نبذة عن حياة الكاتب
سلسلة أعلام التصوف
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : السير
عدد الصفحات : ٩٢٩
تاريخ النشر : ١٩٨٨

ابنُ سَبعين
سلسلة أعلام التصوف




سميح عاطف الزّين

ابنُ سَبعين
الطرائق الصوفيّة
دراسة وتحليل



الشركة العالميّة للكتاب
دار الكتاب اللبناني ـــ مكتبة المدرسة





بسْم الله الرَّحمن الرَّحيم









ابنُ سبعين
الطرائق الصوفيّة

ابنُ سبعين
612 ـــ 669 هــ
1215 ـــ 1270 م

مَن هو ابن سبعين، ولماذا اشتهر بهذا الاسم؟
هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد. كان يكنّى «أبا محمد»، ويلقب «قطب الدين» أحد الألقاب المشرقية. اشتهر بِـــ «ابن سبعين» كما عرف بـــ «ابن دارة». والدارة تعني الحلقة أو هالة القمر. وهي تنطوي أيضًا على معنى الفروسية كما وَرَدَ في (القاموس المحيط): أن «ابن دارة» يعني أحد الفرسان، وربما تكون تسمية ابن سبعين هذه بابن دارة لما كان له من صفات الفروسية، كما يقول المحققون.
وابن سبعين نفسه كان إذا كتب اسمه يكتب (عبد الحق) ويضع أمامه دائرة هكذا: (عبد الحق O). ولا تعني هذه الدائرةُ الصغيرةُ الدارة(التي هي الحلقة) فحسب، بل تعني أيضًا الرقم (70) والذي كان يعبّر عنه في الكتابة العربية القديمة، كما يقول بعض الباحثين، بحرف الـــ (ع) أو برمز دائرة (O)...
ولعلَّ معرفة ابن سبعين بعلم الحروف أو السيمياء، ونزعته إلى ابتكار الأحاجي والألغاز هما اللتان أوحتا إليه بتسمية نفسه «ابن سبعين» لأن أول حرف من أحرف اسمه يبدأ بالعين، والعين في حساب الْجُمَّل (أي حساب الحروف ـــ الأبجدية) تساوي (70) لذا أطلق على نفسه لقب ابن سبعين.
وأيًّا كانت الوسيلة، أو المصدر الذي استقى ابن سبعين منه اسمهُ، فإننا نجد أنه عاش في (مرسية) من أعمال الأندلس، في بيتٍ كريمٍ، تحف به مظاهر الجاه والنعمة، وتبرز منه صفات الكرم والمروءة، فعاش في هذا الجو العائلي المشبع بالخصال الطيّبة، ونشأ عزيزَ النفس، قليلَ التصنُّع، بادي الإيثار والجود، ممَّا انعكس إيجابًا على ذهنيته فلمع بذكائه ونباهته، واندفع يعبُّ من معين الفلسفة حتى اشتهر بعلمه الواسع لفلسفة الأغريقيين، كما تدلُّ على ذلك أجوبتُه حين كان في (سبته) على الرسالة المعروفة بـــ (الأجوبة على المسائل الصقلِّية).
ثم ترك بلاد الأندلس مرتحلًا إلى المغرب العربي، فأقام في العدوة، وسكنَ (بجاية)، ثم انتقل إلى تونس حيث طالت إقامته، وفيها ظهرت نزعته الصوفية بشكل بارز، كما انتشرت عقيدته بـــ «الوحدة المطلقة» التي أثارت عليه حفيظة فقهاء المغرب وتونس، ومنهم السكوني بخاصّة، مما جعله لا يطيق البقاء في تلك الديار، فارتحل إلى المشرق.
وتشير بعض المصادر إلى أنه ذهب إلى مصر، فلما عرف فقهاء تونس بوجوده في تلك البلاد أرسلوا وراءه رسولًا يحذِّر أهاليها منه، بدعوى أنه رجلٌ ملحدٌ، يقول بوحدة الخالق والمخلوق، ولا يتورَّع عن الإعلان بقوله: «أنا هو، وهو أنا»، على طريقة البسطامي. فكان ذلك سببًا في نقمة فقهاء مصر عليه وخصومتهم له. وقد تزعم هذه الخصومة وقادها الشيخ قطب الدين القسطلاني (المتوفى عام 686 هــ) إذ هاجَمَهُ هجومًا عنيفًا وضيّق الخناق عليه، حتى اضطر لأن يترك مصر ويذهب إلى مكة المكرمة.
ولا تشير المصادرُ إلى الأوضاع التي كان يتقلَّب فيها ابن سبعين، إلَّا إن ابن كثير ـــ وهو من خصومه ـــ يذكُرُ بأنَّ «الرجل استطاع بعد إقامته في مكة أن يستحوذ على عقل الوالي أبي نُمى، وأنه كان يجاور أحيانًا في غار حراء، وهو يرتجي أن يأتيَهُ وحيٌ كما أتى النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لما كان يحمله من العقيدة الفاسدة وهي أن النبوّة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلَّا الخزيُ في الدنيا والآخرة». ويَنسب ابن كثير له أنه «كان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم: كأنهم الحميرُ حولَ البدار، وأنَّهم لو طافوا به هو (أي بابن سبعين) لكان أفضل لهم من الطواف بالبيت»!!! ويذكر بعض خصومه أيضًا أنه كان يخاف الذهابَ إلى المدينة المنوَّرة لعداوته مع أميرها مما جعلَ «الحملَ يعظم عليه وتقبح الأحدوثة عنه».
هذه هي الصورة التي يعطيها خصومُه له في أثناء إقامته بمكة. وهي تظهره رجلًا يدَّعي النبوَّة، ويستهزئ بالحجّ ومناسكه، أو كما يقول بعضهم: «جبانًا، رعديدًا، مطرودًا من رحمة الله ورسوله، مُمخرِقًا مموّهًا».
ولكن، في المقابل، نجد أن أصحابه يعطوننا صورة مغايرة له. فهم يعدّون تلك الروايات عنه تشنيعًا من خصومه عليه بسبب ما كانوا يكنُّون له من حقدٍ نظرًا إلى ما يتميَّز به منهم من علم واسعٍ، وجاه وحظوةٍ عند الكثيرين. وأما قصدهم (ويقصدون أعداءه) من وراء ما روَّجوه عنه في عدم ذهابه إلى المدينة لئلّا يلقى الذمَّ، ويُمنع من الاقتراب من المسجد النبويّ الشريف، وما نسبوه إليه من خوارق السيمياء، فهذه كلها عارية من الصحة ولا تهدف إلَّا للحط من شأنه. ثم هم يدافعون عنه فيرَون أن عدم زيارته للمدينة ـــ أو زيارته لها مستخفيًا كما يقول أنصارُهُ في مكة ـــ إنما كان لأسباب سياسية، مفادُها أنَّه ربما كان ثمَّةَ خلاف بين حاكم المدينة وحاكم مكة، ولما كان ابنُ سبعين يحظى باهتمام الأخير فقد آثَرَ عدم زيارة المدينة إرضاءً له، بل هم يذهبون إلى القول بأنَّ ثمةَ خلافًا يمكن أن يكون بين ابن سبعين نفسه وحاكم المدينة، الأمرُ الذي حال بينه وبين الذهاب إليها أو الإقامة فيها لفترةٍ من الزمن. فالمهم في الأمر أنَّه كان في أثناء إقامته بمكة على علاقة طيبة بحاكمها أبي نُمى، وقد أنشأ علاقة مماثلة مع ملك اليمن، المظفر شمس الدين يونس الأول، الذي كان يعتقد بصحة آرائه، على خلاف وزيره الأول الذي كان يكنُّ له كل حقدٍ وكراهية.
ويشير ابن تيمية في معرض هجومه على ابن سبعين، إلى المكانة التي كانت له عند أمير مكة، فيقول: «فإن قول الاتحادية، ومنهم ابن سبعين، تجمع كلَّ شرْكٍ في العالم، وهم لا يوحِّدون الله سبحانه وتعالى، بل يوحِّدون القدَر المشترك بينه وبين المخلوقات. لذلك فإنه سعى (ابن سبعين) سعيًا حثيثًا لدى حاكم مكة أبي نُمى لكي يعترف بسلطة السلطان محمد المستنصر بالله ابن السلطان أبي زكريًّا بن عبد الوليد من بني حفص، إذ تولَّى ابن سبعين إنشاء البيعة التي بايع بها حاكمُ مكة وأهلُها هذا السلطانَ المغربي، وربما كان ابن سبعين يمهّد بذلك لنيل رضاه».
ويبدو أن الفقهاءَ في مكة قد ثارت ثائرتهم عليه في السنتين الأخيرتين من عمره، إذ بدأوا هجومًا عنيفًا عليه في عام 667 هــ كما يقول الفاسيُّ. فلما شعر بالضيق الشديد فكَّر في ترك مكة والهجرة إلى بلاد الهند، لكن المنية وافته عام 669 هــ وله من العمر نحو ثمان وخمسين سنة.
هذا ما يمكن استخلاصه عن حياة ابن سبعين، كما ذكر خصومه وأصحابه باختصار. ومنه يتبيَّن أن الرجل عاش في بلاده الأندلس، ثم خرج إلى بلاد المغرب العربي، ومنها ارتحل إلى بلاد المشرق. لكنَّ النقمة كانت تلاحقه من الفقهاء، بسبب معتقداته الصوفية، حتى استقرَّ به المقام عند حاكم مكة في الحجاز. ولم يمتدَّ به العمر طويلًا، إذ مات ولم يبلغ الستين من عمره. وعلى الرغم من ذلك فإنه ترك مؤلفات كثيرة، تظهر منها آراؤه الصوفية التي اعتنقها ونادى بها، والتي كانت سبيلًا لانتقاده واتهامه بالكفر والإلحاد من قبل بعضهم، أو سبيلًا للإعجاب به من قبل بعضهم الآخر، مِمَّنْ ساروا على طريق التصوّف واعتنقوه مذهبًا ودينًا!!!
تحلُّل ابن سبعين من الشريعة
أول ما نُسب إلى ابن سبعين تحلُّله من الشريعة، وقولُه بسقوطِ التكاليف الشرعية عن كلِّ من بلغَ درجةَ العلماء، يَعني علماءَ الصوفية. وهذا ما ذهبَ إليه الفاسيُّ عندما ذكر بأنه سَمِع من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكان قد حضر مجلسًا لابن سبعين، قولَهُ: «ولا شك أنَّ الذي ظهر به ابنُ سبعين هو مسروق من عقيدة ابن المرأة وابن أَحلى وأتباعه، إذ كانوا كلهم بمرسية». ويشرح الفاسي، ما ذهب إليه القاضي بدر الدين حول ذينك الرجلَين اللَّذين أخذ عنهما ابن سبعين اعتقاده بسقوط التكاليف الشرعية، فيقول: «ولنذكر شيئًا عن انحلال هذَين الرجلَين لنفهم منه انحلالهما، وانحلالَ ابن سبعين من الشريعة: فأما ابنُ أحلى فهو ـــ على ما وجدت بخط أبي حيَّان نقلًا عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير ـــ أبو عبد الله محمد بن علي بن أحلى اللوزقي. كان لزمَ بمرسية ابنَ المرأة ـــ وهو أبو إسحق بن يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي المالقي، شارح الإرشاد لإمام الحرمين ـــ ونقل عنه مذهبَ ابتداعٍ لم يُسبَق إليه، فمن ذلك قولهم: بتحليل الخمر، وتحليل نكاح أكثر من أربعة، وأن المكلف إذا بلغ درجة العلماء عندهم سقطتْ عنه التكاليفُ الشرعيةُ من الصلاةِ والصيام وما إلى ذلك. وقد استبان بهذا الشيء من حال ابن أحلى وابن المرأة، لأن ابن سبعين أخذ عنه».
على أنَّ هذا الذي نُسب إليه فيما أخذ عن أستاذه ابن دهاق، يخالفه ما جاء في رسالة بعثَ بها ابنُ سبعين إلى تلاميذِهِ، وفيها نجدُ أنه يحثُّهم على التمسّك بالشريعة، وتقديمها على الحقيقة، مع الوقوف على حدود الحلال والحرام، إذ يقول: «حفظكم الله، حافظوا على الصلوات، وجاهدوا النفسَ في اجتناب الشهوات، وكونوا أوَّابين توَّابين. واستعينوا على الخيراتِ بمكارم الأخلاق. واعملوا على نيل الدرجات العليّة، ولا تغفلوا عن الأعمال السنية. وخلصوا مخصص الأعمال الإلهية ومهمَلها؛ وذوقوا مفصّلَ اللذاتِ الروحانية ومجملَها، ولازموا المودة في الله بينكم. وعليكم بالاستقامة على الطريق، وقدِّموا فرض الشريعة على الحقيقة ولا تفرِّقوا بينهما لأنهما من الأسماء المترادفة. واكفروا بالحقيقة في زمانكم هذا، وقولوا عليها وعلى أهلها: لعنة الله، لأنها حقيقةٌ كما سُمي اللديغ سليمًا، وأهلها مهملون حدَّ الحلال والحرام، مستخفُّون بشهر الصوم والحج وعاشوراء والإحرام، قاتَلَهُمُ الله أنَّى يؤفكون».
ويبدو واضحًا ممَّا ورد في هذه الرسالة أنه يتناقض تمامًا مع ما نُسب إليه في تحلُّله من الشريعة.
فأين الحقيقة إذن؟
وهل أنَّه كان من القائلين بسقوط التكاليف الشرعية، ومتحلِّلًا بالتالي من أحكام الشريعة؟
للإجابة عن هذا السؤال، يقتضي الوقوف على الجهة التي تأثَّر بها في اعتناقه التصوّف، وهذه الجهة تبرز فيما ظهر في الأندلس من اتجاهات صوفية قبله، وهي الاتجاهات التي عُدّت امتدادًا لما قالت به مدرسة ابن مسرَّة (269 ـــ 381 هــ) الصوفيّ الأندلسيّ الذي أثرت تعاليمه في جميع الصوفية في الأندلس فراحوا يمزجون بين التصوّف والفلسفة، كما بدا واضحًا في اتجاه المدرسة الشوذيَّة التي قالت بهذا المزج وبالوحدة، والتي يُعدّ ابنُ سبعين أحدَ تلاميذها ومن أشدّ المتأثرين بتعاليم ابن مسرَّة.
وعلى هذا، فإنَّه لو صحَّ ما كتبه في تلك الرسالة التي وجهها إلى تلاميذه، فإمَّا أن يكون قد كتبه قبل اعتناقِهِ التصوفَ مذهبًا وعقيدة، أي قبل ظهوره في تونس، وإمَّا أن يكون قد أرادَ الظهور بمظهر التمسك بالشريعة وأصولها في حين أنه في الحقيقة يُبطنُ خلاف ذلك نظرًا إلى خوفه من خصومه، والفقهاء منهم بخاصة، الذين كانوا يحاربون الصوفية إجمالًا ويُشنّعون تفصيلًا على معتقداتهم...
وحيالَ ذلك قد نجد الدليلَ على معتقد ابن سبعين في موقفِهِ من الغزالي ومصنّفاته، فالغزالي كان قد عرف في الأندلس أيام عصر المرابطين (أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس للهجرة) لكنَّ موقف الفقهاء منه حالَ دون انتشار تعاليمه الصوفية في تلك البلاد، بل أدَّى إلى إحراق كتبه في قرطبة. وقد ظلَّ هذا الاتجاه ضدَّ الغزالي قائمًا في إسبانيا حتى انتهى عصر المرابطين وجاء المهدي مؤسس دولة الموحِّدين، الذي عُرِف عنه بأنه من أنصار الغزالي ومؤيدي آرائه.
فابن سبعين، بعد اطّلاعه على مصنفات الغزالي، انتقَدهُ في البداية انتقادًا عنيفًا. ولكنْ بتسلم المهدي مقاليد السلطة، انتقَل من موقفه الهجومي على الغزالي إلى موقف الدفاع عنه، وعن كتبه، ونَدْبِ الناس إلى قراءتها حتى «صارت قراءتُها شرعًا ودينًا بعد أن كانت كفرًا وزندقة» على حد تعبير ابن طلموس في (المدخل إلى صناعة المنطق). وهذا دليلٌ للتأمُّل كيف أنَّ أهواءَ الناس تنتقل وفقًا لأهواء الحكام، كما انتقَلَ أهلُ الأندلس من مندِّدين بالغزالي وناقمين عليه إلى مناصرين له ومحبِّين، وكان ابن سبعين من أشَدِّ المبدِّلين، لا لشيء إلَّا لإرضاء الحاكم على ما يبدو. فأين العلمُ وأين صاحب العلم؟!
يُضاف إلى هذا الموقف المتبدِّل الغريب عند ابن سبعين، ما تحصّلَ له من معرفة بالمذاهب والديانات غير الإسلامية التي تدعو إلى التصوف، أو تقرُّهُ بشكل أو بآخر. فقد كان، كما يتبيَّن من الرسائل التي كتبها، على معرفة بالنصرانية وأخبار رهبانها، وعلى اطّلاع تام على الإنجيل، وإلمام بجميع تفاصيله، وعلى علمٍ بما ينبغي أن يكون عليه البابا بصفته رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم. كما كانت لديه إحاطة بمذاهب اليهود وأخبار أنبيائهم وكتبهم، وبمذاهب الهنود القدامى كالبراهمة وأهل التناسخ والهرامسة، وبالمجوسية وما عندها من أذكار وعبادات متنوعة، فضلًا عن معرفته بالفلسفة وخصوصًا فلسفة أفلاطون، هذا إلى جانب ما قاله في ارتباط الذِّكر بالسحر، كما تشير إلى ذلك (الرسالة النورية).
من ذلك كله يتبيَّن أن ابن سبعين كان صوفيًّا عن قناعة، وأنَّ ما ادَّعاه من حضٍّ على الشريعة وتظاهر بالتمسك بالكتاب والسنّة، لم يكن إلَّا إخفاءً لنزعته الصوفية. لذلك فنحن نميل إلى الرأي القائل بأنه من دعاةِ سقوطِ التكاليف الشرعية عن العالم الصوفيّ حين يبلغ درجةً معينةً في علوم التصوُّف، التي تُعدّ في حقيقتها علومًا مخالفة للعقيدة: أصلًا وفرعًا.
أهم آراء ابن سبعين
لعلَّ أبرز ما تميّز به ابن سبعين من آراء صوفية قوله بالوحدة المطلقة التي هي عنده موضوع علمٍ خاصٍّ يسميه بعلم التحقيق، وعنه نشأت نظريته في المحقق أي الفرد الإنساني الكامل المتحقق بالوحدة المطلقة.
1 ـــ مذهب ابن سبعين في الوحدة المطلقة
لقد ألَّف ابن سبعين (رسالة الإحاطة) التي ضمنها مذهبَهُ في الوحدة المطلقة حتى كانت عنده «الغاية القصوى في ما قرره من هذا المذهب» كما يقول الفاسي.
وهو يبدأ رسالته هذه بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم. كلامُ مشيرٍ بوجهِ ما يشبه كلامَ البشر، وإشارةُ ناصحٍ من كل الوجود يعقلُ قدر الأثر، قلت: إن كان تحصيلُ الكمال الإنسانيّ، والمقصدُ الأقصى، والشيءُ الذي هو من قبيل الشيء الذي يُنال بعد نيل الشيء الذي يشترط فيه سر المسجد الأقصى، ويخطف بعد عجز النهى، ويقطف من شجرة [وأَنَّ إلى ربِّكَ الْـمُنْتَهَى]، لا من شجرة طوبى وسدرة المنتهى...» إلخ.
هكذا يبدأ ابن سبعين رسالة الإحاطة بكلامٍ قد لا يعرف مقصد معانيه إلَّا صاحبُهُ، حتى يصل إلى تقرير مذهبه في الوحدة المطلقة، فيقول: «رب مالك وعبد هالك، ووهم حالك، وحق سالك، وأنتم ذلك! اختلط في الإحاطة الزوج مع الفرد، واتحد فيه النجو مع الورد... وبالجملة السبت هو يوم الأحد، والموحد هو عين الأحد، ويوم الفرض هو يوم العرض، والذاهب من الزمان هو الحاضر، والأول في العيان هو الآخر، والباطن في الجنان هو الظاهر، والمؤمن في الجنان هو الكافر، والغبيّ هو الوليّ، والفقير هو الغنيّ، وهذه وحدات حكمية لا أحداث وهمية».
ثم يؤيد هذا المذهب في بعض شعره، فيقول:
من كان يبصر شأن الله في الصورِ فإنه شاخص في أنقصِ الصـورِ
بــل شأنه كــونُه، بــل كونه كنهه فــإنه جمــلة من بعضها وطَــري
إيــــهِ فأبــــصرَني، إيــهِ فأبصــره فلا تقلْ لي: إنَّ النفع في الضررِ؟
والفكرة التي يدور حولها مذهبه في الوحدة المطلقة، هي أن الوجود واحد وهو وجود الله فقط، أما سائر الموجودات الأخرى، فوجودها عين وجود الواحد، فهي زائدة عليه بوجه من الوجوه، والوجود بذلك ـــ في حقيقته ـــ قضية واحدة ثابتة.
وهذه الوحدة المطلقة، أو الوحدة الخالصة أو الإحاطة «تكاد تعرى عن الوحدة لإفراد أفرادها ولكونها أنكرت كل النِّسب والإضافات والأسماء» على حد تعبير ابن سبعين نفسه. فهي بذلك وحدة منزهة عن كل المفهومات الإنسانية التي يمكن أن تُخلع عليها.
ويفرِّق ابن سبعين في الوجود بين ما يسميه «الهوية» وهي الكل، وما يسميه «الماهية» وهي الجزء. والهوية عنده هي الرُّبوبية، والماهية هي العُبودية. وفي الحق لا هوية من دون ماهية، ولا ماهية من دون هوية، فهما تتحدان اتحاد الكل بالجزء، والفرع بالأصل، ولا تفرقة بينهما على التحقيق، بل هنالك وحدة مطلقة، والكثرة من وهم الجهال والعوام. وفي هذا يقول ابن سبعين: «والوجود إمَّا واجب الوجود وهو الكل والهوية، وإما ممكن الوجود وهو الجزء والماهية. فالرُّبوبية هي الهوية التي هي الكل، والعبودية هي الماهية التي هي الجزء... فما من حقيقة منسوبة إلى الهوية بالأصالة إلَّا واسمها كل، وما من حقيقة منسوبة إلى الماهية بالأصالة إلَّا واسمها جزء... ولا وجود لكل إلَّا في الجزء ولا وجود لجزء إلَّا في الكلّ، فاتحد الكلُّ بالجزء فارتبطا بالأصل وهو الوجود، وافترقا وانفصلا بالفرع. فالعامة والجهال غلب عليهم العارض وهو الكثرة والتعدُّد، والخاصة العلماء غلب عليهم الأصل وهو وحدة الوجود».
وعن الله سبحانه وتعالى، يذهب ابن سبعين في تَفَلسُفِهِ فيقول: «هو عينُ كل ظاهر فحق له أن يَتَسَمَّى بالظاهر... ومعنى كل معنى فحقّ له أن يَتَسمَّى بالباطن... وله القَبْلِيّة الوجودية بالفعل فحق له أن يتسمّى بالأول... وإليه يرجع الأمر كله فحق له أن يتسمّى بالآخر... والله تعالى له الإحاطةُ، وبعين ما هو به محيطٌ هو به عالمٌ، وهو بكل شيء عليم... والأبدُ قضايا، والقضايا أزلٌ على مشارٍ، والمشارُ على ذاتٍ، والذاتُ واحدةٌ، الله فقط، لا شَك في ذلك!!!
إذن فالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في مذهب ابن سبعين هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والأزل والأبد، ولا فرق بينها من حيث الحقيقة الوجودية، فالله هو الجامعُ لكلِّ شيءٍ في نفسِهِ والحاوي لكلِّ وجودِ، «ومُنْظِرُ الضدِّ لضدِّه فيه بعين الملاءمة والتودُّد» على حد تعبير ابن سبعين نفسه.
ولئن كان ابن سبعين في تفسيره لفكرة الوحدة المطلقة كما يراها، يلجأ أحيانًا إلى استعمال بعض الألفاظ من كتاب الله العزيز، أو من الأحاديث النبوية الشريفة، إلَّا إنه لا يترك هذه الألفاظ تسبح في أجوائها النورانية، وتعطي مدلولاتها الصحيحة الحقة، بل إنه يُخرجها عن معانيها الأصلية إلى معانٍ أخرى تتوافق ومذهبَهُ. أو إنه يؤوِّلُها كما يشاء، ويحمِّلُ معانيهَا أكثرَ ممَّا تحمل، ليُظهر بالنتيجة أنَّ ما يدعو إليه من علم التحقيق ليس خارجًا عن الكتاب والسنَّة! وهذا لعمري منتهى الحذق، لكنه لم يَغِبْ عن أهل العلم من عباد الله الصالحين الذين يعرفون كتابَ الله حق المعرفة، كما يعرفون سنّة رسول الله معرفةً وثيقة. وعلى ذلك فهم يتعجبون من تأويل هذا الرجل، وممَّا يزيّنه له خيالُهُ الصوفيّ، حتى يَتَفَلْسَفَ على تلك الشاكلة التي قادته إلى الوحدة المطلقة، متوهمًا أنه ابتكر جديدًا عمَّا قالَهُ غيرُهُ من الصوفية، وهم يذهبون في تفرعات مذاهبهم بين حلول أو اتحاد، إلى شيء واحد، هو الكفر لا محالة، لأنَّ الله تعالى منزَّهٌ عن كل ما يصفون، وهو غني عن هؤلاء العباد الجاحدين الذين لا يراعون حرمة القداسة الإلهية، ولا ينزِّهون العزَّة السنيَّة، طبقًا للصفات التي تضمنها القرآن الكريم، وللدعوة الحقة في التوحيد التي حملها الرسول العظيم، والتي لا يمكن أن تخرج عن قول الله تعالى: [قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ].
هذه باختصار فكرة «الوحدة المطلقة» التي أنشأها ابن سبعين مذهبًا له والتي تقوم على وحدة وجود الله تعالى، بينما تكون سائر الموجودات الأخرى عين وجود الواحد.
2 ـــ نظرية ابن سبعين في المحقق
يُعدّ ابن سبعين أن «الوحدة المطلقة» هي نظرية أو «حقيقة» لم يُسمع مثلُها في عصرٍ، ولا ظهر في دهرٍ، ولا دُوِّنَ في بلدٍ أو مصر، وهذه الوحدة المطلقة عنده موضوع علم خاصٍّ يسميه علم التحقيق، لأن المتحقِّق بها أو المقرَّبَ، هو أكمل أفراد الإنسان، ويكون حاويًا كلَّ الكمالاتِ الوجودية والعرفانية، متميِّزًا من كل منْ سَبقَهُ، لأنَّهُ يتحقق بالوحدة المطلقة التي يفوز بها في نهاية طريقه الشاقّ بحيث تكون حالُهُ أكملَ حالٍ وأعلاها، كما يشير ابن سبعين إلى ذلك في (يد العارف) بقوله: «... المحقِّقُ إذا ظفر بحقيقة الوصول كان حاله أعلى وأجلَّ مِنَ الذي يظنُّهُ الفيلسوفُ أنه خاصٌّ بالعقل الكلّي» إذِ المقرَّب بنظر ابن سبعين الذي هو المحقق لا يقنع إلا بالوجود المطلق. ولا يصل هذا المحقق أو المقرب إلى تلك الدرجة المطلقة إلا بعد سلوكِ طريقٍ طويلٍ شاقٍّ يسميه ابنُ سبعين بالسفر.
وهو يرى أنَّ لكلٍّ من الرجال الخمسة وهم: (الفقيهُ والأشعريُّ والفيلسوفُ والصوفيّ والمحققُ) كمالًا خاصًّا بالنسبة إليه. وللوصول إلى هذا الكمال الخاصّ أسبابٌ وآلاتٌ معيَّنةٌ، لكنَّ أكملَهُم على الإطلاق هو المحقِّق، أي إنه يحصر الكمال الإنسانيّ في المحقِّق وحده من دون غيره من بني الإنسان. وعلى هذا الأساس من حصر الكمال الإنسانيّ في المحقِّق، يكون قد حمل حملةً شعواء على الفقهاء والأشعرية والفلاسفة والصوفية.
أمَّا عن الفقيه فيقول: «بأنه صالح الأصل (أي الشريعة التي يستند إليها لأنها صالحة بذاتها) فاسد الفرع (أي الفتاوى التي يصدرها من نفسه وتكون مغايرة للشريعة وأحكامها) صادق الجنس، كاذب النوع، يتكلم من عند نفسه، ويعيش اليوم بأمسِهِ، ويُفتي السائلَ ويتركُ نفسه في رتبة المسؤول».
وأمَّا عن الأشعرية فيقول: «وعلم الأشعرية فاسد الأصل، قبيح الفرع، لا نتيجة له من حيث (هو) علم، وإنما نتيجته من أجل ما وضع ولماذا وضع. ولما كان المراد بمذهبه من حيث قطع، المخالف للشريعة، والشريعة حق، قيل له صاحبُ حق في العرض وهو في استدلاله وبرهانه مثل من يقول: الثلاثةُ أقلّ من العشرة بدليل أن الملك يموت غدًا، قيل له: الذي قلت حق ومَثَلُكَ باطلٌ. وكذلك الأشعري لا حقيقة لمذهبه من حيثُ هو ولو صَمَتَ لكانَ أخلص له، والتوبةُ أليق به».
وعن الفيلسوف يقول: «وأما الفيلسوف فكثيرُ السلاح قليلُ النطاحِ، طويلُ العُدّة، قصيرُ المدّة والنّجْدة. فيتعَبُ بحولِهِ وقوته، ويَشْقَى بنفسه وهمّتِهِ. ويشتغِلُ بـــ «لَمْ» و«لَمَّا» ويطلب الحقَّ بـــ «أو» و«أمَّا». ويعجز عن خُبز بغير ملح، ولا مالًا بدنياه ظَفِر، ولا لآخرته اعتبر. حرمانُه أظهرُ من شمسِ النهارِ والمصباح، وخِذلانُهُ أشهرُ من الرعد والرياح. يعلّل الحقَّ وينصُرُ ضدَّه، ويحفظُ الباطلَ ويَبذلُ فيه جهده. مرةً يُسَفْسِطُ بالطبيعة وما بَعدَها، وأخرى بالتعاليم ومقاصدها، ويطنطن بعد ذلك بالمعاني المنطقية، ويموِّه على المؤمن المقتصر بالألفاظ الوحشية. ولم يعلم أن النظر في قوّة النفوس. ولو أنَّ النفوس تمشي نحو الصواب، وكان يوافق كلام الناس أفعالهم بالاستقامة العقلية وإيثار الحق والانقياد له ورجوعهم لأنفسهم، لأغناهم ذلك عن المنطق».
ثم يوجه ابن سبعين طعنة إلى أكبر فلاسفة اليونان وهو أرسطو، مُعِدًّا أن حكمته التي أُعجب بها الناسُ، ما عادت عندهم إلَّا أزمةً، ورحمته نقمةً، وحسناته سيئةً، وكلامه هذيانًا. حتى يخلص إلى القول فيه: «وهو (أرسطو) بالجملة في الذي يقوله ويفعله نشوان»، ثم يذهب إلى حدِّ اعتبار أرسطو «خَدِيمَ المقرّب». ويقول إنه قَرَنَهُ «بالخديم» لعظمةِ أرسطو عند الناس فتعظم عندهم بذلك منزلةُ المقرب، إذ بالمثل المشهور يقنع الخصم وتسكن نفسه!
ولا يقتصر هذا التشنيع على أرسطو، بل إنَّ حملته عليه تتعدَّاه إلى أتباعه من فلاسفة اليونان «لأن علومهم وصنائعهم دون علم التحقيق». ثمَّ تمتدّ تلك الحملة لتطاول أيضًا أتباعَهُ من فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن باجه، وابن رشد. وفي ذلك يقول: «أعوذ من توقف أرسطو وتشتيت مسائله الإلهية خاصة، ومن شكوك المشَّائين، وحيرة أبي نصر الفارابي، وتمويه ابن سينا في بعض الأمور، وتردُّد ابن الصائغ (ابن باجه)، وتنويع ابن رشد...».
وبعد الفقهاء والأشعرية والفلاسفة يأتي دور أصحابه الصوفية، فيرى أنهم هم أيضًا لم يتوصلوا إلى الحق لأنَّ هؤلاء كما يقول: «وصولهم لا كالوصول، وإدراكهم لا كالإدراك، وبلغوا حيث لا يصح أن يُبْلَغ ولا هو صحيح، فافهم ما يقوله المقرَّب، ويصح عندك أنَّ حسنات الصوفية سيئات المقربين»، ويذهب في استهزائه من الصوفية حتى يسميهم «بالصُمّ» ويعني منهم بالتخصيص أولئك الصوفية المذكورين في (الرسالة القشيرية) الذين يستعيذ من شطحات بعضهم، لأنهم في رأيه جاوزوا المقدار بأقوالهم وأحوالهم بوجه ما يُسَلِّمُ به بعضُ الناس ويُنْكِرهُ الأكثرُ!!!
هذه لمحةٌ خاطفةٌ عمَّا ذهب إليه ابن سبعين في انتقاده أصحاب الرأي، ولم تسلم من هذا الانتقاد جماعته الصوفية نفسها، فعدَّ كلَّ ما ذهبوا إليه في نظرياتهم وأفكارهم هو دون علم التحقيق، بل هو باطل ولا فائدة منه، لأنَّ أيًّا منهم لم يبلغ مرتبة المتحقِّق في «وحدته المطلقة». وهذا «المتحقق» هو بالطبع ابن سبعين نفسه الذي لا يُدانيه أحدٌ، بل الكلُّ مقصّرٌ عن مجاراته، وعمَّا بلغ من علمٍ ومكانة.
وهذا الادِّعاء الذي يصل به إلى حدِّ الغرور، إنما يدلّ على ما ذهبَ إليه الرجل من معتقدات صوفية باطلة، ومذاهبَ فلسفية فاسدة، قادته إلى اختراع فكرة «المحقِّق» التي أراد من خلالها أن يُمجِّدَ نفسه إذ إنه هو «المحققُ الكاملُ وعينُ الخير الذي يحتوي كلَّ الوجود، وكلَّ الكون، ومالك كل لون... فالعوالم كلها حسِّية ومعنوية متدرجة في حقيقته على الرغم من كونها جملة متجانسةً، ووحدة خالصة».
وبهذا يكون شأنُه شأنَ أي صوفيّ آخر، يحمله الغرور والاستخفاف بالبسطاء من الناس، على أن يخترع لقبًا من الألقاب يميِّز به نفسَهُ من الآخرين، ويجعل له تسميةً خاصةً عن بقية الألقاب، بعد أن يحيطه بهالةٍ من القداسة الكاذبة!!!
ونظريةُ ابن سبعين في المحقق، وإن توَهَّمَ أنها شيء جديدٌ من ابتكاره، فإنها لا تحمل من الجديد إلَّا اسمها، لأنها تعود في جذورها إلى نظرياتٍ عدّة سابقةٍ كفكرة «زندافستا» أو الوليّ، أو الصفيّ، أو الكلمة الذكية عند الزرادشتية القديمة، أو كفكرة «العقل الأول» عند أفلوطين، أو نظرية «القطب» عند ابن الفارض، أو نظرية «الإنسان الكامل» التي قال بها كلٌّ من ابن عربي والجيلي، إلى ما هنالك من النظريات التي قال بها الفلاسفة والمتصوِّفون في بحثهم عن الحقيقة أو عن معرفة كُنْهِ العزّة الإلهية. في حين أنَّ الإسلام كان السبَّاق إلى هداية الإنسان وتعريفه على حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى، من خلال تفكُّره ومشاهدته اليومية لآياته العُظمى المبثوثة في الكون والإنسان والحياة، والتي لا تحتاج إلى فلسفات وتنظيرات معقَّدة، بل إلى تأمُّلٍ وتبصر كما يبيِّن لنا القرآن الكريم بقوله تعالى: [إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ] (الجاثية: 3 ـــ 6)؟
أجل... إنَّ في ذلك كله لآيات دالّة عليه سبحانه وتعالى، ولا حاجة بعدها إلى البحث في معرفة كنهه الذي هو فوق مقدور العقول، قد تعالى عن المثل والتشبيه.
طريقة ابن سبعين وأسلوبه الرمزي
من البديهيات التي لا تقبل الجدَلَ أن معظم الصوفية في العالم الإسلامي، هُم من المسلمين بلا ريب في ذلك. ولا شك في أن المسلمين يؤمنون بالإسلام ومعظمهم ممن كان يقوم بتعاليمه، وإن هُمْ أخطأوا أو أصابوا فيما أنشأوا من أفكار، أو أسَّسوا من مذاهب وطرائق، أو بما قاموا به من أفعال وتصرفات، لأنَّ هذه أمور أخرى قد تأتي متوافقة مع إسلامهم أو قد تكون مخالفة له. ولكن مع ذلك أليس على المسلم، في كل زمان ومكان، واجبات أساسية لا يمكنه التفلت منها ولا العمل بخلافها؟ فالمسلم الحقُّ، من أولى واجباته تلك أن يدعو إلى الله على بصيرة فيكون عالمًا بالغاية والهدف والفكرة والطريقة والخطة والوسيلة والأسلوب، ولكي يكون عالمًا بها يجب عليه أن يفهمها فهمًا سليمًا.
1 ـــ الغاية: فأمَّا غاية المسلم فهي أن يحمل الدعوة الإسلامية ويبذل التضحيات في سبيل نشرها لنيل رضوان الله سبحانه وتعالى بحيث تكون هذه الغاية أسمى الغايات، وغاية الغايات.
2 ـــ الهدف: وبناء على تلك الغاية يكون الهدف الذي يسعى إليه، ويصبو إلى بلوغه، إعلاء كلمة الله تعالى وجعلها هي العليا.
3 ـــ الفكرة: وأما الفكرة التي ينبغي له أن يحملها ويعمل على نشرها، فهي عقيدة التوحيد وفقًا للكتاب والسنَّة. فالقرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشريفة يجمعان فكرة واضحة تامَّةً، شاملةً عن الكون والإنسان والحياة بل وعن الوجود كله، من قبل ومن بعد، ويعرِّفان الإنسان ما يجب أن يقوم به في هذه الحياة.
4 ـــ الطريقة: أمَّا الطريقة لتنفيذ هذه الفكرة، فهي الطريقة العملية التي طبقها رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وسار عليها سواء في مكة أو في المدينة امتثالًا لقوله تعالى: [قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي] (يوسف: 108).
5 ـــ الخطة: وأما الخطة فهي طوعٌ لوضْع الداعية ولا تُفرض عليه خطةٌ معيَّنة. وتكون بتحديد كيفية التحرك الذي يجب عليه أن يسير بموجبه، لذا وجَبَ أن تكون الخطة مَرِنَة قابلةً للتعديل، تتكيَّف مع الظرف الذي يواجَه، بحيث تشتمل على عدة خياراتٍ في آنٍ ، كي يُستعمل منها الخيارُ الذي يتلاءم مع غاية الخطة وهدفها، وبذلك فهي تحتاج إلى وسائل وأساليب لتنفيذها.
6 ـــ الوسيلة: الوسائل في الواقع هي جميع الأشياء الموجودة والمتاحة: فالقلم وسيلة، والرغيف وسيلة، والسيارة وسيلة، وكذا كل شيء يمكن الحصول عليه بطريقة مادِّية أو معنوية من أجل تنفيذ الخطة، فهو وسيلةٌ تُعدّ من متممات الخطة.
7 ـــ الأسلوب: أما الأساليب فهي الأعمال التي تجري على الوسائل، فمثلًا الذهب وسيلة وما يجري عليه من صياغة واستعمال فهو أسلوب. وأحرف الكلام هي وسائل وكيفية نسجها وسبكها أوكتابتها أو إلقائها أساليب.
وعلى هذا نجد أن الرسولَ الأعظم حَمَلَ الإسلام في مكة فكرةً، وسلك طريقتَهُ لنشرها، ورسم خططًا لتطبيقها، واستعمل أساليب ووسائل لتنفيذ تلك الخطط. وكان هدفُهُ من ذلك إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وجعلها هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. ولم يكن له، صلى الله عليه وآله وسلم، غاية يحققها سوى رضوان الله تعالى، فكان رضوان الله عزَّ وجلَّ غاية غايات محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ عُرض عليه، من قبل قريش، السلطانُ والمالُ على أن يتخلى عن غايته الكبرى فأبى ورفض ورفع صوته مُقْسمًا: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه، أو أموت دونه!!! وأصَرَّ على الاستمرار في الدعوة مستهينًا بجميع المصاعب ومتحملًا مختلف أنواع العذاب، ومستخفًّا بجميع التهديدات والمخاطر إلى أن حقق الله تعالى على يدَيه إقامة دولة الإسلام.
وهكذا يتبيَّن لنا أن للمسلم غايةً بعيدة، وعنده الفكرة والطريقة، ثم هو يملك الخطط والأساليب والوسائل التي يتخير منها ما يشاء لممارسة تحرُّكه وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالغاية باتت واضحة، والفكرة والطريقة ليستا من صنعنا ولا من اجتهادنا، بل هما من القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة. ويبقى الأسلوب الذي هو من إنشاء الإنسان، لذا فإنَّ له أهميته البالغة، لأن على نجاحه يتوقَّف بلوغ الغاية وتحقيق الهدف.
والأسلوب يقرِّره عادةً نوعُ العمل، فهو، إذن، يختلف باختلاف الأعمال. وقد يصحُّ أن تتشابَهَ الأساليب فينفع الأسلوب الواحد في عدة أعمال. لكن التفكير في الأسلوب يجب أن يكون قد سبقه التفكير في نوع العمل الذي يراد استخدامه من أجله. وعلى هذا يقوم الأسلوب على كيفية الصياغة، أو كيفية الاستعمال، أوكيفية ممارسة القيام بالعمل، التي هي كيفية غير دائمة، بعكس الطريقة التي تكون كيفيةً دائمة، لذلك فهي لا تختلف مطلقًا، ولا تتغيَّر، ولا تحتاج إلى عقليَّة مبدعة، لأنها إما أن تكون هي يقينيَّة أو أن يكون أصلُها يقينيًّا. وعلى عكسها الأسلوب الذي قد يخفق عند الاستعمال، وقد يتغيَّر، لذلك كان يحتاج إلى عقليَّة مُبدعة لابتكاره والعمل بموجبه.
من هنا يتفاوت الناس في حلِّ مشاكلهم، لأنهم يحلونها بمقتضى الأساليب. فقد يحاول شخص ما حلَّ مشكلةٍ تعترضه لكنها تستعصي عليه، فإما أن يهرب منها، وإما أن يعلن عجزه عن حلها، لكنه إذا كان يمتلك عقليةَ حلِّ المشاكل، فإنه لا يعلن أبدًا عجزه عن حلِّها، بل يلجأ إلى تغيير الأسلوب الذي اتبعه من قبل، ويمارس أساليب أخرى عدّة ومتنوعة. وقد يستغرق معه ذلك وقتًا طويلًا، إلَّا إنه في النهاية يصل إلى حل المشكلة التي تواجهه. وعلى هذا فإن مَن لديه عقلية حلِّ المشاكل، لا يعترف بوجود مشكلة لا حلَّ لها، لأنه يعتمد دائمًا على قدرته في إيجاد الأساليب التي تؤدي إلى حلِّ أيّ مشكلةٍ مهما كانت مستعصية. ومن هنا كان التفكير في الأساليب من مميِّزات العقول المُبدعة أو العبقرية، وكان حل المشاكل متوقفًا على التفكير في الأساليب دون غيرها.
أمَّا التفكير في الوسائل ـــ أي في الأدوات المادية ـــ التي تستعمل للقيام بالأعمال، فهو صنو التفكير في الأساليب، فيتحتَّم على المفكِّر في الأساليب أن يفكِّر أيضًا في الوسائل، وإلَّا فإن جميع الأساليب لا يمكن أن تُنتج إذا استعملت فيها وسائل لا تقوى على استيعابها: فرسمُ خُطة لقتال العدو ـــ مثلًا ـــ تستتبع في الوقت نفسه إعداد الأساليب والوسائل التي يمكن من خلالها مواجهة هذا العدو. فإن نحن أعددنا الخطة واعتمدنا الأسلوب اللَّذين نعتقد أنَّ بهما يتحقق النصر، ولكن من غير أن نهيّئ السلاح اللازم والكافي، ومن غير أن ندرِّب المحاربين على استعمال هذا السلاح تدريبًا سليمًا، فإنَّ ذلك سوف يؤدي إلى إخفاق الخطة، وإلى عدم جدوى الأسلوب، ولو كان الرجال الذين يحاربون العدو أقوى من رجاله أو أكثر منهم عددًا. فالخطة الموضوعة للحرب أسلوب، والرجال والأسلحة وسائل لتنفيذ هذا الأسلوب، وما لم يكن هنالك توافق، أو تكافؤ بين الأساليب التي رسمت، والوسائل التي أعدت، فإنه لا قيمة للأساليب، ولا للوسائل. يضاف إلى ذلك ضرورة إجراء التجربة على الوسائل لتقرير صحتها أو عدم صحتها، وصلاحها لنوع الأسلوب أو عدم صلاحها.
وبناءً عليه فإنَّ الوسائل قد تخفى، وقد يُضل عنها إذا جرى التفكير فيها بمعزل عن التفكير في الأسلوب الذي يجب أن تستخدم لتنفيذه. وقد تخفى أيضًا أو يُضل عنها إذا لم تجرِ تجربتُها، فكان لا بدَّ إذن من التفكير في الوسائل، وأن يكون قد سبقَهُ تفكير في الأساليب، ولا بدَّ من أن تجري تجربةُ الوسائل حتى يمكن ضمان نجاحها، وبالتالي يتوقف على ذلك كله تحقيق الهدف الذي نسعى إليه كي نبلغ بعدَهُ الغاية المنشودة.
وهكذا فإننا بعدما عرفنا معنى الهدف والطريقة والفكرة والأسلوب والوسيلة، صار من حقنا أن نتساءل عن الطريقة التي اتبعها ابن سبعين والأسلوب الذي اعتمده، والوسائل التي أعدَّها، وبالتالي هل كان هدفه من ذلك كله إعلاء كلمة الله، وغايته تحقيق رضوان الله، أم أنه عملَ على خلاف ذلك وكانت له أغراضٌ خاصة ليس فيها شيء من حمل الدعوة ونشرها؟
لن نبحث في غاية ابن سبعين ولا الهدف الذي كان يسعى إلى تحقيقه، بل سوف نبحث فيما اعتمَدَ من طريقة وما أنشأ من أساليب، وهما كفيلان بأن يُظهرا لنا معتقده ومدى توافقه مع كتاب الله تعالى وسنّة رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
فابن سبعين، وقد توهم أنه ابتَكَر جديدًا في «الوحدة المطلقة» و«نظرية المحقق»،أرادَ أن يدلّل على آرائه باتِّباع طريقة تختلف عن الطرائق الصوفية الأخرى التي عرفت من قبله، فعَمدَ إلى تأسيس الطريقة التي سمّاها باسمه «الطريقة السبعينية» وهي التي أوْرَدَ إسنادَها تلميذُهُ الششتري في قصيدة مِنْ سبعينَ بيتًا، كان مطلعها:
أرى طالبًا منا الزيادة والحُسْنى بِفِكرٍ رَمَى سَهْمًا، فَعَدّى بِهِ عدْنا
والحقيقة أنَّ طريقته ليست جديدة تمامًا بمعنى الجديد، بل هي تقوم على الجمع بين مختلف الآراء والنزعات التي وقفَ عليها، أو التي أرادَ الأخْذَ منها، حتى جاءَ بناءُ مذهبِهِ الصوفيّ وكأنه نوعٌ من التوفيق بين مختلف النظريات التي تعالج المواضيع الصوفية، من دون تفريق بين أصحابها سواء كانوا من الأقدمين أو المحدثين، أو من المسلمين أو من غير المسلمين، بحيث تظهر الطريقة السبعينية وهي ترجع في أصولها إلى طرائق مشاهير كثير من الفلاسفة والشيوخ الصوفية، بل وبعض القادة العسكريين، كما وجدَها ابن الخطيب في (رسالة الإحاطة) والتي عدَّدَ من شيوخها:
من الأعلام الأجانب: هرمس، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والإسكندر الكبير...
ومن الفلاسفة العرب: ابن سينا، والغزالي، وابن طفيل، وابن رشد...
ومن الصوفية في العالم الإسلامي: الحلاج، والشبلي، والنفري، والحبشي، وقضيب البان، والشوذي، والسهروردي (المقتول)، وابن الفارض، وابن قسيّ، وابن مسرّة، وابن عربي...
لكنَّ ما اختلَف فيه ابن سبعين عن مشايخ الصوفية هو أنَّ هؤلاء كانوا ينسبون طرائقهم بترتيب الإسناد ترتيبًا زمنيًّا إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أنه هو لا يُراعي أيَّ ترتيب زمنيّ للرجوع إليه، صلى الله عليه وآله وسلم، بل يأخذ عن أيِّ شخصٍ أيًّا كان الزمن الذي يعيش فيه، ثم يمزج ويخلط جميعَ ما أخَذَ حتى يُظهر طريقته التوفيقية بين مختلف النظريات والآراء في بناء مذهبه.
وتحكي بعضُ المصادر أنَّ ابنَ سبعين كان يأمُرُ تلاميذَهُ باتباع طريقته، ويفرضها عليهم فرضًا، ومن هؤلاء تلميذه الششتري الذي اشترط عليه الخروج على الأسباب ومجاهدة النفس بإذلالها، كما يروي حكايته ابن عجيبة فيقول: «... وكذلك قصة الششتري، رضي الله عنه، مع شيخه ابن سبعين. لأنَّ الششتري كان وزيرًا وعالمًا، وأبوه كان أميرًا، فلما أراد الدخول في طريق القوم (أي الصوفيين) قال له شيخُهُ ابن سبعين: لا تنالُ منها شيئًا حتى تبيع متاعك وتلبس قشبانية وتأخذ بَنْدَيرًا وتدخل السوق، ففعل الششتري جميع ذلك، وجاء فقال لابن سبعين: ما نقولُ في السوق؟ ـــ فقالَ له: إبدأ بذكر الحبيب، فدخل الششتري السوقَ يضربُ بَنْديرَهُ وينادي بذكر الحبيب، وقد بقيَ ثلاثَةَ أيام وهو يغني في الأسواق:
شويخٌ من أرض مكناسِ في وَسَطِ الأسواقِ يُغني
أوشــى عــليَّ مــن الناسِ واشٍ عــلى الناس منيّ!
وتذكر مصادرُ أخرى أن الششتري كان في ابتداء أمره من أتباع طريقة أبي مدين الغوث التلمساني (الذي توفي عام 592 هــ). وحدث ذات يومٍ أن التقى في (بجاية) ابنَ سبعين، فلما تحادثا معًا عرف ابن سبعين منه أنه ذاهب إلى أصحاب أبي مدين، فصرخ فيه قائلًا: إن كنتَ تُريدُ الجنة فَسِرْ إلى أبي مدين وإنْ كنتَ تريدُ ربَّ الجنة فهلُمَّ إليَّ»!
ويقول الدكتور علي النشار: إنه «كان لهذا التوجيه أثرُهُ البالغ على الششتري، صار طوع إشارة ابن سبعين، حتى إنه عبَّر عن هذا: بأنَّ ابن سبعين امتلكه امتلاكًا تامًّا، وذلك في موشحةٍ بعثها إليه وهو في مكة، يبثُّه فيها لواعجه قائلًا:
قُـــل للَّذي قــد مـــلكني ملكه وغـبـــطَ الجســم بالسقـــامِ
لولا استوى قربي منك وبُعدي قد كان متُّ منك مِنَ الغرامِ
يا مَــنْ سـرى سرُّهُ في طبـــاعي أنـــت القــريبُ منــي البعيدُ
ومِنْ أعجبِ الأشياءِ وأنتَ معي وعشـــقي فيك كلَّ يوم يزيدُ
وأنـــا بتــهتـــكي وانـــطبـــاعي غـــرامي فيــك دائــم جديدُ»
ويضيف الدكتور النشار قائلًا: «وكان الششتري يدعو ابن سبعين بكعبة الحُسن، وكنز حياته وشمسها وبدرها، ومحيي الرسم، وممدّ الذات، وذات الخير، وكمية السعادة، وإكسير الذرات، ومغناطيس النفوس»!
ويظهر أنَّ الششتري قد فرَّع عن طريقة أستاذه طريقةً خاصةً به، وذلك إبَّان إقامته في مصر، وقد عرفت بالطريقة الششترية، وفيها يظهر الششتري أنه أقرب إلى التصوف المبنيّ على التوحيد منه إلى تصوُّف الوحدة التي نادى بها أستاذه ابن سبعين.
وإنَّ طريقة ابن سبعين، لتبدو طريقة فلسفية أكثرَ منها طريقة صوفية، أي إنها تُعنى بالمذاهب الفلسفية الدخيلة على الإسلام أكثر من عنايتها بتربية المريدين تربيةً صوفية عملية. ولذا لم يكتب لها البقاءُ طويلًا، إذ لم تدم في مصر أكثر من تسع وخمسين سنة تقريبًا بعد وفاة مؤسسها، إذ كانت بداية نهايتها عندما ألَّف ابن تيمية (الذي توفي عام 728 هــ) رسالةً سمَّاها (كتاب المسائل الإسكندرية في الردّ على الملاحدة الاتحادية السبعينية) وفيها حمل على أتباع الطريقة السبعينية حملةً شعواء، كان من نتيجتها أن اضمحلَّ شأنُ هذه الطريقة، ثم اختفت من مصر ومن العالم الإسلامي برمتَّه. وفي هذا يقول ابن كثير: «وجاءَ كتابٌ من أخيه (ويعني أخا ابن تيمية) يقول فيه: إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط... واتفق أنه وجَدَ بالإسكندرية إبليسَ قد باضَ فيها وأفرخَ وأضلَّ فيها فرقَ السبعينية، والعربية (يعني أتباع ابن عربي)، فمزق الله تعالى بقدومه عليهم شملَهُم، وشتَّتَ جموعَهم شَذَرَ مَذَر، وهتَكَ أستارَهم وفَضَحَهُمْ، واسْتَتَابَ جماعةً كثيرةً منهم، وتوَّبَ رئيسًا من رؤسائهم».
تلك هي الطريقة السبعينية التي احتوت آراء ابن سبعين ومعتقداته. فكيف كان الأسلوب الذي عالج به طريقة تفكيره، أو أظهَرَ فيه مذهبَهُ الصوفيَّ؟
قلنا إنَّ ابن سبعين قد ظهر في مرحلةٍ من مراحل حياته مُخْفِيًا لعقيدته الصوفية خوفًا من نقمة الفقهاء وكراهية الناس، لذلك اعتمَدَ أسلوبًا غايةً في الغموض والإِبهام يقوم على الرموز والحروف والإشارات، التي لا يفهمها إلَّا من وقَفَ على أسرارها واعتنقَ بواطنَها. وقد غلب عليه هذا الأسلوب حتى صار طابعَهُ المميز في مصنّفاتِهِ كافةً بوجهٍ عام.
على أنَّ هذا الأسلوب ليس جديدًا عنده، فالصوفية إجمالًا كانوا يستخدمون الرموز والإشارات والألفاظ الاصطلاحية الخاصة بهم، لإخفاء معتقداتهم، بحيث يكون لعباراتهم في الغالب معنيان: أحدهُما يستفاد من ظاهر الألفاظ، والآخر لا يمكن الوقوف عليه إلَّا من خلال التحليل والتعمُّق فيما ذهبوا إليه. بل ربما كان يستغلق هذا المعنى الباطنيّ على كل من ليس بصوفيّ، كما يشير إلى ذلك الطوسي صاحب (اللمع) عندما يقول: «الرمز معنى باطن، مخزون تحت كلام ظاهر، لا يظفر به إلَّا أهله».
كما أنَّ الرمز عند الصوفية، كما يذهب إليه الشيخ أحمد زورق في كتاب (قواعد التصوّف) يعني: «دمجَ معانٍ كثيرةٍ في ألفاظ قليلة، غيرةً عليه واتّقاءً لحاسدٍ أو جاحِدٍ لمعانيه ومبانيه، أو مراعاة حقِّ الحكمةِ في الوضع لأهل الفن دونَ غيرهم».
اعتمَد ابنُ سبعين، إذن، الأسلوب الرمزيّ، مستعملًا فيه الأحاجيَ، ومصطنعًا الألغاز حتى جاءت مصنفاتُهُ غامضةً، مغلقةً على الفهم بشكل شبه تام، كما دلَّلَ على ذلك بعض العلماء، بل وبعض الصوفية أنفسهم، فقد ذكر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه «جلس مع ابن سبعين من صحوة إلى قريب الظهر، وابن سبعين يسرد كلامًا تُعقلُ مفرداتُه ولا تُعقل مركَّباته». ويذكر الصوفيّ الأندلسيّ ابن عباد الرندي أنه حاول أن يفهم كتبه فاستعصى عليه الفهم، على الرغم مما بذل من جهد لذلك، حتى عادَ منها بخفّيْ حنين كما يقول لأحد تلامذته: «والله ما بخلتُ عليكَ بسرٍّ، ولا هذا لي بتَوْق، وما زال قلبي سبعين في منزع ابن سبعين لا لإنكارٍ عليه، ولا لاعتقاد شيء مما نسبه أهل الجهل المركب إليه. ولكني رأيت كلامه كثيرًا ما يعذِّب، ويُعنِّي القلب ويُتعب، وحينئذٍ لا يحصل لي منه شيء يشفي صدري، ولا يثلج به خاطري وسرِّي. كيف وهو الذي قال في ذلك الكلام الأخير: وكلٌّ غيرُ قاطعٍ، وكلُّ قاطعٍ معذَّبٌ ناقص، وهذا ينعكس لا محالة إلى قولنا: كلُّ معذبٍ ناقصٍ قاطعٌ، وكلُّ قاطعٍ غيرٌ، والأغيارُ لا حاجةَ بنا إليها». وبعد أن يستفيض الرنديّ في شرح ما يُريدُهُ ابن سبعين يصل إلى النتيجة التالية: «فبينما أنا في كلامه أطلع وأهبط، وأخبط وأخلط، وأستنزل معاني كلامه بلطائف الحيل، وأكابد النظر فيه بالقلب والعين، إذ انقلبتُ عنه صفر اليدين بخفَّيْ حنين، ولا يُكلِّفُ الله نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا»!
هذه شهادة عالمٍ صوفيّ تُبيِّن لنا الإِبهامَ والغموض في أسلوب ابن سبعين، بحيث لا يمكن معه فهمُ الرجل من خاصَّةِ الصوفية، فكيف بغيرهم من أصحاب الفكر والرأي؟!
ولم يقتصر أسلوبُه على الرمز والاصطلاح الوضعيّ، بل تعمَّد أن يقرنَهُ بعلمٍ يمكن أن يحتويَ الأسرارَ الصوفية في معرفة كُنْه الكون، وتصرُّف النفوس الربانية في العوالم، فاهتدى إلى علم الحروف الذي أتقنَهُ وألَّف فيه حتى اكتسب من ورائه شهرة واسعة.
ويعرِّف ابن خلدون علمَ الحروف أو السيمياء ويبيّن أغراضه على أنه «علم أسرار الحروف، وهو المسمى لهذا العهد بالسيميا، نقلَهُ المتصوفة لإصلاح أهل التصوُّف فاستُعمل استعمال العام في الخاص. وحدث هذا العلم في الملَّةِ بعدَ صَدٍّ منها وظهور لغلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحسِّ، وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تَنَزُّل الوجود عن الواحد وترتيبه. وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهرهُ أرواحُ الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها ساريةٌ في الأسماء، لذا فهي سارية في الأكوان على هذا النظام، والأكوان من لدن الإبداع الأول تنتقل في أطواره وتُعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء. وحاصلُهُ عندهم (المشتغلين به) وثمرتُهُ: تصوُّف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان». وينقل ابن خلدون عن البوني، أستاذ ابن سبعين، أن علم الحروف لا يتوصل إليه بالقياس العقليّ بل بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهيّ.
لقد اشتغل ابن سبعين في علم الحروف والأسماء فظهرَ له باعٌ طويلٌ، وبرعَ فيه أشدَّ البراعة. وألَّف كتابه (الحروف الوضعية في الصور الفلكية)، ثم كتابَهُ الآخر (شرح كتاب إدريس عليه السلام) حيث يقول في مقدمة هذا الكتاب عن علم الحروف: «اِعلم أن الحروف خزانة الله، وفيها أسراره وأسماؤه وعلمُهُ وأمرُهُ وصفاتُه وقدرتهُ ومرادهُ. فإذا اطَّلعت على شيء منها فأنت من خَزَنَةِ الله فلا تُخبر أحدًا بما فيها من المستودعات، فَمَنْ هَتَك الأستارَ عُذِّب بالنار»، وبيّن ابن سبعين المصدر الذي أخذ عنه هذا العلم بقوله: «واعلم أن علم الحروف علمٌ شريفٌ وسرٌّ لطيفٌ من تأليف إدريس عليه السلام، حلَّ رموزها وفكَّ معانيها أرسطاطاليس اليونانيّ لأجل الإسكندر ذي القرنين».
ونحن لا نعلم شيئًا عن هذا العلم، فإن كان القصدُ منه الحروفَ التي تبدأ بها سُوَرُ القرآن الكريم فإنَّ هذه الحروف لا يعلَمُ سرَّها إلَّا الله تعالى. وكان بعض أهل العلم من المسلمين قد قالوا بأنَّها الحروف التي يتكوَّن منها كلام القرآن، وهي الحروف التي يستعملها العربُ في لغتهم وتخاطبهم وكتابتهم. وقد أنزل القرآن الكريمُ بها إعجازًا لأصحاب اللغة ذاتها الذين يؤلفون منها كلامًا لا يمكن أن يكون مثل كلام القرآن، فكانت المعجزة التي استوى أمامها العربُ وغير العرب في عدم قدرتهم على تأليف مثل القرآن. هذا ما ذهب إليه بعض المفسِّرين، بل والراسخون في العلم، فإنْ رأى ابن سبعين غيرَ ذلك، أو أنَّهُ اكتشف من علم الحروف والأسماء «تلك الأسرار السارية في الأكوان» فقد كان خليقًا به أن يبيِّن هذه الأسرار، في حين أنه يضن بها على الناس، ويبخل على العلماء بمعرفتها، فيوصي بعدم الإخبار عنها لما فيها من المستودعات!
ولئن كان في اعتقادنا الجازم بأن ابن سبعين لم يتوصَّلْ إلى معرفة حقيقة الحروف التي تبدأ بها سور القرآن الكريم، فإنَّ مجرَّد ادِّعائه بمعرفتها، وكتمان أسرارها يُعدّ خطأً يُضاف إلى أخطائِهِ الأخرى فيما اعتقَدَ وفيما ذَهَبَ إليه في صوفيته، لأنّ من رام الخيرَ لأمتِهِ أطلعها على علمه حتى تستفيدَ منه وتُفيد!
وهكذا يتبيَّن لنا أن ما اعتمدَه ابن سبعين من طريقة خاصة به، وما اتَّبعه من أسلوب رمزيّ غامض (يصل إلى حد الأحاجي والمصطلحات الخاصة التي لا يفهمها إلَّا بعض الصوفية، وقد لا يفهمونها على الإطلاق كما حصل مع ابن عباد الرنديّ) لم يكن خدمةً للإسلام في شيء، بعدما صرَّح ابن سبعين نفسه بأنَّ على الصوفيّ ألا يُخبر أحدًا برموزهم، وعلم حروفهم، لأنَّ فيها كثيرًا من المستودعات، هي في ضميره مستودعات الصوفية، التي لا يجوز الاطِّلاع عليها أومعرفتها خوف الحاسدين والجاحدين، ومراعاةً لحقِّ حكمتهم في معرفة الأسرار الإلهية التي اختصوا بها دون غيرهم من سائر البشر!!!
لا، ليس في الدين الإسلاميّ، كما أنزلَهُ الله تعالى على قلب سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وكما دعا إليه الرسولُ الأعظمُ، أيّ لبس أو غموض، بل ولا أثَر فيه للرموز والأحاجي. فلماذا لا يحب هذا الصوفيّ إلا الغموض والإبهام، ولا يستعمل إلا وسائل الألغاز، وأساليب الأحاجي؟ إنَّ الدين الإسلامي دينٌ قويمٌ متين فيه تبيان لكل شيء، وعلى المسلمين أن يعرفوا حقيقته، وأن يسيروا على هديه، حتى ينالوا رضوانَ الله تعالى، وهذا ما لم يفعله ابن سبعين عندما اعتنقَ عقيدة الوحدة المطلقة واخترع فكرة المتحقق بالوحدة، مستعينًا على معتقده هذا بالأسلوب الرمزي، وباستعمال الألغاز والأحاجي وسائل تخدم الغاية التي سعى إليها، وتحقق الغرض الذي هدف إليه، فكان من جراء ذلك موضع تقديرٍ ممن فُتِنَ بالصوفية ومبتدعاتها، في حين أن المخلصين لله ولدينهِ عابوا عليه ما ذَهبَ إليه، وانتقدوه عليه انتقادًا شديدًا.
أمَّا الذين أيَّدوا ابن سبعين، فإنَّ منهم الشيخ نصر المنبجي ـــ أحد صوفية مصر البارزين في أوائل القرن الثامن الهجري ـــ الذي هو أحد أنصاره والمعجبين بآرائه. وقد هاجمه ابن تيمية منكرًا عليه تلك النصرة، كما يستفادُ من رواية السلامي صاحب (غاية الأماني) التي أورد فيها: «ثم بعد ذلك بمدة طويلة ظهر الشيخ نصر المنبجي، واستولى على أرباب الدولة في القاهرة، وشاع أمره وانتشر، وقيل لابن تيمية بأنه ينصر ابن عربي وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمئة سطر يُنكر عليه».
ومن المعجبين بابن سبعين أيضًا الشيخ عبد الوهاب الشعراني (الذي توفي عام 923 هــ). وقد وصفه بأنه «كان من المشايخ الأكابر». وكذلك أبو العباس أحمد المقرّي (الذي توفي عام 1041 هــ). وقد مدح ابن سبعين بقوله: «وطار صيتُهُ وعظم أمرُهُ وكثر أتباعُهُ، حتى إنَّهُ تتلمذ له أمير مكة فبلغ من التعظيم الغاية».
وأما الذين أنكروا على ابن سبعين آراءه الصوفية فكانوا أيضًا كثيرين. يذكر منهم المؤرخ المعروف ابن خلدون (الذي توفي عام 808 هــ)، فقد حمل على الرجل وانتقد قوله بالوحدة، وأخْذَهُ عن مذاهب القرامطة والباطنية، إذ يقول: «ثم إنَّ هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفي ما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة. وملؤوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات وغيره، وتبعهم ابن عربي وابن سبعين، وتلميذهما ابن العفيف، وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي في قصائدهم». وعن ابن سبعين بالذات يقول: «وكان أبو محمد بن سبعين الصوفيّ نزيلًا بمكة بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس، وكان حافظًا للعلوم الشرعية والعقلية، وسالكًا مرتاضًا بزعمه على طريقة الصوفية، ويتكلم بمذاهب غريبة منها، ويقول برأي الوحدة، كما ذكرناه في ذكر الصوفية الغلاة، ويزعم بالتصوف في الأكوان على الجملة، فأرهق في عقده ورمي بالكفر والفسوق».
ولعل أشد خصوم ابن سبعين شأنًا، وأعنفهم في الحملة على مذهبه الشيخ تقي الدين بن تيمية. فقد هاجمه في عدد من مصنفاته مثل (رسالة الفرقان بين الحق والباطل) و(رسالة العبودية) و(الرسالة السبعينية) وهي المعروفة أيضًا باسم (بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية) و(منهاج السنّة النبوية) و(أبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها)، وفي كثير غيرها من رسائله وفتاويه.
كما أن المؤرخ ابن عبد الملك يصف مصنفات ابن سبعين بأنها «لا يخرج أحد منها بطائل، وهي إلى وساوس المخبولين، وهذيان الممرورين أقرب منها إلى منازع أهل العلم».
ووصف العبريني أسلوب ابن سبعين في مصنفاته بقوله: «وله موضوعات كثيرة موجودة بأيدي الناس، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجدية، وله تسميات مخصوصات في كتبه هي نوع من الرموز، وله تسميات ظاهرة كالأسامي المعهودة»، ومهما يكن من أمر، فإن شأن ابن سبعين شأن غيره من الصوفية المتفلسفين، الذين كان بعض المعجبين بهم يؤوّلون أقوالهم تأويلًا مُرضيًا، إلّاَ إننا نرى أن مثل هذا التأويل هو دفاع عن أصحاب «الوحدة» و«الحلول» وغيرهما من معتقدات الصوفية الفاسدة، المنكرة لوجود الله الواحد الأحد، الغنيّ عن كل وجود. وهو دفاع باطل، وغير مقبول عندنا، لأن هذا الدين الإسلامي هو لله تعالى ولا يحق لأحدٍ من البشر أن يَنسِبَ إليه ما ليس فيه، ولا يجوز لأحد أن يُدخل عليه ما لا يأتلف مع مضامينه وجوهره. ولا نظنُّ آراء ابن سبعين في الوحدة المطلقة، والمتحقق، إلَّا إنها لغوٌ بلغوٍ وباطلٌ بباطل، لأنها تخالف القرآن نصًّا وروحًا، وهي في آنٍ تخالف السنَّة النبويَّة الشريفة لأنها لا تتفق مع حقيقة الوحي، ولا تسير على طريقة الرسول العظيم في العيش الكريم، وقد قال الله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] (الحشر: 7).







الطرائق الصوفية
وصوفية القرن العشرين

الطرائقُ الصوفيّة
وصوفيّة القرن العشرين

يعيش المسلمون اليوم واقعًا مؤلمًا، أقل ما يُقال فيه: إنَّهم بعيدون من كتاب الله وسنَّة رسولِهِ. وهذا البعدُ هو الذي أدّى بهم إلى التشتُّت والتشرذُم والتفرقة. وقد كان نتيجة حتمية لصراعات شتى، وظروف تاريخية متعاقبة: من أبرزها تلك السياسات العقيمة، وتلك المناقشات السقيمة، التي طُبعت بظاهر الواجب والدفاع عن الحق، هي في الحقيقة علّة خبيثة ما زالت تنخر في جسم الأمة الإسلامية، وتتفاعل في داخل أوطانها، وتنشر من الظلال والأوهام ما تغطي به على البصائر، وتعمي به الأبصار، فتتخبط فيه الأفكار، وتستكين له الهمم. لذلك وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من ضعف وتخاذل، ومن أحزاب وفرق، تعمل كلٌّ منها وفق أُطُر معيَّنة من التفكير والتنظيم تجد فيها الغَثَّ والسمين، وإن كانت جميعها تهدف ـــ كما تدّعي ـــ إلى تطبيق الإسلام والدعوة إلى اعتماد الكتاب والسنَّة، وفقًا لما أراده الله تعالى ورسولُهُ الكريم.
ولعلَّ من أهم مظاهر ضعفنا اليوم اعتمادنا على أنظمة للسياسة والحكم أبعد ما تكون من الإسلام. وعن هذه الأنظمة نشأت قواعد وقوانين في مجتمعاتنا لا تمتُّ إلى ديننا ولا إلى حضارتنا بصِلة. ومع ذلك فُرضت علينا فرضًا، فكانت النتيجة تخلّينا عن نظامنا الدينيّ والدُّنيويّ، وتخبطنا في مشاكل وأخطار قد نعجز عن إيجاد حلولٍ لها إلَّا إذا عدنا إلى المنبع والأصل، إلى إسلامنا الصحيح الذي هو من عند الله تعالى والذي هو حق لا ريب فيه، وهُدى ورحمة للعالمين.
نعم لقد تُرك الإسلام كعقيدةٍ ونظامٍ للحياة، وتراكضت الشعوب المسلمة نحو الشرق أو الغرب، تستقي منهما العقائد، والدساتير، والقوانين، التي هي كلّها من وضع الإنسان. فوصلت بنا الحال إلى الضعف والوهن والتفكك، وما نعانيه من الارتباط بالأجنبيّ المستعمر الذي عمل، ويعمل دائمًا، على هدم كياننا ووجودنا كمسلمين، من أجل أن نظل مرتبطين به، يتصرّف بطاقاتنا وخيراتنا بل وبمصائرنا كيف يشاء، وقد حصل ذلك كله بعد ان تخلّت الشعوب المسلمة عن نظامها الإسلاميّ، حين أقنعها عدوها أن الإسلام هو سبب تأخُّرها وتخلُّفها، وأنها بتركها الإسلام يمكنها أن تنموَ وتتقدَّم، وتحقِّق ما تصبو إليه!!!
ولعلَّ أبرز مثالٍ في الاندفاع نحو الغرب، وتقليده في أنظمته، بعد رفض الإسلام نظامًا قويمًا، سليمًا، متكاملًا، ذلك النهج الذي اتبعه مصطفى كمال في تركيا، بعدما استقرَّ في ذهنه وأذهان أعوانه من الكماليين، أن الإسلام لم يعد يصلح للحياة العصرية الجديدة (كما عبَّر عنه، في حينه، واصف بك، وزير المعارف في الدكتاتورية الكمالية عندما عَدَّ «أن الإسلام كان عقبة في سبيل اندفاعهم نحو الحياة الجديدة، وأنهم ساروا شوطًا ابتدأوه بهدم الحضارة الإسلامية التي استعبدت وطنهم، وحالت بينهم وبين ترقيته»!!!...) وبالفعل فقد أمضى مصطفى كمال خمس عشرة سنة كاملة (1922 ـــ 1937 م) وهو يقود النظام الجديد، الذي أخذه عن الغرب الأوروبيّ، بحماسةٍ شديدة، وانتقل به من مرحلةٍ إلى مرحلة، ومأربه الرئيسيّ أن يغيِّر عقلية المسلم التركيّ، ويبعده من دينه حتى يستطيع أن يماشي ركب الحضارة الحديثة كما صوّرها له الغرب.
لقد ظنَّ مصطفى كمال أن الإسلام معوّق للتقدم الذي يريد، يوم أدخل هذا الظنَّ الوهميَّ في رأسه سادتُهُ من الغربيين، ويوم كان في شبه غفلةٍ عن ذلك، ففعلت فيه أضاليلهم فعل التنويم المغناطيسيّ، فانجذب إلى رغبة أسيادِهِ طائعًا، يعمل بأوامرهم، وينفذ رغباتهم، وهو يتوهم بأنه الآمر الناهي فيما يفعل أو يغيِّر، في حين أن يد الأجنبيِّ هي التي كانت تحرِّك تلك الدمى الحية في دولته.
لقد بحث مصطفى كمال عن سببٍ مباشرٍ يتخذه حجَّةً لعملية التغيير فوجَدَه في نفوذ أصحاب الزوايا والتكايا والطرائق والدراويش وفيما اتصل بهم من خطط كانت قد أوْجَدت جوًّا من الجبريَّة، حتى صار لهم شأن مهمّ في الحياة السياسية، والحياة الاجتماعية على حدٍّ سواء، فأقدم على إلغاء ذلك كله كونه من عوامل الضعف والتخلف، وحظَّر كل أنواع الطرائق، ومنع ألقاب الدراويش والمشايخ، وحظّر العرافة والسحر، وأعمال كشف الغيب وأخبار المستقبل (في حين أن كل هذه الأشياء التي شملها الكماليون بالإلغاء، ليست من الإسلام في شيء، بل هي دخيلة عليه، فكان إلغاؤها عملًا إيجابيًّا) إلَّا إنه إذا كان الأمر يتعلق بأولئك الأشخاص أو الأتباع الذين تصدّروا باسم الدين، وعملوا تحت ستاره حتى يحققوا غايات خاصة بهم، فإن الإسلام كدينٍ ونظامٍ ليس كذلك، ولم يكن قطُّ سببًا في تأخُّر تركيا، ولا عاملًا على إضعافها.
صحيح أنَّه قد وصلت تركيا يومئذٍ إلى مرحلة من الضعف بالغة الشدة، وقد غلب في هذه المرحلة نفوذ الدراويش والصوفية، على نفوذ العلماء والقضاة، وصحيح أيضًا أن أولئك آزروا السلاطين وساهموا في قبول الشعب لتصرفاتهم، بدلًا من العمل على مناصحة الأمراء والحكام وإرشادهم إلى الطريق الصحيح، فكان أن سيطرت مفاهيم الجبرية، وحلَّ في الدولة الضعف والتخلُّف، كل ذلك صحيح، لكنَّه لم يكن وحده السبب في الوصول إلى تلك الحالة من الضعف، بل كانت هنالك أيضًا عوامل كثيرة ومتعددة أهمها تخلف الدولة عن ميادين القوة العسكرية في الوقت الذي كانت فيه نظم الحرب ووسائل الدفاع في الغرب آخذة في التقدم، بالإضافة إلى انحراف السلاطين عن ميادين الفكر والثقافة ومجاراة عوامل التقدم، واعتمادهم سياسة الظلم والفساد والرشوة في الأقاليم والأمصار، وما إلى ذلك من العوامل المؤثرة التي جعلت حكام الشعوب الإسلامية منساقين وراء المتآمر الأجنبيّ وخططه الخبيثة التي كانت تهدف إلى القضاء على الخلافة الإسلامية واقتسام ولاياتها بعد احتلالها، إذن، هذه العوامل هي التي أدَّت إلى نشوء التخلُّف الثقافيّ والانحراف عن المفاهيم الإسلامية الصحيحة، فنشأت المواقف الخطيرة التي جعلت النفوذ الأجنبيّ ينسب ذلك التخلف إلى الإسلام كي يتاح له المجال لإحلال مفاهيمه وتحقيق مخططاته، وهكذا وجَدَ في «الدونمة» أداةً طيّعة له، فقامت تدعو إلى القومية التركية، وتنادي بالاتجاه كليةً نحو مفاهيم الغرب التي تحقق ـــ في نظرها ـــ التقدُّم والرقيّ!!!
على أنَّ هذا الاتجاه الذي سار عليه بعض رجال تركيا، والذي راحوا يعملون على تحقيقه بمختلف الطرائق والوسائل، هل حقق غرضَهُ، وهل أمكن لأولئك الرجال أن ينزعوا عن تركيا طابعها الإسلامي؟
وهل تقبَّلت تركيا المسلمة النظام الجديد الذي فرضوه عليها فرضًا، أم أنه اقتصر على دوائر الحكم، والطبقات العالية التي تدور في فلك الحاكم وتذعن له؟
وأهم من ذلك كله، هل إن المسلم التركيّ انصهر انصهارًا تامًّا، قلبًا وعقلًا، في النموذج الأوروبيّ، بعد تغيير نظامه الإسلاميّ وتبديل أساليب التربية والتعليم، والتكوين المجتمعيّ، التي كانت سائدة من قبل؟
قد يكون النظام الجديد حقق نجاحًا في بعض المظاهر، لكنَّ الواقع يثبت أن ضمير الشعب التركي لم يستجب للحركة المالية المفتعلة التي خالفت المقوِّمات الأساسية للأمة، والقيم الأصيلة لفكرها. إذ تبين أن النهج الذي اتبعته الحركة غير صالح للتطبيق، لمعاداته للإسلام، وأن الطموح الغربيّ في تحويل بلاد الإسلام عن تعاليمها ومفاهيمها وحقيقة دينها قد باء بالخسران، وأن الدول التي عاصرت حركة مصطفى كمال مثل مصر وإيران وأفغانستان قد نقلت عن الغرب ولكن بشيء كثير من الحذر، وظلت والحمد لله مسلمة قلبًا وقالبًا بدليل ما تشهده هذه البلدان اليوم، من إقبال على دينها، والتمسك بعروته الوثقى، وليست هي وحدها في ذلك، بل إنّ بلاد المسلمين قاطبةً تهبُّ مستفيقة من ظلام الجهل والتخلف لبناء مجتمعات إسلامية صحيحة ورائدها في ذلك الوعي والإيمان الصادق بحقيقة عقيدة التوحيد، وشعارها الواحد: «لا إله إلَّا اللهُ محمدٌ رسولُ الله».
إذن فمن حيث الأساس تُعدّ التجربة في تركيا قد فشلت، وانخذل الطموحُ الغربي في هدفه لتدجين الأمة الإسلامية، كما يعبّر عن ذلك المستشرق البعيد النظر «هاملتون جب» عندما يقول بصراحة: «إن العرب لن يكرروا تجربة تركيا، لأن لهم من عمق إيمانهم بالإسلام ما يعصمهم من الجري وراء هذه الخطوة». ونحن نقول بأنَّ العرب ليسوا وحدهم في ذلك، بل المسلمون جميعًا لهم من عمق الإيمان بإسلامهم ما يدفعهم إلى تطبيقه نموذجًا في تنظيم شؤونهم الحياتية كافة.
وشاهد منصف آخر من الغرب، هو الكاتب الإيرلندي الشهير «برنارد شو» يرى أنه لن يمرَّ هذا القرن حتى تعتنق الإمبراطورية البريطانية النظم الإسلامية. هذا ما يراه «برنارد شو» عن الإمبراطورية البريطانية نفسها، التي تُعدّ في نظرنا من أكبر أعداء الإسلام وأكثر الدعاة ضدَّه، وصاحبة أخبث مخطط تفتيت لبلاد العرب وسيطرة النفوذ الصهيونيّ عليها!
ويقول برنارد شو: «ولو أن محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، بُعث في هذا العصر، وكانت له السيطرة على هذا العالم، لنجح تمامًا في حل جميع المشكلات العالمية وقاده إلى السعادة والسلام».
ومثل هذا الاتجاه عند بعض علماء الغرب وقادته المفكرين، قال به كثيرون مبصرون، صادقون، في أنحاء شتى من العالم، بعد أن كانوا قد عرفوا شيئًا عن الإسلام، وتعرفوا حقيقة ما يهدف إليه. ونحن نؤكد ذلك تأكيدًا جازمًا تصديقًا بقوله تعالى: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] (الصف: 9)، لقد ذهبت جهود «الدونمة» و«الكمالية» أدراج الرياح. وما همَّ إن كتبت تركيا المسلمة بالحرف اللاتينيّ، أو تبدَّت في بلادها مظاهر المدنية الغربية، فالإسلام قد بقي في ضمير أبنائها، والعقلية الإسلامية ظلَّت في صميم وجودهم، وهذا وحده كفيلٌ بصدِّ الطامعين، وردِّ كيد الظالمين إلى نحورهم.
والمثال عن تركيا يمكن قياسه على كثيرٍ من البلدان الإسلامية، التي رام أصحاب الشأن والنفوذ فيها تطبيق مناهج دنيوية معيَّنة، بدلًا من الإسلام، فجاءت النتيجة ردَّ فعل عند شعوبها التي لا تبتغي غير الإسلام دينًا ومنهجًا في الحياة. لذلك كثرت في العالم الإسلاميّ الدعوات إلى الإصلاح، وظهرت حركات غايتُها العودة إلى منابع الإسلام الأصلية، والعمل بوحي الكتاب والسنَّة. وذلك من خلال العمل على تحقيق قضايا مهمة ثلاث وهي:
1 ـــ تحرير الفكر الإسلاميّ من التقليد والجبرية والجمود. وإعلان أن باب الاجتهاد مفتوح لم يغلق، بحيث يمكن من خلال ذلك فضحُ ما ألصق بالإسلام ـــ زورًا ـــ من أنه السبب في تخلف البلاد الإسلامية. ومن ثمَّ إزالة ما علق بالعقلية الإسلامية من الفلسفات الأجنبية الخبيثة، وتطهير النفوس ممَّا جنحت إليه من أساليب الغرب ونُظمه في العيش وفي نظره إلى الحياة، والتي أثبت الواقع فشلها في تحرير دخيلة الإنسان من عوائق تقدمه وتكامله، بل إنها سبّبت له كثيرًا من المشاكل والاضطرابات التي لم يعد يقوى على احتمالها حتى الإنسان الغربي نفسه، بحيث صار نهبًا للقلق والهواجس، وعرضة للزندقة والإلحاد.
2 ـــ تطبيق الإسلام بصورة تامة، وفقًا للكتاب والسنَّة، كونه أنه ليس دينًا لاهوتيًّا خالصًا يقف على جانب معيَّن من حياة الإنسان وشوؤنه، بل هو دين يربط الروح والنفس والجسد ـــ في الإنسان الواحد ـــ برباط متكافلٍ متكامل، في الوقت نفسه الذي يربط الفرد والجماعة، ويصهرهما في بوتقة التعاون والتضامن من أجل خير المجتمع الإسلاميّ، بل خير الإنسانية كلها.
3 ـــ العمل على فك الارتباط وإزالة التبعية بين أنظمة الحكم في العالم الإسلاميّ وقوى الاستعمار التي تُخضع تلك الأنظمة لسيطرتها بطريقة أو بأخرى، حتى يمكن بالتالي للمسلمين التقاربُ في ما بينهم، والسعي لتحقيق الوحدة الإسلامية، وذلك امتثالًا لأوامر الله تعالى، وتطبيقًا لسنَّة رسوله الكريم، كما يهدينا إليهما القرآن الكريم بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ] (آل عمران: 118). وقوله تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ] (آل عمران: 103)، وقوله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر: 7).
ومن الحركات التي عرفها العالم الإسلاميّ في عهدٍ مبكرٍ من عهود انتشاره، حركةُ التصوف التي نشأت مع روادها الأوائل منذ أواخر القرن الأول للهجرة والتي لا تزال قائمة في هذا العالم حتى اليوم، على الرغم من أنَّها مرت بمراحل عدّة من القوة أو الضعف، تبعًا لميل الحاكم لتعاليمها ونصرته لأتباعها، أو عداوته لها ولأهلها وعمله على محاربتها وإضعافها.
وقد كانت حركة التصوف موضع بحث وتدقيق لدى الأقدمين والمحدثين، وخصوصًا من قبل المستشرقين الذين عنوا بها عناية خاصة واهتموا بإبراز تعاليمها وسِيَرِ شخصياتها، لأسباب وأغراض كثيرة، بحيث انقسم الباحثون جميعًا ـــ مسلمين وغير مسلمين ـــ بين مؤيِّد ومعارض للحركة. فعدّها بعضهم حركة إصلاح وتقوى غايتها الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، في حين أن غيرهم وجَدَها حركة دخيلةً على العالم الإسلامي، جاءت بفعل الشعوبية لإفساد المفاهيم الإسلامية والدس على الإسلام حتى تُبعدَ عنه الناسَ، فتصفو الأجواء للعقائد الأخرى، وتتمكن من الانتشار وفق ما تريد، فتتأمَّن لأصحابها مصالحهُم الحيوية، ويسيطرون ويسودون، في حين يبقى المسلمون ضعفاء، متخلِّفين، غير قادرين على المشاركة في أحداث العالم أو اتخاذ قرارات مهمة إنْ بالنسبة إليهم أو بالنسبة إلى غيرهم!!!
وبسبب ذلك التضارب في الآراء والاتجاهات، كان لا بد من الوقوف على مجمل عقائد الصوفية وإبراز أهم الشخصيات الصوفية في سائر مذاهبها ونظرياتها، حتى يمكن الحكم عليها من خلال كتاب الله وسنَّة رسوله.
لذلك، وإيمانًا منّا بأن عوامل ضعف المسلمين كثيرة، وبأن ما دخَلَ على مفاهيمنا كان طارئًا ويجب أن يزول بفعل وعينا وحكمتنا، وأن جميع الفرق الإسلامية أدّت دورًا أساسيًّا في تفرقة المسلمين، يختلف مداه وأثره بحسب كل فرقة ونظرتها إلى الأمور، والظروف التي عملت فيها.
وإيمانًا منّا بأن بعض المتصوفة من المسلمين لم يحيدوا في تفكيرهم ومنهج عملهم عن الكتاب والسنَّة، بل كانوا دعاة مخلصين للإسلام، ومن الذابِّين عنه قولًا وفعلًا، فقد رأينا أنه كان من الواجب علينا أن نبيّن أهمَّ الطرائق الصوفية التي عرفها العالم الإسلاميّ، وما كان لها من أثر إيجابيّ أو سلبيّ على المسلمين، وخصوصًا أن كثيرًا من تلك الطرائق قد ساهمت في نشر الإسلام، وفي مقاومة حركات التبشير الغربية التي رافقت هجمة النفوذ الأجنبيّ على بلاد المسلمين أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. في حين أنه ـــ في المقابل ـــ كانت بعض الطرائق الأخرى قد أدّت دورًا مضادًّا ومشبوهًا في معاونة الأجنبيّ عند غزوه لبلاد المسلمين فساعَدَت على تحقيق مآربه وأطماعه، وإيمانًا منا بأن الاتجاهات الجديدة عند الصوفية قد رفضت الفلسفات القديمة التي نادى بها بعض الصوفيين المتطرفين، فكان لا بد من أن نبين هذه الاتجاهات عند صوفية القرن العشرين الذي نعيش في خضم مشاكله التي تحيط بنا من كل جانب، حتى تستوي الأمور صحيحة عند المسلمين جميعًا، فتتكاتف الجهود على نبذ التفرقة، والقضاء على التعصب والجُمود في الأذهان، ثم يثبت الأفضل والأحسن عند جمعهم، فترجع ديارهم وبلادهم ديارَ إسلامٍ وبلادَ إسلامٍ بحول الله تعالى وفضله.
وانطلاقًا من هذا الإيمان الصادق، كان لا بد من إبراز ما كان للصوفية من مساهمةٍ في الدعوة إلى الإسلام ونشر رايته في كثير من الأمصار، وخصوصًا في بلاد الهند وأفريقيا. وفي ذلك يقول المستشرق ماسينيون: «إن الإسلام لم ينشر في الهند بوساطة الحروب (وكأنه يريد أن يُظهر للعالم بأن انتشار الإسلام ما كان إلَّا عن طريق الحرب والسيف كما هو سائد في نظر الغرب) بل انتشر بفضل الطرائق الصوفية. ومن أشهر الذين اتبعوا هذه الطرائق: معين حبشي (توفي عام 634 هـــ) في أجمير، وقطب كاكي في دلهي، وجلال التبريزي (توفي عام 642هـــ) في البنغال، وفريد شكركنجي (توفي عام 664هـــ) في باكبتن وهو جد السادة الكيلانية، وجلال سرخيوش (توفي عام 690هـــ) في أوتش بهوليور، ومحمد جيسدارز في بلكوم، وأبو علي القلندري (توفي عام 725هـــ) في بنيت، وشاه جلال يماني في سيهلت بأسام (توفي عام 786هـــ)، وعلي الهمذاني في كشمير (توفي عام 791هـــ)، وعبد الله الشطاوي الذي توفي عام 818 هــ».
أما في أفريقيا فيوجد بلدان لم يدخلها الإسلام بجيوشه بل دخلها الدعاة بأفكارهم وتعاطيهم في تعاملهم مع أهلها. وقد كان بعض أولئك الدعاة من أتباع الطرائق الصوفية، وخصوصًا الشاذلية والقادرية، التي ساهمت مساهمة فاعلة في نشر الإسلام في كل من السنغال ومالي والنيجر وغينيا وغانا ونيجيريا وتشاد.
ويعزو الباحثون النجاح الذي حققته الطرائق الصوفية، وإدخالها الملايين من الوثنيين في الإسلام، وخصوصًا في أفريقيا، إلى اختلاط أصحابها والعاملين فيها بالطبقات الشعبية، والعيش مع العامة والظهور بمظاهر التقوى والصلاح، أو كما يقول كوبولاين: «إن هؤلاء (الصوفية) تارة في هيئة تجار وتارة في هيئة مبشرين، كانوا يهدون إلى الإسلام، ويبنون زوايا جديدة في تلك الأقطار الواسعة المنتشرة من شمال أفريقيا إلى أقصى أقاصي السودان». هذا، ونشير إلى أن الطرائق الصوفية قد بدأ ظهورها ـــ كما يقول الأستاذ جمال بدوي، منذ القرن السادس الهجري، وارتبط هذا الظهور بحدثين من أهم الأحداث التي تعرض لها العالم الإسلامي، وهما:
ـــ سقوط الأندلس.
ـــ اندلاع الحروب الصليبية.
ثم يضيف بدوي موضحًا: «ففي الوقت الذي انهار فيه الحكم الإسلاميّ في الأندلس، كانت أولى الحملات الصليبية تحط رحالها على الساحل السوري مفتتحة ملحمة الصراع الحربيّ التي دامت قرنين. وكما يحدث دائمًا في أعقاب الكوارث والنكسات تساءل المسلمون عن سر هزيمتهم وانحدارهم. ورأى بعضهم أن السر يكمن في بُعدهم من الله والإقبال على المعاصي. ورأوا أن الخلاص في الرجوع إليه والمحافظة على حدوده والابتعاد عن نواهيه. وكان هذا التفكير يتفق تمامًا مع النزعة الصوفية التي تجعل من الطاعة والمعصية محورًا للنجاح والفشل. وفي وسط هذه الغمة الكاسحة اشتدَّ تيار التصوف وارتبط ارتباطًا شديدًا بروح الجهاد التي فرضتها الأحداث، وبصورة أشد في المغرب».
ويتابع الأستاذ بدوي قائلًا: «ويعلل الدكتور سعيد عاشور ذلك بأن المغرب كان قريبًا من مركز الهجوم الأوروبيّ على الأندلس، مما جعل أهل المغرب أكثر إحساسًا بالخطر، وبالتالي أكثر حماسة ورغبة في العودة إلى الله، فقامت دولة المرابطين التي تحمَّلت عبء المواجهة العسكرية ثم أصبحت خط الدفاع الثاني بعد انهيار الأندلس. وكان اسمها يدل عليها، فالرباط اصطلاح قرآني مشتق من الآية الكريمة [وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60). فكان المرابطون ينتظمون في فِرَقٍ تجمع بين الجهاد والتصوف. ولكن بمرور الزمن فقدت طبيعتها الحربية وبقيت لها طبيعتها الروحية ممثلةً في (الطرائق الصوفية) التي كان يشرف عليها علماء متصوفون. ومع اشتداد تيار الهجرة إلى مصر وفد إليها جماعة من هؤلاء الأعلام، وفي طليعتهم عبد الرحيم القنائي وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري وأحمد البدوي وغيرهم، فشرعوا في جمع المريدين وإنشاء الطرائق على النسق الذي كان قائمًا في المغرب، وعلى النهج التربوي نفسه الذي يركِّز في الجانب الخلقيّ العمليّ ويهمل الجانب الفلسفيّ النظريّ».
وهؤلاء الشيوخ ـــ وفي البحث عن مسرحٍ لنشاطهم الدينيّ والروحيّ، كما يقول الأستاذ بدوي، «حرصوا على الابتعاد عن القاهرة واتجهوا إلى المدن الأخرى. فالشاذلي والمرسي وابن عطاء الله ذهبوا إلى الإسكندرية، والقنائي اتجه إلى قنا، والبدوي اختار طنطا، وأبو الفتح الواسطي (شيخ الرفاعية في العراق) أقام بالإسكندرية، فضلًا عن إبراهيم الدسوقي الذي جعل من موطنه دسوق مركزًا لدعوته».
ويعلِّل الأستاذ بدوي اختيار شيوخ الصوفية للمناطق بعيدًا من العاصمة للقيام بنشاطهم بالقول: «وكان حرص أولئك الصوفية على تجنب القاهرة دليلًا على ذكائهم وفهمهم لمناطق النفوذ الروحيّ في مصر. فالقاهرة هي مركز نفوذ أهل بيت النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها مسجد الحسين، عليه السلام أبي الشهداء وسيد شباب أهل الجنة. وفيها السيدة زينب، سلام الله عليها، عقيلة بني هاشم. وفيها السيدة نفيسة حفيدة الحسن بن علي. كما أن فيها غيرهم من أبناء العترة النبويَّة الذين اختاروا مصر موطنًا ومقامًا، فأحاطت بهم القلوب، وانشغلت بهم الأفئدة، وباتت أضرحتهم مزارات تنجذب إليها نفوس المقيمين والوافدين على مَرِّ الأيام. فكيف يتسنَّى لهؤلاء الصوفية الباحثين عن الزعامة الروحية أن يجدوا مبتغاهم إلى جانب هؤلاء العمالقة الذين ينتسبون إلى أكرم شجرة؟! إذن، كان عليهم أن ينقلوا مسرح نشاطهم إلى المواقع البعيدة حتى تخف المنافسة، وتتوافر لهم فُرَصُ الزعامة والنفوذ. ولعلَّ هذا التصرف الذكيّ من جانب أرباب الطرائق الصوفية يوضح قلة الأولياء المرموقين في القاهرة التي بقيت على ولائها لأهل البيت».
ويتابع الأستاذ بدوي، فيقول: «وشهدت قنا أول بيت للصوفية في مصر على يد الشيخ عبد الرحيم الذي ولد في المغرب الأقصى عام 521هـــ، ثم عاش في قنا ومات بها عام 592. وفي العصر الأيوبيّ حرص السلطان صلاح الدين على تدعيم الحركة الصوفية لِمَا كانت تمثله من نزعة روحية وتربوية، فأقام أول تنظيم رئاسيّ للطرائق الصوفية في مصر، وهي (الخانقاه) التي أطلق عليها اسم «سعيد السعداء»، ولا يزال اسمها مرسومًا على إحدى المدارس في حي الجمالية. والخانقاه كلمة فارسية معناها البيت ثم تحولت إلى (الخانكة). وقد وقف عليها صلاح الدين أوقافًا ليعيش الصوفية من ريعها. وكان المقيمون فيها من الصوفية ـــ كما يقول المقريزي ـــ يعرفون بالعلم والصلاح والتقوى. وفي العصر المملوكيّ اتسعت تنظيمات الصوفية في الخانقاوات، وفي المدارس المنتشرة في ذلك العصر، وتبارى سلاطين المماليك في إنشاء هذه البيوت. واتخذت تنظيمات الصوفية أشكالًا قريبةً إلى النُّظم العسكرية من حيث الرتب والدرجات. فتبدأ بالمريد وتنتهي بالقطب (رأس العارفين). حتى إذا كان العصر العثماني، انحرفت الطرائق الصوفية عن غايتها وأصبحت وكرًا للخارجين على النظام والقانون والدين. وانصرفت عناية أصحاب الطرائق إلى الأشكال والرسوم والزينات والمواكب والموالد، وانكبوا على جمع الأموال وممارسة المحرَّمات والرذائل»...
وهكذا يتبين أن الطرائق الصوفية نشأت في غالبها، في بلاد المغرب العربيّ، ومنه انتقلت إلى مصر أو غيرها من البلاد الإسلامية على يد أحد مشايخ الصوفية، وبعض تلك الطرائق قد انتهت ولم يعد لها من وجود كالطريقة السبعينية مثلًا التي أسسها ابن سبعين، في حين أن بعضها الآخر قد استمرّ يحمل الاسم نفسه، أو يحمل أسماء جديدة انبثقت عن الطرائق القديمة على ما نشهد في العصر الحاضر.
ولعلَّ أهم الطرائق الصوفية القديمة التي نشأت، خصوصًا في بلاد تونس، ومنها انتشرت إلى عالم البلدان الإسلامية هي التالية:
القادرية: نسبة إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني الحسني (470 ـــ 561 هــ) وهو واعظ وصوفيّ، ألف عدة كتب فيها أحزاب سماها الصلوات الصغرى والوسطى والكبرى. وقد اجتمع به في مكة الشيخ أبو مدين وأخذ عنه الطريقة، ولبس من يده الخرقة.
ولم يكن للقادرية (كما في رياض البساتين) زاوية في تونس. إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر الشايب في أول القرن الثاني عشر للهجرة، وكان قد تلقى الطريقة القادرية في الحجاز على يد الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان، فشرع في بناء زاوية في تونس، إلَّا إنه توفي قبل إتمامها. فأخذ أمرها على عاتقه، من بعده الأمير حمودة باشا المتولي (1196 ـــ 1229 هــ) وانتصب للمشيخة فيها تلميذه الأكبر المعروف بالإمام المنزلي. وقد صدر أمر من الأمير برعايتها وحضانتها حتى لا يتعقب أحد مسؤولًا دخلها.
وقد عاد محمد الميزوني المغربيّ فأسس زاوية ثانية للطريقة القادرية بالكاف في تونس، إلَّا إن هذه الزاوية كان مشكوكًا في إخلاصها للطريقة، إذ قيل بأن صاحبها أسسها لتنفيذ أغراض سياسية وعسكرية ظهرت مع هجوم الجيش الفرنسي على تونس عام 1881م!
وقد قيل إنه كان وراء تأسيسها جاسوس فرنسي يدعى (روا) كان يعمل في الكاف قبل الاحتلال، ثم صار بعده «الكاتب العام للحكومة التونسية المحمية»؛ وظلت علاقاته قائمةً طوال حياته مع شيوخ الزاوية القادرية في الكاف.
الطريقة الشاذلية: وهي من أشهر الطرائق الصوفية المعروفة في العالم الإسلامي، وفي بلاد مصر بخاصة. أسس هذه الطريقة علي بن عبدالله بن الجبار (593 ـــ 656 هــ = 1196 ـــ 1258 م). أصله من غمارة في ريف المغرب الأقصى وكان معروفًا بالشاذليّ نسبة إلى شاذلة وهي قرية قرب مدينة تونس. ويعود في نسبه، كما يخبر عن نفسه، إلى الأدارسة من أشراف وملوك البلاد المغربية؛ إلَّا إن شمس الدين الذهبي في كتابه (نكت الهميان) يُعدّه مجهول النسب، إذ يقول: «وهذا نسب مجهول لا يصح ولا يثبت، وكان الأولى به تركه وترك الكثير ممَّا قاله في تآليفه عن الحقيقة».
خرج الشاذلي من بلده غمارة في حدود عام 620 هــ، قاصدًا الحج، ثم عاد إلى بغداد، واجتمع بالصوفية يسألهم عن القطب، فقال له أحدهم، وهو أبو الفتح الواسطي: القطب في بلادك فارجع إليه تجده.
وعاد الشاذلي إلى بلاده غمارة حيث راح يسأل عن القطب، فقيل له: إنه يسكن برابطة في رأس جبل (العلم) فذهب إليه، فإذا هو «أبو محمد عبد السلام بن مشيش الشريف الحسني الداني»، فالتحق به ولازمه مدة طويلة.
وأشار عليه القطب، بعد تلك الملازمة أن ينتقل إلى أفريقية، وأن يسكن في بلد تسمى شاذلة، فأذعن لأمره، وذهب إلى تونس حيث التقى في مصلَّى العيدين، الشيخ علي الحطاب من شاذلة، وهو الذي حملَهُ إليها حيث تعرَّف هناك، أول ما تعرَّف، على أبي محمد عبد الله الحبيبي، والشيخ أبي حفص الجسوسي وكان من علماء الظاهر والباطن.
وأقام أبو الحسن الشاذلي في شاذلة، لكنه كان يتردد على تونس وأطرافها لالتقاء مشايخها. وفي ذلك يقول عن نفسه: «ولما دخلت تونس قصدت إلى من فيها من المشائخ، ولم أجد فيها من عرَّفني بما أنا كنت في حيرةٍ منه، إلا الشيخ الصالح أبا سعيد الباجي، فإنه أخبرني بحالي قبل أن أبديه، وتكلم عن سري فعلمت أنه ولي الله، ولازمته وانتفعت به كثيرًا».
تأثّر الشاذلي بأبي سعيد الباجي أشدَّ التأثر لِمَا كان له من علم الولاية، وهو من أصحاب أبي مدين الغوث، ومعه من الإخوان: الشيخ عبد العزيز المهدوي، والشيخ أبو علي النفطي، والشيخ أبو يوسف الدهماني، وكلهم أخذوا عن أبي مدين. فلما توفي الباجي عام 628هـــ تفرغ الشاذلي لتربية المريدين فالتفَّ حوله عدد كبير منهم. وهذا ما جعل أنظار رجال الدولة تتوجَّهُ إليه خوفًا من نفوذه، وكان على رأسهم العلامة أبو القاسم محمد بن البراء المهدوي الذي تصدَّى له، منكرًا عليه معتقداته، حتى أمكن له جرُّه إلى المحاكمة في مجلس الملك أبي زكريا الحفصي، وانتهى به الأمر إلى السجن. فلما جاء أخو الملك أبي زكريا، وهو أبو عبد الله محمد اللحياني الذي كانت له عقيدة في الشاذلي، ذهب إلى أخيه واستشفع به فخلّصه من السجن. إلَّا إن هذه الحادثة جعلته يبيع مسكنه ويحمل عائلته مرتحلًا إلى الشرق، بصحبة عدد من الأتباع من بينهم الشاب أبو العباس المرسي الذي تولَّى بعده القطبية في مصر.
أقام أبو الحسن الشاذلي في مصر، لكنَّ الفقهاء تصدُّوا له، وعلى رأسهم العزُّ بن عبد السلام وابن دقيق العيد، ويبدو أن اعتدال طريقة الشاذلي خفَّف عنه تلك المقاومة من الفقهاء، وشفع له عند ذوي الشأن، فخلَّوا بينه وبين الناس، فأقبل الناس عليه إقبالًا شديدًا.
ولم يقطع الشاذلي ـــ أثناء إقامته في مصر ـــ علاقته بأصحابه في تونس، بل ظلَّ يكاتبهم وهم يكاتبونه. ورجع أبو الحسن إلى تونس بعد موت الملك أبي زكريا الحفصي عام 647هـــ، ومبايعة ابنه المستنصر الذي لم يكن يتجاوز الثانية والعشرين من عمره وقتئذٍ، مما جعل الأمور تؤول إلى يدِ عمِّه محمد اللحياني، صاحب الشاذلي ومخلِّصه من السجن، إلَّا إن ثورةً نشبت في تونس بين جند المستنصر وأنصار ابن عمه اللحياني عام 648هـــ. قتل فيها الجند محمد اللحياني وابنه، مما دفع بالشاذلي إلى ترك البلاد ثانية والرجوع إلى الإسكندرية ومعه أتباعه، ثم استقرَّ نهائيًّا في مصر وظلَّ فيها حتى توفاه الله وهو في طريقه إلى الحج عام 656 هــ بصحراء عيذاب، وقبره لا يزال في قرية حميثراء بصعيد مصر. وكان في آخر حياته قد فقد بصره، كما أنه أوصى بالولاية من بعده إلى تلميذه أبي العباس المرسي. وقد وصف ماضي بن سلطان الشاذلي فقال: «كان آدم اللون، نحيف الجسم، طويل القامة، خفيف العارضين، وطويل أصابع اليدين كأنه حجازيّ فصيح اللسان عذب الكلام، يقول إذا استغرق في الكلام: ألا رجل من الأخيار يعقل عنا هذه الأسرار؟ هلمُّوا إلى رجل صيَّرَهُ اللهُ بحرَ الأنوار».
ويُعدّ الدكتور محمد مكين (أحد كبار الباحثين في سيلان، ورئيس الجمعية الإسلامية في جامعة لندن) ممَّن تعمقوا في دراسة التصوف في العالم الإسلامي والطرائق الصوفية. وقد قدَّم إلى جامعة لندن رسالة عن الطريقة الشاذلية وأثرها في تطوير المجتمع الإسلامي، ومكانتها بين القيادات الإسلامية التي كافحت الاستعمار في الشمال الأفريقيّ، حيث يقول فيها عن الشاذلية: «ولقد أدت الطريقة الشاذلية دورًا إيجابيًّا حاسمًا في تاريخ الشمال الأفريقيّ، فشكَّلت عاداته وأخلاقه، وشؤون حياته. وأدّت دورها الكبير أيضًا في الانتفاضات القومية ضد الغزو الفكريّ والحربيّ لهذه المنطقة. لهذا قصدت أن أدرس البيئة الصوفية، وأن أؤرخ لهذه الشعوب العربية عن طريق دراستي للطريقة الشاذلية».
أما عن انتشار الإسلام في سيلان فيقول الدكتور «مكين»: «لقد انتشر الإسلام في آسيا عن طريق التصوف، ولهذا انطبعت الحياة العامة في تلك البلاد بطابعه. ففي سيلان مثلًا كل مسلم لا بد من أن ينتسب إلى طريق صوفيّ، وفي كل بلد من سيلان زاوية صوفية. وهناك في العاصمة زاوية تسمى «أم الزوايا» من خمسة طوابق وهي مركز القيادة الروحية الصوفية. والأولاد هناك يتربون تربية صوفية فيذهبون إلى الزوايا كل صباح. وفي سيلان طرائق صوفية متعددة أشهرها الشاذلية والقادرية والعلوية، ويضيف إلى ذلك: إن المسلمين ينتسبون إلى أصلين كبيرين: أصل عربي وقد قدموا من حضرموت واليمن وتكتب لغتهم بالعربية. وفريقٌ ثان وفد إليها من الملايو.
والمسلمون في سيلان جميعًا شافعية، ولهم مكانتهم الكبرى في حياة البلاد ونهضتها، وهم جميعًا يتطلعون إلى العالم العربيّ بعامة، وجمهورية مصر العربية بخاصة، كمركز لقيادتهم الروحية والفكرية».
أما طريقة أبي الحسن الشاذلي فيحددها بنفسه قائلًا: «لن يصل العبد إلى الله تعالى ومعه شهوة من شهواته، أو مشيئة من مشيئاته. ولن يقتل هوى نفسه حتى يأخذها بالقوة، وشدة المجاهدة، إلى أن يذللها تذليلًا، ويروضها على نسيان ذاتها فيقف عند حدِّ الذل إلى الله تعالى».
وفي كيفية التدرج في السلوك إلى الله تعالى يقول الشاذلي: «أول منزل يطأه المحب للترقِّي منه إلى العلاء هو النفس. فإذا اشتغل بسياستها ورياضتها إلى أن انتهى إلى معرفتها وتحققها أشرقت عليه أنوار المنزل الثاني وهو القلب. فإذا اشتغل بسياسته حتى عرفه ولم يبق عليه منه شيء أشرقت عليه أنوار المنزل الثالث وهو الروح. فإذا اشتغل بسياسته وتمت له المعرفة هبَّت عليه أنوار اليقين شيئًا فشيئًا إلى تمام نهاياته. وهذه طريق العامة. وأما طريق الخاصة فهي طريق مسلوك تضمحل العقول في أقل القليل من شرحها»!
ويحذِّر الشاذلي في كتابه (المناقب) من النساء، ومن الدنيا، فيقول: «أسبق الرجال جريًا أهل العلم والعرفان، ولقد رأيت النساء والدنيا تأخذ بعقولهم فيلعب بهم الشيطان. فاحذر النساء والدنيا والتزمِ الصدق والتقوى، واهجر مواطن السوء تحظ بالدرجات العلى».
وعن التدبير يقول الشاذلي: «دع التدبير حتى في اللقمة التي تأكلها، وفي الشربة التي تشربها، وفي الكلمة التي تقولها أو تتركها. أين أنت من المدبر العليم»؟
ويقول أيضًا في ذلك: «رأيت الناس وما هم فيه من الضنك والضيق، فخطر لي أن أدعو الله لهم، فأخذتني سنة من النوم، فسمعت قائلًا يقول لي: دع تدبيرك إلى تدبير الله وارضَ بالله كفيلًا، فإن الناس قد ملُّوا النِّعم وأَمِنُوا النِّقَم، ونُزعت منهم الرحمة، والله يحكم بما يريد. فرجعت عن الدعاء». وعن نزول آدم إلى الأرض يقول: «ما أنزل اللهُ آدم من الجنة إلى الأرض لينقصه، ولكن نزل به إلى الأرض ليكمله. فنزوله نزول كرامة لا نزول مهانة».
وقد ألف الشاذلي اثنين وعشرين حزبًا في التَّوسل والتلطف والتحصن والاستغفار والتجلي وما إلى ذلك. وقد أُنكرت عليه أشياء كثيرة بسبب بعض ما ورد في أحزابه.
يقول عنه الصفدي في كتابه (نكت الهميان): «كان أبو الحسن الشاذلي كثير الكلام، عالي المقام، له نظم ونثر فيه متشابهات وعبارات يتكلف له في الاعتذار عنها. ثم أضاف: ورأيت شيخنا عماد الدين قد فتر عنه في الآخر وبقي واقفًا في هذه العبارات، حائرًا في الرجل، لأنه كان قد تصوف على طريقته، ثم قال: وللشيخ تقي الدين بن تيمية مصنف في الرد على ما قاله الشاذلي في أحزابه».
القلندرية: وهي تنسب إلى «قلندرة يوسف» عربيّ أندلسيّ، عاصر الحاج بكتاش مؤسس الطريقة البكتاشية.
ظهرت الطريقة القلندرية لأول مرة في دمشق عام 610 هــ. وكان أتباعها يحلقون لحاهم وحواجبهم، فمنعهم من ذلك السلطان الناصر حسن (حفيد قلاوون). وكان زيُّهم مزيجًا من الزيّ الفارسيّ والمزدكيّ. أما أخلاقهم فكانت في منتهى الانحلال، بحيث إنهم لا يتقيدون بشعائر الدين، ولا يأخذون أنفسهم بمقومات الأخلاق، مما جعل الناس يمقتونهم ويحاربونهم. لذلك لم يكتب لهذه الطريقة الانتشار، والتأثير في مجال العمل الصوفيّ.
البكتاشية: أسسها الحاج بكتاش الصوفيّ. ولد في نيسابور، ودرس في خراسان، وأخذ عن الشيخ لقمان الصوفيّ، ثم هاجر إلى الأناضول وتوفي فيها عام 738 هــ. وكان لهذه الطريقة صلة قوية بالانكشارية، حتى قيل إن عددًا كبيرًا من هؤلاء اعتنق الإسلام على يد الحاج بكتاش في عهد أورخان. وتقوم عقيدة أصحاب هذه الطريقة على مزيج من تعاليم الإسلام والمسيحية. لذا كان عندهم الاعتراف بخطاياهم لشيوخهم على طريقة الاعتراف لرجال الكهنوت النصارى. وهم لا يحرِّمون الخمر، ويؤمنون بتناسخ الأرواح. هذا فضلًا عن اعتقادهم الخاطئ بألوهية «علي» مثل غيرهم من الغلاة الذين أعمى بصائرهم الجهلُ، ونخر الوسواس الشيطانيّ رؤوسهم فزيّن لهم هذا الاعتقاد الكافر.
وقد انتشرت البكتاشية بين صفوف الجند الانكشاريّ، الذين كانت لهم ثكنة في تونس يجتمعون فيها. والظاهر أن هذه الطريقة انقرضت من تونس بانقراض الانكشارية، أي منذ قرابة ما يزيد على مئة عام.
العيساوية: وهي الطريقة التي أسسها الشيخ محمد بن عيسى (872 ـــ 933 هــ). ارتحل به والده إلى مدينة فاس ليتعلم القرآن الكريم، فاختلط بالشيوخ وعاشرهم وتلقى علومهم. ثم قصد قبيلة سفيان حيث التقى الشيخ أبا العباس أحمد بن عمر الحارثي المكناسي، صاحب الشيخ القطب محمد بن سليمان الجزولي، وأخذ عنه الطريقة بالعهد والصحبة، وتربى على يده بالطريقة الجزولية المحمدية.
وبعد وفاة شيخه انتقل إلى مدينة مراكش حيث التقى الشيخ عبد العزيز التباع، خليفة القطب الجزولي، فلازمه وأكمل تربيته على يديه، وراح بعد ذلك يجمع من حوله المريدين حتى صار من الشيوخ الكبار. وقد اشتهر بالكرامات إلى أن توفي عام 933 هــ. وينتقد عبد الرحمن بن زيدان في كتابه (أعلام الناس) أتباع الطريقة العيساوية لما يأتونه من البدع والمنكرات، وما كانوا عليه من وحشية الطباع، ومخالفتهم لأصول الشريعة والطريقة معًا. بحيث كانوا يأتون في قلب الزاوية بأعمال مزرية للغاية.
وللطريقة العيساوية زاوية كبيرة في مدينة تونس تدعى زاوية شيحة، باسم شيخها علي شيحة، الذي كان الوزير مصطفى خزندار من أتباعه، وهو الذي أسس له الزاوية، وأنفق عليها أموالًا طائلة حتى صارت من أوسع وأفخم الزوايا زخرفة وتأثيثًا.
وتُعدّ الطريقة العيساوية من فروع الطريقة الرفاعية التي أسسها الشيخ أحمد الرفاعي المتوفى عام 578 هــ. وقد قيل بأن أتباعها يضربون أنفسهم بالمدى في حالة الغيبوبة، ويأكلون الزجاج، ويقبضون على الحديد الْـمُحمى، ويزدردون الأفاعي.
الطريقة الشابية: صاحب هذه الطريقة الشيخ أحمد بن مخلوف، نشأ في بلدية الشابة، ثم انتقل إلى مدينة تونس طلبًا للعلم، فقضى فيها أعوامًا.
ويذكر أن الشيخ أحمد كان يتردد على الوليّ أحمد بن عروس. وقد جاء مرة لزيارته فوجد في مجلسه رجالًا ونساءً في وضع لم يعجبه، فأنكره، ويبدو أن الوليّ ابن عروس أزعجه إنكار ابن مخلوف ذاك، حتى إذا اعتدى على أحد أعوان السلطان وجدها فرصةً سانحة كي يمنعه من المجيء إليه. فخرج ابن مخلوف إلى الساحل والتحق بشيخ آخر من الصوفية هو الشيخ علي المحجوب، وكان صاحب بستان وأغراس، فاستخدمه عنده حتى أثمر غرسه، فصار يدَّعي ظهور الكرامات. عندها طلب إليه شيخه أن يذهب إلى القيروان بعد أن أذن له بالعهد، فأقام في جامع الدواز فقيرًا، مؤدبًا، حتى تزوج وأولد.
وقيل له يومًا: الناس يسبونك. قال: على أي شيء؟ فما زدت شيئًا أُسَبُّ من أجله، فالكتاب كتاب الله والسنَّة سنَّة رسول الله، والطريق للجنيد، والواهب سيّدي عبد الوهاب الهندي، والمصافحة لسيّدي علي المحجوب، وحزب البحر للشاذلي، والوظيفة ليحيى بن عقيبة. ألا أعوذ بكلمات الله التَّامَّات. وقد توفي عام 803 هــ، فخلفه على المشيخة ابنه محمد الكبير، إلَّا إنه توفي بعد أبيه بثلاث سنوات، فخلفه من بعده أخوه الشيخ عرفة. ويظهر أن الشيخ عرفة قد اشتغل بالسياسة، وأراد الاستيلاء على الحكم لتأسيس دولة على غرار دولة المرابطين أو الموحِّدين إلَّا إن عدم استقرار الأوضاع في البلاد قد وقف ضدَّه، إذ كانت دولة بني حفص في انحلال، والهجوم العثماني كان قد بدأ لطرد الإسبان المحتلِّين من البلاد. وتُوفّي الشيخ عرفة عام 949 هــ، وهو على عداوة مع سكان مدينة القيروان. فلما أراد أخوه أبو الطيب محمد المسعود تسلُّم مقاليد الزعامة استنجد أهلُ القيروان بالقائد التركي دارغوث باشا، فقتله، وفرَّق أشياعه. وظلت جنود الأتراك تطارد الشابيين حتى تفرقوا في عدة بلدان. ثم عادوا واستقرُّوا في ضاحية خاصة من مدينة توزر حيث اشتهر كثيرون منهم بالعلم والأدب، وخصوصًا الشاعر المعروف أبا القاسم الشابي، صاحب النفحة الحماسية الوطنية في قصيدته الشهيرة التي يبدأ مطلعها:
إذا الشعب يومًا أرادَ الحياة فلا بُدَّ أن يستجيب القدر
التجانية: وهي تعود إلى الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد الشريف الحسني التجاني العلواني الذي ولد عام 1150 هــ. فتلقى العلوم وانخرط في سلك الصوفية. حتى إذا توفي والده سافر إلى الحج عام 1186 هــ حيث التقى في مكة الشيخ أحمد بن عبد الله الهندي، واجتمع في المدينة بالشيخ محمد بن عبد الكريم السمان فأخذ عنهما كثيرًا من الأسرار.
ثم ذهب التجاني إلى مصر فالتقى الشيخ محمود الكردي. وبعد فترة من تلاقيهما، قال له الشيخ الكردي: أنت محبوب من الله، فما مطلبك؟ قال التجاني: القطبانية العظمى.
فقال له: لك أكثر من ذلك!
ورجع التجاني إلى بلده ينتظر الفتح، فلم يتحقق له على يد شيخ من الشيوخ. عندها خرج إلى قرية تدعى قصر أبي صمغون في الصحراء الشرقية، وهنالك كان له الفتح حيث قال إنه رأى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «يقظة لا منامًا ـــ كما يقول مَن ترجم له ـــ وعين له الوِرْدَ مئةً من الاستغفار، ومئةً من الصلاة عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره بتلقينه إلى كل من طلبه من المسلمين والمسلمات، ثم قال له: لا مِنَّة لمخلوق عليك من مشائخ الطرائق، فأنا واسطتُك وممدُّك على التحقيق، فاترك عنك جميع ما أخذت من الطرائق».
وفي عام 1200 هــ أكمل له الرسولُ الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، الورد بمئة من الهيللة (وهي لا إله إلَّا الله، أو الله الله، أو هما معًا، يذكرهما الذاكرون يوم الجمعة بعد صلاة العصر، كما ورد في الفتح الرباني). ثم طلب التجاني من الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: إن كنت أنا بابًا لنجاة كل عاصٍ تعلق بي فَنِعم، وإلَّا فأيُّ فضلٍ لي؟ فأجابه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: أنت باب لنجاة كل عاصٍ تعلَّق بك».
ومن يومها أخذ التجاني يدعو الناس إلى طريقه في الصحراء. لكنَّ دعوته تلك أثارت عليه حفيظة الترك، فالتجأ إلى فاس، وبعث بكتاب إلى السلطان المولى سليمان، يعلمه فيه بأنه هاجر إليه من جور الترك وظلمهم، وهو يستجير منهم بأهل البيت الكريم. فبعث إليه السلطان بالمجيء إليه، وبعد إقامته في مجلسه واستماعه إليه صار من أصحاب طريقته. وأعطاه دارةً من دوره كان أنفق في عمارتها نحوًا من عشرين ألف مثقال، ورتَّب له ما يكفيه.
وقد اشتهر في فاس والمغرب، فأقبل عليه الخلق. وعاش في فاس حتى كانت وفاته عام 1230 هــ. فانتقل أولاده إلى عين ماضي في جهة الأغواط، في حين أن المشيخة التجانية انتقلت إلى صاحبه الشيخ الحاج علي التماسيني.
وحول الطريقة التجانية وأسرارها وآدابها وأذكارها وصلواتها يوجد كتاب من تأليف التجاني نفسه وتدوين الحاج علي حرازم بن العربي برادة سماه (جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض أبي العباس التجاني) وتبرز صوفية التجانية في هذا الكتاب منبثقة عن صوفية محيي الدين ابن عربي في كتابه (فصوص الحكم)، ومن صوفية عبد الكريم الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل). أي إنها تقوم على فكرة وحدة الوجود، والاعتقاد بالحقيقة المحمَّدية، وأن الشيخ التجاني يتلقى من الحقيقة المحمَّدية ما تلقاه من الأسرار «يقظة لا منامًا»!
وأذكار الطريقة التجانية وأورادها متنوعة، فمنها ما هو لازم، ومنها ما يختص به الخواص دون العوام، وأعظمها شأنًا عندهم «جوهرة الكمال»، وهي ما تلقّاه الشيخ التجاني إملاء مباشرًا من الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم. ولقراءتها وضعية خاصة وشروط مقرَّرة، كالانصهار الكامل واستقبال القبلة، ونشر الإزار. فإذا توافرت هذه الشروط ففي القراءة السابعة يتم حضور النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، مع أصحابه الأربعة والشيخ التجاني. وهم لا يفارقون ذاكرها ما دام يذكرها بعد ذلك!!!
ومن تعاليم هذه الطريقة كما تروي المصادر:
1 ـــ للطريقة أسرار، يقول عنها الشيخ التجاني: وهي من المكتوم الذي لا ينبغي أن يذكر للعامة.
2 ـــ يجب على المريد ألّا يزور وليًّا من الأولياء سواء من الأحياء أو الأموات.
3 ـــ يجب على المريد أن يعتقد بأن أحمد التجاني هو خاتم الأولياء، وسيد العارفين، ومعدُّ الأقطاب والأغواث.
4 ـــ يقول التجاني: «من أراد أن يشاورني وبيني وبينه بعدٌ بعادٌ، فليصلِّ على النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، مئة مرة، ثم يذكر حاجته وهو مشخص لنفسه بين يديَّ، فالجواب ما يقع في قلبه». وهذا المفعول يبقى بعد وفاة الشيخ التجاني.
5 ـــ ينصح التجاني بالاعتدال وذلك في معرض سؤالٍ له من أحد التجار الأغنياء في مدينة فاس عن المتسولين الذين يضايقونه في طلب الحاجة ولا طاقة له على ردِّهم، فكانت نصيحة الشيخ له أن يتصدق باعتدال، ولا يسرف فيه ولا يبذر، وأن يعتني بتحصين ماله من التلف لأن المال يصون الإيمان، ومن أتلف ماله أتلف إيمانه. ذلك أن للشيطان مكرًا خفيًّا بصاحب المال، إذا رآه تقيًّا فإنه يسوق الناس إليه لطلب العطاء لله ولخوفه من منعه لهم، فإذا انخدع للشيطان ذهب ماله، ووقع في حيرة الاحتياج، وشغل عن العبادة.
ومن شيوخ التجانية المشهورين الشيخ العلّامة إبراهيم الرياحي (1181 ـــ 1266 هــ) الذي التقى الشيخ علي حرازم بن العربي برادة الذي دوّن كتاب (جواهر المعاني) في مدينة تونس، فراح يسأله عن تعاليم التجانية حتى اقتنع بها. ولمَّا كان الشيخ إبراهيم منخرطًا في سلك الطريقة الرحمانية فإنه لم يشأ الخروج منها وسلوك الطريقة التجانية إلَّا بشروط ضمنها له الشيخ علي حرازم. ومن هذه الشروط «ضمان النجاح للشيخ إبراهيم بحصول الجاه والكسب وصلاح الذرية في الدنيا، والفوز بسعادة الآخرة، كما أظهر ذلك الشيخ السنوسي في كتابه (مسامرات الطريف)».
وفي عام 1218هـــ سافر الشيخ إبراهيم الرياحي إلى المغرب حيث اجتمع بالشيخ التجاني نفسه في داره، فكان يقول عنه: «فرحت كثيرًا برؤية السلف الصالح».
وفي عام 1238هـــ أدى الشيخ إبراهيم الرياحي زيارة (للقطب) الشيخ الحاج علي التماسيني الذي تولى مشيخة الطريقة بعد وفاة الشيخ أحمد التجاني.
وكان الشيخ إبراهيم يُعدّ نفسه وريث الطريقة لأنه كان صاحب علم واسع، وجاهٍ ونفوذٍ كبيرين. وقد استخدم نفوذه في كثير من المواقف مع الأمير أحمد باشا باي لتخفيف وطأة المظالم عن كاهل الشعب التونسي.
وللشيخ إبراهيم رسالة سماها «مبرد الصوارم والأسنَّة في الرد على من أخرج سيدي أحمد التجاني من دائرة أهل السنّة»، ومن أقواله في محاسن الطريقة التجانية: «تلذذ بذكر جوهرة الكمال والياقوتة الفريدة».
ويُعدّ السيد عمر العيد شيخ شيوخ الطريقة التجانية بتماسين، وله قصة شهيرة مع الثائر علي بن غذاهم في البلاد التونسية. وقد علَّق على هذه الحادثة الشيخ عمر القروي على نسخة من تاريخ ابن أبي ضياف. ومفاد التعليق أن السيد عمر العيد كتب إلى علي بن غذاهم يعده بالشفاعة والأمان باسم القطب الرباني والهيكل الصمداني سيدي أحمد التجاني. فلما جاء إليه، أمره بنزع سلاحه بحجة أن من يطلب شفاعة يجب أن يأتي طائعًا لا متقلِّدًا سلاحه. وبعد أن حجزه عنده بعث إلى الوزير التركي يعلمه بذلك من دون أن يذكر شيئًا عن الشفاعة، فبعث الوزير وأخذه، وكان ما كان، ونال الشيخ عمر العيد جائزة على ذلك!!!
الطريقة الرحمانية: هي فرع من فروع الطريقة الخلوتية المشرقية.
أسسها الشيخ محمد بن عبد الرحمن «بوقبرين». كانت ولادته عام 1128هـــ عند بعضهم، أو عام 1141هـــ عند بعضهم الآخر. وتوفي عام 1208 هــ. ولهذه الطريقة منظومة تدعى المنظومة الرحمانية ومطلعها:
يا مــن تريد الشفاء واتِّباع المصطفى
أدخل طريق الوفاء طــريق الخـلوتيّا
يقول الشيخ مصطفى باش تارزي في شرحه للمنظومة المسماة بـــ «المنح الربّانية» إنه «لم يكن لهذه الطريقة ذكر بالأرض المغربية، وإنما جاء بها الشيخ الإمام خاتم المربين وواسطة عقد الأئمة العارفين أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الرحمن القحطولي الزاوي الأزهري مجاورةً، حين رحل من وطنه إلى مصر قاصدًا تحصيل علم الشريعة والحقيقة. فجاور بالجامع الأزهر مستقرًّا برواق المغاربة. ولازم علّامة زمانه أبا عبد الله سيدي محمد بن سالم الحفناوي فلقنه الأسماء السبعة فسلك على يده، ثم وجهه إلى ناحية السودان لنشر الأوراد ونفع العباد. وبعد مدة أمره بالرجوع إلى مصر فرجع، وألبسه الخرقة وأمره أن يرجع إلى وطنه، فامتثل وذهب إلى وطنه واستقر بجبل جرجرة بناحية الجزائر في وطن يسمى قحطولة من أرض زواوة. وأذن له في التربية وتعليم خلق الله بما هم مطالَبون به من أمور الدين، فأخذ عنه جمع غفير وسلك على يده خلق كثير، واشتهر في الأقطار ذكره وكثر أتباعه وعظم حزبه».
وللطريقة زوايا كثيرة في الجزائر وتونس، وكان من أبرزها في الجزائر الزاوية المركزية وشيخها الحاج البشير المغري الذي كان صديقًا مخلصًا للأمير عبدالقادر الجزائري. وقد التحق به، بعد أن خلّف الزاوية للسيدة خديجة أرملة الشيخ علي بن عيسى. ومنها أيضًا الزاوية التي أسسها الشيخ محمد البشير (توفي 1242)، وقد ترجم له الشيخ ابن أبي ضياف في تاريخه. ونسبه يتصل بالشيخ عبد السلام بن مشيش المغربي شيخ أبي الحسن الشاذلي. تعلَّم الشيخ محمد البشير الحديث والفقه، ثم سلك طريق القوم، ولازم خلوته متجردًا للعبادة، فظهرت عليه الكرامات، كما يقولون، حتى عظم في قلوب العامة والخاصة، فكانوا يتبركون بثيابه وسُبْحتِه. وللشاعر التونسي محمود قبادو منظومة مدح بها الشيخ محمد البشير سماها: «فريدة عقد الآل في التوسل للنبيِّ بالآل».
أما في تونس فللرحمانية زوايا كثيرة أيضًا، منها زاوية عين الصابون أسسها الشيخ محمد الصالح العمراني، وزاوية الشيخ بن عيسى في مدينة الكاف، وزاوية بن عزوز بنفطة أسسها الشيخ مصطفى بن عزوز، وقد ترجم له ابن أبي ضياف في تاريخه.
هذا ولا بد من التوقف هنا ـــ انسجامًا مع بحثنا عن الطرائق الصوفية وصوفية القرن العشرين ـــ لإبراز رأي الأستاذ الدكتور أبي الوفا الغنيمي التفتازاني بصفته شيخ الطريقة الغنيمية الخلوتية وشيخ مشايخ الطرائق الصوفية في مصر. وهو يعود بنسبه ـــ كما يقول ـــ إلى الإمام إسماعيل الغنيمي المالكي الذي كان من صوفية القرن الخامس الهجري، والذي كانت تربطه بالسيد أحمد الرفاعي صلة مصاهرة. وطريقته إحدى فروع الطرائق الخلوتية وينتسب إليها كل السادة الغنيمية في مصر.
وآراء الأستاذ الدكتور الغنيمي التفتازاني صريحة وواضحة في نزعته الإصلاحية للتصوف. فهو يعتبر ـــ كما يعبِّر عن ذلك الأستاذ جمال بدوي ـــ أن للتصوف المصريّ ملامح خاصة تميِّزه من غيره من أشكال «التصوف الإسلامي»!، وأهم هذه الخصائص أنه بعيد من التطرف والمغالاة، والشطح، بحيث لا يوجد بين مشايخ الطرائق الصوفية في مصر نماذج متطرفة كالحلاج والبسطامي وابن عربي والسهروردي، أولئك الذين مزجوا الفلسفة بالتصوف، وتأثروا تأثرًا عميقًا بالتيارات الفلسفية فشطحوا بنظريات وحدة الوجود والحلول والفناء التي استهجنها أهل زمانهم وعارضوها بشدة.
ويتابع قائلًا: «أما أرباب التصوف المصريّ فقد سلكوا منهجًا مغايرًا لمنهج فلاسفة التصوف، وكان نهجهم عمليًّا أخلاقيًّا يقوم على جمع المريدين والتلاميذ في بيوت تعليمية، ورعايتهم تربويًّا ودينيًّا في فرق اتخذت مع الأيام اسم (الطرائق الصوفية) منسوبة إلى أسماء مؤسسيها العظام: الشاذلي والبدوي والدسوقي والقنائي... إلخ، في حين أنه لا يوجد ذكر ولا جمهور لفلاسفة التصوف... اللّهم إلَّا في دوائر البحث الأكاديمي...». لذلك فإن الأستاذ الدكتور الغنيمي يُعدّ التصوف ـــ حقيقة ـــ ليس نظريات فلسفية، بقدر ما هو (طريقة) في الحياة، ورياضة عملية تمارَسُ من أجل هدف معيَّن هو تحقيق الكمال الأخلاقيّ الذي دعا إليه الإسلام.
وعن تنظيم الطرائق الصوفية يقول: «منذ مطلع القرن التاسع عشر أصبح للطرائق الصوفية مشيخة عامة، لصاحبها التكلم عن جميع الطرائق. وأصبح لكل طريقة شيخ، ولكل شيخ خلفاء في القرى، ونواب في المراكز والمديريات، ولكل خليفة مريدون، وكان رئيس الصوفية في ذلك الوقت من بيت البكري الذين ينتسبون إلى أبي بكر الصدّيق. فلما وليَ المشيخة السيد محمد توفيق البكري عام 1892 استصدر لائحة عام 1905 جعلت شيخ مشايخ الطرائق الصوفية يدير شؤون الصوفية بوساطة مجلس صوفيّ يختص بشؤون الطرائق، وقد نصت هذه اللائحة على بعض الإجراءات الإصلاحية منها: ألَّا يعيَّن أحدٌ شيخًا لطريقة إلّا إذا كان من أهل العرفان والكمال. وكذلك بالنسبة إلى الخلفاء والنواب. كما تضمَّنت بعض المبادئ بهدف النهوض عقائديًّا، منها إبعاد كل من اتّصف بعقائد مخالفة للشرع الإسلامي كالقول بالحلول والاتحاد أو سقوط التكاليف الشرعية عن بعض الناس. وكذلك يُبعد من الطرائق الصوفية من يقوم بأعمال مناقضة للأعمال الشرعية من افتعال الخوارق، كما بيَّنت اللائحة بأن الذِّكر الصوفيَّ عبارة عن ذكر الله وتمجيده، صريحًا، قيامًا وقعودًا، أو قعودًا مع الخشوع والوقار بحضور أحد الخلفاء المجازين من شيوخهم».
وعن مَوْروثات العصور المتأخرة، وما إذا كانت الطرائق الصوفية قد تخلصت منها، أبدى الدكتور التفتازاني أن كثيرًا من رجال الصوفية في العصر الحاضر لا يزالون متمسكين بها: كاستعمال الزي الخاص، والشارات المعيَّنة، ولباس الرأس الملون، وكذلك استخدام البيارق والأعلام في المواكب والموالد. أما عن الاعتقاد بالكرامات، فيرى أنه لا يزال بين عوام المنتسبين إلى الطرائق الصوفية اعتقاد مفرط في الأولياء وكراماتهم يخرج أحيانًا على حد المعقول. ولكن ـــ على الرغم مما يشوب الطرائق الصوفية من بعض الشوائب ـــ فإن رأيه أنها لا تزال تؤدي دورًا مهمًّا في مجال الحفاظ على التراث الدينيّ والقيم الروحية على المستوى الشعبيّ. خصوصًا في الريف.
هذه بعض ملامح الخلوتية التي تفرعت منها الرحمانية. وهي تبدو في العصر الحاضر طريقة متجددة مع شيخ مشايخ الطرائق الصوفية في مصر، بحيث تنكر المعتقدات الصوفية الجامحة، وتطمح إلى تصوّفٍ عمليٍّ أخلاقيٍّ يتوافق مع ما يدعو إليه الإسلام.
الطريقة السنوسية: زعيم هذه الطريقة ومؤسسها محمد بن علي السنوسي الخطبي الحسيني الإدريسي (1202 ـــ 1272هـــ ـــ 1787 ـــ 1855م). ولد في مستغانم بالجزائر، وتلقى علومه العالية في فاس، وتصوف على يد الشيخ عبد الوهاب التارزي. طاف في صحراء جنوب الجزائر يعظ الناس ويلقِّنهم الآداب الإسلامية. ثم زار تونس وطرابلس وبرقة ومصر والحجاز، فحجَّ وأقام في مكة للتصوف وابتنى له زاوية في جبل (أبي قبيس). ثم رجع إلى برقة عام 1255هـــ، وأقام في الجبل الأخضر، وبنى «زاوية البيضاء» فكثر تلاميذه وانتشرت طريقته بسرعة، مما جعل الحكومة العثمانية التركية ترتاب بأمره، فلما أحسَّ بذلك انتقل إلى واحة جغبوب حيث بقي فيها حتى وفاته. وقد ألَّف نحو أربعين كتابًا ورسالة. منها (الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية). وتولى بعده مشيخة الزوايا السنوسية ابنُه محمد المهدي (1260 ـــ 1320هـــ ـــ 1844 ـــ 1902م) الذي قاوم الجيش الفرنسي قبل سنة من وفاته، وفي ضواحي كانم وتشاد.
وتولى المشيخة بعده حفيده أحمد الشريف بن محمد الشريف الذي كانت له مع عمه محمد إدريس السنوسي (المولود عام 1307هـــ ـــ 1889م) جولات في مقاومة الاحتلال الإيطالي.
قال بكفالة الإخوان بعد وفاة أحمد الشريف أخوه «الرضا» في حين أن محمد إدريس انتقل إلى مصر.
فلما دارت الحرب بين الإنجليز والطليان في طرابلس كان السنوسيون مناصرين للجيش الإنجليزي. وعندما تمت هزيمة الإيطاليين والألمان، طالب السنوسيون الإنجليز الوفاء بوعدهم في استقلال البلاد فكان لهم ذلك عام 1943م، وعين الشيخ محمد إدريس ملكًا للقطر الليبي مقيدًا بدستور ومجالس ديموقراطية.
العلاوية: هي طريقة للتصوف أسسها الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي (1291 ـــ 1353هـــ ـــ 1873 ـــ 1934م). ولد وتوفي في مستغانم القريبة من مدينة وهران في الجزائر.
وكان الشيخ العلاوي فقيهًا ومتصوفًا. وقد انتشرت طريقته في الجزائر وتونس والمغرب، لكنَّ أكثر أتباعه كانوا متفرقين في البلاد التونسية. وقد أيّدت فرنسا في هذه الأقطار الثلاثة أتباع العلاوية ومدَّتهم بكل وسائل العون نظير ما كانوا يقدِّمون لها من الخدمات!!! فظهروا يمتازون، بالإضافة إلى هذا التأييد، بإطلاق اللحى، وإظهار الحزم، والركوب على العجلات!!!
وقد ظهرت تعاليم العلاوية في الرسالة المسماة (القول المعروف في الردّ على من أنكر التصوف). «وهي مذيّلة بتقريظ من الشيخ محمد عبد الحيّ الكتاني حاول من خلاله أن يثبت بأن للتصوف مرجعًا دينيًّا في الإسلام»!
وكانت تلك الرسالة التي ألَّفها الشيخ أحمد العلاوي ردًّا على كتاب ألَّفه الشيخ عثمان بن المكي التونسي أسماه «المرآة لإظهار الضلالات» انتقد فيه الطريقة العلاوية انتقادًا فاضحًا.
وهكذا يتبين أن معظم الطرائق الصوفية كانت لديها نزعةٌ لمحاربة الاستعمار والنفوذ الأجنبي. وقد أدّت أكثر تلك الطرائق دورًا بارزًا في إشعال الثورات ضد الغربيين المحتلِّين مثل السنوسية والمهدية والنقشبندية.
فالسنوسية، كما تبيَّن لنا، عملت على مواجهة الغزو الفرنسي للجزائر على يد أحمد المهدي، وقاوم الملك محمد إدريس الاحتلال الإيطالي لليبيا وإن كان قد عادَ وارتبط بعجلة المستعمر الإنجليزي.
والنقشبندية، التي نشأت في أواسط آسيا وامتدَّت شرقًا حتى بلغت الصين، كانت عاملًا مهمًّا أيضًا في ثورة المسلمين الكبرى في تركستان الصينية. وهي التي أوقدت نار الثورة ضد الاستعمار الأجنبي في جزر الهند الشرقية.
وفي قلب أفريقيا ظهر «مهدي الصومال» الذي شنَّ حربًا شعواء على المستعمرين طوال سنوات عدّة، ويسجل المؤرخون ظاهرة انتعاش التصوف خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين من خلال نشاط حركة أتباعه. فقد شهدت هذه الحقبة ولادة الطرائق الصوفية التي أخذت على عاتقها توسيع رقع امتداد الطرائق القديمة، أو تأسيس طرائق وفرق جديدة.
وتحتل المجموعة العربية البربرية في أفريقيا الغربية ـــ التي كان لها شأن كبير في الحركة الصوفية خلال القرون الوسطى ـــ مكانًا بارزًا في التوسع الحديث لحركة التصوف. وقد تأسس عدد من الطوائف الحديثة إبان القرن الثامن عشر الميلادي في كل من الجزائر ومراكش وتونس، كما رأينا، وقامت تلك الطوائف بنشاطات واسعة ليس في مواطنها فحسب، بل في الصحارى وفي أفريقيا الغربية.
ولكن، في مقابل ذلك النشاط الدينيّ والوطنيّ الذي قامت به الطرائق الصوفية، كانت هنالك طرائق صوفية أخرى تساعد النفوذ الأجنبي، أو تَمْرُق من الدين باتِّباع تعاليم لا تمتُّ إلى الإسلام بشيء: مثل أتباع زاوية الميزوني في القادرية التي كانت موضع شكوك في إخلاصها الوطني، أو الطريقة القلندرية التي اشتهر أتباعها بالانحلال الخلقي، أو الطريقة العيساوية التي عرف أتباعها بالمخالفة لأصول الشريعة والطريقة معًا، أو البكتاشية التي أخذت من التعاليم المسيحية فقالت بتحليل الخمرة، كما آمنت بتناسخ الأرواح خلافًا لما يقرُّهُ القرآن الكريم عن البعث والنشور، وما إلى ذلك من بدعٍ وأساليب أساءت كثيرًا إلى تعاليم الإسلام الصحيحة الصافية، كما أساءَت إلى المسلمين في تضليلهم وتعمية أفكارهم عن دينهم الحق، أو فيما أدَّت إليه من تعاون مع الأجنبي ضد مصالح الدين والأمة، ممَّا كان له أبعد الأثر في تثبيت دعائم الاستعمار بمختلف أشكاله في بلاد المسلمين.
هذا بالإضافة إلى بعض التصوفات المشينة التي كان يقوم بها أفراد كثيرون ينتسبون إلى هذه الطريقة أو تلك، أو يأمر بها هذا الشيخ الصوفيّ أو ذاك. وأبسط مثالٍ على ذلك ما ورد عن أبي الغيث القشاش التونسي (959 ـــ 1031هـــ) الذي ــ على الرغم من اهتمامه بإصلاح المساجد والزوايا والمدارس، أو مهادنته لرجال الدولة التركية في تونس، حفاظًا على أبناء شعبه من التعسف والظلم ـــ كان يأمر المريدين بالخروج من مظاهر تقشعرُّ منها الأبدان، كما ورد في الفصل الثالث من كتاب (المناقب) لصاحبه شيخ زاوية القشاش بقفصة، إذ يروي أن بعض المريدين خرجوا ذات يوم من الزاوية بإذن من الشيخ أبي الغيث القشاش إلى الأسواق وعوراتهم مكشوفة، مما جعل الناس يهبُّون مستنكرين، ويذهبون للباشا، الحاكم التركي، يقولون له: «إن أبا الغيث القشاش عامل فقراء زنادقة يخرجون عراة إلى السوق». فأمر الباشا أعوانه فاقتادوهم إلى المحاكمة حيث جرى تأديبهم، وكان الشيخ يقول: «ما أمرتهم إلَّا ليكونوا عراةً من الذنوب»!!!
وهكذا تتبين لنا ملامح الصوفية عبر مختلف المراحل التي مرَّت بها تقريبًا، والتي يمكن أن نستخلص منها أن التصوف ظهر في البدء على شكل «عقيدة» تقوم على رياضة نفسانية معيَّنة، يتدرج فيها المريد من حال إلى حال، ومن درجة إلى درجة، حتى يصل إلى الحالة القصوى وهي الفناء في ذات الله القدسية، بعد فنائه عن ذاته الخاصة!!! وهو يعتمد في ذلك على التوكل وترك الأسباب، بحيث يتخلَّى عن كل ما في هذه الدنيا من مشاغل واهتمامات، حتى يعيش في دنياه، كما كان بعضهم يقول: «عيش الكلاب على المزابل»!!!
ومع تقادم الزمن، وما تعرّضت له الصوفية من محن وأزمات، بدأت «العقيدة» تفقد مفهومها، وتتحول شيئًا فشيئًا إلى طقوس وعادات وتقاليد، ثم انقلب أصحابها إلى طوائف وجماعات متفرِّعة، تستقلُّ كل طائفة بتعاليم، وبأنظمة تضعها لنفسها، حتى كثرت التعاليم، وتعدَّدت الأنظمة، وامتلأت مفاهيم التصوُّف بمختلف المتناقضات، فظهرت فيها عقائد الكفر، كالحلول والاتحاد وسقوط التكاليف، إلى جانب الإيمان والتقوى والعمل الخالص لوجه الله دينيًّا ودنيويًّا!!!
فأين موقع الصوفية اليوم من ذلك كله؟
ليس جديدًا القول بأننا نعيش في عصر كثرت فيه الاكتشافات العلمية والاختراعات في مختلف الميادين حتى بات يصعب على أي فردٍ مهما كان نابهًا أوحاذقًا، أو على أي جماعة مهما ادَّعت واستعلت، اجتذاب أنظار الناس أو شدّها، إلَّا نتيجة قناعاتهم، والسير مع مصالحهم، وبصورة أدق مع ما يتوافق مع أفكارهم ومشاهداتهم الحسية، في الحكم على الأشياء، ومن قبيل ذلك أنه بات من العسير جدًّا أن تقدم للناس في أواخر القرن العشرين براهين على حصول كرامات أو على حدوث خوارق، وخصوصًا إذا عزيت إلى إنسان مثلهم أتاها بنفسه، لأنَّ ما يوجد بين أيدي الناس، وما يقرؤون عنه أو يشاهدونه بأم العين هو ممَّا يحيِّر العقل ويدهش البصر حتى لكأنه خوارق بنفسه، إذا قيس بما كان عليه السابقون.
وفي عصر العلم والتكنولوجيا، سقط كل رهان عند الإنسان على المعجزات والخوارق، وحتى على الكرامات، إلَّا على القرآن الكريم، فهو يبقى في نظرنا المعجزة الخارقة، المحسوسة الملموسة، التي يمكن من خلالها أن يدعو الإنسان أخاه الإنسان إلى معرفة حقيقة وجود الله، وأن يقنعه بأن هذه المعرفة هي الطريق الحق لكل المعارف وما ينجم أو يتحقق عنها من قيم معنوية ومادية.
ونزيد في القول: لما تيقَّن الغرب من أن القرآن الكريم بدأ يفعل فعله، وأن الإسلام هو مطلب المسلمين حقًّا، بل هو ما يبحث عنه الإنسان لحلِّ مشاكله، وأن نظرته المادية إلى الأمور باتت لا تستطيع الوقوف في وجه هذا النور الساطع، وأنه أعجز من أن يقف أو أن يتصدَّى لهذا التيار الجارف إذا تركه يتدفَّق في سيره، نعم، عندما وعى الغربُ ذلك، سارع يشدُّ عزيمته كي يحوِّل المسلمين جميعًا عن الإسلام، الذي أرادَهُ الله سبحانه وتعالى لعباده نورًا يهدي للَّتي هي أَقْوَمُ، معتمدًا في ذلك على وسائل وأساليب شتى منها: أن يعيد المسلمين فِرَقًا مختلفةً متنابذةً متقاتلةً. وها نحن نرى كيف يُثير هو وعملاؤه النعرات المذهبية بين السنَّة والشيعة حتى يشغلهم عن دينهم، ويبعدهم من حقيقة إسلامهم التي هي سرُّ نهضتهم، وأساس تقدمهم. ومنها: أنه يبارك كل جماعة منحرفةٍ عن العقائد الإسلامية وأركان الإسلام، داعية إلى التحرر من أواصر الدين واتِّباع الغرب في إلحاده وبُعده من الدين. ومنها: إقناع المسلمين بأن الصوفية القديمة هي قمة الإسلام، وأن الصوفيين أمثال الحلّاج والبسطامي والجنيد وغيرهم هم الصفوة الخالصة التي اصطفاها الله سبحانه وتعالى لنشر دينه وحمل دعوته.
كما أن منها التركيز في استثارة كلِّ حساسية، وتحريك كلِّ ذوي عقيدة وكلِّ ذوي عنصرية، للتكتُّل والمطالبة بالأرض الخاصة، والوطن الخاص، والقومية الخاصة، ممَّا نشر الفتن والاضطرابات في سائر أرجاء المعمورة، وأثار الحروب في كثير من أجزاء العالم، واستثار روح التعصب والبغضاء بين الناس بشكل يُخجِل العلم والحضارة الحديثة التي يتبجَّح بها ويتغَّنى بها المتغنُّون. وقد ظهر أنَّ حضارته حضارة سخيفة تدوس كرامة الإنسان، وتدفع حَمَلَتها للكذب على أنفسهم وعلى غيرهم، حين يدَّعون المدنيَّة قولًا ويمارسون الوحشية اللئيمة فعلًا، بُغية تحقيق استعمار الأنام، وتمزيق الإسلام، لأنه هو المقصود الأولُ والأخيرُ بالذات والصفات، ومن دون أيّ عقيدة أخرى.
فالغرب الذي تتعامل معه أكثر البقاع الإسلامية، بل أكثر الدول العربية المسلمة، عدوٌّ للإسلام. ولعلَّه أكثر عداوةً وصليبيَّة من الشرق الملحد الكافر الذي يكيد له، ويزيد في تغذية روح الإلحاد. لأن هذا وذاك يعرفان أن الإسلام ـــ وحده ـــ هو الذي يجمعنا على كلمة التوحيد، ويؤلِّف بين قلوبنا ويجعلنا إخوانًا ذوي قوةٍ تعمل لخير الإنسان ـــ أيِّ إنسان ـــ ويعيدنا كما كُنّا [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، يوم رفرف عَلَمُ دينها الحقِّ على مشارف أقاصي المعمورة، عندما كانت تحمل الدين بقلوبها وسوطَ التحذير بيمينها، وكتابَ الله بين يديها، قائلةً للناس جمعاء: [هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ]، (فِيهِ تِبيانُ كُلِّ شَيْءِ) وفيه النِّظام الكامل للمعاش والمعاد [لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا]، ويومها كنَّا فاتحين ومعلِّمين وهادين ومرشدين، ومنظِّمين عادلين، وصَفَعْنا بهدي كتابنا الكريم الظُّلمَ والظالمين، وكنَّا رحمةً ونورًا للعالمين على أيدي سلَفنا الصالح من الذين كانوا هُمُ الصفوة الممتازة التي اصطفاها الله سبحانه وتعالى للقيام بنشر هذا الدين العظيم.
إن اهتمام المستشرقين بالتصوف القديم هو أصدق الأنباء عما يبيِّتون للإسلام من نوايا سيّئة، وما يرمون إليه من وراء هذا الاهتمام الخبيث من تخريب لعقيدة المسلمين، وإضعافٍ لإيمانهم بدينهم الحنيف.
لقد كان ما كان، ودخل على التصوّف ما دخل من الفلسفات الإلحادية والعقائد المناهضة للإسلام، ومن الطرائق وأساليب العمل التي أوصلت المسلمين إلى التخلف الشديد، والانحطاط الفكريّ الرهيب.
وقد وجد هؤلاء المستشرقون اليوم، ومن ورائهم الغرب بمخطّطاته، في التصوف ومشايخه ضالّتهم المنشودة، لتشويه الإسلام، وصرف المسلمين عن معتقداتهم الصحيحة. فراحوا يكتبون الأبحاث المستفيضة حول التصوف، وينشرون آثار مشايخه وأقطابه محقّقةً مدقّقة، كل ذلك لإحياء هذه البدع، ودفع الناس البسطاء إلى الإيمان بها على أنها هي جوهر الإسلام، بل هي الإسلام الحقّ، وما عداها ليس إلّا طقوسًا جوفاء وعبادات فارغة.
وبذلك، كان التصوف هو المعول الهدام، في أيدي الغرب المستعمر ومستشرقيه اللؤماء، الذي فتك بالمسلمين والإسلام فتكًا ذريعًا.
ثم رفع الغرب، بالإضافة إلى دعوته الباطنية من خلال التصوف القديم، شعاره المعروف «فرِّق تسد» وفرَّقنا فعلًا، وسادَ فعلًا. ثم تنبَّه الآن إلى أن سيادته أوشكت أن تتوارى فوقف وقوف المسعور يعمل بكل طاقاته، ويوزع الأسلحة والموت والدمار هنا وهناك.
من أجل ذلك كله نطرح على أنفسنا هذا السؤال المهمّ: أين تقع الصوفية في القرن العشرين من مشكلات هذا العصر، وممّا يتخبط به المسلمون، وهل آن أن تظهر الحقيقة بأنَّ ما فعله الغرب في السابق، وعبر حقبات تاريخية مظلمة، لم يعد مقبولًا اليوم، عند جميع المسلمين، مهما كانت مذاهبهم، ومهما تعددت طوائفهم أو جماعاتهم؟
المهم أن نبيِّن أولًا أننا جميعًا عُدنا لنكون مع إسلامنا الصحيح من خلال الكتاب والسنَّة، ثم أن نبرز دعاةً للعودة إلى حظيرة الإسلام الصحيح، لأنه وحدَه طريقنا إلى الخلاص من كل الشوائب والأدران، ومن كل عوامل الضعف والتخلُّف.
ونحن في دراستنا هذه، قد سرنا مع أعلام المتصوفين عبر التاريخ سيرًا وئيدًا، فكنّا نبحث آراءهم ومعتقداتهم بتجرد، ونركِّز في سلوكهم تركيزًا دقيقًا. وحلَّلنا ما قرأنا ودرسنا، وما سمعنا وشاهدنا، من خلال ما استطعنا أن نحصل عليه من مؤلفات أو نشرات مؤيدة أو مخالفة لعقائدهم، تحليلًا يهدف إلى التقصِّي عن حكم الكتاب والسنّة، لأنه هو الحكم الذي يجب أن يقوم وأن يسود، لذلك كان لا بدَّ من الوقوف على آراء أهل التصوُّف في أواخر القرن العشرين، وإبراز نظرتهم إلى أهمّ المعتقدات الصوفية، وليس جميعها، وكذلك نظرتهم إلى الأساليب التي لا تزال متبعة عند معظم الصوفيين كالذِّكر والموالد والشعارات وغيرها. وقد تبيَّن لنا من خلال ما كتبه الأستاذ جمال بدوي، وما ردَّ عليه شيخ مشايخ الطرائق الصوفية في مجلة (آخر ساعة) بعضٌ من آراء الصوفية المعاصرة، التي تتوافق مع الإسلام، وترفض البدع والأساليب الموروثة، التي كانت أهمَّ عوامل الانحطاط الفكري والخلقي عند بعض الجماعات الإسلامية.
وها نحن الآن نكمل الشوط، مع بعض روَّاد الصوفية في مصر، ملتزمين بخطنا الإسلامي في تصحيح المفاهيم، إرضاءً لله تعالى ولرسوله الكريم.
يسأل الأستاذ محمد زكي إبراهيم، رائد العشيرة المحمديَّة، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وشيخ الطريقة المحمدية الشاذلية عن معنى التصوُّف، ومَن الصوفيّ، ويجيب بقوله:
«المقصود بالتصوف الإسلامي (وكنا نفضل أن يقول: التصوف في العالم الإسلامي، لأنه ليس في الإسلام تصوُّف في نظرنا) التخلي عن كل دنيٍّ، والتحلي بكل سَنِيٍّ، سلوكًا إلى مراتب القرب والوصول. فهو إعادة بناء الإنسان، وربطه بمولاه، في كل فكر وقول وعمل ونيَّة، وفي كل موقع من مواقع الإنسانية في الحياة العامة». ثم يضيف قائلًا: «ويمكن تلخيص هذا التعريف في كلمة واحدة هي (التقوى) في أرقى مستوياتها الحسية، والمعنوية. فالتقوى عقيدة، وخُلُق. فهي معاملة الله بحسن العبادة، ومعاملة العباد بحسن الخلق. وهذا الاعتبار هو ما نزل به الوحيُ على كل نبيٍّ، وعليه تدور حقوق الإنسانية الرفيعة في الإسلام. وروح التقوى هو (التزكي) [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى] (الأعلى: 14) [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا] (الشمس: 9).
ثم يزيد على ذلك قائلًا: «هذا هو التصوف الذي نعرفه، فإن كان هناك تصوف يخالف ذلك، فلا شأن لنا به، ووزره على أهله، ونحن لا نسأل عنهم (فكل امرئٍ بما كسب رهين). والتصوف شيء، والصوفيّ شيء آخر».
وعن الاختلاف في تعريف التصوف، يرجع الأستاذ بنظره إلى منازل الرجال في معارج السلوك، إذ ترجم كل واحد منهم إحساسه في مقامه. أما الاختلاف في تحديد مصادر التصوف، فيراه دسيسة من دسائس أعداء الله. فما دام التصوف ربيب الإسلام، فهو عبادة وخلق، ودعوة، واحتياط، وأخذ بالعزائم واعتصام بالقيم الرفيعة. وهذه المعاني هي من صميم الإسلام. ومن قال بخلاف ذلك فقد غلط، إذ نظر إلى هذا الركام الدخيل على التصوف من المذاهب الشاذة، أو الضالة، ولم ينظر إلى حقيقة التصوف. والحكم على الشيء بالدخيل عليه غلط أو مغالطة، والحكم على المجموع بتصرف أفرادٍ انتسبوا إليه صدقًا أوكذبًا ظلمٌ مبين. إذ ليس من المعقول أن يترك المسلمون إسلامهم لشذوذ طائفةٍ منهم تشرب الخمر، أو تمارس الخنا، أو تحلِّل ما حرَّم الله!!!
أما عن الصوفيّ فيقول شيخ الطريقة المحمدية الشاذلية بأنه «المسلم النموذجيّ، لأن أئمة التصوف كافة أجمعوا على أن التصوُّف هو الكتاب والسنّة في نقاء وسماحة واحتياط، وشَرَطه أئمة التصوف في مريدهم أخذًا من قوله تعالى: [وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79).
وفي التفريق بين الصوفيّ، والمسلم، والمؤمن، والتقيِّ، يُعدّ أن الإسلام شرَّع لنا تعريف الناس بخصائصهم، وذكرهم بما يميِّزهم من غيرهم. فقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم المهاجرين والأنصار، وذكر من المسلمين الخاشعين، والقانتين، والتائبين، والمتصدِّقين، والعابدين، والسائحين، وغيرهم. كما أن النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ميَّز بلالًا الحبشيَّ، وصهيبًا الروميَّ، وسلمان الفارسيَّ، بألقابهم. ولهذا فإنَّ ذكر إنسان بخصيصةٍ عُرف بها عند الناس سنَّةٌ قرآنيةٌ ونبويَّة. وما دامت الصوفية قد عرفت باسمها لسبب أو لآخر، فليس بدعًا أن تدعى بهذا الاسم.
ويرى الدكتور محمد سعاد جلال: «أن التصوف الحقيقي الذي كان عليه سلف الأمة خصوصًا في أواخر القرن الأول والثاني، قبل أن تدخل عليه المخالطات الهندية، والشوائب المجوسية والمسيحية التي دخلت على أفكار المسلمين مع دخول الفلسفات الأجنبية إليهم، كاليونانية وغيرها. إنَّ هذا التصوف الحقيقي الذي خلا من هذه الأوضار، كان محض العمل بكتاب الله وسنَّة رسوله، مع الأخذ بمزيد من الزهد في الدنيا، والإعراض عن شهواتها، وفزع النفس من الخضوع لِلَذَّاتها، وتطهيرها من الرعونات البشرية. كان هذا السلوك المثاليّ في العلاقة مع الله هو ما يسمى (التصوف)». ويضيف الدكتور جلال قائلًا: «ثم ابتدعت بعد ذلك أنماط خبيثة من العقيدة والعمل، سمّيت بالتصوف، كوحدة الوجود التي قال بها بعضهم، واقترنت بها عمليات الطبل والزمر، وكل ذلك باطل وبدعة وإلحاد، وخروج على منهج الإسلام، وما يرى الآن من الطبل والزمر، وخلط ذلك بالمدائح النبوية، فهو امتداد لتلك الضلالات والجرائم، التي ظهرت في القرن الثالث، وتعاظمت في القرن السادس. فهي حرام قطعًا، ويجب العمل على إزالتها والله المستعان».
والصوفيّ كما يقول الشيخ محمد متولي شعراوي «هو الذي يتقرَّبُ إلى الله تعالى بفروض الله، ثم يزيدها بسنّة الرسول، عليه الصلاة والسلام، من جنس ما فرض الله تعالى، وأن يكون عنده صفاء في استقبال العبادة، فيكون صافيًا لله. والصفاء هو كونك تصافي الله فيصافيك».
ويُعدّ الشيخ محمد متولي شعراوي «التصوف رياضة روحية لأنها تستلزم الإنسان بمنهج تعبُّديٍّ لله، فوق ما فرضه، وهذه خطوة نحو الود مع الله».
ثم يوضح هذا الرأي بقوله: «والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: من أتاني يمشي أتيته هرولة.ولم يقل سبحانه جئته أمشي. ولو قالها لكان المشي بالنسبة إليه شيئًا كبيرًا، فما بالك بهرولة منسوبة لله. ومن هنا يدخل الإنسان في مقام الود مع الله، ومعنى أن يودَّه الله، أن يصافيه الرياضة والمقامات». ويضيف أيضًا: «وهكذا يمنُّ الله على هؤلاء المتصوِّفين ببعض العطاءات التي تثبت لهم أنهم على الطريق الصحيح. وكلما زاد العبد في عبادته زاده الله في ودِّه. ولا نستطيع أن نقول إن هذه الزيادات تصل إلى حد ما، لأن عطاء الله ليس له حدود».
وعن رأيه في التمايل أثناء الذكر يقول فضيلة الشيخ متولي الشعراوي: «لا مانع من التمايل أثناء الذكر، إذا كان هذا التمايل نتيجة لغلبة الوجد عليه. أما إذا كان هذا التمايل مفتعلًا فهذا لا يليق».
ويتابع قائلًا: «والذكر جائز في أي حال [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]» (آل عمران: 190 ـــ 191).
ثم يضيف: «ولا ريب أن في الذكر راحةً نفسيةً، وهدوءًا للأعصاب. وعلى كل حال فالذاكرون وإن تمايلوا، فهم خير من الذين يتمايلون في حانات الرقص ونحوها»!!!
وعن مصادر التصوف وإرجاع أصوله الأولى إلى البوذية، والمجوسية، والرهبانية وغير ذلك تُجمع الآراء الحديثة تقريبًا على نفيها.
فالأستاذ محمد زكي إبراهيم يقول: «لا أعرف أن الكتاب والسنّة قد نقلا عن المجوسية، والبوذية، والرهبانية شيئًا أبدًا. أما إذا كان المراد تلك الفلسفات الأجنبية عن العقيدة والشريعة، فهذه لا علاقة لها بتصوف أهل القبلة، على أن الذين اشتهروا بهذا الجانب الفلسفيّ ممن يُنسبون إلى التصوف عدد محدود، قد لا يجاوز العشرة، وسواء قبلت فلسفتهم التأويل والتوجه ـــ ولو من وجه ضعيف ـــ أو لم تقبل، فهؤلاء قد انتهى أمرهم نهائيًّا، وليس لفلسفتهم اليوم معتقِدٌ ولا دارس، وقد أصبحت كُتبهم بما فيها من الأفكار أشبه بنواويس الموتى، تُعْرَضُ ـــ إذا عرضت ـــ للزينة أو التاريخ والعبرة، فليس بين صوفية عصرنا من يرى رأيهم، أو يذهب مذهبهم، سواء على ظاهره، أو مع تأويله، هؤلاء كانت مذاهبهم شخصية، لا تجد طريقها إلى الجماهير لحاجتها إلى استعدادات وقابليات ومدارك، ومنطق لا يتوافر لدى الكافة»!!!
وهكذا فإن الأستاذ إبراهيم يُعدّ الحلّاج وابن عربي والجيلي، ومن حذا حذوهم، ممَّن نقلوا التصوف من العمل إلى المنطق والتنظير، هؤلاء ليسوا هم كلّ الصوفية، فهم لم يزيدوا على عدد الأصابع عند التسليم بأنهم شطحوا، أو تطرفوا، أو تغالوا، أو انحرفوا، فَهُمْ بشرٌ اجتهدوا، وما كتبوه قابل للتأويل، لذلك لا يقبل الاحتجاج بأمثالهم ومن ثم نسيان غيرهم أمثال الجنيد، والقشيري، والسلمي، وابن زورق، وابن عطاء الله، وأبو طالب، والهروي، والسهروردي، والغزالي، والسيوطي، والسنوسي، والدردير، وأمثالهم سلفًا وخلفًا.
على أننا في المقابل نرى بعض المحدثين يشيدون بالحلّاج وبابن عربي وأمثالهما، ويمتدحون بصورة خاصة عقيدة وحدة الوجود. ومن قبيل ذلك ما نجد في كتاب (المستشرقون والإسلام) الذي نقل صاحبه كلمة عن التصوف والصوفية لسفير أفغانستان الأستاذ صلاح الدين السلجوقي، نُشرت في مجلة الإسلام والتصوف بعددها الرابع عام 1960 يقول فيها: «وفي الإسلام بنص الآية القرآنية: [اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] (النور: 35) وبنص الحديث النبويّ: إنَّ الله خَلَقَ آدَمَ على صورته ، نرى في أول مرة طفلًا ينطق في مهده عن التصوف (هذا الطفل ذكره ابن عربي)، وله من تأملات القديسة «رابعة العدوية» النابغة التي هي فخر الإسلام وذخرٌ للتصوف، والتي ترقد محجوبة عن الناس إلى جوار سيدي عقبة في منطقة الإمام الليثي بالقاهرة، قريبة من زميلها المعروف «ذي النون» المصري، قدَّس الله سرّه الغزير. وبعد ذلك نرى تلك الفكرة مبوّبة ومفصّلة في آثار الشيخ محيي الدين بن عربي.
لكن التصوف الذي وصل إلى ذلك الحد، كان التصوف الأصلي، أعني وحدة الوجود الذي يقول بأن الوجود واحد، والوجود الحقيقي هو وجود الله، وباقي أنواع وأصناف وأفراد الوجود (Pontheism)، ظلًّا ومظهرًا، انعكاسٌ له.
فالصوفيّ في «وحدة الوجود» يقول: «الكل هو» أو كما يقول «مكنزي»: «هو الكلُّ، هو الله في السموات والأرض».
هذا ما يذهب إليه الأستاذ السلجوقي، ثم يضيف إلى ذلك قوله: «ولكن بعد زوال الفاطميين، وبعد مخالفة بعض العلماء أمثال العلامة ابن تيمية، حدث تدهور في التصوف، وبدأ العلماء والمتصوفة إنشاء مكاتب أقرب إلى قبول الفقهاء، وكثرت تلك المكاتب وتعددت المسالك والمشارب ودخلت فيه أشياء كثيرة، وقامت في كل بلد وحيّ حلقات، لكل حلقة ميزاتها».
ويتابع قائلًا: «وأما التصوف، بمعنى الكلمة، فعبارة عن «وحدة الوجود» الذي انقرض حاليًّا من الغرب، وتسرَّب إلى المسلمين غير العرب وبخاصة في الشرق الأوسط، وفي الهند. وأكثر العلماء والكتّاب والشعراء في تركيا وإيران وبخارى ولا سيما أفغانستان والهند اعتنقوا هذه الفكرة. وحتى أبو علي بن سينا في آخر إشارته، والإمام الغزالي في آخر حياته، مالا كثيرًا إلى تلك الفكرة. وفي القرن السادس للهجرة عمَّت هذه النظرية جميع الشرق الإسلاميّ، ونرى آلافًا أمثال مولانا «جلال الدين الرومي» والشيخ شبستري وفريد الدين العطار والجامي والسادات والحافظ والعراقي وبيدل، يعتنقون هذه الفكرة، وحتى بعض الفلاسفة (أمثال القاضي مبارك وغيره) صبغوا أفكارهم الفلسفية بهذه الصبغة.
فالقاضي مبارك يشبه الوجود المطلق بالكليّ الطبيعي، ويشير إليه الخاقاني الشاعر الكبير في القرن الخامس للهجرة أي قبل القاضي مبارك بخمسة قرون. وتسربت هذه الفكرة إلى أوروبا في أغلب الظن من العرب، ولا سيما في الأندلس موطن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، فسبينوزا الصوفيّ الكبير، بل أكبر الصوفية بين فلاسفة الغرب، كان من أصل أندلسيّ، واعتنق تلك الفكرة بأجمل صورة وأعمق نظرة، فآثاره كانت الملهمة للشعراء أمثال «جوته»، و«هيتي» الألمانيَّين و«رود زورت» الإنجليزي، كما كانت الملهمة لمثالية الألمان».
ويتابع أيضًا: «يقول بعض الفقهاء إن هذه الفكرة حلولية وتناسخية، لكن وحدة الوجود بريئة من الحلول والتناسخ اللَّذين في كل منهما تفاوتٌ وانتقال. في حال أن وحدة الوجود إشعاع وتجلٍّ وانعكاس. فالمنشأ القدسي والنوراني لا يزال يتقد ويشعشع، والكائنات الحية وغير الحية تقتبس نور الحياة وحفظ التركيب بحسب استعداداتها من ذلك المركز المشع الفاعل الأقدس السرمديّ بوحدةٍ في الوجود واقترانٍ في الشؤون والتعيينات.
فالوجود الحقيقي هو مركز الإذاعة، إذاعة الحياة والشعور، في حال أن جميع الوحدات الآخذة من الكائنات لا تزال تستمد الإشعاع والإذاعة من المركز مع وحدة الروح والإشعاع ولوازمها في الآخذ والمأخوذ منه.
وبعبارة أخرى إن الوجود الحقيقي هو كالشمس، المنبع الأصليّ للنور والإشعاع، وإننا كالذبذبات الإشعاعية المنبعثة من الشمس».
ويفرّق بين وحدة الوجود والوجودية بقوله: «ووحدة الوجود تختلف تمامًا عن الوجودية التي تنكر الضوء وتقرّ بالظل، وتُحلُّ اليقين والتشخيص محل الذات. وفرقٌ آخر هو أن الصوفيّ «أنانيّ» بنفسه العليا التي هي متَّحدة معنويًّا مع الله «ومحبة للغير» باتحاده مع الكون، لكن الوجوديَّ بأنانيته الفردية والغرائزية بعيدٌ كل البعد من الأصل والكون والمجتمع».
إلى أن يقول أخيرًا: «فوحدة الوجود فكرة قديمة، وحتى في اليونان توجد آثارها في ميداشي الهندية ولا سيما في Upedidh ابنى شاذر وفي أفيستا، لكن الشكل الحقيقي والطبيعي لهذه العقيدة وجد أولًا بصورة ابتدائية في اليونان، وبعناية أجمل في الإسكندرية عند ديونيوس. لكن الإسلام عمَّدها بماء أصفى، ونفض عنها غبار المادية، ووشحها بجواهر كريمة من الحب القدسيّ والسماويّ والعطف الإلهيّ نحو الكون من العلم العلويّ إلى السفليّ»!!!
ومن هنا تضاربت الآراء حول أهم عقائد الصوفية، التي نُعدّها المحور الذي يدور حولَهُ إيمان المسلم بعقيدة التوحيد القائمة على الشهادتين: لا إله إلَّا الله محمد رسول الله. فإن كان التصوُّف يدعو إلى «وحدة الوجود» أو إلى ما يسمى بالحلول والاتحاد، فهذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو ضد الإسلام ودخيل عليه يهدف إلى هدمه من قِبَل أعدائه، وهذا ما يقرُّه الأستاذ محمد زكي إبراهيم بقوله: «أما أن التصوف يدعو إلى عقائد الحلول والاتحاد والوحدة، فليس هذا هو تصوف المسلمين، بل هو تصوف أجنبيٌّ أعجميٌّ مدسوس، والمهتمون به نفرٌ معدود محدود انتهى أمرهم وليس لهم اليوم تابع ولا وارث». ويضيف قائلًا: «وإنما يقول الصوفية بنوع من الفناء فصله الشيخ ابن تيمية في (رسائله) بشيء من الإنصاف، وأشار إليه الشيخ ابن القيم في شرحه على كتاب الهروي. وشتان ما بين هذا والقول الفاجر بالحلول، والاتحاد، والوحدة المنكرة».
إذن، فالصوفية المحدثون (العشيرة المحمديَّة في مصر مثلًا) يقولون بنوع من الفناء، الذي يعبِّر عنه المهندس زكريا هاشم زكريا في كتابه (المستشرقون والإسلام) بالفناء عن النفس الذي يتحقق في المسلم الواصل إلى الله تعالى. وذلك بعد أن يقسم الصوفية السالكين إلى الله تعالى قسمَين: قسم سالك إلى الله تعالى مهتدٍ إليه بنور طاعته، والقسم الثاني هم الواصلون إليه سبحانه وتعالى، فَهُمْ ـــ عنده ـــ قد واجههم الحق، تبارك اسمه وجلّ شأنه، بأنواره بعد أن سلكوا السبيل إليه فجذبتهم أنوار مشاهدته إلى عين التوحيد ففنوا عن أنفسهم وكانوا لله لا لشيء دونه!!!
وهذا قول يجعلنا نتوقف متسائلين: إذا كنا ننفي الاعتقاد بوحدة الوجود فماذا يعني هذا الفناء كما ظهر التعبير عنه؟ وعندما يرى باحثٌ محدَث بأن السالك إلى الله تجذبه «أنوار مشاهدته إلى عين التوحيد» حتى يفنى عن نفسه، فهل هذا يختلف كثيرًا عن معنى «وحدة الوجود»؟!
ثم يتبلور هذا الاتجاه المحدث عندما يجري الحديث عن المحبة أي «محبة الحق لعبده التي يرجع معناها إلى مسارعة الحق تبارك وتعالى إلى كشف الحجاب الحائل بينه وبين عبده لينعم المحب بمشاهدته وقربه» كما يعبِّر عن ذلك المهندس زكريا، ثم يتساءل متحيّرًا بين أن يستقر على عدم الرؤية، أو على المشاهدة الكاملة، فيقول: «ولكن هل يشهده المحب أو يراه بنفسه؟ وأنّى للحادث أن يرى القديم؟ هذا محال. ـــ إذن ـــ فلا بد أن يراه به حال تحققه بمقام». وهنا يستشهد (للتدليل على فناء العبد في إرادة سيده) بما رواه البخاري من حديث قدسيّ: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ من أداء ما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، ومتى أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها».
ويعقّب على ذلك بعد أن يستند إلى الحديث القدسي بقوله: «نعم يشهد الحق بالحق في حال فنائه عن نفسه بربه إذ لا يشهد الله إلا الله. وقد عبَّر عن ذلك أحد العارفين بقوله:
إذا رأيت حبيبي بأي عين أراه
بــعينه لا بـعيني فلا يراه سواه
وقال آخر:
يا شاهد الذات منك الذات باديةٌ منها لها، فلأنت الجزءُ والكلُّ»
ويضيف المهندس الأستاذ زكريا قائلًا: «ومتى تم ذلك للعبد تبيَّن له أن ما كان مضافًا إليه من قبل من سمعٍ وبصرٍ وقوةٍ وإدراكٍ في حال حجابه إنما هو الله من حيث تنزُّله وظهوره، وللعبد إضافة وإسناد. وكان الظهور فيه بحكم القابل منه، ويخرج من حكم القيد البشري إلى حظيرة الإطلاق الصفائي لله فيدرك الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر الواقع. ولا أقول إنه يعلم كل ما يعلمه الحق، أو يدرك كل ما امتد إليه بصره، إذ إن ذلك محال ومتوقف على مدى استعداده وصحة فنائه في الله».
ويعطي مثالًا على ذلك قوله: «وقد تحقق بذلك بعض الصفوة من الأمة المحمدية، وظهر أثره في ما كان من أمر «عمر»، رضي الله عنه، وسارية، إذ يناديه عمر من على منبره بالمدينة ويسمعه سارية وهو بمصر. فإن لم يكن ذلك عن رؤية من عمر لم تحجبه فيها الكشافات الحسية والبعد الشاسع بين المكانين فكيف تكون إذن»؟!
ويعطي مثالًا آخر عن صحابي جليل آخر فيقول: «وما كان من أمر عثمان، رضي الله عنه، إذ دخل عليه رجل وكان قد نظر إلى امرأة في الطريق غير مَحْرَم فشاهد أثر المخالفة الشرعية على عينيه فقال عثمان: أيدخل عليّ أحدكم وأثر الزنا في عينيه؟ فيقول الرجل: أوَحْيٌ بعد رسول الله؟ فيقول: لا، لكنها بصيرة وبرهان وفراسة صادقة. فهو ينظر بنور الله فيه ولو لم يكن ناظرًا إليه بنفسه. وإذن، ففي الأمر قوة أخرى غير قوة البشر المحدودة التي لا ترى إلا إلى حد، ولا تبصر إلا ما كشفته الكشافات»!!!
ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أن الذي صرَّح به الأستاذ، هو الفناءُ الحقيقيُّ بذاته! وأنه هوالحلول بعينه! إذ لا فرق بالتحديد بين ما قاله هو وما قال السلفيُّون من الصوفيين الذين أقمنا عليهم النكير.
أمَّا أن الله تبارك وتعالى يكون سَمْع المطيع وبصره اللَّذين يسمع ويبصر بهما، ويكون يده التي يبطش بها، وأما أن المؤمن ينظر بنور الله، وأما أمثال ذلك من قوله جلَّ وعلا: يا عبدي أطعْني تكنْ مثلي تقول للشيء: كنْ فيكون، أما ذلك كله فقد انحرف به الأستاذ عن تفسيره الصحيح، وأَمالَه إلى ناحية عَضْدِ رأيه والتدليل على صدق تفسيره، ولم يلتفت إلى أن ذلك العبد المطيع لله، الذي لا يتحرَّك ولا يتنفَّس، ولا يتكلَّم إلَّا بما يرضي الله، سبحانه وتعالى، يكون سمعُه وبصرهُ ويدهُ، وجميعُ جوارحه، وسائرُ ما يدور في فَلَك تفكيره، يكون عاملًا في دائرة ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه. أي إنه إذا رأى، مهما رأى، ونظر أي شيءٍ نظر، فإنما تكون أوامر الله وحدها هي المسيطرة على نظره: تَصرِفهُ عن الآثام، وتشدُّه إلى الطاعات، وتقرِّبه ممَّا يُرضي ربَّه، وتُبعده عمَّا يُسخطه.. إذ إنَّ حواسَّه كلَّها تسير وفق موازين مقرَّرةٍ من عند ربِّه عزَّ اسمُه، لا يخرج فيها عن مقاييس الرضا والسُّخط قيد أنملة، لأن الله ـــ بأوامره ونواهيه ـــ ملأ بصره، وملأ سمعه، وقيَّد يده، وأَلجَم لسانه، فصارت جوارحه كلُّها تعمل وفق منهجيةٍ عقائدية ملءَ قلبه وملءَ فكره، فتَشغل كاملَ كيانه، وتسدُّ على هوى نفسه منافذ البروز والتحرّك. وصار الله تعالى مهيمنًا عليه بأوامره ونواهيه يصرف بصره عن الفسوق، ويسدُّ سمعه عن سماع الهُجر واللهو، ويكمُّ فاه ويعقل لسانه عن قول ما لا يرضيه، ويكبِّل يدَيه عن أن تضربا بغير حق، أو أن تدفعا غير باطل.
فعجبًا من ضربه مثلًا بقول عمر، رضي الله عنه، لسارية، وكأنه رأى عبر الأبعاد وما وراء المسافات الشاسعة وخلف الآفاق والتلال والوهاد، ونسي الحدس والفراسة والنظر البعيد. ثم صوَّر خليفة رسول الله، صلَّى الله عليه وآله وسلم، الثالث رضي الله عنه، يعلم الغيب الذي ما ادّعاه أحدٌ من الرُّسل والأوصياء، ونسي الفراسة وصدق الإلهام. وبعد ذلك قام يفسِّر هذين الفعلين تفسيرًا ساذجًا مختلفًا متباينًا، لا يقبله إلا البُسطاء من الذين ينظرون إلى الدين نظرهم إلى العقيدة التي تقوم على المعجزات وظواهر التخريف، في حين أن تفسير مثل هذه الظواهر ما عجز عنها العلم القديم، فضلًا عن العلم الحديث، الذي فلسفَ أمثالها في عناوينه النفسية والعقلية وبحوثه العلمية التعليلية والتحليلية، حتى كاد يبلغ بها وبغيرها تفسير ما استعصى على الأفهام عبر الأيام.
فينبغي لنا ألّا نسهو عن شيءٍ ممَّا يخصُّ الخلفاء الراشدين امتثالًا لقوله تعالى: [...وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] (الحجرات: 7 ـــ 8) ورسول الله، صلَّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «اتَّقوا فراسة المؤمن» وذلك ما أشار إليه الخليفة عثمان، رضي الله عنه، حين قال: «ولكنها بصيرة وبرهان وفراسة صادقة».
فهذه العقيدة بالفناء التي هي طريق الوصول إلى الله تعالى، هي نفسها عند بعض قدامى الصوفية وعند بعض المحدَثين كما يثبت للباحث، ولم نجد لها تفسيرًا حديثًا مميَّزًا يختلف عن الاتجاه الذي قال به المهندس زكريا هاشم زكريا في كتاب (المستشرقون والإسلام)، وهو الاتجاه الذي يؤدي إلى نوعٍ من وحدة الوجود، التي أنكرها، وينكرها المسلمون الصادقون.
ولن ننسى قضيةً مهمّة في التصوف، وهي ما يتعلق بالولاية، لأنها كانت مدار بحث وتركيز عند غالبية العلماء الصوفيين، حتى إنه لم يظهر مؤلِّف عن التصوف إلَّا كان للولاية والأولياء فيه نصيب كبير. ونحن لن نسترجع هنا مجمل الآراء حول هذه القضية التي يتضمن هذا الكتاب بحثًا خاصًّا بها، ولكن ما نشير إليه أن الاتجاه الصوفيّ الحديث ـــ كما يعبّر عنه الأستاذ محمد زكي إبراهيم ـــ يعتبر أن الأولياء هم عباد الله الصالحون، وعلى رأسهم الأنبياء، ثم يأتي بعد هؤلاء الأئمة من أمة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، و«الشرط في الوليّ ـــ وفق المفهوم الذي يقول به ـــ الإيمان، والتقوى كما جاء في الآية [الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ] (يونس: 63) ثم (الصلاحية) للنيابة عن حضرة المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، (وَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِـحِينَ). فالصلاح المقصود بمعنى الصلاحية التي تستوجب كفاية معيَّنة في الجوانب الثقافية والروحية، والذاتية والتعبدية، حتى يكون العبد أهلًا للتبليغ ووراثة النبوَّة وسيادة البشرية [كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105).
هذا مع ما يشير إليه من أن للولاية معاني شتى في القرآن الكريم، وفي الحديث الشريف وهي تدور حول أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان.
وعلى هذا فإن الأستاذ محمد زكي إبراهيم يقول: «والصوفية يعتقدون بحق أن الوليّ في الدنيا وليٌّ بخصائصه الروحية، ومواهبه الربانية. والخصائص والمواهب من متعلقات الأرواح ولا ارتباط لها بالأجسام البتة، فالوليّ حين يموت ترتفع خصائصه ومواهبه مع روحه إلى برزخه، ولروحه علاقة كاملة بقبره، بدليل ما صحَّ عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من أحاديث ردِّ الميت السلامَ على الزائر ومعرفته، وبتشريع السلام على الميت عند قبره، ومحادثته، صلى الله عليه وآله وسلم، لموتى القليب يوم بدر، كما وردت في عدة أحاديث ثابتة» ومن هنا يعتقد أنه جاء تكريم السادة الصالحين من أصحاب القبور عند الصوفية، بدليل أن النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وضع حجرًا على قبر عثمان بن مضعون، رضي الله عنه، وقال: «أتعرَّف به قبر أخي». وبدليل حديث عليٍّ، عليه السلام، بتسوية القبور المشرفة، مما يستدل به على جواز اتِّخاذ ما يدل على القبر، وعلى فضل صاحب القبر، بلا إغراق ولا مبالغة، رجاء استمرار زيارته، والدعاء له، والقدوة به، والصدقة عليه، وحفظ أثره. ومن هنا يقولون: «جاز نقل الميت من مكان إلى مكان أفضل، كما صحَّ في حديث جابر وغيره».
ثم يضيف إلى ذلك: «وهذا ما يختلف عن البدع في زيارة الأَضرحة ومنكراتها، لأن كلَّ بدعة هي نوع من الشرك. والمسلمون عندما قال بعضهم بالمنع من زيارة القبور فإنما كان مخافة العودة إلى الشرك. ولكن أثبت التاريخ والحقيقة أن أيًّا من الأضرحة ما عُبد من دون الله، ولا صلَّى مسلمٌ لوليٍّ ركعة، فتكون زيارة القبور إذن تذكيرًا بالصالحين للقدوة والاعتبار».
ومن الأمورالعملية في التصوف أيضًا الاحتفال بالموالد، وما يسمى بحلقات الذكر التي يحصل فيها الرقص والطبل والزمر والغناء. فإقامة الموالد معناها أحياء ذكرى المولد النبويّ الشريف بشروطه. وينطبق عليها حكم مشروعية إحياء ذكريات موالد أولياء الله جميعًا بشروطها المقررة أيضًا.
ويفسر الأستاذ محمد زكي إبراهيم هذا الاتجاه بقوله: «ولقد كان الملك المظفر (طغرل)، ملك (إربل) بالعراق، أول من احتفل بذكرى المولد النبويّ بموافقة الإمام أبي شامة والعلماء. ثم أخذ الفاطميون هذا الأمر وزادوا عليه حتى صار على ما هو عليه اليوم: فيه المقبول والمرفوض، والدليل الشرعيّ هو ما وجده العلماء من أن الله تعالى كرَّم يوم الولادة، ويوم الموت والبعث مرتين: مرة بلسان القرآن، وأخرى حكاية عن لسان عيسى عليه السلام. ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع، فلما سئل عن ذلك أجاب بأنه يوم مولده، ويوم أُنزل عليه الوحي أي إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يُحيي ذكرى مولده الشريف شكرًا لله تعالى بالصوم، وربما بما تيسَّر له من خير.
فإحياء الموالد سنَّةٌ نبويةٌ شريفة، وفيها تلاوة للقرآن، ومناسبة للوعظ والإرشاد، كما أنها تؤدي إلى قيام علاقات التعارف والتعاون على البر والتقوى، وعلى النفع والخير. فضلًا عن أن إحياء مولد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إنما هو فرحٌ برحمة الله الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين، كما أنَّ ما جاء به الرسول العظيم هو النعمة العظمى، فإحياء ذكرى مولده بشروطه نوع من شكر النعمة، وهو واجب قرآني صريح، وفيما عدا ذلك مما اندسَّ في هذه التجمعات من المفاسد الخلقية والدينية والاجتماعية وغيرها، فالحكومة، والصوفية الرسمية، والجمهور، هم المسؤولون جميعًا عنها في الدنيا والآخرة. وهو شيء عمّ وطمّ، وأورث الهمّ والغمّ».
أما فيما يعود إلى حلقات الذكر وما يُستخدم فيها من الرفض، والطبل والزمر، فهي ليست من دين الله أبدًا، بل هي دخيلة عليه. بل هي من الدسيس الذي تسلّل إلى التصوف فأفسده، وأساء إليه. ويستشهد رائد (العشيرة المحمدية) في مصر بما ينقل الشيخ (ابن الحاج) في (مدخل الشرع الشريف): «قلنا: وقد عاب الله نحو ذلك على المشركين من قبل فقال: [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً] (الأنفال: 35) لأنهم كانوا يطوفون ويتعبَّدون تصغيرًا وتصفيقًا!!! وهما من لوازم الطبل والزمر!!! والرقص!!!».
ويضيف قائلًا: «إن الرقص، والطبل، والزمر، لا شك هو لهوٌ ولعب، فإذا اتَّخذناه دينًا كان افتراءً على الله، وهو تعالى يقول: [وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا] كما هي آيتي (الأنعام والأعراف) والله لا يأمر بترك شيء هو قربة إليه، فإذا كرر الأمر كان معنى هذا أنه شيء نغضب له غضبًا مضاعفًا لما فيه من تعدٍّ عن حدوده تعالى، وعلى حدوده. يقول شاعر الصوفية:
يــا عــصبةً ما ضرَّ أمة أحمدٍ وسعى على إفسادها إلَّا هي
طارٌ، ومزمارٌ ونغمةُ شادنٍ أتكون قَطٌّ عبادةٌ بملاهي؟!
ويتابع قائلًا: ولوجه الله، وللحق في ذاته ـــ ورغم ما أصابنا ولا يزال في سبيل التجديد والإصلاح الصوفيّ ـــ نقرر أن مشيخة الطرائق الصوفية المعاصرة أصدرت عدة منشورات تنهى فيها عن هذا العبث، ولكن هناك أهواء، وخلفيَّات، ومواريث، ومصالح، ونوعًا من الجهلوت المستحكم، والاقتدار بل الإصرار على المخالفة، كل ذلك يقف دون التنفيذ الواقعي لهذه المنشورات، حتى كأنها لم تكن، ولكن لا بد لهذا الليل من آخر».
ويقول شاعر صوفيّ آخر ينكر هذه الأعمال على جماعته:
أقـــالَ اللهُ: صَــفِّـــق ْ لـــي وغــــنِّ وقُلْ هُجرًا وسَمِّ الْهُجر ذكرا؟
ليس التصوف لُبسَ الصوف تخلعه ولا بــكاؤك إنْ غنّـــى المغنُّونا
كما نضيف هنا أيضًا بأن الدول الاستعمارية العدوة للإسلام تريد من المسلمين أن يعقدوا حلقاتٍ للذكر تقوم على الرقص والتمايل، وعلى الطبل والزمر، عوضًا من أن يعقدوا حلقات للدراسة، وحلقات للبحث في أمورهم وشؤونهم، من أجل إيجاد السبل الكفيلة بوضع أسس لعمل إسلاميّ جادٍّ تنهض به الأمة، وتحقِّق به إعلاء كلمة الله. فهل عقل المسلمون ذلك، وتركوا تلك المظاهر الباطلة لينكبوا على حلقات التدريس والتدارس، والثقيف بمنهجية الإسلام فكرًا وعملًا؟!
ثم إن الغربيين وجميع أعداء الإسلام يريدون أن يظلَّ المسلمون منكبِّين على مثل هذه التوافه، ليصوِّروهم وهم في نشوء حلقات الذكر، ولينقلوا صورهم إلى شعوبهم، كي يُظْهروا على شاشة التلفزيون سخف المسلمين، ومدى تخلفهم. تلك الصور التي تشمئز منها النفوس وتنفر منها الطبائع، إذ يظنُّون أنَّ هذا هو الإسلام، وأنَّ هذه هي أجلى مظاهره وأعلى مراتب طقوسه التعبُّدية. إلى جانب أنهم يُنسون ـــ بذلك ـــ شعوبهم أن الإسلام دين ونظام حياةٍ وطريق معاش ومعاد، ثم يُضلُّون الشعوب المسلمة عن حقيقة الدين بتشجيع أمثال هذا اللهو الباطل الذي يسيء إلى الدين والمتدينين. فهل آن لنا أن نستوعب ركضهم وراء حلقاتنا ليصوِّروها تصوير من يحبِّذها ويشجعها كسياسة إلهاءٍ عن روح الإسلام وما جاء به لصلاح الإنسان والنظام؟
بقي أن نشير إلى التدرج في التصوف، كما لا يزال قائمًا ومعروفًا عند الصوفية، فهم يُعدّون كما يورد ذلك صاحب كتاب (المستشرقون والإسلام):
1 ـــ «إن الله تعالى إذا أنار بصيرة العبد، شوَّقه إلى الدخول في طريق الصوفية. وهذه هي الدرجة الأولى من درجات التصوف، ويسمى العبد فيها «مريدًا».
2 ـــ «وإذا اندمج العبد سامعًا مطيعًا، وترسَّم خطى الطريق، سُمِّي في هذه الحالة «سالكًا».
3 ـــ «وإذا جدَّ العبد واشتغل بالعبادة، وراض نفسه، وأقبل على الله تعالى إقبالًا شديدًا، سمِّي في هذه المرحلة «عاشقًا».
4 ـــ «وإذا وضع العبد هواه تحت قدميه، وطرد من باطنه الأماني والرغبات الدنيوية كافة، سمِّي في هذه الحالة «زاهدًا».
5 ـــ «فإذا صفت نفس العبد ورقّ شعوره، وحصلت له أذواق وجدانية يفهم منها ما لا يصل إليه العقل من الأسرار، وصل في هذه الدرجة إلى مقام «المعرفة».
6 ـــ وإذا استمر على هذه الحالة وواظب عليها تواردت على قلبه النفحات، فتزداد معرفته بصفات الذات العليَّة، فيصل في هذه الحالة إلى مقام «الحقيقة».
7 ـــ «وإذا استمر وواظب على الحالة السابقة وصل إلى مقام «الفناء»، ومعناه فناء العبد عن نفسه في الله تعالى فتمحى كل الموجودات أمامه فلا يرى إلَّا الله».
8 ـــ «وبعد هذه الدرجة يصل العبد إلى مقام «اللقاء» ويسمونه مقام «الوصول»، ثم يتابع قائلًا: «فهذه هي درجات التصوف، كما تشير إليه تعبيرات القوم رضي الله عنهم ورضوا عنه. وأنت ترى أنها مبنيَّة على سلوك العبد واجتهاده في تخليص نفسه من ذل الخضوع للأهواء وإلحاقها بالمقام الأسنى والعز الأسمى»!
هذه هي في نظرنا الموضوعات التي حاولنا إبراز رأي المحدثين من أهل التصوف فيها. وقد ظهر جليًّا أن نظرتهم تتوافق مع كتاب الله وسنّة رسوله في غالبية المواضيع. وهذه إيجابيات مهمّة جدًّا، لأنَّ التصوّف ـــ منذ وجد ـــ ما كان فيه إيجابية إلَّا ومردُّ الإيجابية فيه إلى الإسلام، لأنَّه توخَّى في الأصل خدمة الإسلام وأهله. وها هي اليوم آراء روَّادهم، ومشايخ طرائقهم، تدلُّ بما لا يقبل الجدل على مدى تعلقهم بمفاهيم الإسلام، وحرصهم على هذه المفاهيم بعيدةً من الشوائب والمغالطات، ولا سيما عن فلسفات بعض الصوفيين القدامى التي تقول بالحلول والاتحاد والوحدة وما إلى ذلك.
من هنا نخلص إلى أن التصوف على أيدي هؤلاء المجددين هو تصوف أقرب إلى الكتاب والسنّة لأنه لم يعد ذلك التصوف الذي يقوم على الجوع وقهر النفس والحرمان، ولا على التواكل والتخاذل والانصراف فقط إلى العبادة المضنية، وترك الأهل والديار، والتنقل في البراري والقفار، ومعاشرة الوحوش والهوام، وكل ما كانوا يطلقون عليه في القديم اسم المجاهدات والرياضات النفسية التي تتوخى عذاب النفس والجسد في آن، كما أنَّ التصوف بات خاليًا من «الشطحات» الخياليّة التي أدت بأصحابها إلى الكفر فعلًا، لأنَّ من يقول عن نفسه بأنَّه هو الله هو كافر بلا ريب!
هذا وإن معظم أهل التصوف المدركين يرفضون الأساليب الشاذة مثل الرقص، والطبل، والزمر، بل يُعدّون أنَّ هنالك مفاسد ترافق بعض الاحتفالات التي تقام بمناسبة أو بأخرى من المناسبات الدينية. وهم ينظرون إلى زيارة الأضرحة بقبول، شرط أن تكون الزيارة ضمن الحدود الشرعية وفقًا لما أُثِر عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعيدًا من كل ما جاء عند غلاة الصوفية وأتباعهم.
على أن هذه النظرة الجديدة لا تزال غير متوافقة مع الإسلام في بعض الأمور: فمفهوم الفناء المطلق ـــ مثلًا ـــ الذي يتدرج فيه العبد للوصول إلى الله تعالى، والفناء في ذات الله. إن هذا المفهوم للفناء ليس من الإسلام في شيء، والإسلام لا يرضاه لأصحابه أو القائلين به، ونحن نطالب كل مدرك ومنصف الرجوع عنه حتى يبقى للتصوُّف وجهه المتجدِّد، فيكون أحد السبل الإسلامية الهادفة إلى خير المسلمين جميعًا.
فيا أيها المسلمون:
ألستُم خيرَ أمةٍ أخرجت للناس، بشهادةٍ من رب العالمين نطق بها كتابُهُ المبين؟ هل استحققتم هذا الشرف الرفيع، وتبوَّأتم هذه المكانة العالية، لو لم يسبق في علم الله تعالى أنكم مؤهلون لحمل الإسلام، والدعوة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال قرآنكم المجيد، وعلى هدى رسولكم الكريم؟
فما بالكم طويتم تراثكم التليد، وتهالكتم على الدنيا وزخرفها، وتماديتم في الإخلاد إلى الدَّعة وحبِّ العيش، حتى ضعفتم وشمت بكم عدوكم، وأسلمتم بالتالي أقدس الواجبات وأحقّها إلى عالم النسيان والإهمال؟
ها أنتم اليوم وقد غدت مصائركم عرضة للأخطار، تتقاذفها الأنواء من كل جانب. فإلامَ ذلك، وإلى متى تبقون على هذه الحالة؟
ألم يأن أنْ تهبّوا من رقاد الغفلة، وتنفضوا عن بصائركم غشاوة الوهم، حتى تعود أنوار الإيمان لألاءَة في قلوبكم، وتشرق شموس الصفاء في سمائكم؟


أيها المسلمون:
أنتم اليوم بالنسبة إلى بقية الأمم ما زلتم خير أمةٍ بوّأها الله تعالى تلك المكانة السامية، ومنحها ذلك الوسام الرفيع، بما تعرفون من كتاب الله وسنّة رسوله. فما بالُكم تغيَّرت بكم الحال فصرتم لا تأبهون إلا للدنيا وزينتها والاهتمام بمتاعها الزائل، وتقاعستم عن واجبكم المقدس من حمل رسالة دينكم القويم كما حملها أسلافكم الأبرار إلى أقاصي الديار ومختلف الأمصار؟
فمتى تصْحون من كبوتكم، وتنظرون إلى ما صرتم إليه، وكيف غدوتم من الأمم الضعيفة المستضعفة، المهزومة فكريًّا ونفسيًّا، الراضية بأوضاع لا يقبلها دينُكم القويم أبدًا؟! أيجوز لكم أن تصلوا إلى هذه الحال وبين ظهرانيكم كتاب الله، قرآنٌ كريم مبينٌ، يفصِّل الآيات لقوم يعقلون؟
عودوا إلى كتاب ربِّكم، وتمسكوا به وتدبَّروه، فهو خير هادٍ، وخير مرشدٍ وناصح. وسيروا على خطى نبيِّكم، واقتدوا به، وخذوا عنه غير متجاوزين ولا عادين، وكونوا دائمًا قوَّامين بالقسط ولو على أنفسكم، ولا تنازَعوا أمركم بينكم فتفشلوا وتذهب ريحكم، ولا تتَّبعوا السُّبل فتتفرَّق بكم عن سبيله.
أيها المسلمون:
إن الدعوة إلى دين الله واجبٌ ملقى على عاتق الفرد المسلم، والجماعة المسلمة، فحتى نكون دعاة مخلصين، قادرين على تلبية أوامر الله تعالى، علينا أن نثقِّف أنفسنا، وأن نعرف إسلامنا، وأن ندرك ما فيه من قيمٍ ومثلٍ عليا، وما فيه من منهج للحياة يؤدي إلى أفضل العيش. فليعمل كلٌّ منَّا على أن يدرك الإسلام إدراكًا تامًّا، ثم يلقِّنه غيرَه صحيحًا صافيًا سليمًا، حتى يعمّ هذا الدين أرجاء المعمورة، فترتاح مما تتخبَّط فيه من المشاكل والاضطرابات.
إن دعوة المسلم الهادفة هي لإعلاء كلمة الله، ولا تتوخَّى في نهاية المطاف إلَّا رضوانه سبحانه وتعالى، لأن نيل رضاه عزَّ وجلَّ هوالغاية الكبرى بل غاية الغايات، والمثل الأعلى، ومنتهى الأمل والرجاء.
ولقد ركَّزنا بحثنا في هذا الكتاب على أن الأمل والرجاء هما في تصحيح المفاهيم الإسلامية تصحيحًا يتوافق مع حقيقة عقيدتنا التوحيدية، التي، إن شاء الإنسان أم أبى، تبقى العقيدة الحقة، لأنَّها هي وحدها العقيدة التي جاءت من عند الله تعالى.
ونحمد الله سبحانه وتعالى أن هدى فريقًا كبيرًا من أبناء هذه الأمة إلى الحق في هذا الزمن الذي استعجم فيه عن الحق كل شيء، ورضي لهم أن يعتصموا بعروته الوثقى وأن يستظهروا على الناس بحكمه سبحانه. وهم يستهلّون دعوتهم مجتمعين على ما هداهم الله إليه وقد أنبتهم سبحانه في أرضه الواسعة الرحبة، بعد قرون من الظلام والضلال، أول نواة صالحة يتجدد بها غرس المفاهيم الإسلامية الخالدة. وإنّا لنرجو الله سبحانه أن يأتيَ ذلك اليومُ الموعود، بإذنه تعالى، وقد استوى الغرس واستغلظ، وأينع ثمر الدعوة الإسلامية الجديدة الرشيدة.

والله ولي التوفيق




















المصادر
1 وفقًا للكتابة العربية القديمة يجري تقابل حروف الأبجدية بالأرقام على النحو التالي:
أ ـــ ب ـــ ج ـــ د ـــ هــ ـــ و ـــ ز ـــ ح ـــ ط ـــ ي ـــ ك ـــ ل ـــ م ـــ ن ـــ س ـــ
1 ـــ 2 ـــ 3 ـــ 4 ـــ 5 ـــ 6 ـــ 7 ـــ 8 ـــ 9 ـــ 10 ـــ 20 ـــ 30 ـــ 40 ـــ 50 ـــ 60 ـــ
(ع). ف ـــ ص ـــ ق ـــ ر ـــ ش ـــ ت ـــ ث ـــ خ ـــ ذ ـــ
(70). 80 ـــ 90 ـــ 100 ـــ 200 ـــ 300 ـــ 400 ـــ 500 ـــ 600 ـــ 700 ـــ
ض ـــ ظ ـــ غ.
800 ـــ 900 ـــ 1000.
2 الخديم: الخادم.
3 القُشبانية: الثوب البالي. البُردة الخلَق.
4 البَنْدَير: الطبل الكبير الضخم.
5 حديث موضوع.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢