نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الأول
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ١٥٦٨
تاريخ النشر : ٢٠٠٦

البحث الثاني: نقطةَ انطلاق الدَعوة
أهمية الاحتكاك الفكري
تلك كانت أهمَّ محاور التفكير بين أهل الكفر والشِّرك في طرف، وبين أهل الإيمان والتقوى في طرف آخر، وهي تتلخص بثلاثة: العقيدة، العلاقات الاقتصادية والحياة الاجتماعية. فأما الكفار، وعلى رأسهم الطواغيت في قريش، فقد ظهرت سفاهة عقيدتهم إلى جانب عاداتهم القبيحة، وأنماط حياتهم السيئة، وزادهم شناعةً وقوفُهم في وجه الدين الجديد، وإصرارُهم على التفكير ذاتِهِ، وهو القضاء على «محمد» قبل كل شيء. ومن ثمَّ إعلانها حرباً شعواء، مدمرة على أتباعه وأقاربه وحلفائه، حتى لا يبقى أحد يجرؤ على ذكْر الإسلام بخير..
وأما المسلمون فكانوا على خلاف ذلك تماماً. لقد اعتنقوا الإسلام عقيدة ونهجاً، فصار شُغلَهم الشاغل؛ أما مدار تفكيرهم فكان دعوة الناس للهدى والإيمان، وتغيير علاقات الحياة من حولهم.. حتى يمكنهم الانطلاق إلى أرجاء الجزيرة، ومن بعدها إلى بقاع بعيدة في الأرض فيسطع نورُ الإسلام، الذي هو وحدَهُ - بإذن الله - يخرج الناس من الظلمات إلى النور. ولذلك كانت الأفكار والتصورات متضاربة ومتناقضة إلى أبعد الحدود بين المسلمين وبين أعدائهم من الكفار والمشركين.
وتبرز المفارقات بين تلك الاتجاهات في اجتماعين متقابلين:
اجتماع يتحلّق فيه عددٌ من المسلمين حول نبيِّهم الهادي، بجوار الكعبة الشريفة، وهم على عقيدتهم ومفاهيمهم.. واجتماع آخر، غير بعيد عنهم، يجمع المشركين وهم على باطلهم ومؤامراتهم..
وتطلّع عمر بن الخطاب ناحية أولئك المشركين، فقال للنبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : ألسنا على حق إن مُتْنا أو حيينا يا رسول الله؟ فقال له (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : «بلى والله يا عمر. والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن متُّم أو حييتم».
لقد استشف رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) من سؤال عمر بن الخطاب أن المسلمين قد بلغوا المرحلة التي تجعلهم على كامل الاستعداد للقيام بعملٍ جديدٍ يُبرز مكانتَهم، ويُظهِرُ أحقيَّة دعوتهم. وهذا ما يفكّر به رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، ويخطط له منذ مدة، بعد أن بقيت الدعوة إلى الآن في إطارها الضيق المحدود، وعلى حالة أقرب إلى التروّي والحذر، بينما في الحقيقة يجب إظهارها نهجاً معبّراً يكون منطلقاً لدعوة عالمية أُنزلت من رب العالمين، لتثبت وجودَها المنظور في بلاد العرب، وتنطلق من ثمَّ إلى العالم كله، باعتبار أن الإسلام هو دين عالمي، لأنه للناس كافة ولأنَّه الدين القيم الذي يدعو إلى التوحيد، ويضرب كل أشكال الوثنية وهو ما من شأنه إعلاء الإيمان على الكفر، وتسويد العقل على الجهل، والعدل على الظلم.. وإن إظهار الدعوة جهراً، وعلى ملأ قريش وحلفائها، فيه الإعلان عن مدى تفاعل الدعوة في نفوس المسلمين، واستعدادهم للانطلاق بها من المحدودية المكانية التي فُرضت عليها قسراً مدى سنوات متواصلة، بعد أن صاروا - بحول الله العلي القدير - مؤهَّلين لحمل الرسالة من خلال التعليم الواعي، والثقافة المدركة، وغيرها من مفاهيم التربية والإعداد التي كان الرسول الحكيم يغرسها في نفوس المؤمنين الصافية منذ أن بزغ فجر الإسلام... ولو أقدم على هذه الخطوة الجريئة، فإن من شأن ذلك أن يؤدي إلى نقلةٍ نوعية يمكن أن تفصل في حياة الدعوة بين مرحلتين:
- مرحلة الإعداد والتلقي والتثقيف التي سبقت.
- ومرحلة التفاعل والبدء بالتغيير والبناء التي ستأتي..
وأهمية المرحلة الجديدة أن التغيير والبناء فيها سوف يكونان على أسس وطيدة وثابتة من الأفكار، والمشاعر والقيم الإسلامية التي تظل قائمة أبد الدهر، يتحرّاها الناس في منابعها الأصيلة من الكتاب والسنَّة، وينشدونها في روافدها وفروعها الأمينة من العلماء والفقهاء المجتهدين، فتكون المنارةَ الوضّاءة لهدايتهم، والبوصلة المرشدة لأمانهم..
أجل هذا ما كان الرسول الأعظم يُعِدُّه، ويخطط له..
ولذلك أمر (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) المسلمين، الذين كانوا معه عند الكعبة الشريفة، أن يتوزعوا في أنحاء مكة، لدعوة سائر إخوتهم إلى حضور اجتماع شامل، يعقده معهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم في المساء.
وفي هذا الاجتماع كان الرسول الأعظم محمد والمسلمين الأوائل يقفون وقفةٌ تاريخيةٌ في الإعداد لإعلان التوجّهات الجديدة الإسلامية التي سوف يكون شأنها عظيماً في حياة الناس...
فقد مرت سنوات عدة على مبعثه الكريم. وقد أنزل الله تعالى عليه من الآيات البيّنات ما يجعل الإسلام قادراً على الوقوف في وجه التيارات الفكرية التي تحكم العقول والقلوب، وتؤثر في حياة الناس كافة، لأنها تحملهم على التصديق بما جاءت به الرسالاتُ السماوية السابقة، حول الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، وألوهيته المطلقة، وربوبيته المطلقة، والفصل بين أحقيّة ما جاءت به تلك الرسالات وما أُدخل عليها من تحريفٍ، ودسٍّ، وتأويل، وافتراءٍ، وجميعها قد أدت إلى تزوير الأحكام الدينية والمقاصد الإنسانية التي حفلت بها الكتب السابقة، مما دفع بالناس إلى الانزلاق - بسبب ذلك التزوير - إلى تصورات ومعتقدات هي أبعدُ ما تكون عن أصلها وطبيعتها. أي أن من الأهداف المتوخاة التي كان رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يرسم أُطرَها، ويبني قواعدها، ويحدِّد اتجاهاتها، كان القضاءَ على سفه الوثنية والشِّرك، وإبطال الأفكار المنحرفة والخبيثة، وتصحيح التعاليم الدينية السائدة، وتصويب كل ما من شأنه معارضة حياة الإنسان في صحتها وسلامتها، ومن ثمَّ العمل على جعلها حياةً معافاة من الأمراض والشوائب والعيوب التي تمسُّها في الجوهر والشكل..
وقد اعتمد الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لإيصال تلك المفاهيم إلى المجتمع المكي أولاً، ومن ثَمَّ إلى الناس كافة، الظهورَ الجماعي للمسلمين كخطوة أولى.. على أن تتبعها الخطوات، والخطط الأخرى التي توفِّر الاحتكاك الفكري بين عقيدة الإسلام الجديدة بأفكارها النيّرة الحقة، وبين غيرها من المعتقدات التي لم تحمل للناس إلاَّ جفاءً عن الدين الحق، أو جاهليةً خرقاء رعناء، لا أساس لها ولا برهان، اللهمَّ إلاَّ التعصّب الديني الأعمى، والعصبية المتحكمة في العقول والقلوب، وإقامة أنظمة اجتماعية مهترئة همُّها أن يكون الوزن الأكبر للفوارق الاجتماعية، وللتمايز والاختلاف الطبقي، وتثبيت دعائم الجهل والفسق والفساد!.
إذن فالهدف الأول والأشمل كان عند رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) إحلال الإسلام بديلاً عن كل ما سبقَهُ ليكون: عقيدة، وفكراً، ومنهج حياة للناس.. حتى يمكن على أساس ذلك كله، البدءُ ببناء المجتمع الإسلامي الجديد، الذي يكون تطبيقاً حيّاً للحكم بما أنزل الله.
والواقع أن المجتمع في المفهوم الإسلامي لا يعدو كونَهُ مجموعة من الناس، وما يوحِّد بينهم من أفكار ومشاعر وأنظمة، يتوافقون عليها من أجل المصلحة العامة، والنفع العام، والخير العام لجميع أبناء هذا المجتمع.. وليس من أجل مصالح فردية وعلاقات مجتمعية ضيقة، يكون إطارُها الغاياتِ الشخصيةَ المحصورة، ومحورُها المنفعةَ الفردية الهدامة - في أحيان كثيرة - لأن من شأن العلاقات والغايات التي تخالف السلوك الإنساني السليم، أن تبعده عن مفاهيمه الإنسانية المحْضة، حتى إذا خرج على رباطه الإنساني والديني الصحيح تعلقت به المفاهيم الفاسدة القائمة فقيّدته، وبعدت به عن التغيير الذي يُطلب من أبناء المجتمع كلما دعتهم الحياة بحركتها الدائمة، إلى تغيير جذري في المعتقدات والأفكار والمشاعر، وفي أنماط العيش ووسائلها، وأنظمة الحكم وأساليبها.
أجل، إنَّ الهدف من الخروج الجماعي للمسلمين هو إحداث هذا التغيير الذي سوف يؤدي إلى انقلابٍ شاملٍ في المجتمع المكي المحدود، ومن ثمَّ في المجتمعات البشرية الأخرى، وذلك من خلال مرحلتين يمرُّ بهما:
- مرحلة تغيير طريقة التفكير حتى يتغير ما في النفوس..
- ومرحلة تغيير الواقع عندما يكون هذا الواقع سيِّئاً..
ولا بُدَّ من أن يأخذ التغيير في المرحلة الأولى المدة الزمنية الكافية حتى يمكن الانتقال بعده إلى مرحلة التغيير الثاني الذي يمسي تحقيقه أسهل، باعتبار أن تغيير ما في النفوس قد يكون أصعبَ المهمات التي تواجه دعاة الإصلاح في كل زمان ومكان.
الأسس التي يقوم عليها انطلاق الدعوة
وليس هذا التغيير - في مرحلتيه الفكرية والواقعية - إلاَّ تغييراً للأسس غير السويّة التي بنى الناسُ حياتهم عليها لكي يحل محلَّها - جميعاً - الأساسُ المقطوع بصحته وصِدْقه، ويكون بدوره المقياس لجميع المقاييس، والمفهوم الأساسي لجميع المفاهيم، والقناعة الأساسية لجميع القناعات.. وبه تتغيَّر القيم كلها: قيم الأشياء، وقيم الأفكار، وقيم الأساليب والوسائل، وقيم الروابط والعلاقات... وبمثل هذا التغيير الذي يقوم على الاحتكاك بين الأفكار وتصارعها مع بعضها بعضاً - حتى يسود فيها الصحيح السليم، ويسقط الغثُّ المَهين - لا يمكن إلاَّ اعتمادُ طريقة واضحة وسليمة. وهذه الطريقة قد وُجدت، وما تزال موجودة لدى المسلمين، وعناصرها معروفة عندهم، فهي تقوم:
- على تصورهم الهدف الذي يريدون، وهدفهم الأول والأخير إعلاء كلمة الله - تعالى - وجعلها هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
- وعلى المنهج الذي يوصلهم إلى هذا الهدف، وهو الحكْم بما أنزل الله تعالى في قرآنه الكريم، وبما سنَّهُ الرسول العظيم بوحي من الله العلي الحكيم، في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} [المَائدة: 45].
- وعلى معرفة المجتمع، معرفة تامة، حتى يمكنَ هدمُ ما يجب هدمه، وبناء ما يجب بناؤه، لأنه في الأصل لا هدم بلا بناء، وإلاَّ كان الهدم من أجل الهدم فقط، في حين أن الإِسلام جاء للبناء، ولذلك وجب هدم ما يتعارض وهذا البناء الجديد.. أي بناء المجتمع الإسلامي، بل والمجتمع الإنساني، على قواعد العدل والمساواة، والأمن والسلام، وغيرها من القيم التي تحقق إنسانية الإنسان في علاقاته الشخصية، والمجتمعية، وفي تعامله مع العالم بأسره..
وإن هذه التصورات والمفاهيم الإسلامية التي يحملها الدعاة الإسلاميون، هي التي تجعل كلًّا منهم يتميّز عن غيره بالصفات والمزايا التي تظهره:
- عارفاً لأمَّته.
- مُطَّلِعاً على خفاياها..
- خبيراً بطرق توجيهها.
- يعرف كيف يخاطبها وكيف يكون موضع تقديرها واحترامها، حتى يمكنَه امتلاكُ الزمام.. ولا يكون ذلك للداعية إلاَّ إذا كان مثالاً يُقتدى به في سيرته الحميدة قولاً وفعلاً...
وإن انطلاق المسلمين، على هذه الأسس الواضحة، هو الذي يمكّن لرسالتهم، وهي رسالة فكرية انقلابية شاملة، أن تجتثَّ جذور الفساد القائم، وأن تمحوَ الظلم والاستعباد والاستغلال، لتُرسي قواعدَ الإِيمان الحق بالله تعالى، وتنظِّم المجتمعات البشرية، وفق ما يتناسب مع تطلعاتها نحو الأفضل والأحسن.
وكذلك كان الهدف - بل الأهداف القريبة والبعيدة - من عزم الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) على الظهور العلني، بعد حقبة دامت سنوات عدةً من سير الدعوة في تخفّيها - بادىء الأمر - ومن ثمَّ دبيبها الحذر، ونشاطها المحدود.. ولقد أرادَ الرسول الأعظم أن يكونَ هذا الظهور بدءَ الانطلاق بالدعوة، على أساس تلك الأفكار الإِسلامية الصحيحة، وعلى المنهج والقواعد القويمة والثابتة. فجمعَ المسلمين وأبان لهم الطريقة التي اعتمدها، والمنهج الذي رسمه للمرحلة المقبلة والمنظورة من عملهم الدائم، الذي لا انقطاع له، لا سيما أن آيات الله - تتْرى[*] في التنزيل، والتعليم الرباني يتزامن مع التنزيل الحكيم...
وكان الليل في هزيعه الأخير، عندما خرج المسلمون من دارتهم العامة في بيت الأرقم ليعودَ الرسولُ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) إلى دارته، فيقوم الليلَ ساهراً، مصلِّياً، متهجِّداً، تالياً القرآن، وهو راضي النفس، عما اعتزم من العمل الذي لا يمكن من دونه للدعوة أن تنطلق، لاسيما أنه في اجتماعهم قد أعاد على أذهان الصحابة الأبرار وعلى مدار ساعات طويلة، كلَّ ما ينير سبلهم، ويسدِّد خطاهم، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم.. وهو، على كل حال، ما وجَدَ إلاَّ دعاةً صادقين، وقادرين على إظهار أمْر الله تعالى.. فقد توطَّد الفكر الإِسلامي في نفوسهم، حتى غدا هذا الفكر قوةً منيعةً، قابلةً للتطبيق في معترك الحياة، وصارت لديهم القوةُ على نشر الدعوة، والاستعداد للتضحية في سبيلها.. وهذه الحقائق بالذات كانت هي السببَ الذي دفع الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لتغيير مسار الدعوة وأسلوبها بعدم الاستمرار في الوضع الراهن، وعدم البقاء على التكتل شبه السري. فقد بات واضحاً أنَّ الدعوة قد اجتازت مرحلة الإِعداد، وآن لها أن تنطلق، لأن نقطة الانطلاق ما هي في الحقيقة إلا بدايةٌ لمرحلة الكفاح الفكري، والتفاعل الحضاري.
أما الصبر على الأذى، فهو من مقومات هذا الانطلاق بعدما ذاق المسلمون من ألوانه الكثير، بل وصل إلى درجة، دفعت عبد الرحمن بن عوف أن يأتي النبيَّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، ومعه بعض رفاقه، يستأذنونه باستعمال السلاح قائلين: يا نبيَّ الله، كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنَّا صرنا أذلة؟! فمنعهم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بقوله: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم»[*]..
خروج المسلمين تعبيراً عن انطلاق الدعوة
لقد عادَ رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، بعد الليل الطويل الذي هيَّأَ فيه الصحابةَ نفسياً للخروج تعبيراً عن انطلاق الدعوة، إلى معاودة الاجتماع بهم، في صبيحة اليوم التالي، في دار الأرقم بن أبي الأرقم - دار العلم والإعداد والاستعداد - وعرض عليهم مرةً ثانية طريقتَه في الخروج، فهبّوا جميعاً يلبّون النداء بأعلى همّة، وأشدّ عزم.
إنهم كانوا يتوقون إلى هذا اليوم الذي يخرجون فيه مسلمين، ويمشون بين الناس مسلمين لا حذرين، ولا وجِلين... وإنهم كانوا ينشدون هذا الوقت الذي يظهرون فيه مسلمين غير عابئين بصلف قريش، ولا هيّابين عنتَ جهلها.. فقد كفى المشركون استعلاءً عليهم، وهم يعلمون بأمر النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) منذ أول يوم نزل فيه الوحي على قلبه الشريف. كما كانوا يعرفون منذ البداية، وهم يعيشون في بلدٍ مثل بلدهم مكة - حيث أواصر القربى على أشدّها بين أكثر من قبيل، وحيث العلاقات المجتمعية، والصلات الشخصية تتفاعل على أكثر من صعيد - بأنَّ ما بُعث به محمدٌ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) هو أمرٌ إلهي، واختيار ربّاني لا شأن به لأحدٍ غير الله سبحانه وتعالى، وأنَّ ما يدعو الناس إليه لم يكن لطمع دنيوي، ولا لغاية شخصية به، بل جاء يدعو إلى دين الله الواحد الأحد، دين الحق والهداية، فآمن به أناسٌ من سادةٍ وأشراف، ومن فقراء ومساكين، وأحرارٍ وعبيدٍ، وساروا معه على النهج القويم الذي يزوّدهم كل يوم بجديد تتفتّح عليه عقولهم، وتطمئن إليه قلوبهم.. لقد كان المشركون يعرفون ذلك، بل ويعلمون تمام العلم أن محمد بن عبد اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) كان الهادي، والمعلِّم، والمربّي والمرشد لأصحابه يحرص على حياتهم، ويسهر على شؤونهم، وينمّي روح الأخوة والإلفة فيهم، ويشدّد على أواصر الوحدة والتماسك فيما بينهم حتى صاروا كتلة متراصة..
أجل! كان المشركون يدركون كل هذه الأمور.. ولكن بدل أن تجذبهم تلك الروحُ الإسلامية التي كانت وراء ما وصلت إليه حال المسلمين، نجدهم يشهرون، ومنذ البدء، العداوةَ السافرة للإسلام، ويمارسون على النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وصحابته مختلف أنواع الضغوط، وشتى ألوان الأذى حتى أذاقوهم الأمرّيْن.. بينما كان دأب المسلمين - بالمقابل - العملَ على تحاشيهم، وتجنب الاحتكاك بهم.. أما الآن وقد أمَرَهم لنبيُّهم الأكرم بخلع ثوب المجانبة والمداراة، فهل يبقون ساكنين مقهورين؟!
وهل يقبلون بأن يظل شرُّ قريش مستطيراً، بينما خير الإِسلام مستكين؟.
لا والله لن يكون ذلك، وفي نفوسهم حميّة الإِسلام الصادقة.. وفي قلوبهم الإِيمان بالله العلي العظيم!.. إذن فلا شيء يمنعهم من الظهور.
وأزفت الساعة، ووقفت مكة كلها تشهد نقطة تحوُّل جديد في التاريخ.
فقد انتظم المسلمون من أمام دار الأرقم بن أبي الأرقم في صفين:
على رأس الصف الأول حمزة بن عبد المطلب.
وعلى رأس الصف الثاني عمر بن الخطاب.
وأمام الجميع آية الله تتهادى في شخص رسوله محمد بن عبد الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) .
لقد خرجوا في هذا التنظيم الدقيق الذي لم تعهدْه قريش من قبل، متوجهين نحو الكعبة المباركة، ليطوفوا على أعين الملأ من المشركين، وليصلّوا، على رؤوس الأشهاد، جماعة واحدةً مؤتمَّةً بنبيّها الكريم. والمشركون واقفون يرقبون ما يجري تحت سمعهم وبصرهم، وهم لا يكادون يصدِّقون ما يرون ويشهدون.. فقد أثَّر فيهم هذا الخروج فأدهشهم، وجعلهم يشعرون وكأن الأرض تميد بهم، فلم يفعلوا شيئاً، بل ظلوا في مواقعهم واجمين، دونما أدنى إشارة إلى تفرقة المسلمين، أو أقلّ تحرُّكٍ لمنعهم ممّا هُم عليه.
ولكن سرعان ما تبدَّل هذا الموقف بشكل مفاجىء، وحصلت ردة الفعل بصورة سريعة وفورية، عندما انتهى المسلمون من صلاتهم عند الكعبة أعزَّها الله، وعادوا ينتظمون - كما جاؤوا - للعودة إلى دارتهم العامة.. في هذه الأثناء تنادى القرشيون - وكأنما صحوا من غفلتهم - يحضّون على جمْع الحجارة، واجتلاب الأشواك، ليندفعوا من ثمَّ في هجمةٍ عامة، وشغب عارم، ولا همَّ لهم إلاَّ أن يقذفوا المسلمين بالحجارة، ويحثوا[*] التراب والرمال على رؤوسهم، ويتواثبوا على رميهم بمواعين النفايات والأقذار، وضرْبهم بالعصي وحزمات الشوك، حتى وصَلَ بهم الهيجان إلى ذروته ووقع ما وقع - من جراء تلك الهجمة العاتية - على المسلمين، إلاَّ أنهم - بفضل الله - لم ينهزموا أمام ما يتعرضون له، وما يصيبهم، بل ظلوا على تماسكهم، وأنظارهم مشدودة إلى رسول الله لئلا يصيبه أذى أو ضرر، وكل واحد منهم يريد أن يحميَه بمهجته، لأنه أشرف وأجلّ من أن تمسَّه يد مشرك، أو أن يطاوله حقد حاقد...
ولم يكن الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بأقل من الصحابة قلقاً على سلامتهم، فكانت أوامره تقضي بعدم المقاومة، والمحافظة على تماسكهم، وعلى استقامة الصف، كي يتحاشوا ما أمكنهم الإيذاء، وكي لا تزداد الإصابات التي وقعت بينهم، وأدت إلى جرح العديد منهم.. وعمل المسلمون بأوامر رسولهم العزيز على قلوبهم، فأسرعوا يستحثون خطى العودة، بعد أن أمكن لهم تحقيق الغاية التي أرادوها.. فقد خرجوا بدعوتهم مؤمنين، صادقين وكانت انطلاقة الدعوة المباركة...
وإنها، والحق يقال، كانت انطلاقة ميمونة، وناجحة كما خطَّط لها رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لكي تستمرَّ بنجاحها حتى يُتم لله - تعالى - أمرَهُ، ويُظهر دينَهُ ولو كره المشركون.
ويكفي تلك الانطلاقة نجاحاً - حتى ذلك الحين - أن الحق والباطل قد تقابلا وجهاً لوجه، بشكل جماعي.. ولأول مرة منذ مبعث الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، فالحق - ههنا - في صفّ الإيمان وأصحابه، والباطل هنالك في جموع الشِّرك وأعوانه.
وعاد المسلمون إلى دارتهم العامة راضين، مستكينين، فقد أمرهم النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ألاَّ يتفرق جمعُهم في ساعةٍ قد تغتنمها قريش فرصةً سانحة، فتثب عليهم، آحاداً وجماعات، في وثبةٍ رعناء لا يعرف مداها إلا الله تعالى، ولا تكون نتائجها إلاَّ توقُّف الانطلاقة، وتقهقر الدعوة ولو بصورة آنية.. أما إن بقُوا في دارتهم، ولو لبضع ساعات من الوقت، فقد يجنِّبهم ذلك كثيراً من المزالق والمخاطر، ولن يكون بمقدور قريش مهاجمتهم في عقر دارهم، لأنها تعرف أنهم كلهم فتيان أشدّاء، ومستعدون للقتال والتضحية في سبيل دعوتهم.. هذا فضلاً عن عدم إقدام قريش على تصرّفٍ طائشٍ من هذا القبيل، لأن من شأنه أن يوقع المواجهة العامة، والاقتتال بين عشائر مكة وبطون قبائلها كافة، بعدما دخل - بفضل الله ورحمته - أبناءٌ منها في الإسلام..
أجل كان التفكير الهادىء والرصين سيدَ الموقف. ولكن لا بدَّ من الحذر والحيطة، فوقف عددٌ من الشباب الأشاوس، ذوي العزيمة والبطش، وهم يمتشقون السيوف، ويلبسون الدروع، ليكونوا على أهبة الاستعداد لحماية الدار ومن فيها، والذود عنها حتى الموت.
وصدق ظن المسلمين، فلم تقدم قريش، في ذاك اليوم، على فعل طائش، لأن زعماءَها، وقد نفثوا بعضَ ما في صدورهم من أحقاد، آثروا الانصراف، على الرغم مما كان يتآكل نفوسهم من الحسرة وما يتفاعل في قلوبهم من الحنق. أجل، لقد ذهبَ المشركون، وفي نفس كل واحدٍ غصّةٌ تجعله يفكر فيما يجب على قريش أن تفعل، حتى تضعَ حداً لهذه المسرحية التي تجري على أرض مكة، والتي - على ما يبدو - سوف تستمر إن لم يتمَّ وقْفها عاجلاً!.. ولكن هل تقدر قريش على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والدعوة قد انطلقت؟!، والأفكار الإسلامية لا بدَّ من أن تلاقيَ مَن يؤمن بأحقيتها، ويعتنق المبدأ العظيم الذي تنبثق عنه؟.
إسلام سيد قبيلة بني دوس
واتجهت أنظار قريش إلى القبائل، فراحت تقف بالمرصاد لكل من يأتي مكة، فرادى أو جماعاتٍ لمنعهم من الاتصال بـ«محمد».. إلا أن ذلك لم يثن العزيمةَ في نفوس الرجال الشُمِّ عن المجيء، خصيصاً، للقاء هذا النبي الذي يدعو للإسلام، والاستماع إليه، كما فعل الطفيل بن عمرو الدوسي، سيد قبيلة بني دوس، الذي جاء إلى مكة لهذا الغرض، فيلاقيه بعض المشركين، ويحذِّرونه من الاجتماع إلى «محمد»، لأن قوله كالسحر، يفرّق بين المرء وأهله، ويحول بين المرء ونفْسه... وإنهم يخشون على سيد بني دوس وشيخها الجليل، من الوقوع بين يدي ذلك الساحر، فيصيبه من الأذى ما قد يصيبه، بل وتحلُّ بقومه الفرقة، كما حلَّت بقريش، بسبب فعاله!..
ومن جرّاء تلك الأكاذيب عزف الطفيل عن لقاء رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، فذهب إلى الكعبة ليطوف قبل أن يعود إلى دياره. ويشاء العزيز الحكيم أن يكون الرسول في تلك الساعة قائماً على صلاته في ذلك الجوار المبارك، فيسمع الطفيل منه تلاوة وأدعية تنفذ إلى شغافِ قلبه، فيقسم أن يعرف صاحب هذه التلاوة بقوله: «والله لأستعلمنَّ مَن يكون».
فلما سأل عنه، وعرف أنه «محمد بن عبد الله»، الذي حذرته منه قريش، أخذ يلوم نفسه على تسرّعه في إطاعة من جاء ينهاه عن التقائه، وهو يقول:
»واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح. فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل، ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلتُهُ، وإن كان قبيحاً تركته»[*].
ومكث الطفيل حتى غادر الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) فقام يتبعه، إلى أن دخل بيته، فاستأذن بالدخول، وجلس إليه يخبره بأمره، وهو يقول:
- لقد ذاع صيتك يا محمد، فَشَدَّني إليك... ولكنَّ قومك لاقوني، وما زالوا بي، حتى عزمتُ ألاَّ ألقاك ولا أكلِّمك.. وقد غدوتُ إلى الكعبة لأطوف، ثم أرتحل عائداً إلى دياري. ولكنني حين رأيتك في صلاتك، وسألتُ فعرفتك، لم تطاوعني نفسي إلا أن أَصغي إليك. والحقُّ يقال، لقد سمعتُ منك قولاً حسناً، «فاعرض عليَّ أمْرَك».
واستبشر النبيُّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بالرجل خيراً، فأقبل عليه، كعادته في إسماع الناس دعوة الحق والإيمان وهو يتلو عليه من القرآن الكريم ما يجعل الرجل يخشع.. ثم يعود فيبيّن له من معاني الآيات ما يجعله يوقن أمراً عدلاً، وحقاً مبيناً.. فكانت جلسةً مباركةً، أمكن خلالها للرجل اللبيب - كما قال عن نفسه - أن يستوعب ويعي كل ما يسمع ويرى من رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، فأعلن - بين يدي رسول الله - إسلامه بشهادة التوحيد «أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسولُ الله»..
وبقي الطفيل في ضيافة الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يومين آخرين، يتابعه في كل ما يفعل، وما يقول، حتى إذا أنِس من نفسه القدرة على حمل الدعوة قال للرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) :
- يا نبيَّ الله!.. إن أمري مطاع في قومي، وإني راجع إليهم أدعوهم إلى الإِسلام، فعسى الله أن يسدِّد خطاي في هذا الأمر الجلل..
وعاد الطفيل إلى دياره راضياً بإسلامهِ، سعيداً بلقائه رسولَ الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) .. وأراد أن يبدأ الدعوة بأهل بيته، فجلس إلى أبيه، وكان شيخاً كبيراً، يسامره، ويحنو عليه بما يفيض من حنانه المألوف، إلى أن قال له: قد تعلم يا أبتاه مدى محبتي لك، وكيانك في نفسي، ولكن أجدُني الآن وكأني لست منك ولست مني!...
وأخذ العجبُ من هذا الشيخ مبلَغَهُ، فقال لولده:
هاتِ يا بنيَّ وأخبرْني..
فقال له الطفيل: لقد هداني الله إلى الإسلام يا أبي، وتابعتُ هذا الدينَ الذي يدعو إليه محمد بن عبد الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في مكة..
قال أبو الطفيل: أي بُنيّ، فدينك ديني؛ وما أحببت إنْ أظلّتني السماء ولست بقربي.. ولكنْ ألا تخبرني على أيَّة ملَّةٍ هذا الدين؟..
قال الطفيل: إنَّه على ملّة أبينا إبراهيم..
قال أبوه: إذن حدِّثني عنه..
قال الطفيل: عفواً يا أبتاه إن لم أفعل ما ترغب حتى تغتسلَ وتطهّرَ ثيابَك.
قال الأب: ولِمَ هذا الأمر يا بُنيّ؟
قال الطفيل: وهل من عيب أن يبدأ الإنسان بطهارة الجسد لتكون مدخلاً لطُهر النفس الذي من شأنه أن ينزع من أعماقه الأفكار الفاسدة، المترسبة بما يجعله يهجر الرِّجزَ ويرفع من شأنه عند خالقه وعباده؟
قال الأب: لئن كان دينٌ يدعو إلى مثل هذا الطُّهر، فعليَّ حقاً أن أتعلَّمه..
.. ولم يلبث أن قام، فاغتسل ولبس ثوباً نظيفاً - كما قال له ولده - ثم عاد إليه، يتبيَّن منه حقيقة الدين الذي آمن به.. وما زال معه، حتى أعلن «أبو الطفيل» إسلامه، راضياً قانعاً.
وكان للطفيل مع زوجته الموقف نفسه الذي اتخذه مع أبيه، إذ أبى عليها أن تقْربَه وهو يعلن لها بأنها ليست منه، وليس هو منها، إن لم تكن على دينه، لأنه دين الحق والهداية. فقالت له امرأته:
- وهل كنتُ يوماً إلاَّ على دينك، فقل لي ما أفعل؟
قال الطفيل: أول ما عليك أن تبرئي من ذي الشرى (الصنم الأخرق الذي كانت تعبده دوس) وهذا تطهير لنفسك، ثم تتطهرين في جسدك، وثوبك بالغسل والنظافة فألقِّنك التعاليمَ التي تسمو بها النفس الإِنسانية عن الوثنية، ويكون لك بعدها أن تهتدي..
وفعلت الزوجة المخلصة ما أمرها به الزوج المؤمن، ثم عادت وملء نفسها الَّلهفةُ للاستماع إليه.. وظلَّت بقربه، تسمع منه، وتؤمن بما يقول، حتى أعلنت النطق بالشهادتين العظيمتين...
وبعد أن اطمأن الطفيل إلى إيمان أهل بيته، كان عليه أن يدعوَ أبناء قبيلته إلى الإِسلام وأن يعلّمهم المفاهيم الإسلامية التي علَّمَهُ إياها رسول الله، إلاَّ أنهم لم يستجيبوا.. ذلك أن قبيلة دوس كانت غارقةً في أشدّ العادات الجاهلية قبحاً، فلا ترى في الزنا فاحشة، ولا في الرِّبا عيباً، ولا في وأد البنات محرَّماً، بل هي أمور مألوفة اعتادات عليها، مَثَلُها في مجتمعها الضيق، كمثل سائر القبائل الأخرى في الجزيرة العربية، التي تحكمت فيها العادات والتقاليد المتوارثة، حتى عاشت لها وعليها، ولذلك لم يكن غريباً أن ترفض دعوة الإسلام - في بادىء الأمر - وهي ترى فيها تغييراً جذرياً للقواعد السلوكية في المجتمع الدوسي.
وآلم الطفيلَ إعراضُ بني قبيلته عما يدعوهم إليه، فعاشَ لياليَ طويلة في الأرق والهمّ، حتى رأى أخيراً أن يذهب لرؤية رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، فيكونَ له خيرَ ناصح، وموجِّه.
وبالفعل، قصد الطفيل مكة، وجاء رسولَ الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) شاكياً، فلم يجد إلاّ صدراً رحباً يتلقَّى عنه همومَه، ونفساً راضية تخفِّف عنه معاناته، وهو (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في ذلك يطيّب خاطره ويرشده إلى السبُّل التي يعالج بها شأن بني قومه بحيث يأخذهم بالرفق والمودة ويجادلهم بالتي هي أحسن، إلاَّ الذين ظلموا منهم، وهم أهل العنت والضلال، الذين يقفون بالمرصاد لدعوات الإصلاح والتغيير..
وعادَ الطفيل إلى بني قومه، يدعوهم بمثل ما أمره لنبيُّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، فاستجاب له مع الوقت عدد كبير منهم، كانوا يأخذون على أنفسهم العملَ بجانبه، والسعي معه لهداية الآخرين، حتى يقضي الله أمراً كان مقدوراً..
ولم تتوقف سيرة الطفيل عند حدود الدعوة في بني قومه، بل امتدَّ جهاده لسنوات طويلة.. ذلك أنه بعد الهجرة، وفي حصار خيبر بالذات، جاء مع جماعة من بني قومه يناصرون إخوانهم المسلمين في ذلك الحصار إلى أن أتم الله - عز وجل - عليهم الفتح، فمنذ ذلك الحين والطفيل بجانب رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لا يفارقه، ولا يتأخر عن أية مهمة ينتدبه إليها؛ فلما كان فتْح مكة، طلب إلى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أن يبعثَه إلى «ذي الكفّين» صنم عمرو بن حُمَمَه حتى يحرقَه، فخرج إليه وجعل يُضرم النار فيه: وهو يقول:
يا ذا الكفَّيْنِ لستُ من عُبّادِكا
ميلادُنا أقدمُ من ميلادكا
إني حشوتُ النار في فؤادكا
وشارك المسلمين هو وقبيلته في محاصرة الطائف.
ويظل الطفيل على صحبته لرسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) حتى ينتقل (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) إلى الرفيق الأعلى. فهو يواصل جهادَه، ويخرج مع المسلمين، يوم أن ارتدَّت الأعراب عن الدين ويسير في الأفواج لملاقاة المرتدين، حتى يفرغوا من طليحة، ومن أرض نجد كلها، فيذهب إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو فيرى في الطريق رؤيا تأخذ بمجامع فؤاده، فيطلب إلى أصحابه أن يعبّروها[*] له وهو يقول لهم:
»رأيت أنَّ رأسي حُلقَ، وأنه خرج طائرٌ من فمي، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في مخدعها.. وأرى ابني يطلبني حثيثاً، ثم رأيته حُبس عنِّي»[*].
قالوا: والله لا ندري ما تأويلها، وعسى أن يكون خيراً..
وفي الطريق، عاد الطفيل يقول لأصحابه: أما والله فقد عُبِّرتْ لي..
قالوا: كيف؟!.
قال: أما حلق رأسي فوضْعه (توسّدُه)، وأما الطائر، الذي خرج من فمي، فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني مخدعَها، فالأرض تُحفَر لي فأُغيَّبُ فيها. وأما طلب ابني إيّايَ ثم حبْسه عني، فإني أراه سيجهد في أن يصيبه ما أصابني..
ولقد صدق حدسُ الطفيل الدوسي، فإنه لم يلبث طويلاً في اليمامة حتى قتل شهيداً، وجُرح ابنه عمرو جُرْحاً شديداً ولكنه أبلَّ منه وتعافى.. وظلَّ في الجهاد قائماً حتى قُتل هو الآخر شهيداً عام اليرموك في زمن عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) فكان كأبيه، مثال الوفاء والإِخلاص للإِسلام. وقد أنعم الله تعالى عليهما بالشهادة في سبيل دينه القيم، فهنيئاً لهما ذلك المصير المخلّد!.
على أنَّ أهم ما يتميّز به إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي ليس ما حفِلت به حياتُه من جهاد فحسب، بل ولِما كان لإسلامه ومن تابعه من أبناء قومه، من تعبير عن خروج الدعوة الإسلامية من حدود مكة، وانطلاقها في أرض الجزيرة، ولما كان لهذا الانطلاق من تأثيرات جعلت الأَخبار عن الدعوة تتعدى بلاد العرب، فعرفت به الحبشة، كما عرفت به فارس والروم وحيثما كان يقصد التجار من جزيرة العرب، وهم يحملون أنباء الدعوة إلى البعيد..
إسلام وفد نجران
ومن جراء تناقُل تلك الأخبار علم أهلُ نجران ببعث النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)، وكانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، فانتدبوا عشرين رجلاً ليذهبوا إلى مكة، ويقفوا على خبر هذه الدعوة إلى دينٍ جديدٍ غير النصرانية..
وبالفعل قدمَ وفد نصارى نجران والتقَى النبيَّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، فكان يُمناً عليهم.. إذ دارَ الحوار - حسب التقدير - حول كافة المسائل الهامة، التي كانت - ولا شكَّ - تتعلق بالوحدانية، والعقيدة، والسلوك الإِنساني، وغيرها من القيم الفكرية التي تعالج وجود الإِنسان في حياته على الأرض، وبعثه بعد الموت، وتلاقي الرسالات السماوية التي تعاقبت منذ أبينا آدم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، حتى الرسالة الأخيرة التي يحملها محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ويدعو الناس إليها. وجميعها لا تختلف في جوهرها، ولا تتنازع في حقيقتها، ما دامت تستقي من ذات المصدر العلوي الواحد..
نعم حاوَر وفدُ نجران - وهم أهل كتاب وعلى علم ومعرفة بالتوراة والإِنجيل - النبيَّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في جوهر العقيدة وما ينبثق عنها.. فأبان لهم حقيقة تعاليم الإِسلام، وصِدقَ ما ينطق به القرآن من قول العزيز الرحمن، فكانت عيونهم - وهم يستمعون - تفيض بالدمع، ونفوسهم تمتلىء بالاطمئنان مما عرفوا من حلاوة الإيمان، فاستجابوا له بقلوبٍ طاهرة، وعفوية صادقة قلَّ نظيرها {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المَائدة: 83].
لقد آمن أهل نجران، وصَدَقوا بما عاهدوا الله ورسوله عليه. فأذهل إسلامُهُم زعماءَ قريش، فتنَادَوْا يتربَّصون بهم، ويحاولون محاصرتهم في أزقة مكة، والتصدي لهم. وقد تقدم أبو جهل، على رأس تلك الطغمة الكافرة التي ترافقه، وهو يعترض على إسلامهم قائلاً: «خيَّبكم الله من ركْب!. بعثَكم مَن وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدَّقتموه بما قال»[*].
فما كان جواب النجرانيين إلاَّ أن قالوا: «سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نألُ أنفسنا خيراً» (أي لم نرِد لأنفسنا إلا خيراً)[*]؛ وفعلاً كان إسلامهم خيراً لهم، لأنهم نصارى، من أهل الإنجيل، فهم مسلمون لله رب العالمين، وما إيمانهم بالإسلام الذي يهدي إليه محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) إلاَّ توكيد لما ورد في الإنجيل، وتثبيت لعهد الله إلى أهل الكتاب بأن يتبعوا هذا النبي الرسول الذي يجدونه مكتوباً عندهم.. ثم إن إسلامهم توكيد للدين الذي ارتضاه الله لعباده، منذ آدم (عليه السلام)، وإلى قيام الساعة...
وهكذا كانت أصداء الإسلام تترامى إلى البعيد، فيأتي إلى مكة من يهدي الله أمثال شيخ قبيلة غفار، وسيد قبيلة بني دوس، ووفد نجران، فيدخلون في هذا الدين مختارين طائعين.. ولم يكن هذا الامتداد للدعوة الإِسلامية إلى مجالات جغرافية بعيدة عن مكة، إلاَّ من جراء تلك الأخبار التي كانت تحيط بحامل هذه الدعوة الكريمة، محمد بن عبد الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، الذي ظلَّ ثابتاً على أداء الرسالة التي بعثه الله تعالى بها، وبالمنهج القويم عَينِه الذي استنَّهُ لنفسه ولأصحابه.
وفيما كان الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ماضياً في نهجه الدؤوب، ولمَّا تمضِ إلا بضعة شهور على انقضاء المقاطعة، إذ بنائبات جديدة تفاجئه بأعز الناس عليه..
عام الحزن
فقد حلَّت السنة العاشرة من مبعث رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، الموافقة سنة عشرين وستماية ميلادية (620م) وقد ناهز أبو طالب الثمانين، وهي السنُّ التي تؤدي إلى وَهَن العظم، وخوار الجسد وملازمة الأمراض، فوقع بمرض شديد جعله طريح الفراش، ولعلَّ مناوأة قريش له في ذَوْدِه عن ابن أخيه، والمعاناة التي كابدها خلال سنوات المقاطعة الثلاث، من أهم العوامل التي زادت في وهنِه وضعفه حتى وصل إلى هذه الحال التي تُنذر بدنوّ أجله..
ورأت قريش أنَّ أبا طالب قد لا يقوم من رقدته، فلمَ لا تذهب إليه علَّه يُنيلها وهو على فراش الموت، ما أبى عليها في عزّ قوته وسلطانه... ولعلَّ مثْل هذا التفكير الذي توافقت عليه زعامة قريش ما يدلُّ على ما كان لشيخهم أبي طالب من مكانةٍ تقهَرُ نفوسَهم، وتزري بمحالهم، وتجعله سيد مكة بلا منازع؛ فجاؤوا إليه في عُصْبَةٍ ضمَّت: عتبة وشيبة ابنَيْ ربيعة، وعمرو بن هشام (أبا جهل)، وأمية بن خلف، وصخر بن حرب (أبا سفيان) وكثيرين غيرهم.. جاؤوا ليعرضوا أمْرَهم من جديد وهم يقولون:
- «يا أبا طالب!.. وإنك منَّا حيث قد علمتَ، وقد حضَرَك ما ترى، وتخوّفنا عليك.. وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادْعُهُ، فَخُذْ له منَّا، وخُذْ لنا منه، ليكفَّ عنّا ونكفَّ عنه، وليَدَعنا ودينَنا وندعه ودينَه»[*].
ولكن ما ظن هذه العصبة اللئيمة بشيخها الجليل، وهي تأتي إليه، في محاولة لاستغلال ضعفه - بل وانشغال أهله به - لتعرض عليه ما تعرض؟! لا، إنه لم يفقد الوعي والحكمة كما تتوهم، فهو لا يزال، على الرغم من وهنه، في أتم حالات الإِدراك والعقل، ولذلك جعله عرضُ قريش يسرح في تأملاته بعيداً عن هؤلاء المحيطين به..
وطاف به التفكير في تلك الأحداث التي عايشها - ولا سيما في أواخر عمره - وكان فيها لقريش النصيب الأوفى، مما عانى هو وابن أخيه وعشيرته.. ولكنَّ الأمر قد فات، فما انقضى قد انقضى إنما قلقه الآن - وهو يدرك وضعه - مما يتراءى له من الشدائد التي سوف تواجه هذا النبيَّ وتجعلُ أيامَهُ أصعبَ بكثير مما لو كان إلى جانبه.. إذاً فماذا عليه أن يفعل، فهل يفاتح رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في هذا الأمر ويطلب أن يأخذ منه لقريش؟! أبداً، لن يفعل، لأنَّ ذلك لا ينقض عهده مع النبي وحسب، بل وإنَّ فيه ما يغضب الله - عزَّ وجلَّ - لأن دعوة قريش بألاَّ يتعرض «محمد» لآلهتها بسوء، ولا يسفِّه أحلامَها، ممَّا يتناقض تماماً مع ما جاء به ودعا إليه؟! لا، لن يكون من أبي طالب مثلُ هذا الموقف وهو على فراش الموت، بل إنه على يقين بأن نبي الإسلام لن يقبل بمثل تلك الترهات من قريش، فإنْ كانت زعامتها تسعى لهدنة، فهو يقبل بأن يأخذ له من قريش لا أن يعطيها ما تسعى إليه.. وهي - على كل حالٍ - لن تعطي شيئاً في صالح الدعوة!.. إذن لتذهبْ قريش وزعامتها إلى الجحيم!...
وتتابع الذكريات في رأس الشيخ المريض.. ولكنَّ أجلى صورها وأصدقها أنباءً ذلك الموقف الذي برز فيه «محمد» سيد الخلق أجمع، وهو يلقي الحجة على الدنيا بأسرها عندما قال له «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يُظهره الله أو أهلَك دونه، ما تركته».. فقال في نفسه: هيهات، هيهات يا قريش، وهذا الرسولُ الأمين ماضٍ في عزمه الأكيد على إظهار دين الله، ولو كرِه المشركون...
ولكنه على الرغم من هذه القناعة، وحتى يكون مرتاح الضمير، فإنه لن يقطع في أمرٍ يعود لرسول الله وحده أن يبتَّ به، فبعث في طلب محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) حتى يكلِّمه بما جاؤوا يعرضون عليه.
اللحظات الحاسمة
وحضر رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وجلس بجانب فراش عمِّه، فقال له: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف القوم قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك.. وهنا اندفع وفد قريش في عروضه، وفي ما أتوا لأجله هذه المرة تحديداً، والرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يصغي من دون أن يقاطعهم بشيء، حتى انتهوا مما عندهم، فأجابهم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بهدوء:
»نعم!.. كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم»[*].
فقال أبو جهل: «نعم وأبيك.. وعشر كلمات..»[*].
قال محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : «تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه»[*].
إنه هو هو، مطلب «محمد» الوحيد، فهل يعطونه إيّاه، ويشهدون شهادة الحق، فيعطيهم بالمقابل ما من شأنه أن يجعلهم يملكون العرب، وتخضع لهم العجم؟
أجل، هذا هو أمر «محمد»، إنه كلمةٌ واحدة: الإقرار بوحدانية الله تعالى، إلهاً واحداً في السماوات والأرض، لا شريك له ولا ولد.. وكل شيء بعدها قابل للحوار والمناقشة...
وخرجوا على صمتهم، فسألوه متعجبين:
- أتريد يا «محمد» أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً، إنَّ هذا لشيء عجاب؟!
فقال لهم الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : «لا إله إلا الله الحيُّ القيُّوم، وحدَه لا شريك له».
فهبّوا يقول بعضهم لبعض:
- ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون.. فانطلقوا، وامضوا على دين آبائكم، واثبتوا على عبادة آلهتكم، حتى يكون الأمر بينكم وبينه!..
وفي هذا الرهط الذين اجتمعوا إلى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أنزل الله تعالى:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ *بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ *كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ *وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ *أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ *وَانْطَلَقَ الْمَلأَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ *} [ص: 1-6].
وهكذا انصرفت تلك العصبة الضالّة، لتمضي على دين الكفر والوثنية، وتُخلي الساحة للإِيمان النقي الصافي، فالتفت العمُّ الحكيم إلى ابن أخيه وقال له:
»والله يا ابن أخي، ما رأيتك سألتهم شططاً»[*].
موت أبي طالب
ولم ينقضِ على ذلك الاجتماع إلاَّ بضعة أيام، حتى توفّي أبو طالب سيد مكة وشيخ البطحاء، الذي دافع عن الإِسلام، ومنع النبيَّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) - ومن ورائه المسلمين - وتوقف القلب الذي نبضَ بحب «محمد» منذ أن ولدته أمُّه، وحتى آخر لحظة من حياته.. ولقد ارتوى محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) من حب عمِّه له في الأعماق، وعايش المواقف الصلبة التي وقفها هذا العمّ من أجل دعوته، أفلا يكون فراقُهُ صعباً عليه، إذ فوق ما يُدخل إلى نفسه من اللوعة والشجن، فإنه ينأى عنه بالأب، والكفيل، والنصير، والحامي؟
غيَّب الموت أبا طالب... وتحركت لموته في نفس الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) كوامنُ العاطفة الصادقة، والمشاعرِ الفيّاضة بالحزن والاسى لفقد هذا العم الكريم: إلاّ أنّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) صبر على هذه النازلة، وهو لا يملك أمامها إلاّ التوجّه إلى خالقه، الذي بيده وحده أمر الموت والحياة، يحتسب عنده مصابه الجلل، ويدعو للراحل الكبير بالمغفرة والرحمة.
وإذا كان الرُّسل والأنبياء - وأولو العزم منهم بخاصة - يتمتعون بنظرةٍ إلى الحياة والموت تختلف عن نظرتنا نحن - بني آدم العاديين - إلاَّ أنهم في الوقت نفسه بشرٌ مثلنا، وعندهم الجبلة الإنسانية التي تجعل قلوبهم تمتلىء بالحزن على فراق من يحبّون، فكيف إذا كان القلب الحزينُ قلبَ محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) نبيِّ الرحمة، وقلبَ الإِنسان الذي خلقَهُ ربُّهُ عطوفاً رؤوفاً؟ كما يؤكده قوله الشريف «إنما أنا رحمة مهداة»...
وكيف لنفسه الشريفة الزكية ألاَّ تألَمَ حيال موت عمِّه أبي طالب، الذي رافقه جُلَّ حياته لحظة بلحظة، وقد كانت معبأةً بالأحداث العظيمة، ومليئة بالتطورات المتلاحقة، وكان هذا العم يشهدها كلَّها، ويعايشها ويتفاعل معها، بذاتية القائد الواعي، وعقلية الشيخ الحكيم؟ ثم ها هو يراه الآن يذهب في الرحلة التي لا رجوع منها، وقد خلَّف وراءه ذلك الفراغَ الكبير، الذي لا يمكن لغيره - مهما كانت مكانته - أن يشغل إلاَّ حيّزاً بسيطاً من ذلك المدى الواسع الذي كان يملأه..
إن فاجعة الموت هي كبيرة - ولا ريب - على أغلبية الناس، أما بالنسبة إلى رسول الله - وهو المؤمن الذي يحتسب أمره إلى الله تعالى - فإن الموت ليس فاجعةً، بل هو حقٌّ على رقاب العباد؛ ثم إنَّ الأحبة كثيرون - والحمد لله - من حوله؛ فهذه رفيقة العمر، وشريكة الحياة، وخدينة[*] البذل والعطاء، زوجه خديجة بنت خويلد (رضي اللّه عنها) ، أم المؤمنين الأولى، الصادقة الصدوقة، إلى جانبه، ولن تتوانى عن بذل كل ما يمكن أن يخفف من آلامه حيال رحيل عمّه.. وهذا ليس جديداً عليها، فحياتها مع «محمد» تشهد على أنها كانت مثالاً للعطاء، ونموذجاً للوفاء، وعنواناً للزوجة الصالحة؛ وما أدراك ما بذلتْ وما أعطَتْ، فالتاريخ يشهد لها بأنها وما ملكت معنوياً ومادياً، قد وهبته لله ولرسوله، طائعة، مختارة، راضية مرضية.
لقد صارت زوجه الطاهرة - بعد أبي طالب - الملاذَ الذي يأوي إليه فيبثها أحزانه، وهمومه، فيجد عندها الصدر العطوف الذي يحتمل معه الأثقال، ويخفف عنه الأحمال.. فإن توفّى الله - سبحانه - أبا طالب فهي إلى جانبه باقية، وعندها من الحب، والبر، والحنان، ما قد يواسيه، ويخفف عنه بعض حزنه..
وبالفعل فقد أقبلت هذه الزوجة، الفريدة في خصالها وصفاتها الكريمة، على رسول الله (عليه السلام) تجهد في مؤاساته، حتى بات حزنُه شغلَها الشاغل، فلو أمكنها أن تنتزع حزْنَه من أعماقه لما توانت، ولما قصَّرت، فكانت، في حَدَبِها عليه، المعوضَ الذي يعزّيه عن خسارة العم وموته.
موت خديجة رضي الله عنها
أجل، لقد أمكن لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد (رضي اللّه عنها) أن تقومَ بهذا الدور العظيم... ولكنها - ويا للأسى - لا تلبث بعد مدة وجيزة من الزمن، أن تذوي هي الأخرى، ويعجز جسمها الرهيف الشريف عن التحمُّل، وينوء بالحمل الكبير من الهموم، فترحل عن الحياة الدنيا، وكأنها كانت مع أبي طالب، على موعد مع الموت، في تلك السنة بالذات.
نعم عادَ الموتُ ليخْتَطِفَ الأنيس والشريك، فتنزل المصيبة على محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أشدَّ وأعتى!.. وكيف لا، وكان إذا ما ادلهمَّت الأمور واشتدَّ البلاء لا يرى إلاَّ التوجه إلى ربّه والاستغاثة به، ثم اللواذَ إلى زوجه المؤاسية الصبورة التي كانت تقوم بأكبر دور يمكن أن تقوم به زوجة على الإطلاق، وها هو الآن، وبين عشية وضحاها لا يجدها إلى جانبه، أفلا يكون المصاب، تلو المصاب كبيراً؟!..
لقد ماتت خديجة (يرحمها الله) فإلى من يلجأ «محمد» إذا استوحش من الناس، أو أحبَّ أن ينأى عن كيد الأعداء؟ وإلى من يسكن إذا توارى الأليف وتظاهرت عليه الأرزاء، أو حزبته الهموم؟! لقد رحلت خديجة (يرحمها الله). فغابت الإنسانة التي آمنتْ به إذ كفرَ بنبوَّته الناس، وصدَّقته إذ كذبه الكفار، وواسته إذ آذاه المشركون..
خمسٌ وعشرون سنة مرَّت، كانت خلالها خديجة (رضي اللّه عنها) مثالَ المرأة الطاهرة النقية، وعنوان الزوجة الوفية المخلصة.. بذلت من أجله، وفي سبيله، ومن أجل دعوته، وفي سبيل الله، كلَّ ما تملك من مالٍ وفير، وملكٍ كثير، وجاهٍ عريض، وشرف باذخ، وعزٍّ شامخ.. وما أعطت من قلبها، ومن نفسها، أكبر بكثيرٍ مما قدَّمت من مالها..
فكيف لا يكون موتها مأساة؟! وكيف لا يكون رحيلها نكبة.. بل وأي نكبة في حياته؟ وكأنَّ ما كان يلاقي من المصائب والهموم من بني قومه جاء يتوِّجُهُ - بعد مرور عشر سنوات - ذلك الحدثان الكبيران، فحق لرسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أن يسمي ذلك العام، عام الحزن.. لأنه كان عاماً مثقلاً بجميع ما فيه من المتاعب، والظروف القاهرة التي لو تضافرت على إنسان غير محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لأدّت إلى إضعاف نفسه، ووهن عزيمته، وفقدان القدرة على الاحتمال والمقاومة.. ولكنه هو محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) الذي ليس كغيره، فلا يمكن لنفسه الشريفة التي ليست ككلّ النفوس، أن تجعل للخطوب غلبةً عليه، أو أن ينتهي - لا سمح الله - بالتخاذل أمام عظيم بلائها..
لا - والله - لن يكون من ذلك شيء؛ فهو إلى كونه الإنسان الذي حباه خالقه[*] بالملكات والمزايا والقدرات التي تفرَّد بها عن بني البشر، كان رسولَ الله، وحاملَ رسالة الله الكبرى إلى الأرض، ورافعَ لواء كلمة التوحيد لله تعالى، والمبعوثَ بالإيمان الحق إلى دنيا الناس، كافة الناس...
لا! لا يمكن أن تنال الدنيا وما تحبَلُ به من المكاره من رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) مهما عظُمَت. فهي لها وقْعها، وآثارها عليه، حقاً.. ولكن المهمة التي هي على عاتقه أسمى، وأعلى، وأجلّ.
ولا يمكن للموت، وإن دهم بجبروته أعز الناس عليه أن يحبِطه، ولا يمكن لآثاره أن تعوقه، أو أن تمنعه عن المضي في دعوته. وإنَّ داهية الموت وإن كانت عظيمة بحد ذاتها، فإنها تبقى خفيفة بظلالها أمام تعنُّت قريش وظلمها. وها هم مستكبروها وجبابرتها يرون في فقد «محمد» النصيرَيْن الكبيرين، نقطةَ ضعف في ساح جهاده، فلمَ لا يتوهمون بأنها الفرصة المؤاتية للاشتداد عليه؟ ولذلك راح اهتمامهم ينصبُّ على أذيَّته في شخصه الكريم، فيتعرض له السفهاءُ في أزقَّة مكة، يذرون التراب عليه، أو يرمونه بالأوساخ والأقذار، أو يقذفونه بالحصى والحجارة، أو ينهالون عليه بالشتائم والسباب.
وكانت ابنتُه فاطمة (عليها السلام) قد بلغت ريعان الصبا، أي أصبحت في رحلةٍ تجعلها إنسانة جديرةً بأن تشاركَه داخل البيت، وبعد رحيل أمها خديجة (رحمها الله)، ما يعاني من المتاعب والآلام. وكيف لا، وهي بنتُ محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، سليلة الوحي، ومنبت الكرامة والعز والإِيثار، وبنت خديجة ربيبة العطف، والحنان، والبذل والسخاء! ولذا كان الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يأتيها، وعليه آثار السوء من أفعال قريش، فتهبُّ الفتاة المكلومة، المحزونة، لملاقاته وإزالة ما علق بثيابه من تلك الفعال الشنيعة، وهي تَشرق بالدمع..
وكان الرسول العظيم ينظر إلى ابنته وهي على ما هي عليه: هزيلة الجسم، رقيقة المشاعر، وليس لديها ما تفرِّج به عن نفسها إلا البكاء، فيرى أنها هي أحق بالشفقة، وأوْلى بالمواساة، فكأنه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يتساءل في نفسه:
تُرى من تبكي فاطمة: أتبكي أمّاً فقدت، أم أباً عَصَفَ به الزلزال؟ وبالفعل، فهل حماقات قريش، ووضاعة أفعالها إلا كالزلزال على نفس الرسول الحرّ الأبيّ؟..
وأيّة حرقة نحسّها في أعماقنا ونحن نرى أكبادنا يبكون؟ وأية مرارة نعانيها في قرارة أنفسنا، وأيّة حرقةٍ تلوّع أفئدتنا من هؤلاء الناس الذين يظلمون أبناءنا ويسببون لهم الآلام ونحن لا نقدر على دفْع الظلم وأهلِه عنهم؟
وأية دمعة لا تقرِّح أجفاننا، وتُحرق عيوننا، ونحن نرى دموعهم الطاهرة البريئة تسيل حدباً علينا، ورفقاً بنا، ونحن لا نملك أن نكفكف تلك العبرات؟!.
ربّاه!.. إنه محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وهو أكثر الآباء برَّاً ببناته وحناناً عليهنَّ.. وهذه ابنتُه فاطمة المحببةُ الأثيرة، بنت خديجة التي تحمل روحها وريحها، تبكي ألماً، ومرارة، ولوعة أمام ناظريه.. وبكاؤها لا ينقطع وهو يعودُ إليها كئيباً، حزيناً، مثقلاً بما يحمله من تلك الفئة الباغية اللعينة من قريش.
ربّاه!.. إنه محمد صفيُّك وحبيبك، وخيرة خلقك، وأنت اللطيف، الخبير به.. لقد راعى حقَّ مخلوقاتك فما كان يوماً في إنسانيته إلاّ عوناً للمظلوم على الظالم، ونصيراً للحق على الباطل. وما حاد قطُّ عن جادة الصواب، ولا دعا في نبوّته ورسالته، إلاّ لهدي قريش التي تظلمه، بل ولهدي الناس كافة.. أفيكون نصيبه من بني عشيرته، وأهل بلده هذا الذي يصيبه في الصميم؟. ثم يكون نصيب ابنته فاطمة (عليها السلام) أن تعيش المأساة منذ تفتح صباها، ولماذا؟ لأنها ابنته ليس إلاَّ؟
سبحانك اللهمَّ!.. فأنت العزيز الحكيم، والمقدّر القادر، وقد قدَّرت على رسولك الأعظم الابتلاء لترفع قَدْره وتزيده أجراً وثواباً...
ولا ضيرَ على حامل الدعوة إلى دين الله أن يكون عرضةً للبلاء.. أما ابنته، فما ذنبها؟.. لا اعتراضَ على حكمك يا رباه.. على كل حال هي فاطمة الزهراء ابنة محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وهي في البيت: بنت أبيها، وأمُّ أبيها، وحاملة وظيفة حنان البنت والأم.. وها هو الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) - منذ عام الحزن - لا يدعوها باسمها «فاطمة»، بل «يا أمَّ أبيك».
أجل، إنَّ فاطمة الزهراء - ومنذ ذلك الحين - هي: ابنتهُ، وهي أمُّهُ، وهي والدعوةُ كلُّ ما بقيَ له من دنياه! ولكن، هل يستطيع أن يفعل لها شيئاً، وتلك الآثار السلبية من قريش تنعكس عليها بصورة دائمة؟ لا شيء إلاَّ أن يحتمل، ويصبر، وأن يتوجه بقلبه إلى الله تبارك وتعالى، وكلُّه إيمان بنصره عَز وجلّ، فيقول دوماً لفاطمة (رضي اللّه عنه) كلما همَى الدمعُ من عينيها:
»لا تبكي يا بنيَّة، فإن الله مانعٌ أباك» ثم يعظها أن تستعين دائماً بالله العلي العظيم بقوله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لها: «قولي إذا أصبحْتِ وإذا أمسيت: يا حيُّ يا قيومُ، بك أستغيث فأَصلح لي شأني ولا تكِلْني إلى نفسي طرفة عين»[*].
وإنَّه بذلك ليصوِّر حالته تلك التي وصلَ إليها مع قريش، بعد موت عمه أبي طالب، وفقد حمايته له، فيصرِّح على الملأ بقوله: «والله ما نالت منِّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»..
ثم لم يكن حال المسلمين عامةً بأقلّ من حال النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في تلك المرحلة من حياة الدعوة، إذ اعتمدت قريش خطة جديدة ملؤها الخبث والدهاء، تقوم على استفراد المسلمين، لتذيقَهم أمرَّ الأيام التي شهدوها، متعمدّةً عدم التعرُّض لهم جماعات، حذراً من قوَّة تجمّعهم - لو أرادوا المقاومة - وإنَّ في هذا الاستفراد ما يضعفهم ويبعث في نفوسهم الوهن..
وقد كان يحقق لقريش مآربها واقع الحياة، الذي يفرض على كل الناس، كما يفرض على المسلمين أيضاً، ألاَّ يبقوا مع بعضهم، وفي تجمُّع دائم، ما دامت هناك الأعباء العائلية التي تلزمهم بالسعي لكسب الرزق، أو تجعلهم يتفرقون لغايات شتَّى.. هذا فضلاً عن أن واجب الدعوة يستدعي الاتصال بالناس، ولا يمكن القيام بهذا الواجب، بصورة جماعية دائماً، بل لا بد من الاتصالات الفردية إلى جانب المساعي الجماعية، كي يكون للدعوة تفاعلها الذي يريدون..
ولكنَّ الأمر وصل مع قريشٍ حدًّا لا يطاق... إذ كلما مرَّت الأيام، ازدادت تضييقاً على المسلمين، وخنقاً لتحركهم، حتى ضاق الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ذرعاً بهذا الواقع المرير، وصارت الدعوة في مكة في وضع يشبه الجمود، ولم تعد تتقدم إلى الأمام، وليس السببُ إلاَّ تألّب أهلها عليه، وازديادهم في الغي والشطط يوماً بعد يوم..
إن الدعوة قطعت مرحلة الابتداء، وانطلقت منذ أن خرج المسلمون صفَّين، مُتَحَدِّين قريشاً. والانطلاقة قد أخذت ولا شك مداها، والعرب وغير العرب قد بلغتهم الأصداء التي تصدر عن مكة، وتنبىء عن الأحداث الجارية فيها.
كل ذلك قد جرى فعلاً، ولكن لا بد من خطوة أخرى لأنه إذا لم يُهيَّأ للدعوة الانتقالُ من نقطة الانطلاق إلى نقطة الارتكاز - أي إلى إقامة نواة الدولة الإِسلامية، التي تنضوي الدعوة تحت لوائها، ويأوي الدعاة إلى ظلِّها وفيْئِها - فإن جميع الجهود والتضحيات ستذهب أدراج الرياح، خصوصاً وأن المجتمع المكي على نفس الحال من عدم الاستجابة، بل ومن العداء والمقاومة لكل ما يمت إلى الإسلام والمسلمين بصلة. لذلك كان لا بد من التوجه إلى بلدٍ آخر غير مكة، أياً يكن هذا البلد في شبه الجزيرة، فربما يكون لدى أهليهِ نضوج في الفكر أكثر، واستعداد للإِيمان أقوى؟..
إن الإسلام هو للناس كافةً، وهو يدعوهم إلى نوره، وبرهانه، وطريقه المستقيم. وإن عليهم الوقوفَ بجانب الرسول الذي يحمل هذا الدين ضد تلك الحرب الشعواء التي يشنها عليه كفار مكة. فلعلَّ في ذلك، ما يفتح السبل أمام الرائد - لتحقيق نقطة الارتكاز - في حياة الدعوة.. الذي بُعث بها ليهدي النفوس، وليرفع راية الإيمان خفاقة في دنيا الأرض.
الذهاب إلى الطائف
وكانت الطائف أقربَ بلد إلى مكة. وهي إحدى القريتين العظيمتين - كما وصفها القرآن الكريم - إذ كانت تنافس مكة في الثروة والنفوذ. ففي حين كان في مكة البيتُ الحرامُ، والتجارة الواسعة، والنفوذ على القبائل كافة، كان في الطائف ثروة ونفوذ أيضاً، لأن فيها بيتَ اللات[*] الذي يزوره العرب. وفيها تجارة السلع وملتقى الطرق لقوافل كثيرةٍ، بل ويزيدُ في مكانتها أن حباها الله تعالى جودةً في المناخ، وخصباً في الأرض، مما ساعد على انتشار زراعة الفاكهة والخضار، حتى صارت الزراعة مورداً اقتصادياً هامّاً لها، إلى جانب مواردها الأخرى.
ولعلَّ في الطائف - كما كان يأمل الرسولُ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) - أناساً يُقبلون على الإِسلام، ويتخذونه عقيدة ودِيناً، فيكونون من أعوانه في نشر أمر الله تبارك وتعالى، وحث الناس على اتباعه.
واعتزم الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) الرحيل، وسافر إلى الطائف في أواخر شهر شوال من السنة العاشرة لمبعثه الكريم.. وهي تلك السنة الحافلة بالأحداث - كما رأينا - إذ فيها كانت نهاية المقاطعة والخروج من الشعاب، وفيها كان موت أبي طالب وخديجة (رضي اللّه عنها) ، وخلالها ازداد أذى قريش للمسلمين، ونالت من الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ما لم تنل خلال السنوات السابقة كلها...
وخرج الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) سعياً على الأقدام، وبرفقته زيد بن حارثة، الذي أبَى البقاءَ في مكة، بدافعٍ من حبِّه لله ورسوله.. ورغبته في القيام على خدمته، فهو إلى كونه من المؤمنين الأوائل، كان ابنَهُ بالتبنّي منذ أن جاء أهلُهُ وآثرَ «محمداً» على القرابة والنسب.. فمن جميل صنعه أن يلازمه في هذا السفر، لعلَّه يخفف عنه بعضاً من وعثائه[*]. وكان عديدٌ من الصحابة يرغبون في مرافقة الرسول إلاَّ أنه منعهم حتى لا تخلو الساحُ في مكة منهم فيتاح لقريش أن تضرب ضربة قاسية، قد تمكِّنها من إعادة السيطرة على المجتمع المكي بعد أن بدأت سطوتها تتضعضع وتلك السيطرة تضعف أو تكاد..
وفي الطائف، كان أول من قصد الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) سادة ثقيف، وكانوا ثلاثة إخوة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، أبناء عمرو بن عُمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف[*].
جاءهم الرسولُ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يحدِّثهم عن الدعوة التي يحمل، وأهميتها في حياة العرب، وحياة الناس أجمعين، ويدعوهم إلى نُصرته، والقيام معه على من خالفه من قومه في قريش، وقد اعتمد النهج نفسَهُ الذي عُرف عنه، من تلاوة آيات الله العظمى، إلى بيان معانيها الرائعة، وإظهار عظاتها البالغة، التي لو تُليت على الحجارةِ لرأيتَها تخرُّ ساجدة إجلالاً لقدرة مُنْزِلها وعظمته.. ولكن، وعلى الرغم مما في الآيات من بيانٍ لقوم يتفكَّرون، لم يستجب سادةُ ثقيف لنداء الإِيمان، بل على العكس، ردّوا على محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) - وهو يبلّغ رسالة ربه - بشرّ جواب...
فقال أحد هؤلاء السفهاء الضالّين: إنني أمرط[*] ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك...
وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يُرسله غيرَك؟
أما الثالث - ويبدو أنه كان أكثر تهذيباً، وربما أرجح عقلاً من أخويه - فقال: والله لا أكلِّمُك أبداً. لئن كنتَ رسولاً من الله - كما تقول - لأنت أعظم خطراً من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنتَ تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلِّمك[*].
»وأقام رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحداً من أشرافهم إلاَّ جاءه وكلَّمَهُ.. ولكنهم ردّوا عليه بكلمة واحدة: اخرج من بلدنا»[*].
هذا ما كان من أشراف ثقيف، أي التكذيب والسخرية. وقد يكون هنالك حيفٌ أو عيبٌ إنْ آثر هؤلاء القوم الضلالة على الهدى، ولم يستجيبوا لدعوة الإيمان كما لو كان في آذانهم وقْر، وعلى قلوبهم أكنّة!.. أما أن تكون الأصالة العربية، وأن يكون الشرف والمروءة من الموات في نفوسهم، فهذا مما يعيبهم أكثر، ويدعو للاستغراب؛ لأن المروءة كانت من صميم حياة العربي في صحرائه، والشرف أعزّ شيء عند من يبلغ مرتبته.. إلاَّ سادةَ ثقيف - فإنهم على ما يبدو - لم يكونوا يحملون من لقب «السادة»، الذي يشرِّف صاحبَه، إلاَّ ما يختالون به على الناس.. بينما هم في حقيقة أمرهم ذوو خِسّة ولؤم.. فبدل أن يتملكهم شيء من النخوة، ويصرفوا الرجل الذي جاء يدعوهم إلى الإيمان بالحسنى، فإنهم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فلما أرادَ الخروج تبعوه يسبّونه ويصيحون به، وقد اجتمع عليه الناس في هجمةٍ شرسة عاتية، يضعون الأشواك في طريقه، ويرشقونه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء[*].
وكان زيد بن حارثة الوفي الأمين يحاول أن يذود بجسمه عن نبيِّه الكريم، وهو يثب من ورائه إلى يمينه، ثم إلى يساره، فلا يكون نصيبه إلا الحجارةَ تتساقط عليه من كل جانب «حتى أصابَه شجاج في رأسه»[*] وهو غير عابىء، بل همُه أن يحمي هذا النبيَّ الصابر، ويبعد عنه أذى الظالمين.. بينما في الوقت عينه كان (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يحاول أن يبعده عن الأذى، ويستعجله في المسير، للإفلات من شرور هؤلاء القوم، والابتعاد عن فِعالهم الطائشة.
فيا ألله، يا ربَّ محمد، وربَّ العالمين!.. هذا رسولك وحبيبك محمد أشرفُ خلْقك، وأحسنُهم خُلُقاً، الأسوةُ في إنسانيته، القائمُ في رسالته، يجبره قومه القرشيون على أن يطلب النجدة في ديار العرب، فإذا أتى واحدةً منها، لا يلاقي إلاَّ هواناً وجهالةً أعتى، وعداءً ألدَّ لدينِك أنت يا ذا العزة والجلال!..
يا ألله، يا ناصرَ المستضعفين، قد جاء رسولك الأمين يدعو إلى دينك الحنيف، فلا يجد من الجاهليين المشركين، إلا الأذى والازدراء.. فهل هذا جزاؤه على دعوتهم؟! لا اعتراض على حكمك يا ربَّ العالمين.
سبحانك اللهمَّ وعفوك! أنت ربنا ومولانا، وربُّ المرسَلين والنبيين، وهذا محمد بن عبد الله، يلوذ بجناب رحمتك من الكفار والمكذبين، فهل تتركه في هذه الشدَّة، وأنت أرحم الراحمين؟!.
سبحانك اللهمَّ وعفوك! إنه الرسول الأعظم، سيدنا، ورائدنا، وحبيب قلوبنا نقف خاشعين لحِلمِك وحكمتك، فأنت الله، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
هكذا وعلى مثل تلك الحال، خرج الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) من الطائف، ليلتقط أنفاسَه بجوار جدارٍ أَسدلتْ عليه شجيراتُ الكرمة ظلَّها، وهي تتدلى على سور بستانٍ فسيح كان يملكه عتبة وشيبة ابنا ربيعة، ويلملم شعثَهُ[*] مما أصيب به من اعتداء أهل الطائف وفعلهم الَّلئيم!..
وركن الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) إلى الظل مهيضَ الجناح، مكلومَ الفؤاد.. ثم رفع ناظريه وكفيّه إلى السماء متضرعاً شاكياً بدعاءٍ قائم أبدَ الدهر، تعبيراً عن عمقِ ارتباطه بخالقه، وعبوديته لله العلي القدير، وهو يقول: «اللهم إليك أشكو ضعْفَ قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي. إلى مَن تكِلُني؟ إلى بعيد يتهجَّمني؟ أم إلى عدو ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحلَّ عليَّ غضبك أو أن ينزل بي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»[*].
أجل، كان هذا دعاءَ الرسول الأعظم، الدعاء الذي يفيض بالحزن والأسى، وفيه الاستعاذةُ من غضب الله تعالى وطلبُ العافية والرضى..
ولا يشك مؤمن صادق بأن عينَ الله - عز وجلّ - كانت ترعى هذا الرسول، الذي يُجاهدُ في سبيل نشر دين الله، وترصده في تحركه، وفي دعواته وأدعيته.. وإن إيذاء محمدٍ رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قد أغضب - يقيناً - ربَّ السماوات العُلى ومن فيهن، فكانت الاستجابة الفورية، بأن أرسل السميعُ البصيرُ جبرائيل الأمين (عليه السلام) ليواسي محمداً (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في تلك الأزمة النفسية التي أَلمَّتْ به من عَنَتِ الكفار، قائلاً ما مؤدّاه: «أن يا محمد!.. يا من أرسلك الله رحمةً للعالمين، إن ربك قد سمع قول القوم ورأى فعالهم، وقد بعثني لتأمرني بأمرك، إن شئتَ بعثَ إليهم ملكاً يُزلزل بهم الجبال ويُزيحها، ويرميهم بصواعق، لا تترك لهم ولا لبلادهم أثراً، أو أنه يخسف بهم الأرض، فتبتلعهم»..
ولا يعجبنَّ أحد لنزول جبرائيل (عليه السلام)، وفي ذلك التبليغ من رب العالمين. فالله تعالى كان يرقب من عليائه مسار الدعوة الإسلامية، كما ترقب عينُهُ كل خلائقه، - ولا نزاع في ذلك عند أهل الإيمان - وقد أثبت القرآن الكريم كثيراً من الحالات الفردية التي كانت تحصل في إبان الدعوة، وكان العزيز الحكيم يبيِّن معالمها ومدلولاتها ويشرّع أحكامها، فهل يُعقل ألاَّ يبعث سبحانَهُ وتعالى - أمين الوحي جبرائيل - في تلك الساعة، وحبيبُهُ محمدٌ على تلك الحالة من الألم والهوان؟
بلى، والله إنَّ الأمر كذلك، والأهم استجابة القادر المقتدر لدعاء النبيّ الأمين، ترويحاً لنفسه الشريفة، وتوكيداً لأمر المولى تعالى أن {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافر: 60].
إذاً جبرائيل الأمين يسألُه ماذا يريدُ بأهل الطائف، والرسول الأعظم لا يبادل الإساءة بمثلها - وحاشا له - بل يكون له الموقف المخلد أبد الدهر، الذي يتجلَّى فيه خلقُهُ العظيم، فلا يفكر بانتقامٍ، ولا بردة فعلٍ تجاه أهل الطائف، بل يرجو لهم الخير، فيقول لجبرائيل الأمين: «بل أرجو الله تعالى أن يُخرِج من أصلابهم من يعبده - على وجه هذه الأرض - لا يشرك به شيئاً»[*].
لقد رغب أهل الطائف - وعلى رأسهم جماعة ثقيف - عن دين الله تعالى، فآذوا نبيّه ورسوله الكريم، فلم يجد هذا الرسول ملاذاً له إلا الله ربَّه، وهو أعلمُ - سبحانه - بحاله، فتوجه إليه بدعائه، غير مبالٍ بأية صعوبة مهما كانت، ولا عابىء بأي ألم مهما عظُم، ولكن كان يهمه أمر واحد فقط وهو ربُّه، وبَعْدَه تهون عليه الأمور كلها.
إنَّ هذا الاتصال الروحي بخالقه قد جعل الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، يهدأ بعد التأثر الذي أصابه، فجلس يستريح في فيء الكرمة، وفي ظلال الرحمة الربانية.
وفيما كان ابنا ربيعة (صاحبا البستان) يرقبانه من بعيد، وهو يلملم شتات نفسه، ويواسي جراحه وجراح الفتى بقربه، بكل رباطة جأش، وكياسة مونقة، إذا بمشاعر الإكبار تجاهه، تتملكهما، فينادي أحدهما على غلام له يُدعى عدّاساً، ويأمره بأن يقطع العنب، ويأخذه إلى الرجل المتفيئ بظل الحائط مع صاحبه.
ويجيء عدّاس بطبق مملوء بالعنب، ويقدّمه للرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، فيشكره على لطفه، ثم يمدُّ يده إلى حبة من العنب، وهو يذكر اسم الله تعالى عليها، بقوله:
»بسم الله الرحمن الرحيم».
وفعل زيدٌ مثلَ ما فعل النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وعداس واقف ينظر إليهما... فلما سمع ذكر «الله الرحمن الرحيم» قال مخاطباً الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) :
- والله إنَّ هذا الكلامَ ما يقوله أهل هذه البلاد..
- وأدرك الرسول أن هذا الغلام ليس على الوثنية، فسأله عن بلده ودينه، فقال له عدّاس: أنا رجل من أهل نينوى، وعلى دين النصرانية.. فقال له الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : من قرية الرجل الصالح، يونس بن متى؟!.
وبُهِتَ عدَّاس لذكر النبيّ يونس (عليه السلام)، فقال للرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : وما يدريك ما يونس بن متى؟..
فقال له الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) : «ذاك أخي.. كان نبيّاً وأنا نبيّ».
وانطلق - من جديد - إيمان النصرانية بالنبوَّة المحمدية نقياً، تعبِّر عنه نفس عداس الطاهرة، فارتمى على الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) متأثراً، يقبِّل رأسه ويديه، محاولاً الوصول إلى تقبيل قدميه، ولكنَّ الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يمنعه من مثل ذاك، فيقول له عداس:
- دَعني يا نبيَّ الله، أغسل هذه الدماء عن قدميك بدموع مآقيَّ، عسى أن يرحمَني الله، وأكونَ من عباده الصالحين..
ولكنَّ الرسول الكريم يجلسه بجواره، وهو يدعو له بالرحمة، والبركة، فتطرب نفسه لهذا العطف النبوي، وكلامِهِ الذي يعبق بالإيمان، بينما هناك ابنا ربيعة يرقبان ما يجري فيقول الأخ لأخيه:
- أمّا غلامُك فقد أفسده عليك..
وهذا ما أزعج صاحب عداس، فصرخ به أن يعود، فقام المسكين يستأذن رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ويركض ملبياً أمر سيده حتى إذا وقف أمامه، بادره بقوله:
- ويلك يا عدّاس! ما لكَ تقبِّل رأس هذا الرجل، ويديه وقدميه؟[*].
وبلهجة صادقة يقول عداس: لا يا سيدي، لقد أبى عليَّ أن أقبِّل قدميه، ولقد أخبرني بأمرٍ ما لا يعلمُه إلاَّ نبيٌّ.
فقال له سيده: ويحك يا عداس! لا يصرفنَّك عن دينِك، فإن دينَك، خيرٌ من دِينه..
فأجاب عدّاس مخلصاً: أما إنَّه دين الله، فكله خير.
وعادَ رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) من الطائف - من دون أن يجد فيه خيراً - إلى مكة، مهبط الوحي، كي يتمكن من الاتصال بقبائل العرب، التي ستفد إلى البلد الأمين، بعد أن بات موعدُها قريباً بحلول المواسم.. حتى إذا بلغ وادي نخلة، استلقى، وبجانبه زيدٌ علَّهما يأخذان قسطاً من الراحة، لشدة ما نالهما من التعب والإرهاق..
وهناك، وتحت سماء الصحراء الصافية، وفي هدأة السكون، حيث لا حركة، ولا ضوضاء، ولا حسيس، ولا أنيس، إلاَّ توقُ النفس المطمئنة للاتصال بخالقها، في إشراقٍ روحانيٍّ، لا تعيش تسابيحَه إلاَّ الملائكة، قام رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) من جوف الليل يصلّي، فيتهادى صوتُهُ في جنبات البادية، وهو يذكر الله تعالى، ويسبِّحه في عليائه.. فتستجيب له الكائنات التي تعرف حلاوة الإِيمان، وتستشعر حقيقة العبودية، لكي تشاركه في تمجيده للخالق العظيم، ولرب العوالم كلها، وما تحمل، وما تحتضن بين حناياها من العباد - التي لا يعلمها إلا بارئها ومصورها - ومن مخلوقاته سبحانه في دنيا الأرض من الإِنس والجن..
ويصلُ صوت الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في ترتيله القرآني إلى مسامع نفرٍ من جنِّ نصّيبين[*]، وهم في طريق ذهابهم إلى اليمن، فيسترعي انتباهَهُم هذا الذكرُ الحكيم، فيجلسون وينصتون، حتى يخفت الصوت قليلاً، ويهدأ صاحبه، فإذا بهم يخرُّون ساجدين لله تعالى، وقد دخل الإِيمانُ قلوبهم، مستجيبين لنداء الإِسلام، ومؤمنين بصدق رسالة حامله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ..
ولم يظهر هؤلاء الجنُّ على النبيِّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، بل اكتفوا بما أنعم الله تعالى عليهم من الهداية، فولّوا إلى قومهم منذِرين، يدعونهم إلى الإِيمان بالدين الحق، فآمن الجنُّ في نصيبين، وصاروا مسلمين.
ولا ندري نحن البشر السرَّ وراء استخفاء ذلك النفر من الجن عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، ولكننا نوقن بأنَّ الله - سبحانه وتعالى ـ، قد شاءَ أن يواسيَ رسوله الكريم مما حلَّ به في الطائف، فصرف إليه في طريق العودة نفراً من الجن، يستمعون القرآن، ويؤمنون به، ثم أمر جبريل الأمين أن يخبره بأمرهم، وذلك بقوله تعالى:
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ *يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *} [الأحقاف: 29-31].
نعم إنَّ في إيمان الجنّ لحِكمةً إلهيَّة بالغةً تتجلى - من منظورنا - في أمرين: أولاً أن الله سبحانه قد عوَّض رسولَه محمدٍ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ما فاتَ من إعراض الإِنس عن دعوته، فاستجاب له الجنُّ، وثانياً ليقرَّ في الأذهان بأنَّ الإسلام ليس دين الله للناس وحدهم، بل وكذلك للجنّ، وسائر الكائنات في الكون الواسع.. وفي ذلك عظةٌ لقوم يتفكرون..
وتابعَ الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) رحلة العودة حتى إذا وصلَ إلى مشارف الديار، وقف زيد بن حارثة يرجوه ألاّ يدخل مكة إلاّ بجوار أحد من أهلها، تخوّفاً من غدر الكفار، وما قد يكونون نصبوا له من مكيدةٍ غير متوقعة..
وتفكَّر (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وهو يرى هذا الفتى يتعلق بأطراف ثوبه، ويحول بينه وبين النزول إلى مكة، فما وجد في مقالته إلاَّ حباً له وخوفاً عليه. ولِمَ لا، ومشاعر زيد الصادقة لا تنبع إلا من نفس صافية. وليس عزيزاً على الله - عَز وجلّ - أن يحفظ عباده المؤمنين وأن يدافع عنهم وأن يأخذ بيدهم إلى ما يحبه هو ويرضاه.. ولذلك نجد النبيَّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يطيّب خاطر زيد، ويقعد على مشارف مكة لا ينزل إليها في تلك الساعة، وهو يقول لزيد: «يا زيد إنَّ الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً وإن الله ناصر دينَه ومُظهر نبيَّه»[*].
وتورد كتبُ السيرة أن رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) طلب جوار عدة مشركين، وأن أول من أرسلَ بأمره إليه الأخنس بن شريق، فلما طال الوقت ولم يَرِدْ خبر منه، عاد وأرسل إلى سهيل بن عمرو كي يجيره، فرفض لأن قومه لا يجيرون على بني كعب؛ فبعث بعده إلى المطعم بن عدي من يقول له: إنّ محمد بن عبد الله يسألك الجوار حتى يبلّغ رسالات ربِّه.. فأجابه المطعم إلى ما أراد. ولكن الليل كان قد حلَّ، فلم يفعل هذا الرجل شيئاً وطلب إلى النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أن يبيت في مكانه.
ولمّا أصبح الصباح خرج المطعم هو وبنوه الستة وقد تقلَّدوا السيوف جميعاً، فاحتبس الأبناء بحمائل سيوفهم في المطاف عند الكعبة، بينما قبع أبوهم في أحد أركان المسجد، إظهاراً لأمره بإعطاء الجوار، على ما جرت العادة، حتى دخلت جماعة من قريش وفيهم أبو سفيان بن أمية بن عبد مناف. فلما رأوا المطعم وأبناءه على تلك المظاهر أقبلوا يسألونه:
- أمجير أم تابع؟.
فقال لهم المطعم: بل أنا مجيرٌ.
قال أبو سفيان: إذاً لا تُخفَر (أي لا يُنتقض عهدُك ولا يُعتدى على من أجَرْتَه) فقد أجرنا من أجرت.. فهلاَّ أخبرتَنا من هو صاحب الجوار؟
قال المطعم: محمد بن عبد الله..
ووقع الخبر على أبي سفيان كالصاعقة، وأُسقِط في يده، فلم يعد قادراً على الرفض، وقد أعطى للمطعم وعْدَه، فإذا نكث فقد ينقلب جوار المطعم إلى عداوة لقريش، فيخسرون فيه عضُداً ونصيراً.. وهكذا لم يُبدِ أبو سفيان ولا أحد من جماعته ممانعة. فأرسل المطعم إلى النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يدعوه للنزول إلى مكة، وفي ظنه أنه ما يزال في مشارف البلد، ولم يدخل بعد... وقيل: إنَّ أبا جهل هو الذي تحدَّث إلى المطعم عن جوار محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ..
هذا ما تورده كُتب السيرة!!
ولكن الأمر لم يكن كذلك قطّ، ولم يطلب النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) جوار أحد بعد عودته من الطائف، فهو (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) كان يعلم تمام العلم، بعد أن بلغ الخمسين من عمره الشريف، ويعيش بين ظهراني أهل مكة جميعاً، أنه ليس للحليف أن يجير على الصميم[*] عندهم، فلا يُعقل أن يطلب جوار الأخنس بن شريق لأنه حليف، كما لا يمكن أن يستجير بسهيل بن عمرو لأن بني عامر لا تجير على بني كعب، ولا يمكن كذلك أن يطلب جوار المطعم بن عديّ وهو يعرف ما يكنّه له، ولدعوته من حقد..
ثم، وأهم من ذلك كله، أنه لا يُعقلُ أن يطلب رسولُ الله من مشرك أن يجيره، ولو أراد ذلك فرَضاً، لكان بإمكانه أن يرسل إلى أحد بني هاشم أو بني عبد المطلب - ممن لم يدخلوا بعدُ في الإسلام - أن يجيره، لاسيما وأنهم قد ذاقوا الأمرّين لأجله في حصار الشعب، فلا يمكن ألاَّ يهبّوا لنجدته إذا طلبَ ذلك... ثم لماذا طلب الجوار أصلاً وهو يعيش بين أهل مكة ليلاً ونهاراً، ومجرد ذهابه إلى الطائف والعودة منه لا يستدعي أبداً مثل هذا الطلب؟!!.
إذن، فالحقيقة أنَّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لم يطلب من أحد من المشركين أن يجيره على الإطلاق.. ولكن الذي حصل، أنه قد وافق زيداً على البقاء خارج مكة، خوفاً من أذى قريش، واتقاءً لردة فعلٍ قد تحصل من سفهائها بعد أن خذلته الطائف، وخذله بنو ثقيف، فآثر الركونَ حتى أسدلَ الليلُ ستارَهُ، وهدأ الناسُ وناموا، فدخل مكة تحت جنح الظلام، وهو يحسب لكل الأمور حسابها. حتى إذا طلع النهار، وصار بين أهله وعشيرته، وبين المسلمين، خرج بين الناس والأتباع والصحابة من حوله، وفيهم أسد الله حمزة، وعمر صاحب الحميَّة، وغيرهما من فتية الإسلام الذين كانوا مستعدين لسفك دمائهم، والشهادة في سبيل الله تعالى، ورسوله الكريم.. بل ولم تقم قريش بشيء جديد بعد عودة رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) من الطائف، فقد كانت لا تزال على الأساليب الرعناء نفسِها حياله، وحيال المسلمين، ولذلك سارت الأمور على المسافة ذاتها من التباعد بين قريش الكافرة، وبين محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وصحابته المؤمنين..
وعاود الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) سيرتَه الأولى في تبليغ رسالة ربِّه، هو وأصحابه، بلا ملل ولا كلل.. فإذا جادله الكفار بالباطل، أبى إلاَّ أنْ يجادلهم بالموعظة الحسنة. ولكنهم إذا ماحكوه القولَ - إمعاناً في إيذائه والإِساءة إليه - فإنه لم يكن ليمتنع عن مجادلتهم بما يجعلهم يرعوون، كما فعل، ذات مرة، عندما كان آتياً إلى الكعبة الشريفة، إذ مرَّ بجماعة من المشركين، - وكان بينهم بعضٌ من بني عبد مناف - فإذا بأبي جهل يقول لهؤلاء:
- انظروا، ذاك لنبيُّكم يا بني عبد مناف!..
فيقول له عتبة بن ربيعة:
- وما ننكر أن يكون منَّا نبي أو منكم؟
ويسمع النبيُّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) تحاورَهما، فيتقدم منهم، ويوجه الكلام إلى عتبة، وهو يقول له:
»أمَّا أنت يا عتبة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله، ولكنك حميتَ لأنفك»...
ثم يلتفت إلى أبي جهل ويقول له: «أما أنت يا عمرو، فوالله لا يأتي عليك كثير من الدهر حتى تضحكَ قليلاً، وتبكي كثيراً».
ثم يخاطب أولئك الكفار جميعاً وهو يقول لهم:
»أما أنتم يا معشرَ الملأ من قريش، فوالله لا يأتي عليكم غير قليل من الدهر حتى تدخلوا فيما تُنكرون وأنتم له كارهون».
الحق، الحق، ينطق به رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وهو يُنذر هؤلاء الكَفَرة الفجَرة بما سيؤول إليه مصيرُهُم، يومَ أن يُظهر الله سبحانه وتعالى دينَه الذي ينكرونه، ثم سوف يدخلون فيه على الرغم من أنوفهم، مكرَهين، مهزومين.. فالموعد آتٍ، لا ريب فيه، فليتمادوا في الإِعراض والإِنكار، وليتفنّنوا في الأذى والاستكبار.. إنها مرحلة سوف تمرُّ - طالت أم قصرت - فهي إلى زوالٍ حتماً. وسيرى الذين كفروا أيَّ منقلب ينقلبون..
على مثل هذا النمط في مواجهة الدعوة تتابعت تلك المرحلة بعذابها وقهرها، وحلَّت أيام المواسم من جديد.
وفي أيام معدودة، وفدت إلى أم القرى قبائل العرب، آتيةً من جميع أنحاء الجزيرة، لتشهد منافع لها، ولتقيمَ مناسك الحج...
الاتهامات ضد النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)
لقد حاول المشركون أن يكيدوا للنبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بشتى الوسائل، إلاَّ أنَّ كيدَهم كان يرتدُّ دوماً إلى نحورهم، لأن أمْرَ الله - تعالى - كان لهم بالمرصاد، فتفسد أمورهم، وتذهب خططهم أدراج الرياح..
ولكن مؤامرات أهل الشرّ وخبائِثَهُمْ لا تنتهي عند حدّ، فكان من المحتوم أن يستمر شياطين قريش في الطغيان والجور، ما دام الأمل لا يزال يحدوهم في الوصول إلى تحقيق ما يصبون إليه!.. ولذلك نجدهم، وفي نزعة جديدةٍ من التآمر على النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، يتداعون للاجتماع في دار الوليد بن المغيرة المخزومي، للاتفاق على خطةٍ محكمة يستطيعون من خلالها ملاحقةَ «محمد» في الموسم القادم، لتفريق قبائل العرب عنه، وتفشيل جهوده وهو يعرض دعوته على الناس..
وتمَّ الاتفاق في بداية الاجتماع على أن يخرجوا برأيٍ واحدٍ حتى لا يكذب بعضهم بعضاً، فيتفرقوا وتذهبَ ريحُهم.. ولكن ما هو هذا القاسم المشترك الذي يمكن أن يكون سلاحَهم في المواجهة؟! أو لعلَّ الأصحَّ، ما هي الاتهامات التي يمكن أن يرموا بها «محمداً»، وتكون مقبولةً لدى العرب، حتى يصرفوهم عنه؟!
وانهالت الاقتراحات من المشركين، فقال حويطب بن عبد العزى:
- نقول عنه بأنه كاهن..
وردَّ عليه الوليد بن المغيرة:
- هذه لا تنفع! فقد رأينا الكهّان، وما بالرجل زمزمةُ[*] الكاهن، ولا سجَعُه[*].. فتنطَّحَ أبو جهل (عمرو بن هشام) وقال:
- نقول بأنه مجنون.
وأجابه الوليد:
- وهذه لا تنفع أيضاً! فقد عرفنا الجنون وأهلَهُ، فما هو بخَنْقِهِ ولا تَخَالُجِهِ، ولا وسْوَسَتِهِ ولا تَخْلِيطِهِ[*]..
وتعثّر اقتراح زمعة بن الأسود عندما قال: نقول عنه بأنه ساحر.. إذ سفَّهَ الوليدُ رأيَهُ عندما قال:
- وهذه لا تنفع كذلك! فقد رأينا السَحَرةَ وشعوذتَهم، فلا هو بنَفْثِهمْ ولا عقدهم[*]..
واقترح أبو سفيان أن يقولوا عن «محمد» بأنه شاعر، فردَّه الوليد مخيباً قولَه أيضاً..
وهنا وقف أبو لهب محتدّاً، وقد استبدّ به غضبُهُ، الذي اشتُهر به، فصرخ بهم:
- ألا ترون يا قوم أننا تفرَّقنا في الرأي؟! فواللات والعزى لن نبرح من هنا، إلاَّ وطلعنا على العرب في الغداةِ بما يهزّىء «محمداً» ويزري به في أعينهم.. ولئن تقاعستم عن ذلك لأحملنَّها عليه وحدي قولةً شديدةً منكرة، فلا أترك أحداً إلاَّ ونبا عنه.. ورأى أبو سفيان أن يحرّض الوليدَ بن المغيرة، لأنه أوسعهم رأياً وحصافةً، فالتفت إلى أبي لهب، وقال له:
- إهدأ يا هذا! فالرأي عند أبي شمس لا يقصِّر ولا يخيب كما عوَّدنا عليه..
لقد اجتمع أهل الشرك والكفر على الضلالة، واللؤم آخذٌ بقلوبهم، ليُلصقوا بالنبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أية تهمة من شأنها أن تشوِّه سمعته بين العرب.. ولذلك لم يروا بعد جدال طويل إلاَّ أن يمحَضوا ثقتهم للداهية الوليد بن المغيرة المخزومي، فقالوا له:
- فقل فيه قولاً يبلغ قومَك أنك منكر له وكارهٌ..
فأشار إليهم بالهدوء، ثم غاص في تفكيره يقلّب الأمر من مختلف جوانبه، ويعاود في ذهنه ما سمع من أولئك الملأ، فلا يجدُ ما يتّهم به «محمداً».. فقد كان يبدو عليه - وهو يقدح زناد فكره - العبوسُ والتجهُّم، وكلما اشتدّ في التفكير زاد وجهه في القبض والكلوح[*]، إلى أن اشرأبَّ[*] بعنقه، وهو يقول:
- يا قوم! «فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول «محمد» شيئاً من هذا»، و«والله إنَّ لقولهِ لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أصله لثابتٌ، وإنَّ فرعه لمرتفعٌ، وإنَّه لَمثمر أعلاه، مُغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته».
وبُهتَ الحاضرون، وكأنَّهم لم يصدِّقوا!. فما بالُ الوليد يمتدحُ قرآنَ محمدٍ وقد أوكلوه ليقولَ فيه قولاً هُزُواً؟! أم أنَّ الرجل جُنَّ ولم يعد يدري ما يقول؟!
وكأنَّما تراءى للوليد ما يفكرون به، فنظر إليهم باستغرابٍ ثم قال:
يا معشر قريش! واللهِ ما أنتم بقائلين شيئاً مما أبديتم إلاَّ وعُرف أنه باطل!.. وإن القول فيه أن تقولوا: «إنَّ هذا الرجلَ ساحرُ البيان. لقد جاء بقول سحرٍ، يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجه، وابنه وأخيه، وبين الرجل وعشيرته، فهو رجل مسحورٌ..»[*].
ولقد أنزل المولى تبارك وتعالى الآيات التي تبيّن الحالة التي كان عليها الوليد بن المغيرة، في تلك اللحظات، والانفعال الذي كان يبدو عليه، بقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدْتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآِيَاتِنَا عَنِيدًا *سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ *سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *} [المدَّثِّر: 11-26].
وران السرورُ على وجوه أولئك الملأ من قريش، فقد وَجَدَ لهم الوليد التهمة التي يلصقونها بـ«محمد»؛ إذ كان سلاحُهُ القرآنَ الذي يعجزهم ببلاغته وفصاحته، فعندما يقولون للناس بأنه جاء بـ«قول سحر»، وبأنه «رجلٌ مسحورٌ» فهذا كفيل بأن يبعدهم عنه، فلا يجني في الموسم شيئاً إلاَّ الجهدَ والنصَبَ[*].. وبتلك المقولة التي ابتدعها الشيطان في رأس شيخ بني مخزوم - الوليد بن المغيرة - قاموا يحيّونه، وينصرفون للاستعداد للذهاب إلى عكاظ لتنفيذ خطة الاتهام التي بيّتوها للنبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ..
وفي أولئك الظالمين من زعامة قريش، وأمثالهم ممن كان دأبهم محاربةَ القرآن، ومحاربة النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) نزل قول الحق تبارك وتعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا *} [الإسرَاء: 47[.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢