نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

غزوَةُ بَدْر
سلسلة غزوات الرسول
(1)

غزوَةُ بَدْر
سميح عَاطف الزَّين


بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقْـتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ}.
[سورة الحج، الآية: 39]
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
[سورة البقرة، الآية: 190]

بِسْم الله الرحمن الرحيم
مقدمة عامّة
أحمد الله تعالى وأثني عليه؛ فهو سبحانه يهدي للتي هي أقوم.. ينير لنا السُّبُل، ويسدد خطانا، ويقوّي فينا العزم، لنعمل عباداً له طائعين، مسترشدين بآي الذكر الحكيم، وبسيرة الرسول الكريم.. وقاعدة الاسترشاد هذه، هي أولى وأهمُّ واجبات المسلم. لأنه بقراءة القرآن المجيد، وبحسن تلاوته، وتدبّر آياته البينات، مع ما تحتوي من هدىً يضيء القلوب والعقول بنور الإيمان، إنما يسير المسلم على الصراط المستقيم، وعلى النهج القويم الذي رسمه له رب العالمين، فيحصل على السعادة في دنياه وآخرته.
ومن ثَمَّ، عليه، بعد ذلك، أن يتعرف على حياة نبيّه المصطفى، وأحوال عيشه في مراتع طفولته، وإبَّان شبابه، حيث عُرِف، ومنذ مرحلة الشباب هذه بــ «محمدٍ الصادق الأمين».. ومن شأن المسلم، بعد هذه المعرفة السَّنِيّة، أن يتخلَّقَ بخُلُق الرسول العظيم، كما وصفه به رب العالمين، فيتخذه ــــ بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى ــــ أسوةً حسنةً، وقدوةً ومثالاً.
وباتّباع، كتاب الله المجيد وسيرة الرسول الصادق الأمين، يكون المسلم مسلماً حقاً، فيَسْلَمُ الناس من يده ولسانه.
ولقد أعانني الله تعالى وجمعت، من قبلُ، سيرة صاحب الرسالة وسيّد المرسلين، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، في كتاب من مجلَّدين أسميته: «خاتم النبيين»..
وها أنا الآن، آخذ من هذا الكتاب، جانباً معيناً من حياة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يروي الأحداث المتعلقة بجهاده الدؤوب لنشر الإسلام ودَحْر الكفر. وهو يظهر، والحمد لله، في سلسلة كتبٍ، سميّتها «غزوات الرسول». وإفراد هذا الجانب من حياة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على هذا النحو، يهدف لإفادة كل مسلم في اقتفاء أثر نبيّه وهو يمارس فعلياً أحكام دينه، ويسعى جاهداً لنشر لواء الحق، وبثّ روح الإيمان في نفوس الناس. ولعلَّ في هذا ما يثبِّت في المسلم فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يقوِّي فيه العزيمة على الجهاد كلما اقتضى الأمر اتخاذ مواقف للجهاد ــــ وما أحوجنا إليها في عصرنا الراهن ــــ في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجلّ، وجعلها هي الكلمة العليا، وكلمة الذين كفروا وأشركوا هي السُفلى.
وأريد أن ألفُتَ بادىء ذي بدء، وفيما يتعلق بجهاد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن الحروب أو الغزوات التي فرضت عليه، أو التي قام بها، لم تكن، كما يصورها أصحاب النيّات الخبيثة من أعداء الإسلام، حروباً لإرواء شهوة القتل، أو لفرض الدين الجديد بقوة السيف على الناس. فتلك مَقولةٌ خبيثةٌ تمحو من تاريخ المسلمين الدروس والعِظات التي كانت تنتج عن تلك الغزوات، كما تتعمَّد أن تطوي من ذلك التاريخ صفحاتِ ثلاث عشرة سنة أو أكثر، قضاها المسلمون مكافحين بالكلمة، مبشِّرين بدينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، صابرين على الأذى، متحمِّلين لجميع صنوف العذاب؛ من إهانةٍ وحرمانٍ وقتلٍ وتشريد، وتَرْكٍ للأهل والديار والأموال، فراراً بدينهم وتشبثاً بعقيدتهم.
فالحرب ليست، في نظر الإسلام، إلاّ إحدى الوسائل التي يُلجأ إليها بعد استنفاد جميع الوسائل الأخرى السلميّة، للوصول إلى الأهداف السامية: ألا وهي إزالةُ الحواجز الماديّة وغيرها من العوائق التي تعترض طريق نشر الدعوة الإسلامية، أو استرجاعُ حقٍّ مسلوبٍ من سالبٍ وإزالةُ ظلمٍ عن مُستضعَفٍ... وفي نهاية المطاف إحلالُ السلام والعدل الإلهيّ بين جميع بني البشر.
وبهذا المعنى تكون غزوات الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ، في مآلها، إعلاءً لشأن الإنسان، ورحمةً من الله تعالى لعباده.
ولقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي بهذا الصدد:
قالوا: غزوتَ ورُسْلُ الله ما بُعثوا
لقتلِ نفسٍ، ولا جاؤوا لسفكِ دمِ
جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وسفسطةٌ
فتحتَ بالسيفِ بعد الفتحِ بالقلمِ
لمّا أتى لك عفواً كلُّ ذي ثقةٍ
تكفّلَ السيفُ بالجهّالِ وَالعَممِ
والشرُّ إنْ تَلْقَهُ بالخيرِ ضِقتَ بهِ
ذرعاً، وإنْ تلْقَهُ بالشرِّ ينحسمِ
إذن، لقد ألّفت كتابي «خاتم النبيين» ليطّلع الناس عامّةً والمؤمنون خاصةً على ما عاناه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون معه من مشاقَّ ومتاعبَ، وما قدّموه من مالٍ وجهدٍ في سبيل نجاح الدعوة الإسلامية وانتصار الدين الحنيف؛ وليروا مراحل هذا الجهاد العسير، الذي نقل تلك الفئة القليلة من أيام ضعفها وهوانها على الناس إلى أيام قوّتها ومِنْعتها بعد أن أيّدها الله عزّ وجلّ بنصره المبين.
وقد نال كتاب «خاتم النبيين» من سَعَةِ الانتشار والتداول ما جعل الطبعة الأولى منه تنفد بسرعة، ممّا دفعني، بعون الله، إلى إعادة طبعه لتعمّ الفائدة المرجوّة من نشره، وليطّلع المسلم على ما اتّصف به رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، وصحبه الأبرار من الصفات العالية التي تجلّت في إصرارهم على حَمْل الدعوة، وتضحياتهم في سبيلها، وصبرهم على المكاره، وعزمهم على مواصلة الكفاح، خصوصاً طوال السنوات الأولى من ظهور الرسالة الكريمة. حتى أن قريشاً ألجأت بعض المسلمين للهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم بعد أن كانت قد نبذتهم وحصرتهم في شِعبٍ مُجدِبٍ من شِعابِ مكة وأجمعت على عدم التعامل معهم.
ثم هاجر المسلمون هجرتهم الثانية إلى «يثرب»، المدينة المنورة، حيث استقبلهم أهلها الأنصار بالترحاب والتكريم والمؤاخاة. وأتاح ذلك للرسول العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم، ومن معه، أن يواصلوا نشر الدعوة من هناك، وأن ينظّموا صفوفهم، فزاد عددهم، وكثر مؤيدو الإسلام وقويت شوكتهم.
وعندما وصلت الدعوة إلى هذه المرحلة بالذات، فكّر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بمهاجمة قافلة تجاريّة لأهل مكّة المشركين الذين اضطهدوا المسلمين من قبلُ، وسلبوهم أملاكهم وأموالهم، وأخرجوهم من ديارهم، فكانت «غزوة بَدْر» التي تجلَّتْ فيها بطولات المسلمين وتضحياتهم وشدّة إيمانهم بدينهم. وظهرت فيها أيضاً إرادة الله سبحانه حين نَصَر المؤمنين، وهم قِلّةٌ لا يتجاوز عددهم ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر رجلاً، على عدوّهم الذي ناهز عدده الألف رجل، فضلاً عن تفوّقه عليهم بالمؤن والسلاح.
وبذلك كانت «غزوة بدر» منعطفاً تاريخيّاً غيّر مجرى الحياة في الجزيرة العربية ثم، بعد ذلك، في العالم أجمع. وإنها لجديرةٌ بأن تُدْرَسَ وتُدَرَّسَ بعنايةٍ وأن يأخذ منها المسلمون العِبَرَ والعِظات.
ثم كانت «غزوة أُحُد» التي أعطت للمسلمين درساً لا يُنسى. فقد بدأت بنصرٍ مؤزّرٍ للمسلمين عندما نفّذوا تعاليم قائدهم الكبير ونبيّهم العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم انقلبت إلى هزيمةٍ منكرةٍ عندما خالف بعضهم هذه التعاليم، أعني بذلك النبّالةَ الذين أوكل إليهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، حماية ظهر المسلمين وأمرهم أن لا يتركوا أماكنهم مهما جرى في ساحة المعركة. إلاّ أنهم خالفوا أوامره، لمّا بدت تباشير النصر، وتركوا أماكنهم طمعاً بالأسلاب والغنائم. فاندفع بعضٌ من جيش المشركين المهزوم وأتَوْا جيش المسلمين من تلك الثغرة المتروكة وقلبوا نصرهم إلى هزيمة.. وهكذا تتحقق العبرة؛ إذ بطاعة أولي الأمر الصادقين المخلصين والتضحية، يتحقق النصر، بينما بمعصيتهم والانقياد لشهوات النفس، تحصل الهزيمة.
أما غزوات «بني قُريْظة» و«خَيْبَر» و«بني النَّضير»، فكانت بسبب كيد اليهود للمسلمين، ومحاولتهم الإضرار بالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وبالمسلمين أكثر من مرّة، ومؤامراتهم الدائمة لتأليب قبائل العرب ضدّهم. وقد نصر الله تعالى رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، على هؤلاء الأعداء، وردّ كيدهم عن المسلمين.
ثم جاء «فتح مكّة» فكان فتحاً مُبِيناً ونصراً من الله تعالى عزيزاً. إذ تمَّ «فتح مكّة» من دون إهراق دماء أو نشوب معارك بفضل ما أودع الله تعالى رسوله محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، من مهابةٍ وحكمة ورفعةٍ، وما أعطى رهطه الكريم من قوّة في العَدد والعدّة والإيمان.. فقد دخلوا مكّة دونما مقاومة تذكر، وأزال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، جميع الأصنام من داخل الكعبة والحرم، ودكّ حصون الشِّرك في مكة وما حولها ثم في جميع بلاد العرب. وتمّ الأمر لله وحده ولدينه الحنيف، ولم يعد يُعبدُ في تلك الأرجاء سوى الله الواحد القهّار.
وبعدُ، فإننا ندعو إخواننا المسلمين إلى قراءة سيرة نبيّهم، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه الذين اتَّبعوه بإحسانٍ فجاهدوا في الله حقَّ الجهاد بأموالهم وأنفسهم، وتحمّلوا المشاقّ، وضحّوا واستشهدوا في سبيل ربِّهم ونبيِّهم ودينهم، حتى أظهر الله دينَ التوحيد على الدينِ كلِّه، وجعل من «مكّة» مسقطِ رأس النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، حيث الحرم الشريف، ومن «يثرب» مدينة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، مزاراً للمسلمين يَفِدون إليه من أقطار العالم أجمع للحج والعمرة وليشهدوا منافِعَ لهم، وذلك منذ أن أنزل الله تعالى فريضة الحج وحتى تقوم الساعة.
فالحمد لله ربِّ العالمين على آلائه، وعلى توفيقه لنا بوضع هذه اللّبِناتِ المضيئةِ في بناء تاريخنا الإسلاميّ بتأليف كتابنا «خاتَم النبيين» الذي اختَرنا بعضاً من فصوله وأفردناها في كتب «غزوات الرسول» التي هي بين أيديكم. ونرجوه سبحانه أن يتقبّل منّا هذا العمل المتواضع في سبيل نشر دينه ونُصْرة أوليائه، آملين أن يؤدّي عملنا هذا، بإذن الله سبحانه، إلى تنوير العقول وإضاءة القلوب بنور الهداية والإيمان.
ومنه، عَزَّ وعَلا، نستمدُّ العون والتوفيق.

غزوة بدر

من الدعائم الأساسية التي قامت عليها، وتقوم، المجتمعات البشرية، القوّةُ الاقتصادية، إذ بدونها يبقى المجتمع مفكَّكَ الأوصال، يستجدي مُقوِّمات العيش.. ولقد كانت قوة قريش الاقتصادية في تجارتها الواسعة، التي جابت بها القوافلُ أقطاراً بعيدةً وصلت بلاد الشام، واليمن، ومصر، وجنت منها ثروات كبيرة، هي التي جعلتها سيدة القبائل في جزيرة العرب.
ولم تكن تلك السرايا التي بعث بها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في طليعة عهده المَدَني إلاَّ لغايةٍ هامَّة، وهي رصد أخبار قوافل قريش، حتى يتدبَّر الخطة التي تمكِّن من القضاء على قوَّتها الاقتصادية، تلك القوة التي كانت في نظر المسلمين بمنزلة الأجنحة التي تحلِّق بها قريش في الأجواء البعيدة، وكالمخالب التي تفتك بكُلِّ مَن يحاول اعتراضها أو الوقوف في وجهها في أي شأن من الشؤون... فإذا أمكنهم قصُّ تلك الأجنحة، وتقليم تلك المخالب، فمما لا شك فيه أن شوكة قريش المؤذية سوف تنكسر، وبكسرها ينهار طغيانها ويذهب استبدادها، وعندها يمكن للمسلمين استعادة حقوقهم وأموالهم التي سلبتهم إياها ظلماً وعدواناً.
ولم تكن قريش ليغيب عن بالها ما يفكِّر به المسلمون، فراحت هي من جانبها أيضاً تُعِدُّ الخطط لحماية قوافلها، والمحافظة على تجارتها، متخذةً لذلك سائر الوسائل، وجميع تدابير الحيطة، فزادت الرجال الذين يرافقون القوافل ويحمونها، وغيَّرت بعضَ الطُّرق التي كانت تسلكها في العادة، وزادها تيقّظاً وحيطة، ما فعله عبدالله بن جحش بإحدى قوافلها الصغيرة القادمة من الطائف، إذ رأت في فعله أولَ تباشير الخطر لقطع طرق التجارة عليها، وحصرها في داخل مكة، ما جعلها تتخذ وسائل الحماية وتنفِّذها فعلياً.
وصادف أن خرجت في هذه الفترة قافلة يقودها أبو سفيان بن حرب، كانت من أعظم قوافل قريش، وأجمعها لأموالها، حتى أنَّ أهل مكة بأسرهم كانوا يشاركون في تلك الأموال، التي قدِّرت بحوالي خمسين ألف دينار.. وهذا ما جعل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يخرج بنفسه في غزوة العُشيرة، يريد تلك القافلة، بعدما تناهت إليه أخبارها، ولكنها فاتته في ذهابها إلى الشام إذ تأخر عن إدراكها يومَين.. إلا أنه، منذ ذلك الحين، قدَّر المدة التي تستغرقها رحلة تلك القافلة، وعيَّن الوقت الذي تعود فيه إلى مكة.. فبات في المدينة ينتظر اقتراب الموعد، وفي الوقت نفسه، بثَّ العيون ترصد أخبار تلك القافلة، حتى إذا جاءه من يخبره بأنها قد فَصَلتْ من بلاد الشام عائدةً إلى مكة، لم يتوانَ أبداً عن جمع أصحابه وإبلاغهم عزمه على الخروج لاعتراض أموال قريش...
ثم دعا إليه جميع المسلمين في المدينة، من مهاجرين وأنصار، يحضُّهم على الخروج ويقول لهم:
«هذه عِيْرُ قريشٍ [= أي دوابُّهم] وفيها أموالُهم وقوّتُهم، فاخرجوا إليها لعلَّ الله يُغْنِمكُمُوها»...
وأمرَ من فَوره كلَّ من يريد الاشتراك في ذلك الخروج بأن يتهيأ له ويستعدّ، ثم بعث اثنين من المسلمين ــــ طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد ــــ يتسقّطان الأخبار ويوافيانه بها.. وحرصاً منه، صلى الله عليه وآله وسلم، ألاَّ تفوته القافلة في إيابها كما فاتته في ذهابها، لم ينتظر عودة مبعوثيه، بل جمعَ الرجال بعد أن أتَمَّ الاستعداد، لم ينتظر غائباً أو يَحُثّ متراخياً. وبذلك أسرع مَنْ أسرع ملبّياً، وأبطأ من أبطأ متخلِّفاً، وفي ظن هؤلاء المتخلِّفين، أنها غزوة ويعود رسولُهم والمسلمون كما خرجوا من غير أن يقع قتالٌ أو تدور حرب، تماماً كما كان يحصل في الأيام السالفة. على أن فريقاً منهم وقد رأى جمعاً كبيراً من إخوانه يلتف حول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، جاءه التصور بأن عِيْرَ قريش لا تستأهل أكثر من هذا العدد من الرجال وأنه لا حاجة به إلى الخروج فقعد مع القاعدين...
ولقد أراد نفرٌ من غير المسلمين أن يندسَّ في الركب، وأبدوا في الظاهر عوناً لمحمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم كانوا يخفون في الباطن مآربَ خاصةً وهي الطمع في الغنيمة الوافرة. إلاَّ أنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أدرك الغاية الدنيئة التي يرمي إليها هذا النفر، فطلب منهم واحداً من أمرين: إما الدخولُ في الإسلام والخروجُ معه إذا أرادوا هذا الخروج، وإما الاستغناء عن مرافقتهم. وأسقِط في أيدي هذا النفر، إذ لم يكونوا ليتوقعوا أن يَجْبَهَهُم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بمثل هذه المجابهة، فولّوا من وجهه هاربين. وبذلك أَمَّنَ الرسول العظيم الخلاص منهم.. وحلَّت الليلة الثامنة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، فسار رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على رأس تلك الفئة القليلة المؤمنة من المسلمين، بعدما استعملَ على المدينة أبا لُبابة وأوكل إلى عمرو بن أم مكْتُوم البقاء للقيام بالصلاة في الناس.
وخَطا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أول خطوة أمام جنوده البواسل، وهو يدعو: بسم الله، وعلى بركة الله... فردّدَ الجمع من ورائه:
«بسم الله، وعلى بركة الله». ومضى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كَأَمضى من السيف في عزمه.. ولم تَطُلِ المسيرةُ بالركب أكثر من ميلٍ عن المدينة، عندما بلغ بيوتَ السُقْيا، فأمر بالتوقف، والنزول على الماء، وطلب إلى رجاله الارتواءَ من تلك المياه العذبة، وأخْذَ قسط من الراحة..
وتعجب الرجال من هذا الأمر، إذ لم يكن التعب قد بلغ منهم حدّاً يتطلب راحةً من هذا القبيل. ولكنَّ نيَّة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كانت تتجه إلى غير ما ظَنّوا. فقد اعتزم، وقَبْلَ التوغل بعيداً في الفيافي، أن يستعرض من خرجوا معه، حتى يتبين مَنْ كان قادراً على حمل السلاح، قوياً على خوض القتال، ومن منهم لا قِبَلَ له بذلك.. ولم يُخفِ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، مُرادَه ذاك عن مرافقيه، فطابت نفوسهم للفكرة واستحسنوها كثيراً..
وبالفعل قامَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالاستعراض الذي أرادَ، ففوجىء أنّ بين الرجال عدداً من الفتيان كانوا صغاراً في السن، لا يقوَوْن على تحمُّل وعثاء السفر، فكيف بهم في تحمّل عبء القتال، إذا ما فُرض عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، خوضُ غماره؟!..
وجَدَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أولئك الفتية، فجمعهم إليه، وأخذ يمسَحُ على رؤوسهم وأكتافهم بيدَيه الشريفتين، وهو يواسيهم بحُسْن حديثه، وبشاشة وجهه، حتى طابت نفوسهم، وقبلوا بالرجوع إلى بيوتهم، فدعا لهم بالتوفيق وطلب إليهم العودة من فورهم، فلبّوا راضين، طائعين.. إلاَّ واحداً منهم قد ذهب واختبأ وراء أخيه، وهو يجهش في البكاء.. وعَرَف الرسول بأمره، فجيء به إليه فسأله من يكون، فأجابه: «إني عمير بن أبي وقّاص يا رسول الله».. وسأله الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عن سبب بكائه، فعرف منه أنه لا يرغب في العودة إلى المدينة مع رفاقه، بل لقد اعتزم الخروج مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يزال مصمماً على هذا العزم، وأن ما يُبكيه هو حرمانه من ذلك الأمل الذي يُراوده إلى جانب خوفه من مخالفة أمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.. واستكبر الرسول العظيم هِمَّة هذا الفتى، وتلك الإرادة الصلبة التي حملته على اتخاذ قراره رغم حداثة سنّه، فأجاز له المسير..
وتتصدَّر على صفحات الزمان حكاية هذا الفتى، وهو يتوارى عن عيون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد استعراض رجاله في تلك المحطة على بيوت السُّقيا، فيسأله أخوه سعد بن أبي وقّاص:
ــــ ما بالك يا عُمير تختبىء وأنت واجِفٌ على هذا الشكل؟.
فيجيب عُمير: إن خوفي يا أخي أن يكون صغرُ سني هو الحائل دون خروجي مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا راغبٌ في هذا الخروج لعلَّ الله يرزقني الشهادة في سبيله وإعلاء كلمة دينه!..
فيقول سعد: ولكنَّ خروجك يا أخي دون علم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، خطأٌ لا يقبله منك الله سبحانه، فقم إلى النبيِّ الكريم وأخبره بما تشتهي نفسك!..
فيقول عمير: ولكني أخاف أن يردَّني على أعقابي..
فيقول أخوه: قلت لك: اذهب إليه يا عمير، إنه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي يقرِّر ما يراه حقاً، ولن يبخل باللطف على إنسان، صغيراً كان أم كبيراً، إن أرادَ وجْهَ الله سبحانه وتعالى..
وكان للفتى الذي لَمّا يَزَلْ بَعْدُ في السادسة عشرة من عُمره ما أراده.. فقد حضر غزوة بدر، وقاتل يبتغي لقاءَ ربِّه شهيداً، فلم يبخلْ عليه ربُّه سبحانه وتعالى بتلك الشهادة، بل نزلت الملائكة تحفُّ به يوم بدرٍ، وترفعه على أجنحة الإيمان إلى السماء، راضياً مرضيّاً، ليترك على الدهر أنشودة الشهادة تتغنَّى بها نفوسُ شبَاب المسلمين قبل حناجرهم، وتهوي إليها أفئدة المسلمين صلاةً قدسيَّةً لمن أرادَ أن يُخَلَّد في حياة الطمأنينة الأبدية، وفي نعيم السعادة الأزلية.. فطوبى لك يا عُميرُ تنالُ وسامَ شرف الشهادة في سبيل الحق..
تلك حكايةٌ من حكايات البطولة في الإسلام، لا نذكرها هنا للتفاخر وحسب، بل لنؤكد بأن المسلمين عندما آمنوا حقّاً بدينهم، وعرفوا أهميته في حياة بني الإنسان، وقدره في تربية هذا الإنسان، أقدموا على ما أقدموا عليه من بطولاتٍ وتضحياتٍ ردَّدت أصداءَها أطرافُ الدنيا، حتى جاءت العهودُ التي حاولت طمس معالمها وآثارها، ليستقيم الشرُّ بدل الخير، ويستشري الباطلُ بدلَ الحق، على ما تشهده جوانب العالم الأرضي في وقتنا الراهن..
إذن فقد باتت الغاية واضحةً من الوقوف على بُعد ميلٍ من المدينة! فخروج المسلمين على ذاك النحو الذي خرجوا فيه، كان يخالف أبسط قواعد التنظيم للعمل الجماعي، ولا يأتلف أبداً مع طبيعة وظروف السير في أرض هي للعدو، وقد تجعله يهاجم تلك الجماعة المسلمة بصورة مفاجئة، فيُنزِلُ بها، وهي على غير أُهبة للقتال، خسارةً كبيرةً، قد تأتي بأسوأ النتائج على مسيرة الدعوة ككل.. خصوصاً وأنه كلَّما بَعُدَ المسلمون عن المدينة، ازداد الخطرُ من حولهم، لا من قريش وحدَها، بل من جميع قبائل العرب التي تقطن تلك النواحي، والتي استطاعت قريش أن تقنعها بوجوب محاربة الإسلام حفاظاً على دينها ودين آبائها وأجدادها.. من هنا عَمَدَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى تنظيم صفوف رجاله على شكل يمنعُ مفاجأة العدو وغدره، فجعل له مقدمةً على رأسها الزبير بن العوام، ومؤخرةً عليها قيس بن أبي صعصعة، ثم عقد ثلاث رايات: رايةً بيضاءُ يحملها مِصعَب بن عمير، ورايتين سوداوَين يحمل إحداهما علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، والأخرى سعد بن معاذ من الأنصار.
وهكذا، وبمثل هذا التنظيم، جعل الرسول العظيم من رجاله جيشاً له عدَّتُهُ التي هي الإيمان القوي بالله تعالى قبل كل شيء، وله عَدَدُه الذي يتألف من هؤلاء الرجال، الذين لا يزيدون على ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. ولكنّهم كانوا يُقَدَّرون بآلاف مؤلّفةٍ، لِمَا تمتلىء به نفوسهم من القوة والشجاعة، ولما تجيشُ به صدورهم من العزم والصلابة... أما وسائل النقل لذلك الجيش، فكانت هزيلة، وهي لا تتعدى في مجملها أكثر من فرسين، واحدة للمقداد بن الأسود، وأخرى للزبير بن العوام، ومن الإبل سوى سبعين بعيراً.. ولذا أمر رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يتعاقب كلُّ اثنَين أو ثلاثة بعيراً، فيركب الواحدُ مرحلةً أو بعضَ مرحلةٍ، ثم ينزل ليركب رفيقُهُ مرحلة أخرى.. وبذلك كان لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ومَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغنويّ، بعيرٌ.. وكان لحمزة بن عبدالمطلب وزيد بن حارثة، ورجل يدعى آنسة، بعيرٌ.. كما كان لأبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعبدالرحمن بن عوف، بعير...
ورأى صاحبا الفرسَيْن رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يتعاقب مع رفيقَيه على بعيرهم، فجاءا إليه يرجوانه أن يأخذ فرس أحدهما، فيكون راكبَهُ طول الطريق، فأبى عليهما ذلك. ومثلهما كان صاحباه على البعير، عليٌّ (رضي الله عنه) ومرثَد يتوسَّلان إليه أن يبقى في ركوبه، وأنهما يحتملان المشي فيأبى إلا أن يكون مثل أي فردٍ في جيشه، لا يتميّز عن أحدٍ بخصَيصةٍ قَطُّ، قائلاً لهما، كما هو معهود منه في صفاته الإنسانية الرائعة، وفي سويّ خُلُقِه، وعظيمِ إيمانه: «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما»..
تلك هي روعة الإسلام، في شتى الأمور واختلافها، فالكلُّ سواءٌ في الواجبات كما أن الكلَّ سواءٌ في الحقوق، ورسول الإسلام نفسه، لا يخرج عن هذا النهج السَويّ المطلق... فالإسلامُ هو المبدأ.. وتطبيقه واحدٌ على الجميع، بما يتوافق ومصلحة الجماعة الإسلامية... وتلك هي الحقيقة التي تُعايشُ كلَّ زمان ومكان، سويةً عادلةً، ثابتةً، لا يطرأ عليها تغيير، ولا يخالطها تبديل، أقامها الإسلام قاعدةً، وسنَّها الرسول العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم، سلوكاً، فكان طبيعياً أن تنتظم تلك الحقيقة، جيشَ المسلمين في مسيرته، وكان طبيعياً أن يكون قائد هذا الجيش، مثالاً لذلك التطبيق العمليّ في المعاملة بين أفراده...
وهكذا، وبمثل هذه الروحية العالية، انطلق أولُ جيش للمسلمين من محلة آبار السُّقْيا في تشكيلٍ مفتوح تحقيقاً لغرضين اثنين: السرعة في السير، وأمْنَ مفاجأة العدو في انقضاض غادر... وزيادةً في الحرص، بعث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، اثنين من أفراد الجيش، يتقدَّمانه بمهمة استطلاعية، وكانا بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء.. وانطلق الرجلان يتسقّطان الأخبار عن قافلة قريش العائدة من الشام بقيادة أبي سفيان بن حرب، فلم يقفا على خبرها، ولكن انتهى بهما السير إلى ماء بَدْر، فنزلا عليه يرتويان، ويأخذان قسطاً من الراحة، بعد ذلك التعب الذي أنهكهما في قطع المسالك الوعرة، واجتياز الطرق الصعبة، ولكنهما لم يلبثا في راحتهما تلك إلاَّ قليلاً، حتى استرعى انتباههما حديث جاريتين كانتا على الماء تستقيان، عندما قالت إحداهما للأخرى:
ــــ لكِ أن تلوميني يا أختاه على ما قصَّرتُ في أداء حقِّك عليّ!.
ـــــ أنا لا أقصد لوماً، ولكن طال الأجل كثيراً...
ــــ حقاً ما تقولين، ولكنْ أحسِبُ أن الفرج قد قرب، وسوف أفي دينك عليَّ قريباً..
ــــ ولكن كيف؟
ــــ لقد سمعت بأن العير التي يقودها أبو سفيان بن حرب سوف تصل غداً أو بعد غد، وهي عندما تمُرّ من هذه الناحية سوف أعرض نفسي على خدمة مَنْ فيها من الرجال، فأتقاضى أجراً على ذلك، وأدفع لكِ ما بذمَّتي...
ــــ إذن أصبحت قريبةً قافلةُ قريش من هنا!.
ــــ نعم يا أختاه، وآمل أن يستخدمني ابن حرب وينقُدَني أجراً كافياً...
ــــ أرجو ذلك...
وسمع المستطلعان هذا الحديث، فقاما من فَورهما، يُسرعان في العودة لملاقاة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وإخباره بقرب وصول القافلة..
وإذا كان محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، قد حسب الزمن الذي تعود فيه عير قريش وهي تحمل أكبر تجارة لها، فإن أبا سفيان بن حرب لم ينسَ بأن المسلمين قد خرجوا في طلب قافلته وهي ذاهبة إلى بلاد الشام، ولذا فقد تحسَّب هو أيضاً أثناء العودة من أن يكون المسلمون بانتظاره في ناحية من طريق تلك العودة، فأرسل يقدِّم من يتقصَّى الأخبار، حتى إذا عرف بأن محمداً قد خرج مع جماعة من أصحابه لاعتراضه، خاف عاقبة الأمر إذ لم يكن في حراسة العير إلاَّ أربعون رجلاً، فاستأجر ضَمْضَمَ بن عمرو الغفاري وبعثه مسرعاً إلى مكة ينبىء قريشاً بما اعتزمه محمد وأصحابه من اعتراض قافلتهم، ويستنفرهم على عمل سريع لحمايتها، على ألاَّ يترك وسيلةً تثير القوم أو تستنهض هِمّتهم للغوث والنجدة...
واتخذ ضمضمُ لذلك كل مظاهر الصارخ الملهوف، إذ ما إن وصل من مكة إلى بطن الوادي حتى قطع أذنَيْ بعيره! وجدعَ أنفه، ثم وقف وقد شقَّ ثوبَهُ وجَعَلَ يصيح:
«يا معشر قريش! اللطيمةَ اللطيمة! (وهو يقصد مالهم وتجارتهم).. أدْرِكوا أموالكم مع أبي سفيان فقد تعرض لها محمد وأصحابه..
يا أهل مكة! فالغوثَ الغوثَ!... إن لم تهبُّوا جميعكم فقدتُم الرزقَ والعيش!...
يا معشر قريش! أين أنتم والطيبُ والحريرُ والنفيسُ، فقد ضاع كل ذلك منكم، وأنتم هاهنا قاعدون»!...
وتناهى صياحُ ضمضمَ إلى مسامع أهل مكة، فهبَّت قريش دفعةً واحدةً، تتراكض من كل جانب، وهي تشدُّ على خيولها وإبلها، وتتمنطق بدروعها وسيوفها، وكان من لم يجد رمحاً ولا سيفاً امتشق عصاً، أو حمل مِقلاعاً، وأخذوا يتنادون ويتأهّبون للجيش واجتمعوا بعد وقت قصير، وقد وقف على رأسهم أبو جهلٍ، عمرو بن هشام يزعق فيهم كالغراب قائلاً:
«وَيْحَكُمْ يا معشر قريش!... أتتركون محمداً يظن بأنها مثل عير ابن الحضرميّ؟ كلاَّ والله ليعلمنَّ أنها غير ذلك!... فهيا بنا إليه لِنريهُ وأصحابه من هي قريش، سادة العرب»!.
... واجتمعت قريش وهي تتلهّف لملاقاة محمد لا لتردَّه عن أموالها فقط، وإنما لتظفر به بعد أن نأى عن أذاها، وتزيل الهمَّ الذي باتَ يُقِضُّ مضجعها، ويحرمها لذة العيش، فيما تسمع من أخباره في المدينة. وراح أشراف قريش وأبناؤها يستعدون للقتال، ويتأهبون للانطلاق، ومن لم يَقدِرْ على الخروج أَنابَ عنه من يقوم عنه بديلاً، فتخلَّف بذلك أبو لهب، بعدما بعث مكانه العاصَ بن هشام بن المغيرة مقابل أربعة آلاف درهم كانت له ديناً عليه، ولم يكن قادراً على إيفائها بسبب إفلاسه. كما حاول التخلّف أميَّة بن خلف، لكبر سنِّه وفتور همته، فقعد بجانب المسجد يشهد استعداد القوم، ولكنَّ عُقْبةَ بن أبي مُعيط وأبا جهل بن هشام، لم يتركاه وشأنه، بل ذهب الأول وجاء بِمجْمَرةٍ فيها بخورٌ وجاء الثاني بمِكْحَلةٍ ومِرْوَدٍ، فقال له عقبة وهو يضع المجمرة أمامه:
ــــ يا أبا عليّ استَجْمِرْ فإنما أنت من النساء.
وقال له أبو جهل وهو يأبى إلاَّ أن يناوله المكحلة بيد:
ــــ اكتحلْ أبا علي فإنما أنت امرأة.
وطار صواب أميَّة بن خلف من تهكُّم الرجلَين وازدرائهما، فقام يُلملِمُ شَتاتَ نفسه، ويخرج مع القوم، حتى لم يبقَ أحدٌ في مكة قادراً على القتال إلاَّ وخرج...
وسارت قريش تريد ملاقاةَ أبي سفيان للاطمئنان على أموالها.. أمَّا أبو سفيان فإنه، بعد أن بَعَثَ ضمضمَ لاستنفار قريش، سبق العِيْرَ ليستكشف الطريق بنفسه، مخافَةَ أن يداهمه محمد وأصحابه على حين غِرَّة.. فلما قَرُبَ من بدر، وردَ الماء، فإذا به يجدُ عليه مَجْدِيُّ بن عمرو، فسأله إن كان قد رأى أحداً في تلك الناحية منذ فترة؟!.. فأجابه مجديُّ بأنه رأى راكبين قد أناخا على تلٍّ هناك بعدما استقيا، ثم لم يلبثا أن رحلا.. فأتى أبو سفيان إلى حيث أشار الرجل من مُناخِهما، وراح يبحث عن أثرهما، فوجد بَعْراً أخذه وفركه بيده فعرف أنه من علائف يَثْرِب، فقال في نفسه:
«هذه عيونُ محمّدٍ قد وصلت إلى هنا، وقد تتقصَّى أخبارنا»!..
وقفل مسرعاً إلى قافلته، يحوِّل وجهةَ العِيْر عن بدر وقد تركها إلى يساره، ويتوجه بها ناحية ساحل البحر، وبذلك استطاع أن يبعد ما بينه وبين محمد وأن ينجو بأموال قريش..
أما النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان رَجُلاهُ قد عادا وأخبراه بما سمعاه عن قرب قدوم القافلة، فأغذَّ السيرَ مع جيشه حتى بلغوا وادياً يقال له ذفران نزلوا فيه، وهناك جاءهم الخبرُ بأن قريشاً قد خرجت على بِكْرة أبيها، برجالها وفرسانها، ليمنعوا عِيْرَهم. إذ ذاك تغيّر وَجْهُ الأمر، وأصبح محصوراً بلقاء قريش أو عدم لقائها، لا بقافلةِ أبي سفيان وما تحمله من أموال!...
وجَلَسَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، مفكِّراً قبل أن يعرض الأمر على المسلمين..
فهل يعود من حيث أتى؟!...
وإن فَعَلَ ألا يجعل ذلك قريشاً تطمع به، ثم تطمع به اليهود أيضاً في المدينة؟.
وبماذا يعتذر إذا عمدت اليهود إلى الاستهزاء بالمسلمين، وما كان لهم من موقف من قريش؟.
ولو فرضَ ورأى في المهادنة سبيلاً إلى تهيئة الأجواء التي يريد فهل يقدر أن يتّخذ موقفاً حاسماً لا يكون فيه جدال وكثرة أقاويل قد تُضعِف موقف المسلمين، أو تؤثِّر على انتشار الدعوة؟!..
ورأى أن يستطلع رأيَ المسلمين في ما يجب الإقدام عليه، فوقف في جنده وأخبرهم بفرار أبي سفيان بالعير، وبخروج قريش وأهل مكة، فقام المقداد بن عمرو، متكلماً بلسان المهاجرين وقال: «يا رسول الله، امْضِ لما أرادَكَ الله فنحن معك، ولا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: «اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلاَ إنَّا هاهُنا قاعدون؛ بل نقول لك: امْضِ لأمرِ ربِّك فإنا معك مقاتلون»...
فدعا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، له وللمهاجرين بالخير.. ثم سكت، فخيَّم السكوت بدوره على المسلمين.. ولكنَّها برهة عَبَرتْ، وعاد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «أشيروا عليَّ أيها الناس»..
ومَن يقصد رسولُ الله بقوله هذا؟!..
فالمهاجرون وَضُحَ موقفهم، إنهم على استعداد للقتال، وقد أبداه صراحةً المقداد بن عمرو.. إذن بقي الأنصار، والرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يعنيهم هم!.. نعم إنه يريد موقف هؤلاء الذين بايعوه يوم العَقَبَة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، ولم يبايعوه على قتالٍ خارج مدينتهم، فلهم الحقُّ في اتخاذ الموقف الذي يرَون، ولا غضاضةَ عليهم، ولو امتنعوا عن القتال!.. ولكن هل يفعلون؟!..
وأحسَّ الأنصار أن رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يريدهم، فقام سعد بن معاذ، صاحبُ رايتهم، وقال له:
«لكأنّك تريدنا يا رسول الله»؟.
قال الرسول العظيم: «أجل».
قال سعد: «لقد آمنا بك وصدَّقناك وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. ولعلّك يا رسول الله تخشى ألا تكون الأنصار ترى عليها إلاَّ نَصْرَكَ في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار: فاظعنْ يا رسول الله حيث شِئت، وصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئتَ، أو اقْطَعْ حبلَ من شئت وسالِمْ وعَادِ من شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحبُّ إلينا مما تركت، وما أَمرتَ فيه من أمرٍ فأمرُنا تَبَعٌ لأمرك.. فامضِ لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخضناه معك، وما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى فينا عدوَّنا غداً. إنَّا لَصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللِّقاء. لعلَّ الله يريكَ منا ما تَقَرُّ به عينُك. فَسِرْ بنا على بركة الله».
ولم يكد سعدٌ (رضي الله عنه) يُتِمُّ كلامه حتى أشرق وجهُ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بالمسرَّة، فقال مخاطباً الجيش: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفَتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مَصَارِعِ القوم».
وتأهّبَ المسلمون مرتحلين عن وادي ذَفِران، حتى بلغوا مكاناً قريباً من بدر ... فسألوا من لاقوه في تلك الناحية عن زحفِ قريش، فعرفوا أنهم ينزلون غير بعيدٍ من هناك.. فبعث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن بي وقاص (رضي الله عنهم) في نفرٍ من الصحابة إلى ماء بدر يتلمّسون له أخبار قريش.. ولم تلبث هذه الطليعة من جنود المسلمين أن عادت وهي تصطحب غلامَين، قد يُفيدان بمعلومات يُعطيانها..
وآنس هذان الغلامان من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حبّاً يفيض من قلبه على حديثي السن، فوقفا بين يديه يجيبانه بما يعرفان عن قريش، فسألهما عليه وعلى آله الصَّلاة والسلام عن مقام القوم، فقالا له: إنهم في الناحية الأخرى وراء ذاك الكثيب من الرمال (وأشارا إلى ما يريدان أن يدلاَّه عليه)..
فقال لهما الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «وما عدد القوم؟»..
فأجاب الغلامان بأن في القوم عدداً كثيراً، ولكنهما لا يعرفان مقداره..
فقال لهما: كم ينحرون كل يوم؟.
فأجابا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الجزور.
وأدرك النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من ذلك أن عدد قريش يتراوح بين التسعمائة والألف من المقاتلين.. إذن فالأمرُ خطيرٌ على المسلمين.. إن قريشاً تزيدهم في العدد ثلاثة أضعاف.. ومع ذلك العدَدِ لا بد أن يكون قد خرج أشراف قريش، وسائر رجالاتها من أشداء العزم، وأقوياء الشكيمة، وهذا كله سيجعل القتال على المسلمين شديداً، لعدم وجود التكافؤ بينهما لا في العدد ولا في العتاد.. ولكن!.. وأيّاً كانت القوة التي بلغتها قريش، ومهما كان شأنها عظيماً، فهل هي تحوز تلك الشعلة النورانية التي تتوهج بها أفئدة المسلمين، والتي يحيلها الإيمان، ساعةَ الوغى، شظايا لاهبة، تذيب الحديدَ على أجسام المشركين، لتنفذ إلى قلوبهم فتحرقها وتجعلها رماداً تذروه الرياح في كل جانب؟!..
لا!..
إن قريشاً لا تملك هذه القوة..
لأن هذه القوة للمسلمين وحدهم.. فهم يملكون نورَ الإيمان الصادق بالله تعالى، ومع هذا الإيمان فلا خوف من عديدِ جُندٍ، ولا بأسَ من كثرة عتاد.. فأصحابها مشركون، وكفى بهم شركاً يؤدي بهم إلى الخذلان والخسران...
ولكنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إنسانٌ واقعيٌ، وقائدٌ حكيم، ولا يقبل بأن يدفع بجيشه الفتِيِّ إلى معركة سوف تكون حامية الوطيس قبل أن يطلعه على الحقائق تامة، وبخاصّةٍ في إظهار الفروقات بينه وبين جيش المشركين.. فأخبرهم بعزمه الثابت بما عند قريش، وأبانَ لهم نقاط قوتها ونقاط ضعفها، كما أوضح نقاط ضعف المسلمين من الناحية المادية، وقوتهم من الناحية الإيمانية، ثم نبَّههم إلى أن مكة قد ألقت إليهم بأفلاذ أكبادها برمَّتها، وهم يتربصون بهم العداوة والبغضاء رغم ذهاب عيرهم، ونجاة أموالهم...
وهذه المصارحة الحكيمة من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نفذت إلى القلوب فزادتها قوةً وإيماناً إلاَّ بعض القلوب الضعيفة فقد دخل الشيطان يوسوس في نفوس أصحابها ويوهنهم ويُريهم ما هم عليه من ضآلة العدد، وضعف الأُهبة، وقلّة السلاح بينما يزين لهم ما تتمتع به قريش من قوة في العدد والعدّة، واستعدادها للقتال وأنها لم تخرج إلاَّ ونية الحرب غايتها القصوى... وحيالَ هذا الفارق ماذا يمكن أن تكون النتيجة لو التقى الجيشان، ودارت رحى الحرب تطحن الرجال والأبطال؟!.. ألا تكون لصالح قريش حتماً؟!...
وزادَ تلك الجماعة القليلة من المسلمين نفوراً من القتال وجودُهم في مكان بعيد عن الماء، يفصل بينهم وبينه كثيب من الرمل لا يُمكن قطعُه، إذ تغوص فيه الأقدام، فلا تقوى على المشي... ولم تعلن هذه الجماعة المخاوف التي امتلكتها بل راحت تتحيّن الفرصة المواتية لإظهار ما أضمرت.. فإذا انقضى بعض الوقت، وفقد منهم الماءُ، وأعوزتهم الحاجة إليه للشُرْب وللوضوء والصلاة (إذ لم يكن قد رُخِّص بعد بالتيمُّم)، عادَ الشيطان من جديد يوسوس في الصدور، ويلقي الرعب في القلوب، مما قد يصيبهم من عطش يقطّع الأمعاء ويهدُّ القوى، فيكون السبيل مفتوحاً للمشركين كي يتحكَّموا في مصيرهم كيفما شاؤوا.. عندها ظهر أصحاب تلك النفوس الضعيفة لأنهم لم يعودوا يطيقون اصطباراً، وتحملاً على ما يداخلهم من تخوّف، وراحوا يجادلون النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في فائدة قتال لا تكافؤَ فيه بينهم وبين الأعداء، وكانت حججهم قد تركَّزت حول حاجتهم إلى الماء، وهو مادة الحياة للإنسان، فكيف إذا وجد في الصحراء وفي ظرف مثل ظرفهم! وأي جيش يقدر على مواجهة عدوٍ إذا فقد الماء؟ أفلا يجعله ذلك يفقد أعصابه قبل فقدان حياته؟ وأية نفوس يمكنها أن تدخل معركةً وهي مزعزعةٌ مهزومةٌ في داخلها، لِمَا يخالطها من مثل هذا الحرج، ومن مثل هذا القلق؟!...
لقد برزت تلك الفئة في جيش المسلمين تريد العودة إلى المدينة بلا قتال، وفيها نزل قول الله تعالى:
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} ...
وقوله سبحانه وتعالى:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} .
وإذا كانت للشيطان غوايةٌ تمكِّن له أن يرميَ أقوى النفوس بسهام الضعف، وأن تصيبَ الجماعةَ المتلاحمةَ المتكاتفة بالخوَر والهوان، فإنَّ سلطان الحق يبقى أقوى وأشدّ، وإنّ فِعْلَه هو الغالب في نهاية المطاف..
لقد أمكَنَ للشيطان أن يُدخل الشك في نفوس جماعة من جند المسلمين وتربَّعَ يقهقه في تلك الساعة، لشدة نشوة انتصاره، إلاَّ أن قهقهته ما لبثت أن تحولت إلى صراخٍ وعويل، وهو يرى نَجْدةَ السماء تجيء المسلمين، إذ أنزل الله سبحانَه عليهم المطر مدراراً، فتأمَّن لهم الماء، يشربونه رقراقاً صافياً، ويملأون به قُرَبَهُم، ويسقون به إبلهم، ثم يقومون متطهرين مُصَلّين، وهم يشكرون الله على نعمائه، ويلعنون الشيطانَ على وسوسته..
وينتهي المسلمون من صلواتهم، فيشدون الرحالَ من جديد، إذ بلَّل المطرُ الرملَ تحت أقدامهم، فتلبَّد وصار السيرُ عليه سهلاً ممكناً لا يثقل الأقدام ولا يتعب الأجسام، فعاجلوه قطعاً حتى لا يجفّ تحت أشعة الشمس، وما زالوا يغذُّون السير، حتى وصلوا واديَ بدر، فنزلوا في العدوة الدنيا مما يلي المدينة.. وهم يريدون راحةً مما أصابهم من جهد، واطمئناناً مما أقلقهم من حرج.. إذ كان صعباً عليهم أن يروا بين صفوفهم جماعةً داخَلَ قلوبَها الضعفُ واعتوَرَ عزيمتها الوهنُ، وكانت قاسية، حرجةً تلك اللحظات، التي استبدَّ بها الخوف في تلك الجماعة حتى رأت العودة دون ملاقاة قريش... أما الآن وقد ركن إليهم السكون، فإنَّ في ذلك عزاءً لهم، وإن كانوا لا يزالون يشعرون بأن الاطمئنان غير كامل.. إذ ما زال في الأجواء تلبُّد غيومٍ كثيف، ولكنهم لا يدرون مصادره..
وفيما هُم وتلك الهواجس المقلقة يتصارعون، إذْ أصابتهم غشيةٌ من النعاس فانقلبوا نياماً..
نعم، ناموا فجأة، وبقدرة قادر، خيَّمَ عليهم سُباتٌ عميق..
ناموا وكأنهم لا يحفِلون بأيِّ أمرٍ من أمور الدنيا، وكأنهم في بيوتهم وبين عيالهم وأبنائهم، لا بين أذرع الفَلاة أو في أجواء الحرب والقتال..
.. ثم صَحَوْا من النوم!...
الله أكبر، ما هذا النعاسُ الذي غشاهم، فاستفاقوا من بعده، وحالهم غيرُ حال!..
إنهم جميعاً، وبلا أدنى ريبٍ أو شَكٍّ يشعرون بأنّ عليهم مواجهة قريش، وإعطاءها درساً في الذل والهوان لا تنساه أبداً ما عاشت!...
فأين إذن ذلك الخوف الذي استبد بهم حيناً؟!..
وما هذا الأمن وهذا الأمان اللذان يرفرفان بأجنحتهما فوق رؤوسهم؟!
وأين ذلك القلق وقد تلألأت أشعة الشمس تغطيهم طمأنينة وسعادة؟!..
وأين ذلك الخور والتعبُ اللذان رافقاهم طوال الطريق، ونزلا معهم في كل منزلة نزلوها، ونفوسهم الآن تطفح بالصلابة والعزم؟!..
وأين تلك الوسوسة التي زيّنت لهم الإياب إلى الديار، وها هي الشهادةُ تشدُّهم إلى ملاقاة العدو؟!...
نعم أين ذلك كله، وقد بات نَسْيًا منسياً!...
صحيح إنَّ المطر قد أذْهَب من طريقهم بعض الصعاب التي ظنوها كأداء، وبدَّدَ كثيراً من الغيوم التي تلبّدت في سمائهم سوداءَ، ولكنَّ هذا النوم الذي أتاهم، قد جعلَ الأمور تختلف اختلافاً كلّياً. فهو لم يُزِحِ الأثقالَ عن صدورهم وحسب، ولم يحطّم كل حاجز أو عائق وقف يَحولُ بينهم وبين هدفهم الذي يريدون، بل جعلهم كتلةً واحدةً، وإن تمثلت في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.. تلك هي قدرة الله، وآياته العظمى دليل ساطع، على تبدُّل حال المسلمين، إذ نزلت تلك الآيات تنطق بحكمته عزَّ وجلَّ:
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} .
الله أكبر ما أعظم حكمته، وما أجَلّ قدرته..
بأمره الجليل، وفي برهةٍ من سناء تقديره، تغيرت الأحوال، فعادَ المسلمون إلى حقيقتهم، مسلمين حقاً لله، وجنوداً لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لا شيء في كيانهم، إلاَّ حبّ الله العظيم وطاعة رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم..
أَلا ما أجمَلَ هدأة النفس بعد قلق يصيبها، وما أروع عودة اللُحمة إلى صفوف الجامعة بعد علامات تنذر بالتشتت والتصدع.. وليس عيباً ما يحلُّ بالإنسان في ساعة ضعف يخذله بها الشيطان ما دام نداءُ الحق يبقى قائماً في داخله، وهو وحده كفيل بأن يعيده إلى حقيقته، وأن يقدِّم له سُبُل الغلبة على ضعفه، فيطرد الشيطان خاسئاً خاسراً.. ولقد مكّن الله سبحانه وتعالى للمسلمين في تلك الواقعة من قوة الإيمان ما يستطيعون به أن يطردوا الشيطان ويُلحقوه بصفوف المشركين كي يزيدهم هَوَساً وضياعاً.. وإنَّ في نفوسهم ما تمتلىء به استجابةً لندائه الخبيث.
نعم، لقد أذهبَ الله سبحانه رِجْزَ الشيطان عن المسلمين، فأسرَعَ اللعينُ إلى جُنْد المشركين يزيِّن لهم أعمالهم، ويصوِّر لهم خروجهم من مكة على تلك المظاهر التي خرجوا فيها من القوة والخيلاء، ويجذبهم إلى إدلالهم بالغطرسة والصلافة والتوهُّم بأنهم قادرون على سحق المسلمين في أقل وقت، وأهون سبيل...
وظنَّ المشركون أنهم فعلاً هم الأعزَّة الذين لا يذلُّون، وأنهم كانوا وسيظلون أهل الحرم وسَدَنَةَ البيت، فإن جاءَ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بصحبه لينزع عنهم هذا الشرف التليد، فلسوف يرى أيَّ سوءِ عاقبة ينتظرُهُ، وأيَّ مصيرٍ سيلقى، إنها ستكون ضربتهم الشديدة للقضاء عليه وعلى إسلامه..
هكذا كان فعل الشيطان في نفوس المشركين، كما يُبيِّنه قول الله سبحانه وتعالى بقوله:
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} ...
وخُبْثُ الشيطان لا يقف عند حدود، إذا وجد التربة الصالحة لنفث سمومه.. وهل أكثر من نفوس أهل الشِّرْك قبولاً بوساوسه وتزيينه، ما داموا أنصاراً له ولباطله؟!...
وهل يهتمّ الشيطان لمصير أنصاره هؤلاء؟!...
إنه عدوٌ للإنسان، أياً كان هذا الإنسان، ومهما كان معتقده..
وإنَّ له مأرباً في تلك الساعة الجهنميّة، وهو أن يفتك ببني الإنسان قدر ما يستطيع، طالما أن الفرصة سانحةٌ له.. وإذا كان قد أوهَمَ معشَرَ قريشٍ بمظاهر القوة الخادعة، فإنه ينوي في الوقت نفسه، أن يبذُر الشقاق في نفوسهم، وأن ينشر الخلاف في صفوفهم، حتى يستبِدّ بهم ضعفٌ يؤدي إلى تقتيلهم شرَّ تقتيل...
وها إنَّ هؤلاء القرشيين يختلفون فعلاً في ما بينهم.. فقد تلقوا خبراً من أبي سفيان بن حرب يقول لهم: «يا معشر قريش، إنكم خرجتم لتمنعوا العير وتحموا الأموال، وقد نجّاها الله لكم، فارجعوا»..
وتلقى فريقٌ منهم هذا الخبر بفرح وسرور، إذ فيه ما يتيح لهم العودة إلى حياة الدَّعة واللذة، وإلى ليالي الغناء والطرب والجواري، وأين منها هذه الإقامة في البطاح، وبين كُثبان الرمال، حيثُ يفترشون الأرض بحرِّها في النهار، ويستظلّون السماءَ ببردها في الليل.. لا!.. ليست هذه هي الحياة التي يحلُمُ بها أبناء قريش وقد اعتادوا يسيرَ العيش ورغد الأيام..
ولكنَّ هذا الموقف لم يُرضِ أصحاب التكبُّر والخيلاء، ولم يقنع ذوي الغطرسة الجوفاء، إذ كيف يقبلون بالرجوع إلى مكة، وقد رابط محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه في الناحية الثانية، ولا يُقدمون على ملاقاته!...
هنا وقف أبو جهل بن هشام يَصيحُ في وجوه دعاة الرجوع بلا قتال، وهو يقول: «يا معشر قريش، أتحسِبون وقد عُدتم أنْ تظلَّ لكم مكانةٌ عند العرب تسودون فيها عليهم، وتتصدون بعدها لطمع المسلمين؟!..
يا معشر قريش، والله لا نرجع حتى نَرِدَ بَدْراً، فنقيم عليها ثلاثاً، ننحر الجُزُورَ، ونطعمُ الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، فتسمع العرب بنا وبمسيرتنا وجمعنا، حيث ما تزال العرب تهابنا أبداً»...
واشتدَّ النزاعُ بين القوم، فوقف فريقٌ دونَ أبي جهل لا يوافقه على رأيه في القتال لأنه يعرف أن الرجل لا يريد إلاَّ تحقيق مآرب خاصة وفي طليعتها زعامة قريش، فعندما وجده أصحاب هذا الفريق على إصراره وعناده، تركوا القوم وقفلوا راجعين إلى مكة، وكان من بين هؤلاء بنو عدي وبنو زهرة، الذين اتبعوا قَسْورَةَ الأخنسَ بن شريف، وكان فيهم مُطاعاً، فلم يشتركوا في القتال، ولم يشهد بدراً زهري واحد.. عادَ هؤلاء بينما اتَّبعت سائرُ قريش أبا جهل، تحذو حذوه، وتسير على خطاه، رغبةً بملاقاة المسلمين وتقتيلهم، وخوفاً من لؤم أبي جهل وبطشه، أو هرباً من تشنيع بعض سفهائهم! لكنْ، وأياً كانت الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك المنزلق الخطير، فإنهم ساروا، وهم يعلنون عن أنفسهم بسائر المظاهر المزيفة، وشتى الوسائل الخادعة، حتى وصلوا وادي بدر، فنزلوا بالعُدْوة القصوى من ناحية مكة..
وهكذا اجتمع الفريقان في وادي بدر.. المسلمون بالعُدْوة الدنيا، والمشركون بالعدوة القصوى... ولم يكن هذا الاجتماع، بعدما ذهب الدافع إليه، وهو عِيْرُ قريش بأموالها، إلاَّ تدبيراً من الله سبحانه، فله التدبير والحكمة العليا في كل ما يشاء، وقد كانت مشيئته سبحانه الجمعَ بين المؤمنين والمشركين في تلك الناحية، من غير موعد اتفقوا عليه:
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُم بِالْعُدْوَةِ الْدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} .
وإن هذا اللِّقاء ليكاد يكون صِنْوَ المعجزة.. فجنود محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأنصاره إلى الله، عِدَّتُهُم قليل، بالقياس إلى جنود المشركين وقوة استعدادهم.. وإنَّ كل عوامل النصر في ظاهره اجتمعت إلى جانب المشركين، بينما ظهرت كل عوامل الهزيمة إلى جانب المؤمنين.. والإعجاز فيه إرادة الله الغالبة، بأن تجري المعركة بين الكثرة المشركة والقلّة المؤمنة، لتكون فرقاناً بين تصوُّرَين مختلفَين، وتقديرَين متناقضَين، أحدهما يعتمد العقيدة مسلكاً، والآخر يتخذ دروب الضلالة مأرباً، ليتبيَّن للناس أن النصر دائماً للعقيدة الحقة الصادقة، ما دام منطق هذه العقيدة الإيمانَ بالله الواحد الأحد وبقدسية الحق الذي يبعثه من عنده سبحانه.. فيكتب الله النصرَ للمؤمنين مؤيداً، كما يدل عليه قوله تعالى في محكم كتابه المبين:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
إلى ما هنالك من آيات مُحْكَماتٍ في القرآن الكريم، تدلّ كلها دواماً على حقيقةٍ قد يتعامى عنها الناس، أو قد يتغافلون عن مضمونها أو فهمها، وهي الحقيقة الساطعة بأن الغلبة للحق، وأن الهزيمة للباطل.. فإن ظنَّ الناسُ أو اعتقدوا بأن الحق للقوة أو للكثرة والعتاد، وخدعتهم المظاهر، فذلك وهمٌ يخالف الحقيقة لأن القوةَ للحق، والغَلَبةَ للحق ويجب أن تكون للحق، لأنَّ الحق من عند الله تعالى، وهو سبحانه مع الحق أبداً:
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} .
أما رسول الإسلام، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أعرف الناس بتلك الحقيقة، ولذا كان أوثق أصحابه وجنده إيماناً بنصر الله تعالى... فبات أصحابه نياماً، وبقي هو ساهراً، قائماً على الصلاة داعياً ربَّه تعالى أن ينجز ما وعده به.. وطلع الفجرُ، والنبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ما زال يصلي، فهبَّ الجيش بأسره، يصلي وراء هذا الرسول العظيم، والقائد الحكيم، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إذا أتمَّ صلاته بهم خرج إلى ماء بَدْرٍ يريد أن يسبق قريشاً إليها، فلما جاء أدنى ماءٍ نزل به.
وكان الحبَّابُ بن المنذر بن الجَموح في جيشه، وكان عليماً خبيراً بالمكان. فلما رأى النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ينزل حيث نزل، تقدم وسأله: «يا رسول الله، أهذا المنزلُ أنزلَكَهُ الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة»؟!..
فقال له رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة».
فقال الحَبَّاب: «يا رسول الله، إنَّ لي خبرة في هذه الأمكنة، فقد غشيتها مراتٍ عديدة في حياتي، وأعرف المواقع جميعها فيها، فإن شئت موقعاً أكثر توافقاً لنزول المسلمين، فانهض بهم حتى نأتي أدنى ماء من القوم، وافر المياه، غزيرها، فننزله، ونُغَوِّر ما عداه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً نملأه ماءً، فنشرب ولا يشربون»...
واستحسن الرسول الكريم ما قاله حبّابُ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد أشرتَ بالرأي يا حبّاب»...
وعلى الفور أصدر النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، الأوامر، فانتقل القوم إلى الناحية التي ارتآها الحبّاب، فنزلوا بها، حتى صاروا أقرب منزل من قريش، لا يفصلها عنهم إلاَّ كثيب من الرمل.. فباشرت جماعة ببناء الحوض على البئر، وقامت جماعة أخرى بطمس ما وراء ذلك من آبار.
واستقرَّ المقام بالمسلمين، فجاءَ سعدُ بن معاذ، يشير على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يُبْتَنَى له عريشٌ، يمكنه منه الإشراف على المعركة، وإصدار الأوامر والتوجيهات، ويكون في الوقت ذاته المكان الآمن من غدر العدو.. فقال سعد: «يا نبيَّ الله، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ويصُدُّ عنك المهاجمين، ثم نلقى عدوَّنا، فإن أعزَّنا الله وأظهَرَنَا عليه، فذلك النصرُ من عند الله، وإن كانت الأُخرى، جلستَ على ركائبك، فلحقتَ بمَن وراءنا من قومنا، فقد تخلَّف عنا أقوامٌ ما نحن بأشدَّ حبّاً لك منهم، ولو ظنوا أنك ستلقى حرباً، ما تخلفوا عن المسير بين يديك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك»...
أوَليس رأيُ سعدٍ كرأي الحبّاب؟ بلى، إنه من المقوِّمات التي يرتكز عليها سير المعركة، كما نعرفه في عصرنا؛ ألا يكون همُّ الجيش المحارب قطع الإمدادات عن العدو، وإنَّ أهمَّ إمداد آنذاك هو الماء في تلك الصحراء، ثم ألا تكون للقادة الذين يُسيّرون المعركة، غرفة للعمليات عنها تَصدر الأوامر والتعليمات، وفيها يُؤْمَنُ على هؤلاء القادة من العدو؟!...
إذن فالمسلمون اعتمدوا الأساليب الحربية الصحيحة، التي من شأنها أن تؤمِّن لهم النصر.. فكان قطع الماء عن قريش، وكان بناء العريش للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، يشرف منه على المعركة ويسيرها لأنه القائد المنوط به إعطاء الأوامر، وإصدار القرارات، فأي فكر أدعى للإعجاب من هذا الفكر، وأي إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان الإسلامي!...
وأثنى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، على سعد، كما أثنى على الحُباب، فبُنِيَ العريش على تلًّ مُشرف يشكِّل ظَهرُه حمايةً طبيعيةً، ويُقبِلُ وجهه على المعركة بحيث يرى مَنْ فيه كلَّ ما يجري أمامه بوضوح...
انتهت تلك الترتيبات، فقام الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يسوِّي الصفوف، وينظِّم ترابطها بطريقة جعلت جنوده يتوجهون لناحية الغرب بحيث تكون الشمس من ورائهم، حتى إذا أقبل المشركون كانت الشمس في وجوههم، ثم دفع برايته إلى مصعب بن عمير، وأشار إليه بأن يضعها في المكان الذي عيَّنه، ثم وقف صلى الله عليه وآله وسلم، ينظر إلى تلك الصفوف وقد رُصّت وسوّيت، فانشرح صدرُه لذلك المنظر الرائع، فطَفِقَ يتفرَّسُ في هذه الوجوه المؤمنة، ويرقبُ هذه الثُلَّة المتقدمة التي وقفت على أهبة الاستعداد، فحمدَ الله وأثنى عليه ثم خطب يحثُّ على القتال، ويرغّبُ في الأجر، فقال:
«أما بعدُ، فإني أحثكم على ما حَثَّكم الله عليه، وأنهاكُم عما نهاكُمُ الله عنه. فإنَّ الله عظيم شأْنُهْ، يأمر بالخير، ويحبُّ الصدق، ويُعطي الخيرَ أهلَه على منازلهم عنده. وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله تعالى فيه من أحد إلاَّ ما ابتغى به وجهه. وإن الصبر في مَواطن البأس ممَّا يُفرِّج الله به الهمَّ، وينجّي به من الغمّ، وتُدرَك به النجاةُ في الآخرة... فيكم رسول الله يحذركم ويأمركم، فاستحوا اليوم أن يطَّلع الله عزَّ وجلَّ على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله تعالى يقول:
{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنْفُسَكمْ} .
وابْلُوا ربكم في هذه المواطن أمراً تستوجبوا به الذي وعدكم من رحمته ومغفرته، فإن وعدَه حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، يغفر الله لي وللمسلمين».
وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يخططون استعداداً لبدء المعركة، كانت قريش قد أقبلت منصبَّةً من كثيبها إلى الوادي، ونزلت منازل القتال.. وهكذا صار الفريقان في موقع المواجهة...
وأراد أبو جهل أن يتبيّن عدد المسلمين، فاختار لذلك عمير بن وهب الجمحي، وكان فارساً شجاعاً وكلَّفه بالقيام بجولة استطلاعية أمام جيش المسلمين، فجاء هذا الفارس القرشيُّ يجول بفرسه قبالة عسكرهم، ثم رجع إلى أبي جهل يقول له:
«إنهم في العدد لا يزيدون على ثلاثمائة إلاَّ قليلاً. ولا كمينَ لهم ولا مورد، ولكنهم قومٌ ليس لهم مَنَعَةٌ إلاَّ سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلاً مثله.. إنهم، وما يبدون، نواضحُ يثرب قد خرجت تحمل الموت الناقع، ترونهم خُرْساً لا يتكلمون، ويتلمَّظون تلمُّظ الأفاعي.. فإن أصابوا منا أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟!».
وسُرّ أبو جهل لخبر قلة المسلمين، ولكنْ لم يُعجبه كلامُ عمير بن وهب، فقال له بعدما أنهى كلامه: «كذبت وَجبنت.. فما هم بقادرين على قتالنا.. ما هُمْ إلا أكْلَة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد»!...
وأرادَ رسولُ الله أن يُشهِدَ ربَّه على أنه أوفى بالحسنى، وأنه وإنْ كانت قريش عدوَّة دينه وعدوه اللدود، فإنه لا يريد إهراق الدم، إن كان ثمة وسيلة للسلم والتفاهم أو ما يوصل إلى تقبُّل الحقيقة والانصياع لحكمها، فبعث إليهم برسول يقول لهم:
«يا معشر قريش، إن رسولَ الله يدعوكم للرجوع إلى دياركم، فإنه يكره أن يبدأ بكم، فخلُّوه والعرب حتى يرى أمره فيكم»!..
ورأى عتبة بن ربيعة صدقاً فيما بعث إليهم محمدٌ، فصاحَ في قومه: «ما ردَّ هذا قومٌ عقلاءُ قطُّ.. فأفْلِحوا يا معشر قريش!...».
ثم ركب جملاً له أحمر اللَّون، وراح يجول بين المعسكرين، ناهياً عن القتال، فنظَر إليه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: «إنْ يَكُ عند أحدٍ خيرٌ، فعند صاحب الجمل الأحمر، وإنْ يُطيعوه يَرشدوا».
وبعدما جالَ عتبة بن ربيعة على جَمَلِه مراتٍ عديدة، وقف يخطب في قومه وهو يقول:
«يا معشر قريش! أطيعوني اليوم واعصوني الدّهرَ. إنَّ محمداً له إِلٌّ [= عَهْدٌ] وذمة، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله، أو رجلاً من عشيرته.. فارجعوا وخلُّوا بينه وبين العرب. فإن يَكُ صادقاً، فهو ابنُ عمًّ لكم، وأنتم به أعلى عيناً. وإن يكُ كاذباً كفتكُمُ ذؤبان العرب أمرَه، وذلك الذي أردتم»..
وثارت ثائرة أبي جهل لما يسمع، وخاف أن يُفسد عليه عتبةُ ما دبره لقتال محمد، فطلب عامرَ بن الحضرمي ــــ أخا عمرو الذي قتل على يد رجال سرية عبدالله بن جحش ــــ يؤجّجُ في صدره نار الثأر لأخيه، وهو يقول له: «أرأيت يا عامر! هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس. وقد رأيتَ ثأرك بأمِّ عينك، قم فانشد مقتل أخيك».
وركب عامر على فرسه، وراح يصرخ في ملأ قريش: «واعَمْراه! واعَمْراه!...»...
وتواثبت صرخة الثأر من نفس إلى نفس، تُهيِّج حَمِيَّةَ الجاهلية، ولبَّى نداءَها زعاقُ الموت عويلاً خانقاً، فدوَّت في جنبات بدر أصداءُ المنايا وهي تهتف بالرجال: «هلموا إلى حتوفكم فقد دنت مواسمُها»..
وانبرى من بين صفوف المشركين، رجلٌ صعَقَهُ هتافُ الثأر، يدعى الأسود بن عبدالأسد المخزومي، واندفع نحو المسلمين، يريد أن يهدم حوض الماء الذي أقاموه، وهو ينادي: «لأُعاهدنَّ آلهة قريش: لأشربَنَّ من حوضهم ولأهدمَنَّهُ أمام عيونهم، أو لأموتَنَّ دونه»... وقهقهت آلهة قريش ساخرةً من استنجاده بها، وطلب كرامتها، ثم قذفتْ به كمثل كرة تتدحرج، فتلقّاه الحماةُ الأشاوسُ الذين وقفوا متأهبين لكل هجوم، حتى إذا اقترب من الحوض، اندفَعَ إليه حمزةُ بن عبدالمطلب كاللَّيث الجسور، يستقبله بضربةٍ من سيفه فيقطع ساقَهُ، فيسقط على الأرض يشخَبُ دمُهُ، ثم يعاجله بضربة أخرى، تقضي عليه، وتُرديه جثة هامدة لا حراك فيها..
ورأى أبو جهل ما حلَّ بالأسود، فاستشاط غضباً على عُتبة بن ربيعة، وراحَ يكيل له الشتائمَ، ويُلصق به أشنعَ التهم وهو يقول له: «أرأيت أيها الشيخ الهرم ما فعلَ سحرُك وجبنُك؟ لقد حرَّضت القوم على الرجوع إلى مكة لتقاعسٍ منك وخوف، فما أنتَ إلاَّ حقير لا يقوى على قتال»...
ووقف عُتْبةُ في وجهه يردُّ عليه شناعته: «أيها اللئيم الخبيث، أمثلي يجبن؟ ستعلم قريش أيّنا جبان مفسدٌ لقومه!.. لقد زرعت الفتنة ونجحتَ ولكنك ستحصد شرَّ ما زرعت»..
فلم يلبث عُتبةُ بعدها إلاَّ أن دعا أخاه شيبة وابنَه الوليد، واستحثَّهم على المبارزة، ثم انطلق أمامهما نحو صفوف المسلمين وهو ينادي: «يا محمد... ها نحن سادةٌ من قريش قد جئنا نقاتلك، فهلّا بعثت إلينا أكفاءنا من قريش؟»...
وما كادَ يُنهي مناداته حتى وجد قبالته ثلاثة شبان خرجوا إليهم وهم: عوف ومعوّذ ابنا عفراء وآخر معهما من الأنصار. وتفرَّس عتبة في وجوههم، فلم يعرفهم، وكان هؤلاء الشبان قد انحدروا نحوه وصاحبَيه قادمين يريدون مبارزتهم، فقال لهم:
«ما أنتم من أهل مكة، ولا من معشر قريش!»...
فانتسب الشبَّانُ، وعرَّفوا بأنفسهم بأنهم من أنصار محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم يريدون قتالهم. فأبى عتبة ذلك وقال لهم: مالنا بكم من حاجةٍ يا أهل يثرب، إنما أكفاؤنا من قومنا، فهلاَّ بعثتموهُمُ إلينا!...
وكان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يرقب المشهد، ويسمع ما يدور من قول، فقال لمن حوله: «عجيب أمر عتبة، لقد عَدَلَ عن خطة المسالمة وكان منذ قليل يدعو إلى العودة عن القتال...». ثم نظرَ إلى عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وهو يومئذٍ في السبعين من عمره، وقال له: قم عبيدة!...
وتطلَّع إلى عمه حمزة بن عبدالمطلب وقال له: «وأنتَ يا عمُّ، انزلْ إليهم».
ثم جال بناظريه في المسلمين، ودعا عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) بالوثوب نحو القوم وهو يقول لهم:
«هيَّا يا أصغَرَ السِنّ وأبطشَ الذراع»!..
ولبَّى القُرشيُّون الأبرارُ (رضي الله عنهم) أمرَ نبيّهم، فاندفعوا إلى ساحة المعركة، بنفوس مؤمنة، صادقة، تتوقّد شجاعة وعزيمة، فاختارَ عبيدةُ مواجهة عتبة، بينما اختار حمزةُ مواجهة شيبة، واختار عليٌّ (عليه السلام) مقاتلةَ الوليد.. هنا وفي أشدّ الظروف وأحلك الساعات نجد السلوك الإسلامي قويماً مستقيماً يبرز في اختيار الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، للصحابة الثلاثة بعدما رأى أولئك المبارزين من المشركين، فبعث إليهم من هُمُ صِنْوٌ لهم قوةً وسِنّاً، ومن أبناء عشيرتهم بالذات كما أرادوا... ووقف كلّ من الأبطال الثلاثة في مواجهة نظيره تماماً، الشيخ قبالة الشيخ، والفتى في مواجهة الفتى، والرجل أمام الرجل، ولكنَّ الفارق ما لبث أن برز سريعاً في البطولة فإن هي إلاَّ جولة وكان حمزة وعليٌّ بعدها قد أجهزا على عدوَّيهما في مثل ومَض البرق إذ عَاجَلاَ بسيفيهما ذَينَك الكافرين وجندلاهما على الثَّرى، ثم التفتا نحو عبيدة وعتبة، فإذا هما قد وقعا على الأرض، وقد نالَ كل منهما الآخر بضربة، فتقدما لا يمهلان عتبة، بل يهويان عليه بضربة واحدة تورده حتف المنون، ثم حملا عبيدة إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والدم يسيل من ساقه المقطوعة، فأفرشه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ركبته الشريفة، وبشّره بالجنة حين كان يتربَّع على أكفِّ الشهادة الحقة في ذلك اليوم المشهود.. بينما هوى ثلاثةً من أعاظم رؤوس الكُفر والضلال إلى قعرِ جهنم وغضب الله فانكسرت بهذه الضربة البِكْر شوكةُ قريش وذلَّت رقابهم إذ إنهم قد خسروا ثلاثة من أكابر زعمائهم وأبطالهم المقاتلين..
... ورأى المشركون ما حلَّ برجالاتهم الثلاثة من مصير، فاندفعوا نحو المسلمين كالسيل الجارف، وأبو جهل من ورائهم يحرِّضهم وهو يزعق كالغراب: «لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة. عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزراً. وعليكم بقريش فخذوهم أخذاً حتى ندخلهم مكة، فنذيقهم مُرَّ العذاب، فيعرفوا أيَّ منقلب ينقلبون».
فيا لجهالة هذا الرجل الذي يُدعى أبا جهل بن هشام!..
أفبعدَ ما رأى بأم عينيه هذه البطولة النادرة لنفرٍ من المسلمين كيف تُسّول له نفسه أن يبرز إلى المعركة إلاَّ أن يكون قد ركبه الضلالُ وحدّد الوهمُ خطاه، ثم زيِّن له هذا الوهم القدرة على تحقيق النصر.. ألم يكن يُمنِّي النفس بأن يسوق المسلمين من أبناء قريش أسارى بين يديه إلى مكة فيمثِّل بهم حسبما تشتهي أهواؤه الخبيثة، ونيّاته الشيطانية؟ ولكن أهذه كانت منه حماقة أم جهالة؟ أم هو حقد دفين شرس في نفسه أطاش حُلمه وأذهب صوابَه؟.. لا وصف ينطبق عليه! أليسَ هو أبا جهل.. وجهالته تكفي للدلالة على ما تضمُّ جوانحه من فساد؟!.. على أن المشركين لم يكونوا في معظمهم؛ أقلَّ توهماً من زعيمهم أبي جهل.. فقد ظنوا بأن في كثرة عددهم ما يُدخل الرعبَ في قلوب أعدائهم، وبأنهم إذا ما رأوهم يندفعون نحوهم كالسيل العَرِمِ، تراجعوا أمامهم وولّوا الأدبار.. ولكن أين منهم ذاك الوهمُ، والمسلمون في انتظارهم يتحرقون شوقاً لملاقاة هذا العدو الغاشم.. وها هُم، وقد رأوا هجومَه نحوهم، بقوا في أماكنهم ثابتين، بسواعدَ شدَّت على الأقواس لتمطرَ الزاحفين بوابل من السهام والنبال، فتخترق منهم الضلوع، وتصيب الرؤوس والأحشاء، فيهوي منهم من يهوي، ويفلت من يفلت، ثم ينقضُّون عليهم كالنسور تهبط من أعاليها، وقد شرعت مخالبها للقنص الوفير..
واعتلى محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، التلَّة قرب عريشه، يحرِّض المسلمين على قتال أعداء الله، وهو يُلقي على أسماعهم قولَ الحق، ويقول: «والذي نفسُ محمدٍ بيده لا يقاتلهم اليوم رجل واحد، فيُقتَلُ صابراً محتسباً، غير مُدْبِرٍ، إلا أدخله الله الجنة»...
ثم لا ينسى النبيُّ الكريم، ورسولُ الحق، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى في هذا الموقف الحرج، ومن خلال نداء تحريضه وحضِّه على القتال، أن يهيب بالمسلمين ألاّ يقاتلوا إلاَّ عَدْلاً، فلا يقتلوا من يقع في أيديهم أسيراً، أو من يسلِّم نفسه إليهم، وأن يتحاشَوا مصارع قوم ذبّوا [= دافعوا] عنهم في مكة ومنعوهم.. وأن لا يتوخَّوا من قتالهم إلاَّ الذود عن دين الله، وحماية الإسلام من الكافرين..
ذلك هو الخُلق المحمديُّ يتلألأ مِشعَلَ نورٍ على جبين الدهر، يُضيء جوانب الظلام كلما خيَّمَ على حياة الإنسان..
فهو في أول معركة يخوضُها الإيمانُ ضد الكفر لم يغفلْ عن نَفرٍ في عداد قريش قد وقف يوماً إلى جانبه يذودُ عنه وعن المسلمين في أحلك الظروف وأشدِّها صعوبة.. ولم يكن ذلك النفرُ إلاَّ بنو هاشم ومن شايَعَهم من قريش أو وقَفَ مثل مواقفهم.. فإنهم ما كانوا يوماً إلْباً [= القوم تجمعهم عداوة واحدٍ] على المسلمين في مكة، يتهددون وجودهم وكيانهم.. بل على العكس كانوا الحماة يوم أرادتها قريش حملةً شعواءَ لا تُبقي ولا تَذَرْ..
أوَليسوا هُم الذين عاشوا النكبة مع المسلمين عندما فرضتها قريش مقاطعةً لا تحمل إلاَّ القهر والتجويع ولا تبتغي إلاَّ النفي والمذلَّة؟.
بل يكفي أنّهُمُ لم يشتركوا في تعذيب المسلمين، وفي إلحاق الأذى بهم، لكي يحفظ لهم رسول الله ذلك الصنيعَ الجميل، فكيف وقد كانت لهم تلك المواقف الرائعة منه ومن أصحابه إبَّان المحن والنكبات؟!.. فهل يعاملهم رسولُ الحق، صلى الله عليه وآله وسلم، في قتالٍ قد يكون فُرض عليهم كُرهاً من شياطين قريش بمثل ما يعامل هؤلاء؟!...
لا والله لا يكون ذلك.. فهو محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الإنسان العادل، الذي يحفظ العمل الجميل، ويفيه حقَّه يوم يقدر على الوفاء.
ومِثْلَ بني هاشم أيضاً، كانت لنفرٍ من قريش أيادٍ بيضاء على المسلمين، يوم سعى هذا النفرُ لإيصال المؤن والمياه إلى المحاصرين متحمِّلاً المخاطر في سبيل ذلك، ويوم حرَّض على نقض صحيفة المقاطعة غير آبهٍ لعنَتِ المتعنِّتين من زعماء قريش أو لصلافة المتكبرين منهم..
نعم، ومن أجل ذلك، كان نداءُ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لأصحابه، وهم يشدُّون على المشركين، ألاَّ يقاتلوا أصحابَ الصَّنيع الحسن، وهم معروفون منهم، بمثل ما يقاتلون به رؤوس الشِّرْك وأسيادَ الكفر، ومَن نزا نزوتَهم الحاقدة على الإسلام..
وإذِ الْتقى الجمعان، تردَّد في آذان المسلمين نداءُ رسولهم، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يَعِدُهُم بالجنة، ويوصيهم بقتالٍ شريفٍ عادل، فهفتْ قلوبهم إلى الشهادة وأخذت تتنسَّمُ مشاعِرُهم رياحَ الخُلْد، فإذا الحياة الدنيا عندهم بلا قيمة إلاَّ بما تمكِّن من عبورٍ سريعٍ للدخول في رحاب الله الفسيحة، العابقةِ برحمته ورضوانه..
بل أخذتْ تهتفُ في أعماقهم الطمأنينةُ فَرِحةً جذلى، فتردِّدُ حناجرُهم ذلك الهتافَ الرائعَ، وكُلُّهم يتغنَّى بلسان عمير بن الحمام: «بَخٍ بَخٍ!... [= اسم فعلٍ للرضا والإعجاب والاستحسان] أفما بيني وبين الجنة إلاَّ أن يقتلني هؤلاء؟ إيهِ أيتها التمرات الطرية في يدي: اذهبي، لئن أنا حييت حتى آكلكِ، إنها لحياة طويلة»..
ولم يَرْمِ عمير تمراتِه من يده فقط.. ولم يلفظ ما كان قد وضعه في فمه منها وحسب، بل تأبَى عليه مشاعره إلاَّ أن يعبِّر عما يجول في صدره، وصدور إخوانه، في تلك الساعة، وهم يندفعون نحو الأعداء، فيهتف منشداً:
ركضــاً إلى الله بغير زادِ
إلاَّ التُّقى وعمـــلِ المعادِ
والصَّبر في الله على الجهادِ
وكلُّ زاد عُرضَة النَّفادِ
غير التُّقى والبِرّ والرشاد
ويشتد احتدام المعركة؛ فهنا يطير هامٌ عن جسد وهناك يهوي فارسٌ وبجانبه ينكبُّ راكبٌ، ويرتمي راجِلٌ.. ومن تحت الأرجل والحوافر يرتفع الغبار، فيغطي الأجواء!! الكلُّ في كرٍّ وفرٍّ، وصيحات الرجال تختلط بقعقعة الدروع وصليل السيوف، حتى ليخيّل للرائي بأن الأرض قد مادت تحت الأقدام، وأنَّ السماء تُنزل اللَّعنات على المشركين الفاسقين...
ووقف النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في عريشه يشهد تلك الواقعة الحقيقية، وهو يلعَنُ سفهاءَ قريش الذين أرادوها معركة شرسة، وفضَّلوها على الانصياع لدعوة الحق، والاهتداء إلى الإيمان.. وكان يُداخِلُهُ بعض الخوف على مصير الدِّين والمتدينين، وهو يرى المشركين يلتفُّون بأعدادهم الكثيرة حول المؤمنين بقلة عددهم، فيصعِّد بناظرَيه نحو السماء، ويتوجه بخالص فؤاده إلى الله سبحانه وتعالى، خاشعاً، متضرعاً، مبتهلاً، مستعيناً بقدرة الله أن تؤيد المسلمين بالنصر... ثم يأتيه الاطمئنانُ، استجابةً من ربِّه تعالى، بكلمات صادقة كريمة:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} .
ويستبشر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالنصر، فيتعالى صوته يشقُّ عنان الفضاء، ويَغلب على قعقعة الحديد، وصهيل الخيول، وصيحات الرجال، ويصلُ إلى المسلمين قبساً روحانياً، ويحُلُّ في نفوسهم قوة وعزيمة، فإذا بهذه القوة المعنوية تشعُّ من نفس محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لتنبت في نفس كل مسلم قوى مضاعفة، حتى ليحِسَّ واحدُهم بأنه كفوءٌ لعشرة رجال، وأنَّ يد الله سبحانه فوق يده تحرِّك سيفه فيضرب، وتسدِّدُ رميته فتُصيب، وأنه ليس وحيداً مع إخوانه المسلمين في المعركة، بل هُم في حشد من جنود الله الخفية، لا يُدركون كنهها، ولا يعرفون مقدارها، بل يُحِسُّون بوجودها تقاتل معهم جنباً إلى جنب.
وتَضعُف في عيون المؤمنين شكيمةُ المشركين العاتية، وتتضاءل في نفوسهم قُواهم الباغية، فيفرّقون صفوفهم ويشتّتون جموعهم، ويكتسحون دفاعاتهم كما يكتسح السيل العَرِمُ الغُثاءَ الأحوى، وهم يبحثون عن زعماء قريش وأسيادهم، حتى يكونوا الهدف الذي يريدون استئصاله واقتلاعه من جذوره، فلا يعود من بعده للكفر معقل في بلادهم.. ويلمحُ بلالٌ، في هذا البحث، أميَّةَ بن خلف وإلى جانبه ابنه علي، فيندفع نحوهما، ويصرخ في وجهَيهما، يذكرهما بما كانا يفعلان به في مكة حتى يفتناه عن دينه، فيقول لأمية: إيهِ يا رأس الكفر، ألا تحمل الصخرة العظيمة اليومَ بين يَديك، تريد بها صدر بلال الحبشي؟!... فوالله لن أدعَك تفلت من يدي وأنت على كُفرك الجهنمي حتى أُوردك نارَ جهنم..
وتَصدَعُ صرخةُ بلالٍ أميةَ، فترتعد أوصالُه ويُدرك أن ساعته قد دنت، فيتطلع حوالَيه يريد هرباً، فإذا به يلمح عبدالرحمن بن عوف (رضي الله عنه)، وكان صديقاً له في مكة، فينطلق نحوه وهو يصرخ بابنه أن يتبعه، حتى إذا كان على مقربة منه، صرخ فيه يستجيره، ويطلب حمايةً له ولابنه، وكان عبدالرحمن يحمل أدرعاً اغتنمها، فيقول له أمية: «هل لك فيَّ فأنا خير لك من هذه الأدرع التي تحمل»؟. وقد وعده بأن يعطيه إيلاً كثيرة اللبن إن أنجاه وابنه.
ويحاول عبدالرحمن أن ينجده، فيطرح الأدرع وهو يقول له: «نعم والله، فقد كنتَ صديقاً».. ولكنَّ بلالاً (رضي الله عنه) كان قد لحق بأمية، وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أنصار الله، هذا رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا»...
وكان المسلمون يعرفون مقدار ما عاناه كثيرٌ من المسلمين على يد أمية اللعين من أذى وعذاب، ويعلمون مدى ما يضمرُهُ من حقدٍ على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى دعوته.. فما إن سمعوا صرخة بلال تنطق باسم ذلك الكافر، حتى جذبتهم تلك الصرخة والتفَّت جماعة من حوله مثل التفاف السوار من حول المعصم.. وحاوَلَ عبدالرحمن بن عوف (رضي الله عنه)، أن يخفف من غلواء القوم كي يدعوا الرجل أسيره، فلم يأبهوا له، بل تقدموا من ابن أمية فأردوه قتيلاً.. ويرى أميَّةُ ابنه يهوي أمام عينيه مضرجاً بدمائه، فيصرخ ملهوفاً: واإبناه!.. وتلتقي صرخته بصرخة عبدالرحمن بن عوف وهو يدعوه إلى الهرب قائلاً:
«أُنجُ بنفسك يا أمية، وإلاَّ فلا نجاة بعد الآن، فوالله ما أغني عنك شيئاً». ولكن سيفَ بلال كان أسرع من الصرخات، وأسبق من التحذير، إذ تلقَّف رقبة أميَّة بن خلف بضربة المؤمن الذي ذاق لوعة التعذيب، فجعله يتدحرج تحت سنابك الخيل، وأخفاف الجِمال.. فيشق إذ ذاك صوت بلال (رضي الله عنه) عنان السماء وهو ينادي: أَحَدٌ أحَدْ!.. ويردد المسلمون من ورائه هذا النداء: أحدٌ أحد..
وينظرُ عبدالرحمن بن عوف (رضي الله عنه) إلى ما حوله: فإذا الأمرُ قد انتهى إلى غير ما يشتهي، فكان يقول: «رحم الله بلالاً، ذهبَتْ أدرعي وفجعني بأسيرَيَّ».
هوى عتبة بن ربيعة، كما هوى أمية بن خلف، وكانا من أشد شياطين قريش عنتاً على المسلمين، ولكنّ رحى المعركة لم تتوقف، بل ما زال في الفريقين أبطالٌ يشدُّون ويخوضون غمارَ القتال..
ثم يخوضها حمزة وعلي، وعمرُ، وأبطالُ المسلمين (رضي الله عنهم جميعًا)، تلك المعركةُ الهائلة، معركة الحق مع الشِّرْك، ويلتقون في خِضمّ القتال بعض الذين أوصاهُم رسولُهم الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، الرفقَ بهم، فيجهدون لأخذهم أسارى دون قتلهم إلاَّ من أرادَ قتلَ نفسه، لِعِلّةٍ أو لأخرى، كما فعل أبو البختري بن هشام، عندما لقيه المجذَّرُ بن زياد البَلَويّ، حليف الأنصار فناداه:
«يا أبا البختري إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد نهانا عن قتلك إذ كنت عوناً أيام الشدة، وما أحب إليَّ إلاَّ أن تخلي ساحة الوغى يرحمك الله، أو تذهب إلى رسول الله تتفيَّأ بعطفه وشفقته...».
وتهدُّ هذه الكلمات أبا البختري، فيلتفت إلى جنبه ويقول للمجذّر:
«وصاحبي هذا جنادة الليثي وقد لازمني منذ خروجي من مكة، وما زال برفقتي»؟.
قال المجذّر: «وهل أعانك صاحبك هذا يوم نقض الصحيفة»؟.
قال أبو البختري: لا والله!..
قال المجذّر: «إذن فسَلْهُ، هل يريد الانصياع لأمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويذهب إليه صاغراً، شاكي السلاح»؟.
وهنا أجاب جنادة: لا!.. لن أفعل، وتُعيِّرني قريش!..
عندها قال المجذّر لأبي البختري وهو ينهاه عن مؤازرة صاحبه:
«أوَقد سمعتَ ما قال الرجل يا صاحِ، فخلِّ بيني وبينه، واذهب لأمرك».. ولكنَّ أبا البختري بن هشام، لم يمتثل لنصيحة المجذّر، بل قال له:
«ما أنا بتاركٍ لصاحبي، ولأموتنَّ أنا وهو حتى لا تتحدث عني نساء مكة، بأني آثرت الحياة على الوفاء بالعهد».
وهكذا اختار أبو البختري المصير الذي رآه، فاشتبك مع المجذّر في قتال أودى بحياته، ولم يكن نصيبُ صاحبه من الحياة بأوفرَ حظّاً منه، إذ لقي مصرعه أثناء المعركة..
فالقتالُ يتأجج لهيبُهُ، واحتدام الغضب يشتدُّ سعيرُهُ، وهنا رؤوس تتطاير، وهنالك هامات تتدحرج.. ولكن أين رأس الفتنة أبو جهل بن هشام في كل هذا؟.
إنه في وسط المعركة مثل الأفعى يتلوى من ناحية إلى ناحية، وهو يحاول ألاَّ يدخل في اشتباك مباشر، أو في مواجهة حاسمة... بل يحرِّض قومه، متجنِّباً الضربات، ويشدّ عزم قريش، متفادياً الهجمات، حتى شدَّ عليه مُعاذُ بن عمرو بن الجموح من الأنصار وأمكنه أن يصل إليه بضربةٍ أطنَّت (= قطعت) قدمه بنصف ساقه، ولكن ابنه عكرمة كان من ورائه، فتقدم من معاذ يضربه على عاتقه فقطع يده وبقيت معلّقة إلى جنبه بِجِلْدةٍ لها، فلم يعد قادراً على قتال... ويرى معوّذ بن عفراء ما حلَّ بمعاذ، فيهجم على أبي جهل، يرميه بضربة وهو يقول: «لقد أرسلك الله إليَّ يا مفسد القوم، فخذها من يد المؤمنين جزاءاً وفاقاً لما عذبتموهم في مكة؟ ويهوي أبو جهل على الثرى مثخناً بالجراح، فيظنهُ معوّذ قد قتل وذهب إلى الجحيم، فيبتعد عنه ليواصل القتال ذوداً عن دين الله..
وفي هذا الجو المحموم، وفي حُمّى هذا الوطيس، كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ما يزال على موعد مع ربه، يناجيه، ويضرعُ إليه أن يؤيد المسلمين بنصره المؤزَّر، حتى لا تعلو كلمة الكفر، وتحول دون نشر دينه الحق.. ولكنَّه في الوقت ذاته لا ينفكُّ قائماً على تحريض المسلمين، وشحذ هممهم، ووعدهم بثواب الله الأوفى.. فيأخذ، صلى الله عليه وآله وسلم، حفنةً من الحصى ويرمي بها وجوه قريش وهو يقول:
«شاهَتِ الوجوه».
فلا يلبث بعدَها المشركون ساعةً من وقت، إلا وتخور منهم القوى، وتوهن العزائم... فيجدون أن العديد من أشرافهم قد سقطوا صرعى، وأن الأشداء من فتيانهم صاروا جثثاً هامدة، وهم يَجْهدون في مواصلة القتال، منهكين، لاهثين، ولكن دونما جدوى.
ويتطلعون فيما حولهم، فإذا كل شيء قد تصدَّع، وصاروا مثل ثوب خَلِقٍ ممزَّق.. وحيالَ هذا الواقع، لم يَروا أجدى لهم من الفرار يتخذونه سبيلاً، ومن الهرب من وجوه المسلمين، يعتمدونه طريقاً... فولّوا وجوههم نحو كثبان الرمال يحاولون النجاة، وهم يلقون بأحمالهم وأسلحتهم حتى لا تعوقهم عن الهروب.. ولكن أنَّى لهم نجاةٌ أو هربٌ والمسلمون في أثرهم يجدُّون ويلاحقونهم بنفوس حميَّة، وقلوب أبيَّة، فيأسرون منهم من يأسرون، ويغنمون منهم ما يغنمون؟ وما زالوا بهم يشتتون قواهم، ويبددون عزائمهم، حتى انجلت بدر في عصر ذلك اليوم، السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة عن هزيمة ساحقة للمشركين، ذهب فيها من الرجال سبعون قتيلاً من الأعداء، ووقع في أيدي المسلمين مثل عددهم أسارى، فضلاً عما خلّفوه من متاعٍ وزادٍ وعدةِ حربٍ كانت كلها غنائم للمسلمين.. ومقابل هزيمة قريش كان نصرُ الله للمؤمنين، فقد وعَدَ به رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، وأيده بقوى خفية، حققت لهم ذلك النصر العظيم..
وأقبل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون يتفقدون الجرحى من الفريقين، علّهم يجدون من يسعفونه وينقذونه من الموت، وفيما هم في تفقدهم ذاك، إذا بعبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) يجد أبا جهل مطروحاً على ظهره وما زال به رمقٌ من حياة، فصعد على صدره، وأمسك بلحيته يشدها إليه... فأخرج هذا الشدُّ اللعين أبا جهل من غيبوبته، وفتح عينيه ليرى عبدالله فوقه، فيقول له: «لقد رقيت مُرتقىً صعباً يا رويْعِيَّ الغنم»... ولم يتلفَّظ بأكثر من ذلك حتى انفصلت روحه الخبيثة عن جسده النتن، فحزَّ عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) رأسه عن رقبته، وحمله يركض به مهلِّلاً مكبِّراً، ليضعه بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وليشفي به قلوب المؤمنين الذين ذاقوا كثيراً من مرارة ما أصابهم به هذا الرجل من أذى وعذاب، وعانوا طويلاً من شدة ما حرَّض به على عداوتهم وقتالهم...
تلك هي معركة بدر التي لم تزد عن بضع ساعات من نهار يوم الجمعة صبيحة السابع عشر من رمضان.. ولكن لا تؤخذ قيمتها على أنها واقعة حربية وحسب، بل على أساس أنها أحدثت، رغم قصر زمنها، من الآثار والنتائج ما هي جديرة بأن تبقى ماثلةً في أذهان المسلمين، بل والناس أجمعين، كي يستقوا من مَعِينها الدافق عِبَراً وعِظاتٍ يفيدون منها في مواجهة الحياة، كلَّما تبدى النزاع أو الاختلاف حول شأن من الشؤون التي حفلت بها معركة بدر...
فمن دروس بدر القيِّمة، نستخلص أهمية وثوق الجماعة بالقائد، واعتمادها على صدقه، وحسن تقديره لمجرى الأمور.. فالمسلمون يوم خرجوا من المدينة كانوا يطلبون أموال قريش التي تمدُّها بالقوة المادية والمعنوية، وهي القوة التي كانت ما تزال العقبة الأشدَّ في طريق الإسلام.. فلما تبين لهم نجاةُ تلك الأموال وهروبها من وجههم، رأى بعضهم الرجوع، بينما رأى قائدهم، رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الثبات ومواجهة قريش، بعدما جاءت ترابط على قرب منهم، وتعرض مظاهر القوة والخيلاء، متحدّية مشاعرهم، ومهددة وجودهم.. وكانت عظمة المسلمين بإجماعهم على موافقة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رآه، حتى لم يشذَّ عن هذا الإجماع رجل واحد...
وبخلاف ذلك كان وضع المشركين، إذ لم تكن لهم قيادة موحَّدة، بل كان لكل قبيلٍ قائدٌ، وقد اختلف قادتُهم رأياً ومنهجاً وعملاً... ففي حين أقرّ البعض الرجوع إلى مكة بعد نجاة الأموال ـــــ وقد رجعوا فعلاً ــــ أصرَّ البعض الآخر على لقاء محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه، كي يلقنوه درساً لا ينساه، وتكون بذلك نهايته ونهاية الدعوة التي يحملها على عاتقه... وكان بين هذا الفريق وذاك، مَنْ وقف موقفاً لا يهتم معه لأمر الأموال أو لقتال محمد، بل يهتمُّ بخلاصه من ضغط بعض زعمائه، أو نجاته من الموت، بعدما تأكد له عزم المسلمين على خوض المعركة واستهانتهم بالموت، غير آبهين لأية تضحية مهما غلت، وغير عابئين لأية قوة مهما عظمت...
وهكذا برزَ عامل رئيسي يميِّز بين الطرفين.. ففي طرف قائدٌ واحدٌ هو صاحب الأمر والنهي فيه والجميع من حوله مطيعون لأنهم مؤمنون بقدرة قائدهم وحكمته وإخلاصه، وطرف توزع أشتاتاً بين قيادات مختلفة، كلٌّ منها ينزع نحو الغاية التي يراها توافق مآربه وأهواءه..
وتوحي لنا بدر أيضاً بأهمية الأسلوب واعتماده كأحد مقومات الحرب الرئيسية.. والأسلوب في الحرب يعتمد أصلاً على التخطيط والتنظيم.. فبقدر ما يجري من تخطيط سليم للمعركة، وبقدر ما يحصل تنظيم في القوى والوسائل المستخدمة، بقدر ما يتيح ذلك من تحقيق للنصر.. ولقد تميَّز أسلوب المسلمين في معركة بدر، باعتماده على التخطيط والتنظيم.. فقد منعوا عدوَّهم من التزوُّد بالماء، وهو عنصر أساسي في الحياة عامة، فكيف به في وقت القتال وفي الصحراء القاحلة.. وقد اعتمدوا الشمس وسيلةً لإرباك العدو بحيث يستقبلها في عيونه فتعيقه عن سرعة الحركة واقتناص العدو.. وقد نظَّموا أنفسهم جماعاتٍ جماعاتٍ، جماعة للنبال، وأخرى للسيوف، وغيرها للرماح.. وأوكل إلى كل جماعة موقعٌ تشترك منه في المعركة.. وكانت خطتهم المحكمة أن يجعلوا عدوَّهم هو البادىء في الهجوم، والجيش المهاجم يتعرّض عادة لخسائر أكثر بكثير من عدوِّه إذا كان العدو كامناً له متربِّصاً به.. وهذا ما حصل فعلاً يوم بدر، إذ عندما هجم المشركون انهالت عليهم النِّبال مثل المطر المدرار تفتك بهم وتثخنهم بالجراح، حتى إذا تقدَّموا نحو المسلمين كان هؤلاء بانتظارهم بحرابهم وسيوفهم، فانقضُّوا عليهم يطيحون الهامَ عن الأجساد، ويجعلونهم أشتاتاً متفرقة..
وحيال هذا التكتيك الحربي السديد، قد تُغني القِلّة عما لا تغني عنه الكثرة.. فأية فائدة من كثيرٍ لا يستجمع العناصر التي تُحيل كثرتَه قوةً فاعلةً، وأي نفعٍ من الأعداد الغفيرة إن لم تتوفر لها عوامل التعبئة والاستعداد والغاية؟!... أوَليس في واقعنا ما يعبِّر عن تلك الحقيقة عندما نجد العدوَّ الصهيوني، على قلّة عدده، يهزم العرب أحياناً على كثرتهم؟!..
وتبقى أهم الفوارق بين طرفين متنازعين القوة المعنوية والدوافع التي تحرّكها.
فالمسلمون كانوا يتمتعون بقوة معنوية عظيمة دافِعُها الإيمان وصدْق العقيدة، بينما لم تكن للمشركين قوة معنوية سوى حقدهم على الإسلام.. وهذا الحقد لم يكن دافعهم الوحيد يوم خرجوا من مكة، بل كانوا يريدون، كما رأينا، حماية الأموال، فلما وجدوها قد نجت، ضعفت عزيمتهم عن القتال، وكان الأهم من ذلك، بالنسبة لقوتهم المعنوية، أنهم يوم خرجوا كان الخلل مستفحلاً في أعماقهم بتأثير أوهام وخرافات كانت تتلبَّس عقولهم وأفئدتهم.. فقد ضربوا القِداحَ قبل خروجهم فجاءت في غير صالح هذا الخروج، وهذا ما جعلهم يتشاءمون ويَفْرقون... وكانت الشائعات قد سرت فيما بينهم عن رؤى كثيرة جعلتهم يتطيرون من الخروج.. فقبل أن يأتيهم نذير الاستنفار الذي بعث به أبو سفيان بن حرب، كانت عاتكة بنت عبدالمطلب قد رأت في المنام بأن «رجلاً أقبل على بعير له ينادي: يا آل غالب!.. اغدوا إلى مصارعكم في ثلاث.. ثم صعدَ هذا الرجل ببعيرٍ له على جبل أبي قبيس، فأخذ حجراً ضخماً، دحاه من موضعه، فاندفع نحو مكة لا يترك داراً من دور قريش إلاّ وأصابه بِفِلْذَةٍ»..
وانتبهت عاتكة فزعة، خائفة، ثم انطلقت إلى العباس تخبره بما رأت في منامها.. وحمل العباسُ رؤيتها إلى عُتبة بن ربيعة يقصُّها عليه، فقال عتبة: «هذه والله مصيبة تحدث في قريش».
وفَشَتْ تلك الرؤيا في القوم، فهلعت منها القلوب، حتى وصلت إلى أبي جهل بن هشام، فقال ساخراً: «هذه نبيَّةٌ ثانيةٌ من بني عبدالمطلب.. واللات والعِزّى لننتظرنَّ ثلاثة أيام، فإن ظهر أن ما رأته يدلُّ على شيء اعترفنا بأنها قالت حقّاً، وإلاَّ لنكتبنَّ كتاباً بيننا: أنه ما مِنْ أهل بيتٍ في العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم»... وخابَ ظن أبي جهل، إذ لم تمرّ الأيامُ الثلاثةُ الموعودة إلاّ ووقفت قريش ترتعد فرائصها لاستغاثة ضمضم الغفاري في بطن الوادي... وهؤلاء نفرٌ من بني هاشم، الذين أراد تكذيبهم والنيل من كرامتهم، يخرجون معه، وهُمْ في أنفسهم كارهين، لأنهم يعرفون الرجل ومقدار خبثه ودهائه اللَّذين قد يؤذيهم بهما إن لم يخرجوا... وكان ممَّن خرج من بني هاشم مع قريش العباس بن عبدالمطلب، ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، وعقيل بن أبي طالب.. وتخلَّف أبو لهب، وقد تيقَّن صِدْق رؤيا عاتكة، فكان يقول لمن حوله: «إنما رؤيا عاتكة أخذٌ باليد»..
وأثناء طريق قريش إلى بدر، انفردَ جُهمُ بن الصّلْت ببعض أصحابه يروي لهم أنه رأى في منامه وكأنَّ راكباً أقبل على فرس ومعه عِيْرٌ [= حمير وبغال]، حتى وقف فوق رأسه، وهو يخبره بأن جمعاً من سادة قريشٍ قد قُتلوا، وبأن أشرافاً منهم قد أُسروا.. وما زال فوق رأسه يُعدِّد من أسماء القتلى والأسرى حتى ذكر كثيرين، ثم راح يضرب خنجره في لُبّة بعيره [= مَنْحرِه] ويرسله بين عسكرهم، والبعير يطوف بين الأخبية، فلم يبقَ خِباءٌ [= بيتٌ من الشَّعْر أو قُبّةٌ] واحد إلاّ وأصابَهُ من دمه...
وانتشرت هذه الرؤيا في معسكر القرشيين، فأراد كثيرون منهم التخلّف والعودة من منتصف الطريق، ولكنَّ مناياهم كانت قد سبقتهم إلى بدر، فشدتهم إليها، تَحولُ بينهم وبين العودة التي رغبوا فيها.
ومثل رؤيا عاتكة وجهم، كانت واحدة لضمضم الغفاري نفسه، وهو الذي أعلنَ نداء الاستغاثة، إذ قال للحارث بن عامر، وهم في الكثيب الرملي، على قرب من بدر: «أتدري يا حارث أني أفقت من نومي ليلة البارحة وأنا أرتعدُ خوفاً وغماً»؟!.
فسأله الحارث: وممَّ الخوف والغمُّ يا ضمضم؟.
قال ضمضم: من رؤيا بغيضة.. فإني وكاليقظان على راحلتي نظرت إلى واديكم ــــ يعني مكة ــــ فكأنَّ به دماً يسيل!..
فقال الحارث: ما خَرَجَ أحد وجهاً من الخروج أكره له من وجهي هذا!..
قال ضمضم: ولِمَ لا نجلس؟.
قال الحارث: لو سمعت منك هذا وأنا في مكة، ما خطوت وراءها خطوة واحدة... فاطوِ هذا الخبر وإياك أن تُعلمه لقريش، حتى لا نتعرض لسوء شتم.. فإنهم يتهمون كل من يحاول أن يعوقهم عن المسير!..
تلك كانت حالة قريش النفسية التي رافقتهم في فترة معركة بدر، وهي حالة لا تبعث على أية قوة معنوية، بل على العكس، إنها توحي بأسباب الضعف والهزيمة.. فالقوم ذهبوا إلى الحرب وملء قلوبهم التشاؤم والتطيُّر، ولم تكن لهم غاية مشتركة قد اتفقوا عليها، ولا بدَّ لمن كانوا كذلك أن ينتدبوا الشِقاق سيداً عليهم، وأن يحتكموا للتفرقة تقود خطاهم... ويزيد هؤلاء تصدّعاً تسلط رجلٍ مثل أبي جهل بن هشام عليهم، يخافون حقده وغدره، مثلما يخافون سليط لسانه وشنيع أفعاله... وكانت النتيجة الحتمية لذلك كله ما حلَّ بهم من انكسار وذل، أدَّى لأن يُقتَل من قُتل، وأن يولّي الأدبار من أرادَ النجاةَ خاسئاً مهزوماً.
أما المسلمون، وقد أعزَّهم الله، فقد جمعوا بعد المعركة شهداءهم ودفنوهم ثم جمعوا القتلى من الكفار وحفروا لهم قليباً [= بئرًا] يدفنونهم فيه.. ووقف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فوق ذاك القليب يخاطب أولئك القتلى من الكَفرة: «يا أهل القليب.. لبئس عشيرة النبيِّ كنتم أنتم؛ كذَّبتموني وصدَّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرَني الناس... هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقّاً فإني وجدتُ ما وعدني ربِّي حقاً؟».
قال المسلمون من حوله: يا رسول الله، أتنادي أقواماً قد جيّفوا؟!.
فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنتم بأَسْمَعَ لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا».
وحانت من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يتفقد أصحابه بناظريه التفاتة نحو أبي حذيفة بن عتبة، فألفاه كئيباً، غطَّت وجهَهُ أماراتُ الحزن حتى لَيكاد الدمعُ أن يفرَّ من مآقيه، فتقدم منه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يواسيه، ويسأله:
«لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء؟».
قال أبو حذيفة: «لا والله يا رسول الله، ما شكَكْتُ في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من هذا الأب رأياً وحلماً، فرجوت أن يهتدي إلى الإسلام، ولكنَّه أبى إلاّ أن يبقى على كُفره، وإني أتذكر الآن ذلك فيُحزنني أمرُه.. لَكان خيراً له لو ماتَ مسلماً».
ودعا له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بالخير، فأذهبَ عنه الحزن..
... وولَّى ذلك النهارُ بخيره وشرِّه.. إذْ كان خيراً على المسلمين، وشرّاً على المشركين... ولكنَّ آثاره ما تزال ترتسم في آفاق الأرض حتى اليوم، بما أنتجت من دروس وعظاتٍ يمكن الاهتداء بها..
واضطجع المؤمنون في مرابضهم بوادي بدر، يستظلُّون تحت النجوم، بنعيم الرحمة التي حفَّهم الله تعالى بها، لتفيء على أفئدتهم ظِلالاً وارفةً من الطمأنينة والسعادة، فينامون قريري العين، تكلؤهم عينُ ربهم الساهرة بالرعاية، بعدما أبلَوا في سبيل دينه القويم بلاءً حسناً، فحُقَّ لهم أن يَقَرُّوا عيناً وأن يهنأوا بالاً..
وطَلعَ الصبحُ، فارتحل المسلمون قافلين إلى المدينة.. يحفُّون بالركب المحمدي، ومعهم الأسارى من المشركين، وفي حوزتهم الغنائم التي أصابوها... حتى إذا قطعوا بعض الطريق، أمر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أن ينزلوا على كثيب وصلوا إليه، وهناك قسَّم الغنائم (النَّفْل) فيما بينهم سواء بسواء.. فجعل للفَرسِ نصيباً، وللفارس نصيباً، وجعل لِوَرثة المستشهدين من المسلمين حصصاً.. وكانت حصةُ من قام بأعمال غير القتال، مثل حصة من قاتل، ومثل حصة من تخلَّف في المدينة لعذرٍ شرعي أبداه لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقَبِلَه منه.. وقد عجب بعض الصحابة لهذه القسمة بالتساوي، فسألوا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عن عدم تفريقه بين راكب أو راجل، وبين مقاتل أو قائم بعمل، وبين ضعيف أو يتيم، وقالوا:
«يا رسول الله، أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل الذي تعطيه للضعيف والبائس؟».
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «هل تُنصَرون إلاّ بضعفائكم؟» تدليلاً منه، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن الأمرَ ليس كلُّه للقوة قبل كل شيء، بل هو للتضامن والتكافل بين الجماعة، وللوحدة وألفة القلوب وجمع الكلمة، والمصير المشترك. وعن عُبادة بن الصَّامت (رضي الله عنه) أنه قال: فينا أهلُ بدرٍ نزلت «الأنفال» حين تنازعنا في النَّفَل (الغنيمة) وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء.
وتابع المسلمون بعد القسمة، السيرَ إلى المدينة، حتى إذا بلغوا «الأُثْيل»، أناخوا يستريحون من وعثاء الطريق.
واختلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى نفسه، يفكِّر حتى مضت ساعة من وقت، فقام يستعرض الأسرى من قريش... فلما انتهى من استعراضه لهم، طلب إلى بعض الصحابة أن يأتوه باثنين منهم، وكانا النَّضْر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيْط.. وهما من شياطين قريش، وأكثر من حرَّض على أذى المسلمين وعذَّبهم. وكانا أيضاً أشدَّ من حاول فتنة المسلمين عن دينهم، وطرح المعجزات على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كي ينالا منه ويسخرا..
ونظر إليهما نبيُّ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نظرةً ارتعدت لها فرائصهما [= جمع فريصة، وهي لحمةٌ بين الرقبة والكتف تُرعَد عند الفزع]، وأيقنا أن الموت حالٌّ بهما.. فأسرَّ النضر بن الحارث إلى مصعب بن عمير ــــ وكان قريباً منه ــــ أن يطلب إلى محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، عدم قتله... فنظر إليه مصعب شزراً، وقال له: «أوَما حسبت يوماً ينقلب فيه الشر على أهله يا ابن الحارث... أو لعلّك نسيت ما كنت تفعل بالمسلمين؟. اذهب إلى نار جهنم وبئس المصير، لتلقى سوء عاقبة شرِّك المستطير». وحاوَل عقبة بن أبي مُعَيْط أن يستدرَّ الشفقَة عليه، فصرخ بأعلى صوته مخاطباً الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم:
«فمن للصبية يا محمد؟».
قال له الرسول العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم: «النار!»..
ثم أمرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يبتعد بهذين الرجُلين عن أعين الناس، وأن يقتلهما لشدة فتنتهما، فالفتنة أشدّ من القتل.. وهكذا دوماً يكون مصير المفتنين، الظالمين، إذ لا بدَّ وأن يأتي اليوم الذي يلقون فيه العقاب الذي يستحقون، والقِصاص الذي يستأهلون، لأنَّ في القِصاص حياة لأولي الألباب...
وتابع أبطالُ بدر رجوعهم المظفّر إلى الديار، حتى إذا بعدوا عن «الأثيل» بعث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عبدالله بن رواحة وزيد بن حارثة (رضي الله عنه)، يتقدمانهم إلى المدينة، بشيريْن بما فتحَ الله على المسلمين من نصر موعود وقد قال أسامة: أتانا الخبر حين سوَّينا على رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قبرها: وكان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، خلفني عليها مع عثمان بن عفان (رضي الله عنهما).
وطارَ الخبرُ في أرجاء المدينة، فهلّل المسلمون مستبشرين فرحين.. أما اليهودُ والمنافقون فلم يصدِّقوا في بادىء الأمر ما يسمعون، أو لعلَّهم لم يريدوا أن يصدِّقوا خبراً هو أصعب عليهم من القتل، فخرجوا من أوكارهم يزرعون الشك في نفوس المؤمنين، فلم يلقوا إلاّ صدوداً واستهزاءً.. فلما رأوا أن محاولاتهم الدنيئة قد فشلت وافتضح كذبهم ومكرهم، عادوا إلى بيوتهم يقفلون على أنفسهم أبوابها وهم يكادون أن يموتوا من الغيظ...
وخَرَجَ المؤمنون لملاقاة إخوانهم، فاجتمعوا بهم في «الروحاء».. وكان لقاءً معبّراً بين الإخوة في العقيدة، وبين الأهل والخلاَّن.. فقد سالت المشاعرُ متدفقة، وقت تلاقت الأحضان، واعتنقت الوجوه، وتشابكت الأيدي، وشدَّت السواعد... وأقبلوا على الرسول العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم، يهنئونه بالفوز العظيم، ويحاولون أن يُبْدوا أعذارهم في تخلُّفهم عن مرافقته، فيقول أسيدُ بن حُضَيْر:
«يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرَك وأقرَّ عينَك. والله يا رسول الله ما كان تخلُّفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوّاً وقتالاً! ولكن ظننت أنها عيرٌ، فقلت يكفيها من خرجوا»...
فقال له رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: صدقتَ.
والتفت مسلمة بن سلامة إلى أسيد يمازحه، وهو يقول:
«وما الداعي للخروج معنا؟ فوالله إن لقينا إلاَّ عجائز صُلْعاً كالْبُدْن المعقَّلة ، فنحرناها!».
وتبسَّم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من هذه المداعبة، فقال: «أي ابن أخي، أولئك الملأ» .. وكانت في ذلك اللقاء لطائف كثيرة راح الجمع يتبادلونها، تعبيراً عن السرور والفرح اللذين يحفّان بنفوسهم الطيبة...
وترك المؤمنون «الروحاء» يغذُّون السير حتى بلغوا المدينة يوم الأربعاء في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك.. ودخَلها رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على رأس موكبه، مظفراً منصوراً، وقد أعزَّه الله تعالى وأصحابه بما أيّدهم به من نصر، فأقبل من بقي في المدينة من المؤمنين يهنئونه بما أعزَّه الله به، وهم يدعون له بدوام النصر ونشر ألوية الحق...
وكان وصولُ المسلمين إلى المدينة قبل الأسرى بيومٍ واحد. فلما جيء بهم في اليوم التالي، أمرَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بتفريقهم بين أصحابه وهو يوصي بهم خيراً... وامتثلَ المسلمون لأوامر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا يُكرمون أولئِكَ الأسارى، ويحسنون معاملتهم، حتى لَيؤثرونهم على أنفسهم بطيبات الطعام.. ولم يعاملوهم قطُّ كأسرى إلاَّ في الحد الأدنى من تلك المعاملة التي توجب بقاءهم محتجزين، لا يتمتعون بحرية الذهاب والإياب...
ولم يشعر أسارى قريش بأي استعلاء من المسلمين عليهم، إذ لم يوجِّهوا لهم تعبيراً بهزيمةٍ أو استهزاءً بانكسار، على خلاف ما كان هؤلاء الأسارى وأقوامهم من المشركين ينوون فعله مع المسلمين لو كان لهم النصر...
أوَلم يطلب إليهم أبو جهل ــــ لعنه الله ــــ بأن يقتلوا الأنصار، وبأن يأسروا المهاجرين حتى يعودوا بهم إلى مكة ويذيقوهم العذاب ألواناً وأصنافاً؟!.. ولكنَّ الله سبحانه كذَّب وعده لنفسه، فثوى في المعركة قتيلاً، وبات في القليب دفيناً، وهؤلاء أبناء قومه أسارى عند المسلمين، ولكن لا يلقون إلاَّ حسن المعاملة، لأن الإسلام، يأمرهم بهذه المعاملة الحسنة، ولأنَّ رسول الإسلام يطبق تعاليمه الحقة، ومن قواعدها الأساسية الرفقُ والرحمةُ بالضعيف والمسكين..
وهؤلاء، وإن ظلُّوا على كفرهم، فإنهم الآن ضعاف، مهزومون، مغلوبٌ على أمرهم، والإسلام العظيم يوصي بالشفقة عليهم والرأفة بهم.. وكما تكون هذه المعاملة عدلاً وقت الأسر، فإنها تبقى هي، هي، عدلاً من أجل إطلاق سراحهم.. فيتخذ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عدة طرقٍ للمنِّ عليهم بحرياتهم.. فأما المتعلم منهم فشرَطَ عليه الرسول الحكيم، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقوم بتعليم عشرة من أبناء المسلمين ثم يطلق سراحه وذلك تقديراً منه، صلى الله عليه وآله وسلم، للعلم وتشجيعاً للقراءة والكتابة، وكان ممن تعلم بهذه الطريقة زيد بن ثابت، وأما الفقراء والمساكين، فقد ردَّهم إلى أهليهم وعيالهم من دون أي فداء.. وهذا أحدهم ــــ أبو عزَّة عمرو بن عبدالله بن عمير الجمحي ــــ يقول لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «لي خمس بنات ليس لهنَّ شيء فتصدق بي عليهنَّ يا محمد، وإني لمعطيك موثقاً لا أقاتلك ولا أكثِّر عليك أبداً». ومنَّ عليه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بما طلب، وأخذ عليه العهد ألاَّ يُظاهر على المسلمين أحداً.. وأما الآخرون فكان على قريش أن تفتديهم، وكان الفداء يومئذٍ من ألفٍ إلى أربعة آلاف فداءً للرجل حسب ما عنده من إمكانيات مادية..
وكان بين الأسرى أبو العاص بن الربيع، زوج زينب ــــ ابنة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ــــ وهو من رجال قريش البارزين مكانةً، وصاحب مال وتجارة واسعة، فبعثت زوجه بمال تفتديه ومن بينه قلادة لها، ما إن رآها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى عَرَفَها إذ كانت أمها خديجة (رضي الله عنها) قد أهدتها لها يوم زواجها من أبي العاص، فرقَّ لها النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، رقةً شديدة، وقال لأصحابه من حوله:
«هذه قلادة ابنتي زينب، فإن رأيتم أن تُطلقوا لها أسيرها، وتردُّوا عليها قلادتها فافعلوا»...
وأجابه الجميع: نفعل يا رسول الله...
وطلب النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، أبا العاص إليه، بعدما أفلتوه من الأسر وصار حراً طليقاً، كي يتفق معه على أن يفارق زينب وقد فرّق الإسلام بينه وبينها، فنزل أبو العاص صاغراً على أمر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث معه زيد بن حارثة وصاحباً له، فجاءا بها إلى المدينة...
هذه بعض النفحات من دروس محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، في معاملة الأسرى، وهي تحمل من المعاني الإنسانية ما تسمو به شواهِدُ ثابتة، خالدة، على عظمة ذلك الإنسان، وخِصَاله الفريدة، التي ما كانت يوماً إلاَّ نبراساً وهدى لمن أرادَ التكامل في حياته.. فقد نظرَ إلى الفقير بين الأسارى، ومن له عيالٌ يكفلها، فما فرض عليه فداءً، بل منحه حريته ليعين العيال والأبناء.. ولم يأبه لصلة القرابة والرحم، فعامَل صهره مثل أي أسير آخر من دون محاباة أو تفرقة إلاَّ بما يتوافق والأسس التي اعتمدها لتلك المعاملة، ولذلك لم يطلق سراحه إلا بعد دفعه الفدية عن نفسه، لأنَّ هذا المال حق للمؤمنين، فلا يعقل أن يفرِّط الرسول العظيم بدرهم من هذا المال، وليس من المتصوَّر أن يأخذ هذا المال حتى ولو من زوج ابنته إلاَّ ليوزِّعه على المسلمين.
نعم هذا هو محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، الإنسان العادل في كل مواقفه، وفي كل أعماله.. وهذه هي عدالته التي جعلته لا يميّز أيضاً بين عمّه العباس بن عبدالمطلب وبين الآخرين من الأسارى، وقد ظنَّ كثيرون أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، سوف يطلب من أصحابه أن يطلقوا سراح العباس، لأن المهاجرين يعرفونه من ذوي العزيمة الذين منعوا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ولأن الأنصار يعرفونه أيضاً وقد رافق ابن أخيه محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، ليلة بيعة العقبة حتى يحميه من قريش.. ولكنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان فوق كل ظنٍّ، وأسمى من كل توهُّم، إذ جعلَ عمَّه بين الأسارى حتى يؤتى إليه بمالٍ يفديه، ويفدي نفراً من أهله وحلفائه الذين خرجوا معه...
وطال الوقت وفداء العباس وأصحابه لم يصل.. فطلب مقابلة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والتحدث إليه. وجيء به إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له:
«يا رسول الله، لقد كنت مسلماً وفي صميم أعماقي مؤمناً بما تدعو إليه، وقد رآني المسلمون أدفع عنهم الكريهة، وأذبُّ عنهم الإساءة، فكيف أُعامَلُ مثل معشر قريش الآخرين؟!».
فقال له الرسول العظيم: «الله أعلمُ بإسلامك يا عمّ، فإن تكُ في جوارحك مسلماً فالله سبحانه وتعالى يجزيك على إسلامك، ولكنَّ ظاهرك كان علينا لأنك ما خرجت إذ خرجت إلاَّ لقتالنا، فوجب عليك افتداءَ نفسك، وافتداءَ ابنَي أخويك: نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، وعقيل بن أبي طالب، وحليفك عتبة بن عمرو ــــ أُخيّ بن الحارث بن فهر»..
قال العباس: «ما ذاكَ عندي يا رسول الله!».
قال له عليه الصلاة والسلام: «فأين المالُ الذي دفنته أنتَ وأمُّ الفضل؟ لا أظنك إلاَّ ادخرته لأبنائك الفضل وعبدالله وقثم، ولكن صار فيه حقٌّ للمسلمين إذ خرجت لقتالهم».
قال العباس: «يشهد الله ما نويت قتالك أو قتال المسلمين، ولكني أردتُ حماية الأموال، لئلا تقول قريشٌ إنَّ لها فضلاً على بني هاشم، فيعيِّروننا، وينحون علينا باللائمة إن تقاعسنا، وما ذلك من طباعنا، أن نقبل لومة لائم»..
ولكنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أفهَمَ عمَّه العباس أن الخروجَ كان خطأ بذاته، وكان يمكنه وصحبه الرجوع مثلما فعل بنو زهرة حتى لا يشاركوا في القتال.. وإذ ذاك طأطأ العباسُ رأسه خجلاً، وقد ندم فعلاً على بقائه مع قريش، فقال للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «والله إني لأعلم أنك رسول الله. إنَّ هذا لشيء ما علمهُ أحد غيري وغير أم الفضل، وقد أسررتُ لها بصدق ما بعثك الله به نبياً ورسولاً: فهل لي من عفوٍ يا رسول الله؟ وهل تحسب لي عشرين أوقية مال أصبتموه مني من أصل فديتي عندك وفدية أصحابي؟».
قال له رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «لا!.. فذاك شيء أغنَمَنَا إيَّاه الله تعالى منك».
قال العباس: «سمعاً وطاعة يا رسول الله، فما عرفت ابن أخي إلاَّ صاحب عدل وحق، فكيف إذا كان نبيَّ الله ورسوله».
ودفع العباس الفدية التي طلبها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عنه وعن ابني أخويه نوفل وعقيل ــــ وهما في الوقت نفسه ابنا عمَّيْ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ــــ وعن خليفة عتبة بن عمرو...
وما دامت هذه سيرة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قولاً وفعلاً، منهجاً وتطبيقاً، فمن أحق بالمسلمين من اتباعها والسَّير على هداها!.. فهذا مصعب بن عمير، يرى أخاه عزيزاً أسيراً لرجل من الأنصار، فلا يأبه لأسره، ولا يطلب إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يطلق سراحه، بل على العكس يقف منه الموقف ذاته الذي وقفه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، من أقربائه، فيقول للأنصاري وقد رآه يوثقه: «شدَّ يدك به يا أخي فإنَّ أُمَّه ذاتُ متاعٍ، لعلّها تفديه»..
ويدهشُ عزيزٌ لما يسمع، فيقول لمصعب: عجباً يا أخي، أهذه وصايتك بي؟!».
قال مصعبٌ: «إنه أخي دونك»..
ووصَلَ خبرُ أسرِ عزيزٍ إلى أمه، وكانت ذات مال وفير، فسألت: «ما أغلى ما فُدِيَ به قرشي؟».
قيل لها: «أربعة آلاف درهم».
فقالت: «تلك فدية ولدي عزيز...» وبعثت بالأربعة آلاف درهم فدية لابنها هذا..
وعادَ الأسارى كلٌّ إلى أهله، ولهم أن يحدِّثوا بما لاقوه من معاملة حسنة من المسلمين، ومن رأفة بهم، ومن عدالةٍ رأوها بأم العين محقَّقة لم يعرفوا بمثلها في سابق عهودهم..
عادوا وفي نفوسهم مشاعرُ متضاربة، وفي عقولهم أفكارٌ مختلطة، لا يدرون هل هُم فعلاً على حق فيما يفعلون، أم أن محمداً وأصحابه هم على حق؟!... ذلك هو شأنهم الخاص، بما يحدِّثون أو يشعرون أو يفكرون، وأما شأن المسلمين معهم، فسوف لا يكون إلاَّ وفق المواقف التي يتخذون من دينهم!.. ولكنَّ منهُم من أثَّرت فيه معاملة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الحدِّ الذي جعله يعدل عن مواقفه المعادية نحو الإسلام.. فهذا أبو العاص بن الربيع، وقد عادَ من أسره إلى مكة، ليقعد الساعات الطويلة مفكِّراً، مراجعاً لحساباته ومواقفه.. ثم يصمم على أمر، فيجهِّز قافلة من مال قريش يريد بها الخروج إلى الشام، ولكنَّ سوء طالعه جَعلهُ يقع في أيدي سريَّةٍ من المسلمين، عندما كان على مقربة من المدينة، فتصيب ما معه، ويهرب مختبئاً من مكان إلى مكان، حتى يُسدل الليل ستاره، فيدخل المدينة ويقصدُ زوجَه زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يستجيرها، فأجارته، وردَّ المسلمون على الرجل ماله فانطلق به آمناً إلى مكة، يردُّه لأصحابه من قريش ثم يقول لهم: «يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟».
قالوا: «لا! جزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفيّاً كريماً».
قال: «إذن فأنا تارِكُكُمْ إلى محمد بن عبدالله، فوالله ما منعني من البقاء عنده إلاَّ مخافة أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلمَّا أدَّاها الله إليكم وفرغتُ منها، فإني ذاهب إلى حيث أرى الحق»..
وحمل أبو العاص بن الربيع ما عنده من مال ومتاع، مرتحلاً إلى المدينة، ثم جاءَ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقلبٍ مؤمن، يُعلن إسلامه وهو يقول له: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله»...
ويُسرُّ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بإسلام الرجل لأنه كان أميناً في تعامله مع الناس، وفياً على عهوده مع الآخرين، والإسلام يعتزُّ بأناسٍ يحملون مثل صفات هذا الرجل، فيبارك له إسلامه، ويردُّ عليه زوجه زينب، فيأتيها قرير العين وهو يقول لها: «والله يا ابنة عمّ، ما خرجت من أسري عند رسول الله إلا وأنا مؤمن بصدق رسالته، حتى إذا أجرتني، علقت بي الندامة حتى كادت تقتلني، ولكن أعانني الله على الصبر حتى عدت سريعاً إلى مَن هم في الناس أشراف، وفي الحسنَى نبراس، وفي العدل ميزان»...
تلك هي معركة بدر ببعض مقدماتها وأحداثها ونتائجها، وهي تحفل بالصور والمشاهد العديدة المتنوعة، ولكن يبقى أهمّها على الإطلاق الإيمان بالعقيدة الحق، واللُّحمة والوحدة بين أصحاب تلك العقيدة بما يرضي الله سبحانه وتعالى فيمدُّها بنصر مؤزَّر في أمور الحياة كلها...
* * *


المصادر
1 بدر هي سهلٌ رملي ما بين مكة والمدينة، وعلى مسافة تقارب المئة والستين كيلو متراً من المدينة، وتحدُّ هذا السهل تلالٌ شديدة الانحدار من الشمال والشرق، وكثبان رملية من ناحية الغرب. أما جنوبه فينتهي بمنحدر صخري منخفض ينساب في واديه جدول ماء، يعبره من الشرق إلى الغرب، ويتقطَّع هذا الجدول في أماكن متفرقة، فيشكل آباراً كان المسافرون يقيمون من حولها سدوداً صغيرة لتصير على شكل أحواض، يقضون منها حاجاتهم ويسقون مطاياهم.
وقد جعل الماءُ من بدرٍ محلةً مشهورةً، فكانت تقام بها مواسم العرب، يجتمعون فيها مرة كل عام لإقامة سوق واسعة يتمّ فيها تبادل السلع والبضائع على اختلافها.
1 سورة الأنفال، الآيتان: 5 ــ 6
2 سورة الأنفال، الآية: 7.
1 سورة الأنفال، الآية: 11.
2 سورة الأنفال، الآية: 48.
1 سورة الأنفال، الآيتان: 41 ــ 42.
1 سورة الأنفال، الآيات: 7 ــ 10.
2 سورة يوسف، الآية: 21.
1 سورة غافر، الآية: 10.
1 سورة الأنفال، الآية: 65.
1 المعقَّلة: الأضحية المقيَّدة من الإبل والبقر، مفردها بُدْنة.
1 يعني الأشراف والرؤساء.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢