نبذة عن حياة الكاتب
علم النفس: معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة - الجزء الأول

البحث الثالث: الذاكرَة
التـذكـر:
التذكّر هو العمل الذي تقوم به الذاكرة، وهي عبارة عن هيئة للنفس بها يمكن الإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة. والتذكّر كالحفظ، إلا أنَّ الحفظ، يُقال اعتباراً بإحرازِهِ، والتذكّر يُقال اعتباراً باستحضارِهِ.
وإنّه لمِنَ الصعب أنْ يعيش الإنسان حالةً نفسية حاضرة منقطعة تمام الانقطاع عن الماضي. بل لا بد من وجود شيء في نفسه من الماضي يبقى في الحاضر الذي يعيشه. ولو اقتصرنا في حياتنا النفسية على الحاضر الذي نعيش بصورة مطلقة لكان التفكير غير ممكن، لأنَّ هنالك ملكة في نفوسنا تصل دائماً الحاضر بالماضي، وهذه الملكة تعرف بالذاكرة، والفعل الذي يصدر عنها هو التذكر. فيكون التذكر عبارة عن حالة تتصف بالاتصال والاستمرار والتركيب...
وفي تحليل الذاكرة يقولون إنَّ لدى الإنسان «ذاكرة أولية»، هي التي تُبقي الأحوالَ الجديدة حاضرةً في النفس مدةً من الزمان. أما الذاكرة - الحقيقية أو الذاكرة - بالمعنى الاصطلاحي - فهي الطاقة التي تمكّن من إحياء حالة شعورية مضت وانقضت،إلاَّ أنَّها شكَّلت جزءاً من حياتنا الماضية هو ما يمكن أنْ تشعرَ به مجدداً، تحت تأثير عوامل أو دوافع معينة، هي التي تثير تلك الحالة الشعورية، وتستحضرها من عالم الإهمال والنسيان، كأنْ يتزوج ولدك، فيستحضر في نفسك هذا الزواج صورتَهُ عندما كان طفلاً يحبو، وما جعلَ الله له بعد ذلك الضعف من قوةِ الشباب التي مكنَّته من الزواج.
والذاكرة الأولية قد تحفظ الشعور في النفس مدة من الزمن، ولكنها لا تسترجعه، ولا تستحضره بعد زوال الحالة التي أوجدت ذلك الشعور. وكذلك فإنَّ تكرار شيء معين لا يمكن أنْ يشكل تذكّراً، كأن أكرر اليوم قولاً تفوهت به بالأمس من غير أن يكون تكراري له تذكراً. من هنا فإنَّ التذكر يقتضي شعوراً بالماضي وعلماً بأحوال الشعور المنشقة منه، فلا يكون التذكر إذًا إلا حيث يكون الشعور بالماضي.
وأهمية الذاكرة تكمن بما لها من تأثير عميق في الحياة النفسية، حتى لقد قيل: النفس هي التذكّر. وبما أنَّ الإدراك يتأتّى عن النفس، فإنه لا يحصل إلاَّ بوجود معلوماتٍ أو تصوراتٍ سابقةٍ لدى الإنسان، ثم يجري تطبيق تلك المعلومات أو التصورات على الواقع الحالي، لكي يمكن من ثَمَّ، الحكم على هذا الواقع. والذاكرة هي التي تحفظ المعلومات السابقة في النفس، فلولاها لما تمَّ الإدراك، ولا أمكن اكتسابُ العادات، بل ولا أمكن التخيّل، والحكم والاستدلال. وكلما كانت الذاكرة غنيّةً بالمعلومات، كلما كان عقل الإنسان أقوى، وتفكيره أعمق. والذين يزاولون أعمالاً عقلية يحتاجون إلى الذاكرة أكثر من الذين يمارسون أعمالاً يدوية، لأنَّ الذاكرة تحفظ المعلومات والمعارف والعلوم، وتسهل لذوي التفكير عملية الفهم وإنتاج أفكار جديدة. والرجال العظام يمتازون - في غالبهم - بقوة الذاكرة لديهم، فضلاً عن سعة الاطلاع والمعرفة. ومثاله علماء المسلمين القدامى، الذين كانوا يحفظون عن ظهر قلب القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، بإلاضافة إلى كثير من دواوين الشعر العربي.
وللذاكرة تأثيرها الهام أيضاً في حياتنا الانفعالية، وما يصدر من مشاعر؛ فلولا الذاكرة لغابَ عنا كثير من العواطف في الفرح والحزن، في الراحة والشدة، في الإقدام والإحجام، في النصر والهزيمة.. فالذاكرة تحيي العواطف، وتوقظ الميول، وتحرك الانفعالات.. أي إنها هي التي تحرّك في نفوسنا عوامل الانفعال والفعل بحيث تتيح لتجاربنا الماضية أنْ توجّه - في كثير من الأحيان - أفعالنا الحاضرة أو المستقبلية. وهذا بالإضافة إلى أن الإرادة نفسها كثيراً ما تحتاج إلى التذكر للقيام بعمل ما، أو عدم القيام به..
ويقول الباحثون إنَّ للذاكرة أنواعاً كثيرة تختلف باختلاف الميول الفطرية والكسبية. مثال ذلك أنْ يكون أحدهم قادراً على حفظ الأعداد وعاجزاً عن حفظ مفردات اللغة، أو ضعيفاً في تلقي الأنغام الموسيقية وقوياً في حفظ أسماء البلدان وعواصمها. وهذا يعني أنّ الذاكرة يمكن أنْ تكون قوية في نواح معينة، دون غيرها مثل (حفظ الأعداد أو الألفاظ أو الأنغام أو الأسماء). والذاكرة القوية في مادة معينة أو نوع معين من المعلومات هي التي تُكسب القوة في مهنة دون أخرى، أو في ممارسة هذا العمل دون غيره، فيكون كل من رجل الرياضيات أو الأديب أو الموسيقي أو الجغرافي بحاجة إلى ذاكرة خاصة أو نوع معين من الذاكرة.
وأهم أنواع الذاكرة كما هي معروفة في «علم النفس» الذاكرة الحسية، والذاكرة الانفعالية، والذاكرة العقلية.
- أمَّا الذاكرة الحسية، التي يقال لها ذاكرة الصور، فتختلف باختلاف الصور التي تستحضرها، فإذا كانت تلك الصور من حاسة البصر سميت بالذاكرة البصرية، وإذا كانت من حاسة السمع سميت بالذاكرة السمعية. وهكذا الحال بالنسبة إلى الحواس الأخرى الرئيسية حيث توجد ذاكرة ذوقية، وذاكرة لمسية، وذاكرة شمّية. وكل ذلك لأنًّ الحواس الرئيسية الخمس هي مصدر الأحاسيس، فبواسطتها تنتقل الأشياء الحسية إلى الدماغ ومن ثم إلى النفس حيث تُستودعُ في خزانات لها تحفظها بصورها الحقيقية التي التقطت فيها من العالم الخارجي. وتظل قابعة في الذاكرة الحسية (الخزانات) إلى حين استرجاعها بفعل التذكر.
- والذاكرة الانفعالية هي التي تشعر الإنسان عند تذكره حادثاً سابقاً بانفعال جديد، قد يكون مختلفاً عن الانفعال الذي رافق الحادث وقت وقوعه، أو متوافقاً معه أو مطابقاً له. وذلك بأن يعاود الألمُ نفسَ الإنسان عندما تخطر بباله ذكرى عزيز قضى. أو أنْ يشعر الإنسان بالرضى وهو يتذكر موقفاً جريئاً كان له إقدام فيه وثبات، حتى ولو كان قد لاقى في ذاك الموقف الصعوبات أو رافقته المخاوف.
والذاكرة الانفعالية لا تكون واحدة أو متماثلة عند كل الناس، بل قد تكون واضحة وقوية عند البعض، ومبهمة وضعيفة عند البعض الآخر، فالمريض الذي أجريت له عملية جراحية قد يتذكر آلامه الجسدية بالدرجة نفسها التي كان يشعر بها وقت إجراء العملية. والموظف الذي عانى بعض المعوقات دون ترقيته قد لا تحضره مشاعر القلق والتعب والغم التي رافقته بعد أن استراح من أعباء وظيفته؛ أي إنَّ الإنسانَ، الذي عانى، بوجهٍ عامٍ، من المتاعب في الماضي، قد لا تحضره مشاعر القلق والغم التي رافقته إبَّان تلك المتاعب..
- والذاكرة العقلية هي ذاكرة الأفكار والأحكام والبراهين، فإذا تذكرتُ حديثاً بجميع ألفاظه كانت ذاكرتي حسية، وإذا لم أتذكر من الحديث إلا معانيه كانت ذاكرتي عقلية. وللذاكرة العقلية أثر عميق في اكتساب العلوم والمعارف. وتكون نامية جداً عند العلماء والمثقفين ثقافة عالية، لأنهم يفكرون أكثر مما يتخيلون. ومن الناس من يستعين بالفهم على حفظ المعاني، ولذلك قيل: إن فهم المعاني خير وسيلة للحفظ.
هذا ما يذهب إليه علم النفس في تقسيمه للذاكرة، كما بالنسبة لأية ملكة حيوية في الإنسان.
وفي الحقيقة لا يمكن تقسيم الذاكرة إلى عدة أنواع، لأنَّ لدى الإنسان ملكة عضوية واحدة تكون موطناً لحفظ الأحاسيس والمشاعر والأفكار على اختلافها. فهي عبارة عن مخزن لانفعالاتنا الماضية، ولأفكارنا وتصوراتنا السابقة، ما يجعل تقسيم الذاكرة، إلى ذاكراتٍ من حسيةٍ وانفعاليةٍ وعقليةٍ، غير متفق مع تكوين الإنسان، ومع ما هو عليه في أعماق نفسه؛ ففي المثال السابق على الألفاظ والمعاني نجد أنًّ مَنْ كان ملماً باللغة ومهتماً بالمعنى ويتمتع بذاكرة قوية، فهو يتذكر المبنى والمعنى معاً. ولكنه إذا كان مهتماً بالمعنى فقط أي من دون المبنى فإنه يتذكر المعنى. ولذا فالإنسان هو الذي يوجه اهتمامه إلى شيء دون آخر، فيحفظ ما كان مدار اهتمامه وانشغال باله، وينسى، أو لا يتذكر، إلاَّ قليلاً، الأشياء التي لم يستوقفه، ولم تؤثر في نفسه لأنه لم يكن مهتماً به.
إذاً الاهتمام هو المصدر الرئيسي للتذكر، وكلما زاد اهتمام الإنسان بشيءٍ أمكن استرجاع صورة هذا الشيء أو الشعور به، وأمكن تثبيته وحفظه؛ فإذا قمتَ بزيارة إلى قلعة أثرية قديمة ولم تعاود تلك الزيارة مرة أخرى، فليس معناه غياب صورتها عن ذهنك بتاتاً، لا بل على العكس إنَّ مجرد الحديث عنها، يمكن أنْ يستثير شعورك بأهميتها وجمالها، فتندفع صورها إلى ذهنك، وتتراءى لك كما لو أنك زرتها قبل يومين؛ والذي جعل هذه الصور تتدافع في ذاكرتك، هو تأثرك بما رأيت في القلعة سابقاً، ما يجعل كل ذكرى مبنية على اطلاع سابق. ويمكن ترسيخ هذه الذكرى وإثباتها عن طريق الاهتمام والتكرار. إلا أنّ هذا التكرار ليس ضرورياً دائماً، فكثيراً ما تثبت الذكريات لمجرد وقوع الحادث، ولو لمرة واحدة، شرط أنْ يكون تأثيره قوياً في النفس. فأنت لم تذهب لمشاهدة القلعة إلا مرة واحدة ومع ذلك بقيت صورتها عالقة في ذهنك، ثابتة في ذاكرتك، بسبب إعجابك بمعالمها، واهتمامك بالاطلاع على تلك المعالم.
وتثبيت الذكريات يرجع إلى عاملين اثنين: جسدي ونفسي.
أمَّا العامل الجسدي فمرده إلى سهولة تأثر الأعصاب بالشيء، وشدة تفاعلها مع الآثار التي يخلّفها فيها. وهذا العامل يختلف بين شخص وآخر. وأحسن الأشخاص ذاكرة من كانت أعصابه سريعة التأثر، شديدة التفاعل بتأثرات الحواس. ولا يحتاج هذا العامل إلى التكرار لتثبيت الصورة أو الشعور.
وأمَّا العامل النفسي فيأتي نتيجة لقوة الانتباه وشدة الاهتمام. إذ كلما كان الانتباه أقوى، والاهتمام أشد، كانت الذكريات أكثر ثباتاً. إذًا يمكن القول إِنَّ العوامل النفسية التي تؤدي إلى تثبيت الذكريات عديدة ومتنوعة، ولكنْ أبرزها العوامل التالية:
- التأثير : بمعنى أنَّ أكثر ما يثبت في الذاكرة من أشياء هي التي يكون تأثر النفس بها أشد، مثل الحريق والحرب والمرض، وهي من المؤثرات الضارّة أو المحزنة.. أو مثل الانتصار والنجاح والشفاء، وهي من المؤثرات النافعة أو المفرحة، وغالباً ما يرافقها تأثير إيجابي على نشاط الإنسان..
- الميول الغريزية والكسبية : فالميل إلى بعض الأشياء يقوي الانتباه إليها. مثل أنَّ الميل إلى الفن يشد الانتباه إلى اللوحة المعلقة على الحائط، والميل إلى الموسيقى يشد الانتباه إلى الأنغام، والميل إلى مادة علمية معينة يجعل حفظها أسهل. بمعنى أنَّه كلما كان الميلُ أشدَّ، كان ذلك أدعى إلى إثبات صورة الشيء، أو معناه في الذاكرة.
- الاستعمال والتكرار : والذكريات تثبت كذلك من جراء الاستعمال والتمرين والتكرار، مثلما أنها تضعف بسبب عدم الاستعمال، الذي قد يؤدي إلى طي الذكريات في عالم النسيان؛ وعندما تكون مشاغل الإنسان كثيرة، وهمومه متنوعة، وأعباؤه جسيمة، فلا بُدَّ أن تنشغل نفس الإنسان بها، وتجعله يصرف جلَّ اهتماهه عن ظروف حادثة معينة، ودقائق تفاصيلها. إذ تكون أفكاره مشتتة، ونفسه موزعة فيذهل عن ظروف وتفاصيل تلك الحادثة.
وبناء عليه يمكن القول بأنَّ التذكُّرَ يقوم على استرجاع صور من الماضي. وغالباً ما يخالطه الشعور والتفكير بالحياة الماضية حتى تتكون الذكرى. فعندما نستحضر صورة من حياتنا الماضية، فهذه الصورة لا تكون حِسِّيَّةً ولا مبتكرةً من الخيال، وإنما هي عبارة عن حادث انقضى في ماضينا البعيد، وهذا ما نسميه تذكُّراً، فلا يدخُلُ فيه ما يكون غريباً عنَّا، أو لا علاقة له بحياتنا، مثل أنْ نصادفَ شخصاً لأول مرة، فلا يتكون لدينا تجاهه أدنى شعور مرتبط بالماضي. ولكنْ قد نسمع نغماً موسيقياً فنشعر بشيءٍ من الحنين إليه، وقد يوقظ في أنفسنا بعض التصورات والانفعالات والمناسبة التي عُزفَ فيها، والشخص الذي كنت معه في تلك المناسبة، وما دار يومها بينكما من حديث.. من أجل ذلك جرى التفريق بين الذكرى والخيال، فقالوا: إن الذكرى أقل خضوعاً للإرادة من الخيال، لأنها تنبعث عن مشاعر وأحاسيس موجودة في النفس، بينما الخيال غير مقيد بماضٍ ولا بحاضر، ويمكن أن يأتي إلى النفس من غير ما ارتباط بمشاعر أو أحاسيس قابعةٍ في النفس.
وكما لاحظنا من قبلُ بأنَّ قوة الانتباه ليست واحدة عند كل الأشخاص، فكذلك يختلف التذكّرُ من حيث القوة والضعف باختلاف التركيب العضوي والنفسي عند الناس. قال ابن سينا: «أسرع الناس تذكراً أفطنهم للإشارات». ولذلك نجد في الناس من هو قوي الفهم، ولكنه ضعيف التذكر؛ فالذين ينهلون العلم، ويقبلون على الاكتساب بسهولة، ويكونون في الوقت نفسه، أكثر حفظاً وأسرع استحضاراً من غيرهم - وعلى الرغم من صعوبة توفر هذه المزايا لإنسان واحد - هؤلاء يعتبرون أقوى الناس تذكّراً.. وكما نجد في الناس من يتمتعون بقوة الذاكرة، فهنالك آخرون من تخوفهم الذكريات في أغلب الأحيان، وقد يصل هذا الضعف عندهم إلى حدّ فقدان الذاكرة تماماً؛ وقد ينشأ ذلك عن عجزٍ نفسي، في الأصل، للتذكر؛ أو نتيجة لحادث مادي مثل الإصابة بحادث سيارة، أو من جراء أزمةٍ نفسيةٍ جاءت من الضغوط المادية والنفسية التي مورست على الإنسان.. فمثل هذه الأسباب هي التي تؤدي إلى فقدان الذاكرة..
نصائح لتقوية الذاكرة:
إن الذاكرة «ضرورية بصفة أساسية لعمليات الإدراك والتعلم والكلام والتعليل ومعظم الأنشطة الأخرى».
وينصح «علماء النفس» باتباع وسائل معينة لتقوية الذاكرة، وبتوجيهات تربوية يتوجب على المربين أن يأخذوها على عاتقهم من أجل مصلحة التلامذة.
فأول ما ينبغي على المربي القيام به عدم إرهاق ذاكرة الطفل أو الولد بما لا يستطيع استيعابه من الألفاظ غير المفهومة، كالتواريخ والأرقام التي لا طائل منها، وأن يتجنب المعاني المجردة التي تخرج عن طوق الصغار. من هنا وجب تركيز انتباه الولد على المدلولات المحسوسة، وإعطاؤه الدروس مصحوبة بالوسائل التعليمية التي يراها بأم العين، ويسمعها بالأذن، ويلمسها باليدين. وقد ثبت أنَّ التدريس في الهواء الطلق، وفي أحضان الطبيعة خير مساعد على ترسيخ الأفكار والتصورات في الأذهان، لأن من شأن ذلك أنْ يبعد عن الأولاد الضجر في تلقي الشروحات المجردة، وكذلك اقتران الدرس بالتجربة العملية يشد انتباههم، ويريح أنفسهم، ويعينهم على الاستيعاب السريع، وعلى تقوية الذاكرة.
ومما يقوي الذاكرة أيضاً تمرين التلامذة على الحفظ والتكرار، مثل حفظ الآيات القرآنية، وروائع الشعر والنثر، أو تكرار التجارب في المختبرات، أو فهم القوانين العملية الأولية بالبيانات والرسوم، وما إلى ذلك من الأساليب التي باتت معروفة في الأوساط التربوية. على أنَّ كل تمارين تقوية الذاكرة يجب أن تتم بأسلوب مرن وسهل يحبِّب إلى التلميذ المادة الدراسية التي بين يديه، فيقبل عليها باندفاع ورغبة، فلا تقوى بذلك ذاكرته وحسب، بل وتتحقق به أهداف التعليم والتدريس..أما من ناحية التلميذ، وإذا ما أعطي مثلاً مقطوعة لحفظها عن غيب، فأفضل له أن يقسّم المقطوعة التي يقوم بحفظها إلى عدة أقسام تتفق مع المعاني، وأن يحفظ كل قسم بمفرده، وأن يجعلَ، بين كل تكرارٍ وآخر، فسحةً من الوقت تتيح ترسيخ الحفظ في ذهنه..
ومن الوسائل الحديثة في التربية، اعتماد طريقة التعليم السمعية - البصرية في الصفوف الابتدائية بواسطة الأجهزة الإلكترونية الحديثة، بحيث يسمع التلميذ الدرس، وينظر إلى الحركات الناتجة من معانيه. كأن يرى مثلاً الجواد وهو يرعى العشب، ويشاهد صاحبه وهو يقوده إلى الماء ليشرب، ما يجعل الحواس جميعاً تشارك في الفهم والاكتساب، ويعين على التعلّم والحفظ.
وإنَّ الانتباه إلى الصحة البدنية والنفسية للولد، والاهتمام بوسائل وسبل معيشته، قد يؤمن له بعض العوامل التي تقوي ذاكرته، وعلى العكس من ذلك فإنَّ الإفراط في العمل يجهد النفس، والتخمة في الأكل والشرب تؤدي إلى الإرهاق، فلا يعود بالإمكان الاستيعاب بسهولة. ولذلك كانت العناية بالصحة العامة، وبصحة الأعصاب، عاملاً مؤثراً في تقوية الذاكرة.
وبصورة إجمالية إن صحة الذاكرة تفرض الاعتدال في المذاكرة، والانتظام في التلقي والتعلّم، وإلاَّ قد يأتي التأثير سلبياً، من مثل أنَّ التلامذة أو الطلاب الذين يرهقون أذهانهم بالسهر والحفظ قبيل الامتحان غالباً ما ينسون ما حفظوه، وقد يصلون إلى ساعة الامتحان فيخونهم التذكر لأن الإرهاق يوقعهم في النسيان السريع.
أهمية الذاكرة
وأهمية الذاكرة بالنسبة إلى الإنسان عامة، وإلى الإنسان المسلم خاصة، أنها أولاً، وقبل كل شيء، ملكة من خلق الله تعالى، من الفطرة البشرية التي يجب الاعتناء بها والمحافظة عليها لأنها من صنع الباري عزّ وجلّ. وهي ثانياً ذات تأثير هام في حياة الإنسان العملية والعلمية، لأنها تساعد على حفظ المعارف التي قد تؤدي إلى اكتشاف حقائق جديدة، ولذلك تعتبر من المضامين الهامة في إنشاء المدنية والحضارة.
ونظراً لأهمية الذكرى، أو عمليّة التذكّر، فإنَّ القرآن الكريم يعوّل كثيراً عليها، لما فيها من تربية ذهنية وخلقية ودينية. ولعلَّ أهم ما في هذه التربية أنها توجّه الإنسان إلى ذكر الله تعالى بصورة حثيثة ودائمة، فيكون للذكر العظيم تأثيره الشديد في ترسيخ الإيمان في النفس، وتقوية صلة العبد بربه، والمداومة على حمده وشكره للنعم التي يتفضَّل بها على عباده ومخلوقاته.
ويرتبط ذكر الله تعالى وشكره بإشباع غريزة التدين إشباعاً يطمئن النفس، وينير الأفكار، ويهذب المشاعر، ويصحح الأعمال. فالإنسان عندما يتذكر الله، ربَّهُ وخالقَهُ والقاعدة معروفة {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [البَقَرَة: 269]، أي ذوو العقول الراجحة، والذاكرات القوية - فإن هذا التذكر يُعدُّ عمليةً نفسيةً إرادية فيها يقين، وثقة، وأمان، واستسلام. وهي أمور تعين النفوس وقلوبها، والأبدان وأعضاءها، على الاستقامة في الفكر والنهج، وعلى الحماية من الضياع والهلاك. والإيمان الصادق بحقيقة وجود الله تعالى أول دافع إلى هذه العملية النفسية الإرادية الواعية، أما عندما يتخبط الإنسانُ في دياجير الظلمات الفكرية، ويخضع للانحرافات المرهقة، ويذوي تحت وطأة الأمراض القوية، فليتذكر، وليوقن أنَّ ذلك كله لم يكن ليصيبه إلاَّ من جراء ابتعاده وإنكاره لحقيقة وجود الله تعالى... وها هم علماء النفس في الغرب، كثير منهم بات يقر ما للإيمان من دور هام في حياة الإنسان النفسية، وما تبعثه المشاعر الدينية من راحة للنفس والبدن، وما تحققه العبادات من تقويم للسلوك الفردي، وتوثيق للعلاقات المجتمعية. بل وهذه الفئة من العلماء تعتبر أنَّ العودة إلى الدين، والقيام بالشعائر الدينية، ولاسيما في أماكن العبادة، من أهم الأمور التي تساعد على إبعاد القلق والحيرة والتردد، وتؤمّن بدرجة كبيرة، مناعةً نفسيةً وجسدية للإنسان المؤمن.
وعلماء الصحة النفسية المسلمون جادون بدورهم في توضيح ما للدين الإسلامي من تأثير في الصحة النفسية. وهم يدعون إلى الالتزام بمنهج هذا الدين في جميع مجالات الحياة من أجل سعادة الإنسان. ومن يقرأ الأبحاث التي قدمت إلى المؤتمر الدولي للصحة النفسية الذي عقدته الجمعية الإسلامية الدولية للصحة النفسية، في لاهور بالباكستان عام 1985م، يلمس أنَّ علماء النفس والطب النفسي المسلمين، غدوا يدعون إلى ما يدعو إليه الدعاة والوعاظ من التزام بمنهج الله تعالى في العبادات والمعاملات، وذلك بعد أنْ أدركوا ما لذكر الله تعالى من تأثير في تنمية الصحة النفسية وفي علاج انحرافات النفس، وفي وقاية الفرد والمجتمع من الأضرار والفساد. وهم يعطون أمثلة كثيرة على ذلك، ومنها اعتمادهم مفاهيم الدين الإسلامي، وسيلة غذاءٍ نفسيٍ لمعالجة مدمني المخدرات، وقد ثبت لديهم أنَّ هذه الوسيلة أقوى تأثيراً من أية معالجات أخرى في إبعاد كثير من المدمنين عن هذه الرذيلة... أما هؤلاء فقد أمكنهم، بعد الشفاء، أنْ يبدّلوا نمط حياتهم وسلوكهم، ويرجعوا إلى الحياة الطبيعية مثل سائر الناس الأصحاء.
وكما يؤكد القرآن الكريم على ذكر الله تعالى في العبادات والمعاملات، فإنه يعظ الإنسان أيضاً لأنْ يتذكر ما جرى للأمم الغابرة، وما حلَّ بها من الفناء والهلاك بسبب عدم استجابتها لدواعي الإيمان، وعدم تخليها عن معتقدات الشرك والوثنية. يقول الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ *إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ *} [ق: 36-37].
وقد أشرنا سابقاً إلى بعض معاني هذا النص القرآني الكريم، وما حَمَلَ من تذكيرٍ، وتحذيرٍ لكفار قريش، وغيرهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تصدّوا للنبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وادّعوا القوة للقضاء عليه وعلى أتباعه؛ وما لفت انتباهم إليه من أنَّ الله سبحانَه وتعالى قد أهلك قبلهم كثيراً من أممٍ وأقوامٍ كانوا أشدَّ منهم قوة وبأساً، وأبادَهم إبادةً جماعية بسبب إصرارهم على الكفر؛ أمّا ما يريدُ القرآنُ أنْ ينبِّهَ إليه بقوة، فهو أنَّ أولئك الكفار كانوا يحملون وعيدَ الأنبياء والمرسلين لهم بعذاب الله تعالى على محمل الجدّ، فكانوا يجهدون في التفكير، وفي البحث عن المكان الآمن في البلاد كلها، الذي يمكن أن يلجأوا إليه ليفلتوا من الهلاك، إلاَّ أن كلَّ تفكيرهم وبـحثهم كـان يـقودهم إلـى نتيجة حاسمةٍ واحدة، وهي أنه لا محيد ولا مهرب من هذا الموت الذي يتهددهم إذا ما صحّ الوعيدُ، وعلى الرغم من ذلك كانوا لا يرعوون عن الغيّ والضلال حتى ينزل بهم أمر العزيز الجبار بالإِهلاك الشامل.
والقرآن عندما يخبر عن ذلك إنما يريد به تذكرةً وعبرةً لكل من له قلب يخشع، وعقل يدرك، وهي عبرةٌ تُحفَرُ في الذاكرة فلا تُمحى لعظم وقعها في النفس، لأنه ما من إنسانٍ إلاَّ وله قلب وعقل، يحسُّ بهما هول ذلك الهلاك الذي يقضي على جماعات بأسرها.. أما من لم يأبهْ قلبه للعبرة،ولم يتعظ بها سمعُهُ، فكأنما قد أمات كل شعورٍ في نفسه، حتى صار كمن لا قلبَ له في جوفه، ولا عقل له في رأسه ولاسمع في أذنيه.. وهذا - والله - منتهى ما قد يسفُّ بالإنسان حتى يجعله لا يتأثر بالتذكرة، لأنَّ النفس البشرية شديدة الحساسية لمجرد موت فرد، أو بضعة أفراد، فكيف بها حيال حادثٍ إلهيٍّ يدمّر ويفني جماعات أو أمم بأسرها دفعة واحدة؟! إنَّ مثل هذا الحادث من شأنه أنْ يكون عظةً بالغةً لكل من له عقل، أو ألقى السمع للذكرى وهو حاضر القلب.. ومن الجدير بالناس اليوم أن يفطنوا إلى هذا النص القرآني، فلا يتوهمّوا أنَّ غضب الطبيعة هو الذي جاء بـ«تسوماني»، أو بالأعاصير التي اجتاحت، من بعده، بعض مناطق الولايات المتحدة الأميركية، بل إنَّها مشيئة الله - القادر المقتدر - هي التي تأمر قوة الطبيعة فتتحرك، وهي التي تأمرها بالسكون فتسكن؛ فهلاَّ تذكر الناس واعتبروا حتى لا يحلَّ بهم ما حلَّ بتلك الأمم والأقوام الغابرة؟!.
ويمكن أنْ نستدلَّ على أهمية التذكرة أو العظة المؤثرة بوحي الله - تعالى - إلى موسى وأخيه هارون (عليها السلام) أن يذهبا إلى فرعون، وذلك بالأمر الجلل: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *} [طه: 43]، ولكنْ ليس لمجابهته بالتهديد والوعيد، بل مواجهته بالقول الليّن: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *} [طه: 44].. فقد كان فرعون مصر {عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدّخان: 31]، إذ عتا في الأرض عتوّاً كبيراً، وطغا طغياناً مقيتاً، حتى أنه ادّعى الربوبية، ومع ذلك كان أمر الله العلي العظيم للنبيين الكريمين أنْ يخاطباه بقولٍ لين، لا يثير فيه العزة بالإثم، ولا يهيج في نفسه الكبر بالطغيان، - فلعلَّ في نصحه وإرشاده ما يحيي في قلبه بذرة الإيمان، فيتذكر أنه بشريٌّ مثل سائر البشر، وأنه ضعيف في خلقه مثل كل إنسان، مهما ملك من أسباب القوة، فلعلَّه، من جراء ما يقولان له، يتعظ ويخشى عاقبة الاستكبار، والإسراف في الظلم، ويعود إليه وعيه الإنساني فيؤمن بربّ موسى وهارون، ربِّ السماوات والأرض، لا إله إلاَّ هو، يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير..
وفي سابق علم الله - سبحانه وتعالى - ما سيكون عليه حال فرعون من رفض الدعوة إلى الإيمان والهدى، ولكنَّ الرسل حجةٌ على الناس، لأنَّ لكلٍّ حسابَهُ في الآخرة على مدى الاستجابة لداعي الإيمان أو رفضه، وبالتالي ما يكون عمله في هذا السبيل، فإمّا شاكراً وإمَّا كفوراً.. ولذلك نجد التركيز - وبإلحاح في آيات كثيرة - على أنْ يتذكر الإنسان دائماً أنَّ ميزان العدل الإِلهي سوف ينتصب يوم الحساب ليقوِّم أعمالَهُ في الحياة الدنيا، وينالَ، مِن ثمَّ، الجزاءَ الذي يستحقّ.. وهذا التذكير الدائم في القرآن المبين فيه الرحمة الواسعة والفضل العظيم من الله تعالى، مُنَزِّلِ القرآن فاستمع أيها الإنسانُ إلى ما يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى *يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى *} [النَّازعَات: 34-35]؛ فالطامة الكبرى تعني يوم القيامة (أو هي النفخة الثانية كما تقول بعض التفسيرات)، يوم يحصلُ الانقلاب في الكون، وتتبدَّلُ السماوات والأرض، فيخرج الناسُ من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون، ليمثلوا بين يدي العزيز الجبار.. أجل إنه يوم الدين - الدينونة - حيث يتذكّر الإنسان - كلُّ إنسانٍ - أعماله جميعها، وبأدق التفاصيل التي قام بها في حياته الدنيوية من خيرٍ وشرٍّ..
ومن هنا كانت أهمية تدبّر القرآن الكريم، وهو يعظنا بأن ننظر إلى الحياة الدنيا على أنها لهو ولعب، فلا تغرّنا فيها الشهوات، ولا يلهينا المتاع عن التفكير، والتعقل والتذكر بأنَّ هذه الحياة فانيةٌ، وأنَّ الدار الآخرة هي الحياة الدائمة التي يكونُ فيها الخلودُ: إمَّا في النعيم، وإمَّا في الجحيم، ولذلك عبّر القرآن عن ذلك اليوم الذي يطغى فيه على الإنسان الفزع الأكبر بـ«الطامّة الكبرى» التي تطمُّ كلَّ شيءٍ، فلا يحضُرُ الإنسانَ إلاَّ شريطُ حياته من المهد إلى اللحد.. فأمَّا من كان قد طغى وآثر الحياة الدنيا باتباع الأهواء، وحب الشهوات فإنَّ الجحيمَ مأواه مصداقاً بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى *وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى *} [النَّازعَات: 37-39]. وأمّا من كان ينهى نفسه عن السوء، ويتورع عن المعاصي، ويخافُ إنْ عصى ربَّهُ عذاب يومٍ عظيم، - هو هذا اليوم الذي تجيءُ فيه الطامة الكبرى، ويقف بين يدَيْ ربه - عزَّ وجلَّ فإنَّ الجنة مأواه، مصداقاً لقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى *} [النَّازعَات: 40-41].
تلك هي بعض القضايا الهامة التي يحثنا القرآن على تذكرها في حياتنا هنا، قبل أن نصل إلى الآخرة. ويعطينا البراهين على ما حلَّ بالأمم الغابرة، وبالطغاة والمستبدين، بسبب كفرهم وإصرارهم على الكفر، وعدم استجابتهم لدعوات الإيمان التي كان يحملها رسل ربهم.. وكل تذكرة للإنسان بمفرده، وللناس بمجموعاتهم، واجبةٌ على كل مسلم - بل وعلى كل إنسان - حتى يعرف أي طريق يختار ويسلك، وإلى أين ينتهي به المطاف في النهاية. وفي هذه التذكرة والحث عليها منتهى الرحمة والعدل من ربنا؛ فعسى أن يتذكَّر الإنسان ويخاف مقام ربه، قبل فوات الأوان، وحلول الموت الذي لا محيص عنه.
النسيان: هو ترك الإنسان ما استودع في نفسه: إمّا لضعف قلبه، وإمَّا عن غفلة، وإمَّا عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره ما استودع..
والنَسْي: أصلُهُ ما يُنسى، كالنقضِ لما يُنقَضُ، وصار في التعارف «اسماً» لما يقل الاعتدادُ به، لأنَّ الاعتداد بالشيء، أو الاهتمام به يجعل نسيانه صعباً، إذا كان من فعل الإنسان، والعرب تقول: «احفظوا أنساءكم» أي احفظوا ما من شأنه أنْ يُنسى، وأمَّا تمنّي مريم (عليها السلام)، عندما جاءها المخاض إلى جذع النخلة، أنْ لو كانت شيئاً منسيّاً، فقالت: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مَريَم: 23]، إنَّما يدلُّ على أنَّه شيءٌ من التمني للموت في تلك اللحظة، ولكنها أجرتْهُ مجرى النسي القليل الاعتداد به، وإنْ لم يُنسَ. وأمَّا في قول الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البَقَرَة: 106]. فمعنى لفظة «ننسها»، أي نحذف ذكرها عن القلوب، أو نمحوها من القلوب؛ وهذا حقٌّ لأنَّ الأمرَ يعودُ إليه وحدَه - سبحانه وتعالى - في كلِّ شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس: 82]. وكذلك في لفظة «ننسخ» فعندما ينسخ الله - تعالى - آية من القرآن، أو يجعلها في طي النسيان، فإننا نتوخى من النص فهمَ أمرين: الأول هو التوكيد على أنَّ مشيئة الله تعالى مطلقة في كل شيء فإنْ شاءَ الله أن يوجدَ شيئاً من العدم أوجـدَه بكلمـة «كن»، وإنْ شاءَ أنْ يزيله من الوجود نهائياً، فأمرُهُ نافذ، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ؛ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *} [الرّعد: 38-39] والأمر الثاني هو أنَّ النسخ لآيةٍ أو جعلها منسيةً، فيه خيرٌ للإنسان برفع تلاوتها، أو بتأخير حكمها، أو بإبدالها بآيةٍ غيرها أنفع للعبـاد في السهولة والأجر، أو النسخُ: أن يأتي الرسول للنّاس بآيةٍ من الله تعالى مثل التي جرى بحيث تحمل الآيةُ الجديدةُ التكليف والثواب نفسيهما.
وفي بحوث «علم النفس»، يقولون إنَّ النسيان ليس معناه «فقدان الذكريات وزوالها التام من النفس، وإنَّما هو غياب الصور عن ساحة الشعور. وإنَّ عدم شعورنا بالصورة النفسية لا يدل على فقدانها، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فكأنّ العالَم النفسيّ شبيهٌ بالعالَمِ المادي لا يضيع فيه شيءٌ أبداً».
والنسيان يقابل التذكّر أو هو عكسه. ونحن نعلم أن التذكر مبعثه الذاكرة التي تحفظ التصورات والمشاعر، وصور الأحداث الماضية في حياة الإنسان، فعندما يسترجع الإنسان من ماضيه إلى حاضره شيئاً معيناً، فإن ذاكرته هي الملكة المؤهلة لإعانته على استرجاعه؛ فإذا كانت الذاكرة بمثابة قوة مطلقة، تحفظ كل شيء وتسترجعه برمتِهِ، أو أكثره، فمعنى ذلك أنه لا وجود للنسيان. ولكنَّ الواقع يدلُّ على أنَّ هنالك أموراً كثيرة تغيب عن الإنسان، أي حتى لو حاول استعادتها من مخزن الذاكرة فإنه لا يستطيع ذلك.. ما يدل على أنَّ في النفس البشرية تكوينات تطوي في مضامينها ما يرغب الإنسانُ طيَّه، واعتباره كأنه لم يكن في حياته، سواء كان ذلك عن طريق الإدراك أو الإهمال.. وهذا ما يجعل تلك الأمور التي تغيب عن الذهن، وتُخزنُ في عالمٍ خاصٍ بها، داخل النفس البشرية، تقبع في عالم النسيان.
ولعلَّ من مزايا النفس الإنسانية خلق النسيان فيها، للتخفيف من حدة بعض المشاعر التي تؤثر في هذه النفس تأثيراً قوياً وهاماً، وتثير فيها الآلام والهموم.. فلولا النسيان لطغَتْ على الإنسان مشاعرُ الحزن أو الشدة، الناجمة عن حوادث شديدة الوقع على نفسه، ولما أطاق هذا الإنسان، الذي خلق من ضعف، احتمال تلك المشاعر إذا كانت حاضرة دائمة في ذهنه، أو إذا كانت قوية لدرجة أنَّ النفسَ لا تقدر على الانفلات من تأثيراتها وانفعالاتها. ولذلك فإنَّ من الخير للإنسان أنْ تكون ذاكرته نسَّاءةً، أي بأنْ يقدر على نسيان أمور معينة حتى لا يعيش في اضطراب دائم.. فالأحداث التي تُوجد الاضطراب في حياة الإنسان هي أكثر من تلك التي تؤمِّنُ له الهدوءَ الذاتي، والاطمئنان النفسي.
ومن أسباب النسيان العضوية غلبة بعض المسالك العصبية على غيرها، حتى لقد اعتبر بعض العلماء أنَّ بعض المسالك العصبية تمحى وتتولد عوضاً عنها مسالك جديدة. ومن هنا كان تأثير السن على الذاكرة، إذْ كلما تقدم العمرُ بالإنسان، ضعفت خلاياه، أو ماتت فئات منها، وهذا ما يولّد - من جملة ما يولّد لديه - النسيان...
ومن أسباب النسيان النفسية تأثير الانتباه والاهتمام، فهما - كما رأينا - يعينان على الكسب والحفظ، ويساعدان في الوقت نفسه على النسيان، لأن النفس عندما تهتم بالحديث مثلاً، فهي تهمل شيئاً من القديم المخزون في الحافظة. وكلما عادت الذكريات إلى النفس تغيَّر اهتمامنا بها، فيتضاءل منها قسم، وينجلي قسم، ثم يزول بعضها، ويسدل النسيانُ حجابَهُ على ما لا نهتم به منها.
وكما لاستعمال الذكريات أو عدم استعمالها تأثير في تثبيتها، فكذلك لهذا الاستعمال أو عدمه تأثيره في النسيان، لأن من شأنه أنْ يقويه أو يضعفه. فكلما كان تثبيت الذكريات أقوى، كان نسيانها أبطأ.
ويعتبر «علماء النفس» أن النسيان العادي الذي يتعرض له الناس إنما يأتي نتيجة لتزاحم المعلومات وتداخلها، ولذلك يميّزون بين نوعين من التداخل:
الأول - التداخل الرجعي : وهو يعني أنَّ نسيان الصور إنما يحصل بالتدريج من الماضي إلى الحاضر، فالأحدث منها هي أكثر ثبوتاً من القديمة أو المهملة. وعلى هذا فالإنسان يذكر الأمور الحديثة أكثر مما يذكر الأمور القديمة.
الثاني - التداخل اللاحق : ويكون فيه نسيان الصور على عكس ما هو في النوع الأول، أي بالرجوع من الحاضر إلى الماضي. فقد ينسى الإنسانُ أموراً حصلت حديثاً ويستذكر أموراً بعيدة. وهو عندما يكرر استعمال الصور القديمة فإن هذا التكرار يكسبها قوة تماسك وتلاحم، ويجعل الذكريات القديمة أكثر ثباتاً ورسوخاً في النفس من الذكريات الحديثة. فمثلاً يتلقَّى الإنسانُ منذ نعومة أظفاره لغته الأصلية، ويتعلم بعدها اللغات الأجنبية، ولذلك هو مؤهل لأن ينسى هذه اللغات ولكنه لا يقدر على نسيان لغته الأصلية. وقد ينسى الإنسان أسماء الأعلام قبل الأسماء العامة، والأسماء قبل الأفعال، من هنا كانت ذكريات أيام الصبا آخر ما يمكن أنْ ينساه الشيوخ.
والنسيان قد يتم بفعل الإرادة، وليس فقط بدافع الإهمال. وهذا النسيان الإرادي يحصل باستبدال ذكريات بأخرى، أو بإسقاط بعضها مباشرة. وذلك بأن يقطع الإنسان، بقوة إرادته، كل ما كان يربطه بالماضي فيغير مسكنه مثلاً، أو يشغل نفسه بأمور فكرية كالمطالعة والتحصيل العلمي، أو بتمضية أوقاته في الزيارات والأسفار، أو القيام بالأعمال التي تعود عليه أو على غيره بالنفع والفائدة..
والقرآن الكريم قد ذكر النسيان في كثير من الآيات. لأنَّ النسيان من المشكلاتِ التي تعترض الإنسان وتعوقه في أحيان كثيرة عن اتخاذ الموقف السليم والصحيح في مواجهة الحالات النفسية، وفي مواجهة مشاكل الحياة. ولذلك عُنِيَ القرآن الكريم بمشكلة النسيان كما عُنِيَ بعلاجها. والآيات الكريمة تتناول النسيان بقضايا أساسية في حياة الإنسان وأبرزها نسيانه عهد ربِّه، ونسيانه النعم التي يُنعمها عليه، ونسيانه اليوم الآخر، وغير ذلك من القضايا الأساسية في حياة بني البشر..
ومن تلك الآيات المبينة قول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} [طه: 115]. وعَهْدُ الله تعالى لآدم كان بأن يأكل من كل الثمار إلا من شجرة واحدة، شاءها - سبحانه - أنْ تمثِّل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة في الإنسان، وتأكيد شخصيته، وقدرته على التحرر من رغبات النفس وشهواتها، بالقدر الذي يقتصر على الإفادة من الضرورات، من غير أن تستعبدها الرغبات وتقهرها. وهذا منتهى الرقيّ في مقياس البشر، فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها، والاستعلاء عليها، كانت أعلى في سلّم الرقي البشري، وكلما ضعفت أمام تلك الرغائب واستجابت لها، كانت أقرب إلى البهيمية، وإلى المدارج السفلى في حياتها وبعد مماتها.
ومن العلم اليقيني، استناداً إلى القرآن، أنَّ الله تعالى قد خلق الإنسان، وكلَّفه القيام بأعباء الاستخلاف في الأرض، بما وَطَّنَ في نفسه من الملكات، ولاسيما ملكة الإرادة التي من شأنها أن تنبّهه لأن يفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين رغبات النفس التي يزينها الشيطان، وبين إرادته وعهده للرحمن. ولكن التجربة الأولى، أو الامتحان الأول الذي وقع فيه أبونا آدم (عليه السلام) يعلن النتيجة الأولى {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]. أي لم يكن لآدم (عليه السلام) إرادة مؤكدة. والعزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر وتوطين النفس على القيام بالفعل.
والله سبحانه وتعالى كان أعلم آدم (عليه السلام) ، من قبل، بحقيقة عدوه إبليس: {فَقُلْنَا ياآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى *إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى *وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى *} [طه: 117-119]. تلك كانت رعاية الله تعالى وعنايته أنْ ينبه آدم (عليه السلام) إلى عدوه، ويحذره غدره، عقب استكباره وعصيانه بالامتناع عن السجود لآدم كما أمره ربُّه تعالى.. ولكنَّ آدم كان يحمل في نفسه الضعف البشري. وأهمُّ ما في هذا الضعف معرفتُهُ بأنَّ عمرَهُ محدودٌ، وأنَّ قوتَهُ البشرية محدودةٌ، فإذا ما أتيح له الخلود، فلن يتوانى عن قبول ذلك أبداً. وبمقتضى الضعف البشري، فإنَّ إبليس اللعين يملك أن يغويَ الإنسان، وأنْ يدخل عليه من باب ضعفه، ولذلك تمكَّن أَنْ يوسوس لآدم عليه السلام قائلاً له: {ياآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى} [طه: 120].. لقد لمس الشيطانُ في نفس آدم (عليه السلام) الموضع الحساس: إمكانية الخلد والملك الدائم.. ومن هاتين الثغرتين نفذ الشيطان فانتصر وربح في جولته الأولى، إلاَّ أنَّ المعركة لا تزال، ومنذ ذلك الحين، متواصلة بين بني آدم والشيطان.. وليس للشيطان قدرة على غواية البشر إلاَّ لأنَّهم مثل أبيهم آدم مخلوقين بالفطرة التي تحمل الضعف لأمر مقدور، وحكمة مخبوءة.. ولعلَّ هذه الحكمة، كما يمكن أن نستشفَّها من تقدير الله العليم الحكيم، تكمن في أن يحمل الإنسان في ذاته عوامل الضعف كما يحمل عوامل القوة، حتى يقدر أنْ يوازن ويقارن ويقرر ويختار في كل ما ينوي، أو يفعل، أو يصادف في حياته، وإلاَّ فما معنى البعث والحساب؟ وما معنى التفاضل بين بني البشر؟
لقد نسي آدم (عليه السلام) لأنه لم يكن لديه إرادة أكيدة في التخلّي عن فكرة الخلود، فضعف عن مقاومة غواية الشيطان، إلا أنه عاد ووعى عاقبة تلك الغفلة، فاستمسك بعهد ربه - الامتثال لأوامره ونواهيه - وحفظه..
وإنَّ من أسمى وأرقى مزايانا نحن البشر ألاَّ ننسى عهدَ ربّنا تعالى، لأننا من أول ولادتنا وحتى تحين الساعة - التي لا ريب فيها - نبقى أبداً في خضم المعركة التي لا تهدأ: معركة الحق والباطل، معركة الخير والشر، معركة الإيمان والكفر، معركة الطاعة والمعصية، المعركة التي يخوضها الإنسان للفوز في الآخرة وإلا فالخسران المبين.. وعلى الإنسان أن يقف في هذه المعركة في الصف الذي يريد: صف الرحمن أو صف الشيطان؟!.
ويحذّرنا الحقُّ تبارك وتعالى من هذه النماذج، من الناس الذين مردوا على الجريمة المتمادية في الفسق والفجور والفساد والعصيان، الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وأولئك هم المنافقون والمنافقات الذين نسوا الله سبحانه وتعالى، فنسيهم.. ولكنَّ نسيانهم لربِّهم وخالقهم له عاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة.. يقول عزَّ وجلَّ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التّوبَة: 67]. فالمنافقون والمنافقات قد تختلف أفعالهم وأقوالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وطينة واحدة، لأنَّ سماتهم هي سوء الطوية، ولؤم السريرة، والغمز والدس، والضعف عن المواجهة، والجبن عن المصارحة.. أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر الذي يسيء للحياة، والنهي عن المعروف الذي يقوّم الحياة، ومن صفاتهم الذميمة البخل بالمال كأنّما يقبضون عليه بالأيدي ولا يريدون إفلاته، إلاَّ أنْ يبذلوه خداعاً للناس وكذباً. إنهم في ذلك نسوا الله تعالى فلا يحسبون إلاَّ حساب الناس وحساب مصالحهم، «فنسيهم» الله تعالى حتى لا يكاد يكون لهم وزن أو اعتبار بين الآدميين الأتقياء الذين يعبدون الله تعالى مخلصين له الدين..
كما ينبه الله العزيز الحكيم المؤمنين بأن يتّقوه - سبحانه - وأن تنظر كل نفس ما قدمت لغدها، لئلا يكونوا كالذين نسوا الله - تعالى - فأنساهم أنفسهم. يقول المولى الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [الحَشر: 18-19]. نعم إنها دعوة من الله تعالى لعباده المؤمنين إلى اليقظة والتذكر، وأنْ لا يكونوا {كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحَشر: 19]؛ فالذي ينسى الله تعالى - خالقه ومدبره، والمنعم عليه - إنَّما يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه إلى المقام الذي يستحقه الخلق البشري. وفي هذا نسيان لإنسانيته، فالإنسان بمعرفته لنفسه يعرف من خلالها الله تعالى، ونسيانه لله - سبحانه هو من نسيانه لنفسه.
هذا بالنسبة للإنسان الذي ينسى الله تعالى، وينسى نفسه..
ولكن الإنسان المؤمن قد يباغته النسيان أحياناً، ما دام هذا النسيان في طبعه، وفي تكوينه النفسي، فيعزم على أمر وينسى أن يذكر الله تعالى حتى يمنَّ عليه بالتيسير والبركة. يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا *} [الكهف: 23-24]، فالغد من المستقبل.. أي هو في علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فإذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً، فلا يقولنّ إني فاعل ذلك غداً، ما دام يعلم أنَّ هذا الغد هو في غيب الله تعالى. ولكنْ هذا لا يعني أنْ يقعد الإنسان، فلا يفكر في مستقبله وما يجب عليه أنْ يدبر له، كلا! بل عليه أن يُمنّي النفسَ، ويُعملَ العقل، ويباشرَ الأعمال، ولكنْ من غير أنْ يغفل ما قد يأتي به الغيبُ الذي هو رهنٌ بما يشاء الله تعالى. فإذا عزَمَ فليعزم ولكن ليترك الأمر إلى ما يشاء الله في النتائج والعواقب. عليه أن يفكر، ويصمم، ويعزم، ولكن مع توكله على الله تعالى بأن يعينه ويدبره، لأنه لا يمكن للإنسان أنْ يفعل شيئاً إلاَّ أن يشاءَ الله تعالى له ذلك.. فإذا نسيَ الإنسانُ هذا التوجُّهَ إلى ربِّه تعالى، عندما يعزم على أمر من الأمور، فلينتبه، وليحذر من أن يغلب عليه هذا النسيان، إذْ لا يجوز له، بل ومن أولى مقومات إيمانِهِ أنْ لا يُقدم على شيء إلاَّ أنْ يذكر ربه، ويتوكل عليه، ويدعوه لأنْ يوفقه في تحقيق ما يسعى إليه.. ومن يتوكل على الله - تعالى - ويُرجع إليه الأمر كله، إلى مشيئته المطلقة، في غده، وفي كل حين، فحسبُهُ الله، ونعم الوكيل..
قال ابن عباس: «إذا قلت شيئاً ولم تقل: إن شاء الله، فَقْلْهُ إذا تذكَّرته». وبهذا أجاز الاستثناء بعد مدة.
إذًا فكل حركة، وكل نَفَسٍ، وكل ما يصدر عن الكائن الحي مرهون بإرادة الله تعالى. وعلى الإنسان، والمؤمن خاصة، أن يستشعر بأنَّ يدَ الله تعالى فوق يده، فلا يستبعد أن يكون لله - سبحانه - تدبير غير تدبيره هو. فإن وفَّقهُ الله تعالى إلى ما اعتزم كان خيراً. وإن شاء الله أن يكون غير ما دبَّر الإنسان واعتزم، كان أيضاً خيراً له، فلا ييأس ولا يحزن، لأن الأمر لله تعالى أولاً وأخيراً..
هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم. فلا يشعر بالوحشة وهو يفكر، ولا يحس بالغرور وهو يدبّر، ولا يشعر باليأس وهو يفشل.. بل يبقى في كل أحواله متصلاً بالله تعالى، قوياً بالاعتماد عليه، شاكراً لتوفيقه إياه، مُسَلِّماً بقضائه وقدره.. فإذا نسيَ هذا التوجيه والاتجاه، فعليه أنْ يذكرَ ربَّه وأنْ يرجع إليه: وليقل: {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 24]، أي إلى هذا النهج الذي يصل القلب دائماً بالله تعالى، في كل ما يهمّ به، وفي كل ما يتوجه إليه.
ولا بدَّ في ختام البحث في النسيان من التذكير بالدعاء القرآني الذي ورد في آخر آية من سورة البقرة المباركة، وهو الدعاء الذي يحيط بكل ما يمكن أن يجري في حياة الإنسان من الأحداث والقضايا والأمور، وذلك بأن يرجو من ربه سبحانه وتعالى أن يزيل أثقالها عن كتفيه، وأنْ يهبه العفو والمغفرة والرحمة في دنياه وآخرته، فيوجهنا المولى تبارك وتعالى أنْ نستجيره، ونستغيث به، وندعوه قائلين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البَقَرَة: 286]. فجاء الدعاءُ بعدم المؤاخذة من جراء النسيان أو الخطأ..


مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢