وذهول الوليّ عن نفسه، وفساد عقله ونكران وجوده.
على أن تلك البدع التي يُرجعون الولاية إليها، لم يقيِّض الله تعالى لها رجالًا يقضون عليها إلى الأبد، ويميتُونها من حيث أتت، فكان أن نجح الصوفية فيما ابتدعوا، وحسبوا بذلك أنفسهم غاية الله في خلقه، وصفوة الصفوة من عباده، وأنهم وحدهم مختصُّون بالولاية عن سائر الناس. لذلك ـــ لما أصبحت الولاية لهم وحدهم ـــ شكَّلوها بما يناسب أهواءهم، وأخرجوها من مراد الله منها، وساروا بها في طريقها الهندي القديم: من تعذيب النفس بالرياضات والمجاهدات. وسمَّوا ذلك «طريق الوصول إلى الله»، وجعلوا لهذا الطريق مراحل يقطعها «السالك» مرحلة إثر مرحلة، حتى يصل في نهايته إلى مرحلة «الفناء» التي هي غاية الغايات عند الصوفية!!!
وهكذا قسَّموا الولاية على أساس الكرامات مراتب، أعلاها مرتبة «القطب» وهو كبير القوم، ومهبط الرحمة، ومصدر البركات، ولا يتعدَّد صاحبها، حتى يخلفه غيره. ولهم في القطب نظريات واسعة. فقد جاء في الفتوحات المكية وغيرها «أن للأولياء عند الصوفية ثلاث مراتب: الأولى هي الأقطاب وأنواعهم ثلاثة:
القطب الواحد وهو في نظر محيي الدين بن عربي روح محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
والثاني: قطب العالَم الإنساني، ويعنون به أن الأرض لا تخلو من رسولٍ حيٍّ بجسمه. ويدَّعون أن الله قد أبقى بعد محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، رسلًا أحياء في هذه الدنيا بأجسادهم. وهم: إدريس عليه السلام وقد أبقاه الله حيًّا بجسده وأسكنه في السماء الرابعة، وأبقى في الأرض إلياس وعيسى عليهما السلام وكلاهما من المرسلين القائمين بالدين الحنيف الذي جاء به محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأبقى الخضر، عليه السلام، وهو الرابع من هذه الأقطاب وأحد أركان بيت الدين وهو ركن الحجر الأسود. وأضاف إلى ذلك (يقصد ابن عربي الذي ينقل عنه): أن اثنين من هؤلاء الأربعة إمامان وأربعتهم أوتاد الأرض.
والقطب الثالث: هو قطب الغوث، وجاء في الفتوحات المكية في وصفه، أن هذا القطب لا يكون منه في الزمان إلا واحد، وهو قد يكون ظاهر الحكم، ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وعمر بن عبد العزيز، وقد يحوز الخلافة الباطنة لا غير، ولا حكم له في الظاهر كأحمد بن هارون الرشيد، والسبتي وأبي يزيد البسطامي، وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر».
فأولى مراتب (الولاية) إذن، وأعلاها مرتبة القطب، ويليها رتبة «الإمامة» وتكون لاثنين عن يمين القطب وشماله بمنزلة الوزراء منه: أحدهما عبد الرب، والآخر عبد الملك، ويخلفه أحدهما عند موته. وتأتي بعد ذلك مرتبة «الأوتاد» وهم أربعة في كل زمان، يحفظ الله بأحدهم المشرق، وبالثاني المغرب، وبالثالث الجنوب، وبالرابع الشمال.
ثم يلي ذلك مرتبة (الأبدال) وهم سبعة، ويحفظ الله بهم الأقاليم السبعة «وهم عارفون بما أودع الله سبحانه وتعالى الكواكب السيارة من أمور وأسرار في حركاتها ونزولها في المنازل المقدَّرة. وسُمُّوا (أبدالًا) لأن أحدهم إذا فارق موضعًا ترك فيه شخصًا روحانيًّا على صورته.
وبعد الأبدال تأتي مرتبة (النُّقباء) وهم اثنا عشر على عدد بروج الفلك. وكل نقيب يكون عالمًا بخاصية كل برج وما فيه من أسرار. وهؤلاء أودع الله فيهم علوم الشرائع المنزلة، واستخراج خبايا النفوس وغوائلها، ومعرفة مكرها وخداعها».
وتأتي بعد ذلك مرتبة (الأنجاب أو النجباء) وهم ثمانية، ومقامهم الكرسي، ولهم قدم راسخة بعلم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع.
وأخيرًا يأتي مقام «الشيوخ» وهم أربعون. وهؤلاء يعقدون الجلسات الروحية ليلة الأربعاء من كل أسبوع. فتعرض عليهم فيها أمور الناس وأحوالهم، فيقسمون فيها الحظوظ والأرزاق، ويكتبون المواليد والوفيات، ويهبون لمحبّيهم وزائري قبورهم العافية والبركة والنجاح، ويقدرون العقوبات والمناصفات على العصاة والمذنبين والمعترضين!!! يقضون في هذا كله ثم يبعثون بقراراتهم إلى «النجباء» و«النقباء» فيخبرون بها الناس.
أمَّا من الناحية التاريخية فيكاد يجمع مؤرخو التصوف على أن ذا النون المصري ـــ وهو من أعلام الصوفية الأوائل ـــ كان أول من تكلم في مراتب الأولياء. ويرجحون أنه نقل هذا النظام من الوثنية الفرعونية التي كانت جارية على تقسيم درجات الكهنوت إلى مراتب ودرجات. ويدللون على ذلك بأن هذا الصوفيّ كان يقضي أكثر أوقاته في بَرِّ أبي أخميم متنقلًا بين آثارها وكاشفًا عن أسرارها، وساعيًا وراء الذهب والكيمياء فيها. ويرى بعضهم أنه نقلها مما كان شائعًا بين رجال الكنيسة في الإسكندرية. وسواء أصح هذا أم ذاك فليس بذي بال، لأن المتفق عليه هو أن الصوفية هم غلاة دُخلاء على الإسلام، وأن تقسيمهم الولاية مراتب، وادِّعاءهم بأنهم الأولياء من دون سائر الناس ـــ ذلك كله ـــ لا يمت بأيّ صلة إلى الإسلام الصحيح، البعيد من كل ما دُسَّ فيه وأدخل عليه زورًا وبهتانًا.
ويقسم الصوفية، على أساس مراتب الولاية، الديار مناطق نفوذ ودوائر اختصاص للأولياء. فمن مكان كذا إلى مكان كذا يقع في دارة الوليّ فلان، ومن حدود كذا إلى حدود كذا في دائرة الوليّ الآخر فلان. فلا يليق أن يتقدَّم سائلٌ قليل الذوق برجاء إلى البدوي في طنطا إذا كان بحكم مولده وإقامته يقع في دائرة نفوذ الدسوقي بدسوق!... وقس على ذلك.
أما لجهة تقدير الأولياء وتقديس ذكرهم، فتقام لهم ـــ وهم في قبورهم ـــ الموالد في المواسم المعيَّنة من كل عام، حيث يلتقي في محيطها خلق كثير، فيولم الصوفية في هذه الموالد على حب أصحابها، وينحرون المواشي نذورًا لأربابها. ويرجعون منها ـــ في المقابل ـــ بالأموال الوفيرة التي ينزعونها من أقوات الفقراء وحُليِّ النساء، مقابل السماح لهم بالنوم في سرادقاتهم، وحضور مجالس الذكر، التي تكتب فيها الاستغاثات بماء الزعفران والورد، يتفضل بها الشيوخ الأحياء على من حولهم، زاعمين أن توجيه هذه الاستغاثات إلى من في القبور والأضرحة هو أقرب الطُّرق ليرفعوا عنهم الضرّ، ويكشفوا عنهم الكرب والبلاء، ويستنزلوا عليهم البركة، ويستمدُّوا المال والولد، ويدفعوا عن حقولهم آفات الزرع، ويكيدوا لخصومهم، وسارقي أرزاقهم، ويقتصوا من أعدائهم في أبنائهم وأموالهم... إلخ.
ويضاف إلى ذلك ما ادَّعَوه بأن الولاية هي المرتبة التي ينتفي فيها الأخذ بالأسباب، فيكفي أن يدور الأمر برأس الوليّ ليكون قدَرًا مقدورًا!... ثم بالغوا في تعظيم أصحاب الولاية فأنزلوهم منزلةً فوق منازل النبيِّين والصدِّيقين والشهداء. وذلك بقولهم إن للأولياء في حياتهم قوة قدسية ينالون بها العلوم من غير علم: فعندهم سر اسم الله الأعظم، وعلم اللوح والقلم، وما في أم الكتاب... ويكفيهم ذلك قدرًا حتى يكونوا فوق مستوى البشر، الذين تجب عليهم طاعتهم وطلب المدد منهم (لذا تسمع أتباعهم ـــ عند نزول الشدائد بهم ـــ يستغيثون بقولهم: المدَدْ... المدَد...)، ويعتقدون أنهم معصومون من الذنوب، فإن أذنبوا احتجوا بالقدَر، أو اعتذروا بأن الشرائع لم تنزل من أجلهم! إلى غير ذلك من أوهام جنون العظمة، وترَّهات الادِّعاء الفارغ، ويقولون: إن الأولياء لا يموتون بل يرفعون، وإن أجسادهم لا تبلى في القبور، وإنهم في حياة البرزخ يُشرفون على شؤون الخلق كما كانوا في الدنيا!!!
ولم يقنع الصوفية بما ذهبوا إليه من الشطح والادِّعاء في تفسيرات الولاية وردِّ مصادرها إلى الرسول محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بل راحوا يقرنون بين الولاية والنبوَّة، فجعلوا للولاية خصائص ومميزات من جنس خصائص النبوَّة ومميزاتها، إذ جعلوا الكشف في الولاية نظير الوحي في الرسالة، وقالوا: إن الأولياء يتلقَّون «الفيض» و«العلم اللَّدُني» عن الله تعالى مباشرة، فلا حاجة بهم إلى الرُّسل لأنهم يأخذون من المورد نفسه الذي يأخذ منه الرُّسل! ويضعون الكرامات التي لا تخرج، كما رأينا، عن كونها نوعًا من القصص والتصورات الخرافيَّة، في منزلة معجزات الرسل. ثم يُتْبِعون هذا الادِّعاء بانتحال معجزات الرُّسل واحدة واحدة!!!
وينعت محيي الدين بن عربي الولاية بالنبوَّة فيقول: «نبوَّة الولاية» و«نبوَّة الشرائع» ويقول هو وسائر الصوفيين: هما من مصدر واحد!
ومن الصوفية من يقول بتناسخ النبوَّة وظهورها في الأولياء. وقد أشار إلى ذلك عبد الكريم الجيلي في تعريف (الإنسان الكامل) إذ قال: «إنه القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود، وإنه واحد لا يتعدَّد، وإنما يظهر في الأنبياء والأولياء في صوَر وملابسات مختلفة»... لذلك كان يسيرًا على بعض الصوفية أن يدَّعوا لأنفسهم، جهرًا وسرًّا، صفة النبوَّة والرسالة، فكان الشبلي يقول لتلميذه: «أشهد بأني أنا رسول الله». ويحكون أن تلميذه هذا كان صاحب كشف، لذلك أقرَّ له بالرسالة، فقال: «أشهد بأنَّك رسول الله». وليس هذا بغريب ولا مستبعد على قومٍ انتحل بعضُهم لأنفسهم «صفة الربوبيَّة».
ولـمَّا هام علاة الصوفية بالولاية عشقًا، صرَّحوا أن الولاية أعظم وأجل خطرًا من النبوَّة، وأن الأولياء يفضَّلون على الأنبياء!!! ثم اصطنعوا الأحاديث اللازمة لتأييد هذا الفضل المزعوم، مثل قولهم: الأولياء على منابر من نور، وإنهم في مقام يغبطهم عليه الأنبياء والشهداء. بل لقد زادوا في غلوائهم تلك حتى نطقوا بعبارات يتطاولون بها على مقام أنبياء الله ورسله الكرام. فقال أبو الغيث بن جميل الصوفيّ: «خضنا بحرًا وقف بساحله الأنبياء»!!! وقال الجيلاني: «أنتم معشر الأنبياء أوتيتم اللَّقب، وأوتينا ـــ أي نحن الأولياء ـــ ما لم تُؤْتَوا»! ويقول ابن عربي في تفضيل الولاية على الرسالة والنبوَّة: «إنَّ الله لم يتسمَّ بالنبيِّ ولا بالرسول، ولكن تَسَمَّى بالوليّ». وهذا القول، على المعنى المقصود، إلحادٌ في أسماء الله الحسنى.
وحول هذا المضمون قال ابن عربي في كتابه (فصوص الحكم): «لما كان كل نبيٍّ وكل رسولٍ وليًّا كانت النبوَّة والرسالة مرتبتَين خاصَّتَين تلحقان بالولاية، وتزولان عنها بزوال أسبابها كما تزول عن الملك صفة الملكية فيرجع إلى مكان عليه. والنبوَّة والرسالة من شؤون هذا الْعَالَمِ لذلك لم يكن لها زمان ولا مكان» وأضاف: «إن النبوَّة وهي إحدى مراتب الولاية فقضي عليها بالانقطاع لأنها من الصفات التي تزول عمَّن يتصفون بها، أمَّا الولاية فلا زوال لها».
ومما يشير إلى أن الولاية الصوفية عندهم أعظم شأنًا من النبوَّة ما جاء في صفحة 117 من المجلد الثاني من (فصوص الحكم) لابن عربي: «أن الوليّ يطلق على العبد إذا اكتملت فيه حقًّا صفات الولاية، وأخصُّ صفات الولاية الإسلامية هي الفناء في الله والتحقق بالوحدة الذاتيَّة بين الحق والخلق، فإذا وصل العبد إلى هذا المقام فقد وصل إلى غاية الطريق الصوفيّ، وحق له أن يسمِّي نفسه لا باسم الوليِّ وحدَه بل بأي اسم من الأسماء الإلهيَّة»!!! فالعفوَ والمغفرةَ نطلب منك يا ربّ لهذا الكفر باسم الإسلام، وباسم «الولاية الإسلامية» من رجلٍ مثل ابن عربي، ادَّعى بأنه من المسلمين!!! ثم يأتي قول ابن سبعين شاهدًا على تزويرهم لحقيقة النبوَّة، وصدق الرسالة التي حملها محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما يقول ذلك الشيخ الصوفيّ بكل صلافة وجرأة وبهتان: «لقد غالى ابن آمنة بقوله: لا نبيَّ بعدي».
ولقد كان الترمذي الصوفيّ (وهو غير الترمذي المحدِّث) أول من عقد مقارنة بين النبوَّة والولاية متأثرًا بما اطَّلع عليه من مسائل اللاهوت والفلسفة. وقد انتهت أبحاثه ومقارناته إلى اختراعٍ بل افتراءٍ ضخم هو القول بوجود ما يسمَّى «خاتم الأولياء». لذلك وقفت الولاية إلى جوار النبوَّة بهذا اللقب الذي يعادل صفة «خاتم النبيين». وقد احتاط الترمذي فاختار لمقام ختم الولاية عيسى عليه السلام!
ولم يكد هذا الاختراع يستقر في أذهان الصوفية حتى تهافتوا عليه تهافت الجراد على الأخضر، مدعيًا كلٌّ منهم حقه أن يكون هو «خاتم الأولياء» هذا! وقد خشي ابن عربي أن تفلت منه هذه الدرجة، فلم ينقطع عن التأكيد لأتباعه بأنه المختصُّ من دون الناس بهذا المقام، الذي قال عنه: «لم يكن الحق ـــ أي الله تعالى ـــ أوقفَني على ما سطَّره لي في توقيع ولايتي أمور العالَم حتى أعلمني بأني خاتم الولاية المحمديَّة»!!!
وفي هذا المجال أيضًا يحكي الشعراني في طبقاته عن إبراهيم الدسوقي أنه كان يقول: «أنا موسى في مناجاته، وأنا عليٌّ في حملاته، أنا كل وليٍّ في الأرض، أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته»... وهكذا، إلى أن زعم أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال له: «يا إبراهيم أنت نقيب على الأولياء»!!!
فهل نظرت أيها القارئ الكريم إلى تلك المزاعم والأباطيل التي يشوهون بها حقيقة الإسلام، والإسلام منها براء؟!
إنه ما من مسلم يُنكر الأولياء، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم، لقوله سبحانه وتعالى: [وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] (آل عمران: 68). وقوله عزَّ وجلَّ: [أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ] (يونس: 62 ـــ 63)، وقوله عزَّ من قائل: [وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ] (الجاثية: 19). فالله جلَّ وعلا يقرن الولاية بالإيمان، وبالتقوى، ويصف نفسه سبحانه بأنه وليّ المؤمنين والمتقين، وأن أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتَّقون، في حين أنه ـــ من ناحية أخرى ـــ يجعل الظالمين بعضَهم أولياء بعض، والفارق كبير بين المؤمنين والمتَّقين، وبين الظالمين، ولا نحسب الصوفية، وقد حرَّفوا آيات الله تعالى وأوَّلوها وفق أهوائهم وشهواتهم، إلَّا إنهم هم الظالمون الذين توالوا على الظُلم كابرًا عن كابرٍ. وكان بعضهم يتولَّى الظلم عن بعض ويعمل ما يكسب به عداوة الله تعالى ورسولِهِ والمؤمنين!!!
نعم إن الإيمان بالله، والامتثال لأوامر الله ونواهيه، هما طريق المسلم لنيل مرتبة الولاية التي لا تكون إلَّا لله تعالى أو لمن ولَّاه إياها من قِبَلِه كقوله سبحانه: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ] (الأحزاب: 6) ذاك أن الولاية منزلة الرضا والعَفو والمغفرة، ومنزلة الرحمة والثواب.
أما ادِّعاء القدرة على تصريف شؤون الكون، ومشاركة الله تعالى في الألوهية، ونيل مرتبة أعلى من النبوَّة والرسالة، فهذا كفر واختلاق، ليس من الإسلام في شيء، لأنَّ الإسلام جعل الألوهية والربوبية لله تعالى، وجعل العبودية لخلق الله أجمعين. ومحالٌ أن يتطاول عبدٌ على مقام خالقه، وأن يدَّعي لنفسه قدرةً مثل قدرته، ومشيئةً مثل مشيئته، لأنه أنقص وأحقر من أن تكون له تلك القدرة، وتلك المشيئة، وهو الضعيف الذي لا يستطيع أن يتحكم في لحظة من مسار وجوده إلَّا إذا شاء له الله ذلك، فما هذا العمى الذي أصاب بصيرة أهل التصوُّف، وما هذا الضلال الذي ركب عقولهم حتى ادَّعَوا بأنهم أولياء الله، وأن ولايتهم أفضل من نبوَّة الأنبياء؟!
وهكذا صارت كلمة «الولاية» في القرون المتأخرة، وبحسب تعاريف الصوفية لها، علَمًا على تحلُّل مَن يدَّعيها من ربقة الدين بعد أن كانت فيما مضى من التاريخ الإسلامي المشرق تدل دلالةً صادقةً على حَمَلَةِ الهدى والاستقامة، والعزة وكمال الرشد في الحياة. وإن كلمة «الولاية» ذات معنى واسعٍ شامل، وليس لها مدلولٌ خاصٌّ يستقل بها، لأنها تحمل المعاني الكثيرة المشتركة، وتكون بحسب القرينة التي تُنسب إليها، كما نلاحظ من استعمالها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم. كذلك شرفُ «الولاية» فإنه شرف عظيم سبيله الإيمان والدعوة إليه، وطريقه الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، وبذل المال والنفس في طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل. وبذلك تصبح الولاية منزلة يظفر بها من قام بحقها من صالح الأعمال. أما الادِّعاء بصالح الأعمال والعبادات، والإتيان في الواقع بخلافها، بل وبخبيثها وشرها، فهو أبعد ما يكون عن شرف الانتماء إلى الإسلام، فضلًا عن الانتساب إلى الولاية الحقة. وإن مَن ادَّعى ذلك كان أولى بولاية الشيطان التي فيها الكفر والمروق والزندقة.
والصوفية لم يدلِّلوا على أن الولاية سبيلُها الإيمان بالله، والانتساب إليه بالعبودية والإخلاص والطاعة، أي بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، بل فهموا «أنها الفناء في الله والتحقُّق بالوحدة الذاتيَّة بين الحق والخلق». كما قرَّروا أنها أعلى مرتبة من النبوَّة والرسالة فضلُّوا بذلك عنها وعن مفهومها الدينيِّ، بل ضلوا عن الدين بكامله ضلالًا بعيدًا!!! فهل ترى أن مثل هذا التطاول على قدسيَّة الله وعزَّته سبحانه وتعالى، وعلى أنبيائه ورسله، يكون من صالح الأعمال، أو من هدي الإيمان؟. لا، فإننا لو أخذنا بعض أفعال هؤلاء الصوفية مثالًا للتدليل على معنى الولاية، لَوجدنا الدليل الصارخ أن أساسها كان مبنيًّا على الشطح والضلال، فهم ـــ من حيث لا يفهمون موارد بذل المال في المكرمات ـــ ذمُّوا المال ودعَوا إلى تركه مخافة الافتتان به، وقالوا: تلك مرتبة كبيرة في الولاية. ثم عدّوا الرياضات والمجاهدات من أكبر القربات، وعدُّوا الذل والخمول من أمَّهات الفضائل.وقياسًا على هذه الأحوال وضعوا أصحابها في الذروة وسمَّوهم «الأولياء»، وفضلوهم على المؤمنين المتقين والشهداء، في حين أنهم فسقَةٌ مَرَقةٌ من الدِّين، قد تعدَّوا على قُدس الأقداس وادَّعَوا مشاركة الله تعالى في ألوهيته!!!
والضلال المبين الذي ارتكبوه حقًّا، هو تفضيلهم الولاية على النبوَّة والرسالة، في حين أن مدلول الرسالات السماوية، والغاية من بعث الرسل، إنما هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، بقوله تعالى إلى نبيه الكريم: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] (إبراهيم: 1). أما كيفية الخروج من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية فهي عند ذوي العقول المستنيرة، وأصحاب الفطرة السليمة، تكون في الاستقامة بعد الانحراف، وفي الاعتدال بعد الإسراف، وفي الوقوف عند حدود الله تعالى، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، والقيام بسائر الفروض التي شرعها سبحانه لعباده المؤمنين. وقد شهد التاريخ الإسلامي هذه الكيفية في الخروج، عندما خرج العرب من الجاهلية إلى الإسلام واتَّبعوا النبيَّ الأميَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وآمنوا برسالة الإسلام، ثم عند خروجهم بعد ذلك بهذا الإسلام، وفي خير عزم ونظام، لبسط ولاية الحق على الشعوب الأخرى، وإخراجها من الظلمات إلى النور.
وهناك خروج آخر أمرَ الله تعالى به، إذا عمَّت الفتن، وهانت الأعراض، واستبيحت الحرمات، وضاعت الكرامات، ولم يبق من سبيل إلى درء هذه المخاطر، ولا لاتِّقاء مضارّها، وإذا لم يكن من مجال للعصمة من الضلال، هو خروج الطيِّبين من ديار الفاسقين. ومثل ذلك خروج موسى ومن تبعه من بني إسرائيل من مصر، لقوله تعالى: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] (إبراهيم: 5). على أن هذا الخروج يجب أن يكون الطريق لإعادة بناء النفوس مما علق بها، وإنشاء عقليَّات جديدة تكون قادرةً على الانقضاض على مواطن الفتن، والقضاء عليها، لإعادة الأمور إلى نصابها، ولإعادة الإيمان إلى الربوع التي طرد منها. وهذا كلُّه ممَّا لم يأخذ به الصوفية ولم يفعلوه، بل آثروا اتِّباع نهج آخر بَنَوْهُ على الاستكانة، والإقامة في محيط الفتن والضلالات، مع ادِّعاء المحافظة على الدين بالقدر المستطاع، وهذا لعمري غفلةٌ منهم كبيرة، وحيلة لجأ إليها أولئك العاجزون. وقد انتهت بهم إلى واحد من أمرين:
إمَّا الفسوق والعصيان، بعد أن غرتهم الحياة والشهوات، فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم.
وإمَّا التردي في مهاوي التصوف في صورةٍ ما من صوره المتعددة. وقد ظن أحدهم أنه، وهو في خضم الفسوق، بمنجاة من الغرق، فانكمش على نفسه، وأقام على الهوان والضيم. وبذلك انحرفت تصرفاته نتيجة عدم انفعاله بالأحداث الخارجية التي لا مفر له منها، ضالًا ـــ بذلك ـــ عن الطريق القويم، ومنتهيًا إلى فساد الذوق بالنسبة إلى النظام المعيشة المحيطة به، فسادًا يورث الزيغ والإلحاد، ويؤدي إلى ابتداع رياضات ومنكرات ما أنزل الله بها من سلطان، كما هو معروف في التصوف من تلك الحيل والأحابيل.
وأما بالنسبة إلى الفئة القليلة من المتصوفين، التي تدعي المشيخة، فإن الحال عندهم قد تنتهي بالشيخ ـــ في أحسن الأحوال ـــ إلى معركة كلاميَّة تستمر بالوقوف عند استظهار الأسانيد والأقوال، وترجيح الروايات والخلافات، ووضع الشروح والحواشي والتفسيرات، وهذا هو عين الجهل! فتزول بذلك حقيقة الإسلام، ويبقى الكلام بأقواله بعيدًا من حقائقه، فيتبدَّل الإسلام من العمل إلى الجدل، ومن الجد إلى المهاترة، ومن المضاء إلى الالتواء، ثم تتصدع وحدة الأمة بقيام الفرق والجماعات المتنابذة حول مسائل الخلاف حتى يغيض معين الحق.
تلك هي «الكرامات» الصوفية، وتلك هي «الولاية» التي ادَّعوها لنفر منهم بلغوا مراتب العلم الإلهيّ والتفوق على الجنس البشريّ، حتى صاروا «أولياء» فوق «الأنبياء».
وقد آن لنا أن نعيَ حقيقة الإسلام وأنه الدين القيّم، الذي لا يقبل ضلالات المضللين، ولا يستكين أمام هفوات المنافقين، بل يهدي إلى الحق المبين، والصراط المستقيم، وفق ما أمَرَنا الله تعالى ورسوله الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم آن لنا أن نعيَ أن هؤلاء الذين ادَّعَوا «الولاية» قد عملوا على عكس ما تُملي الولاية الحقَّة.
فلنعدْ إلى الإسلام، ولنؤمنْ به إيمانًا خالصًا، والله تعالى وليُّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.



محيي الدِّين بن عَربي

560 ـــ 638 هجريَّة
1164 ـــ 1240 ميلاديَّة

الحقيقة المحمديّة
عنْد ابن عربي

محيي الدين بن عربي
560 ـــ 638 هجريّة
1164 ـــ 1240 ميْلادية
هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الطائي، وكان يكنى بأبي بكر، ويلقب بمحيي الدين بن عربي، ويعرف بالخاتمي وبابن عربي (من دون الألف واللام) تفريقًا له عن القاضي أبي بكر بن العربي (الفقيه الأندلسي).
ولد في مرسية من بلاد الأندلس في أواخر شهر رمضان من عام 560 هــ، حتى إذا بلغ الثامنة من عمره نقله أبواه معهما إلى إشبيلية، وهناك درس الحديث والفقه، وأخذ عن مشيخة بلده، وكتب إلى بعض الولاة... ومن شيوخه الأندلسيين ـــ الذين خصَّهم بالذكر ـــ أبو محمد عبد الحق عبد الرحمان بن عبد الله الأشبيلي، الذي حدَّثه بجميع مصنّفاته في الحديث، كما حدَّثه بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم.
وفي أثناء تلك الإقامة في مرسية، التي دامت قرابة ثلاثين سنة، تردَّدَ ابن عربي على عدة مدن أندلسية، حيث تعرّف بعلماء كثيرين ومتصوِّفين كثر. كما سافر إلى بلاد المغرب حيث دخل مدينة فاس عام 590هـــ. وعاد بعدها إلى غرناطة عام (595هـــ) ثم إلى مرسية، ومن بعدها رجع إلى فاس، ودخل مراكش، ثم تونس حيث تعرف إلى الشيخ عبد العزيز المهدوي. وقد استفاد منه علمًا وحقائق لم يكن يعرفها من قبل ـــ كما يحدِّث هو نفسه ـــ مما جعله يعجب به كثيرًا، ويميزه من شيوخه الآخرين ـــ الذين أخذ عنهم ـــ بالثناء والتقدير والشكر، كما يظهر ذلك في كتابه (الفتوحات المكية)، وفي الرسالة التي وجهها إليه وهو في مكة عام 600 هــ، وتعرف برسالة «روح القدس» كما تسمى «بمشاهدة الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية» وقد تعرف في تونس أيضًا إلى ولد أحمد بن قسي وأخذ عنه كتاب والده «خلع النعلين» وابن قسي هذا من الذين يقولون بالوحدة، وكان من أتباع ابن مسرَّة.
لقد كان ابن عربي يتنقَّل في تلك الأسفار، وعائلته لا تزال تقيم في إشبيلية. ويبدو أنه أخيرًا عقد العزم على الانتقال إلى المشرق، فسافر عام 598هـــ. إلى مكة حاجًّا، وأقام في الحجاز سنتين، ثم انتقل بعدها إلى بغداد عام 601هـــ. فالقاهرة عام 603هـــ. ثم رجع مرة أخرى إلى بغداد عام 608هـــ. وإلى مكة عام 611هـــ. ومنها خرج إلى حلب، وانتقل إلى دمشق حيث استقرَّ فيها ـــ من دون أن يرجع إلى بلاد الأندلس منذ خروجه منها ـــ وبقي إلى أن توفي عام 638 هــ، وله من العمر ثمان وسبعون سنة.
وقد برز ابن عربي، في الفترة التي كان التصوف فيها قد استعادَ مكانته على يد أبي حامد الغزالي، بعد النكسة التي حلَّت بأهله، والمصاعب الكثيرة التي لاقوها بسبب التهوُّس الذي أصاب أقطابهم وهم يُنشئون مذاهبهم الصوفية المليئة بالكفر والإلحاد، وبنتيجة استهتار شيوخهم بالعلم والشريعة، إذ جعلوا أحكامهما خاضعة لأهوائهم وتأويلاتهم، كل ذلك أدَّى إلى النقمة عليهم، ومحاربتهم، حتى جاء الغزالي بذلك الدورِ الدفاعيِّ عنهم، عندما راح يُفلسف آراء الصوفية، ويوجد لهم المعاذير والتأويلات، فعاد التصوُّف ينتعش من جديد، وتنتشر آراؤه بين الناس بشكلٍ واضح.
وهكذا، فما كادَ أبو حامد الغزالي يُخلِّي هذه الدنيا حتى قُيِّض للتصوُّف عالمٌ صوفيٌّ آخر، لم يتمشَّ على منوال السابقين من الأقطاب والمشايخ فحسب، بل ابتدع من الآراء، وابتكر من الأفكار، ما أدهش صوفيَّة أهل زمانه أنفسهم، وجعلهم به ينشغلون، وبتعاليمه يقتدون.
هذا العالم الصوفيُّ كان محيي الدين بن عربي نفسه، الذي ما زالت كتب الصوفية تحفظ آثاره حتى اليوم، وما زال الصوفية يجلُّونه، ويضعونه في أرفع مقامات شيوخهم وعلمائهم، ويبدو أن هذا التقدير لابن عربي والإعجاب به ناجمان عن اعتقادهم بأنه كان من أصحاب الكرامات الذين «مَنَّ الله (تعالى) عليهم بأسرار لم يُعطها لغيرهم...». كما أن تصنيفهم هذا، ووضعهم له في ذلك المقام، وعدَّهم إيّاه بين «أولياء الصوفية» إنما كان ذلك كلّه لشدَّة تأثرهم بما يجدون في مؤلفاته من حكايات، هي في نظرهم معجزات لا تؤتَى إلَّا لأصحاب الكرامات والأولياء. وقد أعطيت لشيخهم الأكبر ابن عربي، فكانت له ـــ عند السابقين ـــ تلك الحظوة التي يرون ضرورة استمرارها نظرًا إلى «قداسة صاحبها وجلال مكانته»!!! في حين أن تلك الحكايات، في الحقيقة، لا تعدو كونها من غرائب الأمور التي لا تُقنع عقلًا واعيًا، ولا ترتاح لها نفسٌ صادقة.
ومن تلك الحكايات، هذه الحكاية التي نضعها بين يدي القارئ، والتي رواها ابن عربي نفسُه. وهي تدلُّ على نفسها بنفسها، وتشهد على ما كان للرجل من أباطيل وخزعبلات.
فابنُ عربي يروي عن نفسه فيقول: «رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلَّها، وما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانيَّة. ثم لمـَّا أكملت نكاح النجوم أُعطيت الحروف فنكحتها.فعرضت رؤياي هذه على مَنْ عَرَضها على رجلٍ عارفٍ بالرؤيا بصيرٍ بها، وقلت للذي عرضتها عليه: لا تذْكرني باسمي، فلمَّا ذكر له الرؤيا استعظمها وقال: إن صاحب هذه الرؤيا يفتح له من العلوم العلويَّة، وعلوم الأسرار وخواصِّ الكواكب، ما لا يكون لأحد مثله من أهل زمانه، ثم سكت ساعةً وقال بعدها: إن صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة هو ذلك الشاب الأندلسيّ الذي وصل إليها».
وواضحٌ أن هذه الرؤيا غريبة حقًّا، ولم نعلم أحدًا من الصوفية، أو غير الصوفية، تطاول به الوهم، حتى خُيِّل إليه أنه نكح نجوم السماء بتلك «اللذة العظيمة الروحانيَّة» التي يصوِّرها لنا ابن عربي. والواقع الذي نعتقده، أنه لم تكن، في الحقيقة، لابن عربي رؤياه تلك، بل هي مجرد تعبير عن حالةٍ نفسية كان يعيشها، وربما لم يكن في مقدوره الإفصاح عنها، فألبسها هذا التصوُّر الصوفيَّ الذي يجيز له التكلم بالألغاز حتى يخفي كوامنه الباطنيَّة!!! هذا فضلًا عن أن الرؤيا فيها من المغالطات السافرة ما لا ينطلي على أحد من بسطاء الناس، ولعلَّ الدافع الحقيقيَّ الذي كان وراء ما ادَّعاه ابن عربي في رؤياه تلك، يكمن فيما أظهره الدكتور زكي مبارك في كتابه (التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق) عندما يقول: «إن الشهوات الحسية كانت تطارد ابن عربي أينما توجَّه، وكانت تطالعه بصورٍ موشَّاةٍ بالتهويل، وكان يتلمَّس المخرج منها بالتعلق بأذيال التفسير والتأويل، لأنه كان قد انغمس في عالم المجد، ويجب أن تكون جميع النوازع في نظره تفسيرًا لما ينظره في أودية العقل».
ويضيف الدكتور مبارك قائلًا: «إن الرؤيا التي رآها ابن عربي فيها ما يقنع من يدَّعي أن المتصوِّف في مقدوره أن يتخلَّص من عالم الحس. هذه الرؤيا التي غمرته في تيار الشهوات من حيث لا يريد، تدلُّ على أن غرائزه المقهورة تصوِّر له العوالم بصورة الخضوع المؤنَّث».
إذن، فابن عربي كانت تطغى عليه الشهوات الحسيَّة التي تهوله، ورؤياه تلك تعبير عن تيَّار هذه الشهوات الذي كان يشعر بأنه يعمل على جرفه، تلبيةً لنوازع غرائزه الدفينة، إلَّا إنه كان يحاول التفلُّت من تأثير هذا التيار، فإذا به يستنبط تلك الرؤيا حول العوالم الشاسعة، بما فيها من نجوم، لكي تستجيب لنوازعه، وتُرضي شهواتِه، ولا سيَّما أنه يركّز في تصوير تلك العوالم بصورة الخضوع المؤنَّث كما قال «مبارك»، وربما يكون أيضًا الوازع الدينيُّ هو الذي يقف له بالمرصاد، فحين كانت تتشبَّث به الشهوات الحسية، كان يصطدم بواقع الأحكام الشرعية التي تلجم تلك الشهوات ولا تطلقها إطلاقًا، فيصير عنده نوع من الكبت، أو القهر الغرائزيّ، فلا يجد للتنفيس عنه سبيلًا إلَّا اختراع أمثال تلك الرؤيا. ولكنْ مهما كانت دوافعه، فإنه قد وقع في المغالطات والتصوُّرات الفاسدة، بسبب تلك الحالة النفسية التي كان يعاني منها.
وإذا أَجَلْنا النظر في آثاره، يبدو لنا أن تلك الشهوات الحسية كانت حقًّا تطارد ابن عربي أينما توجَّهَ، بل كانت تحتلُّ حيّزًا كبيرًا في نفسه، حتى لَنَجدها بارزة في أغلب حكاياته التي يرويها. فها هو، بعد رؤياه الغريبة، يروي لنا حكايةً أخرى لا تقلُّ غرابةً، ولا خرافةً. فلنقرأ له قوله: «لقد اتَّفق لي مع بنتٍ لي كانت تَرضع وعمرها دون السنة، فقلت لها: يا بنيَّة! ـــ فأصغت لي! ـــ ما تقولين في رجلٍ جامع امرأته ولم يُنزل، ماذا يجب عليه؟ فقالت: يجب عليه الغُسل، وكانت جدتها حاضرةً فغشيَ عليها من نُطقها». ثم يعقِّب على ذلك فيقول: «لقد شهدت ذلك بنفسي»!.
ثم يروي خرافةً أخرى من خرافاته فيقول إن «امرأة كانت ترضع صغيرًا لها، فمرَّ رجلٌ ذو شارةٍ حسنة، وخدمٍ وحشم. فقالت: اللَّهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الرضيعُ الثديَ ونظر إليه وقال: اللَّهم لا تجعلني مثله. ومرَّت عليها امرأة وهي تُضرَب والناس يقولون فيها: «زنتْ وسرقتْ» ـــ فقالت أم الطفل: اللّهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك الصغير الثدي ونظر إليها وقال: اللّهم اجعلني مثلها». ويعلِّق ابن عربي على هذه الحكاية فيقول: «إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال في ذلك الرجل إنه كان جبارًا متكبرًا، وإن تلك المرأة كانت بريئة مما نُسب إليها» وهو يكرر حكايته هذه في أكثر من موضع من مؤلفاته.
فلنتأمل في الرِّوايتين، هل هما حقًّا مما ينطبق على الواقع، ويقرُّه المنطق الصحيح؟ لا، أبدًا، لأنَّ المغالطة واضحة، والزَّيف ظاهر. فمن الناحية التاريخية، يحاول ابن عربي أن ينسبَ ما ابتدعه خياله (في الحكاية الثانية) إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أنه في الحقيقة لو أنَّ الحادثة وقعت فعلًا أيام الرَّسول الأعظم، لرواها أصحابه الأبرار الميامين عنه، ولحَفظتها كتب السيرة الشريفة من بعدهم. وهذا ما لم يحصل، ثُمَّ على افتراض أنَّ الحادثة لم تُروَ، فإنها لو حصلت لَما كان وقع على تلك المرأة ـــ التي يصوِّر ابن عربي أنها زنت وسرقت ـــ أيُّ ظلم، ما دامت بريئة، وما ذلك إلَّا لأنَّ الرسول الأمين كان هو القاضي الأعلى، والحاكمَ العادلَ لجميع المسلمين وغير المسلمين ممَّن يعيشون في مجتمع يرعاه. ولم يكن ممكنًا قطّ أن ترجم امرأة، ظلمًا وعدوانًا، بوجوده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ثم إننا نجد في الحكايتين أن الطفل الرضيع يتكلم، فابنته وعمرها سنة تطلق حكمًا شرعيًّا، وطفل الأم المرضعة يعلم الغيب وأسرار الأنفس، وهذا ما يخالف القوانين الإلهية في خلق الإنسان وتكوينه، ذلك أنَّ هذه القوانين ثابتة، ولا جدال في حقيقتها على الإطلاق. وليس في هذه القوانين أنَّ الطفل الرضيع، ابن السنة، قادر على أن يدرك حاجاته الأساسية والطبيعية، والتعبير عنها، فكيف، إذن، والأمر يتعلق بحكم شرعيّ، لا يجوز لأحدٍ أن يُفتيَ به إلَّا إذا كان عالمًا بالأصول الفقهية للدِّين الذي يبنى عليه هذا الحكم حقَّ العلم، وأثبت أنَّ لديه فعلًا العلمَ والمعرفةَ، والقدرةَ على إصدار حُكمٍ شرعيّ. أما أن يَعلم الإنسان العاديُّ بصورةٍ مطلقة، صغيرًا كان أم كبيرًا، علم الغيب، فهذا محال، لأنَّ الله وحده علَّام الغيوب، كما أنه لا أحدَ يعرف سرَّ الإنسان ومكنون نفسه إلَّا الله سبحانه وتعالى. فكيف يمكن لرضيع أن ينبئَ عن نفسية ذلك الرجل الجبَّار المتكبِّر، وعن حقيقة براءة تلك المرأة المظلومة؟!
ثمَّ أيضًا ـــ طبقًا للقوانين الإلهية في الخلق ـــ هل يعقل أن ينطق رضيعٌ، ويتكلم بمثل ما يتكلم به الراشدون الراسخون في العلم؟! إنَّ هذه الميزة لم تُعط إلَّا لعيسى بن مريم عليهما السلام، ولكنْ بإرادة الله تعالى وأمرٍ منه. فقد تكلَّم في المهد، من أجل أن يبيِّن حقيقة بعثه، ويثبت براءة أمه الطاهرة البتول سلامُ الله عليها.
أما أن يتكلم «أطفال» ابن عربي، هكذا، بلا موجب، وبلا أمرٍ سماويّ، فهذا منتهى الضلال والإضلال وغاية البِدَع، وأي ضلالةٍ، أو أيّ بدعة، قامت أو تقوم على دليل شرعيّ، أو تتوافق مع قانون طبيعيٍّ أو وضعيّ؟!!!
وعلى هذا المنوال نفسه، يروي ابن عربي أيضًا حكاية «شاب زعم أن أمَّه عطست وهي حامل به، فقال لها، وهو ما زال جنينًا في جوفها (يرحمكِ الله) بصوتٍ سمعه كلُّ من كان حاضرًا»!
فهذه الحكايات كلُّها إنما كانت ترجع إلى تلك النزعة المادية لدى ابن عربي، وهي النزعة نفسها التي كانت تزيِّن له بلوغ المجد، فتجعله يقول: «سلمت لي الأرض شرقًا وغربًا، سكني وغير سكني، برًا وبحرًا، سهلًا وجبلًا، وكلُّهم يخاطبونني بالقطبيَّة»!!!
وهنا ظهر جليًّا الأملُ الذي كان يراود ابن عربي، وحلمُه البعيد، وهو بلوغ «القطبيَّة» نعم لقد أرادَ أن يكون قطب الصوفية، وشيخَهم الأكبر، فابتدعَ ما طاب له من الخرافات حتى وصل به الأمر إلى أن ينكح نجوم السماء نجمةً نجمة، وأن ينكح الحروف، وأن تدين له الأرض، بشرقها وغربها بالسيادة، وأن يخاطبه كلّ من عليها بالقطبيّة.
إذن، فالغاية التي كان يسعى إليها باتت معروفة، وما لم تكن له «كرامات»، فلا يمكن تحقيق تلك الغاية، لذلك ألَّف تلك الحكايات، التي تنبئ عن «الكرامات»، حتى كان له ما أراد. ولعلَّ من أغرب الأمور، أن تصدر مثل تلك الخرافات عن رجل مثل ابن عربي، الذي قال فيه أحدهم «إنه كان يملك مقدرة في العلوم الشرعية والعقلية لم تتوافر إلَّا للقليل من العلماء والمفكِّرين». لكنَّ الغرابة تزول، عندما نستدرك بأنَّ ابن عربي كان صوفيًّا، وقد أغلق هذا التصوُّف ـــ كما فهمه وادَّعاه ـــ على الرجل منافذ البصيرة التي تُطل على الحقائق، فجعله يسخِّر طاقاته الفكرية، وكل ما يملك من العلوم، لتحقيق مآربه المعْنَوية عن طريق الصوفية.
وهكذا يتبين أنَّ ابن عربي كانت له مطامح كبيرة للارتقاء في سلَّم المجد، وقد اكتشف أنَّ أمانيه تلك لا يمكن بلوغها إلَّا في عالم التصوُّف، فاندفع فيه حتى كانت له ـــ على حدِّ زعمه ـــ «العلوم العلوية، وعلوم الأسرار، وخواصُّ الكواكب». وبات أسيرَ هذه النزعة الصوفية الجامحة، التي سيطرت عليه في جميع بحوثه، بما فيها بحوث الفقه، وذلك عندما يجعل في كل بحث منها، مجالًا لأحوال المتصوِّفين ومقاماتهم. فهو مثلًا عندما يتكلم عن الطهارة، يبدأ أولًا بتلخيص أقوال العلماء فيها، ثم يعود فيبيِّن رأيه الخاصّ، عندما يُعدّ الطهارة طهارتين، ويفسِّر هذا الرأي عن إحدى الطهارتين بقوله: «طهارة غيرمعقولة المعنى وهي الطهارة عن الحدَث، والحدَث وصفٌ نفسيٌّ للعبد، فكيف يمكن أن يتطهَّر الشيء من حقيقته، وإذا تطهَّر من حقيقته انتفت عينه، وإذا انتفت عينه فلن يكون مكلَّفًا بالعبادة. فلهذا قلنا إن الطهارة من الحدَث غير معقولة المعنى».
ثم يضيف إلى ذلك قوله: «إن صورة الطهارة عندنا أن يكون الحقُّ سمعَك وبصرَك في جميع عباداتك، فتكون «أنت» من حيث ذاتك، وتكون «هو» من حيث تصرفاتك وإدراكاتك» (الفتوحات، المجلد الأول، ص 288).
والفقه عند ابن عربي «مقدمة لدرس أحوال القلوب» أي تمامًا كما هو عند الغزالي. ولكنْ بينما يرى الغزالي أن الشريعة هي من حظ العوام والخواص، فإن ابن عربي يرى أن الشريعة هي من حظ العوام، والحقيقة هي التي تكون من حظ الخواص.
وبينما يرى الغزالي أن أعمال الجوارح، أي ما يؤديه الإنسان من العبادات والأعمال التي شرعها الإسلام، لا تنفع ولا تصحُّ منه إلَّا بعد الوصول إلى أسرارها وما تهدف إليه، فإن ابن عربي يذهب إلى «أن أعمال الجوارح مقدِّمةٌ للوصول إلى معانيها الباطنية وإلى أسرارها بنحوٍ يكون «الحقُّ» سَمْعَ الإنسان وبصرَه، بل كلَّه، في جميع عباداته. فإذا بلغ هذه المرحلة لم يعد ما يدعو إلى الإتيان بالعبادات وغيرها». أي إن الصوفيّ عندما يبلغ هذه المرحلة، كما يراها ويحددها ابن عربي، تسقط عنه التكاليف الشرعية كلُّها، فلا يعود من حاجة عنده للصلاة أو الصوم، أو غير ذلك من العبادات التي شرعها الله تعالى في كتابه العزيز، وفرضها على المسلمين.
فأي إسلام هذا الذي يعتنقه ابن عربي، وأمثاله من الصوفية، وهم يسنُّون «شرائع» تخالف شريعة الله سبحانه في عباده؟! وكيف ينسى ابن عربي أن الله تعالى يقول عن الصلاة في كتابه الكريم: [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا] (النساء: 103). وهو سبحانه الذي أمَرَنا بقوله: [وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهَ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (البقرة: 110) وأمرنا بالمحافظة عليها بقوله تعالى: [وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ] (المعارج: 34) وفرض علينا الصيام بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 183).
لا ليس هذا نسيانًا من ابن عربي لكتاب الله، بل هي محاولة متعمَّدة منه لإهمال أحكام شريعة الله عزَّ وجلَّ، والتحلُّل من أوامره ونواهيه، وهذا في نظرنا هو الكفرُ بعينه، والضلال لصاحبه، والإضلال لغيره!!!
أما عن الفقهاء، فإن ابن عربي يقول: «وما زالت الفقهاء في كل زمان مع المحقِّقين، بمنزلة الفراعنة من النَّبِيِّين» أي إن الفقهاء بالمقارنة بالمحقِّقين من الصوفية هم كفارٌ، ما داموا بمنزلة الفراعنة من النبيين، وقد كان الفراعنة كفارًا، ومكذِّبين للنَّبيين. لذا فهو لا يتوانى في كلام آخر عن ذم الفقهاء، ووصفهم بأنهم «أصحاب علم الرسوم»! فمن جملة ما تقدَّم، يتبيَّن أن ابن عربي ظاهريُّ المذهب في العبادات، باطنيُّ النظر في الاعتقادات، ولقد أقام مذهبَه في التصوُّف على هذا الأساس، أي ظاهريته في العبادات، وباطنيته في الاعتقادات.
أما أهم الأسس التي قام عليها مذهبه الصوفيّ، فتبرز من خلال نظرته إلى المعرفة، ووحدة الوجود، ووحدة الأديان، والحقيقة المحمديَّة.
فما هي نظرة ابن عربي إلى هذه الأمور الأربعة؟
1 ـــ رأيه في المعرفة
إن الأشكال التقليدية للمعرفة، وبتقسيمها الثلاثي عند الصوفية، أي المكاشفة، والتجلِّي، والمشاهدة، هي ما أخذ بها ابن عربي، عندما عدَّ تلك الأشكال وإن تميَّزت من ناحية الكيف، فإنها تختلط بعضها مع بعض. ويبيِّن هذا الاختلاط بقوله: «المشاهدة تكون مع التجلِّي، وتكون مع غير التجلي. والتجلي يكون مع المشاهدة ومع غير المشاهدة، وهما لا يكونان إلَّا مع المكاشفة. والمكاشفة توجد بدونهما».
فأما عن المكاشفة فهو يُعدّ أنَّ هنالك حجابًا ما بين النفس البشرية والجلال الإلهيّ، وهذا الحجاب يتمثَّلُ بالمخلوقات، سواء وجدت في العالم الماديّ أو في العالم الروحانيّ. أي إن المخلوقات هي التي تحجب النفس عن حقيقة الله تعالى. إلَّا إن النفس، عندما تقوم بالمجاهدات والرياضات ـــ وفقًا للطرائق الصوفية المعروفة عندهم ـــ فإنها تتخلّى عن المخلوقات التي تحول بينها وبين الله تعالى، مما يؤدي إلى تبديد الحجب، والوصول إلى الكشف عن الأسرار الإلهيَّة.
وأما عن التجلِّي فهو يرى أنه «عبارة عن ظهورٍ نورانيٍّ للذَّات الإلهيَّة وصفاتها، وللأمور الروحية والإلَهيَّة» أي إنه يرمز هنا «بالنور»، بدلًا من رمزه للحجاب في المكاشفة، معدًّا أنَّ الله سبحانه هو مركز النور، وكل ما يصدر عنه من مخلوقات يجب أن تكون منيرة، ولكن بدرجات متفاوتة. وبما أن النفس الإنسانية مخلوقة لله، فإنها إذن، من نور الله، لكنَّ ضوءَها يخف لالْتصاقها بالبدَن، إلَّا إن النور الإلهيَّ لا ينقطع عنها تمامًا، بل يظل فيها شيءٌ منه مثل ذلك الدخان الذي يتصاعد من ذُبالة مصباح أُطفئ منذ قليل، فإن لامس هذا الدخانَ نورٌ مشتعل من مصباح مضيء، فإنَّ هذا النور ينزل مباشرة، بوساطة الدخان، ليمسك بالذُّبالة، هكذا يبقى النور الإلهيُّ متصلًا بالأنفس، وتجلِّيها يكون تامًّا أو ناقصًا بمقدار درجة ذلك النور، ويتمُّ هذا التجلِّي إما عن طريق الروح أو مباشرة من الله عزَّ وجلَّ نفسه، إلَّا إن الروح ـــ وهي مخلوقٌ حيوانيٌّ في نظر ابن عربي ـــ لا تستطيع أن تتحمَّل الإشعاع الصادر عن الله تعالى، لذلك فإنها تُبْهَرُ، في حين يتموَّج النور على القلب، فينشأ حينها الوجدُ، بعد أن يكون قد سبقه القلَق الروحيُّ نتيجة عدم تحمُّل الرُّوح لذلك الإشعاع النازل إليها من الله تعالى.
والمغالطة الفادحة التي يرتكبها ابن عربي هنا، هي اعتباره أن الروح مخلوقٌ حيوانيّ، في حين أن «الروح» لا يعرف كُنْهَها، ولا سرَّها إلَّا الله تعالى، لقوله عزَّ وجلَّ: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً] (الإسراء: 85). فابن عربي لا يعبأ بهذا المفهوم القرآنّي، ويتجاوز حكمة الله تعالى، في عدم الكشف عن ماهية الروح، ويتناسى هذا النَّص القرآنيَّ الشريف، ليقرِّر بأنها «مخلوقٌ حيوانيّ» أي إنها عضوٌ متمِّمٌ للجسم كالقلب أو أي عضو آخر في الإنسان.
وأما عن المشاهدة، فهو يرى بأنها تحصل «إذا ما طُويت الحُجب، وأشرقت النفس بأنوار علويَّة، بحيث لم يبقَ إلَّا المشاهدة». لذا فإنَّ هذه المشاهدة تُتصوَّر على أنها رؤيةٌ واضحةٌ وتجريبية، أي إن الإدراك المباشر لله تعالى يحصل عن مشاهدة حضوره بالعين المجردة. وهكذا فإنَّ هدف النفس، عند ابن عربي، أن تطمح إلى الرؤية المباشرة التجريبية للنور الإلهيِّ الجوهريِّ الخالي من كلِّ شكل وكيفية مخلوقين. ويعبِّر عن هذا الهدف بقوله: «فإذا كانت المكاشفة هي طيُّ الحُجب التي تستر النور الإلهيَّ عن عيون الناس، والتجلِّي هو تلقِّي أنوار السرِّ الإلهيِّ، فإنَّ المشاهدة ليست إلَّا انعكاس هذه الأنوار في القلب. والقلب مثل المرآة يصبح مصقولًا صافيًا بالذِّكر، وعلى سطحه الصافي تظهر أنوار النور الإلهيّ». تعالى الله ـــ سبحانه ـــ عن هذه السفسطائية السخيفة علوًّا كبيرًا! فإنه [لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] (الأنعام: 103) الذي بَعُدَ من مشاهدة العيون، وسما عن تصوُّر الظُّنون، لا يُعلم كيف كان ولا كيف يكون، ولا يُكَيَّفُ بكيفٍ ولا يُؤيَّنُ بأَيْنٍ. قد احتجب عن النَّظر ولا تحويه الْفِكَرُ. واحدٌ بلا ثانٍ في العدد لأنه الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. احتجب عن خلقه بالنور الذي تعشى منه العيون، والذي لَــمَّا [تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا] (الأعراف: 142). ما كان ذا جسمٍ يحتاج إلى حَيِّزٍ ومكان، ولم يكن قبله قبلٌ ولا يكون بعده بَعْدٌ حتى يُحَدَّ بزمان، فكيف يكون له حضورٌ منظورٌ أو يكون نورهُ تحت مقدورٍ. والنَّظرُ إذا جال في مخلوقاته ينقلبُ خاسئًا وهو حَسير، لِـمَا أبدعَ من جميل الصُّنع، ولـمَا دلَّ عليه لطيفُ خَلْقِه، الناطقُ بعظمته، الشاهدُ على قُدرته التي لا هي تُخالِط الأجسام فتمتزج بها، ولا هي تُباينُها فتكون معزولةً عنها، فإذا السَّماوات مطويّاتٌ بيمينه، والأرض قبضتُه جميعًا يوم القيامة، بسلطان القدرة وشأن العظمة لا ببسط يدٍ ولا بإجهاد عضو، لأنه لم يكن جسمًا فيفتقر إلى ما يقيم الأوَد، ولا ذا حركة فيحتاج إلى الانتقال والمُزايلة. فكيف تنطوي حُجبه أمام هؤلاء الْعُمي البصيرة والأبصار الذين خسئوا أن ينظروا إلى الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك ادَّعَوا «الكشف» و«المشاهدة» لنور العزيز الجبَّار!!!
وهكذا يذهب ابن عربي في تحليل أشكال المعرفة الصوفية، وفق منهجٍ فلسفيٍّ معقَّد حتى يرى أنَّ هذه المعرفة «تسري مع الله، وليست هي باكتساب العبد، إنها كرامة من الله يهبها فضلًا منه لمن يشاء من عباده. ومع ذلك فإنَّ هنالك درجات قدرها الله تعالى بعناية لبلوغ النفس تلك الموهبة الباطنية، حتى ترتفع إلى مقامات أعلى في الفضل والكمال».
2 ـــ مذهبه وحدة الوجود
ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن ابن عربي يُعدّ المؤسس لمذهب وحدة الوجود بشكله الكامل، إذ إنَّ جميع الذين سبقوه كانت لديهم اتِّجاهات متفرقة حول وحدة الوجود، وإن جميع الذين أتوا بعده كانوا متأثرين به، أو ناقلين عنه.
ويقوم مذهب ابن عربي في وحدة الوجود، على أنَّ الوجود كله واحد، وأن وجود المخلوقات عين وجود الخالق، ولا فرق بينهما من حيث الحقيقة. أما الفرق الظاهر بين الوجودَين فلا يعدو كونه أمرًا يقضي به الحس الظاهر، والعقل القاصر عن إدراك الحقيقة على ما هي عليه من «وحدة ذاتية» تجتمع فيها الأشياء جميعًا. ويدلل على نظريته هذه بالبيتَين التاليين:
يا خالقَ الأشياءِ في نفسِهِ أنـــتَ لمـــا تَخـــلقُهُ جـــامــعُ
تخــلقُ ما لا ينتــهي كونُهُ فيكَ، فأنتَ الضيِّقُ الواسعُ
ثم يبيِّن لنا أنَّ ذلك الفرق بين وجود الله ووجود المخلوقات إنما يتراءى للإنسان، لأنه ينظر إلى الله بوجهٍ، وإلى المخلوق بوجهٍ آخر، ولو نظر إليهما بوجهٍ واحد ومن عين واحدة، لَزال ذلك الفرق، ولأدرك «الذاتيَّة الواحدة» التي لا جمع فيها ولا تفرقة. وهو يعبِّر عن ذلك بقوله:
فالحق خلقٌ بهذا الوجهِ فاعتبروا وليس خلقًا بهذا الوجه فادَّكروا
مَن يدرِ ما قلتُ لم تُخذَلْ بصيرتُهُ وليس يـــدريه إلَّا مَـنْ لَـهُ بَــصَرُ
جمــعٌ وفـرقٌ، فإنَّ العين واحدةٌ وهــي الكثيرةُ لا تُبقــي ولا تَذَرُ
والسند الذي يعتمده ابن عربي من القرآن الكريم، للقول بوحدة الوجود، إنما هو الآية المباركة: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] (فاطر: 15). إذ يفسّر هذه الآية الشريفة بحسب تأويله فيقول: «فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه. فأنت غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤك بالوجود، فتعيَّن عليه ما تعيَّن عليك، والأمر منه إليك، ومنك إليه، غير أنك تُسمَّى مكلَّفًا ولا يُسمَّى هو مكلَّفًا:
فيحمدني وأحمده ويــعبــدني وأعـبــده
وفي حـالٍ أُقِرُّ بِهِ وفي الأعيان أجحدُهُ
فَيَعرِفُني وأُنكرُهُ وأَعـــرفُهُ فــأَشْهــدُهُ
فابن عربي يؤمن بوحدة الوجود إيمانًا مطلقًا مع تشويه «قبيح» عقلًا لذلك الرأي الذي يقول به الناس من وحدة الوجود، إذ جعل الله تعالى مفتقرًا إليك، كما أنك مفتقر إليه!. ناسيًا قوله عزَّ من قائل: [سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ] (يونس: 68). لا تنفعه طاعةُ من أطاعه، ولا تضرُّه معصيةُ مَن عَصَاهُ، [وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ] (المؤمنون: 88). ومن العجيب أن ابن عربي يبرهن عن إيمانه بالوحدة بكثير من التصريح والوضوح كما يظهر في تفسيره ذاك للآية (15) من سورة فاطر، أو كما يظهر في قوله: «فما يعرف شيء» إلَّا وهو حدُّ الحق، فهو (أي الله تعالى) الساري في مُسمَّى المخلوقات والمبدعات، فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبّر له، وهو الإنسان الكبير». فللّه في خلقه شؤون.
إنَّ ابن عربي بعدَ صَفِّ كلامٍ ورصفِ جملٍ في تعليل وحدة الوجود توصَّل إلى أن يقول عن الله عزَّ وجلَّ بأنه الإنسان الكبير [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا] (الكهف: 5) أو ليس عجيبًا أمر هؤلاء القوم؟
ولكن أعجب منه أن يكون لهم أتباع كثيرون، ومدافعون أكثر عن آرائهم، وكأنَّ هؤلاء وأولئك لم يدينوا بدين، ولم يطّلعوا على شيء مما أنزل من عند رب العالمين.
بل تعالَ واستمع أيها القارئ الكريم إلى ما يؤكده ابن عربي في نظرته إلى وحدة الوجود عندما يقول: «فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها» ثم أنشد:
فما نظرت عيني إلى غير وجهِهِ ولا سمعتْ أذني خلاف كلامِهِ
فواعجبًا مِمَّن يدّعي سماع كلام الله على هواه، ويفسّره على مزاجه، فيأتي بالحجج الباطلة لتدعيم فكرته، وهو يقول بوحدة الله تعالى مع الموجودات التي هي من خلقِهِ!
ويذهب ابن عربي في وحدة وجوده إلى أبعد من ذلك، كما أثبتَهُ كثيرٌ من المحققين في قوله في (الفتوحات): «ما في الوجود إلَّا الله، ونحن وإن كنا موجودين: فإنما كان وجودنا به، فمن كان وجوده بغيره، فهو في حكم العدم»، ومما قاله في ذلك شعرًا:
مِمَّــن تَفِرُّ ومــا فـي الكـــون إلَّا هُو وهل يجوز عليه «هُوَ» أو «ما هُو»؟
إن قلت «هُوْ» فشهود العين تنكره أو قـــلت «مــا هُــوَ» ليس إلَّا هُـــو
فـــلا تــفرَّ ولا تــركنْ إلــى طــلبٍ فـــكــلُّ شـــيءٍ تـــراه ذلــك اللّــهُ
على أن هذه الصراحة التي يظهرها هنا، ليست هي طريقته، ولا أسلوبه في التعبير عن أفكاره وإظهار آرائه بصورة دائمة، إذ كان غالبًا ما يلجأ إلى التورية، والأحاجي، ويتخفَّى وراء الرموز والرسوم وغيرها لكي يشرح معتقداته الماورائية. بل لم يكن يتحرّج، من أجل ذلك، من الاستعانة بالخرافات، وتفسير الأحلام وغير ذلك كما رأينا سابقًا.
أما غاية ابن عربي من وراء ذلك، فهي إبعاد الجماهير عن مقاصده لئلا تسخط عليه، ويكون له معها شأن، كما كان مع سلفه الحلاج أو غيره، إذ أذاقتهم تلك الجماهير أشَدَّ ألوان الهوان والعذاب بسبب المعتقدات التي كانوا يبدونها خلافًا لأحكام الدين.
ومن الأمثلة على غموضه وألغازه قولهُ في هذه الأبيات:
فنـحن لــه كــما نُثبـتْ أدلــتُنا، ونحـــن أنا
ولـيس له سوى كوني فنحن له، كنحن لنا
فــلي وجهان: هو وأنا ولــيس لــه أنــا بأنا
ولــكن فيَّ مــظــهــرُهُ فنحن لــه كمثل أنا
هذا مجمل آراء ابن عربي في وحدة الوجود، وقد ثبت بدليل قوله أن الوجود كلَّه واحدٌ، وأن لا فرق بين الله الخالق، والإنسان المخلوق، بل والمخلوقات كلها. وما يرى الناس من فرق إنما هو ناجم عن قصر عقل الإنسان، وعدم إدراكه لحقيقة «الذات الواحدة».
ومن هنا كانت نظرته إلى الحساب نظرة إنكار تقوم على نفي الجحيم والنار، وعلى وجود جنةٍ في عذابها لذةٌ ونعيم. أي إنه يخلط بين المفاهيم: ففي حين ينفي وجود العذاب، يعود ويقول بأنَّ في عذاب الجنة لذةً، وفي التلذذ بهذا العذاب نعيم، بحيث يتساوى عنده في النهاية العذاب والنعيم.
وهل في الجنَّة عذاب؟ وهل المكان الذي فيه عذاب يسمَّى جنَّة نعيم؟ ذلك مبلغ ابن عربي من العلم.
ويقول:
فلم يبقَ إلا صادق الوعد وحدَهُ ومــا لــوعيد الحــق عــينٌ تُعــاينُ
وإن دخــلوا دار الشقــاء فــإنهم عــلى لــذة فيــها نــــعيم مــــباينُ
نعيم جنان الخـلد، فالأمر واحـد وبينهــما عــند التـجـــلي تـبايُــــنُ
يسمــى عذابًا من عذوبة طعـمه وذاك له كالقشر، والقشر صائنُ
فاستمعْ، وحلِّلْ، واخلطْ عذابًا بنعيم، واعجنْ جنَّةً بنار، تصلْ إلى فهم هذه الأسرار، ولكنْ لا تنسَ أنَّ هذه النظرية في الجزاء، تنفي المسؤولية عن الإنسان، التي هي مناط الجزاء، بحيث لا يعود معها من مجال للتفريق بين مؤمن وكافر، وبين صالح وطالح، وبين خير وشر. كما أنها تخالف ما نزلت به الشرائع السماوية من وجود جنة ونار، وما قالت به من عذاب ونعيم، ومن شقاء وسعادة.
ولنا هنا أن نتساءل، بكل بساطة وعفوية:
ماذا يقول هذا الشاعر الغاوي المُغوي [وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ] (الشعراء: 224 ـــ 225) أجلْ ماذا يقول بعد أن هام في «وادي الله» السحيق، وصعَّر خدَّه ولم يحفلْ بآيات الكتاب الحكيم، وهي تتوعَّد المجرمين، والكافرين، والظالمين بألوان من العذاب المهين؟!
فعن المجرم يقول الله تعالى: [يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ] (المعارج: 11 ـــ 14).
وعن الكافر الذي لا يؤمن بالله العظيم، يقول الله تعالى لملائكة العذاب وخَزَنَةِ جهنَّم: [خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِالله الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ] (الحاقة: 30 ـــ 37).
وعن الظالمين، وما أعدَّه الله تعالى لهم من عقاب، يقول تعالى: [وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالـْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا] (الكهف: 29).
وكيف ينزلق ابن عربي الذي قيل إنه تفقَّه في الدين عشرات السنين، في هذا المنزلق الخطير، بحيث تستوي عنده جهنم والجنة، حتى إنه لَيبيت كالكافرين الذين [يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ] فيأتيهم الجواب من ربِّ العالمين، قولًا حقًّا مُبينًا: [إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا] و[إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاء وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا(34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْـمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا] (النبأ: 21 ـــ 40).
هذا بعضُ ما جاءَ في القرآن الكريم عن النَّار وجحيمها، وعن الجنَّة ونعيمها. وقد أنكَرَ ابن عربي ذلك كلَّه، عندما اعتقد، وهمًا وضلالًا، أن العذابَ يكون في الجنَّة لا في جهنَّم، ويكون لذةً، ولا يحصلُ الإِنسانُ في الآخرة إلَّا على النعيم. وما إنكار ابن عربي ـــ وكل الصوفية أمثاله ـــ إلَّا معارضةٌ لحكمة الله في خلقه، ولمشيئته في محاسبته لعباده. وهو إنكارٌ ما كان ليحصل، لولا عقيدة الصوفية في وحدة الوجود، وما أوحت لابن عربي من تضليل، حتى لم يعد يفرِّق بين وجود خالق ومخلوق، وعبد ومعبود. وأصبح معتقده: «الكل واحدٌ، في محتوى وحدة الوجود» ليعفي نفسه من الطاعة مع الجماعة!!!
ومن خلال هذا الإنكار الإِلحاديِّ، يتصدَّى ابن عربي للدفاع عن قوم نوح عليه السلام، وتأويل آيات القرآن التي صوَّرت حالهم، وما كانوا عليه من تكذيب نبيِّهم، واعتمادهم الوسائل والأساليب التي تبرر مواقفهم في الإصرار على الكفر، تأويلًا لا يتفق أبدًا ومدلول الآيات، ولا يتوافق إطلاقًا وحقيقة الأحداث التي تتناولها، ويبعد كل البعد من الغايات التي تهدف إليها، وعلى هذا الأساس فإنَّه يرى أن قوم نوح، عليه السلام، كانوا على حق، في حين أن نوحًا، عليه السلام، أراد بدعوته أن يفسد عليهم إيمانهم، وأن يمكر بهم حتى يخرجهم بمكره من النور إلى الظلام، ومن الهدى إلى الضلال!!! ويتبيَّن لنا هذا البطلان عند ابن عربي من خلال الوقوف على تفسيره لبعض آيات «سورة نوح».
يقول عن دعوة نوح، عليه السلام، لقومه جهارًا وإسرارًا: «فلو أن نوحًا دعا قومه بين الدعوتَين لأجابوه، لكنه دعاهم جهارًا ثم دعاهم إسرارًا، فنوح دعا قومه (ليلًا) من حيث عقولهم وروحانياتهم، فإنها غيبٌ. (ونهارًا) دعاهم أيضًا من حيث ظاهر صورهم وحسِّهم، وما جمع في الدعوة مثل [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] فنفرت بواطنُهم لهذا الفرقان، وزادهم فرارًا، ثم إن نوحًا دعاهم ليغفر لهم لا ليكشف لهم، وقد فهموا ذلك منه عليه السلام، لذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وهذه كلُّها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل، لا بلبَّيك...» فاقتنعْ بهذا التأويل إن كان القرآن قد أُنزل بغير لُغتك أو إن كنت غير صاحب عقل وبصيرة.
ثم يقول عن الوعود التي كان نوح، عليه السلام، يُمنِّي قومه بها، لو هُمُ استجابوا لداعي الإيمان: [يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا] وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري، [وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ] أي بما يميل بكم إليه، فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه، وَمَن عرف منكم أنه رأى نفسه، فهو العارف، ولهذا انقسم الناس إلى غير عالـِم وعالـِم!!!
وعن مكر قوم نوح، عليه السلام، به يقول: [وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا] لأنَّ الدعوة إلى الله تعالى مكرٌ بالمدعو لأنه ـــ أي الله ـــ ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية، وقالوا: [لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا]، فقالوا في مكرهم إنهم إذا تركوهم (أي تركوا عبادة هذه الأوثان والأصنام) جهلوا عن الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإنَّ للحق في كل معبودٍ وجهًا، ويعرفه مَن عرفه، ويجهله مَن جهله!!!
وعن إغراق الكافرين وإدخالهم نار جهنم، بسبب خطيئاتهم التي ارتكبوها يُعدّ ابن عربي أن هذه الخطيئات هي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة، والنار التي أدخلوها هي «في عين الماء» وفي المحمديّين .
ويتابع تأويل الآية نفسها، فيقول عن معنى قول الله تعالى: [مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللهِ أَنصَارًا] (نوح: 25). «فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة، لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكلُّ لله، وبالله، بل هو الله»!!!
وعن دعاء نوح، عليه السلام، لربِّه تعالى أَلَّا يذرَ على الأرض أحدًا من الكافرين حتى لا يُضِلُّوا عباده، لأنهم [وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا] (نوح: 26 ـــ 27)،يقول ابن عربي: «قال نوح: ربِّ، وما قال إلهي، فإن الربَّ له الثبوت والإلهُ يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن، فأراد بالربِّ ثبوت التكوين، إذ لا يصحُّ إلَّا هو [إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ]، أي: تدعْهم وتتركْهم [يُضِلُّوا عِبَادَكَ] فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فيرون أنفسهم أربابًا، بعدما كانوا عند أنفسهم عبيدًا، فهم العبيدُ الأرباب [وَلَا يَلِدُوا] أي ما ينتجون، ولا يظهرون [إِلَّا فَاجِرًا] أي مظهرًا ما سَتَرَ [كَفَّارًا] أي ستَّارًا لما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد».
تلك بعض تفسيرات ابن عربي في سورة نوح عليه السلام، فتأمل أيها القارئ الكريم في هذا التفسير. وعُدْ إن أردت التمتُّع بما جاء به هذا الشيخُ الصوفيّ، إلى كتابه «فصوص الحكم» حتى تجد العجب العجاب مما يذهب إليه، والذي يكشف، بصورة لا تقبل الشك، عن مغالطته لآيات الله تعالى، مغالطةً تحمل الكفر الصراح. وإنه لولا اعتقاده بفكرة وحدة الوجود، لما جاءَ بمثل تفسيراته تلك، ولما كان وقع فيما وقع فيه من ضلال، لكنها عقيدته الصوفية التي أملت عليه ذلك التحريف والتزوير لحقيقة رسول كريم، نوح عليه السلام، بحيث قلبَ الحقائق رأسًا على عقب، وتاهَ في غياهب النفاق والكفر.
ومن خلال مذهبه في «وحدة الوجود» كانت له نظرته الخاصة، في فكرتين أخرَيين من أفكار الصوفية، وهما: «وحدة الأديان» و«الحقيقة المحمديَّة». فماذا رأى في كلٍّ منهما؟


3 ـــ نظرته في وحدة الأديان
ليست «وحدة الأديان» فكرة جديدة ابتدعها ابن عربي، فقد سبقه إليها متصوِّفون كُثُر، كان أبرزهم «الحلاج» الذي من خلال اعتقاده بالحلول، وجَدَ أن الاختلاف في العقائد الدينية لا يعدو كونَهُ اختلافًا في وجهات نظر تهدف إلى حقيقة واحدة، وهي حبُّ الله الذي يجب اتخاذه مذهبًا، وبه تتوحَّدُ المعتقدات ولا يعود هنالك من فرق بين عقيدة وأخرى، حتى ولا بين عقيدة سماوية وعقيدة وثنية. وهذا ما قاده إلى الإعلان صراحة عن كفره بدين الله، واعتناق الكفر دينًا.
ولعلَّ هذه النظرة استهوت ابن عربي، بعد بضعة قرونٍ، فاعتنقَها وأوَّلها وفقًا لأهوائه، معتبرًا أن للإنسان أن يدين بما يراه، بل له أن يدين بكل دينٍ، وليس ما يمنَعُ عليه أن يعبُدَ الشيطانَ، أو أن يتَّخِذَ الكلب أو الخنزير «إلهًا» له، لأنَّ ـــ في زعمه الضّال ـــ الإله في «كل كائن من هذه الكائنات» لذلك فهو لا يتورَّع من أن يقول:
وما الكلب والخنزير إلَّا إلهُنا وما الربُّ إلَّا راهبٌ في كنيسة
ثم ينصح في كتابه (فصوص الحكم) بألَّا يتقيَّدَ الإنسان بدين معين، لأنَّ ذلك يجعله يكفر بالأديان الأخرى، وهذا ما يفوِّتُ عليه نفعًا كبيرًا، وذلك بقوله: «فإيَّاك أن تتقيَّد بعقد (ويقصد معتقد) مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى (أي قابلًا) لصور المعتقدات كلِّها، فإنَّ الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: [فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ] (البقرة: 115) فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور، وكل مأجور سعيد، وكل سعيد مرضيٌّ عنه»، ولهذا فإنَّ ابن عربي يجعل عقيدته الدينية «جميع المعتقدات» وذلك بقوله:
عقدَ الخلائقُ في الإلهِ عقائدًا وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوهُ
وما دامت عقيدته تلك جامعة لمعتقدات جميع الناس، فهي تشمل إذن ديانات السماء، وعقائد الأرض كلَّها، بحيث لا يفرِّق بين وثنيةٍ قديمة، أو إلحادية جديدة، ولا بين إسلام أو نصرانية أو يهودية، بل هو في آنٍ مؤمن ووثني، ومتديّن وملحد، ثم يؤدي عباداته لأي «ربٍّ» يختاره، ففي كل حين عنده ربٌّ، يراه مرةً في وثنٍ، وأخرى في حيوان، أو يراه راهبًا في كنيسة، ثم لِمَ لا يراه في «نفسه» ويعبد «نفسه» ما دام يؤمن بوحدة الوجود من ناحية، وفي وجود الخالق بجميع الكائنات من ناحية أخرى؟!
ومن منطلق هذا المعتقد، يُعدّ ابن عربي أنَّ العبادات، والصلاة بخاصة، يجب أن تكون مشتركة من الناس، ومن الله تعالى. فما دام (أي الله تعالى) أمرنا أن نصلِّي له وأخبرنا أنه يصلِّي علينا، «فالصلاة منَّا ومنه، فإذا كان هو المصلّي فإنما يصلّي باسمه الآخر، وإذا نحن صلَّينا كان لنا الاسم الآخر فكنَّا فيه». وعلى هذا فإن المعبود والعابد، عند ابن عربي هما: «أن المعبود هو الجوهر الأزلي القديم المقوِّم لجميع صور الوجود الْـمُفاضة بلا نهاية، أما العابد فهو الصور المتقوِّمة بهذا الجوهر: فكل صورة من الصور ناطقة بألوهية الحق، مسبِّحة بحمده، وكلُّ معبود من المعبودات وجهٌ من وجوهه، وأرقى أنواع العبادة هو التحقُّق بالوحدة الذاتية، بأنك أنت هو وهو أنت، أنت هو من حيث صورتك، وهو أنت بالعين والجوهر، فإنه هو الذي يفيض عليك الوجودَ من وجوده».
وهكذا لا يستطيع ابن عربي، حتى في كلامه عن وحدة الأديان، أن يتخلص من فكرة «وحدة الوجود» التي تطغى عليه، فتظهر في كلامه عن المعبود، والعابد، بحيث يكون أيُّ معبود ـــ صنم، حيوان، بشري وجهًا من وجوه الحق ويرتقي في سلَّم العبادة حتى تحصل الوحدة. وهو يبيِّن لنا كيف استقرَّ عنده الاعتقاد بوحدة الأديان، بعد أن بلغ درجة «العارف» بحيث يكون قلبه «هيكلًا لجميع المعتقدات والعبادات، ومرآة تنعكس عليها صور الوجود الحق». ويؤيد اعتقاده هذا بقوله:
لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ فمرعًى لغــزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيــتٌ لأوثانٍ وكــعبةُ طــائفٍ وألواحُ توراةٍ ومُصحفُ قرآنِ
فهل بعدُ أوسع من قلبه ليقدر على استيعاب ذلك كله، دونما فرقٍ بين أن يجعل هذا القلب وعاءً للوثنية، أم وعاءً لدينٍ من أديان الرسالات السماوية، أم لها جميعها، ما دام بتصوُّفه هذا قد «وصل إلى أعظم درجة في المعرفة، ونظر الوحدة في الكثرة، فوضَعَ الألوهية أو وضع معنى الحق في مكانه، أي في الواحد المعبود في صور جميع الآلهة المعبودين»؟!!!
4 ـــ الحقيقة المحمديَّة عند ابن عربي
ومثل فكرة وحدة الأديان، كانت النظرية التي ابتدعها الصوفية حول ما دعوه «الحقيقة المحمديَّة»، التي كان أحد شيوخهم القدامى، وهو الحلاج، أول من أوضح معالمها، عندما اعتبر أن «النور المحمديّ أشرق قبل أن يكون الخلق، ومنه استمد الأنبياء هديهم، والأولياء معارفهم»، لذلك أطلق على نظريته اسم «النور المحمديّ».
وتُعدّ آراء الحلاج المصدَر الذي نهل منه جميع الصوفية من بعده، ومنهم ابن عربي، الذي اعتنقَ النظرية، وأبدى رأيه فيها، ولكن من دون أن يأتي بشيء جديد عما قاله الحلاج، بل صاغَها بأسلوبه الخاص الذي يتوافق مع نظريته في وحدة الوجود، وفسَّرها بأنها «النور الإلهيّ السابق عن كل ما خلق من فيض نوره»، كما سنرى. وللباحث أن يتساءل: لماذا اخترع الصوفية هذه النظرية؟ وهل جاءت أقوالهم فيها متوافقة مع الإسلام، ومع حقيقة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، في إنسانيته ونبوَّته؟
قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة، لا بد من معرفة ماهية الحقيقة لغةً واصطلاحًا، وكيف نفرّق بين الحقائق والأحداث التي قد تتعلق بها، حتى نصل إلى المفهوم السليم ومن ثمَّ الحقيقة بنظر الصوفية، وكيف تَمَّ تطبيقها على الحقيقة المحمديَّة.
فالحقيقة لغةً هي ما أُقِرَّ في الاستعمال على أصله ووضعه، والمجاز ما كان بعد ذلك.
فحقيقةُ الشيء: خالصهُ وكنهُه ومحضهُ.
وحقيقةُ الأمر: يقينُ شأنِه.
وحقيقةُ الرجل: ما يلزمه حفظه والدِّفاع عنه.
والحقيقة في تعاريف الفقهاء، هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة. فعندما نقول «الحق» أي ما أصله المطابقة والموافقة، ولذا فإنَّ الحق يقال على أوجه:
الأول: يقال لموجِدِ الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، كمثل «الله هو الحق» لقوله تعالى: [فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ] (يونس: 31).
والثاني: يقال للموجَدِ بحسب مقتضى الحكمة، كمثل قول القائل: «فِعْلُ الله تعالى كلُّهُ حق» لقوله تعالى: [مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَق] (يونس: 5).
والثالث: يقال في الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في ذاته، كمثل الاعتقاد الحق بالبعث، والثواب والعقاب والجنة والنار، لقوله تعالى: [فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ] (البقرة: 213).
والرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، كقولنا: فعلك حقٌّ وقولك حقٌّ، لقوله تعالى: [كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ] (يونس: 33) إلى قوله تعالى: [حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] (السجدة: 13).
والحقيقة في الاصطلاح مطابقةُ التصوُّر أو الحُكم للواقع. وهي بهذا المعنى اسم لما أُريد به حقُّ الشيء إذا ثبت، و«التاء» فيه للنقل من الوضعية إلى الاسمية.
والحقيقة قد تطلق على الشيء الثابت قطعًا ويقينًا تقول: هذه الشهادة مطابقة للحقيقة، وهذا الرجل يُسدل الستار على الحقيقة، ومن قبيل ذلك الحقيقة التاريخية، وتستعمل في الشيء الذي له ثبات ووجود كقول النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، لحارثةَ: «لكل حقٍّ حقيقةٌ فما حقيقة إيمانكَ»؟
والحقيقة هي أيضًا مطابقة الشيء لصورة نوعه أو لمثالِهِ الذي أريد له، أي إنها بهذا المعنى: ما يصير إليه حق الشيء ووجوبه، كأن نقول: لا يبلغ المؤمنُ حقيقة الإيمان حتى لا يعيب إنسانًا بعيب هو فيه، أو أن تقول: هذه الصورة مطابقة للحقيقة، وتريد بذلك أنها قد بلغت الغاية في تعبيرها عن الشيء.
وأخيرًا فإن الحقيقة قد تعني الماهيَّة أو الذَّات، بحيث تكون حقيقة الشيء ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان.
هذه مفاهيم الحقيقة التي قد تستعمل في الاعتقاد، أو في العمل، أو في القول.
وبناءً على هذا فإنَّ الحقيقة من حيث مدلولها العقلي والاصطلاحي، هي الفكر الذي ينطبق على الواقع المحسوس. وإنَّ الأفكار ـــ جميع الأفكار ـــ لا يمكن أن تشكِّل حقيقةً ما لم يكن هنالك انطباقٌ للفكر على الواقع المحسوس الذي يدلّ عليه. فإنْ وجدت هذه المطابقة كان الفكر حقيقة، وإن لم تكن هنالك مطابقة لم يكن الفكر حقيقة. وعلى هذا فإنَّ التفكير في الحقيقة لا يعني القيام بالعملية العقلية فحسب، بل لا بد لإظهار الحقيقة من تطبيق الفكر الذي نجم عن العملية العقلية على الواقع المحسوس. فلا يقال مثلًا: إن هناك أشياءَ لا يمكن معرفة انطباق الواقع عليها لأنها لا تُحسُّ، لأنَّ شرط التفكير في حقيقة الواقع الإحساس به، فما لم يحصل هذا الإحساس بالواقع لا يمكن أن يتكوَّن الفكر، وبالتالي لا يمكن الوصول إلى الحقيقة. ومن هنا فإنَّ الإيمان بالله، سبحانه وتعالى، ليس مجرد فكرة، أو أنه ناجم عن التفكير فيه عقليًّا فحسب، بل إنَّ حقيقة وجود الله، سبحانه وتعالى، نحسها ونلمسها في كلِّ خلْقِهِ، ونستمدها من الواقع الذي يقعُ عليه بصرُنا وسمعُنا، وفي كلِّ ما نفكِّر فيه وندركه.
اسمع قوله تعالى: [وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ] (الذاريات: 20 ـــ 23)... وقوله تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ] (آل عمران: 190).
إذن، فوجودُ الله، سبحانه وتعالى، حقيقة مستمدةٌ من الواقع، ومن الإحساس بهذا الواقع. أما «ذات الله»، فلا يمكن الحُكم عليها، لذلك فإننا لا نعرف شيئًا عن حقيقة الذَّات الإلهية. وكلَّما أمعنا فكرنا لنصل إلى حقيقة ذات الله، فإننا لا نقع إلَّا على جهالة عمياء.
وهكذا نصل إلى نتيجة حتمية وهي أن الحقيقة لا يمكن أن تكون حقيقة ما لم يجرِ التفكير فيها عن طريق العقل أولًا، ثم أن يأتي هذا الفكر منطبقًا على الواقع المحسوس الذي يدلُّ عليه أو يتناوله. وهذا أمرٌ مهمٌّ لا بدَّ من أن يعيَهُ الناسُ جميعًا، أفرادًا وجماعات وأممًا، وخصوصًا أولئك الذين يتحمَّلون مسؤولياتٍ، أيًّا كانت هذه المسؤوليات، صغيرة أو جسيمة، لأنَّ الأفكار كثيرًا ما تكون سببًا للخطأ وللانحراف عن الحقيقة، بل للوقوع في مغالطات. وهذه المغالطات إما أن تحصل في الحقائق، وإما أن تصرف عن الوصول إلى الحقائق.
فالمغالطات في الحقائق تحصل من جراء التشابه الذي لا يمكن التفريق معه بين حقيقة وحقيقة، ومن ثَمَّ اتخاذ هذا التشابه أداةً لطمس الحقيقة الرئيسية، إمَّا باستعمال حقيقةٍ معيَّنةٍ لطمس حقيقة أخرى، وإمّا بالتشكيك في حقيقةٍ ما على أنها ليست حقيقة، أو كونها حقيقةً في ظرفٍ وغَير حقيقةٍ في حالِ تغيُّر هذا الظرف.
فلو قلنا إن اليهود أعداء للمسلمين، فقولنا هذا حقيقة. وإن قلنا إن اليهود أعداء لأهل فلسطين فقولنا هذا حقيقة أيضًا. لكنَّ التشابه والتداخل في هاتَين الحقيقتَين أدَّيا إلى المغالطة التي جعلت حقيقة العداء بين اليهود وأهل فلسطين هي البارزة والظاهرة، مما أدّى إلى أن يطمس حقيقة العداء بين اليهود والمسلمين. ولعلَّ هذا الطمس، أو تعمُّده، هو الذي جرَّ إلى وجود علاقات ـــ بشكل أو بآخر ـــ بين دولة إسرائيل وبعض دول المسلمين.
أما المغالطات التي تصرف عن الحقائق فتكون إما أفكارًا صارفة أو أعمالًا صارفة، مثلًا كون الأمة ـــ أيّ أمة ـــ لا تنهض إلَّا بالفكر هو حقيقة. ولكنْ بتطبيق هذه الحقيقة على واقع الأمة الإسلامية ولكي تصرف عن التفكير الذي يراعي وجودها السليم ويحافظ عليه نجد أنَّ هنالك تشجيعًا في ديارها للأعمال المادية التي تقوم على الثورات المسلحة أو الاحتجاج عن طريق الإضرابات أو المظاهرات بحيث غدت هذه الأمور وأمثالها مشكلات معوِّقة للنهوض، مما جعل المسلمين يشتغلون بها، ويبتعدون عن التفكير أو عن إيجاد نهضة فكرية. وهكذا طُمست الحقيقة الأولى التي تقول بأن الأمة لا تنهض إلَّا بالفكر، وحلَّ محلها عند المسلمين: أنَّ أمتهم لا تنهض إلَّا بهذه الأساليب الواهية، وبالثورة المادية. أي الثورة التي يسهل القضاء عليها حال تحرُّكها، أو تفجيرها من الداخل قبل نضوجها.
فالمغالطات في الحقائق خطيرة. لذا كان لا بد من الانتباه لهذه المغالطات لكي يمكن تلافي محاذيرها، ومن ثَمَّ التمسك بالحقائق، بل والقبض على الحقيقة بيدٍ من فولاذ، وهذا لا يكون إلَّا نتيجة للتعمق في التفكير، والإخلاص في هذا التفكير، ثم اعتماد الواقع ـــ إنْ لتغييره أو لتحسينه ـــ أساسًا لجعل الأفكار الناتجة مطابقة له. ومن هنا كانت ضرورة الانتفاع بحقائق التاريخ، ولا سيما الحقائق الأساسية منها وعدم الخلط ما بين حقائق التاريخ الثابتة، وأحداث التاريخ التي تكون وليدة ظروف معينة، والتي لا يصح أن تطبق في ظروف مختلفة عن ظروفها، مما يبعد بها عن معنى الحقائق.
فمثلًا كون المسلمين لم ينهزموا مرةً في التاريخ حين كانوا يقاتلون بإخلاص في سبيل الإسلام هو حقيقة تاريخية، وكون فكرة القومية هي التي زعزعت كيان المسلمين هو أيضًا حقيقة تاريخية، لكن انهزام العثمانيين في أوروبا وفي الحروب التي خاضوها تحت لواء القومية العثمانية، هو من أحداث التاريخ، فالذي حصَلَ أنه كانت هنالك نظرة واحدةٌ إلى حروب العثمانيين بحيث أهملت فيها حقائق التاريخ حتى اختلطت بالأحداث التي رافقتها، وبحيث لم نعد نفرِّق بين انتصار العثمانيين كمسلمين وكدولة إسلامية وهي الحقيقة، وانهزام تركيا عندما قاتلت على أساسٍ قوميٍّ، وهو الحدث التاريخي. على أن التفكير في الحقائق يجب ألَّا يقتصر على حقائق التاريخ وحدها ـــ وإن كانت هي من أغلى ما لدى الإنسان ومن أعلى أنواع الأفكار ـــ بل يجب أن ينصبَّ على جميع الحقائق التي تكون لها آثارها المهمّة في حياة الأفراد والشعوب والأمم، لذلك لا بد من التفكير في الحقائق، ولا بد من القبض على الحقائق بيدٍ من فولاذ.
تلك هي مجمل المفاهيم المتعلقة بالحقيقة فما مدى انطباق هذه المفاهيم على معتقدات الصوفية بعامّة وعلى «الحقيقة المحمديَّة» بخاصّة؟
إن الحقائق في نظر الصوفية ثلاث:
الأولى: حقيقة مطلقة، فاعلة، واحدة، عالية، واجبة الوجود بذاتها، وهي حقيقة الله تعالى.
والثانية: حقيقة مقيَّدة، متعدِّدة، سافلة «بمعنى هابطة»، قابلة الوجود من الحقيقة الواجبة بالفيض والتجلِّي، وهي حقيقة العالم.
والثالثة: حقيقة أحديَّة، جامعة بين الإطلاق والتقيُّد، والفعل والانفعال، والتأثير والتأثُّر، أي إنها مطلقةٌ من جهة، ومقيَّدةٌ من جهة أخرى، فاعلة من ناحيةٍ، ومنفصلة من ناحية أخرى، ونجد تطبيقها عندهم في «الحقيقة المحمدية».
إذن، وبمقتضى هذا التقسيم، نظروا إلى الحقيقة المحمديَّة على أنها «نورٌ إلهيّ» أو أنَّ محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، يجمع بين صفات الإله وصفات المألوه، لذلك يقول أحد شيوخهم القدامى عن النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «اِعلم أن أنوار المكنونات كلها عرش وفرش، وسماوات وأراضٍ، وجنات وحجب، وما فوقها وما تحتها، إذا جمعت كلها وجدت بعضًا من نور النبيّ. وأن مجموع نوره، صلى الله عليه وآله وسلم، لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت؛ ولو جمعت المخلوقات كلها، ووضع ذلك النور العظيم لتهافتت وتساقطت»!!!
ونظرة ابن عربي، لا تختلف عن هذا كثيرًا، وهي تتلخص بأنَّ الله تعالى عندما «بدأ الخلق من الهباء كان أول موجود فيه الحقيقة المحمديَّة الرحمانيَّة، الموصوفة بالاستواء على العرش الرحمانيِّ، وهو العرش الإلهيّ، لا يحصرها (أَيْنٌ) لعدم التميّز، ووجدت في الهباء على المثال القائم بالحقّ نفسه المعبَّر عنه بالعلم به، وقد وجد لإظهار الحقائق الإلهيَّة التي أوجدتها الحقيقة المحمديَّة»!!!
ويوضح ابن عربي نظريته تلك عندما يقول: «إن محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، لما أبدعه الله تعالى حقيقةً مثليَّة، وجعله نشأةً كليَّة، حيث لا أَيْنَ ولا بَيْنَ، قال له: أنا الملك وأنت الملك، وأنا المدبِّر وأنت الفلك، وسأقيمك فيما يتكوَّن عنك، سايسًا ومدبرًا، وناهيًا وآمرًا، تعطيها مما قد أعطيتك، وتكون فيها كما أنا فيك. فلست سواك، كما لستَ سواي، فأنت صفاتي فيهم وأسمائي. فتفصد (أي النبيّ، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، عندما سمع هذا القول) عرقًا، فكان ذلك العرق الطاهر ماءً، وهو الماء الذي نبَّأ به الحق تعالى في صحيح الأنباء، فقال سبحانه: [وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمــَاء]!!!
ويمضي ابن عربي في هذا التصوُّر الخادع، لما يدَّعيه الحقيقة المحمديَّة، فيقول: «ثم انبجست منه، صلَّى الله عليه وآله وسلم، عيونُ الأرواح، فظهر الملأ الأعلى وهو بالمنظر الأجلى، فكان محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، الجنيس العالي لجميع المخلوقات، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس. فخلق الله من ذلك النور المنبعث منه العرشَ، وجعله مستواه، وجعل الملأ الأعلى وغيره محتواه».
وبمقتضى ما ذهب إليه ابن عربي، نجد أن للنبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، صفتَين: فمن ناحية له مقام الألوهيَّة وعنه انبثق الكون بكل ما فيه، بل أعطي الأمرَ والنهيَ، ومن ناحية أخرى، أنه مخلوق لله تعالى، لأنَّه نشأ عن الحقِّ.
وعندما يريد أن يتطرق إلى المخلوقات، يقول: «قال الله تعالى للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم: فأنت صفاتي فيهم وأسمائي» ثم يختار ابن عربي من هذه المخلوقات الأنبياء والأولياء حتى يصل إلى النتيجة التي يريدها وهي أن يجعل الوليّ في مرتبة تتقدم، بل تعلو على مرتبة النبيّ، لذلك فهو يقول: «وليس هذا العلم ـــ أي علم الكشف عند الصوفية ـــ إلَّا من مشكاة الرسول الخاتم، كما أنه لا يراه أحدٌ من الأولياء إلا من مشكاة الرسول الخاتم، كما أنه لا يراه أحدٌ من الأولياء إلا من مشكاة الوليِّ الخاتم، حتى إنَّ الرسل لا يرونه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء، والرسالة تنقطع والولاية لا تنقطع أبدًا. والمرسلون من حيث كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء، وفي الحديث: «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين».
وهكذا يصل إلى تحديد الوليِّ، وما له من منزلةٍ لا يبلغُها النبيُّ، فيقول عن النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وحسّنها إلا موضع لبنة، فكان من دخل فيها فينظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، قال، صلى الله عليه وآله وسلم: فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء. حديث صحيح أورده البخاري ومسلم في الصحيحين».
غير أن ابن عربي قال: «إن محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يراها إلَّا لبنة واحدة، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثَّل به رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويرى في الحائط موضع لَبنتَين، فلا بد من أن يرى نفسه تنطبع في تلكما اللَّبنتَين، فيكمل الحائط، فإنه يرى الأمر على ما هو عليه. فإنه آخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى بوساطته إلى الرسول».
وهذا يعني ـــ في نظر ابن عربي ـــ أنه هو اللَّبنة الثانية، وأنَّ الولي لا يأخذ علمه، ولا دينه، عن النبيِّ متابعةً له، لكنه يأخذ عن الله تعالى مباشرةً، حتى من دون وساطة جبرائيل عليه السلام. وهذا هو مفهوم العلم اللَّدُني، الذي قال به بعض شيوخ الصوفية، معتبرين أنَّ الله تعالى فضَّلهم به على النبيِّين والمرسلين. وهم يتلقَّون هذا العلم عنه تعالى مباشرةً، في حين أن النبيين والمرسلين يتلقَّون عن طريق الوحي، وبوساطة جبرائيل، عليه السلام، أو غيره من الملائكة!!! ويرى ابن عربي أنَّ الله تعالى خصَّ أولياء الصوفية بالعلم اللَّدُني حتى يكونوا هم خلفاءه في الأرض، لذا فهو يقول: «من يأخذ عن الله فيكون خليفة من الله بعين ذلك الحُكم»!!!
ويتفاوت شيوخ الصوفية في نظرتهم إلى الحقيقة المحمديَّة، وذلك عندما يُعدّ بعضهم الأولياء أعلى مرتبة من الأنبياء، في حين أن بعضهم الآخر يُعدّ الأنبياء والأولياء، وإن كانوا متفاوتين في الكمال، بحيث يكون منهم الكامل والأكمل، إلَّا إنه لم يتعيَّن أحدٌ منهم بما تعيَّن به محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، في الوجود من الكمال الذي قطع له بانفراده منه، لكنهم يعودون ويلتقون جميعهم على أن (القطب) عندما يبلغ مرتبة الوليّ، فإنه يصبح قادرًا على أن يتصرف في العالم كلِّه، لأنه يستمد قدراته من «الرسول الوليّ» الذي هو في نظرهم الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم. لذلك ذهب ابن عربي في مقدمة كتابه (فصوص الحكم) إلى أنه اجتمع بالنبيِّ وهو الذي أعطاه كتاب الفصوص، كما يزعم قائلًا: «أما بعد، فإني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في مبشرة (أي بشرى) أُريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستماية بمحروسة دمشق وبيده كتابٌ، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به. فقلت: السمعَ والطاعةَ لله ولرسوله، ولأولي الأمر منَّا، كما أُمرنا. فحققت الأمنيَّة وأخلصت النيَّة، وجرَّدت القصد والهمَّة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه (أي بيَّنه) لي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من غير زيادة ولا نقصان: فمن الله فاسمعوا، وإلى الله فارجعوا».
وليس هذا الادِّعاء من ابن عربي، بأنَّه تلقَّى كتاب (فصوص الحكم) عن النبيِّ، بلا زيادة ولا نقصان، إلّا ليُظهر للنّاس أنه «كتاب سماويّ» أنزلَهُ الله تعالى عليه بوساطة رسول الله، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وإلَّا فما معنى ذلك: «فَمِنَ اللهِ اسمعوا». أليس في هذا خروج فاضحٌ على الدِّين؟!
وكيف يستقيم هذا الادِّعاء مع إعلان الله تعالى لنبيّه وللمسلمين وسائر العالمين بأنه أكمل دينه وأتَمَّ نعمته بهذا الإكمال العزيز وذلك بقوله تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا] (المائدة: 3).
وهل يعني ادّعاؤه ذاك، غير أن شريعة الله تعالى لم تكتمل في القرآن، فأوحى إليه ذلك الكتاب الذي أقلُّ ما يقال فيه إنه يناقض القرآن نصًّا وروحًا، ويدعو إلى الفسق والإلحاد والنفاق؟!
ثم مَن هو هذا المدَّعي المنافق المجدِّف على الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، الساخر بدينه وبوحيه وكتابه، حتى يكون له ذلك المقام، وتلك المكانة الرفيعة عند الله تعالى فيجتبيه من دون جميع صحابة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيتِه، الذين رضيَ الله تعالى عنهم ورضوا عنه، فكانوا الأجلّاء، الأتقياء، المجاهدين، الحامدين، الداعين للعقيدة والدين. أليسوا هُمُ الذين حملوا هذا الدين القويم وجاهدوا في سبيل إيصاله لنا من بعد الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، بكل أمانة وإخلاص؟ هؤلاء الصحابة الكرام لم يقل أحدٌ منهم قطّ بأنه خُصَّ بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعلمٍ أو بفضلٍ يعلو على علم الرسول الأعظم وفضله! ومع ذلك، أتى هذا الغجري الذي قيل إنه ابن عربي، في القرن السابع الهجري يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أعطاه كتاب (فصوص الحكم) حتى يخرج به إلى الناس كي ينتفعوا به!!!
إنَّ هذه الافتراءات والادعاءات والمغالاة هي التي جعلته عرضةً للنقد والاتِّهام بالزندقة والكفر. فمن الذين حملوا على ابن عربي، لـِمـَا أورده في كتابه (فصوص الحكم) كما ذكر العالم برهان الدين البقاعي في كتابه (مصرع التصوف)، العلامة جمال الدين بن هشام (صاحب المغني) الذي كتب على نسخة من فصوص الحكم ما نصه:
هــذا الـذي بضلاله ضلَّت أوائل مع أواخر
من قال فيه غيرَ ذا فـلـينْأَ عـني، فــهو كافر
هذا كتاب فصوص الظلم، ونقيض الحكم، وضلال الأمم. كتاب يعجز الذم عن وصفه، وقد اكتنفه الباطل من بين يدَيه ومن خلفه. لقد ضلَّ مؤلفه ضلالًا بعيدًا، وخسر خسرانًا مبينًا، لأنه مخالف لما أنزل الله به رسلَهُ، وأنزلَ كتبَهُ، وفطر عليه خليقته».
نعم، إنَّ ابن عربي قد ضلَّ ضلالًا بعيدًا بمعتقداته الصوفية التي جاءت مخالفة لكتاب الله، وسنَّة رسوله. وليست نظرته إلى الحقيقة المحمديَّة، إلَّا من باب التفلسف الصوفيّ، الذي لا ينطبق بتاتًا على حقيقة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، من حيث كونه بشرًا سويًّا، ورسولًا من الله، وخاتمًا للنبيين. فما دامت حياة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، حقيقةً ثابتة في زمانه، وسيرةً دائمة في أمته؛ وما دام كتاب الله المجيد يبيِّن مَن محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وما المهمَّة التي نُدبَ إليها من ربِّه، ما دام ذلك كله ثابتًا وواضحًا عند جميع الناس، مسلمين وغير مسلمين، فلماذا كانت تلك النظرة الصوفية إليه، التي هي في ظاهرها مدح له ورفع لمكانته، وفي جوهرها مغالاة مرفوضة تتجاوزحدّ المعقول، وتشوّه صورة هذا الإنسان الكامل، والنبيِّ العظيم، إذ إنها تخرجه من بشريته، ونبوَّته، لتضعه في مقام «الألوهيَّة»، فيكون في وحدة مع ذات الله عزَّ وجلَّ؟! بل يكون نور الله الذي تفيض منه الموجودات كلها!
لا، لم يكن محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، على هذا الشكل، ولم تكن له تلك الصورة، التي رسمها له الصوفية. فما محمد، صلى الله عليه وآله وسلم ـــ كما عرفَهُ أهل زمانه، وكما حفظ ذكره القرآن، وكما روَى سنته أصحابُهُ وأهل بيته ـــ إلَّا بشرٌ، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج، وينجب بحيث يخضع لسنن الحياة التي خلقها الله تعالى، كما يخضع لها سائر البشر، ويعيش مثلهم، ويموت مثلهم.
صحيح أنَّ محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، كانت له صفات وشمائل رفعته في أنظار أهل مجتمعه إلى مرتبة لم يصلها غيره من حيث خُلُقه، واستقامته، وصدقه وأمانته، ومن حيث مناقبيته وصلاح نفسه. لكنَّ ذلك لم يخرجه عن طبيعته البشرية، بل هيَّأته هذه الصفات لحمل الأمانة الكبرى، وجعلته مؤهلًا للدعوة الخالدة فشملته عناية الله ورعايته حتى يكون المثَلَ الصالح والأسوة الحسنة، ويكون فيما يصيبه من أفراح وأتراح مثالًا للآخرين يقتدون به: فلا تغرَّنهم زينة الحياة الدنيا بغرورها، ولا ييأسون أو يقنطون من رحمة الله إذا حلَّت بهم النوائب. ذلك كله مصداقٌ لقوله تعالى فيه، وهو يخاطب الناس: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] (الأحزاب: 21).
وإذا كان الله، سبحانه وتعالى، قد اختاره نبيًّا ورسولًا لقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا] (الأحزاب: 45 ـــ 46). فإنَّ ذلك لا يعني خروجه عن طبيعته البشرية، ولا ابتعاده عن صفاته الإنسانية، بل هو تأكيدٌ لبشريته ولرسالته على حدٍّ سواء، وذلك لقوله تعالى: [قُل (يا محمد) سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً] (الإسراء: 93) وما إلى ذلك من الآيات الكريمة، التي تبيِّن حقيقة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الحقيقة التي لا تتعدى حالتين:
ـــ حالته في جنسه البشري.
ـــ وحالته في نبوَّته ورسالته.
فهل يجوز، إذن، أن نتقوَّل على الله وعلى رسوله، وأن نستنبط النظريات، ونبتدع الأفكار التي تخالف الحقيقة والواقع؟وهل الحقيقة المحمديَّة وواقعها إلَّا ما يشهد به تاريخُ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرتُه الشريفة، وما يؤكّده كتابُ الله المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
إنَّ هذه ولا ريب هي حقيقة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فلِمَ يذهبُ ابن عربي، ومتفلسفة الصوفية إلى أبعد من هذه الحقيقة، حتى ينسجوا نظريات تخرج بهم على دين الله الحق، وتنأى بهم عن الحقيقة المحمديَّة، كما حدَّدها القرآن، وكما شهدها ألوف الناس في حياته، صلى الله عليه وآله وسلم؟
إذن، فكون محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بشرًا، أمرٌ لا خلاف فيه، ولا يقبل العقل أيَّ جدالٍ حولَه. وكذلك بالنِّسبة إلى كونه رسولًا، وحاملًا رسالة الإسلام، فهذه أيضًا حقيقة أخرى لا تقبل الشك، ودليلُها حقيقة القرآن بين ظهرانينا، والأمة الإسلامية في وجودها كله.
والرسالة التي حملَها محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، كانت مهمَّةً محدَّدة له من الله تعالى، يبلِّغها إلى الناس من دون زيادة أو نقصان. وقد حمل الأمانة وأدَّاها، صلى الله عليه وآله وسلم، فعلًا وقولًا، وعمل على نشرها بكل إخلاص وتفانٍ، فأرضى الله ربَّهُ وصلَّى الله تعالى عليه في عليائه، ثم أمر جميع عباده المؤمنين بالصلاة والسلام عليه وذلك بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] (الأحزاب: 56).
أما المعجزات التي رافقت حمله الرِّسالة، فإنها كانت كسائر المعجزات التي رافقت حملَ غيره من النبيِّين والمرسلين لرسالات الله إلى العباد، فإنَّ ضَرْبَ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، الصخرة، يوم الخندق، في واقعة الأحزاب وظهور نورٍ تحت ضرباته تلك، أضاء كل ما حوله، حتى رأى النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، من خلاله أنَّ الله ـــ عزَّ وجلَّ ـــ فتح عليه بلاد اليمن، وبلاد الشام والمغرب، وظهرت له قصور قيصر وقصور كسرى، التي سيفتحها المسلمون من بعده. إنَّ هذه المعجزة هي مثل معجزة إنزال المائدة من السماء إلى المسيح عيسى بن مريم، عليهما السلام، ومثل معجزة فلق البحر وشقِّه بعصا موسى، عليه السلام، وغيرها من المعجزات التي أوتيت للأنبياء ـــ بإذن الله تعالى ومشيئته ـــ من أجل تدعيم الرسالة التي يحملها كلُّ نبيٍّ، ودفع الناس للإيمان بما يدعوهم إليه. وتشكل الرِّسالات السماوية التي حملها الأنبياء والمرسلون الحقائق التاريخية، في حين أن تلك المعجزات التي كانت تحصل، والتي كانوا يظهرونها للناس، إنما تشكل أحداثًا تاريخية رافقت ظروف كلِّ دعوة، وأجواءها التي كانت تحيط بها.
هذا هو المفهوم الصحيح الذي يجب أن ندرك به حقيقة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم. أما أن نعتمد تلك المفاهيم المغلوطة التي قال بها الصوفية، فهو الخطأ بعينه. ولعلَّ استجابة الكثيرين من الناس للمغالطات الصوفية، إنما كانت بسبب الانحطاط الفكري الذي عمّ المسلمين منذ القرن السادس الهجري، عندما كثر التأويل للآيات القرآنيَّة، والأحاديث النبويَّة، بتحميل المعنى أكثر من طاقته وبإخراجه عن حقيقته اللغوية والشرعية، وذلك كي يتسنى، لأولئك العابثين بالمعاني الإسلامية، التوفيق بين الأفكار الإسلامية والأفكار الصوفية والفلسفات الأجنبية. وهذا ما أدَّى إلى ظهور المغالطات لصرف الناس عن الحقائق التاريخية، واستمرارها إلى يومنا هذا، بحيث لا تزال تفعل فعلها في التأثير على المسلمين، وإبعادهم عن حقائق عقيدتهم الإسلامية.
ولم تكن محاولات ابن عربي في تفسير «الحقيقة المحمديَّة» إلَّا ضربًا من المغالطة التي تصرِفُ المسلمين عن حقيقة النبيِّ الرسول، والإنسان المخلوق، بحيث تجعله نموذجًا آخر، يختلف كلَّ الاختلاف عن خلْقه الذي أراده الله تعالى عليه. إلَّا إن الحقيقة من حيث هي، تبقى حقيقة دامغة، ولا يمكن للتأويلات أو المغالطات أن تشوِّهها أو أن تحرِّفها أو تطمسها. لذا وجدنا عند أهل العلم، من الشرق ومن الغرب، مَن عرف حقيقة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فأبانَها بوضوح وصراحة، لا ليؤكّد هذه الحقيقة ـــ لأنها لا تحتاج إلى تأكيد ـــ بل ليدحض آراء الصوفية، ويسفّه أحلامهم وأحلامَ كل من ينحون نحوهم. وأحد أهل العلم هؤلاء كان المؤرخ فيليب حتي الذي لم يتوانَ عن اتِّهام الصوفية بالدَّس على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما يقول في كتابه (تاريخ العرب ـــ الجزء الأول ـــ ص 177): «والعقيدة الثابتة في باب الإيمان عند المسلمين، هي أن محمدًا رسول الله، وخاتم النبيين. وفي علم الإلهيات القرآني ليس محمد إلَّا بشرًا لم يتمَّ الله على يده من العجائب غير إعجاز القرآن، إلَّا إن التقاليد والأساطير التي اصطنعها العامة من بعده بدسائس الصوفية ـــ نسجت حول هامة الرَّسول هالة من النور الإلهيّ». ويأتي رأي صادق من الغرب، ليدحض الخرافات التي أشاعها الصوفية حول النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وحول الأولياء، عندما يقول المستشرق هينوش بيكر: «من الثابت أن الغنوص (أي الغباء والجهل) قد أثر في إيجاد هذه الصورة التي صورتها العصور الوسطى الإسلامية المتأخرة لمحمد، وكان ذلك سببًا في إيجاد ما يشبه عبادة محمد، وهذه العبادة، وتلك الصورة مخالفتان لما كان عليه الإسلام الأول كل المخالفة.
أما الأولياء في الإسلام ـــ عند الصوفية ـــ فهم في مقابل الأرواح القدسية في الهلينية (معتقدات في الكائنات الروحية يدعون أنها تتوسط بين الذات الإلهية والذوات الأخرى). حتى إن محمدًا ـــ وهو نموذجهم الأعلى ـــ ينتهي بأن يصبح هو العقل الموجود منذ الأزل، وأن يكون هو الرَّحيم المخلص القدير. وعن طريق هذا المذهب، انقلبت فكرة الوحي التي كانت موجودة في الإسلام الأول إلى ضدها».
هذا وغيره، مما قاله بعض علماء المسلمين وغير المسلمين، في معتقدات بعض الصوفية، وخصوصًا فيما يعود منها إلى «الحقيقة المحمديَّة». وكأنّ محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، كان في حاجةٍ إلى أولئك الواهمين، العابثين، المنافقين، لكي يظهروا حقيقته، في حين أنه، صلى الله عليه وآله وسلم، ملء سمع الدنيا وبصرها: ببشريته وإنسانيته، ونبوَّته ورسالته. ويكفي أن يكون القرآن ـــ كتاب الله الدائم ـــ هو الناطق بالحق على حقيقة محمد، حتى تخرس ألسنة أولئك الغاوين، وتتوارى ضلالاتهم الشاذة، إذ لا يمكن لمن ملأ الكفرُ قلبه، واحتوى الوهمُ فكرَه، وتلبَّس ادِّعاء إدراكه أن يعي الحقيقة، في أيّ صورة كانت هذه الحقيقة وأيًّا كان المجال الذي تعنيه. وليس الصوفية إلَّا جُهَّالًا للحقيقة على ما يبدو، فقد شاؤوا أن يتفلسفوا في ادّعاء حبهم للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء هذا الحبُّ في نطاق ذلك الادِّعاء ضربًا من الكفر، يمقته الله تعالى، ويمجّه العقل الرزين، وينكره الرسول الأمين، ويشجبه جميع المؤمنين الصادقين.
هذه فكرة محيي الدين بن عربي حول «الحقيقة المحمديَّة»، وتلك آراؤه حول غيرها من المذاهب الصوفية، التي جهد في أن يكون محورها «وحدة الوجود»، على أن تتفرع من هذا المحور نظريات أخرى عدّة، تدور في مجملها حول المعرفة، أو وحدة الأديان، وما إلى هنالك من مقولات صوفية، كانت في ظاهرها نوعًا من محاولات التوفيق بين الإسلام والفلسفات الأجنبية، في حين أنها في حقيقتها ضروب من الكفر والإلحاد، حتى إن أحد أقطابهم وهو التلمساني لم يتورَّع عن الإدلاء بكل جرأة ووقاحة بقوله: «القرآن كله شرك، والتوحيد في كلامنا».
فإلى الذين تستهويهم آراء ابن عربي، ويسيرون على منهجه ويرجون شفاعته يوم القيامة، وإلى أولئك الذين يتعبدون (بفصوص حِكمِه) وبفتوحاته المكِّية، أو بديوان شعره، وما ترك من مخلَّفات، إلى هؤلاء نقول، كما قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه (التصوف والمتصوفة في مواجهة الإسلام): «انظروا في ما أنتم فيه، مما امتلأت به رؤوسكم من مخلفات ابن عربي، ثم ردُّوا هذا إلى كتاب الله، وإلى سنَّة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان عليه الصحابة والتابعون من أخذهم بالكتاب والسنَّة، في عباداتهم ومعاملاتهم، فإن وجدتم شيئًا مما يقوله ابن عربي يستند إلى صريح كتاب الله وسنّة رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة صحابته، فاقْبَلُوه، وإلَّا فردُّوه. واطلبوا السلامة لأنفسكم مما أنتم فيه، وإلَّا فاقطعوا صِلَتكم بالإسلام، ولا تقولوا إنكم مسلمون، بل قولوا إنكم صوفيون على دين ابن عربي ومَن كان على شاكلته!!!...















المصادر
1 يدعي الصوفية أن السريانية هي لغة الملائكة وأهل الجنة، وبها يكون سؤال القبر. وهي عند الصوفية شيء آخرغير لغة السريان الذين قاموا بترجمة الفلسفة اليونانية وغيرها في عصور انحطاط الدولة العباسية.
2 يورد الدكتور طلعت غنّام نقلًا عن الدكتور أبي العلا عفيفي عن الصوفية الملامتية أنهم «يدَّعون أنهم مع الله أشبه بمحمد صلوات الله عليه. لم يؤثر باطنه في ظاهره، بعد الذي ناله من القرب والدنّو، عندما رفع إلى المحل الأعلى، فلما رجع إلى الخلق تكلَّم معهم في أمور دنياهم كما لو كان واحدًا منهم، وهذا أكمل العبودية، لذلك فهم قد قاموا مع الحق تعالى على حفظ أوقاتهم، ومراعاة أسرارهم فلاموا أنفسهم، على جميع ما أظهروا من أنواع القرب، والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه، وكتموا عنهم محاسنهم، فلامهم الخلق على ظواهرهم، ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم».
ويورد الدكتور طلعت غنام في الردِّ على الملامتية ما يقوله ابن تيمية: «وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك ما أحبه الله فهو لوم يحصل بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وبهذا يحصل الفرق بين الملامتية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله، ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين الملامتية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك».
ويضيف إلى ذلك الدكتور غنام رأي الدكتور أبي العلا عفيفي في الأسس التي شكلت مذهب هذه الطائفة بأنه يقول: «ويخيل إليّ أن الأساس النظري العام الذي يقوم عليه المذهب الملامتي هذا، هو التشاؤم الذي نظر به شيوخ هذه الفرقة إلى النفس الإنسانية، وبنوا عليه مذهبًا كاملًا، في تذليلها وتحقيرها، ولومها واتِّهامها، وحرمانها من كل ما نسب إليها من علم أو عمل، أو حال أو عبادة، وهي وجهة نظر قد يكون للبيئة الزرادشتية في فارس أثر فيها. ومن زعماء هذه الطائفة أبو عثمان الحيري، وهو من مؤسسي هذا المذهب».
ويضيف الدكتور غنام قائلًا: «ويبني الدكتور أبو العلا المبادئ التي تتنافى مع القرآن الكريم والسنَّة فيقول: ومن المبادئ الأساسية التي صدر عنها المذهب الملامتي أن العالم شر لا خير فيه. وهو في هذا يتفق مع حمدون القصار. لذلك يوجب على الملامتي التزام الحزن والكمد ورؤية التقصير في جميع أفعاله.
وقد كان ذلك سببًا دعا بعض الصوفية (كأبي بكر الواسطي) إلى وصف مذهب أبي عثمان بأنه مجوسي... وإذا كانت الدنيا شرًّا محضًا، يجب التخلص منه، فالزُّهد فيها أول ما يُلزم به المتشائم نفسه، لذلك كان أبو عثمان يرى وجوب الزهد المطلق في كل شيء. وليس من المستبعد أن يكون التشاؤم الزرادشتي والهندي قد وجد طريقه إلى بعض صوفية خراسان وإلى البيئة الثقافية التي عاش فيها أبو عثمان الحيري، بل ليس هناك من شك، في أن نظرة أبي عثمان بخاصة، والملامتية بعامّة، إلى النفس الإنسانية، إنما هي نظرة رجال متشائمين تحمل طابعًا غير إسلامي».
3 الكشف عند الصوفية درجة من درجات المعرفة التي لا تحصل بالعقل، وقد يسمونه «الفيض». ونظرية الفيض أو الإشراف مقتبسة من الأفلاطونية الحديثة التي توسعتْ في شرحها بعد أن أخذتْ فيها بآراء أفلاطون وحكماء الهند.
4 من الملاحظ عند ابن عربي أنه عندما يتكلم عن المسلمين ـــ في سورة نوح عليه السلام ـــ يصفهم بالمحمديين، وكأن المسلمين يعبدون محمدًا ولا يعبدون الله تعالى، ربَّ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وربَّ العالمين أجمعين. وهذا الخطأ شائعٌ بين الناس.
5 الجنيس: الأصيل في جنسه.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢