نبذة عن حياة الكاتب
عالمية الإسـلام وماديـة العولمـة

الفصل الخامس - مفاهيم إسـلامية
المفهوم الأول: المشاكل الاقتصادية
المفهوم الثاني: المجتمـع
المجتمع الرأسـمالي
المجتمع الإسلامي
المفهـوم الثـالث: الحضارة والمدنية
المفهـوم الرابـع: العلـم والثقـافـة
المفهوم الخامس: الأمة
المفهوم السادس: القواعد التي تقوم عليهـا الأنظمـة في الإسـلام
المفهوم السابع: التنميـة ومقومـات الدولة

مفاهيم اسـلامية
المفهوم الأول: المشاكل الاقتصادية:
المشكلة الاقتصادية لا تكمن في فقر البلاد، وإنما في فقر الأفراد. فتكون المشكلة الاقتصادية ناجمة عن توزيع الثروة، وليس عن إنتاج الثروة. إذن فالمشاكل الاقتصادية تنحصر في اثنتين:
ـ مشكلة فقر البلاد وهذه إذا حصلت لا تحلّ إلا بالعمل على زيادة الإنتاج، أو بالتوسع في استثمار الموارد البشرية والطبيعية في البلاد، أو بالاندماج في بلادٍ أخرى. وحصول هذه المشكلة ليس حتمياً، فقد تحصل فتكون البلاد فقيرة، وقد لا تحصل فتكون البلاد غنية.
ـ ومشكلة فقر البلاد هذه لا تتعلق بوجهة النظر في الحياة، ولا تختلف باختلاف الشعوب والأمم، ولا تشكل مشاكل بين السكان.
ـ أما مشاكل فقر الأفراد فهي القائمة واقعاً، وذلك لوجود أشخاص غير قادرين على الإنتاج بسبب المرض، أو بسبب الكسل، أو بسبب العجز الذي يطرأ في الكبر. كل ذلك ومثله حتميّ الحصول في المجتمع. وكون الملكية أو حب التملك مظهراً من مظاهر غريزة حب البقاء(+)، فتسابق الناس على زيادة ملكيتهم أمر طبيعيّ، وذلك كله لا يخلو منه مجتمع، لأنه مركَّزٌ في طبائع الناس. وما دامت مشكلةُ فقر الأفراد أمراً لا مناص من حصوله فهي تحتاج إذن إلى حل، لا سيما وأنها تتعلق بوجهة النظر في الحياة، وتختلف باختلاف الشعوب والأمم، فأناس يرون أن الجزاء يجب أن يكون بقدر الجهد، فمن لا ينتج كان من العدل أن يكون فقيراً. وأناس يرون أن العاجز عن الكسب من الظلم أن يحرم من حق العيش، خاصة إذا كان عجزه ناشئاً عن عاهةٍ، أو ليس من فعل يده، ـ وحتى لو كان من فعله فلا يجوز أن يُترك ليموت جوعاً ـ ولذلك كان من العدل أن يُضْمَنَ له العيش. وكذلك فإن التنافس والتسابق على كسب المال، وهو أمر طبيعيّ، يوجد المشاكل بين الناس مما يؤثر على الأوضاع في المجتمع..
وعليه يمكن الجزم بأن مشاكل فقر الأفراد إنما هي ناجمة عن سوء التوزيع وليس من كثرة أو قلة الإنتاج.
والحلول لهذه المشكلة يمكن أن تكون على النحو التالي:
1 ـ ضمان إشباع جميع الحاجات الأساسية للفرد إشباعاً كلياً من حيث المأكل والمشرب، والملبس والمسكن.
2 ـ ضمان إيجاد فرص العمل لكل الأفراد، ومن ثم ترك الخيار لكل فرد في تحقيق إشباع حاجاته الكمالية وفقاً لجهده وكفاءته.
3 ـ توزيع الملكية، وفقاً للمفهوم الشرعيّ إلى ثلاثة أنواع: الملكية الفردية، الملكية العامة، وملكية الدولة.
* فالملكية الفردية هي حكم شرعيّ مقدَّر بالعين أو المنفعة، وتمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء، وأخذ العوض عنه.
* والملكية العامة هي إذن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين. وصفة الملكية العامة ثابتة في طبيعة المال وصفته، بغض النظر عن رأي الدولة. فينظر إلى واقع المال: فإن كان من مرافق الجماعة كساحات البلدة، وشواطىء البحار، والمراعي، أو كان من المعادن كالنفط والغاز، أو كان مِلكاً لا يدخل في الملكية الفردية.. في جميع هذه الحالات أو الأمثلة يكون المال ملكاً عاماً بصفته (كاستخدامه للعموم) أو بطبيعته (كالنفط) وذلك لقول رسول الله (ص) : «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار»(+). فقد حدد ماهية الملكية العامة وجعلها مرتبطة بطبيعة المال أو بصفته.
* أما ملكية الدولة فهي كل مال مصرفه موقوف على رأي رئيس الدولة واجتهاده، على أن يكون فيه حق لعامة المسلمين. كأن يكون للدولة مبنىً أو عقارٌ مسجلٌ باسمها، فيعود لرئيس الدولة كيفية التصرف فيه، على أن يعود نتاجه في النهاية للعموم.
والمال الذي لم يكن من أيٍّ من هذه الثلاثة الأخيرة: أي مالاً بطبيعته، أو مالاً بصفته، أو مالاً للدولة فيكون ملكاً فردياً، ولا يحق للدولة أن تملكه جبراً من صاحبه إلاَّ للمنفعة العامة، وبعد التعويض عليه تعويضاً عادلاً، لقول رسول الله (ص) : «لا يحل لامرىء أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه»(+).
المفهوم الثاني: المجتمع
خُلِقَ الإنسانُ وفي طبعه ميلٌ إلى التكتل، والتآلف مع بني جنسه، والتعاون معهم على ما يضمن البقاء والاستمرار، وبالتالي عمارة الأرض..
ولذلك كان اجتماع الناس مع بعضهم، ومنذ البدء، لحماية وجودهم من عوامل الطبيعة، ومن الأخطار المحيطة بهم. ثم راح الناس ينتقلون جماعاتٍ من مرحلة إلى أخرى، ومن كيان مجتمعيّ إلى كيان آخر، حتى نشأت المجتمعات بعناصرها وأسسها اللازمة لوجودها.
من هنا كان اجتماع الناس طبيعياً. إلا أن اجتماع الناس لا يجعل منهم مجتمعاً، وإنما يجعل منهم جماعة، ففرد مضاف إلى فرد أو أفراد يؤلفون جماعة. فإذا نشأت بين أفراد هذه الجماعة علاقات دائمة كانوا مجتمعاً، وإذا لم تنشأ بينهم علاقات دائمة ظلوا جماعة، ولا يشكلون مجتمعاً. وهذه العلاقات إنما تنشأ بدافع المصالح، بمعنى أن المصلحة هي التي توجد العلاقة. وما يُعيِّن أمراً من الأمور بأنه مصلحة أو ليس مصلحة إنما هي نظرة الإنسان إلى هذا الأمر، أي مفهومه عنه. فيكون المفهوم هو الذي أوجد العلاقة. وبما أن المفاهيم هي معاني الأفكار، فإن الأفكار هي التي تعيّن المصالح، وتوجد العلاقات. ولا بد من وحدة الأفكار حتى تكون هنالك وحدة في النظر إلى المصالح. على أن وحدة الأفكار وحدها لا تكفي، بل لا بد أن تكون معها وحدة المشاعر، بمعنى أنه لا بد من أن تتحد مشاعر الشخصين في النظرة إلى المصلحة حتى توجد العلاقة بينهما..
ووحدة الأفكار، ووحدة المشاعر لا تكفيان، بل لا بُدَّ أن تكون معهما وحدة النظام الذي يعالج به الشخصان، أو تعالج به الجماعة، المصالح، أي لا بد أن تتفق الجماعة على كيفية معالجة مصالحها حتى توجد العلاقة.
إذن فالعلاقات بين الناس لا توجد إلا إذا تحققت بينهم وحدة الأفكار، ووحدة المشاعر، ووحدة النظام.
ومن هنا كان المجتمع هو الناس وما يوحِّد بينهم من أفكار ومشاعر وأنظمة تجمعهم حول أهدافٍ موحَّدة وغايات مشتركة، وحول مصالح متجانسة مشتركة، وبحسبها تكون المجتمعات. ولذلك تختلف المجتمعات بين الناس باختلاف الأفكار والمشاعر والأنظمة لديهم، وباختلاف الأهداف والمصالح التي تجمعهم.
ومن هنا كانت المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون اليوم، في جميع أقطار العالم، مجتمعاتٍ غيرَ إسلامية، ولو كان الناس فيها مسلمين، لأن العلاقات القائمة فيها ليست مبنية على أفكار ومشاعر وأنظمة إسلامية. حتى البلدان التي لا يزال القضاء فيها يفصل في الخلافات حسب الأحكام الشرعية فإن المجتمع فيها غير إسلاميّ، لأنها تسيِّر باقي العلاقات بمفاهيم غير إسلامية.
فلا بدَّ أن تسيَّر جميع العلاقات حسب العقيدة الإسلامية وما ينبثق عنها من أحكام شرعية ومن أفكار ومشاعر وأنظمة حتى يكون المجتمع إسلامياً.
واستناداً إلى هذه المفاهيم فإنه يمكن التمييز بين المجتمع الرأسماليّ والمجتمع الإسلاميّ على النحو التالي:
1 ـ المجتمع الرأسماليّ:
إن الأفكار والمشاعر والأنظمة مبنية في المجتمع الرأسماليّ على الإيمان بالديموقراطية، التي كانت الأساس في نظرة الغرب إلى الحياة، وفي اعتقاده أن الإنسان هو الذي يضع نظامه. والديموقراطية، في المجتمع الرأسماليّ، مبدأ فرديّ، يرى أن المجتمع مكوَّن من أفراد، ولذلك كان الفرد هو محور النظام، وكان على المجتمع أن يحفظ للفرد أربع حريات أساسية هي:
1 ـ حرية الرأي: وهي التي تجعل للفرد حق إبداء الرأي، والمشاركة في تقرير الحياة العامة، ووضع خططها، وسن قوانينها، وتحديد السلطات العامة، وتعيين الحكام الذين يتولون هذه السلطات لإدارة شؤون الناس والمجتمع.
وقد انبثق عن حرية الرأي ما يعرف برأي الأكثرية، أي أن ما تقرره الأكثرية يُعْملُ به، سواء كان ما قررته خطأً أو صواباً، وهذا ما يعطي للديموقراطية مفهومها الشامل في بناء الحياة في الغرب على أساس ما تأتي به هذه الديموقراطية من نظريات، وأفكار وأنظمة أو غيرها مما تراه الأكثرية.
2 ـ حرية العقيدة: وتعني أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم، فلكل فرد في المجتمع أن يفكر وأن يؤمن بما يراه دون عائق من السلطة. وله أن يعلن عن معتقده، وأن يدافع عن وجهة نظره بكامل حريته. وله أن يعبد ـ فيما خص العقيدة الدينية ـ الله تعالى، أو أن يعبد غيره، فالأمر سيّان تجاه المجتمع، أو تجاه الدولة، لأنه لا علاقة لهما بمعتقدات الأفراد.
3 ـ الحرية الشخصية: وتقوم على حق الفرد في التصرف كيفما يشاء ما لم يكن في هذا التصرف اعتداءٌ على حريات الآخرين. وتصرف الإنسان هذا يأتي من نظرته إلى المثل العليا، باعتبارها القيم التي يضعها الإنسان لنفسه. والمثل الأعلى الذي ينشده الفرد في الغرب هو تحقيق السعادة، ووسيلتها الأساسية الأخذ بأكبر نصيب من المتع الجسدية، بل إن السعادة هي التي تولي الفرد كامل الحرية في التصرف لتحقيقها.
4 ـ حرية الملكية: وترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحر الذي قامت عليه سياسة الباب المفتوح، وتهيئة كل الميادين أمام الفرد في الإنتاج والاستهلاك. فلكل فرد ـ وللجميع على حد سواء ـ مطلق الحرية في انتهاج أي أسلوب، وسلوك أي طريق لكسب الثروة، وفقاً للمبادرة الفردية التي يمتلكها، من أجل تحقيق مصلحته الشخصية. وفي زعم أنصار مذهب الاقتصاد الحر أن قوانين الاقتصاد السياسيّ التي تجري على أصول عامة كفيلة بتحقيق التوازن الاقتصاديّ من جراء التنافس في السوق الذي يؤدي إلى تساوي المنتجين والمستهلكين. بل وهذا التنافس يكفي وحده لتحقيق العدل والإنصاف في شتى الاتفاقات والمعاملات والمبادلات الجارية في السوق.
2 ـ المجتمع الإسلاميّ:
وفقاً لتعريف المجتمع من أنه الناس وما ينشأ بينهم من علاقات أساسها وحدة الأفكار والمشاعر والأنظمة، ووحدة الأهداف والمصالح، فإنه يمكن القول إنّ المسلمين لم تتأمن لهم هذه المقومات إلاَّ عندما أقام الرسول (ص) نواة دولة إسلامية في المدينة المنورة، وأنشأ مجتمعاً إسلامياً قائماً على العقيدة، وعلى نظرة الإسلام إلى الحياة. وعندما أقام المسلمون دولة إسلامية في المدينة المنورة تكوّن مجتمعٌ إسلاميٌّ واحد متراصّ. ولما هدم الاستعمار الدولة الإسلامية لم يعد للمسلمين مجتمعٌ إسلاميّ، لأن المجتمع لا يوجد إلا عندما توجد الدولة التي تطبق النظام المنبثق عن العقيدة الإسلامية. وبعد أن هدمت دولة الخلافة عاد المسلمون أمة كما كانوا في مكة، وهم اليوم يناضلون ليعيدوا الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلاميّ كما كانا في المدينة المنورة.
في ذلك العهد كان في المدينة ثلاث جماعات:
ـ اليهود الذين كانوا يشكلون مجتمعاً خاصاً بهم قبل الإسلام وبعده. وقد حدَّد الرسول (ص) موقف المسلمين منهم، وحدد علاقاتهم مع المسلمين فيما كتب بين المهاجرين والأنصار من عهد ذكر فيه اليهود، فاشترط عليهم، واشترط لهم. ولكنهم أخلّوا بالعهد، وبذلك لم يندمجوا في المجتمع الإسلاميّ بل وأظهروا العداوة والبغضاء لهذا المجتمع، مما أدى إلى إخراجهم من المدينة المنورة.
ـ المشركون من الأوس والخزرج، الذين اجتاحتهم الأجواء الإسلامية، فاضطروا للخضوع في علاقاتهم للأفكار والمشاعر الإسلامية، وللنظام الإسلاميّ إلى زمن معين، حتى كان النصر للإسلام فدخلوا في هذا الدين، وصاروا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الإسلاميّ.
ـ المهاجرون والأنصار وقد جمعهم الإسلام وألَّف بين قلوبهم، فكانت أفكارهم واحدة، ومشاعرهم واحدة.
وقد بدأ الرسول (ص) بإقامة العلاقات بينهم على أساس العقيدة الإسلامية، ثم ربطهم برابطة الأخوة في الإسلام، فكان لذلك كله أثره البالغ في توحيد نظرتهم إلى الحياة، وانصراف كل منهم إلى القيام بعمله، وأداء واجبه بروح إسلامية.
وعلى تلك الأسس أقام الرسول (ص) المجتمع في المدينة، فكان مجتمعاً إسلامياً يطبق شرع الله تعالى في الأرض. بل كان المجتمع الوحيد الذي كان الحكم فيه بما أنزل الله ربُّ العالمين.
المفهوم الثالث: الحضارة والمدنية:
من المفاهيم الشائعة في هذا العصر الخلطُ ما بين الحضارة والمدنية، واعتبارهما مدلولاً واحداً لإنتاج العقل، فيقال حضارة الأمم السابقة، ومدنية الأمم السابقة ويُعنى بهما شيء واحد، أي ما تركته تلك الأمم من أفكار تتعلق بوجهة النظر في الحياة كالدين والفلسفة وما شاكل، أو ما خلفته من آثار تدلُّ على ما كانت عليها مظاهر الحياة لديها من العمارة، وأنواع الصناعات، وأساليب الزراعة والتجارة، وأنواع الفنون التي كانت تعبّر عن ذوقها.. فهذا الخلط في المفاهيم بين الحضارة والمدنية الذي ما يزال مسيطراً على الأذهان إنما يراد به نتاج العقل كافة، سواء أكان نظرياً أم فكرياً محضاً، أو تطبيقياً ومادياً عملانياً.. وهذا خطأ، لأن ما ينتجه العقل من أنماط فكرية تتعلق بوجهة النظر في الحياة متباين تمام التباين عن الأشياء المادية التي تعبر عن مظاهر التقدم والتمدّن وإن كانت هذه أصلاً من بنات الأفكار، لأن لا شيء من نتاج الإنسان إلا ويكون مبنياً على فكرة معينة، أو على تجربة معينة، أو على سلوك معين.. ولذلك كان هنالك فرق بين الحضارة والمدنية.
فالحضارة هي مجموعة المفاهيم والقيم والمثل النابعة من وجهة النظر إلى الحياة.
أما المدنية فهي مجموعة الأشكال المادية والفنية التي تعدُّ في الأصل للاستعمال، أو لجعلها مظاهر معبرة عما توصل إليه الإنسان في مجالات التقدم والاكتشاف العلميّ والفنيّ..
والحضارة تختلف باختلاف الأمم وتنوع ثقافاتها، وتصوراتها عن الحياة، فحضارة الروم كانت غير حضارة الفرس، وحضارة الصين غير حضارة اليونان، وحضارات الغرب غير حضارات الشرق، فكان محتوماً أن تكون الحضارة الإسلامية غير الحضارة النصرانية، أو أن تكون الحضارة الإسلامية بروحانيتها غير الحضارة الغربية بمادّيتها..
وهذا ما يؤدي إلى القول إنه لم توجد يوماً حضارة إنسانية لها مفهوم الشمولية التي تنضوي تحت لوائها جميع الأمم والشعوب، بل وهذه الحضارة لن توجد ما لم تحكم العالم عقيدة واحدة، تنبثق عنها وحدة في المفاهيم والقيم والتصورات والمثل، ووحدة في وجهة النظر إلى الحياة.
أما المدنية فيمكن أن تكون عامة، دون اختلاف فيها بين أمة وأخرى، فما تنتجه أمة من الأمم يمكن أن تأخذه عنها أمة أخرى، أو أن تنتج ما أنتجت تلك من الأشكال المادية، ومن العلوم التقنية، والأنواع الفنية. فهذه كلها أشكال مدنية عالمية لا يراعى في أخذها أي شيء.. كما يمكن أن تكون المدنية خاصة عندما تكون ناجمة عن حضارة معينة تتناقض مع حضارة أخرى، فلا تستسيغ هذه أن تأخذ من تلك أشكالاً مدنية، أو مظاهر للتمدن تراها تمسُّ في جوهر مفاهيمها عن الحياة. فمثلاً صورة المرأة العارية في الغرب هي اليوم من مظاهر المدنية الراقية، بل وتعتبر صورة المرأة العارية قطعةً فنيةً ـ إذا توفرت فيها شروط الفن ـ يفاخر في إبراز جمالها، حتى صارت هذه الصورة من سمات الحضارة الغربية وفقاً لمفاهيمها عن المرأة، بينما كل ذلك لا يأتلف مع حضارة الإسلام، لأنه يخالف مفاهيمه عن المرأة باعتبارها عِرْضاً يجب أن يصان، وحرماً محرَّماً يجب أن لا يدنس.. ما يستنتج معه أن المدنية عندما تكون عامة فيجوز أخذها، أما عندما تكون خاصة فتأخذ منها كل أمة بما يتوافق مع حضارتها، ومع معتقداتها الدينية والدنيوية..
1 ـ الفرق بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية:
لا بد من التأكيد فوراً، وبدون تباطؤ، على أن الحضارة الغربية تتناقض مع الحضارة الإسلامية تناقضاً تاماً في مختلف الجوانب.. وعلى الرغم من ذلك، فإن ما يدعو للعجب، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين، أن تظلَّ لدى الغرب تلك النزعة في فرض ما يريده على المسلمين، وهو أن يعتنقوا حضارته القائمة على فصل الدين عن الحياة، وأن يتخلوا بالتالي عن حضارتهم الإسلامية التي من أجلها وجدوا، وعلى أساسها نهضوا. والأعجب من ذلك أن نجد بين المسلمين من يؤيد الغرب في نزعته تلك، ويدعو إلى تبني الحضارة الغربية التي تتعارض مع دينه، ومع وجهة نظره في الحياة.. وربما كان عذرُ هؤلاء أنهم يخلطون بين الحضارة والمدنية، فيتوهمون أن مظاهر العمران والتمدن التي وصل إليها الغرب، لا يمكن للمسلمين أن يشيعوها في بلادهم إلاَّ إذا أخذوا بالحضارة الغربية، ولذلك كان عليهم التمييز ما بين الحضارة والمدنية حتى لا يبقى في تصورهم مثل هذا الشطط الذي يجنون فيه ـ في هذه الحياة الدنيا ـ على أمتهم وبلادهم، وفي الآخرة على أنفسهم.
ويمكن أن نبين الفوارق بين الحضارتين على النحو التالي:
1 ـ تقوم الحضارة الغربية على عقيدة فصل الدين عن الحياة، وبالتالي فصل الدين عن الدولة، وتوجب تسيير الحياة بالقوانين والأنظمة التي هي من وضع الإنسان.
بينما تقوم الحضارة الإسلامية على العقيدة الإسلامية، وتوجب تسيير الحياة والدولة، بأوامر الله تعالى ونواهيه، ولا سيما بالأحكام الشرعية التي نستقيها من الكتاب والسنة، أو ما دلَّ عليه الكتاب والسنة. ومع ذلك فإنه يمكن أن نأخذ عن حضارة الغرب القوانين والأنظمة الإدارية لأنها من المباحات التي لا تتعارض مع الأحكام الشرعية، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أخذ الدواوين عن فارس والروم.
2 ـ تصور الحياة في الحضارة الغربية أساسه النفعية، فالنفعية هي مقياس جميع الأعمال، وليس لغير القيمة المادية النفعية أي وزن أو اعتبار، ولهذا لا توجد فيها قيم روحية، ولا قيم أخلاقية، ولا قيم إنسانية. وكل ما يعلن عنه من الحفاظ على حقوق الإنسان، وعن حرياته ومعتقداته مجرد ادعاءات تُبْطِلُها تصرفات الغرب المغايرة تماماً لتلك المواصفات حيث نجد له كل يوم خرقاً لحقوق الإنسان، وانتهاكاً لحرماته، وتعدياً على مقدساته، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى.
بينما يقوم تصور الحياة في الحضارة الإسلامية على أساس روحيّ، هو الإيمان بالله تعالى. والإسلام يجعل الحلال والحرام مقياساً لجميع الأعمال، وبهذا المقياس يتمّ تسيير جميع الأعمال، وتصور القيم بما يتوافق مع شرع الله تعالى.
3 ـ غاية الإنسان في الحضارة الغربية السعادة الدنيوية. وذلك لا يتم بنظره إلا بإشباع المتع الجسدية، وتوفير كل أسبابها له بدون عوائق من الدولة.
بينما غاية الإنسان في الحضارة الإسلامية رضوان الله تعالى، الذي هو الطمأنينة الدائمة التي إن تحققت جعلت الإنسان يعيش سعيداً في حياته، وراضياً مرضياً من الله في آخرته. أما إشباع الغرائز والحاجات العضوية فإن الأحكام الشرعية التي تضع قواعد لتنظيمها كفيلة بأن تحقق هذا الإشباع بعيداً عن الفوضى، وضياع النسب، وتفسخ الأسرة، وعن كل حرام يُورث التعاسة بدلاً من السعادة..
2 ـ الفرق بين الحضارة الشيوعية والحضارة الإسلامية:
عاش العالم حقبة من الزمن طالت لبضع عشرات من السنين في القرن العشرين شهد فيها سيطرة معينة للعقيدة الشيوعية وما انبثق منها من أفكار ومفاهيم أخذت بها بعض جماعات من شعوب العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ، وراحت تدعو إلى تطبيقها بديلاً من العقيدة الرأسمالية، والعقيدة الإسلامية. لذلك فإننا سوف نُظْهِر الفوارق بين حضارتنا الإسلامية وتلك الحضارة على ألاَّ نتطرق إليها في أي مجال آخر من هذا الميثاق(+) الذي اعتمدناه بعدما قضي عليها في عقر دارها، وذلك بانفراط عقد ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي..
لذلك نسارع إلى القول: كما أن الحضارة الغربية القائمة على الديموقراطية الرأسمالية تناقض الإسلام، فإن الحضارة الاشتراكية الشيوعية كانت تتناقض مع الحضارة الإسلامية تناقضاً كلياً.
فالحضارة الشيوعية تقوم على أساس العقيدة القائلة بعدم وجود خالق لهذا الكون، وأن المادة هي أصل الأشياء، وأن جميع الأشياء في الكون تصدر عنها بطريق التطور الماديّ.
بينما الحضارة الإسلامية تقوم على أن الله (جلت عظمته) هو خالق الكون والحياة والإنسان، وأن كل ما في هذا الوجود هو مخلوق لله تعالى، وأنه أرسل الأنبياء والمرسلين بدينه إلى بني البشر، وأنه ألزمهم باتباع ما أنزل لهم من الأوامر والنواهي.
والحضارة الشيوعية ترى أن النظام يؤخذ من أدوات الإنتاج، فالمجتمع الإقطاعيّ كانت الفأس فيه أداة الإنتاج ولذلك كان النظام الإقطاعيّ، فإذا تطورت الفأس إلى الآلة حصل التطور في النظام من إقطاعيّ إلى رأسماليّ. فالنظام في الشيوعية إذن مأخوذ من تطور أدوات الإنتاج، أي من التطور الماديّ.
بينما الحضارة الإسلامية ترى أن الدين هو نظام كامل للحياة، وهو يشتمل على جميع المناهج التي من شأنها أن تأخذ بيد الإنسان للتقدم والارتقاء. فالإسلام الذي بلَّغه محمد (ص) عن ربه (تعالى) هو النظام الأمثل لأنه من عند الله ـ سبحانه ـ ولا يمكن للعقل البشريّ أن يأتيَ بنظام يداني نظاماً أنزله خالق البشر.
والحضارة الشيوعية ترى أن النظام الماديّ هو المقياس في الحياة، وبتطوره تتطور سائر المقاييس. بينما الحضارة الإسلامية ترى أن الحلال والحرام فيما أمر ربُّ العالمين ونهى عنه هو مقياسِ الأعمال، فالحلال يُعمل، والحرامُ يترك، دون تطور في ذلك أو تغيير، مادام الحرام حراماً، والحلال حلالاً. ولا تُحكَّم في هذا المقياس نفعية، ولا مادية، بل يُحكَّم فيه الشرع.. وعلى هذا فالشيوعية باطلة في نظر الإسلام بطلاناً مطلقاً: عقيدة، ومفهوماً، ومنهاجاً، ولذلك فإن كلَّ ما خلَّفتهُ من أفكار يجب أن يكون مدعاة للإهمال.. فلا يمكن بحالٍ القبولُ بفكرة التطور الماديّ التي تلغي فكرة وجود الخالق (سبحانه تعالى)، ولا بفكرة إلغاء الملكية الفردية، أو امتلاك أدوات الإنتاج، أو الأرض وجعلها ملكية جماعية، لأن ذلك يضرب الإنسان في طاقته الحيوية، وفي تطلعه إلى الارتقاء والتقدم..
المفهوم الرابع: العلم والثقافة:
من البَدَاهة القول إنَّ العلمَ غيرُ الثقافة، وإلا استُغْنِيَ بأحَدِهما عن الآخَر، أو لما وُجِدَ لكلٍّ منهما لفظٌ مستقلٌّ بذاته.
ولا يُقال بأن العلمَ لفْظٌ مُرَادِفٌ للثقافة، أو العكس، فهما لَيْسَا من المعاني المترادِفَة، كألفاظ: القَطْع، والصَّلْم، والبَتْر، والجَدْع، التي تدور جميعها حول معنًى واحدٍ مشتَرَك هو القَطْع.
وعلى الرغم من أنَّ كلاًّ من العلم والثقافة يندرج في سِيَاقٍ مَعْرِفيٍّ ويتعلَّق بالناحية المَعْرِفيّة ويكاد يبدو موحدَّاً، فإنهما يفترقان في مَعْنَيَيْهما الإصطلاحيّيْن. فإطلاقُ مصطلَح الثقافة على ما هو علم، أو إطلاق مصطلَح العلم على ما هو ثقافة، مسألة فيها من الخَلْطِ ما يؤدي إلى اضطراب المعنى، عدا عن افتقاره إلى الدقّة. وقد وقع بعض الكتاب والمفكرين ممن يَتَعاطَوْن الشأنَ الثقافيّ والعلميّ في هذا الخطأ. وينبغي النظر في هذه المسألة على ضوء واقعها، وبيان حقيقتها، لتكون الألفاظ مؤديةً معانيها الصحيحة، ويتأتَّى ذلك من طريق تَتَبُّع اللفظ من الناحية اللغوية، وكيف تطَوَّر إلى مصطَلح.
ويجب أن لا يَغيبَ عن الأذهان مدى الأهمية في تحديد كل من هذين المصطلحين، لارتباطهما الوثيق بالبناء الفكريّ، وما ينبثق عنه من مناهج سلوكيَّة، تؤدي إلى إبراز الشخصية، بدءاً بالفرد وانتهاءً بالمجتمع.
أما العلم، فإنه يُقال في اللغة: عَلِمَ الرجلُ: حصل له حقيقةُ العلم، وعَلِمَ الشيءَ: عَرفَهُ، وأعلمهُ الأمرَ: أطْلَعَه عليه.
وأما الثقافة، فإنه يُقالُ في اللغة: ثقفَ ثقافةً: صار حاذِقاً، فهو ثقِفٌ وثقيف. وثقفَ الكلامَ ثقافةً: حذقَه، وفهمَه بسرعة.
هذه المعاني اللغوية هي الأصل في استعمال الألفاظ، إلا أنه إذا اصطُلِحَ على وضعها على معانٍ أخرى لها علاقة بالمعنى اللغويّ فجائز.
وكان الأقدَمونَ يُطْلقون لفظَ العلم على كل معرفةٍ مهما كان نوعها. ثم صار الناسُ يعتبرونَ أنّ المعارف العقلية والطبيعية هي للناس جميعاً، ويعتبرون أنّ غيرها من المعارف النقليّة خاصةً بكل أمة نُقِلَتْ عنها، ثم أخذ يتحدد معنى العلم بمعارفَ معينة، ومعنى الثقافة بمعارفَ معينة.
فصار العلمُ بالمعنى الاصطلاحيّ هو المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة والتجرية والاستنتاج، مثل علم الطبيعة وعلم الكيمياء وسائر العلوم التجريبية، وألحقوا بالعلوم التجريبية علمَ الحساب والهندسة وجميعَ أنواع الصناعات والتجارة والمِلاحَة.
وصارت الثقافة هي المعرفة التي تُؤخَذ عن طريق الإخبار والتلقّي والاستنباط، مثل التاريخ واللغة والأدب والفقه والفلسفة وبعض المعارف الأخرى.
فيكون الفرق بين العلم والثقافة هو: أن العلم عالميّ لجميع الأمم ولا تختصُّ به أمة دون أخرى، والثقافة هي لأمةٍ دون أخرى.
فالعلوم التجريبية إذن هي علوم عالمية، فهي في أميركا كما في اليابان، أو فرنسا، أو روسيا أو ألمانيا. وإنَّ أخذها من مصادرها لا يترتب عليه خطر على الأمة لأنها لا تتعلق بوجهة نظر عن الحياة، وهي لا تؤثر في العقل ولا تنعكس على السلوك. أما الثقافة إذا أُخِذَت فإنها تؤثر في العقل والسلوك، وتغيّر في هوية الأمة. فالثقافة عند الاشتراكيين هي غيرها عند الرأسماليين، وكذلك فإن الثقافة عند الإسلاميين تختلف عن الثقافة عند غيرهم. لذلك لا بد من أن يفرَّق بين الثقافة والعلوم، وبين ما يؤخذ منهما وما لا يؤخَذ.
المفهوم الخامس: الأمـة:
الأمة مجموعة من الناس تجمعها عقيدة واحدة، ينبثق عنها الأنظمة التي تطبقها في الحياة.
والأمة الإسلامية تجمعها العقيدة الإسلامية، وعنها تنبثق الأحكام الشرعية التي تؤلف النظام الأساسيّ وتبنى عليه الأنظمة الأخرى السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
فالمسلمون ليسوا طائفة، أو فئة، أو جماعة إنما هم أمة واحدة. والرابطة التي تربطهم مع بعضهم البعض ليست القومية، بل العقيدة التي تجعلهم جميعاً إخوةً في الإسلام، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، ولقوله (ص) : «المسلم أخو المسلم». وبفعل إيمانهم بالإسلام ديناً وعقيدة: صاروا إخوة. وأما الرابطة التي تربط الرعية في الدولة فهي التابعية وليست العقيدة، فمن يحمل التابعية يتمتع بجميع الحقوق التي يستحقها كل فردٍ ينتمي إلى الدولة، ويؤدي جميع الواجبات التي تفرضها قوانين الدولة وأنظمتها.
فلا يوجد في الإسلام إذن شيء اسمه القومية على الإطلاق. وعندما دَسَّت الدول العدوة مفهوم القومية بين المسلمين على أساس قاعدة فرق تَسُدْ(+) مزَّقت شملهم إلى أقوام وأجناس. فحين تحركت في المسلمين القومية التركية، والقومية العربية، والقومية الكردية، والقومية الفارسية، والقومية البربرية.. تصدّع صف الأمة الإسلامية، فأدى ذلك إلى انفصال أقطارهم بعضها عن بعض، وهذا ما جعل خطرها مدمراً وحدة الأمة الإسلامية، وهادماً لكيانها. وقد رأينا من آثارها كيف انتُزعت تركيا ـ دولة الخلافة ـ من أحضان الإسلام إلى أحضان الصهيونية، والعلمانية والقومية. ويكفي الأمة الإسلامية هذا الأثر وحده حتى تعيَ خطر الدعوة إلى القومية على مستقبلها. فيجب الدعوة إلى الإسلام من جميع الشعوب الإسلامية حتى تتوطد أواصر الأخوة الإسلامية.
المفهوم السادس: القواعد التي تقوم عليها الأنظمة في الإسلام
إذن فالأمة الإسلامية لها شخصيتها التي تنبثق من العقيدة بصرف النظر عن بلاد ولغات وأجناس شعوبها. وعلى أساس هذه العقيدة توجد الأنظمة في الإسلام التي تقوم على قواعدَ ثابتةٍ مستندةٍ إلى الأدلة الشرعية. وأبرز هذه الأنظمة وقواعدها:
أولاً ـ قواعد النظام الاقتصاديّ في الإسلام:
يقوم النظام الاقتصاديّ في الإسلام على أربع قواعد:
1 ـ المال لله، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}.
2 ـ الجماعةُ مُسْتَخْلَفَةٌ في مال الله، أي أَنَّ المال واجب إنفاقه لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}.
3 ـ كنز المال حرام، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *}.
4 ـ وجوب التداول في المال، لقوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أي كي لا يقتصر تداوله بين الأغنياء فقط من دون الفقراء أو الآخرين من أبناء المجتمع.
ثانياً ـ قواعد نظام الحكم في الإسلام:
يقوم نظام الحكم السياسيّ في الإسلام على ستّ قواعد:
1 ـ السيادة للشرع.
2 ـ السلطان للأمة
3 ـ نصبُ خليفةٍ واحدٍ فرضٌ على المسلمين.
4 ـ للخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية.
5 ـ الحكم مركزيّ، والإدارة لا مركزية.
6 ـ تتوزع أجهزة الدولة على سبعة مستويات:
(1) ـ الخليفة
(2) ـ المعاونون
(3) ـ الولاة
(4) ـ الجيش
(5) ـ الجهاز الإداريّ
(6) ـ مجلس الشورى
(7) ـ القضاء.
ثالثاً ـ قواعد النظام الاجتماعيّ في الإسلام:
النظام الاجتماعيّ في الإسلام قائم على علاقة المرأة بالرجل وما ينشأ عن هذه العلاقة. وهذه العلاقة لا تقوم في الأصل على أساس ماديٍّ فقط، بل تقوم على أساس روحيّ، ومن ثَمَّ على أساسٍ ماديّ.
قال رسول الله (ص) : «إذا خطب إليكم من تَرضون دِينَه وخُلُقَه فزوِّجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(+).
ويمكن تعريف النظام الاجتماعيّ بأنه: «النظام الذي ينظم اجتماع المرأة بالرجل، أو اجتماع الرجل بالمرأة، وما ينشأ عن هذا الاجتماع من علاقات».
وأهم قواعد هذا النظام:
1 ـ الزواج هو الأصل في البنوَّة والأبوة والأمومة، وقد جاء الشرع بأحكامها.
2 ـ الإسلام يحث على الزواج ويأمر به.
3 ـ الاجتماع الجنسيّ بين الرجل والمرأة له نظام خاص ينتج منه التناسل.
4 ـ الزواج للرجل جائز من الكتابية.
5 ـ لا يجوز للمسلم أن يتزوج مشركةً قط، كما لا يجوز للمسلمة أن تتزوج كتابياً، ولا مشركاً.
6 ـ الحياة الزوجية تقوم على الصحبة أولاً، ومن ثمَّ على الشراكة. والصحبة تعني الاطمئنان والسكن بين الزوجين، ويدخل فيها حسن العشرة، وأداء حقوق الزوج، وأداء حقوق الزوجة.
هذه باختصار (وبعناوين) القواعد التي تقوم عليها تلك الأنظمة.
المفهوم السابع: التنمية ومقومات الدولة
وقد رأينا أن نبحث في مفهوم التنمية، باعتبارها إحدى مجالات النظام الاقتصادي، لتوضيح المفاهيم المغلوطة التي علقت في أذهان بعض المفكرين ـ الذين ينتمون إلى الإسلام بالوراثة أو الهوية ـ كي نزيل الغشاوة التي تجعلهم يعتقدون بأن التنمية هي من مقومات الدولة وأنَّ الإسلام لا يملك مقومات الدولة الحديثة القادرة على التنمية.
إذن فلا بد في البداية، وعطفاً على ما ألمحنا إليه، أن نشير إلى ما يعتقده بعضهم ـ والغريب أنه يدّعي باعاً طويلاً له في الاطلاع والمعرفة ـ من أن «الإسلام السياسيّ، لا يستطيع، وليس بمقدوره، وبمنطلقاته، لا اليوم ولا غداً أن يصنع المستقبل لأن الكلام عن مستقبل وعن دولة، إنما يعني الكلام عن تنمية في الصناعة، والزراعة، وفي الخدمات، وعن سياسة خارجية تؤمن الاتصال بالعالم.. وعن نقد، وعملة محكوم عليها بصادرات وواردات، وبحجم ما تنتج الدولة وما تستهلك، وارتباط هذه العملة بصندوق النقد الدوليّ.. فالإسلام لم يدخل في هذا الموضوع. الإسلام يعطي قيم حياة، وقيماً أخلاقية.. ولكن ليس بمقدوره أن يعطي مشروعاً سياسياً»..
هـذا هو اعتقـاد البعض!.. وهـذا ما يعلنونـه على الملأ.
وإنه لكلام غريب حقاً، ولاسيما عندما يصدر عن مفكر عربيّ، ويدعي أنه ينتمي إلى الإسلام بينما لا يدل مثل هذا الكلام، في الحقيقة، إلاَّ على جهل مطبق بالإسلام، وبالمنهاج الذي يقدمه للحياة من النواحي السياسية، والاقتصادية، والنقدية، والاجتماعية، والإنمائية إلخ...
فالإسلام ـ وكما يعلم العالم بأسره ـ هو دين ودنيا. وهو عقيدة، ومبدأ، ومنهاج حياة، يرعى شؤون الناس في أدق التفاصيل من خلال الأحكام الشرعية التي هي شرع الله تعالى لعباده، ومن خلال المفاهيم التي يقدمها لتربية الإنسان على الإيمان بعقيدة التوحيد، وعلى تقويم سلوكه وفقاً للقيم والمثل، والأخلاقيات التي تصلح حياته، وحياة مجتمعه، وحياة أمته من منطلق عقيدته بالذات. بل هي قادرة أن تصلح الحياة الإنسانية بأسرها، لأن الله تعالى لم يبعث محمداً (ص) رسولاً لبني قومه وحدهم، بل أرسله للناس كافة، وجعل رسالته رسالة عالمية، بكمالها وتمامها، وتوافقها مع الكون والحياة والإنسان.
وفي العودة إلى كلام ذاك المفكر العربيّ، الذي يظن أن الإسلام غير قادر على تقديم مشروع سياسيّ لإقامة دولة، نجده يعدّد مقوماتٍ للدولة تقوم على الأمور التالية: التنمية والإنتاج، التصدير والاستيراد، الخدمات، الاستهلاك، النقد المرتبط بصندوق النقد الدوليّ.. وكأنَّ هذه الأمور هي مقومات الدولة، فإن فقدت لم يكن ثمة وجود لدولة..
هذه الأفكار هي ـ طبعاً ـ مجرد ظنون، وجهل أو تجاهل إنْ لمقومات الدولة، أو لنظام الحكم السياسيّ في الإسلام. فكل ما ذكر في تلك الندوة التي جرت في أول شهر تموز في بيروت لا يمت إلى مقومات الدولة بصلة، وإنما هو من أعمال الأفراد في الدولة، أو من الأعمال التي تقوم بها الدولة.
ذلك أن مقومات الدولة، وفقاً للمفاهيم والنظريات والأفكار السائدة عند الناس، هي:
ـ بقعة أرضٍ محددة جغرافياً (أو سياسياً).
ـ مجموعة من الناس، ذات عرق واحد، أو أعراق مختلفة، ويشكلون الشعب.
ـ وجود لغة واحدة (أو عدة لغات)، وتاريخ مشترك، ووحدة المصالح والآمال والأهداف.
ـ وجود شخص معنويّ يملك السلطات، ويتمتع بالسيادة وفقاً للقوانين الداخلية والقوانين الدولية.
وبعضهم يجعل المقومات الثلاثة للأمة وليس للدولة، بحيث يحصر عناصر الدولة: بالأرض، والشعب، والسيادة..
وكل ذلك لا يشكل في الحقيقة مقومات للدولة أو للأمة حسب المفهوم الإسلاميّ. بل إن أهم مقومات الدولة، بحسب الإسلام، وجود عقيدة في الأمة تقوم عليها الدولة. فإذا كانت هذه العقيدة قادرة على أن تقدِّم منهاجاً للحياة، فإن هذا المنهاج ـ الذي يعتبر من صلب العقيدة ـ هو الذي يشكل في أحد جوانبه المشروع السياسيّ، أو مشروع نظام الحكم الذي يقوم في الدولة.
فالعقيدة في جانبها السياسيّ هي ما ينبثق عنه المبدأ الذي ينظم شؤون الحياة. فإذا كان هذا المبدأ يشكل رسالة للعالم بأجمعه، كانت الدولة التي تقوم عليه هي من أعظم الدول وأكثرها رسوخاً في حياة الأمم الشعوب. وهذه هي الدولة التي يريدها الإسلام في دنيا الناس، لأن تعابير: الإسلام ـ العقيدة ـ المبدأ لها معنى واحد، وهي تستقي وجودها من الرسالة السماوية التي أرادها الله تعالى للناس كافة، أي الرسالة التي بعث بها محمد بن عبد الله (ص) لتكون خاتمة الرسالات السماوية، كما كان هو (ص) خاتم النبيين والمرسلين.
فالكلام بأن الإسلام ليس بمقدوره أن يصنع المستقبل، ولا أن يعطيَ مشروعاً سياسياً، كما هو ظاهر الحال في البلاد الإسلامية، لا ينطبق على حقيقة الإسلام. وإن هذا التقصير الحاصل اليوم، بل ومنذ القضاء على الخلافة الإسلامية في عشرينيات القرن الحاليّ، إنما هو تقصير من المسلمين، وليس قصوراً في الإسلام.
الإسلام بالأمس بدأ في العرب فحوَّلهم من قبائلَ متناحرةٍ إلى أمة واحدة، يقول الله تعالى:
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} بل وجعلهم أمةً ذات رسالة عالمية، لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
وتلك الأمة التي اعتنقت الإسلام، وقامت عليه، لم تقتصر على العرب وحدهم، بل كانت فيها شعوب متعددة ومن أقطار شتى، إلاَّ أن انتماءهم للعقيدة الإسلامية هو الذي حولهم إلى أمةٍ واحدةٍ هي الأمة الإسلامية.
والأمة الإسلامية، التي قامت نواتها في شبه جزيرة العرب، هي الأمة التي أنشأت دولة الإسلام، ذات الكيان السياسيّ الذي احتل حيّزاً لا يستهان به من التاريخ البشريّ. وقد كانت دولة مجاهدة، حملت رسالة الله (عز وجل) لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الطواغيت إلى عدل الإسلام. وبانطلاقتها الميمونة، استطاعت أن تفتح برسالتها الإسلامية ثلاثة أرباع المعمورة في حينها. وكانت أهدافها وغاياتها حمل رسالة الهدى والرحمة للناس، وذلك بخلاف سائر الدول التي قامت على مدار التاريخ بالفتوحات العسكرية، عن طريق الغزو والسيطرة والاحتلال، حيث انصبّت اهتماماتها على إذلال الناس واستعبادهم، واستغلال ثروات بلادهم، فضلاً عما كانت تقوم به من السبي، والدمار، والخراب، والقتل، وارتكاب سائر الجرائم بحق الشعوب التي أخضعتها لسيطرتها.. والتاريخ يشهد أن تلك الدول الظالمة كانت جميعها غير مسلمة. وحدها دولة الإسلام هي التي عانقت التاريخ البشريّ بالحفاظ على الأرواح بدلاً من القتل، وبإحلال العمران بدلاً من الدمار، وبالاستقرار بدلاً من التشريد، وبالعدل بدلاً من الظلم، وبالنظام بدلاً من الفوضى... والتاريخ نفسه يشهد على سماحة الإسلام، وترك الخيار للناس بالبقاء على دينهم لأنه لا إكراه في الدين، والحفاظ على حقوقهم، وخاصة حقوقهم في الأحوال الشخصية التي يمارسونها وفقاً لمعتقداتهم الدينية.. لقد كان حكم الدولة الإسلامية بالقرآن والسنة، فكان حقاً وصدقاً أن يكون هو الحكم السياسيّ بما أنزل الله تعالى كما أمر بكتابه المبين: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فلا يكون ثمة مجال للمقارنة بين حكم هو من الله تعالى، صاغه في قرآنه المجيد، وبين حكم هو من صياغة القبائل، والملوك، وحكام الإقطاع والدول الاستبدادية أي من صنع البشر وبما يتوافق وأهواءهم.
فالدولة الإسلامية قد أنشأها محمد رسول الله (ص) بكامل مقوماتها، وكانت عاصمتها المدينة المنوَّرة، وتقلَّد رئاستها من بعده الخلفاء الراشدون.. وتلك الدولة هي التي انطلق أبناؤها خارج الجزيرة على أساس أنهم يمثلون أمة، هي الأمة الإسلامية، في ظل خليفة واحد للمسلمين، وقد ظلت قائمة ـ بصرف النظر عن تصرفات الحكام أو الخلفاء ـ طوال ألف وثلاثمائة عام ونيف.. فإذا لم يكن الكيان السياسيّ الذي أقامه رسول الله (ص) يشكل دولة، وإذا لم يكن الكيان السياسيّ الذي سادت فيه عقيدة الإسلام ـ طوال تلك الحقبة من التاريخ التي تمتد منذ منتصف القرن السابع الميلاديّ وإلى أوائل القرن العشرين الميلاديّ ـ يشكل دولة، فما هي الدولة إذن؟
لا نظن أحداً ـ لا في الشرق ولا في الغرب ـ ينكر قيام الدولة الإسلامية، وإلا كان إنكاره ضرباً من العمى، أو الجهل أو التجاهل.. فإذا كان المسلمون قدروا على إقامة دولتهم الإسلامية في السابق، فإنَّ ذلك ميسور لهم، في كل وقت إذا ما عملوا عليه، مهتدين بهدي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
أما عن التنمية ـ بعد هذا التمهيد الذي كان لا بدَّ منه ـ فإننا نقول:
إن المعرفة الحقيقية لأحكام الإسلام هي التي تتكفل بالرد على كل ظن، أو معتقد ينفي عن الإسلام القدرة على التنمية، وعلى إقامة نظام اقتصاديّ شامل، أو نظام نقديّ كامل..
لذلك من المفيد أن نوضح تلك الأحكام لأولئك الذين يجهلون الإسلام، ونصَّبوا أنفسهم سماسرة للغرب يروجون لأفكاره ونظرياته ومبادئه التي أثبت واقع الحياة البشرية أنها كانت ضد مصلحة الفرد والمجتمع والناس أجمعين.. ولعلَّ في معرفتهم لتلك الأحكام ـ إن كلفوا أنفسهم الاطِّلاع عليها بدقة وموضوعية وبدون أية خلفية ثقافية مسبقة ـ ما يجعلهم يرعوون عن غيهم، ويعودون إلى ضميرهم، ويثوبون إلى رشدهم فتكون لهم الرجعة إلى الإسلام، وإلى الله ربهم العليم الحكيم. وتدور تلك الأحكام على ما يلي:
إن الإسلام هو دين الكمال لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}.
ومن مضامين كمال الدين الإسلاميّ أن الله تعالى فرض أموراً، وحرَّم أموراً، وندب إلى أمور، وكرَّه أموراً (أي نهى عنها نهياً غير جازم) وأباح أموراً..
وإذا دققنا في أعمال الإنسان نجد أن دائرة المباح هي أوسع دوائر تلك الأعمال. وأن غالبية أمور التنمية تقع في دائرة المباحات هذه(+). ويمكن رؤية ذلك مما يلي:
1 ـ جعل الشرع الإسلاميّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}؛ وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}.
2 ـ جعل الشرعُ الإسلاميُّ في أنواع معينة من الأفعال، الإباحة، ومن ذلك:
أ ـ الأفعال الجِبِلِّيّة: الأصل فيها الإباحة، ما لم يصرفها النص عن المباح.
ب ـ الأبحاث العلمية، والأصل فيها الإباحة لقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
ج ـ الزراعة والصناعة (وكل ما يتعلق بهما، أو هو على شاكلتهما) والأصل فيهما الإباحة. ودليله أن أحد الصحابة قد جاء رسول الله (ص) معترضاً على تأبير النخل، فقال له: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»(+)، كما أنَّ الرسول (ص) أرسل من يتعلم صناعة الأسلحة ثم أنشأَ مصنعاً في المدينة يؤمِّن للمسلمين السلاح الذي يحتاجونه.
د ـ الأفعال الإدارية، والأصل فيها الإباحة. فقد أخذ عمر بن الخطاب تنظيم الدواوين عن الفرس، والروم. وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين) فلم يعترض أحدٌ منهم عليه في ذلك، ما يعني إجماعهم على عمله.
هـ الشروط في العقود والاتفاقات، والأصل فيها الإباحة، لقول رسول الله (ص) : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً»(+)
من هذه القواعد نرى أن الإسلام يفرق بين العلوم المأخوذة بالطريقة التجريبية العملية (أي الملاحظة والتجربة والاستنتاج) وبين الثقافة الخاصة بأمة معينة، التي تنبثق من عقيدتها، وعن نظرتها إلى الحياة.
فالعلم ـ بحسب الفكر الإسلاميّ ـ عالميّ، وقد أباح الإسلام أخذ العلوم، على اختلاف أنواعها، من أي مصدر أتت.
أما الثقافة فلا يجوز أن تؤخذ من غير الأفكار النابعة من الأمة في تاريخها وحاضرها، وما أنتجت من الآثار الفكرية التي تنبثق عن عقيدتها. ولذلك فإنه لا يجوز للمسلمين أن يأخذوا بثقافات الأمم الأخرى، ما دامت لديهم العقيدة، التي تنتج ثقافة خاصة تعبِّر عن هذه العقيدة، واتجاهات أبنائها.
وعلى هذا فإن كل علوم التكنولوجيا، وعلوم الصناعة، والزراعة، وكل المكتشفات الفنية والتقنية، قد جعلها الإسلام من المباحات، ورخص أخذها من مصادرها، إلا ما استثنيَ منها بنص صريح، كما هو الحال في صناعة الخمور، أو في صناعة التماثيل (التي تعتبر مظهراً حضارياً من مظاهر الثقافة الغربية) فإنها محرَّمة بالنص والإجماع عند المسلمين.
فالدولة الإسلامية عندما تريد أن تقوم بالتنمية الصناعية أو الزراعية مثلاً، فإنها لا تبحث في آيات القرآن، ولا في سنة النبيّ عن الأسلوب الذي يجب أن تعتمده لهذه التنمية. فلا تسأل القرآن عن شرعية صناعة التراكتور، ولا عن شرعية زراعة التفاح، كما لا تسأل السنة النبوية عن أسلوب إنشاء مبنى أو إنشاء مؤسسة تجارية أو عن طريقة تسويق الإنتاج الصناعيّ.. فكل ذلك يتعلق بالعلوم التي تتأتى عنها أساليب وطرق التنمية، فلا تتناولها الأحكام الشرعية بالتفصيل، بل تضعها في دائرة المباحات التي تتيح لأبناء الأمة بذل كل الجهود من أجل تنمية مختلف القطاعات الاقتصادية، وتحسين أساليب الإنتاج وزيادة أنواع المنتجات، وكميات الإنتاج.. فهذه كلها من الأمور المباحة..
وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتجارة، فالأصل فيها الإباحة لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، فالمبادلات التجارية، ومسائل التصدير والاستيراد، وأمور الميزان التجاريّ، وأمور ميزان المدفوعات.. كلها من المباحات التي يمكن ولوج أبوابها بالطرق العلمية، والاستفادة من خبرات الآخرين بشأن كيفية القيام بها على الوجه الأحسن الذي يؤثر على التنمية.
وهكذا نرى أن الإسلام قد وسَّع دائرة حكم المباح إلى أبعد مدىً ممكن، ما يتاح معه للمسلم أن يُنَمّيَ القطاعات الإنتاجية في بلاده بقدر ما يملك من الكفاءات العلمية والتقنية اللازمة لذلك. ويُكتفى فقط بوضع ضوابط لبعض المباحات حتى لا تخرج عن دائرة المباح إلى دائرة الحرام، فتخالف حينئذ قواعد السلوك في المجتمع الإسلاميّ، الذي نصب القاعدة العامة لكل أفعاله في القول الإسلاميّ الشهير: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة».
وبما أن التنمية ـ في جوانب كثيرة منها ـ تدخل في الاقتصاد، فإننا نورد ـ مكررين للتأكيد ـ لمحة موجزة عن نظام الاقتصاد في الإسلام الذي يقوم على قواعد أربع:
1 ـ المال لله، لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}.
2 ـ الجماعة مستخلفة فيه، لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}.
3 ـ كنزه حرام، لقوله تعالى؛ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *}.
4 ـ تداوله واجب، لقوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أي كي لا يقتصر تداوله على الأغنياء وحدهم من دون الفقراء. وبذلك تتحقق الدورة الاقتصادية الكاملة.
فالنظام الاقتصاديّ إذن هو الذي يبحث في كيفية الجباية من الناس وكيفية توزيع الثروة عليهم، وهي الأمور التي يتوجب على الأمة أن تقوم بها، ولا يجوز أن تتعدى الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة في وضع قواعدها وضوابطها.
أما علم الاقتصاد فهو الذي يبحث في تحسين الإنتاج وتكثيره، وهي أمور تنموية، ولذلك فإنه يدخل في دائرة المباح الذي يمكن أن يستنبط أبناء الأمة قواعده، أو أن يأخذوها عن غيرهم.
بالله عليكم، هل هذه القواعد الأربع التي هي عماد نظام الاقتصاد في الإسلام قد أضفناها نحن على القرآن أم أنها منزَّلة من رب العالمين منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً على رسوله الكريم؟
خلاصة القول:
إن مقومات الدولة شيء، والأفعال التي تقوم بها الدولة أو الأفعال التي يقوم بها أبناء هذه الدولة شيء آخر.
وليست الغاية من هذه التوضيحات إلا تصويب آراء وظنون ومعتقدات الذين يريدون بالإسلام شراً. ونحن نبشِّر هؤلاء أن هذا الإسلام الذي أنزله ربُّ العالمين للناس كافة، قد حفظه سبحانه وتعالى من كل زلل أو شطط أو افتراء لقوله العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *}.
إنه الإسلام وإنه دين الله. وبه وحده تكون عمارة الأرض لما يريد الله العزيز الحكيم.
والإسلام لا يكون تطبيقه بمجرد كلمات. والرد على مخالفيه لا يكون أيضاً بالكلمات..
إنما يكون بإقامة الدولة الإسلامية حقيقة وفعلاً. ليرى المفترون والظالمون تحقق المشروع السياسيّ العالميّ (وليس المحليّ أو الإقليميّ) الذي تسير على منهاجه هذه الدولة أو تلك، ويَرَوا الإنجازات الفكرية والإنتاجية التي يمكن تحققها أيضاً في هذه الدولة، بالإضافة إلى توافر المناخ الذي يؤمن للدعوة الإسلامية انطلاقةً جديدةً لإنقاذ البشرية.
قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *}.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢