نبذة عن حياة الكاتب
علم اصول الفقه الميسر

التّشريع الإسْلامي
الإسلام دين الوحدانية، والحق، والعدل، والخير، والرحمة، وكل الفضائل التي تسمو بالإنسان نحو الهدى والصلاح. وهو شريعة سماوية لبني البشر أجمعين، تصديقًا لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران: 19]. ودين صبغته الإسلام إنما شرَّعه الله تعالى لتكون أحكامه صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان؛ لكن هذا التطبيق لا يستوي إلَّا بمعرفةِ حقيقة وجود الله تعالى، وعبادته عبادةً تليق بوحدانيته، وبجلال عظمته، وقدسية مقامه. ثم بعد هذه المعرفة الأساسية، تنصبُّ الشريعة الإسلامية على تزكية النفس الإنسانية وتطهيرها من الشوائب والأدران. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [سورة الشمس: 7 ـــــــ 10]. ثم يأتي دور الإنسانية جمعاء، إذ لها نصيب وافر أيضًا في هذه الشريعة التي تبتغي تقوية الروابط الإنسانية وتمتين أواصر التعاون والعلاقات بين الجماعات، وتأليف القلوب وإنماء المحبة والرحمة والإخاء بين الأفراد، وترسيخ قواعد العدل بين شعوب العالم أجمع.
ومما لا ريب فيه أن هذه الغايات: إنما تؤدي إلى سعادة الإنسان في الدنيا، وفوزه في الآخرة... ونبيُّ الإسلام، والرسول الذي حمل الشريعة الإسلامية، هو محمد بن عبد الله، صل الله عليه وآله وسلم، أرسَلَهُ الله تعالى خاتمًا للنبيين، ومبشِّرًا ونذيرًا للناس كافة توكيدًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سورة سبأ: 28]، يعلِّمهم الدين، ويعظهم، ويزكيهم، تخليصًا لهم من شر الدنيا وآثامها، تصديقًا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سورة الجمعة: 2]. ولم يكن بعثه وإرساله إلَّا رحمة للناس، لكل الناس، بتصديق قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء: 107]وتأكيده من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه عندما قال: «أنا رحمة مهداة».
نعم إن دينًا بمثل هذا التسامي، يحمل شريعةً بمثل هذا التمام، لخليق بالناس أن يعتنقوه. وأن يجهدوا في تقصي أحكام شريعته ويطبقوها، حتى يكون لهم تشريعٌ إلهيٌّ لا تتحقق مضامين الإنسانية إلَّا به وحده.
وقد كان التشريع الإسلامي أحد الجوانب المهمة في حياة الرسالة الإسلامية، منذ بدء تأسيس دولة الإسلام على يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في المدينة المنورة، وحتى يومنا هذا، لأنه يتناول النواحي العملية للرسالة، سواء منه ما تعلق بالمسائل الدينية، أو ما اشتمل على القضايا الدنيوية.
فالتشريع الديني المحض، كأحكام العبادات، كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يتلقاه وحيًا من ربِّه، وكان صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، يبلِّغ هذا الوحي، ويبيِّن أحكام التشريعات المنزلة إليه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[سورة النجم: 3 ـــــــ 4]. وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يحرص على أن يفقه الصحابة معاني تلك التشريعات، وأن يحفظوا آياتها في أذهانهم، كي يسيروا على هديها، ويعلِّموها للآخرين، امتثالًا لأمر ربِّ العالمين.
أما التشريعات الإسلامية الدنيوية كأحكام الزواج والميراث، وجميع أنواع المعاملات والعقوبات التي نزل بها آي من الذكر الحكيم، فقد كانت تُفهم وتُطبَّق من قبل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولا اعتراض عليها، في حين أن الأمور الأخرى من أمور إدارية مثلًا أو خطط عسكرية، أو توفير السلع والخدمات للناس هي وأمثالها كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يقرر أحكامها برأيه وثاقب نظره. وغالبًا ما كان يستشير الصحابة الأخيار في الرأي؛ فيبدون ما يوافق رأي رسولهم: أو ما قد يغايره، ثم يكون قرار الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بما يراه أكثر توافقًا وأكثر فائدة لما فيه خير الجماعة، والحكمة من ذلك إرساء القواعد والسنن للمسلمين في مقبل أيامهم. وقد درَّبهم على أن ما تتفق عليه أكثرية الآراء، أو ما تقرره الجماعة في عمل من الأعمال المهمة يجب أخذه والعمل به، حتى لا تبقى النزاعات قائمة داخل الجماعة فيختل التوازن في المجتمع وتضيع الأعمال، ويضيع معها كل شيء... أما ما قد يترتب على الأعمال التي تقررها الجماعة من نتائج، فهي التي تتحمل مسؤوليتها لتقرر في ضوئها صوابية الرأي أو خطأه أو صلاح التدبير الذي اتخذته، وتستفيد منه عبرةً في حاضرها ومستقبلها.
وفي حياة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، شواهد كثيرة على الأخذ برأي أحد الصحابة أو برأي الأكثرية من الجماعة، ونذكر من تلك الشواهد الحوادث التالية:
1 ـــــــ في غزوة بدر: وبعد وصول جيش المسلمين إلى بدر، رأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن ينزل في منزل معين بجيشه، وكان فيه الحباب بن المنذر بن الجموح، فتقدم من الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وسأله: «يا رسول الله، أهذا المنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟».
فقال له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلّم، «بل الرأي والحرب والمكيدة».
وكانت للحباب خبرة في تلك النواحي، فارتأى عندها أن ينزل المسلمون أدنى ماء بدر، لأنه كان أكثر غزارة، ويبنون عليه حوضًا يملؤونه بماء لهم، ثم يعورون ما عداه من آبار، فيشرب المسلمون، في حين أن جيش قريش العدو يفتقر إلى الماء. وأخذ النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، برأي الحباب، وأمر جيشه بالنزول حيث أشار عليه أحد جنوده، فكان ذلك خيرًا على المسلمين.
2 ـــــــ في غزوة أحد: جاءت الأخبار بأن قريشًا جهزت جيشها، وهي تزحف لغزو المدينة، وفي مثل هذا الأمر، كما في غيره من أمور الرسالة المهمة، جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الصحابة للتشاور في الموقف الذي يتخذه المسلمون: إما البقاء داخل «المدينة المنورة» أو تحصينها للدفاع عنها في وجه العدو، وإما الخروج لملاقاة هذا العدو بعيدًا من عاصمة المسلمين. وكان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وأكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار ميَّالين إلى البقاء داخل المدينة، في حين أبت الحمية على نفوس الشباب إلَّا الخروج وملاقاة جيش قريشِ بعيدًا من مدينتهم. وكره رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هذا الخروج، إلَّا إن إجماع الغالبية عليه، والحماس لنيل الشهادة، جعلا النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يوافق على رأي الغالبية ويقرر الخروج بجيش المسلمين إلى حيث كانت غزوة أُحُد.
3 ـــــــ في غزوة الأحزاب للمدينة المنورة: وفي هذه المرة أيضًا ولما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، استعداد الكفار للزحف على المدينة المنورة وإسقاطها، جمع أصحابَهُ لتبادل الرأي في كيفية التحصين وتنظيم طرق الدفاع كي يتمكن المسلمون من صد الجيش الغازي. وفي أثناء النقاش في خطط الدفاع اعترضتهم مشكلة مهمة وهي أن الناحية الشمالية من المدينة لا يمكن تحصينها، وسوف تظل مكشوفةً بما قد يشكل ثغرة يمكن لجيش الأعداء من خلالها النفاذ إلى قلب المدينة، وكان في الاجتماع الصحابي سلمان الفارسي، رضي الله عنه، فاقترح أن يقوموا بحفر خندق في تلك الناحية الشمالية من المدينة، وبذلك تتاح أمام الجيش الإسلامي فرصة أكبر للتصدّي. وبالفعل جرى حفر الخندق وكان له أكبر الأثر في منع الجيش المعتدي من الوصول إلى داخل المدينة، بل وفي إلحاق الهزيمة بذلك الجيش، بما عرف في تاريخ الرسالة بـــــــ «غزوة الأحزاب».
تلك الشواهد التي نستقيها من سيرة رسولنا الأعظم تبقى خير دليل لنا على العمل بما يوافق المصلحة العامة، فلا فرق أن يأتي الرأي الصواب من الرسول نفسه أم من أحد الصحابة، المهم أن يكون فيه خير ونفع للجماعة حتى يوضع موضع التنفيذ.
على أن الصحابة، رضوان الله عليهم، كانوا يرجعون دائمًا إلى رسولهم الكريم في المسائل التي تستعصي عليهم، عندما يُشكل عليهم فهم معاني النصوص، أو كيفية تطبيقها في حياتهم العملية. وغالبًا ما كان يأتي المسلمون من الأماكن البعيدة من المدينة المنورة حيث مركز الحكم للدولة الإسلامية، يستوضحون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عمّا يجب عليهم فعلُه حيال هذا الأمر أو ذاك. وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقف أولًا على رأي السائل، فإن وجَدَه صائبًا أقرَّه عليه، وإلًّا صحَّح له، ودلَّه على الطريق الصحيح أو الحكم الشرعي الموافق؛ وكان المسلمون يعملون بمقتضى تلك الأحكام بإخلاص وإيمان، فأمكنهم أن ينشروا رسالتهم ويوصلوها إلى آفاق بعيدة من العالم.
ونحن اليوم مطالبون بأن نهتدي بكتابنا المبين، وبسيرة رسولنا الكريم. ولئن ابتعَدَ الزمانُ بالمسلمين عن عصر الرسالة الأول، إلَّا إن شريعتهم لا تزال قائمة وراسخة، ولكن ينقصهم فهم الأحكام الشرعية التي تتضمنها هذه الرسالة العظيمة وتطبيقها. ولكي تكون العودة إلى الأحكام الشرعية سليمة، يجب على المسلمين أن يراعوا قواعد أساسية، أبرزها:
1 ـــــــ النهي عن البحث في أشياء لم تحدث أو تقع، فما لم يقع لا يجوز بحثه إطلاقًا امتثالًا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [سورة المائدة: 101]. ففي هذه الآية المباركة خطاب من الله تعالى للمؤمنين، وقد كانوا يكثرون من سؤال النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، عن أشياء غير مكلفين بها، ولم تظهر لها أمارات أو إشارات في حياتهم، ولعلَّ تلك الأشياء كانت شاقة، وربما كانت غاية المؤمنين أن يعرفوا كنهها بصفتها تلك، فجاءهم الخطاب الناهي بألَّا يسألوا عن مثل هذه الأشياء، لأنها إن تُبْدَ لهم تَسؤْهم؟ وكان، لدى السؤال، يتنزَّل بها قرآن كريم فيظهر للمؤمنين فعلًا شدتها على النفوس، فكان الوعظ الرباني والرحمة من الغفور الرحيم، بأنه سبحانه وتعالى قد عفا عنهم لسؤالهم عن تلك الأشياء فلا يعودون إليها أو إلى مثلها والله تعالى غفور بعباده، حليم بالمؤمنين.
وفي الحديث أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته» وفي الحديث أيضًا أن النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، نهى عن الأغلوطات (والأغلوطات هي الحوادث التي لم تقع).
2 ـــــــ تجنُّب كثرة الأسئلة في المسائل والقضايا المعضلة؛ فالدين يسر وليس عسرًا، والأخذ بأحكامه الشرعية يجب أن يكون متوافقًا مع نصوص الشريعة ومؤمِّنًا لمصالح المسلمين. لذلك فإن طرح النظريات، واعتماد الآراء التي من شأنها تعقيد حياة المسلمين أبعد ما يكون من الشريعة الإسلامية. فهناك فرائض وحدود يجب على المسلمين أن يعلموها، وتلك ليست مُعضلة لهم حتى يتفرقوا بشأنها، وليس من التشريع بشيء البحث فيها لأن ذلك يعقّد سلامة تلك الفرائض والحدود أو يسيء إليها مهما كانت النوايا. وفي الحديث: «إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». وأيضًا عن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم، من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها».
3 ـــــــ البعد من الاختلاف والتفرق في الدين، لقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة الأنبياء: 92]. وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[سورة آل عمران: 103]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال: 46]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام: 159]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران: 105].
4 ـــــــ الرجوع إلى الكتاب والسنّة في المسائل والقضايا المتنازع فيها، عملًا بقول الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء: 59]. وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى: 10]، فالأحكام الشرعية تُستقى من هذين المصدرين الأصليين وقد أوكل الله تعالى إلى نبيِّه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، الحكم بين الناس بموجب الكتاب، وبما يُريه سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [سورة النساء: 105)؛ ففي الكتاب دينُنا وأحكامُنا الشرعية، وما عصى علينا من فهم النصوص أوضحته السنّة النبوية، فكانت شريعتنا عمليًّا مكتملة المنهج والرؤية، وليس على العلماء إلَّا إعمال الفكر، لفهم النصوص من الكتاب والسنّة، ومن ثَمَّ إعطاء الحكم بالاستناد إليهما، فيأتي الحكم الشرعي ليبيّن أنّ لكل مسألة حلًّا.
وما دام الأصلُ عند المسلمين واحدًا، وما دام الأساس هو عينه، فلا مجال، بعد ذلك للاختلاف حتى لا نقع في شقاق بعيد، ونزاع دائم، لا يجلب علينا إلَّا الوبال والتقهقر والانحطاط، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [سورة البقرة: 176]، وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [سورة النساء: 65].
ولا ريب في أن الصحابة والتابعين قد ساروا وفقًا لهذه القواعد خلال القرون المشهود لها بالخير في تاريخنا الإسلامي، ولم يكن بينهم خلاف في الجوهر، وما تباين الآراء التي ظهرت عندهم في عدد من المسائل إلَّا مرده إلى التفاوت في فهم النصوص، بحيث كان بعضهم أقدر من بعضهم الآخر على استيعاب مقاصدها؛ فلما جاء أئمة المذاهب: الجعفري، الزيدي، الحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي، تبعوا سنن السابقين. إلَّا إن بعضهم كان أقرب إلى السنّة كالحجازيين لكثرة حَفَظَة الحديث بينهم، في حين أن بعضهم الآخر، كأهل العراق، كانوا أقرب إلى الرأي والاجتهاد لقلة حفظة الحديث بينهم، بسبب بُعد ديارهم من منازل الوحي.
وكانت جهود أولئك الأئمة منصبّة على تقريب الدين من أذهان الناس، وإفهامهم أحكامه بما يتوافق مع الكتاب والسنّة، والجدير بالذكر أنهم كانوا ينهون عن تقليدهم من دون فهم الدليل، ويعلنون بأنه لا يجوز لأحد أن يقول قولهم، أو يعمل بما يعطون من أحكام من دون فهمه الدليل الذي بنوا عليه آراءهم. ولئن كانوا يصرحون بأن مذهبهم هو الصحيح فإنهم كانوا يؤكدون على عدم التقليد من دون الدليل، وهذا ما أوضحه تقي الدين بن تيمية بقوله: «لا تقلّدني ولا تقلد مالكًا والشافعي، وتعلَّمْ ما تعلَّمْنا».
كان جل همّ الأئمة الأولين إذن إعانة الناس على فهم الدين وأحكامه الشرعية، لكن الناس لم يأخذوا بنصح أولئك الأئمة، ولا بما نهوْا عنه، بل على العكس من ذلك، دار الزمان على المسلمين حتى ثبطت الهمم، وضعفت العزائم، فتراخى المفكرون عن طلب العلم، وعمَّ التقليد حتى كان الانتصار للمذهب، بدلًا من الكتاب والسنّة، وساد التعصب بين الناس بما جعل كل جماعة تُعدّ المذهب الذي تسير عليه وحَدَه الصحيح، وباقي المذاهب غير مجدية، إن لم تكن باطلة في نظرها؛ وكانت تلك الجماعات تنزل أقوال إمام المذهب مَنْزِلة قول الله تعالى، فلا يعمل أحدٌ إلَّا بما أفتى الإمام ولا يجيز أحد لنفسه أن ينظر في مسألة خلافًا لما استنبطه إمامه؛ وقد بلغ التعصّب للمذهب إلى حدٍّ جعل معه الكرخي يقول: «كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوَّل أو منسوخ».
وكان من الطبيعي. ونتيجة للتقليد وللتعصب للمذاهب أن فقدت الأمة الاهتداء بالكتاب والسنّة، وصدر الرأي بسد باب الاجتهاد، وتحولت الشريعة، تبعًا لذلك، إلى أقوال الفقهاء، فأقوال الفقهاء هي الشريعة، بغض النظر عن مقدرة الفقيه، وعلمه، وعدله وحرصه على الشريعة، بل عُدَّ كل من يخرج على أقوال الفقهاء مبتدعًا، لا يوثق برأيه، ولا يعتد بفتاويه.
وقد ساعد على انتشار تلك الروح التعصبية مساندة الحكام، وأصحاب النفوذ لهذا المذهب أو ذاك، فكانوا ينشئون المدارس، ويقصرون التدريس فيها على مذهب بعينه، فكان ذلك سببًا مهمًّا للإقبال على مذاهب معينة، خوفًا من الحاكم وأعوانه، أو حرصًا على إرضاء صاحب النفوذ، ومن ثَمَّ طمعًا في الكسب، وفي نيل الأعطيات التي كانت تمنح من ذوي السلطان والجاه!.
سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلًا: «وما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟» ولما سكت البلقيني ولم يجب، قال أبو زرعة: «فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلَّا طلبًا للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأن من خرج عن ذلك لم ينله شيء من الوظيفة. وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن طلب إفتائه ونسبت إليه البدعة».
ولم يكن لدى البلقيني إلَّا موافقة أبي زرعة على ما قال، لأن تلك كانت هي الحقيقة للواقع السائد والتي تدور كلها حول تأمين المصالح الشخصية، والطمع في هذه الدنيا، سواء بمالها أو بجاهها...
تلك أسباب وعوامل كانت كافية لإقفال باب الاجتهاد، والاكتفاء بالتقليد. وليت الطامعين عملوا بما عمل به الأئمة السابقون، فكم لاقى الإمام جعفر الصادق، والإمام أبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، من جور الحكام، حتى ينصاعوا لرغباتهم ويفتوا بما يوافق أهواءهم، فامتنعوا خوفًا من الله تعالى، ولم يفتوا إلَّا بما يوافق الكتاب والسنّة... وبذلك أعطى أئمة المذاهب الإسلامية غنًى في الشريعة، وثروة للمسلمين، لأنهم عملوا بما يرضي الله ورسولَهُ، فجاءت من بعدهم عهود، حيث غلبت المطامع على العقول، والثروات على العلم، فاستشرى الضعف، ودبَّ الانحلال، وصار التعصب يزداد يومًا بعد يوم، حتى وصل إلى الحد الذي جعلهم يختلفون في حكم تزويج الحنفية من الشافعي، أو الجعفريِّ من الحنفية فقال بعضهم: «لا يصح مثل هذا الزواج لأنها تشك في إيمانها» (وحجتهم في ذلك أن الشافعية يجوزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله)... وقال آخرون: يصح زواج الحنفية من شافعي قياسًا على الذمية!... وأما الزواج من الجعفرية فيقولون عنه إنه زواج من شيعية مشكوك في عقيدتها. أفلا يعَدُّ ذلك تعصبًا ما بعده تعصب، وترّهات في استنباط الحكم الشرعي؟! بل وما زالت مثل هذه المسائل كثيرة في أيامنا هذه، ولا سيما التباعد بين أهل المذاهب الإسلامية، والجفوة القائمة بين السنّة والشيعة الإمامية من دون وجه حق، وخلافًا للدين، ولما أمَرَ به الله تعالى ورسوله الكريم!!...
لقد كان من جراء ذلك اختفاء معالم السنن، وخمود الحركة الفكرية، وانتشار البدع، مما أدى إلى ضعف الأمة الإسلامية، وقعودها عن النهوض، فوجد الدخلاء ثغرات ينفذون منها إلى حياة المسلمين، بل وصلت بهم القُحَّة إلى أن ينفذوا إلى الإسلام ويعملوا جاهدين على تشويهه كذبًا وافتراءً؛ فكم من مؤلفات صدرت تدين تعدد الزوجات في الإسلام، أو تدين علاقة الرجل بالمرأة، أو تدَّعي عدم قدرة الإسلام على مسايرة ركب الحضارة والتطور، إلى ما هنالك من البدع والافتراءات التي منها الإسلام براء... والسبب الرئيسي يعود إلينا؛ بسبب تقاعسنا أولًا عن فهم ديننا، وثانيًا ترك هذا الدين، وانجذابنا إلى كل إغراءات الغرب ومشوقاته المادية والحياتية حيث بات الكثير منا يرى أن الاشتغال بالتشريع الإسلامي مفسدة للعقل والقلب معًا، وبما أنه لا يطبق حاليًّا فإنه بات مضيعةً للوقت، وليست له القدرة على القيام بتنظيم شؤون الحياة في عصرنا هذا... مع أن هذا الدين إنما أنزله الله ربُّ العالمين هداية للناس ورحمة، ونظامًا قويمًا للحياة، وسبيلًا للمعاش والمعاد... فكيف يكون تشريع الله تعالى ـــــــ وهو خالق الخلق ومدبر الحياة ومنشئ الإنسان ـــــــ تشريعًا لا تستقيم معه حياة الناس في كل عصر ومصر، وتكون تشريعات أهل الأرض الوضعية هي الواجبة التطبيق؟ أليس ذلك عجبًا حقًّا؟!.
كلَّا أيها الناس ليس إلَّا الإسلام، والإسلام وحدَه هو الكفيل بسعادتكم في الدنيا والآخرة. ومن هنا كان دور المجتهدين في الأمة دورًا قياديًّا في تفسير الكتاب والسنّة وبعدها في سنِّ القوانين والدساتير القائمة على فهم الكتاب والسنّة واللغة العربية، وخصوصًا ما تعلق منها بالأحكام الشرعية في المعاملات والعلاقات، التي من شأنها أن تنير سبيل المسلمين والناس أجمعين.
وإليك أيها القارئ الكريم الفصل الأول المتعلق باللغة.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢