نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

غزوَةُ أُحُد
سلسلة غزوات الرسول
(2)


غزوَةُ أُحُد



سميح عَاطف الزَّين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .

غزوة أُحُد
بحلول شهر شوَّال ــــ من السنة الثالثة للهجرة ــــ وإذ بأخبارٍ تصل من مكة تدعو إلى القلق، وتنتشر كالضباب في الأجواء، فسارع أهل المدينة إلى اتخاذ الحيطة والحذر..
ذلك أن قريشاً كانت قد أنهتْ استعداداتها للقتال، فباعت البضائع التي نجا بها أبو سفيان ابن حرب ــــ والتي أدت إلى موقعة بدر ــــ بعد أن أوقَفَتْ أرباحَها لتجهيز الجيش الذي سينتقم لقتلى بدر، وأضافت إلى تلك الأرباح ما تبرَّعَ به رجالُ مكة ونساؤها، من أموال وفيرة، أُعِدَّتْ أيضاً لتلك الغاية القتالية؛ حتى إذا استدار العامُ، صار عند قريش جيشٌ كبيرٌ، يضم الآلاف من المقاتلين، وغَدَا مجهزاً بأسلحة كثيرة وأعتدة متنوعة، وقد انضمَّ إليه مَن وَالى القرشيين من تِهامة وكِنانة، ومن حالفهم من الأحابيش أمثال بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة..
وكانت قريش قد طفِقَتْ عامَها ترسل إلى قبائل العرب منْ حولها، تستنصرُها على قتال المسلمين، فأوفدتْ لذلك الرسلَ والداعين، يحرِّضون تلك القبائل، ويوغرون صدور أبنائها بالكراهية على من يريدون أن يخرجوهم عن دين آبائهم وأجدادهم.. وكان من بين أولئك المحرِّضين، الذين راحوا يجوبون مختلف النواحي، متنقلين من ديرة إلى ديرة، ومن مضارب إلى أخرى، أبو عزّة، الشاعرُ المخادعُ الذي رجا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعتِقَهُ يوم كان بين أسرى بدر، من أجل بناته اللواتي لا معين لهنَّ غيره، وهو يعاهده ألاَّ يُظاهر عليه أحداً ويكثِّر عليه جمعاً، وقد منَّ عليه الرسولُ الكريمُ، صلى الله عليه وآله وسلم، بحريته من غير فداءٍ بعد أن أخذ عليه الميثاق؛ وها هو الآن ينكُثُ العهدَ، وينقُضُ الميثاق، فيكون أوَّل رُسُل قريش إلى القبائل، وإلى كنانة وتهامة خاصة، يدعو للاستعداد لمقاتلة محمد والقضاء عليه وعلى جماعته.
فهل بعدَ فعلةِ هذا الرجل الكاذب، الماكر، من خيانة للعهد، أو تنكُّر لصُنع الجميل؟!...
وكأني بالتاريخ قد أراد أن يحفظ في هوامش صفحاته ذكرَ أبي عزّة الشاعر، حتى يرمز في كل حين إلى الغادرين والسفهاء، ممن يتصدّون للخير ويعادونه ويقفون في طريقه، ويُقبلون على الشر ويؤيدونه ويشجِّعون عليه، ويبعدون عن الحق مرتجىً، ويتخذون الباطل مأرباً..
وهل من غرابة فيما رامَهُ أبو عزّة وهو في وسط بيئة قرشية، قد طُبعت الجهالةُ على قلوب أبنائها، وأعمى الحقد بصائرهم، فلم يعودوا يرون إلاَّ شيئاً واحداً في دنياهم، وهو ضرب محمد والمسلمين الضربة القاصمة التي تقضي عليهم، وتُميت الدعوة التي يحملونها، في مهدها، وتقضي على حَمَلتها؟!.
وهكذا، وبانقضاء ذلك العام، كان لقريش ما أرادت، وغدت على أتمّ أهبة، وأكمل استعداد.
ودقّتْ في مكة ساعةُ النفير للخروج إلى المدينة والقضاء على الأعداء فيها، وبرزت النسوة في قريش يأْبين إلاَّ أن يَسرن مع الغزاة، ويبدو أنهنَّ كُنَّ قد أخفين هذا الأمر عن الرجال، في اتفاق ضمني بينهنّ، لأنه ما إن ظهرنَ يردن الخروج، حتى وقع الجدال بين القوم بين مؤيد ومعارض.
فأما الذين أيَّدوا الخروج فقالوا: «هذا حق، وينبغي أن يغضبكم ويذكِّركم قتلى بدر... ونحن قوم مستميتون لا نُريد أن نرجع إلى ديارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه».
وأما من كانوا يعارضون فيه فقالوا: «يا معشر قريش! هذا ليس برأي؛ تعرِّضون حُرَمَكم لعدوِّكم، ولا نأمن أن تكون الهزيمة عليكم فتفضحوا في نسائكم»..
وتضاربت الآراءُ حتى كادتْ أن تَشُقَّ وحدة الصف؛ عندها صاحتْ هندُ بنتُ عتبة، زوجُ أبي سفيان بن حرب، وقد تزعَّمتْ حملةَ خروج النساء، تهاجم من يمانعون في هذا الخروج وهي تقول: «لقد سَلِمتُم بيوم بدرٍ فرجعتم إلى نسائكم! والله لنَخرج فنشهد القتال، ولا يردُّنا أحدكم كما رُدّت الفتيات في سفرهنَّ إلى بدر، فقتلت الأحبة يومئذٍ، ولم يكن معهم من يحرِّضهم».
وهل يمكن لهند أن تصبر على البقاء في مكة لتنتظر الأخبار، ولا تكون مع الجيش؟.
لا!.. إنها لا تُطيق ذلك وفي أحشائها معركة قائمة يتلهب لظاها منذ مقتل أبيها وأخيها يوم بدر؛ وهي لا تقدر على مغالبة ذلك الحقد الذي يَفْغَرُ فاهُ يريد أن يبتلعها إنْ لم تشارك بنفسها في القتال وتثأر من ألدّ عدَّويْن لها، محمد وعمه حمزة، فتروي في نفسها ذلك الغِلّ الذي صبرت على آلامه طويلاً، ويلتئم في قلبها ذلك الجرح الذي تحملت نزفه كثيراً.
لا!.. لن تفوِّت هندُ بنت عتبة على نفسها منظرَ الدماء تسيل، وهي وحدها كفيلة بأن تردَّ إليها رونق الحياة.. فهل تقنع إذن بعدم الخروج؟!.
وتصايحت نساءُ قريش من خلفها، يُرِدْنَ ثأراً ممن قتل الأحبَّة والأعزاء.. فلم يرَ القوم إلاَّ النزول على تلك الرغبة الجامحة، والانصياع لتلك الإرادة العاتية..
وتأهَّبَ المقاتلون للسير، ووقف النسوة مستعدات، فإذا الكل في حماسة المَوْتُورِ، وسَوْرَة المُغيظ المُحنِق، همهم الأوحد ملاقاة محمد وأصحابه ليظهروا للعرب وللعالم: كيف يكون القتال العنيد...
وكان قائد الحملة، أبو سفيان بن حرب، أكثر القوم وأشدُّهم حرصاً على بث الروح القتالية، فجاء بني عبدالدار، وكان اللواء لهم، يقول متهكّماً، متوعداً: «يا بني عبدالدار! لقد وُلِّيتم اللواء يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يُؤتى الناسُ من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا؛ فإمّا أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلُّوا بيننا وبينه فنكفيكُمُوه».
وهمّوا به، وأرادوا القضاء عليه لولا حراجة الموقف والتهيئة للمسير، فأبعدوه رافضين طلبه، وهم يقولون: «نحن لن نسلم لواءنا لأحد، ستعلم غداً يا أبا سفيان يوم اللقاء، كيف تكون صناعتنا في الحرب»..
وتوزع الجيش في ألوية ثلاثة عُقدت في دار الندوة، فكان على اللواء الأكبر منها طلحة بن أبي طلحة، وعلى الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عِكرمة بن أبي جهل؛ أما الرجّالة فقد وضع على رأسهم صفوان بن أمية..
وكانوا ثلاثة آلاف من المقاتلين، أكثريتهم الساحقة من قريش، والباقون كانوا جماعات من المناصرين والموالي.
ولقد توفرت لهذا الجيش، فضلًا عن ضخامة عدده، كثرةُ سلاحه وعُدّته. فكان معه سبعمائة من الدروع الصلبة الواقية، يلبسها سبعمائة من الدارعين، ويتمنطق مثل عددهم بالزَّرد العريض.. وقد أمكنهم جمع مائتي فرس مع فرسانهم المدربين، وثلاثة آلاف بعير يركبونها ويحملون عليها الأسلحة والذخيرة والأمتعة، وكان يقوم على خدمة هذا الجيش وقضاء حوائجه جمعٌ غفيرٌ من الغلمان والعبيد؛ إلاَّ أن نفراً من هؤلاء أوكلت إليهم أدوارٌ خاصة وهامة، كما هو الحال مع عبد حبشي يُدعى «الوحشي»، كان مولى جبير بن المطعّم، وقد عهد إليه مولاه هذا بأن يترصّد أثناء المعركة حمزة بن عبدالمطلب، عم محمّد، صلى الله عليه وآله وسلم، ويقتله، لأنه قتل يوم بدر عمَّه طعيمة بن عدي بن المطعّم.. وعهدت إليه الدور ذاته، هند بنت عتبة، لأن حمزة كان أيضاً يومذاك قاتل أبيها وأخيها.. ولقد اختاراه لهذه المهمة، نظراً لما عرف به من حسن الرماية والقذف بالحرية على طريقة الحبشة، إذ كان يجيد مثل هذا القذف إلى حد قلّما يخطىء به هدفاً صوّب عليه.. ولقد منّاه سيده جبير، كما منّته هند بالمال الكثير، وبعتقه وإعطائه حريته إن هو قتل حمزة، وذلك عندما قالا له، بلسان واحد: «إن أنت قتلت حمزة عم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فأنت عتيق»!.
وها هو اليوم، يحمل حرابه، ويقف على أتم استعداد، حتى يكون في ساحة الوغى، ويقتل حمزة فينعم بالحرية الموعُودة والمال الكثير!.. وبئسَ الحرية للعبد تلك التي لا تكون إلاَّ بقتل الأحرار أمثال حمزة بن عبدالمطلب، حامي لواء الحق، والذائد عن قائد دينٍ ما جاء إلاَّ ليحرِّر الإنسان من أشكال العبودية الأرضية كافة، فلا يكون عبداً إلاَّ لخالقه وحده.. وشتّان بين عبودية من هذا القبيل هي جوهر الحرية في دنيا الناس، وبين عبودية اعتمدتها البشرية نظاماً ظاهراً أو خفياً، هي التعدّي على حقوق الناس وكرامتهم!..
ولكن هل يدرك «وحشي» ذلك؟.
أمَا كان قميناً به أن يرفض عبوديته، وينضوي تحت لواء الإيمان، الذي ينادي به محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لتحرير الإنسان، فلكان حينئذٍ قد أعتق نفسه حقاً، بدل أن يكون قاتلاً مجرماً ليدفع ثمن هذا الانعتاق؟!..
ولقد كان في جيش المشركين، كثيرون ممن هم في قرارة أنفسهم على شاكلة ذلك العبد الوحشي، من الذين وَتَرَهُمُ الحقدُ على محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، فانزلقوا إلى الهاوية، ينضَوُون تحت لواء قريش في ذلك الزحف الجهنمي فكانوا عبيداً لأنفسهم الأمَّارة بالسوء، بل عبيداً للشيطان.. ومن أبرز هؤلاء كان أبو عامر بن صيفيّ الأوسي؛ فلقد كان هذا الرجل فيما مضى، مترهباً، يكثر من الحديث عن ظهور نبي قَرُبَ زمانُه، وكان يقول للناس بأنه يعرف صفات هذا النبيِّ، وسيكون أول المؤمنين به وبالدعوة التي يحملها.. ولكنه، ما إن جاء محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى المدينة، وعرف أبو عامر أنه نبيّ حقاً، حتى تبدّلَ موقفُه، وراح يعمل على خلاف ما كان يعتقد، يُشيع بين الناس عدم صحة دعوته ويضمر له البغضاء، ويناصبه العداء، بل زادَ في حسده له، وحنقه عليه ما رأى من إيمان الناس به نبيّاً ورسولاً كريماً، وما جعلَ زعامتَه في الأوس تبدأ في الذبول، ورئاسته للقوم تقترب من الأفول..
ثم لم يكن منافِسُهُ على الزعامة في المدينة، عبدالله بن أُبيّ بن سَلول، زعيم الخزرج، بأقلّ منه حسداً لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وحقداً عليه، ولكنَّ عبدالله هذا قَدِر أن يغالب مطامعه، وأن يسيطر على زمام نفسه، فدخل في الإسلام منافقاً، يُظهر الإيمان به بين الناس، ويُبطن له العداء بين أهله وأصحابه حتى أمكنَهُ بتلك المخادعة ــــ وما كان يخدع في الحقيقة إلاَّ نفسه ــــ أن يبقى في المدينة، يراقب مجرى الأحداث، ويتحيّن الفرصَ التي تمكِّنه من إظهار ما تُخفيه جوارحُهُ من نفاق.. فكان فعلهُ هذا بخلاف ما فعله سيد الأوس، أبو عامر، إذ لم يقدر أن يتحمَّل وجودَ محمد في المدينة، وإرساءَه لقواعد مجتمع جديد، فارتحل عنها معانداً، كافراً، بعدما أغوى خمسيناً من شباب الأوس وغلمانهم للالتحاق به، والخروج معه..
وذهب أبو عامر إلى أشدّ الناس حقداً على محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثرهم عداوة له، وهم معشر قريش.. وقد وَجَدَ في هزيمة قريش يوم بدر، دافعاً جديداً لزيادة كراهيته لمحمد وأتباعه، وسبيلاً لإظهار التضامن مع قريش في استعدادها ليوم قتاله... فراح يُوهِمُ قريشاً بأنه قادر على أن يلعب دوراً هاماً في المعركة، لما له من مكانة عند قومه، إذ يستطيع يوم الملتقى أن يخذل هؤلاء القوم عن محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يخرجهم من صفوف المسلمين؛ وكثيراً ما كان يحدّث عن تلك المكانة التي لا تزال له عند الأوس، وبأنه يكفيه أن يُسمِعهم صوته كي يستجيبوا له، حتى لقد بلغت به الحال أن يقول لقريش، في يقين الواثق المطمئن: «لو قدمتُ على قومي، لم يختلف عليكم منهم رجلان، وهؤلاء نفرٌ معي منهم قادرون»!..
وبهذا الوهم الطائش، تأهّبَ أبو عامر الأوسي للخروج مع الجيش المشرك إلى القتال.. وكانت قريش قد صدَّقت أقاويله وادعاءاته، فأعطته مكاناً بارزاً في زحفها، وهي تمنّي النفس بأن يلعب هذا الرجل الدور الذي وعدها به كثيراً، وأن يقدر على انتزاع قومه الأوس من بين صفوف المسلمين، فيحقّق بذلك أكبر العوامل على تمزيق وحدتهم، وإلحاق الهزيمة بهم..
وهكذا، وبمثل هذه الاستعدادات، وتلكم التأهبات، سارت قريش في أوائل شهر شوَّال ــــ لِستٍ خَلَوْن منه ــــ تريد غزو المدينة والقضاء على المسلمين..
وكانت قريش، فيما يبدو، قد خرجت على خطة موضوعة، وهي أن تفاجىء المسلمين في عقر دارهم، لأن في تلك المفاجأة ما يشتت قواهم، ويجعلهم غير قادرين على التعبئة التي تمكنهم من المواجهة.. ولقد حسبت قريش أنه إن أخفق عنصر المباغتة هذا، فإنها تعمد إلى أسلوب آخر قد يكون أشدَّ أثراً وأضمن نتيجةً، ألا وهو التخذيل وإشاعة التفرقة بين المسلمين، معوِّلة في ذلك على أبي عامر الأوسي فيما كان يَعِدُها به، وعلى أمثاله من المنافقين الذين ظلوا في المدينة يتظاهرون بالإسلام. بل لقد ذهبت قريش في التخطيط للمعركة إلى أبعد من ذلك، فإن أخفق أسلوب التخذيل، والتحم الفريقان، فإن أوّل همها سيكون التركيز على قتل محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وكبار الصحابة من المهاجرين، وبذلك تحقق مأربين: القضاء على قَتَلة سادتها يوم بدر، فتكون واحدة بواحدة، ومن ثَمَّ الانقضاض على بقية جيش المسلمين والفتك به، وبذلك تحقق النصر، وتنزل بعدوها الهزيمة الشنيعة..
ولقد أمضى صانعو هذا التخطيط الليالي الطويلة حتى اهتدوا إليه، وأرادوا الإبقاء عليه سراً، حتى تحين ساعة المعركة بالضبط، فيبثّونه بين صفوف مقاتليهم، ويؤكدون على ضرورة تنفيذه.. ولقد حرصوا بشكل أساسي، على ألاَّ يعلمَ بسرهم المسلمون القلائل في مكة، وعلى أن لا يعلم به بنو هاشم بالذات.. ويبدو أن هذا التكتّم، وتلك السرية، كانتا ضرباً من الخيال والتصوّر، فقد كان العباس بن عبدالمطلب، عم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقف على كل ما يدور في مكة، ويعرف كل ما يأتمرون به ويقررونه؛ ولقد رفض أن يماشيهم في استعدادهم للقتال، وها هو يوم خروجهم يأبى السير معهم، فيبقى في مكة، دون أن يجرؤ أحدٌ على مساءلته عن شيء من ذلك.. وهكذا فإنه ما إن بدأ جيش قريش في المسير، حتى دُفِع إلى رجل من بني غفار، بكتاب وأوكل إليه إيصاله إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في المدينة، وأكّد عليه بأن يذهب متخفياً عن العيون، وأن يصل إلى محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، خلال أيام قليلة، دونما تمهّل أو تباطؤ. فانطلق رسول العباس على جناح السرعة حتى وصل المدينة، فسأل عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له إنه في قباء، فذهب إليه يسلِّمه كتاب عمه العباس، فدفعه إلى أبيّ بن كعب يقرأه عليه، فعرف منه ما خرجت به قريش من جيش لَجِبٍ، ومن عدة وعتاد، وبذلك تأكَّدت له الأخبار التي كانت تأتيه ممَّن بثَّهم في سائر الجوانب والأنحاء، ما بين مكة والمدينة، حتى يكون على بيّنة مما يجري عند عدوه اللدود..
وطلب النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، من أُبيُّ أن يكتم خبر الزحف القرشي، ثم عادَ من توِّه إلى المدينة، ودخل على سعد بن الربيع في داره، فقصّ عليه ما بعث به العباس إليه، فقال له سعد: «والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير»؛ فدعاه النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يكتم الخبر حتى يرى ما يقرّر في الأمر..
وبات الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، تلك الليلة مصلّياً، متفكراً حتى طلع الفجر، فدخل المسجد يُصَلي في الصحابة ثم يُطلعهم بعد الصلاة على الأمر.. والتفَّ الصحابة الأبرار حول رسولهم الكريم، فعرض عليهم ما جاءته به الأخبار من خروج قريش في جيش لجب، تريد غزو المدينة، وطلب إليهم أن يبدأوا الاستعداد لمواجهة شتى الاحتمالات، وأن لا يضيّعوا أية فرصة في الأخذ والرَّد، لأن الوقت قصير، وموعد وصول قريش قد بات قريباً..
وكان نور الصَّباح قد انتشر، فأرسل عليه وعلى آله الصلاة والسلام في طلب بعض الفتية الأشداء، وبعث بهم يترصدون قدوم قريش، ويستطلعون مكان نزولهم.. حتى إذا قارب ذلك النهار على الأفول، عاد أولئك الفتية يخبرون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن قريشاً قد نزلت ببطن الوادي في أُحُدْ، فأدرك النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أن العدو قد بات على أبواب المدينة، إذ لا تفصل بينها وبين نزوله أكثر من خمسة أميال. ولذا فإن الخطر قد حلَّ، ووقوعه بات وشيكاً..
وكان وصول قريش إلى أُحُدَ يوم الأربعاء في الثاني عشر من شهر شوّال، فحطت الرحال، وركنت إلى الراحة بعد سفر طويل، وعناء شديد، ونامت ليلتها في تلك الناحية، بينما ظلت العيون ساهرة في المدينة، خوفاً من هجوم غادر يفاجىء أهليها، حتى إن بعض الفرسان من المسلمين قد باتوا مدججين بالسلاح حتى في المسجد خوفاً على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بينما استنفر الباقون فضربوا حول مدينتهم نطاقاً يحرسونها من العادين.
وأفاقت قريش في الصباح، تسأل حُرَّاسها عن أخبار أهل المدينة، فقالوا: لم نلاحظ بوادر حركة منهم، ولم نَر بادرة تدلّ على أنهم ينشطون لقتال.. وأدرَك أبو سفيان بن حرب ما وراء ذلك فقال:
«أحلف بالله أنهم جاؤوا محمداً فأخبروه مسيرنا وحذَّروه، وهم الآن يلزمون حصونهم، ولن نصيب منهم شيئًا في وجهنا».
فقال صفوان بن أمية: «إن لم يخرجوا إلينا في فضاء الصحراء عمَدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، وتركناهم ولا أموال لهم، فلا يجتبرونها أبداً، وإن أصحروا لنا (واجهونا في الصحراء) فعددنا أكثرُ من عددهم، وسلاحُنا أفتكُ وأوفرُ من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل لهم، ونحن نقاتل على وِتْرٍ (ثأر) عندهم، ولا وتْر لهم عندنا».
أما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جمع أهل الرأي من المسلمين، كي يتشاوروا فيما يجب فعلُه، وأن يقرروا كيف يلقون عدوَّ الله وعدوَّهم.. فقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «أشيروا عليَّ»!.. وكان في الجمع عبدالله بن أبيّ بن سلول، رأس المنافقين، فانبرى وكان أول المشيرين ورأى التحصَّن في المدينة، وعدم الخروج للمواجهة، وقال: «يا رسول الله، لقد كنا ونحن في الجاهلية نقاتل فيها ونجعل النساء والأطفال في هذه الصياصي [= الحصون]، ونجعل معهم الحجارة ونَشْبِك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية. وترمي المرأة والصبي بالحجارة من فوق الصياصي والآطام، بينما نقاتل العدو بأسيافنا في السِكك، إنّ مدينتنا يا رسول الله عذراء ما فُضَّت علينا قطُّ وما دخل علينا عدوٌّ فيها إلاَّ أصبناه، وما خرجنا إلى عدوّ قطّ منها إلاَّ أصاب منا، فدعهم يا رسول الله، فإنهم إن أقاموا أقاموا بِشَرّ مَحْبِس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيراً، يا رسول الله، اسمع لي في هذا الأمر، فإني ورثت هذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي منهم، وقد كانوا أهل رأي وتجربة».
ووجد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في رأي ابن أبيّ ما يدعو للأخذ به، وهو ما رآه الأكابر أيضاً من أصحاب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، من المهاجرين والأنصار، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «نمكث في المدينة، ونجعل النساء والذراري فوق الآطام، إن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، ورُمُوا من فوق الصياصي بالحجارة»...
ولكنَّ حميَّة الشباب، أبت على البعض ممن لم يشهدوا بَدْراً، إلاَّ الخروج إلى العدو وملاقاته حيث نزل، فقالوا لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يرغبون في الشهادة: «أخرج بنا با رسول الله إلى عدوِّنا»..؟!! وقال رجالٌ، من أهل النية الحسنة، الخالصة لوجه الله تعالى: «إنا نخشى يا رسول الله أن يظنّ عدوُّنا أنّا كرِهنا الخروج إليه جُبْناً عن لقائه، فتكون له جرأة علينا، وقد كنتَ يوم بدرٍ في ثلاثمائة فظفَرك الله على عدوك، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، وقد كنا نتمنى هذا اليوم، وندعو الله به، فقد ساقَهُ إلينا في ساحتنا».
وقال مالك بن سنان، محبّذاً الخروج: «يا رسول الله، نحن بين إحدى الحُسْنَيَيْن، إمّا أن يظفرنا الله بهم، وهذا الذي نريد، وإما أن يرزقنا الشهادة.. والله يا رسول الله ما أبالي أيهما كان.. إنَّ كلاّ لفيه خير»...
فقال حمزة عبدالمطلب (رضي الله عنه): «والذي أنزل عليك الكتاب لا أُطعم بعد اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي هذا خارجاً من المدينة».
وقال النعمان بن مالك، معقباً على حماسة حمزة: «يا رسول الله! لم تحرمنا الجنة؟ فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلنَّها»...
وهزَّ حديث الاستشهاد هذا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل النعمان: «وبم»؟.
فقال النعمان: «إني امرؤ أحب الله ورسوله، ولا أفرُّ يوم الزحف».
فقال إياس بن أوس: «إني لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها، فتكون هذه مجرِّئةً لقريش. وها هم أولاء قد وطئوا سقفنا، فإذا لم نذُبّ عن شجرنا لم يزرع، وإن قريشاً قد مكثت حَوْلاً تجمع الجموع وتستجلب العرب من بواديها مع من تبعها من أحابيشها، ثم جاؤونا وقد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا. أفيحبسوننا في بيوتنا وصياصينا ثم يرجعون وافرين لم يُكْلَموا! لئن فعلنا لازدادوا جرأةً ولَشنُّوا الغارات علينا وأصابوا من أطرافنا ووضعوا العيون والأرصاد على مدينتنا ثم لَقطعوا الطريق علينا».
وقال خيْثَمةُ أبو سعد بن خيْثَمة: «عسى الله أن يظفرنا بهم أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعةُ بدر وكنت عليها حريصاً حتى بلغ من حرصي عليها أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرُزق الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم وهو في أحسن صورة، يرتع في جنان الخلد، ويهنأ بنعيم السعادة الخالدة، وهو يقول: الْحَقْ بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً. فادعُ الله، يا رسولَ الله، أن يرزقني الشهادة لأكون مع ولدي سعد في الجنة، فوالله لقد أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته. وقد كبرت سنيّ، ورقَّ عظمي، وأحببت لقاء ربِّي».
ورأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إجماعَ الغالبية على الخروج، وهم لا يرومون إلا الشهادة، فهل يفرّق بينهم وبين حق يطلبونه، وعزّة يرتجونها ما بعدها عزّة؟!..
إنه كان يكره هذا الخروج، ويفضّل الدفاعَ عن المدينة من داخلها، ولكنَّ كثرة المؤمنين ترنو إلى ملاقاة العدو حيث نزل ولذلك ترك اتخاذ القرار النهائي إلى اليوم التالي، وبعث بعض الفتية يرقبون تحركات جيش قريش، فجاءه الخبر بأن خيول قريش قاربت المدينة وهي ترعى الزروع المحيطة بها، فأشار على الجميع أن يبقوا متأهبين، وأن يكملوا الاستعداد للقتال.
وانقضت تلك الليلة كسابقتها، وأصبح يوم الجمعة، وما زال المسلمون في حالة تأهُّبّ، حتى كان الظهر فصَلّى بهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، وأن لهم النصر ما صبروا، فأيقن الذين أرادوا الخروج أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عازم عليه، وظلَّ الذين يمانعون فيه كارهين له لمعرفتهم بأن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هو كارهٌ له أيضاً.
فلما كان العصر، صلّى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دخل بيته بعدها وترك الناس وراءه يتحاورون، وكلُّ فريق ما زال مصرّاً على رأيه، فقال سعد بن معاذ وأسيد بن حُضيْر، وكانا ممن أشارا بالتحصّن بالمدينة، للذين رأوا الخروج منها: «لقد قلتم لرسول الله ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، وهو كارِهٌ له.. إنه يتلقى الأمر من السماء ينزل إليه، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوىً أو رأي فأطيعوه».
وما زالوا كذلك حتى رأوا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد خرج من بيته وهو يلبس درعه ويتقلّد سيفه، فأيقنوا عندئذٍ أنه قرّرَ الذهابَ لملاقاة العدو، فأقبل عليه الذين كانوا يلحُّون في الخروج وهم يقولون: «ما كان لنا يا رسول الله أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك، والأمر إلى الله ثم إليك».
فقال لهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد دعوتكم إلى هذا فأبيتم. وما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لاَمَتَهُ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. انظروا ما آمركم به فاتبعوه، والنصر لكم إن شاء الله ما صرتم». ودعا الرسولُ العظيمُ الناس إليه، فأمّرَ على المدينة ابن أم مكتوم يصلّي بالناس، ثم أمر أن يُرفَع النساء والأولاد فوق الحصون والآطام، حتى إذا فرغ من إعداد الجو الداخلي وتأهيله، عاد إلى الجيش يرتِّب أوضاعه وفق تنظيم دقيق، فَعَلَه في ألويةٍ ثلاثةٍ، ثم عهد إلى أسيد بن حُضير بلواء الأوس، وإلى الحبّاب بن المنذر بلواء الخزرج، وإلى مصعب بن عمير بلواء المهاجرين... ثم لمَّا فرغ من هذا الإعداد اعتلى ظهر فرسه، وخطب في الجيش، يبثّ فيه روح التضحية والفداء، ويبيِّن عظمةَ الجهاد في سبيل الله، وسُمُوَّ البسالة من أجل إعلاء الحق، وذكَّرهم بضرورة الحفاظ على النظام، والتقيّد بقواعد التنظيم والالتزام بالأوامر، لكي يكون الجيش قادراً على مواجهة عدوٍّ عاتٍ، يفوقه عُدةً وعدداً، ولكي يفوّت عليه الفرصة التي استعدَّ لها خلال عام كامل، فيعيده إلى مكة أشتاتاً مبعثرة...
ولقد أفاض رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في التحدث والتشجيع، وشدَّ العزائم وشحذِ الهمم، وأبان كل ما يجب على جيش المسلمين القيام به. وبعد أن أبانَ، وبلّغَ، وأعلَمَ، دعا بالمسير على بركة الله...
وسار جيش المسلمين، وقوامه ألف مقاتل، جلُّهم من المشاة، ولا يزيد عدد الدارعين فيهم على مائة، وتقدم أمامهم السَّعدان: ــــ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ــــ يعدوان في الطليعة، حتى إذا بلغوا مكاناً يقال له «الشيخين»، أمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالتوقف وإقامة معسكر لهم هناك.
وراح الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم ــــ فيما كان المسلمون يعدّون معسكرهم ــــ يستعرض الخارجين معه فرداً، فرداً، فإذا به يجد بينهم بعض الغلمان، من حديثي السن، وقد طاب لهم حضور القتال والمشاركة فيه، فأبى عليهم ذلك، ودعاهم إلى الانصراف والعودة إلى ديارهم في المدينة، ولكنَّ أحدهم، وكان يدعى رافع بن خديج، أبت عليه نخوتُه العودة، فتقدم من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يرجوه البقاء، ويبيِّن له أنه يجيد الرماية، وقد خرج يريد أن يرميَ في سبيل الله، فأجازه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، راضياً، كارهاً ردَّه عن أمرٍ يريده الله سبحانه وتعالى...
ورأى سمرة بن جندب، أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد سمح لرفيقه رافعٍ بالبقاء، فدمعت عيناه وبكى.. وسأله مَن حوله عما يبكيه، فقالَ: كنت أصارع رافعاً فأغلبه، وقد أجازه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وردَّني!.. وأوصَلَ بعضُ الرجال أمره للنبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، فدعاه إليه وابتسم له، ودعا رافعاً، وأمرهما بالبقاء في صفوف المقاتلين..
وحلَّ ليلُ ذلك اليوم، فأعدَّ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بضع فرقٍ للتناوب على الحراسة، وجعل قيادة الحرس على الجيش لمحمد بن مسلمة، بينما أوكل إلى ذكوان بن قيس تولِّي أمر حراسته الخاصة، حتى إذا كان السَّحرُ هبَّ الجند من رقادهم، وتهيأوا للمسير، وكان موعد الصلاة قد حلَّ، فصلَّوا الفجر، ثم ساروا بقيادة رسولهم العظيم حتى بلغوا بستاناً ــــ ما بين المدينة وجبل أُحد ــــ يقال له «الشوط»، فإذا بحركة غريبة تدبُّ بين الصفوف، وتدعو الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، للتوقف حتى يرى ما الخبر، فإذا به يجد أنَّ عبدالله بن أبيّ بن سلول قد انتحى عن الجيش هو ورجاله، وكانوا يبلغون ثلاثمائة مقاتل، وأبى التقدم وقال: «لقد أطاعَ الغِلمانَ، وأبَى أن يقبل رأيي، فعلام نقتل أنفسنا ههنا»؟!..
وتقدّم منه عبدالله بن عمرو بن حرام، يحاول أن يثنيه عن عزمه ذاك، ويناشده ألاَّ يشق عصا الجماعة، وألاَّ يخذل القوم ونبيَّهم وهم في أدق مرحلة من مواجهة الأعداء، فما كان ردّ ابن أبيّ إلا التهكّم، وقال: «لو نعلم قتالاً لاتبعناكم».
وهكذا أبى ذلك المنافق إلاَّ العودة برجاله إلى المدينة، فرجع ساخراً، مستهزئاً..
ولكنَّ فعلته الشنيعة تلك لم تمرَّ بسلام، إذْ تركت أثرها في الجيش، وهو ما كان يتوقعه ابن أبيّ ويخطط له في الخفاء؛ إذ ما إن انصرف حتى ظهرت البلبلة بين الصفوف، وحدث بعض الاختلال في التنظيم.. وليت ذلك الأثر توقف عند هذا الحدّ، بل لقد دبت الذبذبة في بعض النفوس إلى درجةٍ همَّ معها بنو حارثة من الخزرج، وبنو سَلَمة من الأوس، أن يفعلوا مثلما فعل ابن أبيّ، لولا أن عصمهم الله سبحانه بالإيمان، فعادوا إلى لُحمة الصفّ، ووحدة المسيرة..
* * *
وتابع جيش المسلمين (وعدّته ألف مقاتل) حتى وصل إلى الجبل المعروف بكثرة مسالكه وشعابه، وبما فيه من أودية تقطعه، وبما هو عليه من شكل يبدو للناظر، وكأنه يلتف حول نفسه التفافاً، ليشكل وحدة قائمة مستقلة عن غيره من الجبال، فكانت من جراء ذلك تسميته بجبل أُحُد..
وكان أمام هذا الجبل سهل ضيق، وهو السهل الذي نزلت قريش عند أطرافه.. وربما اختارت هذا المكان لكثرة تعاريج أرضه وانحدارها في فجوات تشبه الحفر الكبيرة، بحيث تصلح للاختفاء في حرب دفاعية، وتكون مناسبة تماماً لرمي الأعداء وقذفهم بالنبال والحراب..
أما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد اختار النزول في الشِّعب من أُحُد، على عُدوة الوادي (جانبه)، وعلى القرب من تلٍّ مشرف يقال له «جبل عينين».. ولم يلبث بعد هذا النزول أن عاد ووضع لجيشه التنظيم الأخير الذي يدخل به المعركة، وذلك عندما جعل الجبل من ورائه بحيث يشكل عاملاً طبيعياً للحماية من الخلف، وأقام خمسين من الرماة الأشداء على «جبل عينين»، يتخذونه مكاناً ثابتاً، ولا يبرحونه أبداً حتى يأتيهم الخبر.. وجعل الإمرة على هؤلاء الرماة بيد عبدالله بن جبير، بأنْ أوكل إليه مهمة أساسية، وهي حماية ظهور المسلمين عند القتال، وعدم تمكين العدو من التقدم نحوهم واقتحام مواقعهم، بما يرمونه به من نبالٍ وحرابٍ الأمر الذي يَحولُ بينه وبين أي هجومٍ عليهم..
ولقد كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يعوّل كثيراً على أولئك الرماة في تسيير المعركة، نظراً للدور الكبير الذي عهده إليهم، ومن أجل ذلك كانت أوامره المشدَّدة بألاَّ يبرحوا مكانهم على التلّ، أياً كان وضع القتال، وكيفما بدا لهم مسار المعركة، سواء بدا النصر للمسلمين، أو كان لأعدائهم...
وكان مما قاله لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «أيها الرُّماة، يا جند الله انضحوا عنا الخيل بالنُّبل كي لا يأتونا من خلفنا واثبتوا في أماكنكم إن كانت الحرب لنا أو علينا». وقال صلى الله عليه وآله وسلم لهم أيضاً: «إذا رأيتمونا تَخَطَّفُنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».
وبعد أن فرغ من إعطاء الأمر للرُّماة وأعدّهم في مكانهم على التل المشرف، عاد إلى سائر الجيش، يسوِّي صفوفه، وينظّم أوضاعه، على شكل جعل كل مقاتل يعرف دوره ومكانه، وكيف يدخل المعركة ويواجه فيها عدوَّه الشرس.. حتى إذا أتمَّ التهيئة، ووقف قبالة ذلك الجيش، يتفحصه للمرة الأخيرة، فلما اطمأنَّ إلى تنظيمه، حَمَلَ سيفه بيده، وقال:
«من يأخذ هذا السيف بحقه»؟!.
فقالوا: وما حقه يا رسول الله؟.
قال: «أن يضرب به العدوَّ حتى ينحني».
وأرادَ الكثيرون أخذ السيف، ولكنهم تهيّبوا الموقف، إلاَّ أبا دُجانة، سِمّاك بن خرشة الأنصاري أخا بني ساعدة، فإنه تقدم من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: أنا آخذه يا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم!..
وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعرف شجاعة أبي دجانة، وشدّته في القتال، فأعطاه السيف؛ وما إن صار بين يديه، حتى عصب أبو دجانة رأسه بعصبة حمراء، كان الناس يقولون عنها: إنها عَصْبَةُ الموت، ثم ابتعَدَ عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ يتبختر في مشيته مُدِلاًّ بقوته وبأسه! ونظر إليه الرسول العظيم وهو يتبختر على تلك الحالة فقال: «إنها لمِشيةٌ يبغضها الله ورسوله إلا في مثل هذا الموضع».
وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يستعدّون، كانت قريش من جانبها قد سوَّت هي الأخرى صفوفها، فأبقت تنظيمها على الشكل الذي خرجت به من مكة: على الميمنة خالد ابن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل؛ وظلَّ عبدالعِزّى طلحة بن طلحة يحمل لواءها. ثم تقدمت في السهل المنبسط أمام التل بجيشها اللجِبِ، وبفرسانها الأشداء، ومن معهم من المناصرين والعبيد، ومشت النسوة مع الجيش، يضربن بالدفوف، ويسرن تارة أمام الصفوف، وتارة على جوانبها أو من خلفها، وهنَّ يحرّضن على القتال، ويثرن الحمية..
وكانت هند بنتُ عتبة ــــ زوجة أبي سفيان ــــ على رأسهن، تزيدهن تحريضاً وإثارة، وهي تنشد، فيرددن معها:
وَيهاً بني عبدالدار ويــهاً حُمـــــاةَ الـــــــديـــــار
ضرباً بكلِّ بتَّار
ثم كانت هند تُغيّر أرجوزتها، وتبدِّلها بأخرى، فتقول هي والنساء:
نـحنُ بنــاتُ طـارقْ نَمشي على النمـــارق
إنْ تُـقبــــلوا نُــعانِـــــقْ ونفـــــــــرش النمــــــــــــــارقْ
أو تُــــدبروا نُـــــفـارِقْ فِـــــــــراق غَيــــــــــــر وامِقْ
.. وتقدّمت قريش، وتقدم المسلمون، والتقى الجمعان، وصارا وجهاً لوجه!..
وأرادَ أبو سفيان المبادأة بتنفيذ ما اتُّفِق عليه من خطة، وهي أولاً التخذيل بين الأنصار والمهاجرين، فرفع صوته صارخاً: «يا معشر الأوس والخزرج، خلُّوا بيننا وبين بني أعمامنا وننصرف عنكم»...
ولكنَّ صراخه كان كعويل ذئابٍ تبدّده فيافي الصحراء.. إذ لم يكن رد المسلمين عليه إلاَّ السبَّةَ واللعنة، فرجع خاسئاً مذموماً.. عندها ظهر أبو عامر الأوسي يعدو على فرسه مسرعاً، وهو يريد أن يُري قريشاً كيف تكون الاستجابة لندائه، حتى إذا قارب جيش المسلمين، صاح بأبناء قومه السابقين من الأوس: «يا معشر الأوس! أنا أبو عامر، إليَّ إليَّ، فلا تتباطأوا...» فما كان جواب الأوس من المسلمين إلاَّ اللعن له، بل أخذوا ينادونه: «لا أنعمَ الله بك عيناً يا فاسق»!.. وخاب ظن هذا المخادع، وخذلته آماله الكاذبة، فولّى هارباً من وجوههم، وهو يولول بهذيان المجنون: «لقد أصاب قومي من بعدي شَرٌ»..
وظهر لقريش أن القتال وحدهُ باتَ سيّدَ الموقف.
فالمباغتة التي منّت بها النفس في هجوم على المدينة قد فشلت بفعل وصول أخبارها إلى المسلمين واتخاذهم وسائل الحيطة والحذر والاستعداد؛ وها هي ترى اليوم أن خطة التخذيل قد ذهبت أيضاً سدىً، لأنها رأت الأنصار يهزأون من أبي سفيان، وتدوّي ضحكاتهم عليه، الأمر الذي جعله يرتَدُّ إلى الوراء وهو يشعر وكأن الأرض تميد من تحته، تكاد تنشق لتبتلعه...
ثم ها هوذا الآخر، أبو عامر الأوسي، لا يلقى من قومه إلاَّ أشدَّ مما لقيه أبو سفيان: لعناتٍ تُخزي صاحبها وتَخذله..
وإزاء هذا الموقف، اندفع عكرمة بلوائه مبادئاً في القتال، وهو يعمل على أن يأخذ المسلمين من جناحهم في حركة التفاف سريعة، فإذا النبال تنهال على المهاجمين مثل وابلٍ من المطر وتمنعهم من التقدم؛ فحاول خالد بن الوليد أن يهجم من الميمنة، بدوره من حول عسكر المسلمين، فارتدت الخيول على أعقابها، وكادت ترمي مقاتليها عن ظهورها، لكثرة ما نزل عليها من نبال..
فما هي إلاَّ محاولات قام بها فرسان قريش، فإذا بها نذائر شؤوم وتخاذل، ولذا كانوا يرتدّون إلى مواقعهم، ويعودون إلى أماكنهم التي كانوا عليها عند بداية المواجهة..
واشتعل الحقد في قلوب المشركين، وهاج الغضب في نفوسهم، فتصوَّر البعض منهم أنهم يملكون من القوة والشجاعة، ما يجعلهم قادرين على البطش بأبطال عدوهم، إذا ما تقابلوا وإياهم وجهاً لوجه، فانبروا يطلبون المبارزة..
وكان أول من تقدّم يصيح في المسلمين: من يبارز؟ طلحة بن أبي طلحة، حامل اللواء، فينبري له علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هجمة بطولية نادرة، وما إن وصل إليه، حتى عانقه سيفُه البتار بضربة واحدة فلقت هامَه، وهوت به إلى الأرض يمتزج لحمه ودمه بترابها..
وتعالت من جانب المسلمين هتافات التكبير والتوحيد، وكان أول المكبرين رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ سرَّه أنْ يرى ضربة الحق تفلق هامَ الباطل؛ وبقي عليّ (عليه السلام) في الساح ينتظر من يخرج إليه، فدفعت المنية عثمان بن أبي طلحة إلى النزول لملاقاة علي (عليه السلام)، فكان حظه من الموت مثل حظ أخيه طلحة، عندها برز أخوهما سعد يريد أن يقتل عليّاً بأخَويه، فاختلفا ضربتين، فنَبَتْ ضربةُ بن أبي طلحة، بينما أسقطته ضربة علي (عليه السلام) على الثرى، فرُؤي علي وهو ينصرف عنه، ولا يُجهِز عليه. ولقد سأله أصحابه عن السبب الذي حمله على ترك سعد بن أبي طلحة من غير أن يقضي عليه، فقال: «إنه استقبلني بعورته، وعلمت أن الله قد قتله»..
واندفع عددٌ آخر من المشركين يحملون لواءهم ويريدون الثأر لأهليهم من علي (عليه السلام)، فإذا بعلي يُلحِقهم بهم إلى جهنم وبئس المصير بضرباته الْبِكْرِ التي، بعد الدراسة والتأمل، كأنها كانت وحيدة، فريدة، تميَّزت عن سائر ضربات الأبطال..
وأين من يجرؤ من قريش بعدها على الاقتحام، وإلقاء نفسه في أتون الغضب للحق؟ إنَّ في الساحة سيّدَ الوغى، لا يحول ولا يزول.. إنه عليٌّ يقف صامتاً كالطود الشامخ، في تطلّعه نحو المشركين!.. يومىء إليهم بالنزول، فتنقضُّ نظراتُه عليهم لتُدِبَّ الرعبَ في قلوبهم، وتنتشل أفئدتهم من مكانها، فيجمدون في أماكنهم، ولا يجسرون حتى على التطلع إليه...
وينظر كِلابُ بن طلحة إلى هام أبيه، فيثور الغضب في نفسه، ويندفع نحو علي (عليه السلام) يريد قتاله، ويعرفه علي (عليه السلام) فيحيد من دربه، ويأبى أن يقتله بعدما قتل أباه وأعمامه، فينزل إليه الزبير بن العوام، كالأسد الهَصُور، فيثخنه بالجراح، ثم يهوي عليه بالضربة القاضية فيلقى مصيره المحتوم..
وراح من بعده، بعضُ المشركين، يبرزون إلى القتال، فيلاقيهم أبطال المسلمين، ويقضون عليهم واحداً تلو الآخر، حتى رأت قريش أن المبارزة لم تعد أبداً في صالحها، وأنها إن بقيت على تلك الحال فإنها سوف تفقد أشدَّاء أبطالها وأقواهم.. عندها صاح أبو سفيان بن حرب، قائد حملة الكفر، مهتاجاً، مسعوراً، يدعو جيشه إلى هجوم شامل.. فاندفع جيش الشِّرْك في هجمة عاتية، شرسة، تروم انتزاعَ المُهَج، وسَلْبَ الأنفس، ليتلقّاه جيش المسلمين، بقلوب ملؤها الإيمان، وبنفوسٍ ذُخرها الحق، فيصدَّ عنه القوة العاتية، ويدفع ذلك البلاءَ الشديد... وتختلط الجموع بعضُها ببعض، فلا تعود تُسمع إلاَّ قعقعة السيوف، وأصوات الضرب والطعان، ولا تُرى إلاَّ هامات تهوي، وسواعد تتطاير، ورؤوسٌ تتدحرج...
وكان، طبعاً، في قلب المعركة أبطالُ المسلمين، علي (عليه السلام) وحمزة وأبو دجانة (رضي الله عنهما) وغيرهم الكثيرون من الأنصار والمهاجرين، يذودون عن الحق في قتالٍ لا تكافؤ فيه، لا من حيث العتاد والسلاح، ولا من حيث العدد، ولكنهم لم يأبهوا لذلك كله، بل كانوا يُنزِلون بالأعداء أَشدَّ الضربات وأقسى الطعنات التي كان يعبّر عنها أبو دجانة، وهو يضرب يميناً وشمالاً!، وينشد غير مهموم ولا متكدِّر:
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن في السفح لدى النخيلِ
ألاَّ أقومَ الدهر في الكيّول
أضربْ بسيف الله والرسولِ
وقد أبلى كذلك في القتال أسدُ الله، حمزة بن عبدالمطلب (رضي الله عنه)، أشَدَّ البلاء، وكان يكرّ على جيش المشركين، ويفرقهم بسيفه البتَّار ويدق أعناقهم دقّاً، ويلاحقهم زُرافاتٍ ووِحداناً، فيفرُّون أمامه فرارَ النِّعاجِ من أسدٍ كاسر، إذ كان لا يقترب من أحدٍ إلاَّ وتكون الحياة حانقةً عليه تريده أن يذهب عنها، فيخلِّصها منه حمزة، ولا ينقضُّ على مشرك إلاَّ ويجعل روحه تفارق جسده..
ثم يستمرُّ حمزة على تلك الحال، يحمل على المشركين فيهدّهم هدّاً، حتى انقضت ساعة من الوقت، كان العبد الحبشي المأجور «وحشي» يلاحقه خلالها من مكان إلى مكان، ومن قتال إلى قتال، وهو لا يجرؤ على التقدم منه، بل يراقبه من البعيد، حتى أمكنه، في ومضةٍ من ظهور الباطل على الحق، أن يرميه بحربته فتُصيبه، وتطاله يدُ النذالة والخيانة فيهوي في وسط المعركة يعانق الشهادة ويُخلَّد في جبين الدهر، سيِّدَ الشهداء، بمنطوق الوحي الإلهي على لسان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال يوم وقف يبكيه: «سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبدالمطلب، ورجلٌ قال كلمة حق أمام سلطان جائر، فقتله».
ورآه المشركون، فراحوا يصيحون ويشيعون في الصفوف: «قتل حمزة بن عبدالمطلب.. قتل حمزة..».. وظنَّ المشركون أنهم بتلك الصيحات يخذلون المسلمين، ويفتُّون في عضدهم.. ولكن أنّى لهذا الظن الكاذب أن يحقق لهم ما يصبون إليه، وفي نفوس المسلمين قوة من الإيمان لا تزحزحها خسارة ولا يثنيها مصابٌ، مهما عظم!..
صحيحٌ أن حمزةَ بطل لا كالأبطال، وقد يعدُّ كألف من الرجال الأشداء، وفقدانه في حَمْأة الوغى يُفقد المسلمين قوةً لا يستهان بها، وليس من السهل أن يعوّضوها في هذا الموقف الحرج، ولكنَّ استشهاده كان دافعاً جديداً لهم في استزادة قوتهم والمزيد من اندفاعهم في القتال.. ولذا فقد رأى المشركون أن موت حمزة لم يوهن جيش عدوهم ولم يضعفه، كما توهموا، بل رأوا ذلك الجيش، يزداد شدة وإقداماً، ويستمر في الالتحام معهم، وكأنه يستمرىء اللقاء، ويتحدَّى الموت صارخاً فيه: أَنِ اقْدِمْ إننا هاهنا لصامدون ثابتون، لا يغيِّر من موقفنا شيء؛ فإن مات منا سَيّدٌ، قام سَيّدٌ!..
ويظل المسلمون على بطولاتهم ثابتين، حتى يمكنهم أن يظفروا بعدوهم، ويحققوا معجزة النصر فعلاً، قبل أن تُدرك الشمسُ كبدَ السماء؛ فينال الضعفُ من جيش عدوِّهم وتخور قوته، وتخبو في نفوس أصحابه روح القتال، فيدرك أنه غير قادر على متابعة المعركة، وتبدأ جحافله بالفرار، ويطلقون لخيولهم وجِمالهم العنان، تحملهم بعيداً عن ضربات المسلمين، وتحميهم من غضبهم اللاَّهب..
واندفع المشركون في الفِرار، يخلُّون وراءهم المتاع والسلاح، وأرزاقاً وفيرة وكثيرة احتملوها من مكة؛ بل لقد كانوا يتخلّون عن نسائهم، فيذهبن هارباتٍ في شِعاب الجبل حتى لا يقعن أسيرات ذليلات..
وأخذ المسلمون أيضاً يتابعون عدوَّهم في فراره بعيداً عن ساحة المعركة، ثم يعودون لأخذ الغنائم التي خلَّفها، ولجمعِ المتاع الذي تركه..
وكان الرماة المسلمون على «جبل عينين» يرقبون الغنائم التي يصيبُها أخوانهم، فقال بعضُهم لبعض: «الغنيمة أي قومُ الغنيمة، ظهر أصحابُكم، فما تنتظرون».
وصاح فيهم قائدهم عبدالله بن جبير: «ويحكم! أنسيتم ما أوصاكم به رسول الله ألاَّ تبرحوا مكانكم؟».
ولكنَّ الغنيمة قد أفقدتهم الصواب، فقالوا له: «لنأتينّ الناس ولنصيبنَّ من الغنيمة، فإن المشركين قد انهزموا، فما مُقامنا هاهنا»؟!.. واندفعوا يخلُّون مراكزهم، دون أن يمتثلوا لقائدهم الذي ثبت في مكانه ومعه نفرٌ قليلٌ كان أمرُ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عندهم فوق كل مكسبٍ أو مغنم..
ونَظَر خالد بن الوليد وراءه، فوجد أن الجبل قد خلا من الرماة إلاّ قليلاً منهم، وأن ظُهورَ المسلمين باتت مكشوفة، وقد انشغلوا بالغنيمة، فصاح في خيله من المشركين فجمعهم وحمل على المسلمين من خلفهم، وأعْمَلَ بهم سيفه تقتيلاً، فشتت قواهم، وبدَّد فرحتهم بالنصر..
ولما رأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما حلَّ بالمسلمين من مصيبة مفاجئة، ثبت في مكانه لا يتقدم ولا يتأخّر، بل بقي يرمي بالنبل حتى لم يبق معه منه شيء؛ ورآه رجل من المشركين اسمه ابنُ قميئة الليثي، فرماه بالحجارة، فأصيبت رباعيَّته الشريفة وشُجَّ في وجهه الكريم وكلُمت شفتُهُ ودخلت حلقتان من المِغْفَر الذي كان يستر به وجهه في وجنته، ثم تقدم نحوه يريد أن يقتله، فذبَّ عنه مصعب بن عمير الذي كان يحمل راية رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، راية العقاب، وما زال يستمرُّ في الذَّبِّ عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والعدو يهاجمه من كل ناحية وصوب حتى لم يعد يستطيع الصمود لكثرة ما نزف من دمه، فوقع على الأرض مضرَّجاً بالدم الزكي دفاعاً عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد وصل، فاندفع يكشف المشركين عن مصعب، ثم أخذ الراية ورفعها كي يراها المسلمون فلا يتفرقون، ولا يقتلهم التشتت، ولكن هيهات أن يبقى لهم حَوْلٌ أو تجتمع لهم قوة، وقد تفرّقت صفوفهم، وتمزقت وحدتهم، فراحوا يقاتلون فُرادى لينجوا من براثن الموت، بعد أن كانوا لساعة يقاتلون مجتمعين بأمر ربهم، متراصّين متضامنين منتصرين..
ورجع ابن قميئةَ بعد أن قتل مصعب بن عمير، وهو يظن أنه قتل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فراح يصيح في قريش: «إني قتلت محمّداً...».
وتطايرت أصوات الابتهاج في صفوف المشركين، من كل جانب تنادي: أَلا إنّ محمداً قد قتل..
وعلى غفلة من قريش، وقد أعماها خبر مقتل مُحمَّد، دعا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أصحابه إليه، فاجتمع منهم حوله ما يقارب الثلاثين، يحمونه بالمُهج، ويذودون عنه بالنفوس.. فرمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه [= أي أحد طرفيها]، وأصيب طلحة بن عبيدالله في يده، فشُلَّت على الفور، كما أصيبتَ عين قتادة بن النعمان، حتى نزلت فوق وجنته..
وكان أبيّ بن خلف الجُمحي من المشركين، قد رأى النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وعَرفَ أنه ما زال على قيد الحياة، فهجم عليه مثل وحشٍ كاسر، يريد أن يقتله وهو يصرخ مسعوراً: يا محمد! لا نجوتُ إن نجوتَ!.
وأراد أصحاب الرسول أن يقتلوه، ولكنَّه أَمَرَهم أن يخلُّوا بينه وبين عدوِّه، حتى إذا دنا من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تناول حربة الحارث بن الصُمة ثم استقبله فطعنه في عنقه، ولكنَّ الحديد الذي كان يلبسه قد ردّ عنه القتل، وإنْ لم يحْمِه من جرح بسيط أصابَهُ، ما إن أحسَّ به، ولمس دمه حتى ولّى هارباً لا يلوي على شيء. وما كاد أن يصل إلى أصحابه حتى وقع عن فرسه، يَخورُ كما يخورُ الثور وهو يصيح: لقد قتلني محمد..
وظنَّ أصحابه أن التعب قد أنهكه، وأن ما يقوله عن بقاء محمد على قيد الحياة هو نوع من الهذيان، فاحتملوه وهم يشدون من عزمه، ويطمئنونه بأنَّ ما أصابه ليس سوى جرح صغير سوف لا يؤثّر عليه، ولكنَّه أجابهم بهَلع:
«لو كانت الضربة بربيعةَ أو مُضَرَ لقتلهم! أليس هو من قال لي: أنا أقتلك؟ فوالله لو بصق عليَّ بعد تلك المقالة لقتلني»..
وسأله بعض أصحابه، ممن احتملوه: ولكن متى قال لك ذلك؟.
فقال لهم: لقد كنت ألقى محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، في مكة فأتوعده وأقول له: إنَّ عندي عوداً أعلِّقه فوق رأسي ولسوف أقتلك به، فكان يردُّ عليَّ ويقول: بل أنا سأقتلك إن شاء الله.
ثم قال ابن خلفٍ بعد أن صمت قليلاً: وها هو اليوم، والله قد قتلني..
وعادَ أصحابه يطمئنونه، قائلين: ما بك بأس يا أُبيّ!...
ولكن أنَّى لابن خلف أن يطمئن، وهو يشعر في قرارة نفسه أنَّ اليأس، كل اليأس، يتغلغل في أعماقه ويشدّه إلى مهاوي الموت!..
وهل يعرف أولئك الأصحاب أو غيرهم أن الهلع والجزع من محمد بن عبدالله كانا يلاحقانه منذ بضع سنوات، وأنَّهُ ما قصد الخروج مع قومه إلاَّ وله مأربٌ وحيدٌ، وهو النيل من محمد، حتى يُذهِبَ عنه تلك المشاعر التي تقضُّ مضجعه، وتلازمه في كلّ حين؟!..
لا!.. إن أحداً لا يعرف مصيبته..
وها هو إحساس ذلك اللعين يصدقه، فيرى شَبَح الموت ماثلاً أمام عينيه، وبالفعل وفي اليوم التالي لأُحد، انقضّت المنية عليه تجتثُّ روحه من خلال جرحٍ بسيط أحْدثه رسولُ الله في عنقه، ولو وقع ذلك الجرح في عنق حشرة واهية لما نال منها شيئاً.. ولكنه توعُّدُ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، له بأنه سيقتله بمشيئة الله، وهو توعُّدُ النبيِّ الصادق الذي لا يمكن أن يقع على نفس كافرة إلاَّ ويقتلها، مهما طالت المدة أو استدار الزمن بصاحبها، كما حصل مع أبيّ بن خلف..
كان إذن خبر مقتل محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، قد انتشر بين المشركين فأذهلهم، ولكنه ذهول الفرح والابتهاج بعدما زُيِّن لقريش أنها قدرت بعد سنين طويلة، أن تقضي على عدوها اللدود، الذي جاء يُطيح بمكانتها بين العرب، ويهدم كيان وجودها، ويسحق الآلهة والأرباب التي تعبد هي وآباؤها وأجدادها.
أما المسلمون، فقد كان وقع الخبر عليهم مميتاً.. كيف لا، وهم يجدون أنفسهم قد فقدوا في لحظاتٍ حاميَهُم، ومحرِّرَهم، ورائدَهم في الحياة!.. وكيف لا يزلزل الأرض بهم هذا الخبرُ زلزالاً شديداً والموت لا محالة ينتظرهم بعد محمد، صلى الله عليه وآله وسلم؟!..
وسرت في نفوسهم روح الهزيمة، وتفرقوا في الجبل، كلٌّ يلوذ بالفرار، أو يأوي إلى ناحية يختبىء بها، إلاَّ من عَصَمَ الله، أمثال علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأبي دجانة، وأم عمارة الأنصارية، وغيرهم، وغيرهم (رضي الله عنهم)، من الذين ثبتوا في المعركة، واستماتوا في الدفاع عن نبيِّهم استماتةً لا يُقهر صاحبُها أبداً.
فأمُّ عمارة الأنصارية، نسيبة بنت كعب المازنية، كانت تجوب أرض المعركة منذ الصباح وهي تحمل وعاء الماء، تدور به على المسلمين تسقي من استسقى. فلما انهزم المسلمون، ورأت ما حلَّ برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ألقت سقاءها واستلّت سيفاً، وراحت تقاتل وتذبُّ عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ببسالة نادرة، وجرأة لا توصف، حتى أذهلت المشركين، ولم يجدوا إلاَّ التكاثر سبيلاً للانقضاض عليها، فإذا بها تفرُّ منهم، ولكنَّ الجراح التي أصابتها، وقد زادت على ثلاثة عشر، كانت قد أوهنت قواها، وجعلتها تسقط شهيدة تتخبط بنزيف دمائها الزكية، فيلقي عليها رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نظرة الوداع ويدعو لها قائلاً: «رحمَك الله يا أختاه، إن موعدك الجنة.. والله ما التفتُّ يميناً وشمالاً إلاَّ ورأيتك تدافعين عني»..
إنها بطولة إسلامية، لا تقابلها إلاَّ تضحية إسلامية، فكما استماتت حورية الجنان أم عمارة، في الذبّ عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هكذا فعل أبو دُجانة الذي يجعل من نفسه وجسمه ترساً للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ينحني فوقه وقد أدار ظهره للمشركين تنزل عليه نبالهم، من غير أن ينثني عن موقفه أو يلتفت وراءه، إلى أن هوى من كثرة النبال فيُقرىءُ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، السلام وهو يقول: فِداك أبي وأمي، ليتني أموت وأحيا ألف مرة يا رسول الله لأحميك من عدوِّك اللئيم..
إيه أبا دجانة! ما أروع التضحية التي قدَّمت، والوفاء الذي خلَّدت!..
أوَيظنون أن سهامهم نالت منك؟.
لا وحقِّكَ فأنت فوق كل سهام الغدر، وفوق كل نبال الحقد!..
لقد دافعت عن حياة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بتضحيتك الباهرة فقدمت للحياة كلِّها سببَ وجودها وبقائها ففرحت بكَ الحياة لتكون أنموذجاً للتضحية، ولم تقبل أن يأخذك الموت منها فعشت رغم كثرة سهام الأعداء بإذن منه تعالى الذي يهب الحياة لمن يشاء..
وأنتَ يا حبّاب بن المنذر، ما بالك، وأين هذه الغيبة وحبيبك محمدٌ في خطر؟!..
إن عُذرك أيها البطل المقدام، أن كثافة المشركين من حولك قد غَشيتِ الأنظار فلم تعد تراك إلاَّ وأنت تفرقهم أشتاتاً أشتاتاً، وتحوشهم كالغنم، وتدقُّ أعناقهم بسيفك، وتحمل عليهم وهم يفرون أمامك حتى تجلوهم بعيداً عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم...
ومثل هؤلاء الأبطال الصابرين، الذين قاتلوا دون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نفرٌ غيرهم كثير إذ قام كذلك زياد بن السكن في مجموعة من الأنصار، يدفعون عن النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، بكل قوة وثبات، فيُقتلون رجلاً تلو رجلٍ، ويكون زياد آخرهم، فيقاتل حتى توهنه الجراح، وتسلب منه كل عزيمة، فيقع قرب نبيِّه الكريم، مستقبلاً الشهادة، فيشدُّهُ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، صوبه، ويوسِّده ركبتَيه الشريفتين إلى أن تفيض روحُه الطاهرة..
وانفلت أنس بن النّضْر، عمّ أنس بن مالك، من براثن الموت، ليبحث بين الشعاب عن إخوة له يلمُّ شملهم، ويأخذ بيدهم حتى يعودوا إلى المعركة ــــ وكان أنس مثال المؤمن الصادق، المخلص، الذي يتفانى في عقيدته ويستميت في الدفاع عنها ــــ فوجَد نفراً منهم قعوداً، وقد ألقوا ما بأيديهم، فتقدم منهم صارخاً: وما يَحْبِسُكُمْ ها هنا؟.
قالوا: لقد قُتل النبيّ...
قال: «فما تصنعون بالحياة من بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه».
ثم استقبل أنسُ الكافرين وقد أذهله خبر مقتل النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ يقاتلهم حتى قتل، فوُجد بعد المعركة وبه سبعون ضربة وطعنة، وقد مُثِّل به، وشوِّهت خلقته، واختلطت معالمه، فما عرفته إلاَّ أخته، وقد أمكنها أن تستدلَّ عليه مِنْ خاتم كان في إصبعه.
إنها لأُمثولات كثيرة، وبطولات نادرة قدَّمها شهداء المسلمين يوم أُحُد... ومثل ذلك العطاء إن وجد لدى أحد الفريقين في معركة، لا يعود يجدي معه التساؤل: لمن كان النصر؟!.. لأنَّ هذا العطاء هو النصر بعينه، ولسوف يحقق لأصحابه إن عاجلاً أو آجلاً، المقاصد التي أعْطوا لأجلها طالما اقتدى غيرهم بهم، وانتفح بالروحية التي كانت فيهم..
وتلك هي الروحية التي قاتل فيها مثلَ إخوانه الآخرين، سعدُ بن الربيع، حتى لم يعد قادراً على حمل سيف أو رمح، أو أن يلقي بحجرٍ، فتوسَّدَ الثرى يصوِّب ناظريه إلى السماء، فإذا بإخوة له يرونه، فيسرعون لإسعافه، ولكنه يبادرهم بالسؤال: «أين رسول الله»؟.
سكتوا، ولم يجيبوه.. فعادَ يلحُّ عليهم، فلما رأوه يجود بنفسه، ولكي لا يستشهد وفي نفسه حرقة لمعرفة أخبار رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا له: إن الرسول قد قتل يا سعد (كما ظنوا بعد أن شاعَ الخبر المقيت)..
فقال سعد: «أشهد أن محمداً قد بلغ رسالة ربه، فقاتلوا عن دينكم فإن الله حيٌ لا يموت»..
فأيُّ إيمان هذا، وأيةُ عقيدة تلك، إلاَّ أن تكون الإسلام، لكي تجعل سعداً وأمثاله يسمون بذلك الفكر النوراني الذي يرقى معارج السماء!..
وعلى غرار سعد، كان إيمان عبدالله بن جحش، إذ كانت أمنيته الوحيدة ألاَّ يموت إلاَّ شهيداً في سبيل الله.. وها هو يقاتل في أُحُدَ، قتال الأبطال الأشداء، فيلقى الشهادة التي وَعَدَ نفسه بها، لينتصر بها على أهل الخبث والحقد، الذين لم يكفهم قتله، بل دفعتهم قلوبهم الصدئة بالقسوة إلى التمثيل به أشنع تمثيل..
وهكذا تعاقب على الشهادة يوم أُحُد صحابةٌ أبرارٌ، حتى بلغوا نحواً من ثلاثين، منهم من لقي وجه ربّه عندما التقى الجمعان، ومنهم من جادَ بروحه دفاعاً عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعدما ضحَّى بحياته فداءً له، وهو يقول: «وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الوَفاء، وعليك سلام الله غيرَ مودَّع يا رسولَ الله»..
وإذا كانت الشهادة في سبيل الله رحمةً ونعمةً تفيضان من سَنَاهُ الجليل على عباده الصالحين، فإن تلك الرحمة والنعمة قد شملت أيضاً يوم أُحُد فئة من المسلمين، لم يكن قتالها دون قتال المستشهدين الأبرار. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى لم يرزقها الشهادة، بل ادّخرها، وادَّخر قواها لمهمات أخرى في الإسلام، أو لمواقيت أخرى تُنالُ فيها تلك الشهادة بنفوس راضية مرضية، وهي الفئة التي ثبتت في المعركة، أو صدّت عن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، تدفع عنه البلاء، وتحمله بعيداً عن خطر الأعداء، حتى يكمل الله سبحانه دينه، ويتمّ على البشرية نعمته، يرضى لها الإسلام ديناً.
ولقد كان هؤلاء الذين ثبتوا في المعركة، بل الذين استشهدوا أيضاً، من الشاكرين لله تعالى، إذ ثباتهم واستشهادهم نعمة عليهم من الله تستحق الشكر، فنزلت بحقهم آياتٌ كريمة يُثيبهم فيها ربهم على شكرهم:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .
وراحت الشمس يوم أُحُدْ تجنح نحو المغيب، فهدأ أُوار المعركة، وتوقف القتال، وكان التعب قد أخذ من الفريقين كلّ مأخذ، وأصابهم الإعياء، وهدّهم الجهاد أو التعب، فانبرى كل واحد إلى جَمْعِهِ يتّخذ فيه شأنه ويتدبّر أمره..
وأمَّا المسلمون، فراحوا يجمعون شتات شملهم، ويقبلون بعضُهُمْ على بعض، وجلُّهم لا يعرفون عن أمر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، شيئاً، لأنَّ الذين كانوا ينضمون إليه لم يكذّب أحدٌ منهم خبر قتله إطاعة لأمره، مخافة أن ترتدّ عليهم قريش وتغلبهم على أمرهم دونه.. وكان كعب بن مالك قد وجد جماعةً من إخوانه المسلمين يلتفّون بعضُهم حول بعض، فما إن قاربهم ــــ وكان معه نفر قليل حتى ــــ رأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عرفه من عينيه اللتين كانتا تُزهران تحت الخوذة التي يعتمرها، فنادى بأعلى صوته: «يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله».
فأشار إليه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يسكت.. ثم نهض المسلمون بالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، نحو الشِّعْب ليحتموا به ولكي يركنوا إلى الراحة بعيداً عن قريش؛ وأراد الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعتلي صخرة، فما استطاع لكثرة ما نزف من دمه الطاهر، فأسرع إليه طلحة بن عبيدالله، يعينه وينهض به حتى استوى عليها، يلتقط أنفاسه، ويصبر على آلامه وجراحه.. وأسرع علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى ماء فملأ منه وعاءه ثم جاء به رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يغسل الدم عن وجهه، ويسقيه، وكان أبو عبيدة بن الجراح قد نزع حلقتي المِغْفَر من وجنته الشريفة.
أجل، إن المسلمين في الشِّعب يلوذون بالسكوت، ويواسي بعضُهم بعضاً، بينما كانت الزغردات في معسكر المشركين تتعالى، والأهازيج تصدح، والطبول تدقّ ضربات الفرح والابتهاج...
لقد حقق المشركون النصر، وانتقموا ليوم بدر، وشفوا نفوسهم بمقتل محمد بن عبدالله كما زعموا، وبمقتل نفرٍ من أصحابه.. فلْيهنأوا بما وعَدهم به هُبَلْ، ولينعموا بما منّت عليهم أوثانهم وأصنامهم!..
ودار عليهم الغِلمان والعبيد بالخمرة يترعون كؤوسها، وانبرت القيان يغنين لهم ويرقصن، بينما راحت النساء ترشُّ عليهم العطور، ويُقْبِلنَ على عناقهم جذِلاتٍ هانئاتٍ، إلاَّ بعضهنّ، فقد انطلقن مع هند بنت عتبة يُمثّلن بالقتلى من المسلمين، فَيَصْلِمْنَ آذانهم ويَجْدَعْنَ أنوفهم، ليتخذن منها قلائد وأقراطاً.. ووقفت هند، فوق هام حمزة سَيد الشهداء، ــــ وما تركت الأفراح إلا بحثاً عنه ــــ وهي تقهقه جَذلى، إذ أسكرها مرآه بدمه النازف، ولكنها لم تلبث إلاَّ قليلاً حتّى انقضّت عليه كوحشٍ كاسر، وبيدها السكين التي حملتها خصيصاً له من مكة، فتجدعَ أنفه وتَصْلِمَ أذنيه. ولم يَشْفِ غليلها هذا التقطيع والتمثيل، فأنشبت أظفارها في وجهه ثم عادت إلى السكين فبقرت بطنه وانتزعت كبده من جوفه، وأخذتها بيديها محنقة، ثم دفعتها إلى فمها مسعورة وراحت تلوكها وهي تحاول أن تمضغها وتزدردها، إلاَّ أنَّ الكبد الطاهر أبى الدخول إلى جوفها النجس، واضطرها لأن تلفظه كي يستريح في العراء حُرّاً من دَنس تلك الوحشة، آكِلةِ لحوم البشر..
وتفقَّد أبو سفيان زوجَه هنداً بين النسوة المحتفلات، فلم يجدها!..
لقد أرادها في تلك الساعة لكي ترافقه في بحثه عن محمدٍ بين القتلى.. فلمَّا لم يعثر عليها بين الجموع أدرك أين تكون، لأنه كان يعرف مقدار حقدها على حمزة بن عبدالمطلب، قاتلٍ أبيها وأخيها، ويعرف ما دبّرت من أمر العبد الحبشي «وحشي» للغدر به، فقال في نفسه:
«لا شك بأن هنداً هناك»!..
واندفع أبو سفيان إلى مكان المعركة، وتبعه الحليسُ بن زبان أخو بني الحارث بن عبدَمِناةَ وهو يومئذٍ سيّد الأحابيش، وهناك شاهدا هنداً مع العبد «وحشي». ولمَّا نظرَ أبو سفيان إلى يديها وفمها وقد غطتها الدماءُ، أمر العبد أن يقودها إلى المعسكر مع النسوة الأخريات، وما إن بَعُدْنَ، وكان ما زال في مكانه، حتى أمسك برمحه وراح يضرب به شِدْقَ حمزة ويقول: «ذُقْ عَقَقْ.. فهذه مجافاة الأهل وعقوقهم»...
ونظر الحليس إلى أبي سفيان منكراً ما يفعله فقال له: وكيف تفعل هذا يا أبا سفيان وقد نهيت أنت يوم مررت بالأبواء عن نبش قبر آمنة بنت وهب؟.
فقال أبو سفيان: لقد أبيتُ تلك الفعلة حتى لا تكون سنَّة عند العرب.
فقال له الحليس، الذكيُّ الداهية: بل لقد حرصت على قبوركم من أعدائكم!.. أما قلت ذلك اليوم لمن أرادوا النبش: لا تفعلوا ذلك، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وبنو خزاعة موتانا؟.
فقال له أبو سفيان وقد خجل أمام الرجل مما فعله بجثة حمزة: «ويْحَكَ اكتمها عنِّي فإنها كانت زلَّة».
وعاد أبو سفيان من جديد يبحث عن جثة محمد بن عبدالله، فلما أعياه التفتيش ولم يجده، خامره الشك في أن يكون قد قتل، ولكنه أراد أن يقف على حقيقة الأمر، فانطلق ناحية الشِّعْبِ حيث قبع المسلمون، فنادى من بعيد، وهو يختبىء وراء صخرة خوفاً من أن يرشقه المسلمون بالنبال:
«أفيكُمْ محمد، أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم ابن الخطاب»؟.
ولم يسمع جواباً على ندائه، إذ كان الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، قد نهى أصحابه أن يجيبوه، فظنَّ أن من ذكرهم قد هَووا في المعركة، فعادَ يصرخ بصوت عالٍ: «أمّا هؤلاء، فقد قتلوا»!.
فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه، فردَّ عليه قائلاً: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يخزيك».
وكأنما أراد أن يردَّ على شتيمة عمر له، فقال مرتجزاً:
نَعِمتْ فِعالْ.. إن الحرب سجالْ... أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ!..
فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: قولوا له: «الله أعْلى وأجلّ».
فقال أبو سفيان: «إنّ لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم»..
فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «قولوا له: الله مولانا ولا مَولى لكم».
فقال أبو سفيان: «يومٌ بيومِ بَدْر».
فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «قولوا له لا سَواء! قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار»...
عندها صاح أبو سفيان: «إن موعدكم بدرٌ للعام القابل».
فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «قولوا له: هو بيننا وبينكم موعد».
وكأنما خاف أبو سفيان، قبل أن ينصرف، أن يتهمه المسلمون بأنه هو الذي حرَّض على التمثيل بالقتلى، فأراد أن يدفع عنه التهمة فصاح يقول:
«إنه قد كان في قتلاكم مُثْلةٌ، فإني لم آمر بها ولم تَسُؤني!...».
ثُم عاد أبو سفيان إلى قومه، فوجدهم قد دفنوا موتاهم، وتأهبوا للرحيل، فأعطى إشارة المسير، وانطلق المشركون من أُحد، وما زالت الفرحة تعمر صفوفهم، والأغاريد تسبق حوافر خيولهم، حتى بَعُدوا بعض المسافة، والمسلمون يرقبون ذهابهم، ولكنهم لا يأمنون غدرهم وخبثهم، ولذلك بعث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، علي بن أبي طالب (عليه السلام) يرقب مسيرتهم، ويقف على وجهتهم، بعد أن قال له: «اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون.. فإن كانوا قد جَنبوا الخيل، وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة». وانطلق عليّ في أثرهم، فرآهم قد خلّوا الخيل، واعتلوا ظهور الإبل، وقد وجَّهوا رحالهم نحو مكة، فعاد يخبر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بما رأى، فاطمأنَّ رسول الله على مدينته، وقال بلهجة الصادق الواثق: «والذي نفسي بيده، لئن أرادوا المدينة لأسيرنَّ إليهم فيها، ثم لأُناجزَنَّهم».
وذهب جيش الشِّرك وانجلى النَّقْعُ [= الغُبار] من أجواء أُحُد.. فهدأ روع المسلمين، وعادت إليهم أواصر اللُّحمة فكان لا بد لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعظهم من غير توبيخ أو تأنيب، فطلب إليهم أن يستووا وراءه صفوفاً حتى يُثني على ربِّه عزَّ وجلَّ، ثم رفع يديه وناظريه إلى السماء وراح يدعو الله سبحانه في ابتهال جليل، وهو يقول:
«اللَّهم لك الحمدُ كلُّه، اللَّهم لا قابضَ لما بَسطتَ، ولا باسطَ لما قَبضتَ، ولا هادي لما أضللتَ، ولا مُضِلَّ لمن هَديتَ، ولا مُعطيَ لمن منعت ولا مانعَ لمن أَعطيتَ، ولا مُقرِّب لما باعدتَ ولا مُبعِّد لما قرَّبت. اللَّهم ابسُط علينا من بركاتِك ورحمتك وفَضلِك ورزقك. اللّهم إني أسألك النعيمَ المقيمَ الذي لا يحولُ ولا يزول. اللّهم أحْينَا مُسلمينَ وتوفَّنا مُسلمينَ وألحقْنا بالصَّالحين غير خزايا ولا مَفتونين. اللّهم قاتلِ الكفرة الذين يُكذِّبون رُسلَكَ ويَصدُّون عن سبيلكَ، واجعل عليهم رِجزكَ وعذابك إنك سميع، قريب، مجيب يا رب العالمين».
فلما انتهى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، من دعائه، والمسلمون يرددون من ورائه، كان الألم يعتصرهم، فإذا بالغالبية الساحقة منهم تبكي ولكنه بكاء الفرج النابع من الإيمان الذي يشد القلوب، وبكاء الندم ممن خالفوا أمر نبيهم وبان لهم الخطأ الفادح الذي ارتكبوه، فتقدموا من النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ذلك يعتذرون، ويسألون ربّهم المغفرة. وكان النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يرد معتذراً، ولا يُجافي خاطئاً، بل يطلب منهم الابتهالَ إلى الله تعالى، والثناء عليه عزَّ وجلَّ عسى أن يرحمهم ولا يُنزل غضبه بهم...
وعادَ الصحابة الأجلّاء يمدّون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بما يحتاج من إسعافات أولية، ثم ينزلون على أمره فيلحقونه إلى مكان المعركة، كي يلقي نظرة الوداع على المستشهدين الأبرار..
وطاف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في ذلك المكان يرقب بأمّ العين ما حلَّ بالمسلمين من نكبة وما نزل بهم من مُصاب، حتى بلغ عمَّه حمزة، فوجده قد مُثِّـل به أشنعَ تمثيل، فحزن لمرآه حزناً شديداً وبلغ الغيظ منه كلَّ مبلغ، فقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «ما وقفت موقفاً أغيظ إليَّ من هذا الموقف».. وقال أيضاً، صلى الله عليه وآله وسلم: «لولا أن تجزع صَفيّةُ، وتكون سُنّةً من بعدي، ما غُيِّب [= دُفِن في التراب] حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير».. وذرفت عيناه الدموع يبكي حمزة أسدَ الله وسيّد الشهداء، فبكى المسلمون معه ذلك البطل المسجّى الذي اختلط دمُه الزكي بالتراب..
وتهادى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في مشيته يحصي القتلى، فوقف على مصعب بن عمير صريعاً في بُرْدِه، فنعاه لمن حولَه فقال: «لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرقُّ حُلّةً منك ولا أحسن لِمَّةً [= الشَّعْرُ حين يتجاوز شحمة الأُذُن]، ثم أنت أشعث الرأس في بُرده».
كما مرَّ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على عمرو بن الجموح، فقال: «كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة» ثم أمر أن يدفن عمرو وابن أخيه ومولى لهم في قبر واحد. وكان عمرو قد جاء الرسول قبل أحد، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكان أعرج. فقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: نعم.. وبالفعل كان من المستشهدين يوم أحد.
وتدفقت الآلام من نفس الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لتلك المشاهد القاسية، فلم يقدر على حبسها؛ بل لقد انعكست تلك الآلام مجسّدة في جراح جسده الشريف، التي عاد بعضُها ينزف، ويثور منه الوجع حتى يمنعه، صلى الله عليه وآله وسلم، من المسير، فيقف مودعاً الشهداء، ويقول: «زمِّلوهم (= لُفُّوهم) بدمائهم، فإنه ليس أحد يُكْلَمُ [= يُجْرَحُ] في الله إلاَّ ويبعثه الله يوم القيامة وجرحه يُدْمى، اللونُ لونُ الدم، والريحُ ريحُ المِسك». ثم قرأ، صلى الله عليه وآله وسلم:
{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} .
ثم قال: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأْتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردوا (عليه السلام)». وكان قتلى المسلمين قد بلغ عددهم في أُحُد نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين، والآخرون من الأنصار، بينما لم يزد عدد قتلى المشركين على أربعة وعشرين قتيلاً غير الجرحى الكثيرين من الفريقين.
نعم، كان طلب الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الصحابة أن يلفُّوا أجساد الشهداء بدمائهم وجراحهم وأن يدفنوهم بعد أن ينظروا أكثرهم جمعاً للقرآن فيجعلوه أمام أصحابه في القبر.. ثم جاؤوه بفرسه، فركب ودعا بالعودة إلى المدينة، فساروا من ورائه، بعد أن حَمل بعضُهم قتلاهم يريدون أن يدفنوهم في المدينة...
ووصَل جيش المسلمين إلى أبواب المدينة، فإذا الناس بالانتظار، وقد جاءتهم أخبار المعركة، فراحت النساء تبكي القتلى، وتندب الهزيمة، ومعهنَّ الأولاد يجهشون في البكاء... وتدفقت تلك الجموع ــــ المنتظرة ــــ نحو رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تتلهف لرؤيته، وقد نسيت النساء أحزانهن، وشُغِلن عن أنفسهن بمرأى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بدا عليه الجهد والتعب... وهانت لمرآه عليهن المصيبة، فقالت أم عامر الأشهلية تعبِّر عن مشاعر الثكالى والحزانى: «كل مصيبة بعدك جلَل يا رسول الله». وتقدمت نحوه أم سعد بن معاذ، فقال لها الرسول العظيم: «أبشري وبشري أهليهم يا أم سعد، إن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً»... فتقول أم سعد: «رضينا برسول الله سالماً، وليس من يبكي عليهم بعد هذا». ولكنها عادت تسأل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الدعاء لذوي قرباهم وقالت: ادعُ لمن خلَّفوا يا رسول الله»... فقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «اللَّهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم وأحسن الخُلف على من خلَّفوا».
ثم أقبلت صفية بنت عبدالمطلب، عمة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تريد حمزة (أخاها لأبيها وأمها) لأنها كانت تعتقد أنه بين القتلى المحمولين إلى المدينة فأمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الزبير أن يدركها، فجاءها يقول لها: اهدئي يا أماه، فأبت عليه وقالت:
«لقد بلغني أنه قد مُثِّل بأخي وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتَسِبنَّ ولأصبرنَّ إن شاء الله»... ولكنَّ ابنها الزبير عاد يهدِّىء خاطرها، وأبدى لها بأن خاله حمزة ليس بين القتلى، بل دفن مع ابن أخته عبدالله بن جحش ومصعب بن عمير في مكان واحد حيث قتلوا.
ونظَر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى النساء وقد تجمَّعن حلقات، يندبن قتلاهنَّ، وهنَّ والهات، وعلى أحبائهن باكيات، فتأثر للمشهد المؤلم، وافتقد نساء بني هاشم يبكين شهيدهم حمزة، فقال، صلى الله عليه وآله وسلم، والدموع تترقرق في عَينيه: «أين البواكي على حمزة» فتخلى الجميع عن قتلاهن واجتمعن في حلقة واحدة يبكين على حمزة، ولشدة ما أثّر فيه هذا المشهد، ولكثرة ما رأى من الفواجع، أمر أن يعيدوا القتلى ويدفنوهم في أرض المعركة حيث صرعوا رغبة منه في تخفيف أجواء الأحزان، وتهدئة الخواطر، ومن ثمَّ لمنع ما يراه من فجيعه تنمُّ عن جاهلية يأنفها الإسلام، إذ كانت بعض النسوة يجززن شعورهن، ويخدشن وجوههن، ويشققن جيوبهنَّ، وهذه كلها فعال منكرة، لا تجدي المحزونين فتيلاً، ولا تغيِّر من القدر كثيراً ولا قليلاً. إلاَّ أنه لم يمنع عليهنَّ البكاء، لما في ذرف الدموع من تنفيس عن المشاعر، وتفريج عن النفوس، فقال محذراً من العويل والصراخ: «البكاء من الرحمن والصُّراخ من الشيطان» وتداولَ الناسُ قولَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فهدأت النسوة وخَفَتَ صُراخهنَّ، وهدأت ولولتهن، ورحن يبكين مفارقاتٍ، صابرات...
وبعد أن فترت حمَّى المصيبة قليلاً، أمر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يتفرق الجميع وأن يعودوا إلى منازلهم، ليُخلد المحاربون إلى الراحة وليداوى الجرحى. فامتثلوا لأوامره راضين، وانصرفوا يوقدون النيران لغلي الماء وتضميد الجراح، أو إعداد الطعام للمتعبين والجائعين...
ومضى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى بيته، وبجانبه السَّعْدان ، فلما أرادَ أن ينزل عن فرسه، شعر أنه مرهق، فتقدم منه الصاحبان فنزل ومشى يتوكأ على كتفيهما، ثم دخل منزله واستلقى على فراشه بادي الإعياء.
ولمَّا هدأ رَوْعُه قليلاً طلب أن يذهب كل من جاؤوا في أثره لكي يستريحوا ويخلدوا إلى سكينةٍ هم بأمسّ الحاجة إليها بعد الذي عانوه..
وما أن خلا بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى اندفعت نحوه نساؤه وابنته فاطمة الزهراء (رضي الله عنها)، يرتمين على أقدامه، ويهنئن أنفسهن بعودته سالماً...
واحتضنته فاطمة بين ذراعيها، باكية تمسح دموعها برأسه الشريف، ثم أخذت تنظّف جروحه من الدم فرأت أن تلك الجروح لا يرقَأُ [= ينقطع] دمها، فأتت بقطعة من الحصير، وأحرقتها ثم أخذت تجعل الرمادَ فوق الجروح ليستمسك الدم النازف.
وأخلدَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الراحة، حتى أقبل المغرب، وأذّن بلال في الناس، فخرج، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى المسجد يصلّي بهم، وظلَّ بينهم إلى ما بعد العشاء، ثم عادَ إلى داره، وبرفقته بعض وجوه الصحابة الأبرار، الذين أبوا إلاَّ السَّهر على بابه، يحرسونه، ويذودون عنه شرورَ الأعداء وغدر اللؤماء.
* * *

ظِلال آثار غَزوَة أُحُد
خفايا السرائر، هي خفايا قلوب ونفوس لا يقف على مكنوناتها إلاَّ رب العالمين وحده. فالإنسان يتصرف في الحياة، ويسلك دروبها وفق ما ينبع من ذاته، ووفق عوامل عديدة ومتنوعة تبعثه إلى ما يُشاهَدُ في تصرفاته وفي جميع حركاته وسكناته..
ولكننا ــــ في أحيان كثيرة ــــ نرى أن الإنسان قد يصبح أسير ظرف معين يعترضه، فيقف أمامه متحيّراً، متردداً لا يعرف ماذا يفعل، ثم لا يلبث أن يندفع إليه بكل جوارحه، وهو لا يدري ما القوى، ولا العوامل التي أثّرت فيه وجعلته يتقبَّل هذا الأمر الذي يواجهه وينجذب إليه، دونما إرادة، وإعمال فكر.
إن مثل هذا الانجذاب الظرفي، هو الذي يجعل بعض الناس يقدمون على أفعال لا يريدونها في الواقع، أو يقومون بتصرفات لا يرضون عنها في الحقيقة.. ولكنهم ــــ عند مواجهة الانفعالات والمشاعر، يفقدون كل قدرة على الإدراك والتمييز ويُقبلون على تلك الأفعال بكل جوارحهم.. ثم لا يلبثون، بعد أن يهدأ الانفعال، ويذهب الانجذاب ــــ أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية، نتيجة لعودة الوعي لهم، فيجدون أن ما قاموا به كان غريباً عنهم، فيحزنون لذلك ويندمون، ولكن ما نفع ندم يكون أوانُه قد فات، وما حصل يكون قد حصل؟!..
وهكذا، فإننا إذا تتبعنا الوقائع التي سبقت أُحُداً، ورافقنا الأحداث التي جرت أثناءها، لوجدنا أنها قد أظلَّها كثيرٌ من المعاني، وامتلأت بعديد من الصور، تبعاً لما حَبِلت به القلوب، أو انجذبت إليه النفوس في تلك الواقعة...
فمنذ أن اتضح للمسلمين مجيء قريش لتغزوهم في عقر دارهم، تعدَّدت بينهم الآراء، وكثرت المحاورات.. فكان بينهم من دعا إلى البقاء داخل بلدهم والتحصّن فيه، فإذا ما هاجمهم العدو أوقعوا به الخسائر الفادحة، لما يتعرّض له المهاجم عادةً من أخطار يُعدُّها له المُدافع... بينما كانت الآراء الغالبةُ مع الخروجِ لملاقاة العدو، بعيداً عن البلد لأن في ذلك موقفاً أعزَّ لهم، وأشدَّ بأساً في المواجهة..
ووقف الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بين الداعين بالتحصُّن وبين المُظاهِرين على الخروج، يقلِّب آراءهم على مختلف وجوهها، فرأى أن الخروج قد لا يكون مأمون العاقبة، نظراً لكثرة عدد العدو، وتنوع سلاحه وعدّته، فكَرِهَ ذلك الخروج، وصرَّح بكراهيته له، إلاَّ أن الأكثرية ظلت على حماستها، ولم تقنع برأي الأقلِّية... هنا أراد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يثبت للمسلمين، وللناس أجمعين، أن نظامه لا يقوم على القَسْر وفرض الرأي ــــ تماماً، كما أنه لا إكراه في الدين ــــ وأن ما تقرره الأكثرية في مثل هذه المناسبة الحربية يجب اعتماده حتى يتبين خَطَلُهُ من صحته وإن كان في ذلك تجربة قد تؤدي إلى نتائج لا تتوقعها الأكثرية، أو لا تريدها في الحقيقة.. ولذا فقد أبى، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يتردَّدَ في اتخاذ القرار، فترك الناس في جدالهم ومحاورتهم، ثم ذهبَ إلى داره فاستعدَّ للقتال، وظهر أمام الأعين، متأهباً للخروج. فكان ما فعله الرسول الأعظم أمراً طبيعياً، إذ لا يمكن أن يتردد الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، في المواقف الحاسمة عن اتخاذ القرار النهائي الذي يحسم الجدل ولا يمكن أن يكون في مواقفه أيّ تردد أو حيرة كي لا يرى الناس في خطواته الشريفة مظاهرَ ضعف قد تقود إلى الخذلان، وحاشا لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يكون نهجه إلا الصواب، وأن يكون دأبه إلا الحقيقة، وأن يكون هداه إلا إلى الصلاح.. فقد حباه الله سبحانه وتعالى بقدرة التفكر والتبصّر، ومنحه مَلَكَة توقُّع الصحيح من الباطل.. ولذلك أظهر كراهيته للخروج مبدئياً، ثم وافق عليه أخيراً لأنه أراد أن يكون للمسلمين، في بداية تأسيس قوة الإسلام ومِنْعَته، بناءٌ ذاتي قوي، أساسه اتفاق كلمتهم بعد كل شُورى وحوار فيما بينهم، ليصيروا في النهاية إلى وحدة الرأي واجتماع الكلمة...
والإسلام في حقيقته لا يتخذ في أمر من أمور الحياة موقفاً يمليه ظرف معين، ثم يعود فيتخذ موقفاً مناهضاً في ظرف آخر مشابه... بل يستنُّ القاعدة التي تدوم على طول الزمان والتي تصلح لكل مكان...
وإذا كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قادراً على فرض السُّنن، وإرساء القواعد، فإن الإسلام يحتاج في كل وقت إلى أصحاب فكر عميق، وإلى ذوي رؤية صادقة، وقدرة على القيادة الحقة..
ومتى وجد هؤلاء، وكان لهم العزم الثابت، فإنهم يحملون لواء شعلة الحق، بعد التوكل على الله، ليَلِجوا شتى الأبواب، وينزلوا سائر الميادين في الحياة، وليأخذوا بيد الإنسانية إلى ما يحقق نفعَها، ويؤمن لها الخير والسعادة..
وهكذا فإن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، قد ظهر متأهباً للخروج، بعد أن فكر وقدَّر، وبعد أن عزم وتوكَّل، تطبيقاً لهدفين أساسيين:
ــــ ترسيخ نظام وحدة الكلمة ووحدة الرأي، وإرساء قواعد ثابتة لا تتزعزع، من حيث العمل برأي الأكثرية في مثل هذا الموقف.
ــــ إنفاذ أوامر الله: «فإذا عزمت فتوكل على الله».
وإن في هذين الهدفين، ما يجعل ظروف واحد منهما تهيِّىء لما هو أبعد منها بكثير، أي لما يتعلق بوحدة كلمة المسلمين عامةً في مستقبل أيامهم...
ثم تتلاحق بعد ذلك الظروف الكثيرة التي تدلّ على خفايا القلوب والنيات، ويتراءى فيها ما يكون لتلك الخفايا من تأثير على وحدة الصف، وتعاقب الأحداث...
فقد بدأ جيش المسلمين وقت خروجه وعدده ألف مقاتل، جمعاً ملتئماً، وبرز في مطلع مسيرته وحدةً متراصّةً متكاتفة؛ إلاَّ أن ذلك كله لم يكن سوى ظاهِرِ حالِهِ فقط؛ إذ ما كاد يقطع بعض الطريق، حتى تكشَّفت نيّات المنافقين بين صفوفه، وظهرت حقيقة نفوسهم المريضة، التي استبطنت الخداع والمراوغة.. فقد افتَعَلَ زعيم المنافقين، عبدالله بن أبيّ مشكلة أدت إلى إثارة الخلاف، وإلى إشاعة الشقاق والفرقة، حين توقف فجأة وأمر جماعته ــــ وكانوا يؤلفون ثلث الجيش ــــ بالرجوع.
وتوقف جيش المسلمين بأجمعه، ليرى ما الذي دفع ابن أبيّ ليفعل ذلك، وراحوا يسأل بعضُهُم بعضاً، فما وجدوا سبباً يدعوه للرجوع، لأنه لم تبدر من أحد منهم، بادرةٌ تسيء إليه أو إلى أحد من جماعته.
ووقف الجيش يرقب ابن أبيّ حال رجوعه، فإذا بَلْبَلَةٌ جديدةٌ تدبُّ بين صفوفه، وإذا طائفتان أخريان ــــ بنو حارثة وبنو سلمة ــــ يتشاوران فيما بينهما بالرجوع للالتحاق بذلك المنافق. ولكنهما لم يطل بهما التشاور، إذْ تدخلت إرادة الله سبحانه، في تلك اللحظة، ومنعتهما من اقتراف الإثم الذي اقترفه رأس النفاق، لأن أفراد الطائفتين كانوا من المؤمنين، والله تعالى هو وليُّ المؤمنين. وقد ذكر ما كان من أَمْرِ هاتين الطائفتين في كتابه العزيز حين حكى عن تلك المعركة، فقال عزَّ من قائل:
{إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
فقد كاد ابن أُبيّ أن يُصدِّع البنيان المرصوص ويقوِّض أركانه، غير أن مشيئة الله تعالى قدْ فوَّتت عليه تحقيق نيّاته الخبيثة، فعاد الورع إلى نفوس جيش المسلمين، وعاد هذا الجيش يتابع مسيرته للقاء العدو الظالم.. ولكنَّ وضعه ظلَّ مترجرجاً، ولُحْمَتَه باتت مضعضعة، الأمر الذي جعله في حال تشبه، إلى حد بعيد، حال قريش عند مجيئها إلى معركة بَدْر حين تخلَّف عنها في الطريق بنو زهرة، وبنو عديّ..
وإذا كان رجوع المنافقين من بين صفوف المسلمين يمكن اعتباره خيراً على المسلمين، بل ومن الأفضل أن يحصل قبل ملاقاة العدو، حتى لا يكون الشرُّ أشدَّ، والخطبُ أفدحَ حين وقوع المعركة وحين ينفضُّ المنافقون من بين الصفوف فتكون المفاجأة على المقاتلين مهولةً، مما يؤثر على كيانهم المادي والمعنوي، ويجعل العدو يقوى في موقفه... نعم إذا كان في رجوع أولئك المنافقين خيرٌ للمسلمين، فإن ذلك الرجوع يظل بحد ذاته ظاهرة من ظواهر إضعاف جيش المسلمين، وبادرة من بوادر الهزيمة المدبرة، إذ أوشكت العَدْوى أن تسريَ في صفوف الجيش، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى أنقذ الموقف وأظهر المنافقين على حقيقتهم قبل فوات الأوان.
وتتعاقب ظلالُ ظواهر ما سبق وَقْعَة أُحُدٍ، فيبرز أكثرها أهمية وأشدُّها أثراً على مسار القتال ونتائجه، متجلياً في مخالفة أوامر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تلك المخالفة الفادحة التي ارتكبها الرماة ساعة تخلُّوا عن موقعهم، واندفعوا وراء الغنيمة، رغم أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، كان قد شدَّد عليهم ألاَّ يبارحوا أماكنهم حتى ولو رأوا العدو يقتل إخوانهم!..
ففي مثل هذا التصرف من الرماة ما يدل على التنكر للجندية التي خُرِّجوا فيها، وما يباعدهم عن روحية المعارك ومواجهة الأعداء!.. فإذا كانت إطاعة الأوامر قوام الجندية، وجوهرَ نظامها، فإن اختلال هذا النظام يؤدي إلى فقدان الجندية كل مقوماتها، وفي مقدمتها إخلاص الجندي وتضحيته في سبيل القضية التي من أجلها يدافع أو يقاتل.
من هنا كان من بديهيات الأمور، ومن أولى واجبات الجندي إطاعة أوامر قادته ورؤسائه.. وبالمقابل فإن مهمة القادة والرؤساء، تكون في الدرجة الأولى التخطيط الحكيم للقتال، وحسن إدارة المعركة، وما يتعلق بكل ذلك من اعتماد أفضل الوسائل وانتقاء أحسن الأساليب، الكفيلة بتحقيق النصر..
ولكن!.. أية فائدة تبقى للخطة مهما كانت جذرية، وأي نفع يظل للوسائل والأساليب مهما كانت سليمة، بل أنّى يكون للقادة والرؤساء من مركز أو سلطة، إذا انعدمت الطاعة بين الجنود، وتحلَّلوا من تنفيذ الأوامر؟! ففي مثل هذه الحالة الخطيرة، تكون النتيجة معروفة مقدماً، وهي الهزيمة لا محالة...
وما حدث بالضبط في معركة أحُد عندما خرج الرماة على خطة القائد الأعلى، الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، هو أنهم عصوا أوامر قائد كتيبتهم عبدالله بن جبير الذي كان يلحُّ عليهم بعدم ترك أماكنهم. وعصوا أمر رسولهم الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي ركز كثيراً على ثباتهم في أماكنهم، فأحدثوا بذلك ثغرة واسعة نفذ منها العدو إلى صفوفهم وبدَّلَ نصرهم الذي بدأوه في أول المعركة بالهزيمة التي انتهت بها، تلك الهزيمة كادت أن تقضيَ على المسلمين جميعاً وتلتهمهم على بكرة أبيهم، لولا عناية الله ولطفه..
ولقد كان في هذا الدرس القاسي، من دروس الجندية التي قدمتها أُحُد، ما جعل الناسَ يدركون أنَّ النصر لا يكون إلاَّ بأسباب.. كما وأن الهزيمة يجب أن تكون لها أسبابٌ أيضاً.. كما أنها قد ظهرت للناس عندئذٍ سُنةٌ من سنن الله في خلقه، وهي أنَّ الله سبحانه لا يكون مع الإنسان إلا إذا كان الإنسان مع الله، وأنَّ الله تعالى يتخلى عنه إن هو انشغل بنفسه عن الله، أو تلهى عنه بأمر عارض من أمور الحياة الدنيا..
فهاهُم أولاء المسلمون يرون بأم العين أن الله سبحانه وتعالى قد نصرهم على عدوهم في بدر حين جعلوا همهم الوحيد مقاتلة هذا العدو، ومحاربته، لأنه عدوٌّ ضالٌ جاهل.. وأنَّه تعالى قد قاصصهم عندما شغلهم عَرَضُ الدنيا وجمعُ الغنيمة في أُحُد.. فكان لا بدَّ أن يأتيهم الدرس مليئاً بالعظات والعبر، فكان البلاءُ العظيم الذي أوقعوا أنفسهم فيه...
ولكن كم هو عزَّ وجلَّ رؤوف رحيم بالعباد، وبالمؤمنين منهم خاصة، وإن زلّوا أو أخطأوا.. فمن الصحيح أن المسلمين قد وقعوا في بلاءِ يومِ أُحُد، ولكنه كان قِصاصاً أكثر منه ابتلاءً.. وفي القِصاص حياةٌ لأولي الألباب.. فإذا ما نالوا القصاص الذي استحقوه، وأدركوا الخطأ الذي ارتكبوه، كان عفوُ الله عنهم فضلاً من فضائله السنية التي لا تحدُّ، ولذا امتنَّ سبحانه عليهم بالعفو بعد الابتلاء وقال:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
ثم تتعاقب الظلال عديدة ومتنوعة.. ولكنَّ ما يثير العجب في تلك الظلال يوم أُحُد، هو ذلك الضعف الذي سيطر على نفوس فئة كبيرة من المؤمنين، ساعة ارتداد العدو عليهم. فقد وقع التشتت في صفوفهم، وحلَّ القعود عن القتال بينهم.. بل إن أكثرهم قد فرَّ من المعركة، مولياً وجهه شطر المدينة حتى بلغَ جوارها، فأربكه فراره وأوقعه في حياء مَنَع عليه دخولها.. أوَلم يكن مفروضاً بالمؤمنين بدل أن يسيطر عليهم الضعف، ويفرقهم التشتت، أن يعودوا، إلى توحيد صفوفهم، ويتماسكوا كتلة واحدة متراصّة في وجه عدوهم، فيفرضون تشتيت صفوفه بتماسكهم، ويُوقِعون البلاء في كيانه، وهم قادرون على ذلك لأن إعدادهم كان إعداداً صحيحاً منذ المراحل الأولى للمعركة، ذلك الإعداد الذي كان ينبغي أن يجعل قلوبهم ملأى بالإيمان، ونفوسهم مفعمة بالتقوى، وكيانهم قائماً على التماسك التام؟.. نعم لقد كان حرياً بهم، وهم على مثل هذا الإعداد منذ بدء الدعوة وقبل أية معركة، ألاَّ يَهِنُوا وألاَّ يضعفوا أمام العدو.. على أنه قد يتراءى مثل هذا الضعفُ أقلَّ مدعاة للعجَب من موقف آخر ظهر عند فئة كبيرة منهم، وهي أنها تخلَّت عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وتركته وحيداً، في أكثر اللحظات خطورة وأشدّها حرجاً... فأين محبة تلك الفئة لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأين إيمانها بصدقه وبالحق الذي يدعو إليه؟!.. بل أين التفاني والإخلاص اللذان دفعا المسلمين لحمايته وحماية أنفسهم يوم كانوا في أشدّ حالات ضعفهم في مكة، حيث كانوا يتخلّون عن كل شيء في سبيل إسلامهم، ويضحّون بكل غال ونفيسٍ من أجل نبيِّهم؟!..
فهل جفت لديهم تلك النفوسُ الخيّرة في ساعة الشدة، وجعلت قلوبهم تطاوعهم على الابتعاد عنه في ساعة خوفٍ على أنفسهم، وساعة تمسُّكٍ بحياتهم، مع أنهم يعلمون حق العلم أن أعداءه يريدونه قبل كل الناس، وقبل أي أحد آخر من المسلمين؟!.. إنه الضعف البشري قد فعل فيهم فعله في تلك الساعة، فكان أن بَدَر من تلك الفئة ما بدر من التخلي عن الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، في ساعة العُسرة..
لكنْ، وإن افتقد رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الرجال من حوله في لحظات الشدّة، فإنه سرعان ما عوَّضت عن ذلك هجمةُ أبطال أشاوس اندفعوا نحوه يذبّون عنه، ويدفعون الأعداء من حوله، ويَهِبون نفوسهم للموت دونه...
أجل، لقد جاءت هذه الفئة الخيّرة تفدي نبيَّها بالأجساد والمهج قبل أن تدافع عنه بالسلاح ولكنها كانت قليلة أمام كثرة الأعداء، فراحت تتساقط شهيداً تلو شهيد، غير آبهة للموت، حتى أمكنها أن تُبعد الأعداء عن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بفضل الله ورعايته له، لأن تلك الفئة البارّة الباسلة، ما كانت لتُغني عنه في الحقيقة شيئاً، لو لم تتدخل إرادة الله عزَّ وجلَّ وتمكنها من الذبِّ عنه والوقوف بجانبه، والله تعالى هو الحافظُ له على كل حال، وفي جميع الأحوال...
وإنَّ أبعد ما يمكن تصوُّره في مواقف الفئة الهاربة هو عدم اكتراثها لصوت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يلاحق أصحابها بالرجوع، معاوداً تكرار النداء إليهم بالعودة مراراً فلا يستجيبون بل يمعنون في الهروب متخلّين عن كل ما وراءهم وتاركين كل شيء لا يلوون على أحد.. فسبحان الله الذي كان يرقب هذه الفئة بالذات، ويحصي عليها حركاتها وسكناتها، فينزل فيها آياتٍ كريمةً تصوّر ما كانت عليه من حال، فيقول سبحانه وتعالى:
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} .
فللَّه ما أروعَ القرآن الكريم، وهو يرسم في هذه العبارة الموجزة، مشهداً كاملاً لأولئك الفارِّين، ويصوّر حركاتهم الحسية والنفسية في آنٍ معاً..
إن هذا التصوير السماوي الذي أبرز هروب تلك الفئة يوم أُحد، لم يكن إلاَّ تعبيراً عن ضعف تلك الفئة الذي يمثل الضعف البشريّ بصورة عامة.. ولعلَّ أكثر ما يركّز عليه ذلك التصوير، هو إبرازه الضعف البشري، أي الحالة المعنوية البحتة، التي هي واقعٌ حسيٌّ يكاد الإنسان أن يلمسه بحواسه المجردة.
وإذا كان ذلك الضعف الذي سيطر على نفوس تلك الفئة الفارّة من الزحف، قد جعلها لا تستجيب لنداء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يدعوها للعودة والثبات في المعركة، فإن القرآن الكريم بعد أن يبيّن قوة الضعف وتأثيره على الإنسان لا يقف عند حد تصوير الضعف وحسب، بل يتناول حقيقة أخرى هامة جداً، وهي أن الخطأ الذي يرتكبه الإنسان في حالةٍ من حالات ضعفه، لا غافِرَ له ولا مُسامِحَ إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وهكذا تأتي صورة العفو والمغفرة بأدق تعبيراتها، وأصدقها بياناً، في قول الله عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّواْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
تلك هي بعض الظلال من وقعة أُحد..
ولكنَّ هذه الظلال لم تكن هي الوحيدة التي حفلت بها أجواء ذلك اليوم، بل كان بجانبها ظلال أخرى مختلفة عنها أشد الاختلاف، لأنها ازدانت بالإشراق والنور، وطفحت بدُفعةٍ من الشجاعة والبطولة، وفاضت بدفقٍ من العزة والكرامة حتى جعلت نصرَ قريشٍ يخبو أمام لمعانها البرّاق، ووهجها الساطع..
فهذا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يَثْبتُ طوداً منيعاً، وإنساناً عظيماً مهيباً في موقفه من الأعداء في تلك الساعة الرهيبة التي رجفت منها القلوب، وتخبَّلت منها العقول، وعندما أخذت الكثرة في جيشه تتوزع أشتاتاً، وتتفرق هروباً من الذعر، بينما وقف يكافح ويقاتل بنفسه بتصميم وثبات، حتى إنَّ من كانوا يدافعون عنه قد صاروا يلوذون به ويحتمون في ظله من شدة الخوف، ويأوون إلى حمى بطولته النادرة...
إن قلب الإنسان قد يطير هلعاً وترتعد فرائصه جَزَعاً إنْ جابَهَهُ خطرٌ قاتل، بل قد يفقد الإنسان زمام السيطرة على نفسه في مثل هذا الموقف العصيب فتخور قواه، ويتخاذل عزمه، لما يحيط به من الأهوال.. نعم.. قد يحصل ذلك لأشد الرجال تماسكاً عند الشدائد، وأكثرهم جَلَداً عند الصعاب، غير أن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، قد ظلَّ الرجلَ القادر على امتلاك زمام نفسه، الواعيَ لكل حركة من عدوه، بحيث لا يمكنّه منه إلاَّ بما يُصيبه به من بعيد، فهو ثابت أبداً في مكانه يدفع عنه الحانقين، ويرد عنه المهاجمين، إلى أن بعث الله تعالى إليه بصحابة أبرار أخيار، يدفعون عنه ذلك الخطر الشديد...
فهل أروع وأعظم مما تجلّت به بطولة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وقوة رجولته في ذلك الموقف؟!...
لا.. وإنها إذا كانت الروعة والعظمة تنضحان بهذا الموقف المحمدي، فإن ما تلاهما بعد انتهاء المعركة وعودة المؤمنين إليه، من تصرّفٍ حيالهم، يجعله المثل الأعلى على الزمان في مجال التسامح والعفو، وفي مجالات اللطف والحنان والعطف... ذلك أنه، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يعنِّف أحداً من المؤمنين ولا وجَّه إلى أحدٍ لوماً أو تأنيباً. بل لم تبدر منه سانحة غضب أو نفور، ولم يُغلِظْ في قول أو يقسو في اتِّهام، ولم يجابه أحداً بأخطائِه في دوره أثناء المعركة، بل راح ــــ على العكس ــــ يستقبل الجميع بقلب ملؤه الحنان، وبنفس راضية تطفح بالاطمئنان: يواسي الجريح، ويهدّىء المتعب، ويشدُّ من عزم الضعيف، ويَعِدُ الثابتين بنصرٍ آتٍ.. فليس لخلُقٍ إلا خُلق محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، هذه العظَمة المنيفة!...
وليس لصفاتٍ إلاَّ صفات محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، هذه السجية الشريفة!.
فقد نظرَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الهزيمة من منظاره النبوي السامي، فأرادها عظةً بالغة للمؤمنين، يُفيدون منها في مواجهة الأعداء والتعامل مع الحياة، لا شدَّةً تقضي عليهم، وتذهب بقواهم النفسية والمعنوية.. صحيحْ أنه قد ذهب في تلك المعركة شهداء أبرار أخيار، ولكنهم كانوا الشعلة التي تضيء أمام الباقين الطريق، والمثال الذي يجب أن يحتذوا به.. والشهداء ــــ على كل حال ــــ «لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون»، فقد أثابهم الله تعالى رحمةً منه ومغفرة، لأنهم مضوا على العهد، وماتوا وهم لله ولرسوله مخلصون.
نعم لقد عفا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عمّن أخطأوا وتسببوا بالهزيمة فاستغفر الله سبحانه لهم، فأثنى الله عزَّ وجلَّ على موقفه الرائع، ونزلت آيات قرآنية كريمة بهذا الثناء الرَّباني:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} .
أما الصحابة الأبرار فيأتون بعد الرسول العظيم ليزينوا ظِلال أُحُدٍ بصدق الإيمان، وقوة العزيمة، لأن مواقفهم كانت كأنها صَنعت النصر الحقّ رَغمَ مظاهر الهزيمة التي أحاطت بالمسلمين...
فمواقفُ حمزة، وعلي، وأبي دجانة، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير، وعبدالله بن جحش، وأم سلمة الأنصارية... وغيرهم، وغيرهم... مواقف أمجاد تبقى على الزمان مآثر خالدة في التاريخ... فقد وهبوا نفوسهم للموت في سبيل الله، وكانت غايتهم القصوى نيل رضوان الله، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى..
لقد كانوا سيوفاً لله تعالى يوم أُحُد، ودروعاً للإيمان، وحصناً للإسلام فصفَّق لهم المجد عبر الأيام لأنهم لم ينشدوا مجداً ولا عظمةً، بل أرادوا وجه الله عزَّ وجل وأيقنوا أن لله وحده العزة والمجد والعظمة... وما دامت المعارك سِجالاً بحسب العادة طالما بقي العداءُ قائماً، فلا بد أن يتأرجح النصرُ في كل معركة بين هذا الفريق أو ذاك، ولكن النصر النهائي لا بد أن يكون دائماً للحق. وما كان الإسلام إلاَّ حقاً كله، فعلامَ لا يكون له النصر في النهاية، مهما قوي أعداؤه أو ظنوا أنهم منتصرون؟!..
ولئن كانت معركة أُحد بذاتها تجربة قاسية وامتحاناً عسيراً كما رآها المسلمون أو بعضهم، إلاَّ أنها كانت ضرورية يجب أن تحدث ليمحِّص الله سبحانه فيها السرائر، ويمزق النقاب عن مخبوء بعض الضمائر. وهذا ما حدث فعلاً، فقد تميز النفاق من الإيمان، بل تميّزت مراتب الإيمان نفسه، فعُرِف الذين ركلوا مباهج الدنيا بنعالهم ولم يعرّجوا على مطمع من مطامعها، تماماً كما عُرِف الذين مالوا إلى متع الدنيا بعض الميل، فنشأ عن أطماعهم المادية ما ينشأ عن الشرر المُستصْغَر من حرائق مروِّعة:
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنينَ} .
ولم تتجه إرادةُ الله عزَّ وجلَّ يوم أُحد، إلى تمحيص المؤمنين فحسب ولا إلى إبراز أخيارهم وأبرارهم للناس، ولا إلى إظهار الفارق بين المؤمن والمنافق والكافر ــــ وما أبعدها مسافات، وأشدها فوارق ــــ بل اتجهت أيضاً إلى تكريس حق الشهيد وما له من فضلٍ كبير عند ربه، ومن مقام عظيم في الدنيا والآخرة..
وإذا كان هذا شرف الشهادة وعُلوّ مقامها، فما أعظم ما تكون عليه مراتب الصفوة من عباد الله الذين يختارهُم هو سبحانه وتعالى للشهادة، وما أعلى منزلتهم وهو يُسبغ عليهم من نعمائه، ويُنعم عليهم من رضوانه، ويختارهم للمقام الأسمى والدرجة العليا، وفيهم يقول الله سبحانه وتعالى في مُحكَم قرآنه المجيد:
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .
.. وهكذا تظهر ظلال أُحُدَ، قاتمةً حيناً، ومشرقةً حيناً آخر..
فقد أظهرت للمسلمين أخطاء ارتكبوها، فرأوها بأم العين، ماثلة أمامهم وقائع حسية، ليتلافوها في مستقبل أيامهم ولا يقعوا بمثلها مرة أخرى...
وقد أظهرت للمؤمنين أيضاً ما يتعالى على مصائبها، وما يسمو على أحداثها، إذ شعروا بأن الله سبحانه وتعالى لم يتركهم في غمرة اليأس الذي يقتل النفوس، بل مسح على أحزانهم برفق، ومزج العتاب الرقيق بالدرس النافع...
وزيادة على ذلك، أبانَ لهم أن الهزيمة مهما كانت قوية لا يمكن أن تنال من شرف الغاية التي من أجلها يقاتلون، ولا من سموّ المبدأ الذي عنه يدافعون، بل يظل مبدأهم هذا هو أسمى المبادىء كلها، وتبقى غايتهم هذه هي أشرف الغايات بأسرها، وما النصر والهزيمة إلاَّ عارضان يتداولان الناس لأنهما سنَّة من سنن الله في الخليقة:
فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويوماً نُساءُ ويوماً نُسرُّ
وإذا كان أكثر التركيز بعد المعركة انصبّ على فضائل الشهادة وسموها، فمن الطبيعي أن يحزن الناس لفقد أحبتهم، بينما يكون قتلهم سبباً لشماتة الأعداء فيهم.
ولكن مهما بلغت جهالة المشركين، ومهما تخابثتْ نفوس المنافقين، فالشهادة تظل أرفعَ وأجلَّ عطاءٍ يمكن أن يقدمه الإنسان، سواء في سبيل الله، أو في سبيل الذود عن حياض الوطن ومدافعةِ أعدائه...
ولذلك فإن الشهداء لا يموتون، كما يتوهم أولئك الذين يجهلون معنى الموت الحقيقي، وأولئك الذين لا يدركون من الحياة إلاَّ مظاهرها الحيوانية البحتة...
فالشهداءُ هم «أحياءٌ عِندَ ربِّهم يُرزقون»، ويتمنون ــــ لمبلغ ما وجدوا من طيب الحياة هناك ــــ أن تكون لهم دعوة ثانية ليجاهدوا في سبيل الله فيُقتلوا مرة أخرى...
وهذا ما عبَّرَ عنه الرسول الأعظم، يوم قال في شهداء أحد، معزِّياً ذويهم:
«لمَّا أصيب إخوانكم يوم أُحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أنهارَ الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلّقة في ظل العرش.. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحُسنَ مَقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا ينكلوا عند الحرب، ولا يزهدوا، أو يوهنوا في الجهاد. فعلم الله عزَّ وجلَّ أمانيَّ الشهداء، فخاطبهم مُطمئناً: أنا أبلِّغهم عنكم».
وكان التبليغ ما أنزل الله سبحانه وتعالى من آيات بينات:
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
* * *



المصادر
1 سورة آل عمران، الآية 144، م.
1 النمارق: الطنافس أو الوسائد.
2 الوامق: المحب المدلّه.
1 الكيّول: مؤخرة الصف.
1 سورة آل عمران، الآية: 144.
1 سورة الأحزاب، الآية: 23.
1 السَّعْدانِ هما: سعد بن عبادة وسعد بن أبي وقّاص.
1 سورة آل عمران، الآية: 122.
1 سورة آل عمران، الآية: 152.
1 سورة آل عمران، الآية: 153.
1 سورة آل عمران، الآية: 155.
1 سورة آل عمران، الآية: 159.
1 سورة آل عمران، الآية: 166.
1 سورة آل عمران، الآيتان: 140، 141.
1 سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢