نبذة عن حياة الكاتب
الثقافة والثقافة الإسلامية
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٧١١
تاريخ النشر : ١٩٩٣
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقدمة
المفاهيم والمعلومات
السّلوكُ
العقليّة والنفسِيّة
السِّيادَةُ للأمّةِ والأمّةُ مَصدرُ السُّلطاتِ
الشرِكة
التّشريح
صِلةُ الأرحام
تعريف الثقافة والفَرْقُ بينَها وبَيْنَ العِلم والمعرفة
الثقافة الإسلامية
طريق الإسلام في دَرس الثقافةِ الإسلامية
نظرة المسْلمينَ إلى الثقافاتِ الأجنبية
الفَرق بين التأثير والانتِفاع
التفسير
كيف يُفَسَّر القرآن الكريم؟
عِلم الحّدِيث
الحَدِيث
رِواية الحَدِيث وأقسامه
خبر الآحَاد
أقسام خبرَ الآحاد
الفرق بين القرآن والحَديث القدسي
ضعف سند الحديث لا يقتضي ردّه مطلقًا
التاريخ
الفِقه
نشوء الفِقهِ الإسلامي
أثر الخلافاتِ بَين المسلمين
هُبوط الفِقهِ الإسلامي
خرافة تأثير الفِقه الرّوماني في الفِقهِ الإسلامي
الإسْلام ثابت لا يتغيّر ولا يتطوّر بتغيّر الزمان والمكان
الأهداف العُليا لِصيانةِ المجتمع الإسْلاميّ
العقوباتُ في الإسْلام
العقوبَاتُ والبيّنات
العقيدة وخبر الآحاد
السَّبَب
الشرط
المانِع
الصّحَة والبُطلانُ وَالفساد
بعض الأحكام الشرعية
حُمِلَ الإسْلامُ بِثَلاثة بِكِتابِ اللهِ و سُنَّةِ رَسُولِه وَاللغَةِ العَرَبيَّة
ما لم يعمل به من مفهوم المخالفة
النهي عن التصرفات والعقود
التخصيص بالأدلة المنفصلة
أفعالُ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم
النصُّ والظَّاهِر
السنة
الإجْمَاع
القياس والعِلّة المنصوصة
القياس
العِلّة
شرعُ من قبْلَنَا هل هو شرعٌ لنا؟
القاعدة الكلية
الاصطلاح والتقديرُ والعُرف
الأصلُ في الأفعَالِ التقيُّد وفي الأشياء الإباحة
الخاتمة

القاعدة الكلية
هي الحكم الكلي المنطبق على جزئياته
بعد أن انتهى الكلام عن الأدلة الشرعية الثابتة بالحجة القطعية وعن الأدلة الموهومة، فإنه لا بدّ من التحدث عن الاستدلال بالقواعد الكلية لبيان أنها ليست أدلة شرعية وإنما هي أحكام شرعية استنبطت من الأدلة كأي حكم من الأحكام. فإنه من المشاهد أنه كثيرًا ما يستدل على الحكم بقاعدة كلية، أو بتعريف شرعي، أو بحكم شرعي، فيظن السامع أن القاعدة الكلية هي الدليل الشرعي على الحكم، أو يَظن أن التعريف الشرعي هو الدليل الشرعي على الحكم، أو يظن أن الحكم المستدَل به هو الدليل على الحكم، وربما يَتوهم أن هذه من الأدلة الشرعية مع أن الواقع ليس كذلك. فإن القواعد الكلية والتعاريف الشرعية والأحكام الشرعية كلها أحكام شرعية وإن اختلفت أسماؤها. والاستدلال على الحكم بقاعدة كلية أو بتعريف شرعي أو بحكم شرعي هو من قبيل التفريع على الحكم وليس من قبيل الاستدلال بالدليل. إلا أن هناك فرقًا بين الاستدلال على الحكم بالقاعدة الكلية والتعريف الشرعي وبين الاستدلال على الحكم بحكم شرعي. فالاستدلال على الحكم بقاعدة كلية أو تعريف يأخذ شكل الاستدلال بالدليل من حيث مطابقته للحكم ومطابقة الحكم للواقع الذي جاء له، فيعامل معاملة النص، وهو أيضًا فكرٌ يكون أساس المعالجة، وليس معالجة مباشرة. بخلاف الاستدلال على الحكم بحكم شرعي فإنه لا يأخذ شكل الاستدلال بالدليل بل كل التطبيق. فيلاحظ انطباق الحكم على هذا الواقع، وهل هو من الواقع الذي جاء له أم ليس منه، وهو «أي الحكم» ليس فكرًا يكون أساس المعالجة بل هو الحكم، أي هو نفسه معالجة مباشرة. وما عدا ذلك فإن القواعد الكلية والتعاريف الشرعية والأحكام الشرعية كلها شيء واحد مستنبط من دليل شرعي. فالقواعد الكلية والتعاريف الشرعية أحكام كلية، وأما الحكم الشرعي فهو حكم جزئي. ولذلك لا يعتبر أي منها دليلًا من الأدلة الشرعية بل هو حكم شرعي قد استنبط من دليل شرعي. ولكي تدرك الكلية والجزئية في الحكم الشرعي لا بدّ أن يُلفت النظر إلى أنَّ هذا الإطلاق من قبيل المجاز وليس من قبيل الحقيقة، فإنَّ الكلية والجزئية من دلالات المفرد لا من دلالة المركب فلا محل لها في دلالة التركيب، والحكم الشرعي جملة مركبة وليس اسمًا مفردًا سواء أكان حكمًا أو قاعدة أو تعريفًا، فقولك: لحمُ الميتة حرام، جملة مركَّبة. وقولك: الإجارةُ عقد على المنفعة بعوض، جملة مركَّبة. وقولك: الوسيلة إلى الحرام حرام، جملة مركَّبة أيضًا، فلا تدخلها الكلية والجزئية لأنها من دلالات الاسم أي من دلالات المفرد. غير أنه لما كان الكلي في الاسم هو ما يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون مثل الحيوان والإنسان والكاتب، وكان التعريف مما يصح أن يشترك فيه كثيرون إذ يصدق تعريف الإجارة على إجارة الأجير الخاص والأجير المشترك وإجارة الدار وإجارة السيارة وإجارة الأرض إلخ... فإنه أطلق عليها حكم كلي من قبيل المجاز، وكذلك القاعدة الكلية، ولما كان الجزئي في الاسم مما لا يصح أن يشترك فيه كثيرون مثل زيد علمًا على رجل وفاطمة علمًا على امرأة ومثل الضمائر كهو وهي، وكان الحكم الشرعي مما لا يصح أن يشترك فيه كثيرون مثل لحم الميتة حرام، وشرب الخمر حرام، وما شابه ذلك، فإنه لا يصدق إلا على الميتة وإلا على الخمر، فإنه أُطلق عليه حكم جزئي من قبيل المجاز، فهو من حيث دلالته على أفراد أو عدم دلالته يقال له كلي وجزئي مجازًا، ولكن من حيث واقعه هو حكم شرعي مستنبط من دليل شرعي. لا فرق بين القاعدة والتعريف والحكم.
والقاعدة الكلية هي الحكم الكلي المنطبق على جزئياته.
أما كونها حكمًا فلأنها مستنبطة من خطاب الشارع فهي مدلول خطاب الشارع. وأما كونه كلّيًا فلأنه ليس نسبة حكم إلى لفظ من ألفاظ العموم حتى يقال عنها إنها حكم عام كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} (سورة البقرة: الآية 275) ينطبق على جميع أنواع البيع فهو حكم عام، وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (سورة المائدة: الآية 3) ينطبق على كل ميتة فهو حكم عام، بل الحكم الكلي الذي يكون قاعدة كلية هو نسبة حكم إلى لفظ من الألفاظ الكلية ولذلك يقال عنه كلي، ولهذا يكون كل حكم داخل تحت مدلول هذا اللفظ جزئية من جزئيات هذا الحكم الكلي لا فردًا من أفراده.
أما في مثل قاعدة «الوسيلة إلى الحرام حرام» وقاعدة «ما لا يتم الواىجب إلَّا به فهو واجب» وما شاكل ذلك، ففي هذه القواعد لم يُنسب الحكم الشرعي «وهو الحرمة» إلى لفظ عام مثل البيع مباح، وإنما نسب إلى لفظ كلي وهو الوسيلة، ولم يُنسب الحكم الشرعي «وهو الواجب» إلى لفظ عام مثل الميتة حرام، وإنما نُسب إلى لفظ كلي وهو ما لا يتم الواجب إلّا به ولذلك كان كليًّا.
وأما التعريف فهو وصف واقع الحكم وهو يكون كلّيًا، ولهذا فإنه كالقاعدة الكلية، أي هو الحكم الكلي الدال على جزئياته، فمثلًا تعريف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وتعريف العقد بأنه ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محله، كلٌّ منهما حكم كلي. لأنه في تعريف الحكم الشرعي قد أخبر عن المعرَّف بلفظ كلي وهو كلمة خطاب الشارع فإنها يصح أن يشترك في مفهومها كثيرون، فهي تصدق على طلب الفعل، وعلى طلب الترك، وعلى التخيير، لذلك كان تعريفًا كليًّا. وفي تعريف العقد قد أخبر عن المعرف بلفظ كلي وهو كلمة: ارتباط إيجاب بقبول، فإنها يصح أن يشترك في مفهومها كثيرون فهي تصدق على البيع والزواج والإجارة والشركة، لذلك كان تعريفًا كليًّا.
غير أن القاعدة قد تكون عامة ولكنها غالبًا ما تكون كلية، وكذلك التعريف قد يأتي عامًّا ولكنه غالبًا ما يكون كليًّا، فإذا كان الحكم قد نُسب إلى لفظ كلي فتكون القاعدة كلية، ولكن إذا نُسب إلى لفظ عام فيكون عامًّا، وكذلك إذا أخبر عن المعرَّف بلفظ كلي فالتعريف يكون كليًّا وإذا أخبر عنه بلفظ عام فالتعريف يكون عامًّا. ويظهر أثر ذلك في التفريع، فالتعريف الكلي يجري التفريع عليه من جزئياته لا على أفراده، وكذلك القاعدة الكلية، والتعريف العام يجري التفريع عليه على أفراده لا على جزئياته، وكذلك القاعدة الكلية. وينبغي أن يلاحَظ الفرق بين القاعدة العامة والقاعدة الكلية، وبين الحكم الكلي والحكم العام.
فكلمة عام وعموم تعني أن تكون الألفاظ موضوعة لغة للدلالة بصيغتها أو بمعناها على أفراد كثيرة غير محصورة على سبيل الاستغراق مثل المؤمنين والقوم وما شاكل ذلك، وكلمة كلي يلاحَظ إلى جانب أنها مما يصح أن يشترك في مفهومها كثيرون نسبة الحكم إليها، فكلمة كلي هنا تدل على الحكم على المعنى الكلي. فقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (سورة الحجرات: الآية 10). قاعدة عامة وحكم عام وليس قاعدة كلية ولا حكمًا كليًّا لأنه حكم على المؤمنين بأنهم إخوة وهذا حكم على العام بوصف معيَّن وليس هو حكمًا على الكلي بوصف معيَّن، بخلاف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «جناية العجماء جبار» فإنه قاعدة كلية لأنه حكم على جناية العجماء بأنه لا يؤاخذ عليها، وكلمة جناية العجماء لفظ كلي، فالكلية إنما هي في اللفظ وليس في التركيب ولذلك لا يقال: هذا النص نص كلي لأن الكلية لا تدخل في التركيب فليس في النصوص نصوص كلية ولكن يقال: هذا الحكم كلي لأنه استنبط من نسبة الحكم إلى لفظ كلي.
والقواعد الكلية تستنبط من النص الشرعي كاستنباط أي حكم شرعي سواء بسواء، سواء أكان من دليل واحد أو من عدة أدلة، إلا أن الدليل فيها يتضمن معنى بمثابة العلة، أو يتضمن علة.
وهذا هو الذي يجعله منطبقًا على جميع جزئياته، فمثلًا قاعدة: «الوسيلة إلى الحرام حرام» وقاعدة: «ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب» وقاعدة: «كل ما كان من مرافق الجماعة كان ملكية عامة» كل منها قاعدة كلية. فإذا نظر في أدلتها يتبيَّن أن الحكم يدل دليله عليه ويدل على شيء آخر مرتبًا عليه أو ناتجًا عنه. فيظهر حينئذ أنه بمثابلة العلة. فمثلًا قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (سورة الأنعام: الآية 108) فالفاء من يَسبوا أفادت أن سبَّهم لله سببه أنكم سَبَبْتُموهُم، فأفادت هذه جعل ما يسبب مسبة الله ـــــــ وهي حرام ـــــــ حرامًا، فكأنها كانت علة.
فالنهي عن مسبة الذين كفروا هو دليل الحكم وقد دل إلى جانب دلالته على الحكم على شيء آخر مترتِّبًا عليه حين قال: {فَيَسُبُّواْ اللّهَ}. فاستنبطت من هذه الآية قاعدة: «الوسيلة إلى الحرام حرام» ومثلًا قوله تعالى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (سورة المائدة: الآية 6) {أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (سورة البقرة: الآية 187). في قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} وفي قوله: {إِلَى الَّليْلِ} أفادت إلى الغائيَّة أي أنه ما لم يُغسل جزء من المرفق لا يتم غسل اليد إلى المرفق، فلا بدَّ أن يتحقق حصول الغاية وأن تدخل الغاية في المغَيَّا، وأنه ما لم يدخل جزء من الليل ولو دقيقة لا يتحقق إتمام الصيام.
فصار غسل جزء مهما قلَّ من المرفق، وصيام جزء مهما قلَّ من الليل واجبًا بدلالة الآيتين لأنه لا يتم ما أوجبه ـــــــ وهو غسل اليدين وصيام النهار ـــــــ إلا بالقيام به. فأفادت هذه الغاية جعل ما يكمل غسل اليدين، وصيام النهار، وهو واجب، واجبًا، فكأنها كانت علة. فالآية دلت على الحكم ودلت على شيء آخر مكملٍ له حين قالت: {إلى اللَّيْلِ} فاستنبطت من هاتَين الآيتين قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» ومثلًا يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار» . وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقر أهل الطائف وأهل المدينة على ملكية الماء ملكية فردية، وفهم من حال المياه التي سمح بها ملكية فردية أنها لم تكن للجماعة حاجة فيها، فكانت علة كون الناس شركاء في الثلاثة كونها من مرافق الجماعة، فالدليل دل على الحكم ودل على العلة. أي دل على الحكم ودل على شيء آخر كان سبب تشريع الحكم فاستنبطت منه قاعدة «كل ما كان من مرافق الجماعة كان ملكية عامة». وهكذا جميع القواعد الكلية. ومن ذلك يتبيَّن أن القاعدة الكلية تجعل الحكم بمثابة علة لحكم كلي لكونه سببًا له أي لكونه ناتجًا عنه أو مترتبًا عليه، أو تجعله علة حقيقية لحكم كلي، فهي حكم كلي ينطبق على جزئياته. ولذلك تطبق على كل حكم تنطبق عليه كما يطبق الدليل على الحكم الذي جاء به، ولا يقاس عليها قياسًا، بل تندرج جزئياته تحتها أي تكون داخلة تحت مفهومها أو منطوقها تمامًا كما تدخل تحت دلالة الدليل، ويكون الاستدلال بها كالاستدلال بالدليل, فالقاعدة الكلية هي حكم شرعي استنبط كسائر الأحكام الشرعية فلا تكون دليلًا ولهذا فإن ما تنطبق عليه يعتبر تفريعًا عليها أو بمثابة التفريع. ومثل القاعدة الكلية التعريف الكلي فكل ما انطبق عليه يأخذ حكمه إلّا أن يرد نص شرعي فيؤخذ بالنص. وأما القاعدة العامة مثل «الصلح جائز بين المسلمين إلَّا صُلحًا أحل حرامًا وحرَّمَ حلالًا» ومثل
«لا ضَرَرَ ولا ضِرَار» فإنها تطبق على أفرادها فقط فتشملهم كما يشمل العام جميع أفراده إلا أن يرد نص شرعي فيؤخذ بالنص وتلغى القاعدة، ومثل ذلك التعريف العام.
وعلى أي حال فإنها إن كانت هي نفسها نصًّا شَرعيًّا مثل هاتَين القاعدتَين فتعتبر دليلًا شرعيًّا لأنها نص، وإن لم تكن نصًّا فلا تعتبر دليلًا وإنما تعتبر حكمًا شرعيًّا ويفرَّع عليها. ومثل القاعدة العامة التعريف العام.
والقواعد المعتبرة إنما هي القواعد المستنبطة من دليل شرعي استنباطًا شرعيًّا. أما القواعد التي لم تستنبط من دليل شرعي، أو استُنبطت استنباطًا غير شرعي فلا تعتبر ولا قيمة لها. ولهذا فإنه ليس من القواعد الشرعية قولهم: «العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني» وذلك لأن هذا الكلام لم يُستنبط من دليل شرعي، وإنما أخذ من القانون المدني الفرنسي القديم، إذ معنى هذه القاعدة أن يكون للنية اعتبار في العقود، أو يكون لواقع الحال اعتبار في العقود، وهذا ما يقولون عنه روح النص، فتجدهم يقولون نصًّا وروحًا ويريدون بالنص الكلام المكتوب وما يدل عليه منطوقًا ومفهومًا، ويريدون بروح النص ما تدل عليه الأحوال والظروف المحيطة بالموضوع ولو لم يدل عليها الكلام.
وهذا ما يسميه فقهاء الغرب بالنزعة النفسية وهي مقابل النزعة المادية التي هي التقيد بدلالة النص منطوقًا ومفهومًا وعدم اعتبار الظروف والأحوال. فهذه القاعدة (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني) تكاد تكون مترجمة حرفيًّا عن القانون المدني الفرنسي القديم ولذلك لا تُعتبر هي وأمثالها من الشرع ولا من القواعد الشرعية، لأنها ليست أحكامًا شرعية فضلًا عن كونها ليست أحكامًا كلية، وهي ليست مأخوذة من دليل شرعي فضلًا عن كونها مأخوذة من فقه يخالف الشرع الإسلامي.
وأما حين يحاولون الاستدلال عليها من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» فإنه لا علاقة له بها. لأنه يقول: «إنما الأعمال» ولم يقل إنما العقود وإنما التصرفات. والشرع جعل اعتبار العقود بصيغها لا بنيَّة العاقدين أو ظروف العقد، والتصرفات بشروطها الشرعية لا بنيَّة المتصرف وأحواله، والمراد بالأعمال غير المراد بالأقوال ولذلك يقال عقود أي أقوال ويقال تصرفات قولية.
والحِجْر إنما يقع على التصرفات القولية والعقود ولا يقع على الأعمال مطلقًا، فهناك بون شاسع بين الأعمال وبين العقود والتصرفات.
فالصلاة والحج والزكاة أعمال تعتبر فيها النيَّة، والبيع والوقف والوصية عقود وتصرفات لا قيمة للنيَّة فيها.
ومن ذلك يتبيَّن مناقضة هذه القاعدة للإسلام وبُعدها عن أحكام الشرع. وهكذا سائر القواعد التي لم تُستنبط من الشرع.
وقد جعل بعض الفقهاء قواعد بمثابة الأدلة الشرعية، منها ما هو مستنبط من الشرع، ومنها ما هو غير مستنبط من الشرع، فما استُنبط من الشرع مثل قاعدة الاستصحاب، وقاعدة الضرر، يعتبر من القواعد الشرعية، لأن لها أدلة شرعية، وأما ما لم يُستنبط من الشرع مثل قاعدة العُرف وقاعدة مآلات الأفعال فإنه لا يعتبر من القواعد الشرعية لأنه ليس لها أدلة شرعية، على أن بعض المجتهدين يجعل العُرف ليس قاعدة شرعية فحسب بل يجعله أصلًا من أصول التشريع ودليلًا من الأدلة الشرعية مع أن الحقيقة أنه ليس أصلًا من الأصول حتى ولا قاعدة من القواعد الشرعية.

قاعدة الاستصحاب
المراد بالاستصحاب استصحاب الحال، وقد عرفه علماء الأصول بأنه عبارة عن الحكم بثبوت أمر في الزمان التالي بناء على ثبوته في الزمان السابق، فكل أمر ثبت وجوده ثم طرأ الشك في عدمه فالأصل بقاؤه، والأمر الذي عُلم ثم طرأ الشك على وجوده فالأصل استمرارُه في حال العدم، فكأن ثبوته فيما مضى بمثابة العلة في ثبوته في الزمن الحاضر.
فمن تزوج فتاة على أنها بكر ثم ادعى بعد البناء بها أنه وجدها ثيِّباً لا يصدَّق إلَّا ببيِّنة، لأن الأصل وجود البكارة لأنها ثابتة في حين نشأتها، فوجودها بكرًا يُستصحب ويحكم بأنها بكر في الزمن الحاضر، ومن اشترى كلبًا على أنه معلَّم يحسن الصيد ثم ادعى أنه وجده غير متعلم وظهر ذلك جليًّا لأهل الخبرة صُدِّق، لأن الأصل عدم تعلم الكلب للصيد حين نشأته، ولذلك يبقى العدم مستصحبًا وهكذا في جميع الأمور يستصحب الأصل حتى يقوم الدليل على خلافه.
والاستصحاب ليس دليلًا شرعيًّا وإلَّا لاحتاج إثباته إلى حجة قطعية وهو لم تقم عليه حجة قطعية وإنما هو قاعدة شرعية أي حكم شرعي فيكفي فيه الدليل الظني. والدليل على أن الاستصحاب قاعدة شرعية ثلاثة أمور:
أحدها: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «نحن نحكم بالظاهر» فإنه وإن كان على صيغة الخبر لكن المراد الأمر، فكأنه قال: احكُموا بالظاهر، والأمر الظاهر هو ما ثبت للشيء من حكم في الزمن الماضي، سواء أكان الوجود أم العدم، وسواء أكان الحِلّ أم الحرمة. فإن هذا هو الظاهر منه وهذا مما لا خلاف عليه، فالحكم يجب أن يكون بهذا الظاهر، وإذا ادُّعي خلاف الظهر لا بدّ من دليل يدل على هذا الادعاء وإلّا يبقى ما عليه الشيء في الزمن الماضي هو محل الحكم عملًا بالحديث الشريف.
ثانيها: أن الإجماع منعقد على أن الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداءً لا تجوز له الصلاة، ولو شك في بقائها «أي أنها كانت فعلًا قبل شكِّه» جازت له. وهذاهو عين الاستصحاب، إذ قد استصحب حال الطهارة الثابت إيجادها قطعًا، فقطعت هذه الحال الشك بإزالتها، وهذا يعني استصحاب الحال، فاستنبط من ذلك، أن ما كان ثابتًا قطعًا لأمر يحكم بثبوته له حتى يقوم الدليل على خلافه، لأن الحكم الذي جرى الإجماع عليه يدل على ذلك.
ثالثها: أن ما ثبت في الزمان الأول من وجود أمر أو عدمه ولم يظهر زواله لا قطعًا ولا ظنًّا، فإنه يلزم بالضرورة أن يحصل الظن ببقائه كما كان. والعمل بالظن واجب، فما تحقق وجوده أو عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه، وغلَبةُ الظن حجة متبعة في الشرعيات، إذ الأحكام الشرعية مبنية على غلَبة الظن، وهذه القاعدة حكم شرعي فيكفي فيها غلَبة الظن.
فهذه الأمور الثلاثة دليل على أن قاعدة الاستصحاب قاعدة شرعية يَعمل بها، أي يجوز أن يجري التفريع عليها كأية قاعدة شرعية وكأي حكم شرعي. وعليه فإن ما ثبت ولم يظهر زواله ظُن بقاؤه فيعطى الحكم نفسه لأنه هو الظاهر. على أنه لولا ما ثبت في الزمان الأول على الوجه المذكور يكون مظنون البقاء في الزمان الثاني لكان يلزم منه أن لا تثبت الأحكام الثابتة في عهد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إلينا، لجواز النسخ، فإنه إذا لم يحصل الظن من الاستصحاب يكون بقاؤها مساويًا لجواز نسخها، وحينئذ فلا يمكن الجزم بثبوتها ثم يلزم الترجيح من غير مرجح. فثبوت الأحكام الثابتة في عهد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وعدم نسخها إنما حصل بالاستصحاب ولذلك كان الأصل عدم النسخ، وادِّعاء النسخ لا بدّ من دليل يدل عليه. وأيضًا فإنه لولا ما ثبت في الزمان الأول على الوجه المذكور يكون مظنون البقاء في الزمان الثاني لكان يلزم منه أن يكون الشك في الطلاق كالشك في النكاح، لتساويهما في عدم حصول الظن بما مضى، وحينئذ يلزم أن يباح الوطء فيهما أو يحرم فيهما، وهو باطل اتفاقًا، بل يباح للشاك في الطلاق دون الشاك في النكاح. لأن الأصل عدم النكاح فيُستصحب هذا الأصل ويُحكم بعدم النكاح فلا يحل الوطء حتى يوجد دليل على النكاح. والأصل في المرأة المنكوحة هو وجود النكاح فيُستصحب هذا الأصل ويحكم بثبوت النكاح وعدم الطلاق، فيحل له الوطء ولو شك بالطلاق حتى يقوم الدليل على حدوث الطلاق، فهذا كله يدل على أن استصحاب الحال هو ما جاء به الشرع في الأحكام الشرعية كلها وفي الأدلة الشرعية، ولذلك كان قاعدة شرعية. ففي جميع الأمور يُستصحب الأصل حتى يقوم الدليل على خلافه. فإذا قام الدليل على حُكمٍ «من وجوب أو ندب أو إباحة أو حرمة أو كراهة» فإن هذا الحكم يظل ثابتًا. فإذا ادعي له حكم آخر غير الذي قام الدليل عليه فلا بدّ من دليل يدل على ذلك. وإن لم يوجد دليل يظل حكم الأصل كما هو حسب ما جاء الدليل عليه. وإذا ثبت حكم الأمر فإن هذا الحكم يظل ثابتًا له. فإذا ادعي له حكم آخر غير الذي ثبت له فلا بدّ من دليل يدل على ذلك، وإن لم يوجد دليل يظل الحكم الثابت كما هو.
والاستصحاب لازم للفقيه والمجتهد، وبه يظهر كثير من الأحكام. قال القرطبي: «القول بالاستصحاب لازم لكل أحد، لأنه أصل تنبني عليه النبوة والشريعة، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة، لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور، واستمرار حال أدلة النبوة والشريعة من الاستصحاب الذي لا يختلف العقلاء في صحته، ولا يتطرق إليه الريب في الحال».

لا ضرر ولا ضرار
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
وهو حديث حسن رواه ابن ماجة عن أبي سعيد سعد بن سنان الخدري. كما ورد هذا الحديث أيضًا في الجامع الصغير (رقم 9899). وأخذت به مجلة الأحكام العدلية في المادة (19) واعتبرته من القواعد العامة التي تبحث في العقود والأعمال غير المباحة. كما روى هذا الحديث: الدارقطني، ومالك في (الموطأ) مرسلًا عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
والضُّرُ معناه: سوء الحال إما في النفس لقلة علم الإنسان، أو فضله، وإما في البدن عندما تتعطل جارحة من جوارحه أو ينقص عضو من أعضائه كما في حالة الشلل التي تصيب اليد أو الرجل، أو في حالة قطعها، أو في حالة انطفاء العين أو ضعفها...
والضُرُّ أيضًا هو كل سوء يصيب الإنسان ويبدو في حالته الظاهرة من قلة المال أو الجاه، أو أي حالٍ من الأحوال السيئة التي يعاني منها في حياته.
والضراء يقابلها السراء والنعماء، أي أن كل ضُرّ يضاده دائمًا نفع. ولفظة «الضُّر» وردت في عدد من آيات القرآن الكريم للتدليل على حالات سوء عديدة مادية أو معنوية. ومن قبيل ذلك ما أصاب النبيَّ أيوب عليه السلام في بدنه وفي عياله من بلاءٍ عظيم، إلَّا أن الله تعالى رفع عنه كلَّ ضُرٍّ مسّه جزاء قوة إيمانه بربه، وجميل صبره على البلاء. قال عز وجل: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} (سورة الأنبياء: الآية 84).
والإنسان غالبًا ما يمسُّهُ الضُّرُّ، لكثرة ما تعترضه من صعوبات، أو تحلّ به من نكبات، أو يعاني من شقاء، وهو في تلك الحالات يتطلع إلى الله تعالى، ويتوسل إليه كشف الضر عنه، فيصفُهُ رب العالمين بقوله العزيز: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} (سورة يونس: الآية 12). طبعًا هذا حال الإنسان الجاحد، الناكر لنعمة ربه، ورحمته به، فهو في الشدة والمأزق، في المرض والفقر، في العذاب والقهر، يدعو ربَّه ويتضرَّع إليه، ليلَهُ ونهاره، أن يكشف عنه الضُّرَّ، حتى إذا رحمَهُ ربُّهُ، وكشف عنه ما به من ضُر، مرَّ وكأنه لم يدعُ ربَّهُ، ولم يتضرع إليه، أو يرجوه بشيء...
والضرر عندما يأتي من الغير، يقال: ضرَّه ضُرًّا، أي جلب إليه الضُّرَّ، كما في قوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} (سورة آل عمران: الآية 111) والمقصود به اليهود الذين كانوا يضايقون المسلمين، بالنفاق، والدسّ، والخداع، فيُطَمْئن اللهُ تعالى الملمين، ويهوّن عليهم ما ينالهم من أذى اليهود ووعيدهم، وتهديدهم، وما كانوا يقذفونهم به من سباب وشتائم، لتبقى آثار ذلك محصورة في نطاق الأذى الخفيف.
وفيما يتَّصل بالأوضاع التي كان يمرُّ بها المسلمون، والحالات التي تقابلها عند أعدائهم، يقول الله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (سورة آل عمران: الآية 120). هكذا كان أعداء الإسلام والمسلمين، تسوؤهم كل حسنة تصيب المسلمين، ويفرحون لكل سيئة تحل بهم، فيكيدون لهم، في كل حال، ولكن ما همّهم من كيدهم واللهُ تعالى يكلأهم برعايته ويوسِّع عليهم برحمته؟.
وأما قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة المائدة: الآية 3)... فإنه تسهيل من الله تعالى للإنسان عندما تدعوه الضرورة، أو الحاجة الشديدة، بسبب الجوع إلى أكل ما حرَّم الله تعالى، فإنْ أكَلَ مثلًا الميتة، أو لحم الخنزير، أو ما أهلَّ به لغير الله تعالى، فلا إثم عليه في تلك الحالة، ما دام مكرهًا، شريطة ألَّا يتعمَّد ذلك عمدًا، ولا أن يكون مختارًا، أو مستحلًّا لحرام، وشرط أن يكون ذلك في حالة الجوع الشديد، الذي فيه تهديد لحياة الإنسان، عند ذلك فقط، وعندما لا يجد شيئًا آخر ليدفع عنه ضرر الجوع القاتل، أباحَ تعالى للإنسان أن يأكل محرَّمًا. وقد قال بعض الفقهاء: ما عليه إلَّا أن يتناولَ منه ما يسدّ به رمقه. وقال بعض آخر: بل له أن يزيد عليه بعض الشيء. في حين ذهب آخرون منهم إلى جواز أن يشبع منه، عند الضرورة.
وحالة الاضطرار، هي عند الأصوليين، التي يلتجئ فيها المرء إلى حفظ دينه، أو نفسه، أو ماله، أو عقله أو نسله من الهلاك. وهي التي يجب أن تأتي عن حاجة لازمة لإصلاح المعيشة أو الحياة أو لصونها من الخطر.
وقد استنبط الفقهاء من الآية الكريمة {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قاعدة عامة، صارت من القواعد الكلية، كما وردت في الأشباه والنظائر. وهي القاعدة التي أخذت بها مجلة الأحكام العدلية في المادة (3) منها، التي تقول: «الضرورات تبيح المحظورات». ومن أحكام هذه القاعدة التيسير للعسر و«عموم البلوى». ومثاله إذا تحقق عسر المديون عن أداء دينه جاز تقسيط الدفع عليه عملًا بالآية الكريمة {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (سورة البقرة: الآية 280)، وقد أبان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضل من يُمهل المعسر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أنظر مُعْسِرًا فله بكل يوم مثله صدقة». وفي رواية: «مثلاه صدقة».
وهكذا فإن الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار» جعل قاعدة فقهية معتمدة في المعاملات والعبادات جملة وتفصيلًا. وهي تعني أنه لا يجوز للإنسان أن يَضُرّ نفسه ولا غيره. وجرى التشديد في هذه القاعدة على عدم الإضرار بالغير ابتداءً ولا جزاءً، أي ألَّا يبتدئه بالضرر ولا يجازيه عليه، بل على المتضرر حمل الدعوى إلى الإمام (الحاكم) ليحكم بينهما في الأمر. إذن فالقاعدة أنه لا يجوز لأحد أن يبادر غيره بالضرر، ولا أن يقابله به. ومثاله لا يجوز لأحد أن يهدم حائط غيره وأن هدمه فلا يجوز لجاره أن يقابله بهدم حائطه، بل عليه أن يرفع الأمر إلى الحاكم فيضمنه قيمة الحائط الذي هدمه عن قصد وتعمّد. وكذلك الضرر الذي يحدثه الحيوان من تلقاء نفسه وبغير إرادة صاحبه لا يضمنه صاحبه. لأن القاعدة تقول: جناية العجماء جبار، أي أن الضرر الذي يُحْدِثه الحيوان بنفسه لا يضمنه صاحبه. فلو ربط أحدٌ دابته في فناء داره فركلت إنسانًا فقتلته فلا ضمان على صاحبها. والتقييد فيه أنه لو وجد أو رأى دابته وهي تتلف شيئًا لغيره، ولم يمنعها، ضمن قيمة ما أتلفته. وكذلك إذا كان لأحد حيوان تُخشى مضرته كالكلب العقور، والثور النطّاح، والجمل الصؤول (الجامح)، وشهد عليه بعضٌ من أهل المحلة أو القربة، بأنه لم يمنعه، ضمن صاحبه كلَّ ما يتلفه ذلك الحيوان أو يُحدثه من الأذى للناس بعد ذلك.
ومنه أيضًا: لو انفلت ثور أحدهم وأكل حنطة غيره فلا ضمان عليه. وكذلك لو رفس الفرس البيطار وهو يسمّر حافره فلا ضمان على صاحبه. أو إذا عض الفرس الطبيب البيطريّ وهو يعالجه، فلا ضمان على صاحبه. أو إذا تأذَّى مصلح السيارات وهو يصلِّح سيارة أحدهم في محله بأجرٍ فلا ضمان على صاحبها.
ومن متفرعات القاعدةُ الأصلية القاعدة التي تقول: «الضرر يزال». وهذه أمثلة عليها بالأشياء أو الحيوان:
1 ـــــــ من استأجر سيارة أو دابة أو غيرهما من وسائل النقل إلى محل معين، فليس له تجاوز ذلك المحل بدون إذن صاحبها. فإذا تجاوزه فالسيارة أو الدابة في ضمان المستأجر إلى أن يسلمها إلى صاحبها خالية من الضرر، أي من العيوب أو الأعطال. ولكن إذا تعطلت السيارة، أو أتلفت الدابة شيئًا، سواء في ذهاب المؤجر أو إيابه، فإنه يضمن العطل أو التلف. وكذلك ليس للمستأجر استعمال السيارة أو الدابة زيادة عن مدة التأجير، فإن زادت يضمن المؤجر خلالها حقَّه في المدّة الإضافية.
2 ـــــــ من استأجر سيارة أو دابة على أن يركبها غيره فإن شاء ركبها بنفسه أو أركبها غيره. ولكن في الحالة الثانية يجب أن يكون هذا الغير معروفًا فلا يصح إركاب آخر معه.
من أجل ذلك لو ركبها المستأجر أو غيره الذي بات معروفًا، فليس له أن يحمل معه أو يردف غيره. فإن فعل، وتعطلت السيارة أو عطبت الدابة بعد بلوغ المكان المقصود، يُنظر في الأمر على النحو التالي: إذا كانت تطيق حمل الاثنين ضمن نصف قيمتها وذلك بشهادة عدلين خبيرين من أهل الصناعة أو التجارة، اللذين يقوّمان السيارة أو الدابة بمثلها ثمنًا وعلى المستأجر أن يدفع نصف القيمة بعد إثبات الضرر.
3 ـــــــ ليس للمستأجر تعطيل السيارة، أو ضرب دابة الكراء، من دون إذن صاحبها. ولو ضربها وعطبت أو هلكت بسببه فالضمان عليه.
4 ـــــــ لا يُلزم المستأجر بردّ المأجور وإعادته، بل على المؤجر أن يأخذه عند انقضاء الإجارة. مثلًا: لو انقضت إجارة دار لزم صاحبها الذهاب إليها وتسلمها. وكذلك لو استأجر شخص سيارة إلى مكان معين، واتفق على تسليمها فيه، وجب على صاحبها تسلمها في هذا المكان، فإن لم يتسلمها وتضررت بدون تعدٍّ أو عمل مقصودٍ من المستأجر فليس عليه أي ضمان. ولكن إذا استأجر سيارة أو دابة للذهاب إلى محل معين، ثم عاد منه وأمسكها في داره فهلكت، ضمن قيمتها سواء طلبها المؤجر أو لم يطلبها. وإن أخذها لردها إلى صاحبها، وهلكت في الطريق كأن الضمان أيضًا عليه.
5 ـــــــ من أتلف مال غيره، عن قصد أو عن غير قصد كان الضمان عليه.
6 ـــــــ من قام بعمل خلافًا للمجرى الطبيعيّ للأمور، أو خلافًا للمعتاد، يعتبر عمله تعديًا، ويقع عليه ضمان الضرر والخسارة اللذين يتولدان عنه. ومثاله لو استأجر شخص ألبسة واستعملها خلافًا لما اعتاد الناس عليه في لبسها، وبليت بسبب ذلك، فإنه يضمن قيمتها. وكذلك لو استأجر دارًا وتضررت بفعل حريق يعود سببه إلى إشعال المؤجر النار أكثر من المعتاد، أو زيادة عما هو مألوف عند الناس يضمن ما يقابل الضرر. أما إذا كان اشتعال النار بفعل قوة قاهرة وفقًا لما اعتاد عليه الناس، فلا ضمان على المستأجر، حتى لو احترقت الدار أو بيوت الجيران.
ومن قبيل ذلك أيضًا أنه لو بنى موقدًا في الدار المؤجرة، أو وضع فيها موقدًا، واحترقت الدار فهو لا يضمن حريق الدار، ولا حريق دور الجيران إذا لم يكن التنور أو الموقد سببًا للحريق، سواء بنى التنور أو وضع الموقد والمدفأة بإذن المؤجر أو من غير إذنه، طالما أن انتفاعه كان على وجه عادي. هذا إذا قام بالاحتياطات اللازمة، وما لم يكن وقوده لنار لا يوقد مثلها في التنور أو الموقد أو المدفأة.
7 ـــــــ لو أُتلف المأجور بسبب تقصير المستأجر في أمر المحافظة عليه، أو طرأ على قيمته نقصان بفعل استعماله له، فإنه يلزم بالضمان؛ كما لو استأجر مثلًا دابة ولم يعقلها، أي يربطها، فهربت وضاعت فإنه يلزم بثمنها.
8 ـــــــ يبقى المأجور كالوديعة أمانةً في يد المستأجر، بعد أو أثناء مدة الإجارة، بدون تعدٍّ منه، ولا تقصير في المحافظة عليه. ويخرج عن هذا لو استعمل المأجور بعد انقضاء مدة الإجارة وتلف، فإن المستأجر يضمن. مثاله: لو طلب المؤجر ماله عند انقضاء الإجارة من المستأجر، ولم يسلمه له، ثم تلف هذا المال، بعد إمساكه، فإن المستأجر يضمن. ويوصف بالتعدي أو التقصير من قبل المستأجر، لأنه عمل عملًا أو تصرف تصرفًا في المأجور خلافًا لأمر المؤجر صراحةً أو دلالة.
9 ـــــــ المستأجر بالشراكة يضمن الضرر والخسارة اللذين يتولدان عن فعله، سواء كان بفعل التعدي أو التقصير والإهمال، أو لم يكن احترز لحصول ضرر أو خسارة.
10 ـــــــ إذا انزلق أحدهم فسقط، وأسقط معه مال غيره، يضمن ما أصاب المال من أضرار. وكذلك لو أتلف مال غيره، وفي ظنه أنه ماله فإنه يضمن أيضًا. والصبيّ الذي يتلف مال غيره يلزم بالضمان من ماله ولو كان غير مميز، لأنه وإن كان لا يؤخذ بأقواله في الأصل، لعدم التمييز، إلا أنه لا يعفى من ضمان الضرر الناشئ عن فعله.
11 ـــــــ يدفع الضرر الفاحش بأي وجه كان.
12 ـــــــ منع المنافع التي ليست من الحاجات الأصلية، أو الحاجات الضرورية، كسدّ الهواء، والنظارة، أو منع دخول الشمس ليس بضرر فاحش، ولكن سدَّ الضياء بالكلية يعتبر ضررًا فاحشًا. ورؤية المحل الذي هو مقرّ النساء، كصحن الدار أو المطبخ يعدُّ ضررًا فاحشًا: فإذا أحدث رجل في داره نافذةً، أو أقام بناء جديدًا وجعل فيه نافذة مطلة على مقر نساء جاره، سواء كانت دار جاره ملاصقةً لداره أو بينهما طريق فاصل، فإنه يؤمر برفع الضرر ويجبر على رفعه بصورة تمنع وقوع النظر، وذلك بإقامة حائط أو وضع حاجز، من غير أن يجبر على سدِّ النافذة بالكلية. فإن أقام ساترًا من الأغصان وكان مقر النساء يُرى من بينها، فإنه يؤمر بسدِّ الفراغ فيما بين الأغصان، من غير أن يجبر على رفع الساتر وإقامة حائط عوضًا عنه مثلًا، أو تركيب ساتر من الخشب أو غيره.
وإذا كانت الدار شراكة بين اثنين أو أكثر، وكان مقر نساء الجار يُرى من ناحية أحد الشركاء فقط دون الباقين، فإن وضع الحاجز أو الساتر يكون ملزمًا لهم جميعًا.
13 ـــــــ لو كان لأحدهم بئر ماء حلوة، وأراد جاره أن يبني بقربها كنيفًا ، أو أجرى ساقيةً مالحةً مما يؤدي إلى إفساد ماء البئر، فإن ضررهُ يُرفع. فإن كان هذا الضرر مما لا يقبل الرفع على أي وجه، فإن الكنيف يُهدم أو الساقية تُسَدّ أو السياق يُسدّ.
14 ـــــــ ترفع الأشياء التي تضرُّ المارين ضررًا فاحشًا، ولو كانت قديمة، كالشرفة المنخفضة كثيرًا على الطريق العام التي من شأنها أن تسيء إلى الطريق العام، أو تؤدي ضررًا يلحق المارة من آليات أو وسائل نقل.


المصادر
216 ابن ماجة رقم 2673 الجزء الثاني.
217 كنز العمال رقم 9637 الجزء الرابع.
218 ابن ماجة رقم 2342 الجزء الثاني.
219 البخاري صفحة 31 الجزء الأول عن علقمة عن عمر.
220 الكنيف: الساتر.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢