نبذة عن حياة الكاتب
علم اصول الفقه الميسر

الفصْل الثاني - في التّفْسِير
التفسير
ينصبّ بحثُنا في هذا الفصل على الأمور التالية:
ـــــــ التفسير وأنواعه.
ـــــــ ماهيّة تفسير النصوص.
ـــــــ مناهج التفسير عند السابقين.
ـــــــ كيفية تفسير القرآن الكريم.
ـــــــ ماهيّة التشريع الإسلامي.
البحث الأول: التفسير وأنواعه
أولًا: معنى التفسير:
التفسير معناه البيان: يُقال: فسَّره: أي أبانه، وأوضَحَهُ...
وتفسير الحكم يعني كشف المقصود باللفظ والمعنى المـــُــشْكلَين.
وعندما يتعلّق التفسير بآيات القرآن الكريم، لا بدّ من أن يفرَّق بينه وبين التأويل؛ فالتفسير يرمي إلى بيان المراد باللفظ، والتأويل يرمي إلى بيان المراد بالمعنى؛ أي إنّ الجهد، إجمالًا، يكون منصبًّا على شرح الآيات القرآنية بمدلولها اللغوي، وتبيان معانيها، واكتشاف ما تنطوي عليه من عقائد وأسرار وأحكام.
وقد تنوّع التفسير، وتعدّدت مذاهبه، واختلفت مدارسه؛ لا بل حصل، أحيانًا كثيرةً، تباين بين اتجاهات المفسِّرِين، فظهرت من جرّاء ذلك طرائق أو أنواع متعدّدة في التفسير، أبرزها:
ـــــــ التفسير اللغوي الذي ينصبُّ على النواحي اللفظية والأدبية والبلاغية والفكرية التي تتضمنها نصوص القرآن الكريم.
ـــــــ التفسير الذي يُعنى بمضمون الآيات من حيث معانيها ودلالاتها.
ـــــــ التفسير الذي يتّخذ من الحديث الشريف قاعدة ليوضّح النص القرآني بالاستناد إليها، أي التفسير بالمأثور عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أو بما استند إليه الصحابة والتابعون من الحديث.
ـــــــ التفسير الذي يعتمد على العقل لفهم نصوص القرآن وما تتضمن من أحكام.
هذا، فضلًا عن أن بعض المفسّرين اتخذ له مذاهب معينة، وحاول تفسير آيات القرآن بما يتوافق مع تلك المذاهب، في حين أن بعضًا آخر عمل على تحديد آراء مسبقة له، ثم حاول تبرير صحة تلك الآراء بالاعتماد على تفسيره الخاص للنصوص بما يجعلها تتوافق مع آرائه... وتلك الاتجاهات المذهبية، أو تلك الآراء المسبقة، لا يمكن أن تعبّر عن إيمان وإدراكٍ حقيقيين لقُدسية النصوص وأهدافها السامية. إذ مهما كانت الاتجاهات أو الآراء عند المفسِّرين فلا بدّ من أن تخضع لحقيقة النصوص ليُصار إلى تطبيق الآراء على النصوص تطبيقًا كاملًا، فإن جاءت أحكام النصوص تؤيدها كانت الاتجاهات صحيحة والآراء صائبة، وإلَّا حكم بفسادها وبُطلانها لتعارُضها مع النصوص ما دام التطابق غير موجود.
على أننا، ونحن في صدد وضع مقدمة لدراسة الأحكام الشرعية وفقًا للكتاب والسنّة، سوف نحاول إبراز اتجاهين رئيسيين من الاتجاهات المتعددة التي ظهرت في حركة التفسير الإسلامي، وهما: الاتجاه التجزيئي، والاتجاه الموضوعي في التفسير.
1 ـــــــ التفسير التجزيئي:
التفسير التجزيئي هو الذي يتناول فيه المفسِّر آيات القرآن الكريم، آيةً آيةً، من أول آية في سورة الفاتحة إلى آخر آية في سورة الناس؛ فيأخذ الآية الواحدة، ويبحث عن السياق الذي وقعت فيه، ثم يجمع سائر الآيات التي تشترك مع هذه الآية في مفهوم أو مصطلح، مستعينًا في عمله بالأحاديث النبويّة، وبالتفسيرات الأخرى التي يجد فيها ما يؤيد وجهة نظره، ويتوافق مع قصده، لكي يضع في النهاية التفسير الذي يراه لتلك الآية...
وقد تدرَّج هذا النوع من التفسير منذ عهد الصحابة الأخيار وعبر قرون طويلة من التاريخ الإسلامي، متناولًا توضيح بعض الآيات القرآنية وشرح مفرداتها. وظلّ ينمو، ويزداد حتى وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن مع الطبري، والطبرسي، وابن كثير، والزمخشري، والقرطبي وغيرهم، أي منذ أواخر القرن الثالث وحتى القرن السادس الهجري.
وكانت الدوافع إلى التفسير التجزيئي كثيرة، ولكن يبقى أبرزها محاولة إزالة ما اعترض النصّ القرآني من غموض وإشكال على الناس، صار معه كثير من آيات القرآن، من حيث معانيها ومدلولاتها اللغوية، في حاجة إلى توضيح وإبراز. والعلّة في ذلك أنه عندما أنزل القرآن على قلب سيّدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، استطاع بأمر من ربِّه أن يفهمه، وأن يبيِّنه للناس... ولكن مع مرّ الزمن، بدأ الناس يبعدون شيئًا فشيئًا من فهم القرآن، ومن مفاهيم الإسلام الصحيحة، وكان ذلك بتأثير الأحداث وتعاقبها، واتّساع رقعة الدولة الإسلامية وبروز المشكلات الكبيرة التي اعترضتها، ناهيك بأعداء الإسلام، وتربُّصهم به، ومثابرتهم على التشويش حينًا، وعلى الدسِّ حينًا آخر بحيث دأبوا من أول يوم سمعوا رسول الله محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، إلى يومنا هذا على بذل كل طاقاتهم وجهودهم للقضاء على هذا الدين...
تلك الأسباب كانت كافية لإبعاد أُولي الأمر من الحكّام والوُلاة خصوصًا، ولإبعاد المسلمين عمومًا، عن التمسّك بأهداب هذا الدين القويم، فكان التفسير التجزيئي حائلًا دون أسباب التدهور، وذلك بإرسائه مدلولات الآيات القرآنية وألفاظها على قواعد متينة، فكتب الله تعالى له النجاح، على ما نجده في موسوعات التفسير.
وقد قام التفسير التجزيئي، في البداية، على الحديث؛ فكانت أحاديث رسول الله، صلى الله وعليه وآله وسلم، أساسه الوحيد، مُضافًا إليها بعض المعلومات اللغوية والأدبية والتاريخية التي كان المفسِّر يعتمد عليها لتوضيح الحديث، وبيان أحكامه أو مَراميه.
بعد الأحاديث الشريفة اتّجه هذا النوع من التفسير نحو الآيات القرآنية إلّا إنه لم يكن قادرًا على ترتيب مدلولات القرآن الكريم، والمقارنة بينها، لاستخراج أفكار وآراء من وراء هذه المدلولات اللغوية، لأنه بطبيعته كان تفسيرًا لفظيًّا، وشرحًا للمفردات، وبيانًا لبعض المصطلحات المستجدّة، وتطبيق بعض المفاهيم على أسباب النزول. ومن جرّاء ذلك كان من الطبيعي ألَّا يتسنَّى للمفسّر أن يقوم بدور اجتهادي مُبدِع، لمعرفة ما وراء المدلول اللغوي واللفظي، أو التوصّل إلى الأفكار الأساسية التي تتضمنها الآيات القرآنية.
وهكذا فإن التفسير التجزيئي كان يقوم على طرح الآية على البحث، مستعينًا بالآيات الأخرى التي تؤيّدها أو تقاربها، وبالأحاديث والروايات، والأبحاث والقواعد التي تمكّن المفسّر من الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية التي يبحثها. وبذلك كان هدفُه تجزيئيًّا، أي فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني، من دون أن يتجاوزه.
ولئن أمكن، بمثل هذا التفسير، الوصول إلى معارف ومدلولات قرآنية عدة، إلَّا إنها تبقى، على الرغم من ذلك، نوعًا من التراكم العددي، بحيث لم تحدّد وجوه الارتباط، أو تكشف التركيب العضوي القائم في ما بينها، كما أنها لم تتوصل إلى تحديد أهداف القرآن لكل مجالات الحياة وموضوعاتها.
ولئن استطاع التفسير التجزيئي أن يوقف حالة التدهور المستمر في المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وحقّق دورًا إيجابيًّا على هذا الصعيد، فإنه في المقابل أفسح في المجال لظهور مذاهب متناقضة في حياة المسلمين؛ بحيث كان أصحاب هذا المذهب أو غيره، يتوسّلون بالآيات القرآنية التي توافق مذهبهم، والتذرّع بها، لتجميع الأنصار حول مذهبهم، كما حصل في المسائل الكلامية مثل مسألة «الجَبْر» التي اعتمدوا فيها على الآية الكريمة: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات: 96]؛ فكان تفسيرهم للآية الكريمة: أنَّ الله خلق الإنسان وخلق أعماله معه، أو مسألة «خلق القرآن» التي اعتنقها المعتزلة مستشهدين بالآية الكريمة: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [سورة الأنبياء: 2]، فكان تفسيرهم: أن الذِّكْر هو القرآن، والمحدث يعني المخلوق، فقالوا: إن القرآن مخلوق...
ومن جرّاء تفسيراتهم التجزيئية تلك، برزت تلك التناقضات في المذاهب والمناهج، بما كان له أسوأ الأثر في حياتنا الإسلامية.
ولو لم يقيّض الله تعالى لبعض المجتهدين طريق التفسير الموضوعي، في بعض الأمور المتعلقة بالأحداث التي كانت تقع في حينها، ولولا هذا التفسير الموضوعي نفسه، لبعض آيات القرآن الكريم، لكان حصل تدهور أكثر في الأفكار والمفاهيم الإسلامية، ولكان حلَّ خطرٌ أدهى وأمرُّ على وَحدة المسلمين، وزاد في تفكّكهم وانحدارهم. لكن التفسير الموضوعي جاء ليسدَّ الفراغ في محاولة لإرساء قواعد جديدة للتفسير.
2 ـــــــ التفسير الموضوعي:
لا يتناول التفسير الموضوعي الآيات القرآنية، آيةً آيةً ـــــــ كما هي الحال مع التفسير التجزيئي ـــــــ لكنه يحاول من خلال النصوص القرآنية برمّتها أن يتناول دراسة موضوع معين من موضوعات الحياة العقائدية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية. أو قد تكون دراسته عن قضية معينة من قضايا الكون، فلا فرق؛ فالمهم أن يضع المفسّر نُصب عينيه موضوعًا معيَّنًا، من المواضيع التي يتناولها القرآن الكريم ـــــــ وهو كتاب مبيّن قد تناول كل المواضيع التي تهمُّ الإنسان كما سنرى ـــــــ ليقوم بعدها بالبحث والتنقيب، والتبيين والمقارنة، وغيرها من الوسائل الفكرية، التي تقوده في النهاية إلى وضع دراسة شاملة عن هذا الموضوع، يتحدّد بموجبها موقف القرآن الكريم منه، بحسب طاقة المفسّر وما أمكنه الوصول إليه. فالهدف من التفسير الموضوعي إذًا هو تحديد موقف صحيح للقرآن الكريم من أيّ موضوع قد يتناوله المفسّر، ومدى انطباق هذا الموقف عمليًّا على شؤون الحياة أو على حقائق الكون.
ومن الأمثلة على الموضوعات التي يتناولها التفسير الموضوعي: عقيدة التوحيد، أو البحث عن النبوّة أو عن المذهب الاقتصادي، أو السُّنن التاريخية، أو العلاقة بين الرجل والمرأة، أو العلاقة بين الأرض والنظام الشمسي، وما إلى ذلك من الموضوعات المتنوعة في القرآن الكريم.
إذن، هذه وظيفة التفسير الموضوعي... وعلى المفسِّر هنا أن يحمل أفكار عصره، وما احتوى التراث البشري قبل هذا العصر، وما استطاع تعلّمه من خلال تجاربه البشرية واطّلاعه على تجارب غيره، ليضعها جميعها على بساط البحث أمام القرآن المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليستخرج صحيحَها من باطِلها، بالمقارنة بآيات هذا الكتاب، ثم يحاول بعدها استنباط الحكم الشرعي، وفقًا لما يمكن لهذا المفسّر أن يستشفّ أو يتبيّن من نصوص الآيات الكريمة ـــــــ مع الاستعانة بالأحاديث الشريفة ـــــــ التي يناقشها أو يحاول تفسيرها من أجل معالجة المسألة المطروحة أمامه، أي الموضوع الذي وضَعَهُ هدفًا له.
ولا شك في أنَّ المفسِّر يكون في مثل هذه العملية قد جعلَ القرآن الكريم يلتحم مع واقع الحياة، إذ إن التفسير لنصوصه يستلزم أساسًا البدء من هذا الواقع حتى ينتهي إلى القرآن، وليس خلاف ذلك. بحيث لا يبدأ مباشرةً من القرآن وينتهي به، إذ تكون عملية التفسير في مثل هذه الحالة الأخيرة، منقطعة عن الواقع، وبعيدة من التجربة البشرية، فلا يأتي التفسير متكاملًا أو متوافقًا مع أهداف القرآن نفسه.
وبمثل هذه العملية المتكاملة التي تنطلق من واقع الحياة، يمكن للتفسير الموضوعي أن يحدّد، في ضوء القرآن ـــــــ بصفته القيّم على شؤون الحياة ـــــــ الاتجاهات الربّانية لأيّ واقعٍ كان... ومن هنا تبرز قدرة القرآن الكريم في: قيمومته الدائمة، وفي عطائه المستمر، وإبداعه المستجد. إذ كلما نضج الفكر البشري، وجد في مضامين القرآن مجالاتٍ رحبةً لهذا النضوج، وآفاقًا لا تحدّ في التكيّف مع وقائع الحياة وحقائق الكون.
وهنا أيضًا تكمن القدرة في تكيُّف العقل الإنساني مع القرآن، إذ إن معالجة شؤون الحياة بعامّة، وشؤون الإنسان بخاصّة، من خلال القرآن، لا تكون بالتفسير اللغوي وحده. لأن تفسير الألفاظ يبقى محدودًا، ما دامت للّغة طاقات محدودة، وما دام هنالك ـــــــ عادةً ـــــــ عدم تجدُّد دائم في المدلول اللغوي... وعلى افتراض أن مثل هذا المدلول قد وُجد فلا معنى لتحكيمه على القرآن، وحتى لو وُجدت لغة أخرى بعد القرآن، أو مصطلحات جديدة، أو ألفاظ تحمل مدلولات وضعيّة مستهدفة... فلا معنى لأن يُفهَم القرآن من خلالها، ما دام تفسيره يبقى لغويًّا ومقتصرًا على تلك التراكيب اللغوية الجديدة فقط؛ فالتفسير اللغوي لا يملك طاقات لامتناهية، ومهما اتّسعت آفاقه، وتنوّعت ألفاظه ومدلولاته، يبقى محدودًا أمام القرآن الكريم أو بالمقارنة به... في حين أن القرآن، وبما هو عليه من بيان، وبما يحمل من المعاني، تظل طاقاته متدفقة، ولا يمكن أن تتوقف عند مجالٍ محدودٍ، أو زمنٍ معدودٍ؛ وهذا ما صرَّح به القرآن نفسه عندما أعلمَنَا أن كلمات الله تعالى لا تنفد، والقرآن هو كلام الله جلّ وعلا، إذن، فما فيه لا ينفد، ومُحال أن ينفد، تصديقًا وتِبيانًا لقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [سورة الكهف: 109]؛ ولقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة لقمان: 27].
وهذا المداد الذي لا ينفد هو، بلا ريب، ما تتضمنه الآيات القرآنية من معانٍ غير متناهية ـــــــ وفقًا لطاقتنا البشرية ـــــــ إذ نحن لا نستطيع إدراك تلك المعاني إلَّا بقدر ما نُؤتى من معرفة، وعلم وحكمة، لأنه لا يمكن لعقل بشري أن يحيط عِلمًا بمكنونات القرآن، كونه كلام الله تعالى وكلام الله تعالى لا تحدّ معانيه... إلَّا إنه مع ذلك كله، يبقى التفسير الموضوعي أقرب إلى أن يقف على معاني القرآن الكريم، لأنه تفسير يحاول أن يستنطق هذا القرآن ليستشفَّ منه حُكم الله تعالى على وقائع الحياة، وعلاقات الإنسان. من هنا قدرة التفسير الموضوعي على التطور والنمو، وقدرته على الثّراء من التجربة البشرية، ولا سيما أن دراسة النصوص القرآنية في ضوء هذه التجربة البشرية من شأنها أن تقود إلى فهم إسلامي صحيح لما قد ينبثق عنه من أحكام شرعيّة.
ولا بدّ من الإشارة، ولو عُبورًا، إلى أن المقصود بالتفسير الموضوعي ليس الموضوعية التي تعني التجرّد، وعدم التحيّز بالبحث، أي الوقوف موقف المدقّق العادل، والباحث المتجرّد مما هو مطروح على البحث، فمثل هذه الموضوعية مطلوبة أصلًا في أيّ نوع من أنواع التفسير، بل هي سجيّة أهل العلم والمـــُـــنصفين... بل المقصود بالموضوعية هنا تناول موضوع معين من موضوعات الحياة، بدءًا من الواقع وانتهاءً به إلى حكم القرآن عليه، أي دراسة مختلف الآيات ـــــــ ومعها الأحاديث ـــــــ التي تتناول الموضوع نفسه، وتوحيد مدلولاتها، لاستخراج المضمون القرآني حول هذا الموضوع. وهذا الاتجاه هو ما سارت عليه الأبحاث الفقهية في غالبها، إلَّا إنها لم تبلغ درجة الشمول في المواضيع التي تناولتها، بحيث لم يتناول الفقهاء، عادة، مختلف الأفكار والأبحاث التي انبثقت عن العقل البشري، ولم يأخذوا بمجمل التجارب السابقة، فجاءت دراساتهم منقوصة، بحيث لم تُلبِّ حاجات الإنسان المتطورة... هذا مع أن معظم أولئك الفقهاء تناولوا وقائع الحياة التي عايشوها، وبحثوا في المسائل التي عكستها تلك الوقائع، كما هي الحال في مسائل: المضاربة، المــُــزارعة، المــُــساقاة، النكاح والمعاهدات وما إليها من مسائل التصقت بحياة الناس، ثم استطاعوا أن يستنبطوا الأحكام الشرعية لتلك المسائل من مصادر الشريعة الإسلامية التامّة الكاملة. من أجل ذلك لم تكن أبحاث الفقهاء على مستوى من العمق والشمول لتدارك وقائع الحياة وأحداثها، كونها تتجدّد باستمرار، وتتولَّد معها ميادين جديدة من صميم الحياة. لذلك كانت الحاجة مستمرة، إلى التفسير الموضوعي، الذي يمكنه، إذا ما تسنَّى له أهل فكر وعلم واختصاص، أن يواجه كل وقائع الحياة التي تستجدُّ مع الزمن.
صحيح أن تلك الوقائع التي عايشها عدد كبير من فقهاء المسلمين، ولا سيما الأوائل منهم، أمثال: المحقّق المحلّي، الشيخ الطوسي، الإمام الشافعي، ابن تيمية وغيرهم... كانت وقائع تعبّر عن أزمنتهم، وتفِي بحاجات تلك الأزمنة إلى حدٍّ كبير، ولكن كَمْ من مسائل أو مشكلات أو أحداث لم تكن معروفة، وقد استجدّت من بعدهم، بل لقد أصبحت لها مقاييس غير ما كانت عليه من قبل، كما نرى في مسائل الزراعة والصناعة والتجارة، وفي العلاقات الاقتصادية بعامّة، أو كما نلمس في العلاقات السياسية الداخلية والخارجية بين الدول، هي اليوم، في كثيرٍ من جوانبها، غيرها في الماضي... كما أن التطور التقني، وانتشار الآلات الحديثة، والأدمغة الإلكترونية وغيرها، وغيرها، هي أشياء جديدة على الفكر البشري، ولم تكن معروفة سابقًا لدى الناس!...
هذا التجدّد أو التطور الدائم هو ما يدعو الفقه، أو ما يفرض عليه، لأن يأخذ دوره من جديد، بحيث يكون حريصًا اليوم، ـــــــ كما كان علماؤه الأوّلون ـــــــ أن يضع تحت مشرحته كل المستجدّات، ليوجد لها الأحكام الشرعية التي تتناسب مع عصرها... ويقينًا أن شريعتنا لا يعوزها شيء، فإن حصل التقصير، فمردّه إلى نفوسنا، وإلى تخاذلنا وتواكلنا على غيرنا ـــــــ من غرب وشرق ـــــــ حتى باتت أفكارنا شبه مشلولة، أو هي عقيمة عن تولّد الجديد، وعن استنباط الحكم الشرعي لهذا الجديد!...
فالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم ـــــــ وحده إذًا ـــــــ قادرٌ على أن يتوغل، أفقيًّا وعموديًّا، في مختلف مناحي الحياة وشؤونها، لكي يوجِد الأفكار الرئيسية التي تعبّر عن وِجهة نظر الإسلام تجاه كل شيء. ففي مجال الاقتصاد يجب أن نستخرج من الكتاب والسنّة النظام الاقتصادي في الإسلام؛ ومثله النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه علاقة الرجل بالمرأة، أو النظام السياسي الذي تقوم عليه الدولة والحكم، وكذلك الأمر فيما يعود إلى العلاقات الدولية، والسياسة الدولية، وكل شأنٍ من شؤون الناس، في علاقاتهم شعوبًا وأفرادًا... وطبعًا كل ذلك، بحسب قدراتنا وطاقاتنا البشرية، وعلمنا المحدود قياسًا على العلم الإلهي إذ إنَّ الله ـــــــ سبحانه وتعالى وحده ـــــــ هو العليم الحكيم، وهو وحده الذي أحاط بكل شيء علمًا.
3 ـــــــ وجوه الاختلاف بين التفسيرين التجزيئي والموضوعي:
ممَّا تقدّم يتبيَّن بوضوح أن هنالك اختلافًا بين الاتجاهين التفسيريين للنصوص القرآنية، ففي حين يستهدف التفسير التجزيئي استخراج مدلولات الآيات القرآنية بصورة فردية، يحاول التفسير الموضوعي أن يلمَّ إلمامًا شاملًا بموضوع معين، لإعطاء دراسة متكاملة عنه، تُبيِّن مدى انطباق المضمون القرآني على الواقع الذي يتكوَّن منه هذا الموضوع.
لكنَّ هذا لا يعني الانفصال التام بين الاتجاهين، لأن التفسير الموضوعي يحتاج إلى تحديد المدلولات اللفظية أو التجزيئية في الآيات التي تتناول الموضوع الذي يُبحث. كما أن التفسير التجزيئي، قد يتناول أحيانًا، موضوعًا معيَّنًا، أو مسألة محدّدةً، وذلك بصورة شاملة من خلال التجزئة التي يعتمدها منهجًا، بمعنى أن كلًّا من التفسيرَين قد يكون متداخلًا في الآخر أو هو في حاجة إليه، على أنهما على الرغم من ذلك يشكِّلان اتجاهَين مختلفَين في المنهج والأسلوب، وفي الأهداف والمحصَّلات الفكرية.
وكما اعتمد هذانِ الاتجاهانِ في تفسير الآيات القرآنية منهجية محدَّدة، فإنهما تناولا أيضًا الأحاديث النبويّة الشريفة؛ أي قام التفسير التجزيئي بتناول الأحاديث، حديثًا حديثًا، كما قام التفسير الموضوعي بطرح مسائل معيَّنة تناولتها الأحاديث، من خلال تطبيق كل الأحاديث التي تتطرَّق إلى مسألة واحدة، وتبيان مدى ترابطها وانطباقها على هذه المسألة، ولا سيما من الناحية العملية.
أما فيما يتعلق بالمدى الزمني فقد كانت السيطرة للتفسير التجزيئي الذي عرفه تاريخنا الإسلامي خلال ثلاثة عشر قرنًا من الزمن؛ في حين أنه في المقابل سادَ التفسير الموضوعي معظم الأبحاث الفقهية، فكان انتشاره أوسع على صعيد الفقه.
وقد ظهرت بعض الدراسات التي عُدَّت من التفسير الموضوعي، كالدراسات المتعلقة بأسباب النزول، أو الناسخ والمنسوخ، أو القراءات في القرآن الكريم، أو مجازات القرآن... والحقيقة أن مثل هذه الدراسات لا تنطبق على مفاهيم التفسير الموضوعي، بل هي عبارة عن تجميع عددي لقضايا معيَّنة، وليس كل عملية تجميع من هذا القبيل دراسةً لموضوع معيَّن من مواضيع القرآن الكريم، كونها لا تطرح موضوعًا محدّدًا في العقيدة مثلًا، أو في شأنٍ من شؤون الحياة، وتتوجّه إلى إبرازه وتوضيحه وتقييمه، ومن ثم إلى استخراج المضمون القرآني العائد إليه، فمثل ذلك لا نجد له أثرًا في تلك الدراسات، ومن هنا كان ابتعادها عن التفسير الموضوعي.
يضاف إلى ذلك أن كثيرين من المفكّرين المسلمين يرون أن التفسير الموضوعي قد ساعد على تطوير الفكر الإسلامي نحو الفقه، ووضع الدراسات العملية في هذا الشأن، في حين أن التفسير التجزيئي قام بدور معوِّقٍ لتطور الفكر الإسلامي، ومنعه من النمو والانطلاق.
وقد يكون هذا صحيحًا إلى حدٍّ بعيدٍ، لأنه بعد استطلاع التفاسير التي أعطاها الطبري، والرازي، والطبرسي وغيرهم ممّن هم في نفس المستوى العلمي والفِقهي، فإننا لا نجد في الدراسات الإسلامية الأخرى تقدّمًا ملحوظًا، بحيث ظلّت عملية التفسير على حالها من الجمود، على الرغم مما حفلت به حياتنا الإسلامية، من تغيّرات مهمة وجذرية، وما حفلت به حياة العالم كله من أحداث متعاقبة.
وعن الدور الذي يقوم به كل نوع من التفسيرين فإنه يتبيَّن من الدراسات الإسلامية بهذا الخصوص أن دور المفسِّر التجزيئي كان سلبيًّا في معظم الأحيان، لأنه حين كان يتناول الآيات القرآنية، آيةً آيةً، أو حين كان يتناول مقطعًا من القرآن الكريم، فإنه كان يفعل ذلك من غير تصورات أو افتراضات أو طروحات سابقة لديه، فكان يحاول أن يحدد المدلول القرآني بقدر ما يُسعِفه به اللفظ، وما قد يُتاح له من القرائن التي تساعده على ذلك التحديد. وكأنما كان النص ـــــــ في هذه العملية ـــــــ يقوم بدور المتحدّث، في حين أن المفسِّر يكتفي بدور المستمع والمصغي والمتفهّم، ولكن بذكاء بارز، وفكر صافٍ، وعقلية محوطة بآداب اللغة وأساليبها في التعبير، لأنه من دون هذه المقوّمات، لا يمكن له أن يَعِي لفظ النص ومدلولاته، إذ هو في حضرة القرآن الكريم، ويدرك مسبقًا ما تنطوي عليه ألفاظه وتعابيره من بلاغة ونَظْمٍ وإعجاز... وحتمًا لا يمكن لأيّ إنسان فهمها، والوقوف على مدى قوّتها وجمالها، إن لم يُسعِفه تضلُّع في اللغة العربية، وقواعدها، وأساليبها في التعبير... أي بمعنى آخر، وعلى الرغم مما يتمتع به المفسِّر من معرفة ضليعة بالعربية، فإن دوره يبقى عند حدود السلبية، في حين أن الذي يقوم بالدور الإيجابي هو القرآن الكريم نفسه، الذي يُعطي ويبيِّن... وبقدر ما يفهم المفسِّر من مدلول اللفظ بقدر ما يُتاح له التفسير.
وبخلاف ذلك، فإن المفسِّر موضوعيًّا لا يبدأ بتأمّل النص القرآني والاستماع إليه، بل هو يحدّد لنفسه موضوعًا معينًا، ثم ينطلق من وقائع الحياة والأمور العملية التي تُحيط بهذا الموضوع، ويطّلع على ما أثاره من مشكلات، وما قدِّمت لها من حلول، ويتوقف عند التناقضات التي أثارتها الحلول المقترَحة، وبعد أن يستجمع أفكاره من خلال ذلك كله، يأتي إلى الآيات القرآنية. لا ليتخذ من نفسه دور المستمِع لها فحسب، بل ليطرح عليها موضوعًا جاهزًا، مُشبعًا بالأفكار والمواقف البشرية، ثم يبدأ بعد الاستماع حوارًا بنَّاءً مع تلك الآيات...
وبمعنى آخر، فإن مَن يقوم بدور الباحث الموضوعي، يتكوّن لديه استيعاب شامل، من الأفكار والتجارب البشرية عن هذا الموضوع، وبعده يجلس بين يدي القرآن الكريم ليبدأ حواره معه من سؤال وجواب، بكل تفهّم وتدبّر وتفكّر، وهدفه أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، ليقدّم بعدها الأفكار التي يستلهمها من النصوص، ويضع الأحكام التي تنطبق على موضوعه.
من هنا كان للتفسير الموضوعي نتائج مرتبطة بالتجارب البشرية، ومنضوية إلى لواء الأفكار الإسلامية، كما كانت العملية التي يقوم عليها هذا التفسير عملية حوار واستنطاق للقرآن الكريم، كما دلَّنا عليه أمير المؤمنين عليّ، عليه السلام، وهو يقول: «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه... ألا إنَّ فيه العلم عمّا يأتي، والحديث عمّا مضى، وهو دواء دائكم، ونُظُم ما بينكم».
وهذا الاستنطاق للقرآن الكريم، الذي وجَّهنا إليه ربيب رسول الله صلى الله، عليه وآله وسلم، الرسول الأعظم الذي أُنزل عليه القرآن الكريم تبيانًا وهدًى للناس أجمعين، إنما هو الاستنطاق المعبّر عن التفسير الموضوعي، بصفته حوارًا بنّاءً مع كتاب الله عزّ وجلّ وطرحًا للمشكلات على هذا الكتاب المجيد، بقصد الحصول منه على الأجوبة أو الحلول التي تعالج بها شؤون الحياة، ومشكلات الإنسان... إذ إن في «الكتاب» تشريعًا سماويًّا من لدن عليمٍ حكيمٍ، لا يَسَع تشريعات الأرض ـــــــ مهما بلغ شأنها ـــــــ أن تُدانيه في تشخيص الدّاء ووصف الدواء. ويكفيه سموًّا وجلالًا هذه المميزات التي يجب أن تبقى راسخةً في أذهاننا، وألّا تفارق عقولنا أبدًا ألا وهي:
ـــــــ أنه قولُ الله جلَّ وعلا،
ـــــــ وأنه كتاب قد أحصى كل شاردة وواردة تتعلق بشؤون الإنسان وأبانها،
ـــــــ وأنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،
ـــــــ وأنه أعجز الإنس والجان على أن يأتوا بمثله،
ـــــــ وأن إعجازه يبقى تحديًا مستمرًّا إلى أن يرثَ الله تعالى الأرض ومَن عليها...
«وكتاب» هذا شأنه، لا خلاص للناس إلَّا به، ومن هنا وجب على المجتهدين المسلمين اتّباع طريق التفسير الموضوعي كي يخلّصوا أُمتهم من الآفات التي تفتك بها، والعالم أجمع من الشرور التي حاقت به.
وإليكم هذا النموذج المختصر والوجيز عن التفسير الموضوعي المتعلّق بالعقيدة الإسلامية، والمتعلّق بقدرة الله تعالى في الخلق، وبيوم البعث، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
كيفية إخراج الحيّ من الميت والميت من الحيّ:
والحيّ، هو مَن كانت فيه حياة، والميت هو مَن لا حياة فيه. والكائنات الحيّة هي الإنسان والحيوان والنبات. والكائنات الميتة هي الأشياء والجمادات.
وإخراج الحيّ من الميت، أو إخراج الميت من الحيّ، فوق أنه آية دالَّة على حقيقة وجود الله تعالى، وأنه هو الخالق العظيم، يحمل في طيّاته الحالات والأسباب التي أوجدها الله تعالى في سُنن الخلق، حتى يأتي خلق أيّ كائن حيٍّ أو غير حيّ وفق السنّة أو القانون المقدَّر له في الأصل، والذي من دونه يختلّ النظام العام وتخرج السنّة عن طبيعتها، وهذا لا يكون أيضًا إلَّا بقدرته سبحانه، لأنه هو الذي خلق السُّنن والأنظمة والنواميس والقوانين، وجعل لها مَسَارًا طبيعيًّا، لا تحيد عنه إلَّا إذا شاءَ لها ذلك.
فالإنسان والحيوان من الكائنات الحيّة يخرج الله تعالى منها ما هو سبب للخلق والحياة، كالنُطفة من الإنسان وبعض الحيوان، وكالبيضة من الطيور وبعض الزواحف. ذلك أن النُطفة السابِحة في المنيِّ، ومثلها البيضة، قد جعلهما الله تعالى مهيئتين لتكون منهما بداية خلق كائن حيّ. فمن النُطفة يخلق الإنسان وبعض الحيوان، علمًا بأن هذه النُطفة ليست كائنًا حيًّا ـــــــ كما يظن بعضهم ـــــــ بل فيها ـــــــ غالبًا وعادةً ـــــــ قابلية للحياة والنموِّ إذا استقرت في رحم الأُنثى المهيّأة لاستقبالها ونموِّها فيها... وكذلك البيضة فهي ليست كائنًا حيًّا بذاتها، بل هي صالحة ـــــــ غالبًا ـــــــ للفَقْس. وما ينطبق على النُطفة والبيضة ينطبق أيضًا على الحبوب والبقول، أي على جميع البذور (وهي حبّات أو حُبيبات) يأتي منها مختلف أنواع الأشجار والنبات. ذلك أن الحبة المعدَّة للغرس لا يمكن أن تنبت ثانية إلَّا إذا يبست وجفّت، فإذا تهيأت لها بعد جفافها الأسباب والعوامل الطبيعية الكافية لإنباتها عادت حيّة من جديد لتُعطي نَبتًا آخر من جنسها، أما إذا لم يكتمل جفافها، ولم تصل إلى درجة اليَبَاس أو النضج الكامل فلا يمكن أن تصلح للإنبات من جديد، وعليه فإنه لو أُعيدت زراعة حبّة من العدس أو بصلةٍ، مثلًا، قبل اليبس والجفاف، فإنهما تفسدان في الأرض، وتذهبان عبثًا بلا إنبات...
وهكذا، وبمقتضى سُنن الحياة التي أوجدها الله تعالى، تخرج من الإنسان والحيوان والطير كائنات غير حيّة تكون هي السبب لخلق كائنات حيّة جديدة، كما تخرج من الحبوب والبقول الجافّة، أي في طور مَواتها، أنواع من النباتات الحيّة، فتبارك الله ربّ العالمين الذي قدَّر، فخلق، فسوَّى...
أما الذين يأخذون بظواهر الحياة، ولا يعرفون أسرارها ومسبّباتها، فيرون بأن الكائن الحيّ يخرج من كائن حيّ آخر، علمًا بأن النُطفة في الإنسان ليست كائنًا حيًّا كما قلنا، وكذلك البيضة التي تخرج من الدجاجة... لكنَّ الظاهرة الواضحة، التي لا لَبْس فيها ولا إشكال هي إخراج الكائن الحيّ من الجمادات التي هي كائنات ميتة... ومن أجل تفسير هذه الظاهرة، وضعت نظريات عدّة لتفسير نشأة الحياة من عالم الجمادات، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمّع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة، فتضاربت من جرّاء ذلك النظريات، وباءت جميع الجهود التي بُذِلت في هذا السبيل بالفشل الذريع، ولم يستقر رأي على كيفية إخراج تلك الشجرة الباسقة مثلًا من حبّة صغيرة ميتة... لذلك لم يبقَ أمام الإنسان إلَّا الإيمان بقدرة الله تعالى على أنه الخالق العظيم، فالِق الحبّ والنوى، الذي وضع أنظمة دقيقة وثابتة، وفق سُنن مستقيمة، هي التي بوساطتها يخرج الحيّ من الميت، وما الأسباب والعوامل إلا خَدَم لسنّة الله تعالى في خلقه، وإن هذا الإخراج فيه معجزة دالّة، وآية بيّنة على عظمة الخالق، وهي مُعجزة تستدعي التفكّر والتبصّر، إذ لو أردنا الوقوف على مسبّبات خلق الكائن الحيّ، والمراحل التي يقطعها هذا الخلق، وكيف يتمّ تكوينه بما فيه من ذرّات وجزئيات وخلايا وأجهزة ـــــــ لو اختلَّت واحدة منها لجاء خلقه مشوَّهًا وغير سويّ ـــــــ لو تتبّعنا ذلك كله لأدركنا حقًّا عظمة الله في خلقه، وتفرُّده سبحانه بأسرار الخلق، بحيث لا يمكن إلَّا له تعالى وحده، ووحده فقط، أن يخلق، وأن يُعيد الخلق، كيفما يشاء، ومتى يشاء. فسبحان الله خالق الخلق الذي هو على كل شيءٍ قدير.
وللتدليل على حقيقة قانون الخلق، كما شاء له ربّ العالمين أن يكون، نبدأ بخلق الإنسان الذي يعود في أصله إلى مادة ميتة: من حمأ مسنون، أو من صلصال كالفخار، أو من طين الأرض وترابها، كما يبيّن لنا القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [سورة الروم: 20].
إن هذه الآية لمن أشدّ آيات الله تعالى إحكامًا ودلالة على أنه يُخرِج الحيَّ من الميت، فقد أخرج الإنسانَ كائنًا حيًّا من كائن ميت هو التراب. وكان ذلك عند النشأة الأولى للإنسان، كما يؤكد ذلك القرآن في آيات عدّة غيرها، وفي مواضع شتى من سوره. والسرّ العجيب في هذا الخلق إنما يكمن في أن الإنسان قد أنشأه ربُّهُ من تراب الأرض أو طينها، ليعيش على هذه الأرض، التي هي وحدها من بين الكواكب السيّارة في النظام الشمسي... صالحة للحياة... فالإنسان يعود بأصله إليها، وحياته عليها تستمر بفضل ما فيها من أشياء حيَّة؛ إذ لولا ماؤها وغذاؤها، ولولا النور الذي يغطّيها، والظلام الذي يدهمها، ما كانت للإنسان حياة؛ فلو امتنع الإنسان عن تناول الطعام والشراب مدة من الزمن لهلك، ولو عاش في النور وحده، أو عاش في الظلام وحده، لما استمرت حياته بشكل طبيعي، بل لأودى به ذلك إلى الموت، وحتى بعدما يموت الإنسان فإنه يُعاد إلى الأرض، أي إلى التراب الذي خُلِق منه أول مرة عندما أراد الله تعالى أن يجعل في الأرض خليفة، فخلق آدم عليه السلام من طين، ثم نفخ فيه من روحه فجعله بشرًا سويًّا، كما يقول تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [سورة ص: 72]. وقد كانت تسمية أول مخلوق بشري: «آدم» نسبة إلى الأرض أيضًا، أي بسبب خلقه من أدَمَةِ الأرض. وكان خلقه متناسقًا، متآلفًا، بما يدلُّ على تلك التسمية، لأنه يُقال في اللغة: آدم أدمًا بين القوم أي أصلح وألَّف ووقف بينهم...
أما مجال التناسق والتَّآلف فهو ما أوجَدَ الله تعالى فيه من خواص الفكر والإرادة والنطق، وما أوجد فيه من روح ونفس وجسَد، جعلته مخلوقًا مغايرًا لسائر مخلوقات الأرض، بل مفضَّلًا عليها جميعًا، وسيّدًا لها...
ويحقّ للإنسان أن يتساءل قائلًا: كيف لذاك الجسم الترابي الميت أن تدبَّ فيه الحياة ويستوي بشرًا حيًّا؟ فيُجيب القرآن بوضوح أن الله تبارك وتعالى قد سوَّاه قبل كل شيء وخلقه في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه من روحه؛ وتلك النفخة الإلهية، من روح الله اللطيف الخبير، هي التي جعلت الحياة تدبّ فيه، فاستوى ذلك المخلوق البشري على هذا الخلق نفسه الذي عليه البشر جميعًا.
ويبيّن لنا القرآن الكريم أن الله العليّ القدير خلق من نفس آدم نفسًا أخرى، ما إن وقَعَ نظره عليها حتى آنسَهُ وجودها، فاحتواها إليه، بأمر خالقه ومولاه، وكانت له زوجًا. تلك هي أُمُّنا حوَّاء عليها السلام، التي كانت تسميتها بسبب خلقها من كائن حيّ هو أبونا آدم عليه السلام.
ولم يكن خلقُ آدم وحوّاء إلَّا بحكمة من خالقهما العظيم وتقديره لتكتمل الحكمة الإلهية في عمارة الأرض. إذ سرعان ما راحت ذريّة آدم من بني البشر تتكاثر على وجه الأرض، حتى بلغ هؤلاء البشر هذه المليارات، وهذه الأعداد الضخمة من الأنفس التي تنتشر في البقاع والأصقاع كافة، وتتفرق شعوبًا وقبائل وأُممًا مختلفة الألوان والأجناس، واللغات، وتنشىء المدن، وتعمر الأرض، وتتقدّم في مضامير العلم والمعرفة والتكنولوجيا... وهي جميعها في حركة دائبة لا تَني ولا تنقطع في كل الأوقات، بل تأتي كل يوم بعمران جديد، وتنتشر كل يوم في مكان جديد، فسبحان الله الخالق العظيم، عندما يقول، وهو أصدق القائلين: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [سورة الروم: 20].
نعم من التراب الميت الساكن، الخامد، الهامد، كانت النشأة الأولى للبشر، ثم ها هم البشر، أحياء ينتشرون أحياءً كما شاء الله تعالى وقدَّر...
أما كيف حصل التكاثر البشري، وكيف تمّ هذا الانتشار على وجه الأرض، فذلك يعود إلى السرّ الإلهي الذي أودعه في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وبما خلق في جوارحهم من عطف ومودّة حتى يمكن للرجل والمرأة أن يعيشا في حياة زوجية، وأن يُنجِبا البنين والبنات من خلال عملية التناسل التي تحصل.
ويُفصِح القرآن الكريم عن هذه الحياة الزوجية المتآلفة بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الروم: 21].
ومَن يدرس بدقة علاقة الرجل بالمرأة، في حياتهما الاجتماعية، يجد أن الزوجية هي قوام تلك الحياة حقًّا. فالله تعالى قد خلق لنا من أنفسنا أزواجًا ـــــــ على القانون نفسه الذي جعل لآدم عليه السلام زوجًا من نفسه ـــــــ وأودع في نفوسنا ونفوس أزواجنا العواطف والمشاعر، وجعل في الصلة بين الأزواج سَكنًا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارًا للعيش ودعة للحياة، وفي ذلك اطمئنانٌ ودعةٌ للرجل والمرأة على السواء. وكل ذلك تجمعه مضامين المودّة والرحمة التي بها يحل التآلف والتعاطف، ويحصل التعايش الهادئ وإلَّا فما الذي يجعل الرجل والمرأة يعيشان هذا العمر بعضهما مع بعض وقد كانا في الأصل غريبَين؟ وما الذي يوحِّد بينهما في الأماني والمشاعر حتى يداوما في تلقّي التعب والقلق لبناء العائلة؟ وما الذي يجمع بينهما في حياة مشتركة حتى لا يعود أحدهما يستغني عن الآخر، بل يجد في وجوده حالةً من الاستقرار النفسي الذي لم يكن ليحصل لو لم يجعل الله تعالى بينهما مودّة ورحمة. وهذه هي حكمته سبحانه في خلقِ كلٍّ من الجنسين على نحوٍ يجعله موافقًا للآخر، ملبِّيًا لحاجته الفطرية، حتى يجد عنده ما يكمّل به حياتَهُ، ويجعله يضرب في عمارة الأرض، تلبية للغاية من وجوده!...
ويتتابع البيان القرآني وهو يؤكد لنا مرة أخرى أن خالقنا قد أنشأنا من نفس واحدة ولكن بتوضيح لهذه النشأة عندما أودع في شقَّي هذه النفس نظامًا دقيقًا وثابتًا حتى يستمر الخلق البشري طبقًا لهذا النظام، وذلك بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [سورة الأنعام: 98].
وقد يكون القصد من ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنشأ بني البشر من نفسٍ واحدةٍ هي آدم وحوّاء. وعندما يقول من نفس واحدة فذلك يعني أن للبشر أصلًا واحدًا؛ والبشر إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التوادَّ والتراحم. وقد يكون القصد أيضًا من النفس الواحدة اتحاد الذَّكَر والأُنثى في الكنه والحقيقة. ولكن ما المقصود بلفظتي «مستقر ومستودع»؟ هنا تتجلى عظمة القرآن الكريم، الذي جاء العلم يؤيّد حقائقه الثابتة بتفسير كيفية عملية الحَمل عند المرأة. ذلك أن الحياة تبدأ بالخليّة الملقحة، أي في نفس هي مستودع لهذه الخليّة ـــــــ في صُلب الرجل ـــــــ وفي نفس هي مستقر لها ـــــــ في رحم الأُنثى ـــــــ. ثم تأخذ الحياة في النموّ من ذلك المستودع وهذا المستقر اللذين أوجدهما الله تعالى قانونًا محكمًا للخلق البشري. ولقد ذكرنا من قبل أن النُطفة عند الإنسان ليست كائنًا حيًّا بذاتها، بل تكمن فيها أسباب الحياة، ومنها بالتالي يولد الكائنُ الحيّ. وفي ذلك تأكيد على إخراج الحيّ من الميت؛ ثم يعود هذا الكائن الحيّ فيموت، وفقًا لسنّة الله في خلقه، ليعود فيُحييه الله تعالى بعد إماتته، وذلك يوم القيامة. ولهذا أتى القرآن الكريم ليبيّن لنا هذه الحقيقة بقوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [سورة غافر: 11].
أما الإماتة الأولى فهي عندما يكون البشر نُطَفًا، ومن هذه النُّطَف تنشأ الحياة الأُولى في هذه الدنيا، ثم يحلّ الأجَل وتأتي الإماتة الثانية، ثم يحيون مرة أخرى يوم البَعْث؛ فتكون إذًا للبشر موتتان وحياتان. ومثله قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا (في أصلاب الرجال) فَأَحْيَاكُمْ (في الأرحام بخلق الروح فيكم) ثُمَّ يُمِيتُكُمْ (عند انتهاء أجلكم) ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (بالنفخ مرة ثانية يوم البعث) ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (ليجازيكم بعد الحساب على أعمالكم)} [سورة البقرة: 28].
وما بين الإماتتين والحياتين يبقى ذلك النظام المنبثق من النفس الواحدة، والخاضع لصُنع الله تعالى، يسير على المنهج نفسه من التلاقح الذي هو وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة من الذُكُور والإناث، في عالم الكائنات الحيّة، فتتمّ عملية التزاوج التي قدَّر الله تعالى أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار.
ويبيّن القرآن الكريم تلك المراحل التي يمرُّ بها خلق الإنسان بعد التلاقح بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: 12 ـــــــ 14].
ذلك هو أصل نشأة الإنسان، من سلالة من طين. فأما نشأة الفرد الإنساني فيدلّنا القرآن المجيد على أطوارها ومراحلها التي تمرّ بها. ذلك أن تكاثر الجنس البشري، قد جرت سنّة الله فيه أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صُلب رجل، لتستقر في رحم امرأة. وأن خليّة واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة هي التي تستقر في قرار مكين لتكن ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض، المحميَّة بها من التأثّر باهتزازات الجسم، ومن كثير ممَّا يصيب الظهر والبطن من لَكَمَات ورجَّات وتأثّرات.
ومن النُطفة تخرج العلقة بعد أن تمتزج خليّة الذَّكَر ببويضة الأُنثى، وتعلق هذه البويضة بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر، تتغذى بدم الأُم. ومن العلقة إلى المضغة، وذلك حين تكبر تلك النقطة العالقة وتتحول إلى قطعة من دم غليظ مختلط، قابل للتمدُّد والتخلُّق باللزوجة والتماسك. ثم يأتي دور العظام، {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} وهنا الاكتشاف القرآني في حقيقة تكوين الجنين الذي لم يعرف إلَّا بعد نزول القرآن بمئات السنين، وبعد تقدُّم علم الأجنّة التشريعي، الذي أقرَّ بأن خلايا العظام هي التي تتكوّن أولًا في الجنين قبل خلايا اللحم، بحيث لا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلا بعد اكتمال الهيكل العظمي للجنين لذلك قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} ثم يأتي دور التخلُّق البشري {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ومعنى: {خَلْقًا آخَرَ} تكوينه على صورة الإنسان، لأنه قبل هذا الطور لا يختلف في خلقه عن جنين أيِّ حيوان آخر. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. لكن جنين الإنسان ينشأ خلقًا آخر، ويتحوّل إلى تلك الخليقة المتميّزة، المستعدّة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان مجردًا من خصائص الارتقاء والتكامل التي يمتاز بها جنين الإنسان. وبمعنى آخر: إن الجنين الحيواني غير مزوَّد بالخصائص التي تميِّز الجنين الإنساني، لذلك لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبة الحيوانية فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورًا آليًّا ـــــــ كما تقول النظريات المادية ـــــــ فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانًا واختلف بعد ذلك بتلك الخصائص التي تنشأ من تلك النفخة، والتي ينشأ بها الجنين الإنساني خلقًا آخر.
وهذا التكوين للمخلوقات جميعًا إنما هو نِتاجٌ لنظام الزوجية، هذا النظام الذي يقول العلماء بأنه مطَّرد وشامل لجميع الأحياء من الحيوانات والنباتات كلها بطريقة واحدة، ونسق واحد، وأعضاء، تكون متماثلة، حتى يتبيَّن في ما بعد ويفترق عن ذلك كله خلق الإنسان بتدبير إلهي: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [سورة الإنسان: 2]. وتفسير ذلك أن المسافة بين النُطفة في خِصية الرجل أو بويضة المرأة حتى تجتمعا تكون بعيدة. ففي الأُنثى تتكوّن البويضة منذ أن تكون الأُنثى جنينًا في بطن أُمها. وتنمو تلك البويضة ببطء، ثم تتوقف فترة طويلة من الزمن، لتعود وتبدأ نموَّها مرة أخرى بعد البلوغ لدى الأُنثى.
وتتولّد في داخل كل أُنثى بويضة واحدة كل شهر، لا تتوقف منذ البلوغ إلى سنّ اليأس، إلا عند حدوث الحَمل. أما في الذَّكر فإن خلايا الخِصية تظل هامدة حتى يصير في سنّ البلوغ عندما تستيقظ الخِصية من رقدتها وهمودها الطويل لتبدأ في إخراج عشرات الملايين من الحيوانات المنويّة. وتحتاج الخِصية إلى ستة أسابيع تقريبًا حتى يكتمل فيها نموّ الحيوان المنوي. فإذا ما التقى الحيوان المنوي (نُطفة الذَّكر) بالبويضة (نُطفة الأُنثى) ولقَّحها بأمر الله تعالى، تكوَّنت عندئذٍ النُطفة الأمشاج (التي يذكرها القرآن الكريم) المختلطة من ماء الرجل وماء المرأة. وتحتاج هذه النُطفة الأمشاج إلى أسبوع تقريبًا حتى تبدأ في العُلُوق بجدار رحم الأُنثى، ويتمّ علوقها وانفرازها في يومين، فتكون مرحلة ما تستغرقه النُطفة الأمشاج أربعين يومًا كاملة، وفي حديث شريف: «إذا مرَّ بالنُطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله مَلَكًا فصوَّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وعظامها ولحمها». فتبارك الله أحسن الخالقين الذي أودع فِطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنّة التي لا تتبدّل ولا تنحرف ولا تتخلّف، حتى تبلغ بالإنسان إلى ما هو مقدَّر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدقّ ما يكون النظام!
ويتتابع البيان القرآني في التدليل على قدرة الله تعالى في إخراج الميت من الحيِّ وإخراج الحيِّ من الميت، ولكن الآن بتصوّر كامل عن الكون لأن شأن الإنسان ليس إلَّا طرفًا من شأن الكون الكبير الذي يصرِّفه الله تعالى.وذلك بقوله عزّ وجل: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} [سورة آل عمران: 27].
إنه تعبير تصويري لهذه الحقيقة الكبيرة التي تعود إلى الحركة الخفيّة المتداخلة: حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحيِّ من الميت وإخراج الميت من الحيِّ... إنها الحركة التي تدلّ على قُدرة الله تعالى في خلقه، وفي تدبير هذا الخلق وتسييره...
وسواء كان معنى الإيلاج أن يأخذ الليل من النهار أو يأخذ النهار من الليل عند دورة الفصول. أو كان معناه دخول هذا في هذا عند هجوم الظلمة في الإمساء، أو هجوم الضياء في الإصباح... سواء كان هذا أو ذاك فإن العقل المدرِك يكاد يبصر إرادة الله تعالى وهي تحرّك الأفلاك، وتقلِّب مواضع الظلمة ومواضع الضياء... شيئًا فشيئًا يتسرّب غبش الليل إلى وضاءة النهار. وشيئَا فشيئًا يتنفس الصبح في غيابة الظلام. شيئَا فشيئًا يطول الليل وهو يأكل من النهار في الخريف والشتاء، وشيئًا فشيئًا يطول النهار وهو يتضح من الليل في الربيع والصيف. إنه التدبير الإلهي ولا يد للإنسان فيه.
وكذلك الحياة والموت، يدبُّ أحدهما في الآخر ببطء وتدرُّج... كل لحظة تمرّ على الحيّ يأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة، إذ تموت خلايا حيّة منه وتذهب، وتنشأ خلايا جديدة فيه وتعمل. وما ذهب منه ميتًا يعود في دورة أخرى إلى الحياة. وما نشأ فيه حيًّا يعود في دورة أخرى إلى الموت... ثم يموت الحيُّ كله؛ لكن خلاياه تتحوّل إلى ذرّات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حيّ فتدبّ فيها الحياة. وهكذا تبدو دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، وحركة في كيان الكون كله بما فيه كيان كلّ حيّ. إنها آيات تدلّ العقل البشري على قدرة القادر المـــُـــبدِع اللطيف المدبّر، أفلا يؤمن البشر وهم قِطاع من هذا الكون الذي ينظّمه الحكيم الخبير؟
وكما في ذلك التصوّر الكامل عن الكون، يأتي القرآن بآيات. أخرى فيها المعجزة الخارقة التي تقع في كل آنٍ من الليل والنهار وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [سورة الأنعام: 95].
إن هذه الآية واضحة الدلالة والمعنى على أن الله سبحانه هو فالق الحبّة اليابسة الميتة ليُخرج منها النبات، وفالق النّواة الجافّة الميتة ليُخرِج منها الشجر، فسبحان الذي يُخرج النبات الغضّ الطري، الخُضْر من الحبّ والنوى اليابس؛ وسبحان الذي يُخرِج الحبّ والنوى اليابس من النبات الحيّ النامي؛ وأنَّى تصرفون أيّها البشر وتبتعدون عن الحق، فلا تقرّون بقدرة الله تعالى في معجزة الحياة هذه، وفي نشأتها وحركتها التي لا يملك أحدٌ صُنعَها غيره سبحانه وتعالى؟!
وهكذا كما وقفنا أمام نشأة الحياة البشرية من نفس واحدة، وأمام تكاثرها وجعل مخلوقاتها بشرًا ينتشرون، وكما وقفنا أمام دورة الفلك العجيبة الدائبة التي تتمّ في كل يوم وليلة، بل في كل ثانية ولحظة، فإننا نقف، في مدلول هذه الآية الكريمة، أمام نشأة الحياة في النبات، وما تحتاجه من أمطار هاطلة، ورياح مؤاتية، وعوامل ترابية متفاعلة، وشمس مُشرِقة، وقمر مُضيء... إلخ... لكي نتأمل في هذه المعجزة التي لا يدري سرَّها إلا الله الخالق العظيم، إذ في كل حينٍ تنفلق الحبّة الجافّة عن نبتة نامية، وتنفلق النواة اليابسة عن شجرة صاعدة. والحياة الكامنة في الحبّة والنّواة، النامية في النبتة والشجرة، سرٌّ مكنون لا يعلم حقيقته إلا الله تبارك وتعالى.
ومنذ البدء أخرج اللهُ الحيَّ من الميت، فكان هذا الكون ـــــــ أو على الأقل كانت هذه الأرض ـــــــ ولم يكن هناك حياة... ثم كانت الحياة... أخرجها الله سبحانه من المَــــوَات. ولا يقدر أن ينشىء الحياة من المـــَوَات إلَّا هو عزّ وجل، ولا يقدر على ذلك إلا هو وحده. وذلك كلّه وفق قوانين ونُظُم لا يعلم حقيقة سرّها ومكنونها إلَّا الخالق العظيم. إنه سرُّ الحياة المكنون الذي تقف البشرية أمامه، بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها، وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها، وهي تجهل مصدره وجوهره... ومع كل ما يُشاهَد ويُكتشَف فالحياة ماضية في طريقها ومعجزة الخلق تتجدد في كل لحظة.
ويحاول القرآن الكريم أن يلامس فطرة الإنسان السليمة فيما يعنيه مباشرةً في حياته، فيلفت انتباهه إلى أرزاقه التي يعيش منها وإلى مصادر هذه الأرزاق، كما أنه يلفته إلى ما فيه من تكوين السمع والبصر اللذين بوساطتهما يَعِي، ويحسّ، ويبحث عن الرزق، ليؤكد له مرةً ثانيةً أن مَنْ يَرزقَه، ومَنْ يملك سمعه وبصره، هو الله تعالى الذي يُخرِج الحيّ من الميت ويُخرِج الميت من الحيّ، فإذا ما اعترف بذلك يسأله القرآن: أفلا تتّقي أيّها الإنسانُ؟ ثم يؤكذ له أن خالق ذلك كله هو ربُّه الحقّ الذي يجب أن يعبدَه ولا يُشرِكَ به أحدًا، وإلا فماذا بعد الحق إلَّا الضلال، فأنَّى يبتعد الإنسان عن الحق؟وذلك في قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[سورة يونس: 31 ـــــــ 32].
نعم إن البشر ما زالوا يكتشفون كلما اهتدوا إلى قانون جديد من قانون عالم الأحياء، رزقًا بعد رزق ليطعم هؤلاء الأحياء الذين يتكاثر عددهم مما ينزل الله تعالى من السماء من ماءٍ يحيي به الأرض بعد موتها، ومن نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها أرزاق للناس وللحيوان والطير والنبات. ومن أشعة الشمس أرزاق، ومن ضوء القمر أرزاق، حتى في عفن الأرض كُشف عن دواء وترياق.
هذا عن الرزق، أما عن السمع والبصر فمَن يملكهما غير الله تعالى؟ ومَن يهِبهما القدرة على أداء وظائفهما، أو يحرم الإنسان منهما، أو يوقفهما؟ ولا يزال البشر يكشِفون هنا أيضًا عن طبيعة السمع والبصر ما يزيد العقول دهشة. وإن في تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات. أو تركيب الأُذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات لعوالم قائمة بذاتها، وهي كلها من صُنع الله العليّ القدير.
ثم يأتي السؤال الذي يوقر العقول: «ومَن يُخرج الحيَّ من الميت ويُخرج الميت من الحيِّ؟» فضلًا عن المشاهَدات الحيّة التي تقع عليها الأسماع والأبصار في كل حين. ومع ذلك فإن وقفة أمام الحبّة والنواة، تخرج منهما النبتة والشجرة، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان، لَكافية لاستغراق حياة في التأمّل والدهشة. ويتفرّع السؤال لدى العاقل المــُــبصِر إلى تساؤلات: فأين تكمُن السُنبلة في الحبّة؟ وأين يكمُن العود؟ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق؟... وأين في النواة يكمُن اللبّ واللحاء والساق والعراجين والألياف؟ وأين يكمُن الطَّعْم والنكهة واللون والرائحة؟
وأين في البيضة يكمُن العظم واللحم والزغب والريش، واللون والرفرفة والصوت؟
وأين في البويضة تكمُن ملامح الكائن البشري وسِماته المنقولة بالوراثة من أعمار طويلة؟ وأين كانت نبرات الصوت، ونظرات العين، واستعدادات الأعصاب، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين؟ وأين كانت كل صفاته وسِماته وخصائصه؟
إنها أسرار الحياة. ولا يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحيَّ من الميت وإخراج الميت من الحيّ، وتحوُّل العناصر في مراحلها إلى موت أو حياة، ما يجعل الكينونة كلها للكائنات الحيّة موضع علامات استفهام لا جواب عنها إلا أن يكون هناك إلهٌ واحدٌ أحدٌ يهب الحياة. فذلكم الله ربّكم الحقّ؟ فكيف تبتعدون عن الحق وهو واضح ترى آلاءَهُ العيون، وتدرك آثار رحمته العقول، وفي كل شيء له آية دالّة على حُسْن صنيعه وتدبير حكمه تطمئن إليه القلوب.
إن تلك الجولة السريعة التي تبرهن عن قدرة الله تعالى في الخلق لا بدّ من أن تؤدّي إلى الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى وكما أن الإنسان مدعوٌّ إلى التصديقِ الجازم بهذه الحقيقة المطلقة، فإن عليه أن يؤمن إيمانًا ثابتًا وقاطعًا أيضًا بأن الناس سوف يُبعثون يوم القيامة، بعد أن يكونوا أمواتًا؛ ومَن يقدر على إخراج الكائن البشري والحيوان والطير والنبات من الموت لتدبّ فيه الحياة ابتداءً هو أقدر على أن يبعث الناسَ يوم الحساب أحياءً إعادةً ليجزي كل نفس بما كسبت... ثم يربط النصّ القرآني بين إخراج الحيّ من الميت وإخراج الميت من الحيّ، وبين إحياء الأرض بعد موتها ليدلّل على يوم البعث، بقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [سورة الروم: 19].
إنها عملية دائبة لا تكفّ أبدًا، لا في الليل ولا في النهار ـــــــ بالنسبة إلى الزمن ـــــــ وهي حاصلة في كل مكان على سطح الأرض وفي أجواءِ الفضاء، وفي أعماق البحار. نعم في كل حينٍ وآنٍ يتمّ هذا الإخراج وهذا التحوّل من الحيّ إلى الميت، ومن الميت إلى الحيّ، إذ في كل لحظة يتفتح بُرعم ساكن في جوف حبة أو نَواة فيفلقها ويخرج منها ما هو كائن إلى حيِّز الوجود. وفي كل لحظة يجفّ عود، أو تيبس شجرة، فتتحوّل إلى هشيم وحطام. ومن خلال الهشيم والحطام توجد الحبّة الساكنة المتهيئة للحياة من جديد. وفي كل لحظة يوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة فتستعدّ للإخصاب. وفي كل لحظة تدبُّ الحياةُ في جنين أو حيوان أو طائر يخرج من كائنات ميتة ساكنة لكنها تحمل في طيّاتها وتكمُن في داخلها أسباب الحياة.
وكما تكون الأرض هامدة، ساكنة، جافّة، ثم يأتيها الريح والمطر والغاز والنور والضياء، فتربو وتنبت، وتدبّ فيها الحياة، وتخرج منها كائنات حيّة، كذلك البشر يخرجون من الأجداث إلى الحياة، كي يتمّ الحساب يوم القيامة. إن إخراج الأحياء من الأموات أمر واقعي لا غرابة فيه وليس بدعًا ما يشهده الكون في كل وقت من الليل والنهار وفي كل مكان. ولئن كان الناس لا يدركون أسراره، إلَّا إن بعثَهم يوم القيامة هو مما يجب أن يهيئوا أنفسهم له، لأنه يوم واقع لا محالة، كما يؤكده القرآن الكريم في كثير من الآيات الدالّة المعبِّرة.
وإحياء الناس يوم الحساب إنما يتمّ بالنفخ، وهذا ربط بين النشأة الأولى والنشأة الثانية. ففي النشأة الأولى دبّت الحياة في أبينا آدم عليه السلام عندما نفخ الله تعالى فيه من روحه فإذا هو بشرٌ سويّ. وهكذا يتمّ إحياء الناس يوم القيامة، يوم يُنفخ في الصور، فيقوم الناس لربّ العالمين. يقول تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [سورة الزمر: 68].
إنه مشهد من مشاهد يوم القيامة يبدأ بالنفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون، وينتهي بانتهاء الموقف، وسَوْقِ أهل النار إلى النار. وأهل الجنّة إلى الجنّة وحينها يتوجه الوجود إلى العليّ العظيم بالتسبيح والتحميد. فها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث، فيصعق مَن يكون باقيًا على ظهر الأرض من الأحياء، ومَن في السماوات كذلك ـــــــ إلا مَن شاء الله ـــــــ ولا يعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الأخرى، فإذا البشر جميعًا قيام ينظرون أي ينتظرون ما يفعل بهم. وحقيقة بعث الحياة في النفخ يسوقها القرآن الكريم في أكثر من سورة وآية. ففي سورة (ص) يقول تعالى عن آدم عليه السلام: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [سورة ص: 72]. وعن حمل مريم بالمسيح عليه السلام يقول تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء: 91].
وعن عيسى ابن مريم عليهما السلام، وما وهَبَهُ اللهُ تعالى من القدرات وما أولاه من نِعَم، ومنها أن يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن ربّه. يقول تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [سورة المائدة: 110]، ويكرر القرآن الكريم هذه النعمة على عيسى ابن مريم عليه السلام من ربه، بقوله تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ} [سورة آل عمران: 49].
وهذه الآيات المبيّنة دالَّةٌ ولا ريب على أن الخالق القدير يهب نعمة الحياة لمخلوقاته بالنفخ، وهو سبحانه أوجد النشأة الأولى عندما نفخ فيها من روحه، كما أنه تعالى يُعيد النشأة الثانية عندما يُنفخ في الصور كما يدلّ على ذلك كثير من الآيات القرآنية كالآية 99 من سورة الكهف، والآية 51 من سورة يس، والآية 20 من سورة ق، والآية 101 من سورة المؤمنون، والآية 13 من سورة الحاقة، والآية 68 من سورة الزمر، والآية 73 من سورة الأنعام، والآية 102 من سورة طه، والآية 87 من سورة النحل، والآية 18 من سورة النبأ.
ثم أو ليس في النفخ ريح؟ وهل يُزهر النبات والشجر ويثمر إلَّا أن يتمّ التلقيح بوساطة الريح؟ وهل إلا هذه الريح التي تتفق وعوامل التَّذكير لذلك؟
أوَ ليس في ذلك كله ما يؤكد حقائق القرآن من إخراج الحياة عن طريق النفخ؟ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون.
ومن هذا العرض السريع للموضوع، مع أنه يمكن تأليف كتاب كامل حوله، نلحظ أمرين مهمَّين:
أولهما أن التوجّه يجب أن يكون لله وحده لأنه هو خالق الخلق، ومدبّر الأمر، يُخرِج الحيّ من الميت ويُخرِج الميت من الحيّ. ومَن هو قادر على هذه الخارقة الثابتة والدائمة في ناموس الكون يستحق الثناء والحمد والشكر، والعبادة الخالصة؛ وهو وحده يتّصف بالأُلوهية والربوبية وهو ليس له شريك... فتبارك الله أحسن الخالقين.
وثانيهما التأكيد الجازم للبشر بأن هناك بعثًا للناس يتمّ يوم القيامة من أجل الحساب العادل الذي يكون بعده إما ثواب وإما عقاب، فأهل الجنّة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار. ولكن مع هذه الحقيقة الساطعة التي يؤكدها القرآن المبين مرارًا وتكرارًا نجد معظم البشر غافلين عن يوم الحساب، وعن تلك الآخرة التي تنتظرهم، وهو تعالى يقول: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [سورة الروم: 7]. مع أن الآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود؛ والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود، يغفلون عن الآخرة ولا يقدّرونها حقّ قدرها، ويبقون غافلين عنها لا يحسبون حسابها لا من قريب ولا من بعيد.
والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختلّ، وتؤرجحُ في أكفّهم ميزانَ القيم، فلا يملكون لتصوُّر الحياة وأحداثها تصوُّرًا صحيحًا، ويظل علمهم بها ظاهرًا، سطحيًّا، ناقصًا، لأن حساب الآخرة عندما يكون راسخًا في أعماق الإنسان يغيِّر نظرته لكل ما يقع على الأرض، ما دام بقاؤه في هذه الحياة الدّنيا قصيرًا، ونصيبه فيها قَدَرًا زهيدًا جدًّا... ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب لها حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها؛ فهما دائمًا يختلفان في تقدير الأمور، وفي قِيَم الحياة، لأن لكلٍّ منهما نظرته وتقديره وميزانه في التقويم والتقدير.فالمـــُــنكِر للآخرة يرى ظاهرًا من الحياة الدّنيا، بينما المؤمن بيوم البعث في الآخرة يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسُنن ونواميس شاملة للظاهر والباطن، فيكون الأول كالأعمى والثاني كالبصير، وأمير المؤمنين علي، عليه السلام، يقول في هذا الصدد: «إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى ولا يرى ما وراءها شيئًا. والبصير ينفذها بصرُه ويعلم أن وراءها الدار الآخرة. والأعمى إليها شاخِص، والبصير منها شاخص، والأعمى إليها يتزوّد والبصير منها يتزوّد»، والله، سبحانه وتعالى، يقول في كتابه العزيز: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [سورة فاطر: 19]، ويقول تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر: 9]. صدق الله العظيم.
وهكذا يكون تقديمنا هذا النموذج عن التفسير الموضوعي حول: «إخراج الحيّ من الميت وإخراج الميت من الحيّ».
وكانت ركيزة شرحنا وتفسيرنا الآيات القرآنية الأربع التي أوردت التعبير نفسه: «يُخرج الحيّ من الميت ويُخرج (أو مُخرج) الميت من الحيّ» وهي: الآية 27 من سورة (آل عمران)، والآية 95 من سورة (الأنعام)، والآية 31 ـــــــ 32 من سورة (يونس)، والآية 19 من سورة (الروم).
وبعد تقديم هذا النموذج وما تضمَّن من آيات أخرى ترتبط بصلب الموضوع وما احتوى من إرشادات إلى كثير من النظريات العلمية ولا سيما ما يتعلق منها بعلم الأحياء ـــــــ لا بدّ من أن نشير أخيرًا إلى أهمية التفسير الموضوعي الذي يجب اعتماده في تفسير القرآن الكريم، إذ من مزايا هذا التفسير أنه يتجاوز كثيرًا مما قد يُشكل أو يلتبس على المفسِّر في عملية التفسير التجزيئي، ويتلافى كثيرًا من التعقيدات أو التعديلات التي لا طائل منها، ومثاله ما أورده كثير من المفسّرين عن قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}، واعتمادهم تفسيرين لقول الله تعالى هذا.
التفسير الأول: قولهم بأن الله سبحانه يُخرِج النُطفة من الإنسان، ويُخرِج الإنسان من النُطفة، وهذا تفسير صحيح.
والتفسير الثاني: قولهم: «يُخرِج المؤمن من الكافر ويُخرِج الكافر من المؤمن». وهم يقصدون بالمؤمن «الحيّ» وبالكافر «الميت»... بحيث وقع الالتباس لديهم في التفسير، وذهبت بهم المخيّلة إلى أبعد مما يحتمله النص وأكثر مما يتوخاه ويرمي إليه. إذ رأوا أن الكافر لا يستخدم بصره، وسمعه، وعقله، وجوارحه كلها، لما يعود عليه بالنفع، وبالطاعة لربِّه فعدّوه من جرّاء ذلك بمنزلة الميت، كما رأوا المؤمن بخلافه أي مَن يستخدم ما وهبه الله تعالى من سمعٍ وبصرٍ وعقلٍ ومال... لنفعه ولطاعة ربِّه فعدّوه حيًّا، فكان بنظرهم كل كافر أنجب ولدًا مؤمنًا بمنزلة خروج الحيّ من الميت وهكذا...
طبعًا إن مثل هذا التفسير خاطئ في نظرنا، لأن الله سبحانه وتعالى لا يخلق مؤمنًا وكافرًا، بل يخلق إنسانًا مخيَّرًا بين أن يسلك هو نفسه طريق الإيمان، أو يسلك هو نفسه طريق الشرك أو الكفر؛ وحاشا لله تعالى أن يجني على مخلوقٍ من عباده، بحيث يخلقه كافرًا ثم يُدخِله النار بسب كفره الذي لم يكن له يدٌ فيه، لأن هذا يُجافي مفهوم العدل الإلهي، ويتنافى مع القيمة العقلية العظيمة التي وهبها سبحانه للكائن البشري بما كرَّمَهُ بها حتى جعله سيّدًا لمخلوقات الأرض كافّة.
ثم لو كان هذا التفسير مما ينطبق على الإنسان، فكيف يمكن تطبيقه على الحيوان والطير والنبات؟!... وهل فيها مؤمن وكافر؟!... ناهيك عن أن هنالك فارقًا لغويًّا بين أن نقول: «يُخرج» ـــــــ بضم الياء ــــــ والمقصود هو الخالق عزّ وجل، وأن نقول: «يَخرج» ـــــــ بفتح الياء ـــــــ ويذهبُ المعنى إلى أن الحيّ يَخرج وحده من الميت، من دون أن ينطبق ذلك على الميت الذي لا يخرج وحده من الحيّ.
وإذا كان التعبير القرآني يقول: «يُخْرِجُ» و«مُخْرِجُ» عن الله تعالى. فهو نفسه التعبير القرآني الذي يقول: إن الله تعالى «يَعلم» ـــــــ بفتح الياء ـــــــ لأن من صفاته العلم من قبل ومن بعد... وقد فرَّق بذلك بين العلم والخلق، إذ العلم شيء، والخلق شيء آخر، فقال عن العلم «يَعلم» وقال عن الخلق: «يُخرِج» ولم يقل «يَخرج».
والخلاصة مما تقدّم، وخصوصًا من النموذج الذي مرَّ ذكره، يتبيّن لنا أنَّ التفسير الموضوعي هو أكثر قدرة على العطاء، والنموّ، والتطور، لكن الباحث لا غِنى له عن التفسير التجزيئي تمهيدًا للوصول إلى التفسير الموضوعي، أي إنَّ عليه أن يأخذ بالتفسيرين، ويجمع بينهما.
خلاصة:
وخلاصة الكلام أنَّه على الذين يتعاملون مع تفسير القرآن الكريم تفسيرًا موضوعيًّا، الالتزام بقواعد أساسيَّة منها:
أولًا:
التخلِّي عن تناول تفسير النصوص القرآنية آية آية ـــــــ كما هي الحال في التفسير التجزيئي ـــــــ بل عليهم تناول مختلف الآيات القرآنية ذات الموضوع الواحد.

ثانيًا:
الوضوح الجليّ لدى الباحث المفسّر، أنَّ كل عملية تجميع للآيات القرآنية ليست من التفسير الموضوعي بشيء.
ثالثًا:
قيام الباحث المفسِّر بالتنقيب والمقارنة، وغير ذلك من الوسائل الفكرية التي تقود في النهاية إلى وضع دراسة شاملة ومعمّقة، يحكّم بموجبها القرآن الكريم من موضوعه.
رابعًا:
اعتبار المقصود بالتفسير الموضوعي ليس الموضوعية (أو المواقف) التي تعني التجرُّد وعدم التحيُّز في البحث، والوقوف موقف المدقِّق العادل فحسب، ممَّا هو مطروح من قضايا على البحث، بل المقصود بالموضوعية، هنا تناول موضوع معيَّن من موضوعات الحياة، بدءًا من الواقع وانتهاء به، إلى حكم القرآن الكريم عليه، وفاقًا لجميع الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول الموضوع، وتوحيد مدلولاتها لاستخراج المضمون القرآني الخاص به، كما سبق أن أوردناه في تفسير موضوع «إخراج الحيّ من الميت والميت من الحيّ».
خامسًا:
توافر وضوح المنطلقات والأهداف في الموضوع المتناول، وتحديد ماهيته وغايته، سواء كان موضوعًا عقائديًّا، أو سياسيًّا، أو اجتماعيًّا، أو غير ذلك.
سادسًا:
إدراك الهدف الحقيقي للتفسير الموضوعي الذي يتركز في تحديد موقف صحيح للقرآن الكريم من الموضوع الذي يتناوله، ومدى انطباق هذا الموقف على شؤون الحياة وحقائق الكون والحياة والإنسان.
سابعًا:
وأخيرًا أن يكون الباحث المفسِّر موقنًا بأن القرآن الكريم يتناول ـــــــ إنْ بالتفصيل أو بالتلميح ـــــــ جميع المواضيع التي تهمُّ الإنسان في الحياة الدنيا والآخرة...
وسوف نتّبع هذه الطريقة ـــــــ إن شاء الله تعالى ـــــــ في محاولة بحثنا للأحكام الشرعية على أساس الكتاب والسنّة.
البحث الثاني: كيفية تفسير النصوص
إن النصوص التي يقتضي تفسيرها هي نصوص الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة، لأن الأدلّة الشرعية مردّها كلها إلى هذين الأصلَين، اللذين هما أساس التشريع، وقوام أحكام الإسلام. وكلّ ما عداهما فهو مستنبط منهما ومآله إليهما. هذا مع العلم بأنه في مجال الأحكام الشرعية يجب أن يقبل من الأحاديث: الحديث الصحيح والحديث الحسن.
والحديث الصحيح: «هو الحديث الذي اتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علّة قادحة».
والحديث الحسن: هو أدنى درجة من الصحيح، وهو على نوعين:
1 ـــــــ الحديث الحسن لذاته هو: «ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط ضبطًا غير تام إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علّة».
2 ـــــــ والحديث الحسن لغيره وهو: «الحديث الذي لا يخلو سنده من راوٍ مستورٍ لكن ضعفه ليس بكثرة الخطأ أو اتّصافه بمفسق كتهمة الكذب، أو أن يروي الحديث شيخ الراوي المستور، أو مَن فوقه بلفظه ومعناه».
وتفسير الأحكام الشرعية وفقًا للكتاب والسنّة يرمي إلى «بيان معاني الألفاظ ودلالاتها على الأحكام للعمل بالنص على وضع يفهم من النص». ولا شك في أن مثل هذا التفسير يتوخى إزالة الغموض في حالة وجوده، أي إن على المفسّر أن يعمل بالبحث والاجتهاد لإزالة هذا الغموض.
وقد يكون من عمل المفسّر إدراك ما إذا كان هنالك بيان من الشّارع لما يريده تفسيره، أو نسخٌ له، أو تعارض ظاهري مع نص آخر، وكل ذلك لكي يتحقق للتفسير هدفه الرامي إلى بيان معاني الألفاظ ودلالتها على الأحكام للعمل بالنص على وضع يُفهم من النص... فالألفاظ منها الواضح ومنها المبهم، وإن كان بعض الواضح لا يخلو من احتمال.
وكذلك فإن دلالات الألفاظ على الأحكام يمكن أن تتعدّد وجوهها ومناحيها، فليس كل نص تكون دلالته على الحكم بعبارته، بل هنالك طرق غير العبارة من إشارة ودلالة واقتضاء، أي إن دلالة اللفظ فيها (المنطوق) وفيها (المفهوم) وتحت المنطوق والمفهوم تنطوي كل طرق دلالة الألفاظ على المعاني والأحكام.
ومن التفسير إدراك معاني الألفاظ في حالات (عمومها وخصوصها)؛ كيف يكون شمولها ونوع ما تشتمل عليه من مفردات؟ وكذلك في حالات (اشتراكها) كيف يكون اللفظ مطلقًا أو مقيدًا، وما علاقة المطلق بالمقيد، ومتى يؤخذ بالمطلق على إطلاقه ومتى يجب تقييده؟ أو قد يكون اللفظ صيغة من صيغ التكليف في أمر أو نهي فيقتضي بيان ماهيّة الأمر وأثره في القيام به، وما النهي وأثره في المنهيّ عنه؟...
ومثل هذا التفسير يُعدّ نوعًا من أنواع الاجتهاد، وهو من التفسير المحمود الذي ترضى عنه الشريعة. ونظرًا إلى اختلاف مناهج التفسير وتعدّد سُبُله وطرقه فقد ظهر اختلاف بين العلماء فيما يختصّ بتفسير القرآن الكريم حول القول فيه بالرأي؛ إذ أجازه وحرَّمه بعضهم الآخر...
فقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «اتقوا الحديث عنّي إلا ما علمتم، فمَن كذّب عليَّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار، ومَن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
وروي عن جندب أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «مَن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».
وقد ورد عن أبي بكر الصدّيق، رضي الله عنه: «أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تظلّني إذا قلت في القرآن برأيي». وهذا النهي عن القول بالقرآن بالرأي إنما كان بسبب التفسيرات التي تخرج عن سُنن الشريعة في كتابها وسنّتها ولسانها.
فهذا أبو جعفر الطبري، يرى أن ذمّ التفسير بالرأي إنما سببه ما كان من تأويل نصوص الكتاب بما لا يدرك علمه إلَّا بنص بيان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أو بدلالةٍ، قد نصَّها، دالّةٍ أمتَّهُ على تأويله.
وبعد أن أورد الطبري الآثار الواردة في النهي عن القول في القرآن بالرأي، وبعد أن أوضح أن القائل برأيه في القرآن هو مخطئ وظانّ حتى وإن أصاب الحقّ فيه، عقَّب على ذلك بقوله: وقد حرّم الله جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 33]، إذن، فقد نهى الطبري عن تأويل نصوص القرآن الكريم التي لم يدرك علمها إلَّا ببيان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لأمته، وأما ما كان وراء ذلك، فجائز القول فيه بالرأي، ولا يدخل في نطاق المنهيّ عنه.
وجاء الغزالي (المتوفى عام 505هـــــــ) ليزيد هذا الأمر وضوحًا، وذلك حين قرر أن التفسير بالرأي جائز إلَّا في موضعين:
الأول: «أن يكون التفسير بالهوى، أو بأن يكون للمفسِّر في موضوع الآية رأي معين وله ميل إليه بطبعه، فيتأوَّل النص القرآني وفق رأيه وهواه: ليحتجَّ به على تصحيح غرضه وما يجنح إليه».
وقد بيّن أبو حامد الغزالي أن مثل هذا التفسير قد ينجم إما عن علم أو عن جهلٍ من المفسّر، أو أن يرمي إلى غرض صحيح فيحاول أن يجد له دليلًا من آي الكتاب الحكيم.
فالتفسير يكون بالهوى مع العلم عندما تتخذ بعض آيات القرآن الكريم حجّة على تصحيح بِدعة، مع علم صاحبها أنه ليس ذلك هو المراد بالآية الكريمة، ولكن يورد الآيات ليكون فيها لَبْس وإبهام.
وقد يكون هذا التفسير مع الجهل إذا كانت الآية تحمل بعض الاحتمال، فيميل فهم المفسّر إلى الوجه الذي يوافق هواه وغرضه، أي إن رأيه هو الذي حمله على هذا التفسير الذي يرجّحه على غيره.
وقد يكون لمثل هذا التفسير غرض صحيح فيستدلّ عليه من آيات القرآن بما يعلم، أو بما يظن أن هذا ما أُريد به، كالذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول: قال الله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [سورة النازعات: 17] ويشير إلى قلبه، ويومئ إلى أنه المراد بفرعون، وكالذي يدعو إلى الاستغفار بالأسحار فيستدلّ بقوله، صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رواه الشيخان: «تسحروا فإن في السحور بركة»، وهو يعلم أن المراد به الأكل. وهذا النوع من التفسير قد يستعمله بعض الوعّاظ، في المقاصد الصحيحة، تحسينًا لكلامهم، وترغيبًا للمستمعين، لكنه في حقيقته ممنوع. وقد تستعمله الباطنية، في المقاصد الفاسدة، لتغرير الناس، ودعوتهم إلى مذهبها الباطل. إذ إنَّها تُنزل القرآن وفق رأيها، ومذهبها، على أمور، تعلم قطعًا أنها غير واردة ولا مقصودة إطلاقًا في النص...
وعلى ذلك يكون النهي عن القول في القرآن بالري منصبًّا على هذا الرأي الفاسد، المذموم وهو رأي يقوم على الهوى، ولا يقصد به الاجتهاد الصحيح.
الثاني: التفسير بالرأي عندما يكون عاريًا عن مؤهلات النظر ووسائل المعرفة بمدلولات نصوص الكتاب. إذ يأخذ هذا التفسير بظواهر الألفاظ في الآيات من غير الاطّلاع أو المعرفة بالآثار المنقولة مثل أخبار الصحابة الذين عايشوا عصر التنزيل، وحملوا ما هو بيان للكتاب ـــــــ ومن غير مقابلة لتلك الآيات بعضها ببعض بحسب موقع كلٍّ منها من السياق، وسبب النزول، وعدم معرفة بالأعراف الشرعية التي أدخلت كثيرًا من المعاني في طور جديد، وعدم العلم بإعجاز القرآن وأساليبه البيانية من إضمار، وحذف، وتقديم، وتأخير... وأساليب الاستنباط منه من معرفة وجوه دلالة الألفاظ على معانيها، وحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيّد... فالتفسير في مثل هذه الحال تفسير بالرأي، يعرّض صاحبه للزّلل والانحراف.
فمَن لم يحكم بظاهر التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كَثُرَ غلطه، ودخل في زُمرة مَن يفسّر بالرأي، وعلى هذا فلا بدّ للمفسّر، إلى جانب العربية، من السماع والنقل في ظاهر التفسير أولًا ليتّقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتّسع التفهّم والاستنباط.
فهنالك آيات كثيرة في القرآن الكريم لا يمكن فهمها، والوصول إلى حقيقتها أو باطنها إلا بإحكام الظاهر، ففي قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [سورة الإسراء: 59] بيان لمعجزة واضحة، وهي إنزال أو خلق ناقة حقيقية أمام أعينهم، وتلك المعجزة المبيّنة هي دليل على صدق رسالة النبيِّ صالح، عليه السلام. فإذا أخذنا بظاهر النص في الآية لا بدّ من أن نُرجع كلمة «مبصرة» إلى الإبصار، فيكون المعنى الظاهري للنص: إنزال ناقة مبصرة، غير عمياء، في حين أن المراد من المعنى في الحقيقة غير ذلك تمامًا. وهذا ما يُعدّ من الحذف والإضمار، وأمثال ذلك في القرآن كثير...
ومن هنا عدَّ ابن عطية القائل في القرآن برأيه مخطئًا ولو أصاب، عندما قال: «ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن شيء من كتاب الله عزّ وجل، فيثور عليه برأيه من دون نظر فيما قال العلماء، أو اقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول؛ ولا يدخل في ذلك أن يفسّر اللغويون لغة القرآن، والنحويون نحوَه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلًا لمجرد رأيه».
وبعد أن نقل القرطبي هذا الكلام، أضاف: «قلت هذا صحيح، وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإن مَن قال بما سنح في وهمه، وخطر على باله، من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ، وإن مَن استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة، المتفق على معناها، فهو ممدوح».
وهكذا يتبيّن لنا أن التفسير الذي تكون غايته الهوى، هو المقصود بالقول في القرآن بالرأي، وهذا الرأي أو التفسير أكثر ما يكون بُعدًا من القرآن، ومُجافيًا لصحة السنّة، وآثار السلف، لأنه تفسيرٌ غير مبنيٍّ على قوانين علم ونظر، وحسبه أنه قول من غير علم ولا هدي، وجنوح إلى الرأي والهوى.
قال أبو الحسن الماوردي: (وقد حمل بعض المتورعة هذا الحديث أي «مَن قال في القرآن برأيه...» على ظاهره وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبتها الشواهد، ولو لم يعارض شواهدها نصٌّ صريح، وهذا عدول عمّا تُعبُّدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط لأحكام منه، كما قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 83] ولو صحّ ما ذهب إليه لم يُعلم شيء بالاستنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئًا).
وأما ما عدا ذلك فجائز التفسير فيه بالرأي، بل في القرآن الكريم كثير من النصوص التي تدعو إلى تدبُّره، وتعقُّله، وذلك للاستنارة بهَديه، والاعتبار بآياته، والعمل بأحكامه، والإفادة من إرشاده وعِظاته.
قال الله عزّ وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [سورة محمد: 24]. وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [سورة ص: 29].وإن تدبُّر القرآن الكريم، ليتسنى العمل به، لا يمكن من دون فهم معانيه.
قال تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الزخرف: 3]، وعقل الكلام متضمن لفهمه، والمقصود: فهم معاني القرآن الكريم وليس مجرد ألفاظه فقط، لأن القرآن لفظ ومعنى.
ومن هنا جاء القرآن الكريم على ذكر الاستنباط بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 83]، وفي هذا دليل واضح على أن في الكتاب ما يقتضي ردُّه بعد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أهل العلم والمعرفة، لكي يجتهدوا برأيهم ويستنطبوا الأحكام التي يغفل عنها غيرهم. ولا يتسنى هذا الاستنباط لأحد ما لم يكن هنالك إعمال للعقل، والتبصّر بوقائع الحياة، واستخدام لقوانين العلم، وسِعة الاطّلاع والمعرفة حتى يمكن بعدها الوصول إلى إدراك معاني القرآن والاهتداء إلى حقائقه.
وهكذا يبدو جليًّا أن على العباد معرفة تفسير ما لم يحجب عنهم تأويله، أي مما استأثر الله تعالى بعلمه من دون خلقه، إذ قد ثبت أن النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، دعا لعبد الله بن عباس بقوله: «اللّهُّمّ فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل». فلو كان التأويل ـــــــ وهو هنا التفسير ـــــــ مقتصرًا على السماع والنقل كالتنزيل نفسه، لما كان هناك من فائدة لتخصيص ابن عباس بهذا الدعاء. ولو كان علم التفسير مقتصرًا على النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، لقال: اللّهمّ حفِّظه التأويل... مما يدلّ على أن التأويل الوارد في الدعاء إنما هو التفسير بالرأي والاجتهاد. ولقد ظهرت آثار دعاء النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، في ابن عباس، فكان حَبْر هذه الأمة، خصوصًا في الفقه والتفسير.
هذا وإن كثيرًا من الصحابة والتابعين عُنُوا بتفسير آي الكتاب وببيانها، ولو كان ذلك محظورًا لَمَا فَعلوه. فهم قد فسّروا برأيهم واجتهادهم كل ما ليس: مما استأثر الله تعالى بعلمه، ومما لم يكن بيانه خاصًّا بالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وصلوا إلى معانيه من طريق الاستنباط وإعمال الفكر، فكان تفسيرهم لآي الذِّكر الحكيم سبيلهم إلى الخير والمعرفة حتى قال سعيدٍ بن جبير: «مَن قرأ القرآن ثم لم يفسّره كان كالأعمى». وكان أبو جعفر الطبري يقول: «إني لأعجب ممّن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذّ به»؟
ونخلص مما تقدّم أن الرأي إما أن يكون محمودًا، وهو الذي يتوافق مع لسان العربية وأساليبها في الخطاب، مع مراعاة الكتاب والسنّة، وما أثر عن السلف الصالح. وإما أن يكون رأيًا مذمومًا وهو الذي يجافي قوانين العربية ولا يتفق مع الأدلة الشرعية، وقواعد الشريعة في البيان والأحكام.
والاجتهاد الذي يرمي إلى تفسير النصوص تفسيرًا صحيحًا ومتوافقًا مع الكتاب والسنّة هو لا شك من الرأي المحمود الذي لا ينأى بشيء عن الشريعة بكتابها، وسنّتها، ولسانها. لأن مثل هذا الاجتهاد عندما يتناول نصًّا من النصوص، تكون غايته استخراج معانيه وإظهارها، أي إبراز هذه المعاني بما يزيد على ظاهرها.
النص:
لذلك يفسّرون النص لغة بأنه: رفع الشيء. ونصّ الحديث: رفعه.وكل ما أُظهر فقد نُصّ. وفي «النهاية» من حديث عمرو بن دينار: ما رأيت رجلًا أنصّ للحديث من الزهري أي أرفع له وأسند.
وقال الشاعر:
أنصُّ الحديثَ إلى أهله فــــإنَّ الأمـــانة في نـــــصّه
والنصّ أيضًا: التحريك حتى يستخرج أقصى سير الناقة؛ ومنه: نصّت الدابة في السير: أي أظهرت أقصى ما عندها.
أما النص في الاصطلاح، فقد قال عنه الدبوسي في التقويم: «هو الزائد على الظاهر بيانًا إذا قوبل به».
وعرَّفه البزْدوي، فقال: «النص ما ازداد وضوحًا على الظاهر بمعنًى من المتكلّم لا في نفس الصيغة».
وأوضح السرخسي تعريف «النص» فقال: «النص فما يزداد وضوحًا، بقرينة تقترن باللفظ من المتكلّم، ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهرًا بدون تلك القرينة».
جميع هذه التعاريف إذًا ترمي إلى: إثبات أن هناك زيادة في الظهور والوضوح، وأن هذه الزيادة لم تكن من الصيغة نفسها، وإنما جاءت من المتكلّم نفسه بقرينة يُقرنها باللفظ.
ومن أمثلة النص قول الله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [سورة النساء: 3].
فهو نص في بيان العدد الحلال من النساء، وقَصْر هذا العدد على أربع. وهذا الحكم أي الحلال من النساء هو مما قصد في السياق فزاده القصد وضوحًا على الظاهر ـــــــ وهو حلّ النكاح ـــــــ وكانت هذه الزيادة بمعنى من المتكلّم، لا بمعنى من الصيغة نفسها.
وقد قرر كثيرون أن النص يشمل الخاص والعام، وليس الخاص فحسب، إذ ليس احتمال العام للتخصيص بأقوى من احتمال الخاص للتأويل... وما ذلك إلَّا لأنه لا فرق بين الشخص المعيّن إذا أُشير إليه بعينه، وبُيِّن حكمه، وما يتناوله العموم اسمًا لجميع ما تناوله وانطوى عليه، والمنصوص وهو ما نصّ عليه باسمه.
وهذه أمثلة من القرآن الكريم تبيّن أنه جرى النص في كلٍّ منها على حكم بلفظ العموم من غير إشارة إلى عين منصوصة، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ} [سورة النساء: 23]. وقال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: 38].
فجاء النص على التحريم وعلى السرقة، وكذلك جلد الزاني ووجوب القصاص على قاتل العمد، وكلها أحكام عامّة لا تتناول نصًّا خاصًّا لحالة محددة.
وبخلاف هذا الرأي، فقد ذهب بعضهم إلى أن النص لا يتناول إلَّا الخاص... وفي رأيهم: أن النص يكون مختصًّا بالسبب الذي كان السياق له، فلا يثبت له موجب الظاهر.
وقد ردَّ على هذا الرأي كثيرون، ومنهم الدبوسي في «التقويم» وغيره في «الأصول» وكان الردّ مبنيًّا على نقطتين:
الأولى: أن أصل اشتقاق الكلمة إنما جاء من النص وهو زيادة الظهور، فإذا كان النص هو ما يزداد وضوحًا بمعنًى من المتكلّم، فإن ذلك يظهر عند المقابلة الظاهر: عامًّا أو خاصًّا.
الثانية: أن الالتباس الذي وقع فيه الذين يقولون بأن النص لا يتناول إلَّا الخاص، إنما جاء من أن القرينة التي دلّت على زيادة الوضوح بمعنى من المتكلّم، إنما اختصّت بالنص من دون الظاهر، فجعل بعضهم الاسم للخاص فقط.
حكم النص:
وحكم النص ـــــــ كحكم الظاهر ـــــــ وجوب العمل بما دلَّ عليه، حتى يقوم دليل التأويل أو التخصيص أو النسخ، علمًا بأن الاحتمال في النص أبعد منه في الظاهر، لما زاد عليه من الوضوح بالقرينة التي تقترن باللفظ من المتكلّم، فكان النص أولى من الظاهر عند التقابل بينهما، ووجب حمل الظاهر عليه.
والسؤال: هل وجوب العمل بما يدلّ عليه الظاهر والنص هو على سبيل القطع أو على سبيل الظن؟
إنَّ مشايخ العراق، يذهبون إلى وجوب العمل، أو ثبوت ما انتظمه كلٌّ من الظاهر والنص على وجه القطع واليقين. وقد عبّر البزدوي عن ذلك بقوله: «حكم الظاهر ثبوت ما انتظمه يقينًا، وكذلك النص، إلا إن هذا عند التعارض أولى منه».
وأما عند علماء الأصول من الحنفية فإن النظرة إلى الظاهر والنص مرّت بثلاث مراحل:
الأولى: وهي التي تمتد إلى نهاية القرن الخامس، حيث لا يشترط في الظاهر عدم سَوْق الكلام للمعنى المراد.
الثانية: وهي التي بدأت بعد القرن الخامس من حيث يشترط في الظاهر عدم سَوْق الكلام للمعنى المراد تفريقًا بينه وبين النص.
الثالثة: وهي المرحلة التي اختلفت فيها نظرة الباحثين بين:
ـــــــ ملتزم لاتجاه المتقدمين.
ـــــــ وملتزم لاتجاه المتأخرين.
ـــــــ ومحايد يعرض المسألة، كما يراها الفريقان من دون ترجيح رأي على آخر أو نظرة على أخرى.
المفسَّر:
المفسَّر هو «اللفظ الذي يدلّ على الحكم دلالة واضحة، لا يبقى معها احتمال للتأويل، أو التخصيص، لكنه مما يقبل النسخ في عهد الرسالة».
وبهذا كان المفسَّر فوق الظاهر والنص وضوحًا لأنه لا يحتمل شيئًا من التأويل والتخصيص.
والأمثلة على ذلك كثيرة من نصوص الأحكام.
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة: 36]، فلفظة «كافّة» الواردة في النص تنفي أيّ احتمال للتخصيص بفئة أو طائفة من المشركين، وعليه فإن الأمر بالقتال يشتمل على المشركين جميعًا من دون أيّ استثناء.
وفي حدّ القذف، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة النور: 4].
وفي عقوبة الزنى، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [سورة النور: 2]، إن كلمة «ثمانين» الواردة في الآية الأولى، وكلمة «مئة» الواردة في الآية الثانية، هي من العدد، والعدد لا يحتمل الزيادة ولا النقص، فهو من المفسَّر. لذا كانت الدلالة، على وجوب جلد القاذف ثمانين جلدة، وعلى وجوب جلد الزانية أو الزاني مئة جلدة، دلالة قاطعة واضحة لا تحتمل تأويلًا أو تخصيصًا.
ويكون من المفسَّر: العامّ إذا لحقه ما يمنع احتماله للتخصيص، كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [سورة الحجر: 30]، فلفظ «الملائكة» جمع عام، ويمكن أن يحتمل التخصيص بأن يردّ ما يدلّ على أكثرهم أو جماعة منهم، لكن إيراد كلمة «كلهم»سدَّ باب التخصيص، كما أن كلمة «أجمعون» تستبعد سجودهم متفرقين، فكان ذلك من المفسَّر.
ومن المفسَّر أيضًا: الصيغة التي ترِد مجملة، ثم يلحقها بيان قطعي من الشّارع فتصبح مفسَّرة لا تحتمل التأويل، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [سورة المعارج: 19 ـــــــ 21]، فالبيان الذي جاء بعد لفظ «هلوعًا» جاء تفسيرًا له. فقد سئل أحمد بن يحيى: ما الهلع؟ فقال: قد فسَّره الله ولا يكون تفسيرٌ أَبْيَنَ من تفسيره.
وأيضًا كما في قول الله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [النساء: 77]، {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة: 183].
فألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ والصيام استعملها الشّارع في معانٍ خاصة، فأصبح لها إلى جانب معانيها اللغوية معانٍ شرعية، وجاءت الآيات الكريمة على ذكرها مجملة، إلَّا إن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، فصَّل معانيها بأقواله وأفعاله، فقال، صلى الله عليه وآله وسلم «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي». وحجَّ وقال: «لتأخذوا عنّي مناسككم»، وهذا معناه أن هذه الأمور التي أتيت بها في حُجّتي من الأقوال والأفعال هي أمور الحج وصفاته، وهي مناسككم، فخذوها عنّي كما قمت بها واحفظوها واعملوا بها وعلِّموها للناس. وكذلك فيما قاله أو فعله في الزكاة وفي الصيام، بحيث أصبحت هذه المجملات من المفسَّر.
فإن كل «مجمل» في الكتاب يصبح مفسَّرًا بعد أن يبيّنه القرآن أو السنّة: قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، بيانًا قاطعًا، ويكون هذا البيان جزءًا مكمّلًا.
وهكذا يكون للمفسَّر مصدران:
أحدهما: المصدر المستفاد من الصيغة نفسها بحيث لا تحتمل التأويل أو التخصيص.
والثاني: المصدر المستفاد من بيان تفسيري قطعي، ملحق بالصيغة، وصادر عمّن له سلطان البيان، شأن المجمل الذي بيّنته السنّة النبوية بيانًا قاطعًا.
حُكم المفسَّر:
وحُكم المفسَّر وجوب العمل بما دلَّ عليه قطعًا، حتى يقوم الدليل على نسخه.
فالمفسَّر لا يقبل التأويل ولا التخصيص، بل يحتمل النسخ والتبديل.
والنسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنّة، لذا فإن مجال النسخ كان مقتصرًا على حياة النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، من نزول الوحي عليه أول مرة وإلى حين قبضَه الله تعالى إليه. ومن بعد وفاته، صلى الله عليه وآله وسلم، فإن جميع نصوص الكتاب والسنّة الثابتة، نصوص مُحكمة لا تقبل النسخ أو الإبطال، إذ لا توجد بعد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، سلطة تشريعية تملك نسخًا أو تبديلًا. وأما اجتهادات الفقهاء فهي ليست مما يمنع الاحتمال، حتى الإجماع فإنه لا ينشئ حكمًا بل يكشف عن حكم.
ويؤخذ دائمًا بالمفسَّر في حال حصول التعارض بينه وبين النص أو الظاهر لأن دلالة المفسَّر على الحكم أقوى من دلالة النص ومن دلالة الظاهر، ولذا فهو يقدّم على أيّ واحد منهما عند التعارض، ويُحمل كلٌّ من النص والظاهر عليه.


البحث الثالث:
مناهج التفسير عند الأئمة السابقين
لقد تناول القرآن الكريم، وهو أصل الشريعة الإسلامية وقوامها، مختلف السُّنن والنظم والقصص والأحكام... بصورة مجملة وكليّة، إلَّا ما أرادَ اللهُ تعالى تفصيله وتكراره بما يتوافق مع النسق القرآني في البيان والتبيين. لكنَّ ذلك الإجمال الذي نزل به القرآن جاءت السنّة تبيّنه وتفصّله للناس كي يتفكّروا ويهتدوا بما أنزل اللهُ تعالى إليهم، وذلك بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل: 44]؛ وتبيانه بقول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه».
إذن، فالأحكام القرآنية نزلت مجملة وكليّة، والسنّة النبوية هي التي فصَّلت تلك الأحكام، ومع ذلك فقد ظهرت الحاجة ماسّة إلى تفسير نصوص الكتاب والسنّة، فكان ذلك عمل أئمة المسلمين الذين أنارَ اللهُ تعالى بصائرهم وهداهم إلى اتّباع هذا الطريق القويم.
ومَن يدقّق بعمق وفهم، في المناهج التي اعتمدها أولئك الأئمة في تفسيراتهم لنصوص الكتاب والسنّة، يجد أن تلك المناهج كانت تقوم على معرفة قواعد اللغة العربية وأساليبها، وعلى فهم مقاصد الشريعة، وبذلك تكون قد أوضحت كثيرًا من معالم الطريق، وسلكت أقوم السُّبُل لاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة، ومما دلَّ عليهما الكتاب والسنّة، وكان ذلك تحقيقًا لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 83].
وبالفعل فقد كانت مناهج التفسير عند الأئمة الأوّلين السبيل الذي انطلق منه البناء التشريعي لاستخراج الأحكام من النصوص، وفق قواعد وضوابط، تمنع الزّلل، وتبعد من الانحراف.
والقرآن الكريم أنزلَهُ اللهُ تعالى قرآنًا عربيًّا، فكان من الطبيعي أن توضع تلك القواعد والضوابط بعد معرفةٍ بأساليب اللغة العربية، وإدراكٍ لطبيعتها في الخطاب، وبعد العلم بما يمكن أن تؤدّيه الألفاظ والتراكيب من مدلولات، وإن كان الدليل الشرعي هو الذي يقدَّم عندما يدخل اللفظ اللغوي مع الشريعة في طور جديد.
ولئن اعترى غالبية المؤلفات الإسلامية، ولا سيما تلك المتعلقة بالتفسير وبالأحكام الشرعية، كثيرٌ من الغموض في التعبير، والصعوبة في الأسلوب، بحيث يستعصي على غير ذوي الاختصاص فهم ما تتضمنه تلك المؤلفات من أحكام، وقرائن، وعِلل، وقواعد وضوابط، إلَّا إنَّ مردَّ ذلك: من ناحية إلى الاصطلاحات المعقدة التي دخلت على اللغة العربية، ومن ناحية أخرى إلى أن المؤلفين إنما اتّبعوا الطرق التي كانت سائدة في عصورهم، وتأثروا بالأساليب الدارجة نفسها وقتئذٍ في التعبير والتأليف.
وعلى الرغم من ذلك كله فإن آثار المؤلفين ـــــــ والفقهاء منهم بخاصة من ذوي العلم والاختصاص الذين نالوا درجة الإمامة بفضل جهودهم وعلومهم ـــــــ تبقى ثروة لا يُستهان بها، خلَّفها أولئك السابقون كي ينتفع بها المسلمون من بعدهم؛ فكان جديرًا بالمعنيّين، ولا سيما الدُّعاة والمؤلفين، وأهل الفكر جميعًا، الاهتمام بعرض تلك الآثار من جديد، ولكن بأسلوب واضح، وبعيدٍ من المصطلحات المعقدة. وهذا ما يجعلها قريبة المنال، سهلة الفهم على كل قارئ متنوّر، كي يستخدمها، بصورة عملية، في حياته وحياة الآخرين.
ولكي يتسنّى للباحث أو المؤلّف العمل على تجديد مناهج الأئمة الأوّلين وتوضيحها، فإنَّ عليه أن يكون أولًا عالمًا بالكتاب، والسنّة، وأصول اللغة العربية. وإلى جانب هذا العلم الواسع، يقتضي له ثانيًا معرفة وفيرة بالمصطلحات التي استعملها أولئك الأئمة في التعبير، وبالقواعد والضوابط التي وضعوها... أي أن يعرف تمامًا مسالك الأئمة في الاستنباط، وأن يُحيط بكيفية استخراجهم للأحكام الشرعية من منابعها الأولى، في عصور ما قبل الهبوط والتقليد.
وبمثل تلك المعرفة والإحاطة يدرك الباحث أن الشريعة الإسلامية شريعةٌ غنيّة بأصولها وفروعها. وبأنها قادرة على أن تمدَّ المسلمين كافّة، بل الناسَ جميعًا، في مختلف ميادين التشريع والتنظيم، وكل ما يكفل لهم الخير والطمأنينة، ويحقّق لهم الأمن والسلام، ويضمن لهم الوفاق والتعاون في جميع الحقول، وهذا لا يقتصر على عصرٍ معين، بل هو صالح في جميع العصور وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومَن عليها.
ومن الإنصاف القول بأن تشعّب المذاهب الفقهية، أو مناهج التفسير، لا يشكّل علامة تخلُّفٍ أو اختلاف في حضارتنا الإسلامية، بل هو على العكس من ذلك زادٌ من الأفكار، وثروة في التشريع، يجب على المسلمين أن يفيدوا منها، بدلًا من أن يعدّوها مصدرًا للتفرِقة والانقسام، فالمسلم، في أيّ بلدٍ يعيش، يجد أمامَهُ عِدَّة مذاهب، يدلُّ كلٌّ منها على الطرق العملية في اتّباع الأحكام الشرعية، فما عليه في هذه الحالة إلَّا أن يأخذ بالأحكام التي يقتنع بقوة دليلها، وهي في مجملها توضيح للتشريع الربّاني الذي لا ينفد، بعدما أنزله سبحانه وتعالى وحيًا على رسوله الكريم، ثم نَمَا وترعرع على أيدي الفقهاء والأئمة المجتهدين، فكان هذا التشريع، كما وصفَه ربّ العالمين {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [سورة إبراهيم: 24]. وقد تمكَّن الفقهاء والأئمة، من خلال فهمهم للتشريع الربّاني، من استخراج الأحكام الشرعية، وردّ الفروع إلى أصولها، وتبيان كيفية اختلاف هذه الفروع باختلاف الضوابط والأصول، وذلك بعد التثبّت من صحة النص إن كان من السنّة، مما يقطع الطريق أمام الفقيه أو المجتهد، ويُلزِمه بعدم التسرّع في إعطاء حكم أو فتوى أو قضاء.
ومَن يطّلع من الباحثين على تلك المسالك والطرق التي اتّبعها الأئمة السابقون، فإن ملكَة الفقه تنمو لديه.
وعندما يزداد عدد هؤلاء الباحثين، الذين يصبحون من ذوي الملكات النامية والواعية، وتصل أبحاثهم إلى نفوس المسلمين، يمكننا عندئذٍ الوصول إلى الحالة التي تغدو معها شريعتنا الغرّاء مصدرنا الأساسي في التقنين والتشريع، فنحكم بما أنزل الله تعالى، ويكون حُكمنا هذا امتثالًا وتسليمًا لأمره سبحانه، وهو يخاطب رسولَهُ الكريم، بقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [سورة النساء: 65].
وهذه الدعوة فرض على المسلمين كي يعودوا إلى شريعتهم الربّانية، ويسيّروا جميع شؤونهم وفقًا لأحكامها السمحة، بدلًا من أن يظلّوا تابعين للغرب، يستقون منه تشريعاتهم الزمنية، ويعملون وفقًا لأنظمته المدنية، وهي جميعًا تتعارض مع الحياة الإسلامية على حقيقتها.
ولا يمكن للمسلمين التحرّر من الهيمنة الأجنبية، والتخلّص من ربقة التشريع الغربي واستئناف حياتهم الإسلامية إلَّا بتحقيق استقلالهم التشريعي، أي الحكم بمقتضى الشريعة الإسلامية، وهو الطريق الأضمن لتحقيق استقلالهم الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم استقلالهم السياسي والعسكري!
أما السبيل للأمة الإسلامية، كي تنهض من عثارها، وتصل إلى استقلالها التام، فهو يكمن في الأمور التالية:
1 ـــــــ الإيمان بذاتها على أنها أمة واحدة، وذات قدرات وطاقات كثيرة ومميزة.
2 ـــــــ الإيمان بأن شريعتها السماوية تامّة، وأنها قادرة على مدّها بالأحكام القويمة التي لا تستوي حياة من دونها.
3 ـــــــ التضامن بين شعوبها لإدارة قدراتها وطاقاتها إدارة تُرضي الله تعالى ورسولَهُ الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الإدارة التي تحقّق أهدافها في جميع المجالات.
4 ـــــــ الابتعاد نهائيًّا عن الانصياع والانقياد للأجنبي مهما كانت وسائله مغرية، وأساليبه مقنعة، لأنه في الأصل لا يعمل إلّا لمصالحه، ومصالحه فقط.
ولا يظننَّ أحدٌ من المسلمين أن تحقيق هذه الأمور صعب أو بعيد المنال، فالعودة إلى شريعتنا هي الأساس قبل كل شيء، وهذه العودة وحدها كفيلة لدفع المسلمين إلى الابتعاد عمّا يُغضِب اللهَ ورسولَهُ، وهي حثٌّ لجهودهم، واستنهاض لهِمَمِهِم وشحذ لعزائمهم على العمل الصالح، امتثالًا لقول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة: 105].
البحث الرابع:
كيفية تفسير القرآن الكريم
يتوقّفُ تفسيرُ القرآنِ الكريمِ بصفتِهِ كلامًا عربيًّا ونصًّا من النصوصِ العربية على إدراكِ واقِعِهِ العربيّ منْ حيثُ اللغة: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [سورة طه: 113]. أمّا من حيثُ الموضوعُ فيتوقفُ على الإلمامِ بالتاريخِ، والعقائدِ، والتشريعِ، والقصصِ، وكثيرٍ منَ الأشياءِ التي انطوى عليها. وهوَ رسالةٌ منَ الله للبشرِ يُبلِّغُها رسلُه إليهم. ففيهِ كلّ ما يتعلّقُ بالرسالةِ من العقائدِ والأحكامِ والبشارةِ والإنذارِ وقصصِ العِظَةِ والذكرى والوصْفِ الرّائِعِ لمشاهدِ القيامةِ والجنّةِ والنّارِ. والغايةُ من ذلكَ الزجرُ وإثارةُ الشَوقِ، والقضايا العقليّةِ، والأمور الحسيّةِ والغيبيّةِ المبنيّةِ على أصلٍ عقليّ للإيمانِ والعملِ، وغيرِ ذلكَ ممّا تقتضيهِ الرسالةُ العامّةُ لبني الإنسانِ، فالوُقوفُ على هذا الموضوعِ وقوفًا دقيقًا قائمًا على معرفةِ التفاصيلِ لا يمكن أن يكونَ إلا عن طريقِ الرسولِ الذي جاءَ بهِ، وقد بيّنَ الله تعالى أنّ القرآنَ أُنزِلَ على الرسولِ لِيُبَيّنَهُ للنّاسِ: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل: 44]. وطريقُ الرسولِ هيَ السنّةُ. أي مَا يُرْوَى عنهُ روايةً صحيحةَ منْ أقوالٍ وأفعالٍ وتقاريرَ. لذلكَ كانَ الواجبُ يفرِضُ الاطّلاعَ على سنّةِ الرسولِ قبلَ البدْءِ بتفسيرِ القرآنِ. إذْ لا يمكنُ فَهْمُ موضوعهِ إلّا بالاطّلاعِ على سُنّةِ الرسولِ، على أنّ هذا الاطّلاعَ يجبُ أنْ يكونَ اطّلاعًا واعيًا لمتن السنّة بغضّ النظرِ عنِ الاطّلاع على سندها. أي يجب أن يكون اطّلاع تدبّرٍ على محتواها كونها مفاهيم لا اطّلاعَ حفظٍ لألفاظِها.
على المفسّرِ أنْ يُدركَ مدلولَ الحديثِ، ولا يَضيرُ أن لا يهتمّ بحفظِ الألفاظِ أو معرفةِ السندِ والرّواةِ ما دامَ واثقًا من صحّةِ الحديثِ بمجرّدِ تخريجهِ. لأنّ التفسيرَ متعلّقٌ بمدلولاتِ السنّة لا بألفاظِها وسندها ورُواتها. وعليهِ يجبُ توافرُ الوعي للسنّةِ حتى يتأتى لهُ تفسيرُ القرآنِ. ومنْ هنا يتبيّنُ أنّهُ لا بدّ لتفسير القرآنِ أوّلًا وقبلَ كلِّ شيءٍ من دراسةِ واقع القرآنِ دراسةً تفصيليّةً، ودراسةِ ما ينطبقُ عليهِ هذا الواقعُ منْ حيثُ الألفاظُ والمعاني، وإدراكِ موضوعِ بحثهِ. ويجبُ أنْ يعلمَ أنَّ الإدراكُ الإجماليّ لا يكفي، بلْ لا بدّ منَ الإدراكِ التفصيليّ للكليّاتِ والجزئيّاتِ، ولو بشكلٍ إجماليّ، ولأجلِ تصوُّرِ هذا الإدراكِ التفصيليّ للكليّاتِ والجزئيّاتِ، ولو بشكلٍ إجماليّ، ولأجلِ تصوُّرِ هذا الإدراكِ التفصيليّ نَعْرِضُ لوْحةً أو إشارةً لكيفيّةِ الإدراكِ التفصيليّ لواقعِ القرآنِ من حيثُ مفرداتُهُ وتراكيبُهُ وتصرّفه في المفرداتِ والتراكيبِ ومنْ حيثُ الأدبُ العالي في الخطابِ والحديثِ منَ الناحيةِ العربيّةِ، ومنْ حيثُ لغةُ العربِ ومعهودُهم في كلامِهِمْ.
أمّا واقعُ القرآنِ منْ حيثُ مفرداتهُ ـــــــ فأننا نشاهِدُ فيهِ مفرداتٍ ينطبقُ عليها المعنى اللغويّ حقيقةً ومجازًا.
وقد يُسْتَعْمَلُ المعنى اللغويّ بقسميهِ المجازيّ والحقيقيّ، وتكونُ القرينةُ أداةَ المقصودِ في كلِّ تركيبٍ. وقد يُتناسى المعنى الحقيقيّ ويبقى المعنى المجازيّ فيصبحُ المقصودَ الأساسي. وهناكَ مفرداتٌ ينطبقُ عليها المعنى الحقيقيّ فقط. كما أنّ هناك مفرداتٍ ينطبقُ عليها المعنى اللغويّ الحقيقيّ، وينطبقُ عليها معنى شرعيّ جديدٌ غيرُ المعنى اللغويّ حقيقةً، وغيرُ المعنى اللغويّ مجازًا، واستُعْملتْ في المعنى اللغويّ والشرعيّ في آياتٍ مختلفةٍ. والذي يُعيّنُ المقصودَ منهما تركيبُ الآيةِ. أو ما ينطبقُ عليها المعنى الشرعيّ فحسب، ولا تُستعملُ في المعنى اللغوي. فكلمة «قرية» ـــــــ مثلًا ـــــــ استُعملتْ بمعناها اللغويّ الحقيقيّ فقط في قولهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [سورة الكهف: 77]. {أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ} [سورة النساء: 75] واسْتُعْمِلَتْ بمعناها المجازيّ في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [سورة يوسف: 82] والقريةُ لا تسأل، والمقصودُ أهْلُ القريةِ «وهذا المعنى مجازيّ» وفي قولِه تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [سورة الطلاق: 8] والمرادُ أهْلُ القريةِ. وفي قولِه تعالى: {أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} [سورة المائدة: 6]، فالغائطُ هوَ المكانُ المنخفضُ، وقدِ اسْتُعْمِلَتْ في قضاءِ الحاجةِ مجازًا، لأنّ الذي يقضي الحاجَةَ يذْهَبُ إلى مكانٍ منخفضٍ. فاسْتُعْمِلَ المعنى المجازيّ وتُنُوسيَ المعنى الحقيقيّ، أمّا في قولِه تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [سورة المائدة: 42] وقولهُ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [سورة الرحمن: 9] فالمقصودُ المعنى اللغويّ. ولم يرد لها معنى آخر، وكذلكَ قولهُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [سورة المدثر: 4] فإنّ المرادَ المعنى اللغويّ. أمّا في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} [سورة المائدة: 6] {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [سورة الواقعة: 79] فالمرادُ المعنى المجازيّ، وهوَ إزالةُ الحَدَثِ لأنّ إزالةَ الحدثِ الأكبرِ والحَدَثِ الأصغرِ يعرف في الشرعِ «بالطهارة»، معَ الأخذ في الاعتبار حقيقة أنّ «المؤمن لا ينجُسُ». وأمّا في قولِه تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [سورة العلق: 9 ـــــــ 10]. فإن المرادَ معناها الشرعيّ. وفي قولِه تعالى: {يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [سورة الأحزاب: 56]. يُرادُ المعنى اللغويّ وهُو الدّعاءُ. هذا مِنْ حيثُ المفرداتُ. أما مِن حيثُ التراكيبُ فإنّ اللغةَ العربيّةَ من حيثُ هيَ ألفاظٌ دالّةٌ على معانٍ. وإذا تقصّينا هذهِ الألفاظ، من حيثُ وجودُها في تراكيبَ سواء كانت منْ حيثُ معناها الإفراديّ في التركيبِ أمْ منْ حيثُ المعنى التركيبيّ، فإنّها لا تخرجُ عن نظرتينِ اثنتينِ:
إحداهما أنْ يُنْظَرَ إليها منْ جهةِ كونها ألفاظًا وعباراتٍ مُطلقةً دالّةً على معانٍ مُطلقةٍ، وهيَ الدّلالَةُ الأصليّةُ. والثاني منْ جهةِ كونها ألفاظًا وعباراتٍ دالّةً على معانٍ خادمةٍ للألفاظِ والعبارات المــُــطلَقَةِ، وهيَ الدّلالةُ التابعةُ. أمّا بالنسبةِ إلى القسمِ الأوّلِ وهو كونُ التراكيب ألفاظًا وعباراتٍ مطلقةً دالّةً على معانٍ مطلقة، فإنّ في اللغةِ من حيثُ المفرداتُ ألفاظًا مشتركةً، مثل: كلمات «العين» و«القدر» و«الروح» وما شاكَلَ ذلك. وفيها ألفاظٌ مترادفةٌ، مثل: كلمتي «جاءَ وأتى». وكلمتي «ظنّ وزعم» إلى غيرِ ذلكَ وفيها ألفاظٌ مُضادّةٌ، مثل: كلمةِ «قروء» للحيضِ والطّهر وكلمة: «عزر» للإهانةِ والنصرةِ وكذلك للّوم والتنكيلِ، وما شابهَ ذلك.
ويحتاجُ فَهْمُ المعنى المرادِ من الكلمةِ، إلى فَهْمِ التركيب، ولا يمكنُ أن يُفْهَمَ معناها بمجرّد مراجعةِ قواميسِ اللغةِ، بل لا بدّ من معرفةِ التركيبِ الذي وَرَدَتْ فيهِ الكلمةُ، لأنّ التركيبَ هوَ الذي يُعيّنُ المعنى المرادَ منها. وكما نقولُ ذلكَ في المفرداتِ بالنسبةِ إلى التركيبِ، نقولهُ بالنسبةِ إلى التراكيبِ نفسها.
فإنها من حيثُ هيَ ألفاظٌ وعباراتٌ مُطلَقَةٌ دالّةٌ على معانٍ مطلقةٍ، وهذهِ هيَ دلالَتُها الأصليّةُ، وما لمْ ترِد قرينةٌ دالّةٌ على غير ذلكَ فإنّ معناها المطلق هو المراد، وهذا كثير في القرآنِ لا يحتاجُ إلى أمثلةٍ لأنّهُ الأصلُ.
وأمّا بالنسبةِ إلى القسمِ الثاني، وهو كونُ التراكيبِ ألفاظًا وعباراتٍ دالّةً على معانٍ خادمةٍ للألفاظِ والعباراتِ المطلقةِ، فإنَّ كُلّ خبرٍ يقالُ في الجملةِ يقتضي بيانَ ما يُقْصَدُ منها بالنسبةِ إلى ذلكَ الخبر. فتوضحُ الجملةُ في شكلٍ يؤدّي ذلك القصدَ بحسبِ المــُــخْبِرِ والمــُــخْبَرِ عنهُ، ونفْسِ الأخبارِ في الحالِ التي وُجد عليها، وفي المساقِ الذي سيقَتْ بهِ الجملةُ. وفي نوعِ الأسلوبِ منَ الإيضاحِ والإخفاءِ والإيجازِ والإطنابِ وغيرِ ذلكَ. تقولُ في ابتداءِ الأخبارِ: «قامَ أحمدُ» إنْ لمْ تكنِ العنايةُ بالمخبرِ بَلْ بالخبرِ، فإنْ كانتِ العنايةُ بالمــُــخْبَرِ عنهُ قلت: أحمد قامَ، وفي جوابِ السؤالِ أو ما هو مُنزّلٌ منزلةَ السؤالِ قلت: إنّ أحمدَ قائمٌ، وفي جوابِ المنكرِ: «واللهِ إنَّ أحمد لقائم»! وفي إخبارِ مَنْ يتوقّعُ قيامَ أحمد: قامَ أحمدُ، ومثلها في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [سورة يس: 13 ـــــــ 16] فإن الرّسل حين أحسّوا إنكارَهُمْ في المرّةِ الأولى اكتفوا بتأكيدِ الخبرِ «بإنّ» فقالوا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [سورة يس: 16]، فلما تزايدَ إنكارُهمْ وجُحودهم قالوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [سورة يس: 16]، فأكّدوا بالقَسَمِ وإنَّ واللّامَ.
وقد رُويَ أنّ يعقوبَ بنَ إسحاق الكِنديّ ركبَ إلى أبي العباسِ المبرّدِ وقالَ لهُ: «إني لأجِدُ في كلامِ العربِ حشوًا!»، فقالَ أبو العبّاسِ: «أينَ وجدتَ ذلكَ»؟ فقالَ: وجدتهُمْ يقولونَ: «عبد الله قائمٌ» ويقولون: «إنّ عبدَ الله قائمٌ» ثمّ يقولونَ: «إنّ عبدَ الله لقائمٌ»، فالألفاظُ مكرّرةٌ والمعنى واحد: فقالَ أبو العباسِ: «بلِ المعاني مختلفة».
فالأول: إخبارٌ عن قيامِهِ.
والثاني: جوابٌ عنْ سؤال.
والثالث: ردّ على مُنْكِر.
هذه الأمورِ يجبُ أنْ تُلاحَظَ في النّصوصِ العربيّةِ. وقد استوفى القرآنُ هاتينِ النظريّتينِ، فجاءَتِ الألفاظ والعباراتُ المطلقة الدالّةُ على معانٍ مطلقة، وجاءت الألفاظ والعبارات المقيدة، الدالّة على معانٍ، خادمة للمعاني المطلقة. وفي وجوهٍ متعدّدةٍ من البلاغةِ. ومن أروعِ ما رُوعِيَ فيهِ وجودُ المعاني الخادمةِ التي هيَ الدّلالةُ التابعةُ الآياتُ وأجزاءُ الآياتِ التي تتكرّرُ في القرآنِ الكريمِ في السورةِ الواحدةِ والسّوَر المختلفةِ، وكذلكَ القصَصُ والجملُ التي تتكرّرُ في القرآنِ، وما جاءَ فيهِ من تقديمِ المحمولِ على الموضوعِ، ومنَ التأكيدِ بأنواع من التأكيد، أو بنوعٍ واحدٍ بحَسْبَ مساقِ الجملةِ، ومن الاستفهامات الإنكاريّةِ وغيرِ ذلكَ، ممّا يتضمّنُ أسمى أنواعِ الدّلالةِ التّابعةِ. إنّكَ تجدُ الآيةَ أو جزءًا منَ الآيةِ أو الجملةِ أو القِصّةِ تأتي في مساقٍ على وجهٍ في بعضِ السور، وتأتي على وجهٍ آخرَ في سورٍ أخرى، وتأتي على وجهٍ ثالثٍ في موضوعٍ آخرَ، وهكذا لا تجدُ تعبيرًا حُوِّلَ عنْ وضعهِ الأصليّ، كتقديمِ الخبرِ على المبتدأ، وتأكيدِ الخبرِ والاكتفاءِ بذكرِ بعضها عنِ بعضها الآخرِ، ممّا يُذْكَرُ عادةً، إلّا وجدتَ لذلك نكتة بلاغيّةً قائمةً على معنى يخدمُ المعاني المطلَقَةَ التي تتضمّنها الألفاظُ والعباراتُ في الآيةِ.
الكلامُ في اللّغةِ العربيّةِ ألفاظٌ دالّةٌ على معانٍ، سواء من حيثُ النظرةُ إلى المفرداتِ مفصلةً، أو من حيثُ التراكيبُ جُمْلَةً.
أمّا من حيثُ التصرّفُ في المفرداتِ وهي في تركيبها، أو التصرّفُ في التراكيبِ، فإنّ القرآنَ سائرٌ فيها على معهودِ العربِ الذي نزلَ بلسانهم. ومع إعجازه للعربِ فلمْ يحصلْ فيه العدولُ عنِ العُرْفِ المستمرّ.
وواقعُهُ من هذهِ الجهةِ هوَ عينُ واقِعِ معهودِ العربِ في ذلكَ، وبالرّجوعِ إلى واقعِ معهودِ العربِ نجدُ أنّ العَرَبَ لا ترى الألفاظَ حتميّةَ الالتزام حينَ يكون المقصودُ المحافظَةَ على معنى التراكيبِ وإنْ كانتْ تراعيها، وكذلكَ لا ترى جوازَ العدولِ منَ الألفاظِ بحالٍ منَ الأحوالِ بلْ تُوجِبُها حيثُ يكونُ المقصودُ أداءَ المعاني التي تقتضي الدقّة في أدائها التزامَ اللفظِ الذي يكونُ أداؤها بهِ أكملَ وأدَقّ، فليسَ أحَدُ الأمرين عندهم بملتزمٍ، بل قد تُبنى المعاني على التركيبِ وحدَهُ معَ عدمِ الالتزامِ بالألفاظِ، وقد تُبْنى المعاني على الألفاظِ في التركيبِ عندَ العربِ كاستغنائهمْ ببعضِ الألفاظِ عمّا يرادفُها، أو يُقاربها إذا دلّ المعنى المقصودُ على استقامتِهِ، فقد حكى ابنُ جنيّ عن عيسى بن عمرَ قالَ: سمعتُ ذا أكرمة ينشدُ:
وظَاهِر لها مِنْ يابسِ الشختِ واسْتَعِنْ عليها الصّبا واجْعَلْ يَدَيْكَ لها سترا
فقلتُ أنشدْتَني من «بائس» فقال: «يابس وبائس واحدٌ». وعن أحمد بن يحيى قال: أنشدني ابنُ الأعرابي قال:
ومَــــــــــوْضِــــــــــعِ زيــــــــرٍ لا أُريـــــــــدُ مَــــبيتَـــــــــهُ كــــــــــأنّي بـــــــهِ مِنْ شِــــــدّةِ الرّوع آنس
فقالَ لهُ شيخٌ من أصحابهِ: ليسَ هكذا أنشدتني بل قلتَ: «وموضع ضيق» فقالَ: سبحانَ الله! أصبحنا من كذا وكذا، ولا تعلمُ أنّ «الزيرَ والضيق» واحدٌ. وقد حصلَ ذلكَ في القرآن، كما حصلَ بالاستغناءِ ببعضِ الألفاظِ عمّا يرادفُها أو يُقارِبها كالقراءاتِ في القرآن، ومثاله:
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أو ملك يوم الدين، {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} أو وما يُخادعونَ إلّا أنْفُسَهُمْ.
ومنْ شأنِ العربِ الالتزامُ بالألفاظِ بعينها حينَ يكونُ هنالكَ قصْدٌ من التعبيرِ بها، كأن يُروى أن أحدَ الرّواة حين أنشد:
لَعَمْرِي ومَا دَهْري بِتَأبِينِ مالكٍ ولا جزعٍ مما أصابَ فَأَوْجَعَا
فإنه قد وضع كلمة «هالك» بدل «مالك» فغضب أحدهم وقالَ: الراوية «مالك» وليس «بهالك» والمرثيّ «مالك» لا مُطْلَقُ شخصٍ هالكٍ.
والقرآنُ الكريم وردتْ فيهِ ألفاظٌ ملتزمةٌ لا يمكنُ أن يُؤدّى المعنى من دونها فقولُه تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [سورة النجم: 22] فكلمةُ «ضيزى» هنا لا يُمكنُ أنْ تُؤدّي معناها أيُّ كلمةٍ مرادفةٍ أو مقاربةٍ، فلا «قسمةٌ ظالمةٌ» ولا «جائرة» بقادرةٍ على تأديةِ المعنى نفسه. ومن أجلِ ذلكَ رُوعيَ لَفْظُها في التركيبِ محافظةً على المعنى. هذا منْ حيثُ المحافظةُ على التعبيرِ الخاصّ أو عدمِ المحافظةِ.
أما من حيثُ المحافظةُ على المعنى الإفراديّ بتبيانهِ أو عدمِ المحافظةِ فإنّ من معهودِ العربِ أن يكونَ الاعتناءُ بالمعاني المبثوثة في الخطابِ هوَ المقصود الأعظم بناءً على أنّ عناية العربِ كانت بالمعاني، وإنما أُصلحتِ الألفاظُ من أجلِها.
ولكنْ إذا كانَ مقصودُ الجملةِ المعنى الإفراديّ فيجبُ أنْ تُوجّهَ العنايةُ إلى معاني المفرداتِ معَ التركيب العام للجملةِ، وإذا كانَ مقصودُ الجملة المعنى التركيبيّ فيُكتفى بالمعنى الإفراديّ لئلا يَفْسُدَ على القارئِ فَهْمُ المعنى التركيبيّ للجُملةِ. وقد جاءَ القرآنُ الكريمُ على هذا المعهودِ وسارَ عليهِ في مُخْتَلِفِ الآياتِ، لذلكَ قالَ عمرُ بنُ الخطّابِ حينَ سُئِلَ عن معنى قولِهِ تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [سورة عبس: 31] نُهينا عنِ التكلّفِ والتعمّقِ، أي في المعنى الإفراديّ. وفي مثلِ هذهِ الجملةِ يُرادُ المعنى التركيبيّ، ولكنْ إذا كانَ المعنى الإفراديّ يتوقّفُ عليه المعنى التركيبيّ، فيجبُ بذلُ العنايةِ للمعنى الإفراديّ.
ولهذا نجدُ عمرَ بنَ الخطّابِ نفسَهُ سَألَ وهو على المنبرِ عن المعنى الإفرادي لكَلِمَةِ «التخَوُّفِ» حينَ قرأ «أوْ يَأخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ» فقالَ رجلٌ من هذيل: التخوُّفُ هو التَّنَقّص عندنا... وأنشده:
تخوفَ السيرَ تامكًا قَرَدًا كما تَخَوّف عُودَ النّبعةِ السّفَنُ
أي إن الرِّجلَ في أثناءِ السيرِ تَنقص النّاقَةَ وتبرد ظَهرَها كما يُنقِصُ المبردُ خَشَبَ القِسيّ.
وحينَ أنشدَ الهُذَيليّ بيتَ الشّعر وفسّرَ لعُمَرَ التَخوّفَ، قال عمر: «يا أيّها النّاسُ تمسّكُوا بديوانِ شِعْرِكُمْ في جاهلِيّتِكُمْ فإنَّ فيه تَفسيرَ كِتابكمْ». وأتى أعرابي إلى ابنِ عباس فقالَ:
تخوَّفني مالي أخٌ لي ظَالِمٌ فلا تَخْذُلَنّي اليومَ يا خيرَ مَنْ بقي
قال نعم: الله أكبر {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [سورة النحل: 47] أي على تنقُّصٍ من خيارهم.
وفضلًا عن ذلكَ كان القرآنُ يراعي عندَ الكلامِ تعابير يُقصَدُ بها مراعاةُ الأدب العالي، فإنّهُ أتى بالنداءِ من الله تعالى للعبادِ ومن العبادِ لله تعالى، إمّا حكايةً وإمّا تعليمًا.
فحينَ أتى النداءُ منَ الله للعبادِ جاءَ بحرفِ النداءِ المقتضي للبُعْدِ ثابتًا غير محذوفٍ، ليُشْعِرَ العبدَ بالبُعْدِ كقولِهِ تعالى:
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت: 56] «يا أيّها الناسُ»، «يا أيّها الذينَ آمَنُوا». هذا بالنسبةِ إلى نداءِ الله. أمّا بالنسبةِ إلى نداءِ العبادِ لله فقد أتى بالنداءِ مجردًا منَ الياءِ كقولِهِ تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَآ} [سورة البقرة: 286]، {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [سورة آل عمران: 193].
قالَ عيسى ابنُ مريمَ: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [سورة المائدة: 114] فهذهِ كُلّها مجَرَّدَةٌ منَ الياءِ المختصَّة بالبعدِ، لِيَشْعُرَ العبدُ أن الله قريبٌ منهُ. ولأن الياءَ هي في مثل ذلك لمجرد التنبيه. والعبدُ في حاجةٍ إلى التنبيهِ عندَ النداءِ. والله سبحانهُ وتعالى لا يحتاجُ إلى ذلكَ.
وهناكَ عنايةٌ بالعباراتِ التي ترْمي لمراعاةِ الأدَبِ العالي جاءَتْ في القرآنِ بالكنايةِ بدَلَ التّصريحِ في الأمورِ التي يُسْتَحَى منْ ذِكْرِها والتصريحِ بها، كما كنّى عن الجَماع باللّباسِ والمباشرةِ في قولهِ تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [سورة البقرة: 187]، وقولهُ تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ} [سورة البقرة: 187]. وكَنّى عنْ قضاءِ الحاجةِ بقولِهِ: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [سورة المائدة: 75].
وهناكَ تعابيرُ قائمةٌ على الالتفاتِ الذي يُنْبِئُ عنْ أدَبِ الإقبالِ منَ الْغَيْبِيّةِ إلى الحضورِ إذا كانَ مُقْتَضى الحالِ يسْتدعيهِ، كقولهِ تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة: 2 ـــــــ 4]، ثم عَدَلَ عَنِ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ فقالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة: 5]، وكقولهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِريحٍ طَيِّبَةٍ} [سورة يونس: 22].
فعدلَ عنِ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ. وقولُهُ تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} [سورة عبس: 1 ـــــــ 2] فجرى العتابُ على حالٍ بأُسلوبِ الغَيبَةِ. معَ أن الآيةَ نَزَلَتْ عليهِ، وهوَ المــُــخَاطَبُ بها، ثم انتقلَ إلى الخطابِ فقالَ تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [سورة عبس: 3] فهذا العدولُ منَ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، ومنَ الغَيْبَةِ إلى الخطابِ قائمٌ على الأدب العالي، لما في الخطابِ بعدَ الغيبةِ منْ تَقْوِيَةٍ للمعنى الثاني أو تخفيفٍ للمعنى الأولِ على النّفسِ حينَ لقائها. ألا ترى في الشكرِ لله والثناءِ عليهِ، أن الأدب يقتضي الغَيْبَةَ، وحينَ العبادةِ وإظْهَارِ الضعفِ كانَ الخطابُ أليَقَ بأدبِ الخطابِ ولعلّ العتابَ أخفّ على المعاتَبِ بلفظِ الغيبةِ، والاستفهامُ أليقُ بهِ أنْ يكونَ منْ مُخاطَبٍ.
ومن ذلكَ أيضًا ما عَلّمَنا الله تعالى في تَرْكِ التنصيصِ على نسبةِ الشرّ إليهِ تعالى، وإن كانَ هوَ الخالقَ لكلِ شيء: «بِيَدِكَ الخيرُ» واكتفى بذلكَ واستغنى بها عن ذكْر الشرّ فلم يقلْ «بيدكَ الشر» وقد جاءَ ذلكَ بعدَ قولِهِ تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة آل عمران: 26].
معَ أن السّياق يقتضي أن يقولَ: «وبيدكَ الشر» لأن ما نص على فعلِ الله لهُ خيرٌ وشر، باعتبارِ إطلاقِ الإنسانِ، فإتيانُ الملكِ وعِزّةُ الشّخصِ هيَ خيرٌ بالنّسبةِ إلى الإنسانِ، ونَزْعُ الملكِ وذلّةُ الشّخصِ هيَ شرٌّ للإنسانِ. وقدْ نَسَبَهَا الله لنفسِهِ بأنّهُ هو الذي فَعَلَهَا. وقالَ في ختامِ الآيةِ: {إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. هذا القولُ يشملُ الشّرّ كما يشملُ الخيرَ، ومعَ ذلكَ قالَ: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} واكتفى بذلكَ عنِ الشرّ، تَعْليمًا لنا بأنْ نَتَأْدّبَ بأدَب الخطابِ. ويقصِدُ بذلكَ كلّهِ مراعاةَ الأدبِ العالي، وهوَ من معهودِ العربِ في كلامِهِمْ. وقدْ وَرَدَ في الشعرِ والخطبِ. وهكذا يمضي القرآنُ في ألفاظهِ وعباراتِهِ، على اللفظِ العربيّ وعباراته ومعهوده في الكلامِ، لا يخرجُ عن ذلكَ شَعْرَةً، ويحيطُ بكلِّ ما هو في أعلى مرْتبةٍ من بليغِ القولِ، ممّا سارَ العربُ عليهِ. فواقعُهُ أنّهُ عربيّ محْض ولا علاقَةَ لهُ بما هوَ أعْجَمي. فكانَ حتمًا على كلِّ مَنْ أرادَ تَفَهّمَ القرآنِ أن يأتيه من هذهِ الجهةِ.
ولا سبيلَ إلى فَهْمِهِ من غيرِها، لذلكَ كانَ الواجبُ أن يُفَسَّرَ القُرآنُ من حيثُ ألفاظُهُ وعباراتُهُ، ومن حيثُ مدلولاتُ الألفاظِ والعباراتِ مفردات وتراكيب في اللغةِ العربيّةِ فَقَطْ.
فما تُرْشِدُ إليهِ اللغةُ وما يقْتضيهِ مَعْهُودُها يُفَسَّرُ بهِ القرآنُ، ولا يجوزُ أنْ يُفَسّرَ منْ هذهِ النّاحيةِ إلّا بما تقتضيهِ اللغةُ العربيّةُ لا غير. وطريقُ ذلكَ النقلُ الموثوق بهِ منْ طريقِ الرّوايةِ التي يرْويها الثّقةُ الضابطُ كما يقولُ عن «فصحاءِ العربِ الخالصةِ عربيّتُهُمْ». وبناءً على ذلكَ فتفسيرُ المفرداتِ والتراكيبِ، ألفاظًا وعباراتٍ، محصورٌ في اللغةِ العربيةِ وحدها ولا يجوزُ أنْ يُفَسّرَ بِغيرِها مطلقًا. وهذا هو واقعُهُ منْ هذهِ الجهةِ.
أمّا واقعُهُ منْ حيثُ المعاني الشرعيّةُ كالصلاةِ والصومِ، والأحكامُ الشرعيّةُ كتحريمِ الرِبا وحلِّ البيعِ، والأفكارُ التي لها واقعٌ شرعيّ كالملائكةِ والشياطينِ، فإنّ الثابتَ أنّ القُرآنَ جاءَ في كثيرٍ منْ آياتِهِ مُجْمَلًا وجاءَ الرّسولُ وفَصّلَهُ. كما جاءَ عامًّا لكنّ الرسولَ خَصّصَهُ، ومطلقًا فَقَيّدَهُ. وذكَرَ الله فيهِ أنّ الرسولَ هو يُبيّنهُ. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل: 44].
فالقرآنُ منْ هذهِ الجهةِ يحتاجُ فَهْمُهُ إلى الاطّلاعِ على ما يُبَيّنُهُ الرسولُ من مفردات القرآنِ وتراكيبهِ ومعانيها كلِّها، سواءٌ كانَ هذا البيانُ تخصيصًا أو تقْييدًا أو تَفصيلًا أو غَيْرَ ذلكَ.
لذلكَ كانَ فَهْمُ القرآنِ مُتوقّفًا على فَهْمِ السنّةِ المتعلّقةِ بالقرآنِ، أيْ إنّهُ مُتوقّفٌ عليها توقّفًا تامًّا لأنّها بيانٌ للقرآنِ حتى يعرفَ بوساطتها ما في القرآنِ منْ معانٍ وأحكامٍ وأفكارٍ.
ولهذا كانَ الاقتصارُ على فَهْمِ القرآنِ فَهْمًا كامِلًا لا يكفي فيهِ الاقتصارُ على اللغةِ العربيّةِ بلْ لا بدّ من أنْ يكونَ فوقَ معرفةِ اللغةِ العربيّةِ، معرفةُ السنّة، وإنْ كانَتِ اللغة العربيّةُ وحدها هيَ التي يُرْجَعُ إليها لِفَهْمِ مدلولاتِ المفرداتِ والتراكيبِ، من حيثُ ألفاظُها وعباراتُها.
ولكي نَفْهَمَ القرآنَ كلّهُ فلا بدّ منْ جعلِ السنّةِ واللغةِ العربيّةِ أمْرينِ حتميّينِ، ومنَ المحتّمِ أيضًا أنْ يسيرا معًا لفَهْمِ القرآنِ، وأنْ يتوافرا لمَنْ يُريدُ أنْ يفسّرَ القرآنَ. أمّا القصصُ الواردةُ فيهِ عنِ الأنبياءِ والرّسُلِ والحوادِثِ التي قصّها عنِ الأُممِ الغابرةِ فيتوقّفُ أمرها على الحديثِ، إنْ ورد فيها حديثٌ، وإلّا اقتصرَ فيها عَلى ما وَرَدَ عنها في القرآنِ.
ولا يصحّ أنْ تُعْرَفَ عنْ غيرِ هذينِ الطّريقينِ لأنَّ الله أمرَنَا بالرجوعِ إلى الرّسولِ صلى الله عليه وآله وسلم، وبيّنَ لنا أنّ الرّسولَ هوَ الذي يحقّ لهُ أنْ يُبيّنَ القرآنَ، ولم يأمرْنا بالرجوعِ إلى غيرِهِ، فلا يجوزُ أن نرجعَ إلى الإسرائيليّات وما شاكَلَهَا لِفَهْمِ قِصَصِ القرآنِ وأخبارِ الأمَمِ الماضيةِ. وليس الموضوعُ شَرْحَ قِصّةٍ حتى يُقال: إنّ هذا مَصْدَرٌ أوْسَعُ، على فرْضِ صِدْقِهِ، بل الموضوعُ شرحُ نصوصٍ مُعيّنةٍ نعتقِدُ أنها كلامُ رب العالمينَ، فيجبُ الوقوفُ عندَ مدلولاتِ هذه النّصوصِ من حيث اللغة التي جاءَت بها، ومنْ حيث الاصطلاحُ الشرعيّ من صاحبِ الاصطلاحِ، وهوَ الرسولُ الذي قالَ الله عنه: إنّ القرآنَ أُنْزِلَ عليه لَيُبيّنهُ للناسِ. ومن هنا يجبُ أنْ يُنفى منَ التفسيرِ كلّ قولٍ جاءَ عن طريقِ الإسرائيليّات، أو كُتُبِ التّاريخِ وغيرِها. ويكونُ منَ الافتراءِ على الله أن نزعمَ أنّ هذهِ المعاني هيَ كلامُ الله ولا يوجدُ دليلٌ أو أثر لدليل على علاقتها بمعاني كلامِ الله.
وأمّا ما يزعمُهُ الكثيرُ منَ النّاسِ قديمًا وحديثًا من أنّ القرآنَ يحوي العلومَ والصّناعاتِ والاختراعاتِ وأمثالها، حتى أضافوا إليه كلّ عِلْمٍ مذكورٍ للمُتَقَدّمينَ والمتأخّرينَ من علومِ الطبيعياتِ والكيمياءِ والمنطقِ وغيرِ ذلكَ، فلا أصلَ لهُ.
وواقِعُ القرآنِ يكذّبهُمْ. لأنّهُ لمْ يقْصِدْ بِهِ تقريرًا لشيءٍ ممّا زعموا. وكلّ آياتِهِ أفكارٌ للدّلالةِ على عَظَمَةِ الله وأحْكَامٌ لمعالجةِ أعْمالِ عبادِ الله.
وأمّا ما حدثَ منَ العلومِ، فلم تَرِدْ بِهِ آيةٌ ولا جُزءُ آيةٍ فيها أدنى دلالةٍ على أنّ أيّ علْمٍ منَ العُلومِ وما وَرَدَ فيهِ ممّا يمكنُ أنْ ينطبقَ على نظرياتٍ أو حقائقَ علميةٍ كآية {الله الذي يرسلُ الرّياحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} الآية... فإنها جاءَتْ للدّلالةِ على قُدْرَةِ الله لا لإثباتِ النواحي العلميّةِ. وأمّا قولُهُ تعالى: {وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيانًا لكل شيءٍ} فالمرادُ منها لِكُلِّ شيءٍ من التكاليف والتعبّدِ وما يَتَعَلّقُ بذلكَ، بدليلِ نَصِّ الآيةِ. فإنها تتعلّقُ بموضوع التكليفِ الذي بلّغَهُ الرسولُ للنّاسِ. ونَصّ الآيةِ:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل: 89].
فكونُ الله جاءَ بالرّسول شهيدًا على أُمّتهِ، يعني شَهِيدًا عليها بما بَلّغها. وكونُهُ نَزّلَ القرآنَ لِيُبيّنَ ـــــــ أي القرآن ـــــــ كُلّ شيءٍ يكونُ هدًى ورحمةً وبُشرى للمُسلمينَ، يُحتّمُ أنّ الشيءَ المقصودَ لا يتعلّق بعِلْمِ الطبيعةِ أو المنطقِ أو الجغرافيا أو غيرِ ذلكَ. بلْ هوَ شيءٌ يتعلّقُ بالرّسالةِ، أي إنّ الكتابَ تبيانٌ للأحكامِ والتعبّدِ والعقائدِ، وهدًى يهدي النّاسَ ورحمةٌ لهمْ، يُنقذهُمْ منَ الضّلالِ، وبشرى للمسلمينَ بالجنّةِ ورضوانِ الله، ولا علاقةَ لغيرِ الدّينِ وتكاليفهِ بشيءٍ منْ ذلكَ.
فيتعيّنُ أنْ يكونَ معنى قولِهِ تعالى: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89] أُمورَ الإسلامِ.
وأمّا قولُهُ تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [سورة الأنعام: 38] فالمرادُ بـــــــ «الكتاب» اللّوْحُ المحْفُوظُ، وهوَ كنايةٌ عَنْ عِلْمِ الله تعالى. وكلمةُ «كتاب» منَ الألفاظِ المشتركةِ يُفَسِّرُها التركيبُ الذي وَرَدَتْ فيهِ، فحينَ يقولُ الله: {ذَلِكَ الْكِتَابٌ لَا رَيْبَ فِيهِ} [سورة البقرة: 2] يُرادُ بِهِ القرآنُ وحينَ يقولُ: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} [سورة الشورى: 52] يَقْصِدُ بِهِ الكتابةَ ولكنْ حين يقولُ: {وَعْنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة الرعد: 39] أو {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [سورة الإسراء: 58] أو {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} [سورة الأنعام: 38] أو {لَوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ} [سورة الأنفال: 68] أو {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سورة الأنعام: 59] يَقْصِدُ بذلكَ كلّهِ عِلْمَ الله، أو اللّوْح المحفوظ وهو كِنَايَةٌ عن عِلْمِ الله، فهذا كلّهُ يدلّ على أن المراد في هذه الآية من كلمة الكتاب ليس «القرآن». بلِ المرادُ اللّوحُ المحفوظُ وهو كنَايةٌ عن عِلْمِ الله نَفسِهِ.
فلا دلالَةَ في الآيةِ، إذًا، على أنّ القرآنَ يحوي العلومَ وأمثالَها. لأنّ مفرداتِهِ وتراكيبَهُ لا تدلّ عليها، ولأنّ الرسولَ لمْ يُبَيّنْـها، فلا علاقةَ لها بهِ. هذا هو واقعُ القرآنِ وهو يدلّ دَلالةً صريحةً واضحةً على أنّهُ نصوصٌ عربيّةٌ جاءَ بها رسولُ الله منْ عِنْدِ الله، ولا تُفَسّرُ بغيرِ اللغةِ العربيّةِ وسُنّةِ رسولِهِ. أمّا تفسيرُهُ بالاستنادِ إلى دليلٍ شرعيٍّ وردَ في كيفيّةِ تفسيرِهِ فغيرُ واقِعٍ ولا أصلَ لهُ مطلقًا.
إنّ القرآنَ نفْسَهُ لمْ يُبيّنْ كيفَ تُفَسّرُ آياتُهُ، ولم يصحّ عنِ الرسولِ، صلى الله عليه وآله وسلم، بيانٌ لكيفيّةٍ مُعيّنةٍ للتفسيرِ.
وأمّا تفسيرُ الصّحابةِ رضوانُ الله عليهِمْ فإنْ كانَ مُسْتَندًا إلى سببِ النّزولِ فهوَ من قبيلِ الحديثِ الموقوفِ، لا منْ قَبيلِ التفسيرِ، وإن كانَ منْ قبيلِ الشرحِ والبيانِ، فقد اختلفُوا في الآياتِ ولم يحصلْ إجماعٌ منهمْ على كيفيّةٍ مُعيّنةٍ للتفسيرِ. ومنهمْ مَنْ كانَ يأخذ مِنْ أهلِ الكتابِ بعضَ الإسرائيليّاتِ ويرويها عنهُ التّابعونَ، ومنهمْ مَنْ كانَ يرفُضُ أخْذها.
لكنّهُمْ جميعًا كانوا يفهمونَ القرآنَ بما يعرفونَهُ منَ اللّغةِ العربيّةِ، وبما يعرفونَ منْ سُنّةِ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قولًا وفِعلًا وسكوتًا ووصفًا بخَلْقِ رسولِ الله وخُلُقِهِ وذلكَ مشهورٌ عنهم جميعًا. ومَنْ كانَ يتحرّجُ عن تفسيرِ بعضِ الكلماتِ أو الآياتِ فقدْ كانَ تحرّجُهُ للوثوقِ منَ المعنى لا على ما وَرَدَ بهِ النصّ حتى لا يفتيَ إلا بعدَ علمٍ موثوقٍ. لكن ذلكَ لا يُسمّى إجماعًا لأنّه لا يَكْشِفُ عنْ دليلٍ منَ الرسولِ. فبيانه، كما قلنا، سُنّةٌ لا تفسيرٌ.
ولما كانَ الصحابةُ هم أقرب النّاسِ إلى الصّوابِ في تفسيرِ القرآنِ لمعرفتهم العميقةِ بأسرارِ اللغةِ العربيّةِ ومُلازمَتِهِمْ للنبيّ الذي أُنْزِلَ عليهِ القرآنُ، اتفقوا على جَعْلِ اللغةِ العربيّةِ والشّعرِ الجاهليّ والخُطَبِ الجاهليّةِ وغيرِها الأدواتِ الوحيدة لِفَهْمِ مفرداتِ القرآنِ وتراكيبهِ.
وفي وقوفِهِمْ عندَ حدِّ ما وَرَدَ عنِ الرّسولِ، وإطلاقِ عَقْلِهِمْ في فَهْمِ القرآنِ خيرُ طريقةٍ تُتّبَعُ ويُقْتَدَى بِها في فَهْمِ القرآنِ، لذلكَ فإننا نرى أنّ طريقةَ تفسيرِهِ لا تتعدّى اتّخاذَ اللغةِ العربيّةِ، والسنّةِ النبويّةِ الأداةَ الوحيدةَ لِفَهْمِ القرآنِ وتفسيرِهِ، منْ حيثُ مفرداته وتراكيبُهُ، ومن حيثُ المعاني الشرعيّة والأفكارُ التي لها واقعٌ شرعيّ. كما نرى أنْ يُطْلَقَ للْعَقْلِ فَهْمُ النصوصِ بقدرِ ما يدلّ عليهِ كلامُ العربِ ومعهودُ تصرّفِهِمْ في القولِ، وبما تدلّ عليهِ الألفاظُ منَ المعاني الشّرْعِيّةِ الواردةِ بنصٍّ شرعيٍّ من قرآنٍ أو سُنّةٍ غَير مُقَيّدٍ بما فَهِمَ الأوّلونَ السابقونَ، لا العلماءُ ولا التّابعونَ حتى ولا الصّحابةُ، لأن اجتهاداتهم قد تُخطِئ وقد تُصيبُ. وربما أرْشدَ العقلُ إلى فَهْمِ آيةٍ كانَ لها واقعٌ للمفسّر من خلالِ كثرةِ مطالعاتهِ للعربيّةِ والشريعةِ، أو ظهرَ منْ تجددِ الأشياءِ وتقدمِ الأشكالِ المدنيّةِ والوقائعِ والحوادثِ، فبإطلاقِ العقل بالفَهْمِ لا بالوضعِ يحصُلُ الإبداعُ في التفسير وذلكَ في حُدُودِ ما تقتضيهِ كلمةُ التفسيرِ منَ الحمايةِ والصّوْنِ منَ الوقوعِ في ضلالِ الوضعِ لمعانٍ لا تمتّ إلى النّصّ بِصِلَةٍ منَ الصّلاتِ، وهذا الانطلاقُ في الفَهْمِ وإطلاقِ العنانِ للعقلِ بأقصى ما يفْهَمُهُ منَ النصّ من دونَ التقيّدِ بفهمِ أيّ إنسانٍ ما عدا النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، يُحتّمُ إبعادَ الإسرائيليّاتِ كلّهَا ويُوجِبُ الاقتصارَ في القصصِ على ما وَرَدَ في القرآن عنها، يُضافُ إلى ذلك إبعادُ ما يزعمونَ منْ علومٍ تضمّنَها القرآن. وهنا يجبُ الوقوفُ لننظر فيما تَعنيهِ تراكيبُ القرآنِ منَ الآياتِ الباحثةِ في الكونِ، وما قُصِدَ منها منْ بيانِ عَظَمَةِ الله.
هذهِ هيَ طريقةُ تفسيرِ القرآنِ التي يجبُ أن يلتزمَها المفسِّرُ. وأن يقومَ بأعبائِها مَنْ يريدُ تفسيرَ القرآنِ الكريمِ.
عِلم الحَديث:
هو علمٌ بالقوانينِ التي تُعْرَفُ بها أحوالُ السّنَدِ والمَتْنِ، وغايتُهُ معرِفَةُ الحديثِ الصّحيحِ من غيرِهِ، وينقسِمُ قسمينِ:
علم الحديثِ الخاصِّ بالرّوايةِ.
وعلم الحديثِ الخاصِّ بالدّرايةِ.
أمّا الخاصّ بالروايةِ فيشتملُ على نَقْلِ أقوالِ النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وأفعالِهِ وتقريراتِهِ، وصفاتِهِ وروايتها وضبطها وتحريرِ ألفاظِها، وأما الخاصّ بالدّرايةِ فيعرفُ منهُ حقيقةُ الرّوايةِ وشروطُها وأنواعُها وأحكامُها وحالُ الرّواةِ وشُرُوطُهُمْ وأصنافُ المرويّاتِ وما يتعلّقُ بها. وتشملُ الدرايةُ معرفةَ المعنى الذي تضمّنَهُ الحديثُ من حيثُ مناقضتُهُ للنصِّ القطعيّ.
الحَدِيث:
ينبغي الوقوفُ على معاني الألفاظ التي تدورُ بينَ المحدّثينَ، وهي الحديثُ والأَثَرُ والسُّنّةُ؛ هذا منْ حيثُ الإطلاقُ العامّ والمتْنُ والسّنَدُ والمسْتَنَدُ.
والمستنِدُ من ناحيةِ ألفاظِ الحديثِ وروايتهِ. والمحدِّث من ناحيةِ الرواةِ. أمّا بيانُ معاني هذه الألفاظِ في اصطلاحِ الحديثِ فهو:
1 ـــــــ الحديث: مَا أُضيفَ إلى النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، من قولٍ أو فِعلٍ أو تقريرٍ أو وصفٍ خَلْقيٍّ ـــــــ بفتح الخاء ـــــــ أي بالخلقةِ لكونه، عليهِ الصلاة والسلامُ، ليسَ بالطويل ولا بالقصيرِ، أو خُلُقيٍّ ــــــ بضم الخاء ـــــــ أي مُتعلّقِ بالخُلُقِ لكونهِ، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يُواجهُ أحدًا بمكروهٍ. والخبرُ والسّنّةُ لا يتعدّيانِ هذا المعنى نفسهُ، فهما لفظانِ مرادفانِ للفظِ الحديثِ، وكلّها أي الحديث والخبرُ والسنّة بمعنى واحدٍ. وأمّا الأثرُ فهو الحديثُ الموقوف على الصّحابةِ، رضي الله عنهم.
2 ـــــــ المتن: ما تنتهي إليهِ غايةُ السّنَدِ منَ الكلامِ. والسّنَدُ هوَ الطريقُ الموصلَةُ إلى المتنِ، أي الرجالُ المُوصِلُونَ إليهِ، والإسنادُ رَفْعُ الحديثِ لقائِلِهِ: والمسْتَنَدُ ما اتّصَلَ سَنَدُهُ من أوّلِهِ إلى مُنتهاهُ ولو كانَ موقوفًا.
ويُطلَقُ المسْنَدُ أيضًا ـــــــ بفتح النون ـــــــ على الكتابِ الذي جمعَ مرويّاتِ الصّحابةِ، أمّا المسْنِد ـــــــ بكسر النون ـــــــ فهو راوي الحديثِ بإسنادِهِ.
3 ـــــــ المُحَدِّث: بكسر الدال مَنْ يحملُ الحديثَ ويعتني بهِ روايةً ودرايةً.
رِواية الحَدِيث وأقسامه:
تجوزُ روايةُ الحديثِ بالمعنى، لأنّ التعبّدَ بمعناهُ لا بألفاظهِ، والوحي معنى الحديثِ لا ألفاظهُ.
ينقسمُ الخبرُ المرادفُ للحديثِ والسنّةِ كون طُرقِ الخبرِ إلى متواتر و«آحادٍ».
المتواترُ ما جمعَ أمورًا أربعةً:
1 ـــــــ أنْ يكونَ العددُ أكثرَ من خمسة.
2 ـــــــ أنْ يكونَ تواطُؤُهُمْ على الكذبِ مستحيلًا.
3 ـــــــ أن يرْووا ذلكَ عن مِثْلِهِمْ منَ الابتداءِ إلى الانتهاءِ.
4 ـــــــ أنْ يكونَ مُسْتَنَدُ انتهائِهِمْ إلى الحسّ، لأنّ العقلَ الصرفَ يمكنُ أنْ يُخْطِئَ وإذا لم يكنْ مستندًا إلى الحسِّ فلا يُفيدُ اليقينَ.
خبر الآحَاد:
ينقسمُ منْ حيثُ عددُ الرُّواة ثلاثةِ أقسام:
1 ـــــــ الغريب: الرّاوي الذي ينفردُ بروايتِهِ.
2 ـــــــ العزيز: ما رواه أكثرُ من واحدٍ وأقلّ منْ أربعةٍ.
3 ـــــــ المشهور: ما زادَ نَقَلَتُهُ على ثلاثةٍ. ولمْ يصِلْ إلى مستوى المتواتر.
والإسنادُ في خبرِ الآحادِ غريبًا كان أو عزيزًا أو مشهورًا لهُ نهايةٌ، فإمّا أنْ ينتهي بإسنادهِ إلى النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، أو إلى الصّحابةِ، أو إلى التّابعينَ فيكونُ منْ حيثُ انتهاءُ السندِ ثلاثة أنواعٍ:
1 ـــــــ المرفوع: ما أُضيفَ إلى النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصًا، قولًا أو فِعْلًا أو تقريرًا أو وصفًا.
2 ـــــــ الموقوف: المرويّ عنِ الصحابةِ قولًا أو فعلًا، وهذا النوعُ لا تقومُ بهِ حُجّةٌ لأنّ الله تعالى يقولُ: {ومَا آتاكُمُ الرَسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
3 ـــــــ المقطوع: الموقوف عنِ التابعينَ قولًا وفعلًا.
أقسام خبَر الآحاد:
ينقسمُ خَبَرُ الآحادِ عندَ أهلِ الحديثِ منْ حيثُ قبولُهُ أو عدمُ قبولِهِ أربعة أقسامٍ: صحيحٍ وحسنٍ وضعيفٍ وموثق.
1 ـــــــ الصحيح: الحديثُ الذي يتصلُ إسنادُهُ بنقلِ العَدْلِ الضابطِ عنِ العدْلِ الضّابطِ إلى منتهاهُ، ولا يكونُ شاذًّا ولا مُعَلّلًا.
2 ـــــــ الحسن: ما عُرفَ مخرجه، واشتهر رجاله وعليهِ يدورُ أكثرُ الحديثِ، وهو الذي يقبلُهُ أكثر العلماءِ، ويستعملُهُ أكثرُ الفُقهاءِ، أيْ ألّا يكونَ في إسنادِهِ مَن يتّهمُ بالكذبِ ولا يكونُ حديثًا شاذًّا.
3 ـــــــ الضعيف: الذي لمْ تجتمِعْ فيهِ صفاتُ الصّحيح ولا صفاتُ الحَسَنِ، ولا يُحْتَجُّ به أبدًا.
4 ـــــــ الموثَقُ: أن يكونَ الراوي ثقةً، أي مأمونًا منَ الكذبِ ولو لمْ يكنْ مُسلِمًا.

الحَديث المَردُود:
1 ـــــــ المعلّق:ما سَقَطَ منهُ راوٍ فأكثرُ، كأن يقول: قالَ رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، كذا أو فعلَ كذا.
2 ـــــــ المعضل: ما سقطَ منهُ اثنانِ فأكثرُ في موضعٍ أو مواضعَ.
3 ـــــــ المنقطع: ما سقط من رواتِهِ راوٍ واحدٌ.
4 ـــــــ المعلّل: ما كانَ فيهِ علّةٌ، وهو الحديثُ الذي اطُّلِعَ فيهِ على علّة تَقْدَحُ في صحّتهِ.
5 ـــــــ المُنكَر: ما انفردَ بهِ الرّاوي غيرُ الثّقةِ.
6 ـــــــ الموضوع: المــُــخْتَلَقُ ـــــــ لا أصلَ له بتاتًا ـــــــ.
هذهِ طائفةٌ منْ أنواعِ الأحاديثِ المردودَةِ، وما هيَ بكلِّ الأنواع، بل هناكَ أنواعٌ كثيرةٌ اقتصرنا على ذِكر بعضها.
الفرق بين القرآن والحَدِيث القدسي:
إنّ القرآنَ ما كانَ لفظُهُ ومعناهُ منْ عندِ الله بوحيٍ جليّ. وأمّا الحديثُ القُدسيّ فهو المعنى المــُــلْهَمُ منَ الله في اليَقَظَةِ أو المنامِ، أمّا لفظُهُ فَمِنَ الرسولِ. والقرآنُ لفْظُهُ معجزٌ ومنزّلٌ بوساطةِ جبريلَ، سلامُ الله عليهِ، وأمّا الحديثُ القدسيّ فمن دونِ وساطةٍ، وغيرُ مُعْجزٍ.
ضعف سَندِ الحَديث لا يقتضي رَدّه:
فَمَنْ وجدَ حديثًا بإسنادٍ ضعيفٍ فعليهِ أنْ يقولَ إنّهُ ضعيفٌ بهذا السّنَدِ. ولا يحكمُ بضعفِ المتنِ مُطلقًا من غيرِ تقييدٍ. لذلك لا يقتضي ردّ الحديثِ، على أنّ هناكَ أحاديثَ لا تثبتُ من جهةِ الإسنادِ، ولكنْ لما تلقّتْها العامّةُ عنِ العامّةِ اغتَنوا بصِحّتِها عندهم عن طلب الإسنادِ. والأمثلةُ على ذلكَ كثيرةٌ كحديثِ «لا وصيةَ لوارثٍ» وحديثِ «الدّيةُ على العاقِلَةِ».
التاريخ:
ليسَ التاريخُ مصدرًا للنظامِ والفكرِ، بلْ يُؤخَذُ النظامُ من مصادرهِ الفكريّةِ لا مِنَ التاريخِ، فحينَ نريدُ أن نفهمَ النظامَ الشيوعيّ لا نأخذُهُ من تاريخِ روسيا، بلْ نأخُذُهُ من كتبِ المبدأ الشيوعيّ نفسه، وحينَ نريدُ أن نعرفَ الفقهَ الفرنسيّ لا نأخذُهُ من تاريخِ فرنسا، بلْ منْ مصادِر اللغةِ الفرنسيّة.
وهذا ينطبقُ على كلِّ نظامٍ أو قانونٍ.
وللتاريخ ثلاثةُ مصادرٍ:
أحدُها: الكتبُ التاريخيّةُ.
الثاني: الآثارُ.
الثالث: الرواية.
لمْ يكنْ للمسلمينَ باعٌ في التاريخِ، تاريخِهِم أو تاريخ الأممِ الأخرى وإن كانتْ طريقتُهُمْ في كتابةِ التاريخِ، هيَ الطريقة الصحيحة المــُــثلى، كروايةِ الخَبَرِ عَمّنْ شاهَدَهُ أو روايةِ الكتّابِ عَمّنْ روى الخبرَ عمّنْ شاهدهُ.
وفي تاريخِ الأمَمِ الأخرى اعتمدوا على رواياتٍ ضعيفةٍ حُشِيتْ بالأساطيرِ والقصَصِ، وفي تاريخِ الإسلامِ لمْ يُدَقِّقُوا في الرواية تدقيقَهُمْ في السّيرةِ والحديثِ، واقتصروا على أخبارِ الخلفاءِ والرواةِ، ولمْ يُعْنَوا بأخبارِ المـُجتَمَعِ وأحوالِ النّاسِ. لذلك لا يُعطي التاريخُ الإسلاميّ صورةً كاملةً عنِ المجتمعِ أو عنِ الدولةِ بل يمكِنُ أخذُ هذه الصورةِ من كُتُبِ السيرةِ بَعْدَ تحقيقها. ومن كُتُبِ الحديثِ التي رُوِيَتْ فيها أخبارُ الصّحابةِ والتابعينَ.
والحقّ أنّ التاريخَ الإسلاميّ يحتاجُ إلى إعادةِ نظرٍ في تحقيقِ ما وردَ منْ حوادثَ في كُتُبِهِ، عن طريق التّحقيقِ في أمْرِ الرُّواةِ والـمُستَنَداتِ، وفي الحوادثِ نفسِها ومحاكمتِها في ضوءِ الوقائعِ والرواياتِ.
ولا أهميّةَ لما حدثَ في غيرِ زمنِ الصّحابةِ. أمّا ما حصلَ من الصحابةِ فإنّهُ موضِعُ البحثِ، لأنّ إجماعَ الصحابةِ دليلٌ شرعيّ. ولأنّ هنالكَ أحكامًا كثيرةً تجدّدتْ بتجدّدِ الحياةِ، وعُولِجَتْ مشاكلُ مِنَ الصحابةِ أنفسِهِمْ. فلا بدّ مِنْ معرفَتِها من ناحيةٍ تشريعيّةٍ، فتاريخُ الصّحابةِ مادّةٌ من موادِّ التشريعِ.
إنّ كثيرًا من شؤونِ الجِهادِ، ومعاملةِ أهلِ الذمّةِ، والخراجِ والعُشرِ ومعرفةِ كونِ الأرضِ عُشريةً أمْ خِراجيّةً، أي أيّها أُخِذَ صُلحًا وأيّها عنْوَةً، والأمانِ والهدنَةِ، وأحكامِ الغنائمِ، والفيءِ وأرزاقِ الجُنْدِ، كلّها حوادث وأحكامٌ صارَتْ عمليّةً في الدولةِ، فلا بُدّ مِنْ معْرِفَتِها لاتخاذِ ما أجْمَعَ عليهِ الصّحابةُ، وعدّه دليلًا شرعيًّا يُحْتَجّ بهِ. ولا سيما ما أجمعَ عليهِ الخلفاءُ الراشدونَ من تسييرِ الحُكمِ والإدارةِ والسياسةِ. فإنّهم خيرُ مَنْ آتاهُ الله عقليّةَ حُكمٍ، وخيرُ مَنْ يفهم تطبيقَ الأحكامِ في الدولةِ على الرعيّةِ، مسلمينَ كانوا أو ذِمّيّينَ. لهذا فلا بُدّ من معرفةِ التاريخِ الإسلاميّ في عصرِ الصحابةِ.
وأما التاريخُ الصحيحُ لغيرِ الصحابة فإنه لا بأس به كأخبار ومعلومات ولكن ليس للاقتداء به، حتى ولا للاتّعاظِ بما جاء فيه.
نعم إن القرآن الكريم قصَّ علينا تاريخَ بعضِ الأنبياء وبعض الأُمم الأخرى، للعِظة بالنسبة إلى الإيمان وإلى طاعة الله وبيان عاقِبة مَن يعصيه، لا لنتخذَ أخبارهم وأعمالهم منهجًا للسير بحسبه. ومن الأخطاءِ الشائعة ما يزعمُهُ الكثيرون بأن للتاريخ أهمية كبرى في نهضة الأمم، ويقولون: إن معرفةَ الماضي تسلِّط ضوءًا على الحاضر وهذا لا ننكره لكنهم يسترسلون بقولهم بأن التاريخَ يفتحُ الطريق للمستقبلِ للوصول إلى النهضة.
هذا القولُ نعترضُ عليه ونعدّه وهمًا ودجلًا لأنه قياس للحاضر المحسوس على الغائب المجهول،وقياس للقطعي اليقيني الذي نشاهدهُ ونشعرُ به على الظني الذي أخبرنا عنه، وقد يكون صحيحًا، وقد يكون خطأ، وقد يكون صدقًا وقد يكون كذبًا.
والحقُّ يُقالُ إن التاريخَ لا يجوزُ أن يُتخذَ أساسًا لأيّ نهضة بل ولا لأيّ بحث في سُبُل النهضة . والنهضةُ لا تكون إلا بجعل الواقع الذي نعيشهُ ونحياه موضعَ البحث لأنه محسوس وملموس، فيدرس حتى يفهم، ثم يوضع له علاج، إما من الشريعة إن كان متعلقًا بالأحكام الشرعية. وإما من مقتضيات هذا الواقع من علاج إذا كان من الوسائل والأساليب شرط ألّا تخالف هذه الوسائلُ والأساليبُ الشرع الإسلامي. وإذا كان لا بدّ من دراسةِ أخبار الناس فلندرس أخبار المجتمعات الحاضرة كواقعٍ لمعالجته، ولتحديد موقفنا من هذه المجتمعات، ونحن في حالة كفاح دائمٍ في سبيل نشر الإسلام وحمل دعوته لتلك الأمم.
وليس من المفيد أن يُشغلَ المسلم بأخبار نابليون ولا بأخبار هارون الرشيد بل من المحتّم أن يُشغلَ المسلم بالشريعة الإسلامية أفكارًا وأحكامًا، وبالحياة العملية الواقعية من ناحية رفع شأن الإسلام والمسلمين واتخاذ جميع الإمكانيات لنشر الإسلام وحمل دعوته إلى العالم.
والآن وبعد إلقاء نظرة على تفسير النصوص وكيفيته، نعالج قضية الاجتهاد والتقليد.


المصادر
1 لقد طبقنا هذه الطريقة في كتابنا الأمثال في القرآن فلتراجعه.
2 التامكُ: المُرْتَفعُ من السّنام.
3 القَرَدُ: المتلبد بعضُه على بعض.
4 والسّفَنُ: المِبْرَد.
5 وتفصيل ذلك تجده في (كتاب حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي) للمؤلف.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢