نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الأول
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ١٥٦٨
تاريخ النشر : ٢٠٠٦

حياة الرسول الكريم قبل البعثَة - البحث الأول: الواقعُ الجغرافي والاقتصادي ومُعتقدات العرب قبْل الإسلام
الواقع الجغرافي والاقتصادي
أرضُ العرب قبلَ الإِسلام بلادٌ واسعة تكادُ تبلغ مساحتُها مساحةَ رُبع القارَّة الأوروبية كلِّها، وهي تقع في الجنوب الغربي من قارَّة آسيا، وقد أطلق عليها جغرافيُّو العرب اسمَ جزيرة العرب، فجاء في معجم البلدان لياقوت الحمويّ: تسمَّى جزيرة العرب لأنَّ اللسانَ العربيَّ فيها شائع. على أن أكثر المؤرخين سمّوها شبه جزيرة العرب لأن البحار تحيط بها من ثلاث جهات: البحر الأحمر من الغرب، والمحيط الهندي من الجنوب، والخليج العربيّ من الشرق، في حين تؤلِّف اليابسة ناحيتها الشمالية، وهي الباديةُ الممتدة ما بين وادي الرافدَين والأراضي السورية.
هذه البلاد، ذات الرقعة الجغرافية الشاسعة، قسمها المسلمون إلى خمس مناطق رئيسية: الحجاز ويمتد من أيلة (العقبة) إلى اليمن، تهامة (الأرض المنخفضة على طول شاطىء البحر الأحمر)، اليمن، العروض (وهي تتصل بالبحرين شرقاً وبالحجاز غرباً وسميت بالعروض لاعتراضها بين اليمن ونجد، وتسمى أيضاً باليمامة)، وأخيراً نجد (وهو الجزء المرتفعُ الذي يمتدُّ من جبال الحجاز ويسير شرقاً إلى صحراء البحرين، وهو مرتفع فسيح فيه صحارى وجبال). وقد تغلبت الصحراوية على أرضها، وسادَ الجفافُ جوَّها لإِحاطتها بالسلاسل الجبلية التي تحول دون إشباع أجوائها برطوبة البحار المحيطة بها، إلاَّ في بعض المناطق الجبلية، التي عرفت مناخاً معتدلاً، كما في صنعاء من اليمن.
وقد نَتَج من هذا الجفافِ قلَّةُ الأمطار، وعدمُ وجود الأنهار وينابيع المياه. بَيد أنَّ هناك بعض المجاري المائية في الأودية المتأتية عن المطر القليل الذي يَنزل خلالَ فترةٍ وجيزةٍ من العام، والتي لا تلبث أن تجفَّ لتجعلَ من تلك المجاري طرقاً يسلكها سكانُ شبه الجزيرة في بحثهم عن الكلأ والماء، أو مسالكَ للقوافل التجارية التي كانت تعبر في أماكن عديدة وتتوجه إلى شتى البلاد المجاورة.
إن هذا التكوينَ الجغرافيَّ، القاسيَ في طبيعته، كانت له آثاره البعيدة على اقتصاديات تلك البلاد، فكانت الزراعةُ قليلةً، والصناعة شِبْهَ معدومة، في حين عرفت بعضُ المناطق التجارةَ بشكل واسعٍ كما في اليمن ومكة المكرمة.
وبسبب نُدرة المطر، وقلَّة الخصب، اتَّجهت أنظار البدويِّ إلى الرَّعي والانتقالِ من مكانٍ إلى آخر بحثاً عن الكلأ والماء. ثم ساعد العربَ على الارتحال شيوعُ الأراضي وعدمُ امتلاكها، حيث كان لكل قبيلةٍ أن تُقيم في المكان الذي تختار، وطَوالَ المدة التي تريد. إلاَّ أن هذه الحريَّةَ في امتلاك الأراضي لم تكن مطلقةً تماماً، بل كانت تَخضع لقوَّة القبيلة وقُدرتها على الاحتفاظ بالوَاحة التي اختارتها للإقامة، فإذا وَهَنَ عزمُها، وضعفت قُوَّتُها، صارتْ عرضةً للغزوِ من قبيلة أخرى، ومن يُكتب لها النصرُ تصبح صاحبةَ الحق في الملكية. وهكذا كانت مواطنُ الماء والكلأ من أهمِّ العوامل الدافعة للاقتتال والغزوات بين القبائل، وغالباً ما كان يؤدِّي التناحرُ فيما بينها إلى التهجير والأسر، وإلى اسْتِلاَبِ المواشي ومواردِ الرزق.
وإلى جانب الغزوات كانت الغاراتُ، تلك التي يَشنُّها المغيرون على الواحات المجاورة لمناطق تَوَاجُدِهم، حيث كانوا يَنهبون المحاصيلَ ويسوقونَ المواشيَ والقطعانَ، أو كانوا يأتون أصحابَ تلك الواحاتِ مُهدِّدين بالقوَّة، فإمَّا دفعُ جزيةٍ من المال، ومقابلها حمايةُ القبيلة من المُغيرين من أيَّة جهة أتَوْا، وإما جرُّ القبيلة إلى الويل والثبور وعظائم الأمور.
والغريب في أعراف ذلك المجتمع القَبَليّ أنَّه كان يعتبر الغزوات أو الغارات، أو فرض الجزية مصادرَ للكسب والارتزاق، يُقِرُّها الواقع وتفرضها ظروف العيش، حتى صارت بمثابة القانون السائد في مناطق البدو الرُّحَّل. بيد أنه كان إلى جانبها مصدرٌ آخر للكسب وهو حماية القوافل التجارية وإرشادها إلى الطرق التي تسلكها لقاءَ أُجور يدفعها أصحابها لأبناء القبائل التي تمر في جوارهم. وغالباً ما كانت هذه الأجور تخضع لقانون العرض والطلب.
هذا وقد كان بعض البدو الرُّحَّل، يحملون منتوجاتهم من الحليب والألبان والأوبار، لبيعها من ساكني المدن، وشراءِ ما يحتاجون إليه من السِّلَع التي كانت تُساعدُهم على العيش في البادية.
ولعلَّ أهم ما تميَّز به هؤلاء الأعراب، الذين كانت حياتهم تقوم على الرَّعي والارتحال، هو احتقارهم للزراعة واعتبارها عملاً غير جديرٍ بالاهتمام، في حين أن العملَ الرفيعَ في نظرهم هو الرّعي بحريته وانطلاقه، حتى أن هذه النظرة انعكستْ على شِعْرِهم، فَحَفِلت قصائدُهم وأشعارُهم بمعاني الحرية، ولذَّة العيش في البادية الفسيحة، وتحقير من يرضى بالزراعة مورداً للرزق.
وإذا كانت تربيةُ المواشي، والنَّهب، وفرض الجزية، وأجور حماية القوافل التجارية هي مصادر الرزق الرئيسية لأهل البادية من العرب الرحَّل، فإن الأمر يختلف بالنسبة لأهل القرى، وسكَّان المدُن الذين كانوا يُقيمون في مناطق أخضب وأغنى، حيث يهطلُ المطر وتُخصبُ الأرض، مما جعلَ أهلَها ينصرفون إلى الزراعة ويعملون فيها. وليس بناء سَدِّ مأرب في اليمن إلاَّ مثالاً لهذا العمل، الذي أريدَ به حصر مياه الأمطار والإِفادة منها في الزراعة وسقي المواشي وريّ البساتين والحدائق، فكانت المزروعاتُ - تبعاً لذلك - قليلةً، بعضُها من الحبوب كالقمح في اليمن، والأرزّ في الحسا وعمان، والشعير والذرة في مناطق أخرى، وبعضها من الشجر كالنخيل والتين والزيتون، والكرمة والرّمان في المناطق الْمُخْصِبة، ولكن أكثر أشجارها انتشاراً كان النخيل والكرمة. فمن زراعة النخيل أنتجوا التمور بأنواع متعددة وجعلوها المادة الرئيسية للغذاء. ومن هذه الثمار استخرجوا دبساً ونبيذاً، كما هدتهم التجربة إلى استعمال بعض أجزاء النخلة في الطبابة والمداواة من بعض الأمراض، واستعملوا أوراقها للكتابة.
واشتهرت زراعة الكرمة لجني العنب، وصناعة الزبيب واستخراج الخمور. وغني عن البيان كم كان للخمرة من شأنٍ في الجاهلية، فلا يكاد يخلو شِعْرٌ من ذِكْرِ الخمرة والتَّغزُّل بلذتها، حتى أنها اقترنت بِغَزَلِ النساء...
وإلى جانب تلك المزروعات وُجِدَ في جنوبي شبه الجزيرة موردٌ طبيعي هام هو إنتاج التوابل والطُّيوب كالبَخور واللبان والقرفة. وهذه كلها كانت موضعَ اهتمام العالَمِ المتمدن، في تلك الحقبة من التاريخ، حتى أنها شكَّلت سبباً لاحتلال المناطق التي كثرت فيها - كما حصل في بلاد الهند مثلاً - وإن لم تعرف بلادُ العرب مثل هذا الاحتلال. وقد اتَّجر العرب بهذه المواد، وصارت البوادي والصحارى التي تنتج فيها، أماكن هامة للتصدير إلى البلدان المجاورة لأرض الجزيرة، كسورية ولبنان والعراق، وفلسطين، ومصر، ومن شواطىء هذه البلدان كانت تُنقل إلى مناطق اليونان والرومان في أوروبا.
وقد اعتبر العربُ التجارة مهنة شريفة، فكان معظم تجارهم من قادة القبائل وأسيادها، بل ولقد شاعت عند الكثيرين من سكان الحواضر، وباتت مورداً للغنى والثراء. ولعل أبرز البلدان التي عرف أهلها التجارة واتخذوها سبيلاً حيوياً للكسب والربح هي مكة المكرمة التي كان موقعها الجغرافي يساعدها على ذلك، إذ كانت ملتقى طرق القوافل التجارية إلى اليمن وإلى الحيرة والشام وإلى نجد وغيرها.
وكانت مكة تتصل بتجارة العالم عبر البحر الأحمر الواقعة قريباً منه، وعبر طرق القوافل المحاذية لهذا البحر ما بين اليمن وفلسطين. ولا ننسى أنه قد ساعد مكة على ازدهار الحياة فيها حكمةُ سيدها هاشم بن قصيّ بن كلاب - كما سنرى - فهو الذي سنَّ رِحْلَتي الشتاء والصيف، الأولى إلى اليمن والثانية إلى الشام، فسمَتْ مكانتها في أنحاء شبه الجزيرة العربية كلها، واعتُبِرت العاصمة المعتَرف بها. ثم ساعد على هذا الازدهار أن هاشماً وإخوته أبناء عبد مناف عقدوا مع جيرانهم معاهدات أمنٍ وسلام. فعقد هاشم بنفسه مع الامبراطورية الرومانية ومع أمير الغساسنة، معاهدة حسن جوار ومودَّة، وحصل من الامبراطور نفسه على الإِذن لقريش بأن تجوب بلاد الشام في أمن وطمأنينة. ثم عقد أخوه عبدُ شمس معاهدةً تجارية مع النجاشي، كما عقد أخواه الآخران، نوفلُ والمطلبُ حِلْفاً مع فارس ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن. وبذلك صار لمكة من اليسار، وصار لأهلها من المهارة في التجارة، ما جَعَلَ الأسواق تُنصَبُ فيما حولها لتصريف التجارة التي تأتيها من كل صوب، وهذا ما جعل أيضاً أهلها يبرعون في النَّسيئة[*] والربا وفي كل ما يتصل بالتجارة من أسباب المعاملات.
وإذا كان العرب قد عرفوا التجارة البرية بصورة مبكِّرة، فإن التجارة البحرية عندهم كانت متأخرة، ولم تُعرَف إلا في العصر الإِغريقي، وبشكل خاص أيام الإِسكندر المقدوني. وفي القرن الثالث قبل الميلاد قام العربُ بنشاطٍ تجاري بحري واسع عبرَ مياه الخليج باتجاه نهر الفرات شمالاً حتى مدينة سلوقية. ولكنَّ هذا النشاط تراجع في مطلع القرن الأول قبل الميلاد بسبب تكثيف البطالسة[*] لنشاطهم التجاري في مصر، وحصر سيطرتهم الاقتصادية في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ إلا أنه على الرغم من هذا التأخر، فقد عاد العرب إلى ممارسة التجارة البحرية بعد منتصف ذلك القرن، وفي القرن الثاني، بعدما أُنشئت الموانىء وازداد عددها.
هذا عن الزراعة والتجارة، فهل كانت للعرب قبل الإِسلام معرفة بأمور الصناعة ومزاولتها؟
حتى قيام الإِسلام، لم تكن الثَّروات المعدنية في شِبْهِ الجزيرة العربية قد اكتشفت. ولكن الأبحاثَ كانت قد دلَّت على وجود الذهب، ولاسيما في شمالي سبأ، فعرف العربُ هذا المعدن، سواء في مادته الخام، أو على شكل قطع معدنية، فزاولوا العمل به تصنيعاً ومبادلة، وصاروا يبادلونه بالفضة والنحاس مع الأماكن المجاورة لهم، خلال المقايضات التجارية. وكذلك عَثر المنقِّبون على بقايا من رصاص في المباني الأثرية في اليمن، وهي تشير إلى أنه كان يُصهر قديماً ثم يصب لتقوية أسس البناء.
هذا وقد اشتهرت في اليمن صناعة السيوف، وبعض أنواع النسيج، وقد دلَّت نصوص الجاهلية على أن صناعة النسيج قد بلغت مستوىً رفيعاً من المهارة.
ومما عرفه العرب أيضاً، بعض أنواع الأحجار الكريمة كالعقيق والزمرد وما إليهما..
وبالإِجمال يمكن القول بأن الصناعة لم تكن ذات شأنٍ كبير في حياة العرب الاقتصادية. ولعل مردَّ ذلك كان يكمن في احتقارهم العمل اليدوي، على الرغم من حاجتهم إلى السلع المصنوعة، وكثرة ذكرها في أشعارهم.
هذا مجمل لبعض الملامح العامة عن حياة العرب الاقتصادية، الزراعية منها والتجارية والصناعية، فكيف كانت معتقداتهم الدينية؟
المُعتَقَدَات الدِّينيَّة
مما لا شك فيه أن الباحثين في الغرب، قد اهتموا اهتماماً كبيراً بالمعتقدات الدينية، التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإِسلام. وقد ذهبوا في ذلك مذاهب كثيرة، بعضها يميل إلى الاعتدال، وبعضها يغلب عليه التعصُّب لأسباب شتى، مما يفرض علينا الرجوع إلى التراث العربيِّ نستقرئه في هذا المجال خاصة. ولن ننسى أن القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، قد صوّرا لنا مذاهب العرب ومعتقداتهم الدينية أصدق تصوير، الأمر الذي جعل المؤرخين المسلمين يبحثون هذه الأمور بشكل واسع ومطوّل.
فلو رجعنا إلى الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» لوجدناه يفسِّر لنا كيفية ظهور الوثنية وعبادة الأصنام في شبه الجزيرة العربية، بعد أن عرفت ملة إبراهيم (عليه السلام) إذ يقول: «قبل أن نَشرعَ في ذكر مذاهب العرب نريد أن نذكر حكم البيت العتيق - حرسه الله - ونصل بذلك حكم البيوت المبنية في العالم، فإن منها ما بني على الدِّين الحق قبلةً للناس، ومنها ما بُني على الرأي الباطل فتنةً للناس. وقد ورد في التنزيل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ *} [آل عِمرَان: 96]. وقد اختلفت الروايات في أول مَنْ بَناه. فقيل إنَّ آدم (عليه السلام) لما أُهبط إلى الأرض متحيِّراً بين فقدان زوجته ووجدان توبته سارَ حتى وافى حواء بجبل الرحمة من عرفات ولقيها، ثم سار إلى أرض مكة وتضرَّع إلى الله تعالى لكي يأذن له في بناء يكون قبلةً لصلاته، ومطافاً لعبادته، كما كان قد عهد في السماء من البيت المعمور الذي هو مطاف الملائكة ومزارُ الروحانيين، فأنزل الله تعالى عليه مثالَ ذلك البيت على شكل سرادقَ من نور، فوضعه، فكان البيت، وكان يتوجه إليه ويطوف به.
ثم لما توفي، تولى وصيُّه شيث (عليه السلام) بناءَ البيت من الحجر والطين على الشكل المذكور. ثم لما خرب بطوفان نوحٍ (عليه السلام)، وامتدَّ الزمان حتى غيض[*] الماء، وقُضي الأمر، انتهت النبوَّة إلى إبراهيم الخليل (عليه السلام)، الذي حمل زوجه هاجر إلى الموضع المبارك، فولدت إسماعيل (عليه السلام) هناك، فترعرع وشبَّ برعاية والدته، ثم كان مجيء إبراهيم (عليه السلام) لزيارة عائلته واجتماعه به على بناء البيت، وذلك لقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البَقَرَة: 127]، فرفعا قواعد البيت على مقتضى إشارة الوحي، مراعيين فيها جميع المناسبات التي بينها وبين البيت المعمور، وشرَعا المناسك والمشاعر محفوظاً فيها جميع المناسبات التي بينها وبين الشرع الذي جاء به محمد (عليه السلام). وتقبّل الله تعالى ذلك منهما، وبقي الشرف والتعظيم لهذا البيت الكريم إلى زماننا هذا وسيبقى إلى يوم القيامة دلالة على حسن القبول».
ثم يتابع الشهرستاني حديثه فيقول: «وأولُ من وَضع فيه الأصنام عمرو بنُ لحيّ بن عامر الخزاعي، فإنه لما سار بقومه إلى مكة استولى على أمر البيت، ثم سارَ إلى مدينة البلقاء بالشام، فرأى هناك قوماً يعبدون الأصنام، فسألهم عنها، فقالوا: هذه أربابٌ اتَّخذناها على شكل الهياكل العلويَّة والأشخاص البشرية، نَستنصر بها فنُنصَر، ونَستسقي بها فنُسقى، ونَستشفي بها فنُشفى. فأعجبه ذلك وطلب منهم صنماً من أصنامهم، فدفعوا إليه بهُبل، فسار به إلى مكة، ووضعه في الكعبة، وكان معه إساف ونائلة (صنمان على شكل زوجين) فدعا الناس إلى تعظيم هذه الأصنام والتقرُّب إليها والتوسُّل بها إلى الله تعالى. وكان ذلك إلى أن أظهر الله الإِسلام، فأخرجت جميع الأصنام من الكعبة الشريفة وحُطِّمت».
هذه إحدى الروايات التي تفسِّر ظهور الوثنية عند العرب.
وهنالك روايات أخرى تُشبه في جوهرها روايةَ الشهرستاني. فقد أورد ابن الكلبي في كتابه الأصنام، روايةً تقول بأن نسل إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام)، لما تكاثروا ضاقت بهم أم القرى - أي مكة - فبدأت العداوات والمنازعات والحروب بينهم. ونتيجةً لتلك الحروب أخرج البعضُ منهم الآخرين، فراحوا يتنقلون في البلاد سعياً للمعاش. وكان كلما رحلَ من مكة راحلٌ حملَ معه حجارة الحرم، تعظيماً له وحباً بمكة. فحيثما حلّوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمُّناً وتبرُّكاً، وهم بعد يُعظِّمون الكعبة ومكة ويحجُّون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل.
ثم تطوَّر الأمر بهؤلاء القوم إلى أن عبدوا ما استحبّوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) غيرَهُ، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأممُ قبلَهم، وعبدوا أيضاً ما كان يعبد قومُ نوح على إرث ما بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام)، يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف والحج والعمرة والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البُدن[*]، والإِهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس فيه.
وهكذا يتبين من هاتين الروايتين، وغيرهما من الروايات في التراث، أن العرب في الجاهلية، وقبل بُزوغ شمس الإِسلام، كانوا في الغالبية الساحقة منهم على الوثنية.
وبالفعل كان العربُ في تلك الحقبة من تاريخهم يؤمنون بقوى غيبية، يُطْلِقون عليها اسم الآلهة. وكانت سائر الأمم قد سبقتهم إلى هذه التسمية، فالإغريق والرومان - أصحاب الحضارات المعروفة - كانوا على الوثنية وأطلقوا على أصنامهم أسماء مختلفة للآلهة. وكان الاعتقاد سائداً بأن سُكنى الآلهة في الكواكب، أو أنها موجودة في قوى الطبيعة، أو في مظاهر النبات، والجماد، والطير، والحيوان.. وبخلاف غيرهم، لم يكن إيمان العرب بتلك القوى الخفية ليمنع عنهم معرفةَ الله، بل على العكس، فقد أقرّوا بوجود الله، وبأنه الإِلهُ الأعظمُ، وصانعُ الكون كله ومدبِّره. فكانوا يقسمون بالله، أو يناشدونه - سبحانه - بقولهم: الَّلهم؛ وعلى الرغم من ذلك وقعوا في الشِّرك، وعبدوا الأصنام لِتُقَرِّبهم إلى الله زلْفَى، بدليل قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر: 3].
ولقد كان لكل قبيلة صنم أو وثن[*] وهو رمز الإِله، وموضعُ العبادة والتقديس. وقد كانت الأصنام يطاف بها في مكة، فيشتريها أهل البادية ويخرجون بها إلى بيوتهم. ولعلَّ أهم أصنام العرب وأوثانهم كانت:
الَّلات : وهي صخرةٌ مربعة بيضاء قيل إنهم استقدموها من البتراء في الأردن، بُني عليها بيت للعبادة، ومقرها الطائف، كانت موضع عبادة عرب الحجاز وعرب الجنوب.
وكانت ثقيف تضاهي ببيت اللات هذا الكعبة المكرَّمة، وقد جعلت له ضحية وكسوة حتى صارت العرب تُكبِره، وإن ظلَّ إكباره بعيداً عن أن يصل إلى مكانة البيت العتيق.
وقد دام بيت اللات قائماً حتى نَصرَ الله - تعالى - دينه القويم، فأرسل النبيُّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، فهدماه وحطَّما صنمه.
العزّى : وقد عبدها آل غطفان. وهي شجرةٌ كانت بوادي نخلة شرقي مكة، وكان سدنتها من بني صرفة بن مرة. عظَّمتها معهم قريش، وقبائل غنى وباهلة.
وظلَّت العزَّى قائمة حتى انتصر الإِسلام، فقطعها خالد بن الوليد وهو يكفرها بقوله:
يا عُزَّ كفرانك لا سبحانك
إني رأيتُ الله قد أهانك
مَنَاة : وهي أيضاً صخرة كبيرة منصوبةٌ على ساحل البحر، في موازاة ما بين مكة والمدينة، عبدَها الأوس والخزرج وأَزد شَنُوءَة. كانوا يحجّون إلى الكعبة في مكة، ويقفون مع الناس المواقف كلها دون أن يحلِقوا رؤوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة وحلقوا عندها، لأنهم لا يرون لحجهم تماماً إلا بذلك. وقدَّست تلك الصخرة أيضاً قبائل هذيل وخزاعة وغيرها.
وأبرز آلهة العرب الجنوبيين كانت:
- سواع : صنم هذيل وكنانة ومزينة، وهو حجر تعبده عشائر مضر، وقبائل سواع، ولذا كانت سدانته لبني صاهلة من هذيل.
- يغوث : صنم قبائل مذحج وهوازن، ومقامه في أنعم. قاتلهم عليه بنو غطيف ففروا إلى نجران.
- يعوق : صنم همدان وخولان، وقد أقاموا في مكان يسمَّى الأرحب.
- نسر : معبود حِمْيَر في أول الأمر، ثم قدَّسته فيما بعد بعض القبائل في المناطق الشمالية.
أما أصنام قريش فأبرزها
- إساف ونائلة : وقيل في الأسطورة إنهما كانا زَوجَين بغيا (مارسا مرةً الجماع) في الكعبة فَمُسِخا حجَرَين، فصارت قريشٌ تعبدهما بعدما وجدتهما في مكة. وكان موضع إساف إلى جانب الحجر الأسود من الكعبة الشريفة، بينما نائلة وضعت بإزاء الركن الجنوبي. وقد نقلتهما العرب قديماً إلى موضع زمزم، وكانوا ينحرون عندهما ويذبحون.
- مناف : وبه اشتهر اسم عبد مناف.
- هُبَل : وكان أهمَّ آلهة قريش، بل العرب كلها. وهو صنم على صورة إنسان نحت من عقيق أحمر، وقد كسرت يده اليمنى، فجعلت له قريش يداً بديلة من ذهب. وكانت تلبيةُ من نَسَكَ إلى هبل: «لبيك اللهم لبيك، إننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح ويحسدنا الناس على النجاح».
ومن شدة تعظيمهم هبل، كان القرشيون لا يقدمون على أمر، إلاَّ إذا جاؤوا إليه واستقسموا عنده، سواء من أجل سفر، أو احتكام على شأن، أو إعلان نبأ هام... وعند هبل ضرب عبد المطلب، جدّ رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) - بناء لمشورة بني قومه، وغلبة عاطفته عليه، كما سنرى - بالقداح عندما أراد أن يفتدي ولده عبد الله (أبا النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ).
وهبل هذا كان موضع الضَّرَاعة والابتهال من مشركي قريش في حربهم مع المسلمين. باسمه كانوا ينادون طالبين أن ينصرهم، وكم ترددت منهم الصرخات ومنها صرخة أبي سفيان بن حرب بعد وقعة أحد: أعلُ هبل، ولكنها كانت صرخة الشرك التي لا بد أن تُدْحر ويُدَمَّر أهلوها الضالّون.
ويمكن أن يذكر أيضاً من أوثان العرب وأصنامها، بصورة سريعة: الخُلَّصة بأسفل مكة وكانوا يُلبسونها القلائد ويهدون إليها الشعير والحنطة ويصبّون عليها اللبن ويعلّقون بها بيض النعام. وجهار لهوازن بعكاظ. والغلس لطيء. والسعيدة في أُحُد، عبدتها قضاعة، وسدانتها في بني العجلان. وذو اللبا لعبد القيس. والمحرق لبكر بن وائل وسائر ربيعة. وذريح لكندة باليمن. ومرحب في حضرموت، وسادنه ذو مرحب نسبة له. وذو الكفين وكان لخزاعة ودوس، كسرهُ عمرو بن حممة وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من تلادك
ميلادنا أكبر من ميلادك
ولبيان كثرة الأصنام والأوثان عند العرب في الجاهلية، يكفي أن نشير إلى أنه كان في جوف الكعبة وفنائها ما يزيد على ثلاثمائة وستين صنماً.
تلك على الغالب كانت الآلهة التي يقدِّسُها عرب الجاهلية، وهي في جلّها من صخور أو أحجار أو أشجار.. فواعجباً لأولئك الذين سوَّلت لهم أنفسهم أن يَعْزُوا الألوهية إلى مثل تلك الجوامد ، وليس فيها ما يروع أو يفتن أضعف العقول. بل العجب كله أنهم استرسلوا في الأوهام حتى صورت لهم أحلامهم شتى الظنون... فقد كانوا يعتقدون مثلاً بأن للعزّى شيطانة تبدو في بعض الأوقات على صورة امرأة شَعِثَة ذات شعر كثيف يتدلى على الأكتاف. ولذلك أقاموا لها معبداً خاصاً يتولى السدانة فيه أربعة من شياطين الإِنس ماهرون بأساليب التدليس ومراسم العبادة المفتعلة التي ورثوها عن أسلافهم لأنها كانت تدُرُّ عليهم المال الوفير. وجعلوا حول ذلك المعبد فسحات تُلقى فيها لحوم الأضاحي من البُدن[*] التي كان يأتي بها أصحاب النذور للعزَّى بين آن وآن ليذبحوها عند صنمها أو شجرتها إذا برىء مريض أو عاد غائب أو وضعت أنثى أو تحققت أُمنية من أماني النساء وأشباه النساء من الرجال. وإذا لم يكن في مقدور بطون السَّدنة أن تَهضم كلّ لحوم تلك الجمال، فقد كان لا بد أن يتركوا بقيتها في العراء هي وروثها فتنتن ويملأ نتنُها الجوَّ حتى تأتي وحوش الجبال والفلوات المحيطة بتلك البقاع فتريح الناس منها بما تحمل منها بطونها الجائعة. ومع ذلك لم يكن لها انقطاع. ولولا هبوب الرياح وحرارة شمس الجزيرة المحْرِقة، لما ترك وباؤها أحداً ممن يعيشون في تلك الديار المجاورة.
وقد جعل عرب الجاهلية - كغيرهم من الشعوب - لتلك الآلهة المزعومة قدسية، وجعلوها موضعاً للعبادة لتوهُّمهم بأن تلك الأنصاب هي مقرٌّ للأرواح.
فلما جاء الإسلام، نبَّه القرآن الكريم إلى خطر هذا الوهم الأفَّاك الذي هو من عمل الشيطان، يزرعهُ في العقول والنفوس الضالّة وأُنْزِلَ كتابُ الله على الناس منبِّهاً وناهياً بالآية الكريمة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [المَائدة: 90].
ولقد تعرَّض ابن الكلبي في كتابه الأصنام لمعتقدات العرب الدينية، مشيراً إلى أنها معتقدات لا تدل على المنطق والموضوعية وإنما كانت العاطفة تلعب فيها دوراً كبيراً، فقال: «واشتهرت العرب بعبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتَّخذَ صنماً. ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء البيت، نصب حجراً أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به تَطَوُّفه بالبيت. فكان الرجل إذا سافر، فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربّاً، وجعل ثلاثةً أثافيَّ[*] لِقِدْره. وإذا ارتحل تركه. فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك. وكانوا ينحرون ويذبحون عند تلك الأحجار ويتقربون إليها».
ولما كانت الكعبة هي بيت الله العتيق، فقد اتخذ العرب تَيَمّناً بها بيوتاً لأصنامهم كانوا يسمونها كعبات يحجون إليها، مثل كعبة الطائف (بيت اللات)، وكعبة ذي الحلقة وهي الكعبة اليمانية. ولكن وعلى الرغم من ذلك، ظلَّت الكعبة في مكة أشهر كعبة عند العرب، وحولها أقامت القبائل أكثر أصنامها. وهكذا حافظت الكعبة الشريفة على مكانتها، وبقي العرب يعتبرونها حارسة لمعتقدهم الديني، فإليها يحجّون كل عام، ومن حولها يقيمون الشعائر.. وكان من شعائرهم الطواف حول البيت أسبوعاً، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في عرفة، ومنها ينزلون إلى المزدلفة ثم إلى منى، حيث يبقون إلى ما قبل طلوع الشمس ثم يعودون إلى مزدلفة، إلا قريشاً فإنها لم تكن تقف في عرفات أو تخرج إلى مزدلفة، وهي تقول: لا نعظم من الحل ما عظم من الحرم، فبنى قصيّ المشعَر، وكان يسرج عليه ليهتدي به أهل عرفات إذا أتوا مزدلفة، فأبقاه الله مشعراً، وأقرَّ الوقوف عنده. وفي هذا الموقف في الجاهلية قال العامريّ:
فأقسم بالذي حجَّت قريش
وموقف ذي الحجيج إلى إلال[*]
وقد كانت القبائل العربية تختلف في طوافها بأصنامها. ولكن طوافهم على الأغلب، كان سبعة أشواط. وبعضهم كان يطوف عارياً، وبعضهم مرتدياً الثياب. وكانوا يرمون الجمرات في منى.
ومن شعائرهم في الحج كانت التلبية، وهي تختلف من قبيلة إلى أخرى، وإن أشرك أكثرهم في تلبيته. فكان نُسك قريش لإِساف: «لبَّيْكَ الَّلهُمَّ لَبَّيْك، لا شَرِيكَ لَكَ إلاَّ شريكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَك».
والحجُّ عندهم كان في الأشهر الحُرُم وهي: رجب، ذو القعدة، ذو الحجة ومحرم. والحج إلى مكة كان في شهر ذي الحجة. ومن عاداتهم أنهم كانوا لا يُبيحون في هذه الأشهر دماً، ولا يشنّون حرباً. وإذا صادف وحصلت أثناءها حرب، دُعيت حرب الفجَّار - مشتقة من الفجور - وعدّت انتهاكاً لحُرمة البيت الحرام. وقد قيل في لغة العرب: الفاجر هو الساقط عن الطريق، المائل عن القصد. والفجور معناه: شقُّ ستر الديانة أو شقٌّ للستر وخرقٌ للحجاب. ومن هنا كانت الحرب في الأشهر الحرم تعتبر فجوراً..
وقد كان لكل بيت من بيوت العبادة عند العرب سدنة (حجّاب). وكانت سدانة الكعبة في مكة لبني عبد الدار. وإلى جانب السدنة، قام أناسٌ اشتهروا في العرب بالكهَّان أو العرّافين وهم الذين كانوا يدَّعون معرفة الغيب. ومن هؤلاء من ذاع صيته وعمَّت أخباره، أمثال سطيح الذائبي، وشق بن مصعب الأنماري (من الرجال)، وكاهنة بني سعد، وكاهنة ذي الخلصة (من النساء)..
ومن عادات العرب التي تتعلَّق إلى حدٍّ كبير بالدِّين، أَنهم كانوا يغتسلون من الجنابة، ويُغسِّلون موتاهم، كما أن من معتقداتهم تكفين الموتَى والصلاة عليهم، حيث كانت تقوم هذه الصلاة على حمل الميت في سرير، ووقوف وليِّه عليه يذكر محاسنه ويثني عليه ثم يختتم ذلك بالقول: عليك رحمة الله.
ومن هنا كان معنى الصلاة في الجاهلية الدعاء. وفي ذلك قال شاعر جاهلي من بني كلب لأبيه:
أعمرُ: إن هلكتَ وكنتُ حيّاً
فإني مكثرٌ لك من صلاتي
وقال راجز جاهلي متحدِّث عن الكَفَن:
وتُبّعاً قد أهلكتْ وذا يَزن
وذا نواسٍ أهلكتْ وذا جَدَن
فحظُّهُ ممّا حوى وما خَزَنْ
مسحَةُ كافورٍ وغُسْلٌ وكَفَنْ
هذه على الغالب كانت مظاهر الوثنية في معتقدات العرب الدينية. على أن الوثنية وإن كانت الديانة الكبرى في شبه الجزيرة إلا أن الكثير من سكانها كانوا على اتصال دائم بالأمم المجاورة لحدود الحجاز كاليمن وسوريا، وبخاصة قبيلة قريش التي كانت تستغل جوار البيت فتجوب البلاد للتجارة وغيرها في فصلي الشتاء والصيف من كل عام.
وكانت مكة من أوفر المدن الحجازية بوسائل العيش وأسباب الراحة، هذا فضلاً عن أن القرشيّين كانوا على اتصالٍ دائم ببلاد الحبشة للأغراض التجارية وغيرها. وهذا الاختلاط القائم على التجارة كان يزوّد أهل الحجاز بالمعلومات عن حضارة تلك البلدان وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها مما جعلهم يستفيدون منه في تحسين أوضاعهم إلى حد ما..
وكما استفاد عرب الحجاز من جيرانهم، استفاد كذلك عرب الحيرة من جيرانهم الفرس الذين كان لهم الإشراف على تلك البلاد وإدارتها ورعاية شؤونها. وكان ملك الفرس يختار أحياناً بعض العرب لإدارة بعض أعماله.
ويذهب بعض المؤلفين إلى أن عرب الحيرة قد تسربت إليهم بعض علوم اليونان وآدابها. وهم يعتمدون في ذلك على أن الحكومة الفارسية في عهد هرمز الأول أنشأت بعض المستعمرات وأقامتها على سواعد الأسرى الرومانيين، وكان من بين هؤلاء من تأثروا بالثقافة اليونانية وسبقوا الفرس أشواطاً بعيدة في الهندسة والطب وغيرها. وقد نزل هؤلاء الحيرة وامتزجوا بأهلها. ولا يستبعد بعض الباحثين أن يكون هؤلاء المصدر الأول لانتشار الديانة المسيحية بين عرب الحيرة. وهذا يعني أنه إلى جانب تلك الوثنية التي عرفتها شبه الجزيرة قامت معتقدات أخرى مختلفة، كالصابئة والدهرية والحنيفية واليهودية والنصرانية...
الصابئة : وهم قلَّة، فقد عبدوا النجوم والكواكب، وأقام معظمهم في المنطقة الشمالية من شبه الجزيرة، ولاسيما في حرّان ما بين النهرين.
ويعتبر ابن النديم أن جماعة منهم آمنت بإبراهيم (عليه السلام) وحملت الصحف التي أُنزلتْ عليه من الله سبحانه.
وفي الواقع تبدو معتقدات الصابئة أنها كانت مزيجاً غريباً من التوحيد، ومن عناصر خرافية تقوم في الشيء الكثير على التنجيم والسحر. فكانوا مثلاً يُعَظِّمونَ الجنَّ والشياطين، إضافة إلى الكواكب، ويجعلونها واسطة بينهم وبين الله عزَّ وجلَّ، ويقدِّمون إليها القرابين.
وتدل بعض الأبحاث على أن تعظيم الجن وتقديسهم لم يكن من معتقدات الصابئة وحدهم، بل ومعتقدات كثير من العرب الذين أقروا بوجودهم وبقدرة ما يتمتعون به من قوى خارقة، مما وسَّع نشر الأساطير حول الجن. فلما جاء الإسلام، كان للجن سورة خاصة في القرآن الكريم لدحض ذلك الاعتقاد السخيف، وإبطال الوهم الذي سيطر على تلك العقول حتى أذهبها وجعلها تظن أن الجنَّ شركاء لله، فقال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ *} [الأنعَام: 100].
الدَّهريون : وكانوا قِلَّةً أيضاً، فإنهم لم يدِينوا بإِله ولم يتَّبِعوا ديناً معيَّناً، بل قامت عقيدتهم على أن الدهر هو الذي جاء بهم وهو يهلكهم.
فالصابئةُ، والدهرية، تمزج ما بين الوثنية والقوَى الخفيَّة الغريبة، فتؤمن الصابئة بالله وتجعل بينه وبين الشياطين نسباً، بينما يثقل الدهرُ على الدهريين، ويغلب طوله على عقولهم، فتراه وحده هو القادر الغالب. وهكذا تضرب كل منهما في وثنية من نوع خاص، تختلف عن عبادة الأصنام والأوثان لدى غيرهما من العرب المشركين.
الحنيفية[*] : وفي خضم تلك الوثنيات المتعددة، قام الأحناف الذين لم يستسيغوا أية وثنية منها، بل رأوا فيها ضروباً من الخرافات التي لا يقبلها عقل ولا يقرّها فكر، فراحوا يبحثون لهم عن دين يهديهم إلى الحق، حتى اهتدوا إلى ملَّةِ إبراهيمَ الخليل سلامُ الله عليه، فاتَّخذوها دِيناً وآمنوا بالله الواحد الأحد، وعبدوه ودَعَوا إلى عبادَته. وقد عُرِف هؤلاء الأحناف في أنحاء كثيرة من شبه الجزيرة العربية، وأوردت كتب التاريخ أسماء بعضهم أمثالَ قُسّ بن ساعِدَةَ الإِيادِيِّ الذي كان يدعو الناس إلى عبادة الله في سوق عكاظ، وصِرَمَةَ بنِ أبي أسن، وهو من بني النجار، أخوال النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وكان سكنه في المدينة المنوَّرة. وفي مكة قام أيضاً عددٌ منهم كانوا يأخذون على بني قومهم ضيق الأفق في التفكير، والضياع بين زحام المعتقدات السخيفة، فحرَّموا على أنفسهم ما أحلَّه غيرهم، كالخمر والميسر والأزلام.. ومن الأحناف المكيِّين سلالة عبد المطلب بن هاشم - جدِّ الرسول الكريم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) - وقيس بن عاصم التميمي.
وينوِّه بهؤلاء الأحناف ابنُ هشام في السيرة النبوية، حيث يقول: قال ابن إسحاق: «واجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظِّمونه، ويخرُّون له سجُدَّاً، ويعكفون عنده، ويطوفون حوله، وكان ذلك عيداً لهم في كل سنة يوماً.. فخلص منهم أربعة نفر نجيّاً. ثم قال بعضهم لبعض: تَصادقوا، ولْيَكْتُمْ بعضُكم على بعض. قالوا: أجل. وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي. وعُبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبيرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وكانت أمّه أميمة بنت عبد المطلِب. وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ. وزيد بن عمرو بن نفيل بن العزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤي.
فقال بعضهم لبعض: «تَعلَمونَ والله ما قومُكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، وإنهم يعبدون حجراً، لا يَسمع ولا يُبصر، ولا يضرُّ ولا يَنفع. يا قوم الْتَمِسُوا لأَِنْفِسِكُم دِيناً فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين إبراهيم»[*].
فأمّا ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانيةِ، واتَّبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته - أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب - فلما قدمها تنصَّرَ، وفارقَ الإسلامَ، كما فارقَ زوجته فظلَّت على إسلامها (لتكون واحدةً من أمهات المؤمنين كما سنرى).
وأما عثمان بن حويرث فقد ذهب إلى قيصر الروم، فتنصَّرَ وحسنت منزلتُهُ عنده..
وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف لا يدخل في يهوديّةٍ ولا نصرانيّةٍ، وأبى إلاَّ الحنيفية، فكان يقول: أعبدُ ربَّ إبراهيم. وقد أبان لقومه عيب ما هم عليه، ففارق ديانتَهم الخرقاءَ، معتزلاً الأوثان والميتة والدم وما ذُبحَ على الأنصاب، ونهى عن وأدِ البنات، وقد روي عنه أنه كان يقولُ: «الشاةُ خلقها اللّهُ وأنزلَ لها من السماء ماءً، وأنبتَ لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟! إنكاراً لذلك وإعظاماً له!». وأنه كان يقول للرجل إذا أرادَ أن يئِدَ ابنتهُ: «لا تقتلها أنا أكفيكها مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إنْ شِئتَ دفعتُها إليك، وإنْ شئتَ كفيتُكَ مؤونتَها»[*]، فإنْ لم يأخذها أبوها، بحث لها عن كفؤٍ فزوجها به..
قال الحافظ بن حجر: أخرج الفاكهي بسند له إلى عامر بن ربيعة، قال: لقيت زيدَ بن عمرو، وهو خارج من مكة يريد حراء، فقال: يا عامر، إني قد فارقت قومي، واتبعت ملة إبراهيم، وما كان يعبد إسماعيلُ من بعده، كان يصلّي إلى هذه البَنِيَّة (الكعبة)، وأنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من ولد عبد المطلب، وما أرى أنّي أدركه، وأنا أؤمن به، وأصدقه، وأشهد أنه نبيٌّ، وسأخبرك بنعته حتى لا يخفى عليك، فوصفه بوصفه[*].
وقال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أمّهِ أسماءَ بنتِ أبي بكر (رضي اللّه عنه) قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً، مسناً، ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشر قريش! والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري؛ ثم يقول: وعزّتك لو أعلم أيَّ الوجوه أحبَّ أن تعبدَ به لعبدتك به، ولكنّي لا أعلمه.. ثم يسجد على راحته، وقيل: لقد نزل فيه وفي سلمان وأبي ذرّ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزُّمَر: 17] [*].
رآه النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قبل النبوَّة، وسئل عنه بعدها، فقال: «يبعث يوم القيامة أمةً وحدَهُ»[*] وقال زيد بن عمرو بن نفيل - نفسُهُ - في فراق دين قومه، وما كان لقيَ منهم في ذلك:
أَربّاً واحداً أم ألفَ ربٍّ
أدينُ إذا تقسّمتِ الأُمورُ
عَزَلتُ الَّلاتَ والعُزَّى جميعاً
كذلك يفعلُ الجَلْدُ الصَّبورُ
فلا العُزَّى أدِينُ ولا مَناةً
ولا صَنَمَيْ بني عمرو أزورُ
ولا هُبَلاً أدينُ وكان رَبّاً
لنا في الدهر إذْ حِلمي يَسيرُ
عجبتُ وفي الليالي مُعجباتٌ
وفي الأيام يعرفُها البصيرُ
بأنَّ الله قد أَفْنَى رجالاً
كثيراً كان شأنَهُمُ الفُجورُ
وأبقَى آخرين بِبِرِّ قومٍ
فيربلُ[*] منهُمُ الطفل الصغيرُ
وبينا المرءُ يفتُرُ شابَ يوماً
كما يتروَّحُ الغصنُ المطيرُ[*]
وبعد هذا الإِنكار لمعتقدات قومه، يتوجه زيد بن عمرو، بعد توبة نصوح، إلى عبادة الرحمن الحق، فيتابع قائلاً وهو يستغفر ربَّه:
ولكنْ أعبُدُ الرحمنَ ربّي
ليغفرَ ذَنْبيَ الربُّ الغفورُ
فَتَقْوَى الَّلهِ ربِّكُمُ احفَظُوها
متى ما تَحفَظُوها لا تَبُوروا
تَرَى الأبرارَ دارُهُمُ جِنانٌ
وللكُفَّارِ حاميةٌ سَعِيرُ
وخِزْيٌ في الحَياةِ وإنْ يَمُوتُوا
يُلاقُوا ما تَضِيقُ بهِ الصُدورُ
وقد لقِيَ زيدٌ الكثير من العَنَتِ والعُنف من عمه الخطَّاب (والد عمر بن الخطاب) فسلَّط عليه شباناً لا يدعونه يدخل مكة، فنَزَحَ يطلب دين إبراهيم (عليه السلام) ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة والشام، وانتهى إلى راهب في أرضِ البَلْقاء، فسألَه عن الحنيفية فقال له: إنك لتطلب دِيناً ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أطلَّ زمان نبيٍّ يخرج من بلادك التي خرجتَ منها، يُبعث بدين إبراهيم الحنيفية فارجع إليه وصدّقه واتّبعه، وآمِنْ بما جاء به.
فعادَ سريعاً حتى توسَّط بلاد لَخم فعدوا عليه وقتلوه.
وهكذا يتبيَّنُ لنا كمْ شهدَتْ بلاد العرب من تنوُّعٍ في العقائد الدينيَّة: كعبادة للأصنام والأوثان، واعتناق للصابئة والدهرية والحنيفية، وهذه الأخيرة أقربها إلى الدين الصحيح لأنها كانت على دين إبراهيم الخليل أبي الأنبياء (عليهم السلام) ، وإن كان بعض رُوَّادها قد اعتنقوا النصرانية فيما بعد، مما يدل على أن النصرانية قد عرَفها العرب، كما أنهم عرفوا قبل ذلك اليهودية أيضاً في مناطق متفرقة من بلادهم، كما نرى مما يلي..
اليهودية : يُثبت التاريخ أنَّ بعضاً من اليهود قد عاشوا في اليمن والحجاز، ولكن من أين جاؤوا؟ ومتى؟ ولماذا؟..
تلك أسئلةٌ لا يقطع الجدلَ فيها يقين. ولكن يبدو أن عدداً من اليهود قد هاجروا إلى بلاد العرب من فلسطين هرباً من القتل الذي أوقعه فيهم قيصر الروم طيطوس، بعدما هدم هيكلهم في سنة 70 للميلاد، أو بعد الداهية الدهياء التي حَلَّتْ بهم من قيصر الروم هدريان سنة 132 ميلادية.
فقد حدثت في هاتين السنتين موقعتان عظيمتان بين اليهود والقياصرة، وكان النصر فيهما لحكَّام روما، فرأى كثير من اليهود أنَّه لا مفرَّ من القتل والتعذيب على يد أولئك الحكَّام، إلا بالهرب من تلك البلاد إلى بلاد أخرى، فهاجر نفرٌ كبيرٌ إلى اليمن، وهاجر آخرون إلى الحجاز، حيث لا تطالهم يدُ القياصرة.
وبدأ اليهود حياتهم في اليمن، كما يبدأ كل شعب مهاجر، في الخدمة عند أسياد البلاد، وفي الزراعة، والحرفة. ولكن لم تمر سنوات قليلة حتى كانت لهم مكانة اقتصادية هامَّة، وصار لهم شأنٌ كبيرٌ في تلك البلاد، مما ساعدهم على الدعوة إلى دينهم، حتى وصلوا بهذه الدعوة إلى نشرها واعتناقها من قبل ملوك اليمن والحميريين. وأول هؤلاء الملوك الذين اعتنقوا اليهودية هو ذو نواس الحِمْيري، وهو صاحب قصة الأخدود الذي أحرق فيه أهل نجران.
أما يهود الحجاز فكانوا أكثر عدداً من يهود اليمن، وأكثر تأثيراً على العرب في البقاع التي سكنوها في تلك المنطقة.
وأهم مواطنهم فيها، كانت الواحات الحجازية في يثرب وخيبر وتيماء ووادي القرى. وكانت أبرز عشائرهم وأظهرها قوةً وبأساً، تعيش في يثرب، وهي من بني قُرَيظة، وبني قَيْنُقاع، وبني النَّضِير. وقد انصرف يهود يثرب إلى معاطاة الزراعة والصناعة، مما أكسبهم قوةً اقتصادية وجعلهم يتبوأون مكان الصدارة بين القبائل التي جاورتهم. ولكنهم بعد أن حظوا بتلك المكانة، لم يتخلوا عن أساليب المكر والخداع وحبك المؤامرات - التي اشتهروا بها أينما حلُّوا - حتى يتمكَّنوا من إضعاف غيرهم والإِفادة من هذا الضعف، من أجل تحويله قوةً في صالحهم.. وبمثل هذه الأساليب، أوغَلَ اليهود في يثرب، يحيكون المؤامرات، ويدبِّرون الخلافات بين القبائل المحيطة بهم، وكان أقواها: الأوس والخزرج. وبالفعل نجح اليهود في الوصول إلى الغاية التي سَعَوا إليها، ووقعت العداوات بين القبيلتين، وتأجَّجت نار العصبية فيهما، حتى وصلت إلى حروب عنيفة كادت تفتك بجمعهما. وظلَّ اليهود على دأبهم هذا، يُشعلون نار الفتنة بين الأوس والخزرج، وهؤلاء لا يفطنون إلى الشَّرَك الذي يُدَبَّر لهم، حتى حَلَّ الإِسلام وآخَى الرسولُ الكريم بين القبيلتين، فوقفتا له ناصرَتَين...
ولكن هذه العصبيَّة التي أجّجها اليهود كرهاً للعرب، لم تكن قاصرة على أهل يثرب، بل إنَّ تعصُّب أهل خيبر وتيماء وفدك ووادي القرى لم يقلَّ عنهم عداوةً وبغضاء...
ومما اشتهر به أيضاً يهود شبه الجزيرة، إتقانهم اللغة العربية وآدابها، حتى نبغَ منهم شعراء ما تزال آثارهم تشهد على طول باعهم بمعرفة تلك اللغة كالسَّمَوأل بن عادياء الذي ضُرِب به المثل في الوفاء والحفاظ على الأمانة. وقد صدق الله العظيم حيث يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عِمرَان: 75].. ولكن اليهود - على الرغم من حذقهم ومهارتهم في الاحتيال والتَّمَلُّق، وعلى الرغم من قدرتهم على التأثير في البيئة التي يعيشون فيها - لم يستطيعوا أن يستميلوا العرب إليهم، بل ظلَّ هؤلاء بعيدين عنهم، وعن دينهم... ولعلَّ الصفاء الذهني عند العربي الذي منحته إيَّاه الصحراءُ، قد أغناه بحصانة ضد الاحتيال والرياء، فقبع بعيداً عن أُناسٍ عُرف أنهم لا يطيبُ لهم عيشٌ إلا بمزاولة استغلال الآخرين... ولعلَّ اعتماد العربي على الشجاعة والمواجهة هو ما منعه أيضاً من مخالطة اليهود، بعدما عرف أن دأبهم التحيُّل وحَبْك الدَّسائس والمؤامرات...
تلك هي اليهوديَّة التي عرفها أبناء شبه الجزيرة العربية...
ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أنه لو كان أبناء العرب في أيامنا، يتَّعِظُون بما سَنَّهُ لهم الأجداد - على الرغم من جاهليتهم - لكان بقدرتهم إفشال كافة المؤامرات، ودَحر جميع المخططات، التي يَحوكها اليهود وأمثالهم في العالم ضدّهم حتى يبقوهم مشتَّتين متفرقين، ولكان بإمكانهم - وقد توفَّرت لهم الطاقات البشرية، والإِمكانات المادية الهائلة - أن يبرزوا كأصحاب مواقف جادَّة في وجوه أعدائهم المتآمرين على وجودهم والطامعين في ثرواتهم وخيرات بلادهم، وكسادةٍ أقوياء لهم مساهمة في نشر العدل والسلام في العالم، ونصيبٌ بالمشاركة في إرساء قواعد المدنية الحديثة، والتعاون من أجل نفع الإِنسانية وخيرها...
النصرانية : أما النصرانية فقد انتشرت في اليمن وفي شمالي شبه الجزيرة.. ولعلَّ سبب وجودها هنا وهناك، يعود إلى محاولة قياصرة الروم - الذين دخلوا في الدين المسيحي - نشر هذا الدين في أرجاء مختلفة من الأرض، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلَّق بالأوضاع الخاصة في بعض المناطق من بلاد العرب..
فقد بدأ انتشار الدين المسيحي في اليمن حوالي القرن السادس الميلادي، عندما بعث إليها النجاشي عاهل الحبشة، بجيش يقوده أرياط للانتقام من ذي نواس لما فعله بأهل نجران. فغزا أرياط اليمن ومَلكها باسم عاهل الحبشة، ثم ظلَّ على حُكمها حتى قتله أحد جنوده أبرهة الأشرم وتولى الأمر مكانه. وأبرهة هذا هو الذي بنى كنيسة القليس لصرف الناس عن تقديس الكعبة، حتى إذا أخفق قام بحملة على مكة لهدم البيت العتيق، فأخفق أيضاً، ولاقى هو وجيشه الموت الزؤام، كما سترى في متن هذا الكتاب..
وقد عرفت النصرانية أيضاً عند عرب الحيرة الذين أنشأوا دولة المناذرة في تلك المنطقة التي تفصلهم عن المناطق التابعة لحكم الرومان.
وعلى الرغم من أن أهل الحيرة لم يكونوا كلهم على النصرانية، فإن ملوك المناذرة أيضاً لم يكونوا كذلك. وقد قيل: إن آخر ملوكهم، النعمان بن المنذر اعتنق النصرانية، بينما قيل: إن امرأته هنداً هي التي دانت بالنصرانية، وكان تأثرها بتعاليمها شديداً إلى درجة أن أقامت ديراً للرهبانية ظل يعرف بدير هند إلى ما بعد القرون الأولى من تاريخ الإِسلام.
وفي الوقت الذي كانت تخضع فيه الحيرة لحكم المناذرة في ظل الانتداب الفارسي، قامت دويلة أخرى في بلاد الشام تحت الانتداب الروماني هي دويلة الغساسنة. وقد امتد نفوذهم إلى حوران والبلقاء، بعد أن اتخذوا مدينة جلّق، قرب الشام، عاصمة لهم.
وكان من أبرز أمراء الغساسنة الحارث بن جبلة الذي عيّنه الامبراطور الروماني جوستنيان سنة 529 ميلادية أميراً على جميع القبائل العربية في جهات سوريا، ومنحه لقب (فيلارك أو بطريرك)، وقد كان نصرانياً على مذهب اليعاقبة.
وظل حكم الغساسنة قائماً إلى أن غزا الفرس بلاد الروم، واستولوا على أورشليم (القدس) سنة 614 ميلادية، فانحط شأن الغساسنة. وكان آخر أمرائهم جبلة بن الأيهم الذي عاصر ظهور الإِسلام. وقد ذكر بعض المؤرخين أنه ذهب إلى المدينة والتقى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) ، فأكرم وفادته. ولكن حصل أن وطأ رجل فزاري، على غير قصد منه، إزار جبلة، فما كان من الأمير الغسانيّ إلاَّ أن لطمه على رأسه، فشكاه إلى الخليفة. وأراد الخليفة أن يحاكم جبلة على فعلته، فلما أيقن ذلك فرَّ إلى القسطنطينية وبقي فيها حتى آخر حياته.. هذا في حين أن رواية اليعقوبي تقول بأن جبلة بن الأيهم طلب من الخليفة عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) أن يأخذ منه صدقة أمواله كما يفعل مع المسلمين، إلاَّ أن الخليفة أصر عليه أن يدفع الجزية، لأنَّ الصدقة هي فرض على المسلم، فما كان من جبلة إلاَّ أن ارتحل مع ثلاثين ألفاً من أتباعه إلى بلاد الروم..
هذا وقد جاء في (تاريخ العرب قبل الإِسلام) أن النساطرة (من النصرانية) أقاموا في الحيرة وجوارها، بينما انتشر اليعاقبة بين الغساسنة وقبائل الشام، وكانت نجران مركزاً لهم.
وجاء في سبب دخول النصرانية إلى نجران أن رجلاً صالحاً من أتباع عيسى (عليه السلام) يدعى قيميون كان قد هاجر من بلاد الروم إلى نجران، واستقر فيها ثم بدأ بنشر تعاليم النصرانية فاتبعه الناس هناك، وما زال عددهم يزداد حتى غلبوا على أتباع الوثنية.
هذا وإن بعض الجاليات الرومية كانت قد حملت رقيقاً إلى مكة، وكانت على النصرانية.
يضاف إلى ذلك، كما رأينا، أن أعلام الأحناف، وهم من أهل مكة، قد نزعوا إلى النصرانية، أمثال ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، ولكنهم كانوا قلَّة، حتى ذكرتهم المصادر التاريخية بأسمائهم...
ولكن مع ذلك فإنه يتبيَّن أن النصرانية لم تتوسَّع في أنحاء كثيرة من شبه الجزيرة العربية، لأنها لم تتمكن أن تستميل قلوب أبنائها، بل بقيت في أطرافها من الجنوب أو الشمال، حيث سلطة الروم وقوتهم، وحيث كان العرب محكومين لهم أو مضطرين لمسايرتهم والتعاون معهم..
تلك هي المعتقدات الدينية التي عرفها بعض العرب في بلادهم التي عاشت الحرية بأجلى مظاهرها وأعمق معانيها، حتى بات العربي، في تلك الحقبة من تاريخه، يرفض أية فكرة تقيِّد حريَّته وتحدُّ من انطلاقته في صحراء شاسعة لا تعرف الأنظمة والقيود، ولا تقرّ بالقواعد ولا تعرف الضوابط... وإنه وإن كانت تلك النزعة قد تعمَّقت في نفس العربي، في جاهليته، إلى درجة جعلته يكره التسلُّط من أيّ مصدرٍ أتاه، فإنها أيضاً قد عطَّلَتْ مفاهيمه حول أهم القضايا الرئيسية التي واجهت العقل البشري منذ تفتُّحه على الوجود، كقضية البعث والحياة الآخرة والخلود والثواب والعقاب، وما إلى ذلك من القضايا التي لامست مشاعر الإِنسان. وقد جعل الشهرستاني العرب في نظرتهم إلى هذه القضايا على ثلاث فئات:
1 - الفئة الأولى : التي أنكرت الخلق والبعث والإِعادة فقالت: الدهر هو المُحْيِي والمُفْني، وفي أصحابها قال القرآن الكريم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجَاثيَة: 24].
2 - الفئة الثانية : التي أنكرت البعث والإِعادة، فأقرت بالخالق وابتداء الخلق والإِبداع، ولكنها أنكرت النشور، وفيها قال القرآن الكريم:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *} [يس: 78]. وأجاب القرآن في الآية المباركة التالية: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *} [يس: 79].
3 - الفئة الثالثة : التي كانت تُنكِر الرسُل، وقد عبدَت الأصنام مع إقرارها بالخالق العظيم، وهي التي زعمت أن تلك الأصنام هي صاحبة الشفاعة لها عند الله في الدار الآخرة.
وقد أوردَ القرآن الكريم آيات عديدة حول عبادة الأصنام، وسمَّى أهمها عند العرب بأسمائها كاللات والعزى ومناة وغيرها.
وحول انقسام العرب في المعتقد الديني فِرَقاً، يقول المسعودي: «كانت العرب في جاهليتها فِرقاً: منهم الموَحِّد المُقِرُّ بخالقِهِ، المصدق بالبعث والنشور، موقناً بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي، كقس بن ساعدة الإيادي، وبحيرا الراهب.
«ومنهم من أقرَّ بالخالق وأثبت حدوث العالم وأقرَّ بالبعث والإِعادة وأنكر الرسُل، وعكف على عبادة الأصنام.
«ومنهم من أقرَّ بالخالق، وكذَّبَ بالرسُل والبعث، ومال إلى قول أهل الدهر.
«ومنهم من مال إلى اليهودية والنصرانية، ومنهم المارُّ على عُنْجهِيَّتِه، الرّاكبُ لهمَجِيَّتِه. وقد كان صنف من العرب يعبدون الملائكة ويزعمون أنها بنات الله».
ويبدو أن أهم شُبهات العرب كانت تقتصر على شُبهَتَين اثنتين هما:
إنكارُ البعث، وإنكار الرسُل.
ولذلك فإن القرآن الكريم ركَّزَ على هاتين القضيَّتين، وبيَّنَ للناس بالأدلَّة العقلية أن هذا الإِنكار لا يستند إلى دليل بل هو مجرد قول، كما جاء - بما خصَّ إنكار البعث - في الآية الكريمة {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ *} [الأنعَام: 29].. أنّا نبعث.. والجواب على هذه الشبهة بالآية: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الجَاثيَة: 26].
وعن شبهة تكذيب الرسُل فقد تحدَّث القرآن الكريم في أماكن كثيرة نختصرها بقول الله عزَّ من قائل: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ *وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى} [الحَجّ: 42-44]. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ *وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ *وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ *} [ق: 12-14].
أمّا شعراؤهم فقد عبَّروا عن هذا الشَّك بالبعث والرسل، فقال أحدهم:
يُخبِّرُنا الرسولُ بأنْ سَنَحْيا
وكيفَ حياةُ أصداءٍ وهامِ؟
والأصداء والهام تتصل بتصورات العرب إذ يزعمون أنه إذا مات إنسانٌ أو قُتل تأخذ روحُه صورة طائر يظل يصرخ على قبره مستوحشاً. وفي ذلك يقول الشاعر ذاكراً أصحاب الفيل:
سلَّطَ الطَّيرَ والمَنُونَ عليهم
فَلَهَمْ في صَدَى المقابِرِ هامُ
والهام هو هذا الطائر، وواحدته الهامة[*]. وفي زعمهم أن الهامة تكون في أول الأمر صغيرة ثم تكبر حتى تصبح كالبوم. وفي زعمهم أيضاً أن الهامة تبقى عند ولد الميت مقيمة في ديارهم، لتعلم ما يكون بعده، فتخبره به. ويستدل على ذلك من قول الصلت بن أمية لبنيه:
هامي تخبِّرني بما تستشعرُ
فتجنَّبوا الشنعاء والمكروها
ومن بعض خرافاتهم أن روح القتيل الذي لم يدرك ثأره تصيرُ هامةً، تزعق عند قبره وهي تصيح:
اسقوني!.. اسقوني!.. فإذا أُخِذَ بثأره طارت.
وقد نهى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) عن الاعتقاد بهذه الأساطير واعتبرها خرافة، فلا صدى ولا هامة في دينه عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
ومما تجدر الإِشارة إليه هنا هو أن العرب في نهاية العصر الجاهلي قد سئموا تلك الوثنيات والخرافات، ولم تستطع اليهودية ولا النصرانية أن تخلصهم من هذا السأم، الذي وصل إلى درجة القلق والحيرة بحثاً عن عقيدة صحيحة يدينون بها...
ولذلك نجد في شعرهم - وما حفظ منه يشكل الدليل التاريخي على طرق حياتهم ومنهجية تفكيرهم، ومنه استقينا بعض ما أوردناه - ما يبين بصورة جليَّة أنهم وصلوا إلى حدِّ السخرية من آلهتهم، ومن معتقداتهم، ولذلك يقول الشاعر الكناني في سعد (صنم لبني كنانة):
أتيْنا إلى سَعْدٍ ليجمعَ شمْلَنا
فشَتَّتَنَا سعدٌ فلا نحنُ من سَعْدِ
وهل سعدُ إلاَّ صخرةٌ بِتَنُوفَةٍ [*]
من الأرض لا تدعو لغيٍّ ولا رشْدِ
وقال شاعر في ذي الخُلُّصة (صنم لدوس وخثعم وبجيلة وباهلة):
لو كُنتَ يا ذا الخلص المَوْتُورَا
مِثْلي وكان شَيْخُك المَقْبُورَا
لم تَنْهَ عن قَتْل العُداة زُورَا
والحادثة أن أبا هذا الشاعر قد قتل، فأراد الأخذ بثأره وأتى صنمه - ذا الخَلَصة أو الخُلُّصة - يستقسم عنده الأزلام فخرج السهم - مصادفة - ينهى عن الأخذ بالثأر، ولم يُعجبْ هذا الحُكمُ الشاعرَ فقال فيه أرجوزته تلك.
وهذا يظهر عدم اهتمام القبائل بالإِله الذي تعبده، وكأن الأمر قد أضحى عادة بالنسبة إليها أكثر من عبادة.. فهي تروح وتغدو إليه في المناسبات والأعياد للاحتفال، دون أن تكنَّ له أيَّ تقديس.. ولن نسهوَ أيضاً عن ذكر حادثة بني حنيفة، الذين كان لهم إله من تمرٍ عبدوه زمناً طويلاً، فلما أصابتهم المجاعة أكلوه. وقد قال شاعرٌ من بني تميم في ذلك ساخراً من حنيفة:
أكلتْ حنيفةُ رَبَّها
زَمَنَ التقحُّم[*] والمَجَاعةْ
لم يحذروا من ربّهِمْ
سوءَ العَواقِبِ والتَّبَاعَةْ [*]
وقد بلغ في حياة العرب الدينية، أن بعضهم أبَوا عبادة الأصنام، ولكنهم لم يُدركوا الطريق الذي يهديهم إلى الحق، ولم يعرفوا السبيل الذي يقودهم إلى الرشد، فتمنَّوا أن يبعث الله لهم نبيّاً، يدلّهم على طريق الهداية، وفي هذا يقول أمية بن أبي الصلت:
ألا نبيٌّ لنا منَّا فيُخبرُنا
ما بعد غايتِنا مِنْ رأسِ مَجْرانا
وقد عَلِمْنا لو أنَّ العلمَ ينفعُنا
أَنْ سوفَ تلحقُ أُولانا بأُخرانا
وقد عجبتُ وما بالموتِ من عجبٍ
ما بالُ أحيائنا يبكون موتانا
وقد قال النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في أميَّة: «كاد أمية يُسْلِم».
وخلاصة البحث في معتقدات العرب الدينية، أن تلك المعتقدات قامت على الوثنية وعبادة الأصنام مع الإقرار بحقيقة وجود الله؛ وقد اختلفت عادات العرب في عبادة الأوثان، وتفاوتت تقاليدهم في درجات تقديسها باختلاف المكانة التي كان لها في النفوس، والمهابة التي غُرست في العقول.
ولئن عرفتْ أرض العرب عقائد دينية غير الوثنية، كالصابئة، والحنيفية، والدهرية، وعرفت في الوقت نفسه اليهودية والنصرانية، إلاَّ أن أَيّاً من تلك المعتقدات الدينية لم يستطع أن ينزع من نفوس العرب التشبُّث بالوثنية، إذ لم تقدِّم لهم معتقداتهم الاقتناع في ما تطمئن إليه نفوسهم الحائرة، السارحة في أجواء الحرية، والمُوغلة في التفلُّت من كل قيدٍ أو نظام، إلا نظام القبيلة الذي يحميها في حومة الصراع من أجل البقاء.
لذلك، كانت أجواء شبه الجزيرة العربية مهيَّأة لاستقبال عقيدة دينية تتركَّز عليها حقائق الحياة، وتزيل كل صراع قد يواجه الإِنسان في حياته الدنيا، كما في حياته الآخرة.. إذْ كان الشعب العربي قد تأهب لإِقامة دولة، بعد أن تيقظ لوجوده وشعر بمكانته كما شعر بالخطر على كيانه وبمواقع النقص عنده.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢