نبذة عن حياة الكاتب
معجم الأمثال في القرآن الكريم

الفصل الثاني: أصناف الناس في الأمثال القرآنيَّة
لعلَّ من المزايا التي تفرَّد بها القرآن المجيد، ما نجد فيه من تصنيفٍ للناس بحسب قبولهم للهدى والتقوى، أو إعراضهم عن ذكر الله، وإيثارهم للكفر والشرك على عقيدة التوحيد ومقوماتها الإِيمانية.. ولذلك حفلت أمثالُهُ بما يوجِّه المؤمنين ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم.. في جانب.. وبما يبيّن صفات الكافرين، ومواصفات المشركين والمكذبين بآيات الله، ويدلهم على طريق الهدى، والتخلي عن معتقداتهم الضالة والمضلّلة، وبما يعدهم ربهم من قبول التوبة والمغفرة، أو يتوعدهم به من العذاب الأليم، إذا ظلّوا على غيّهم، واستكبارهم، وجرائمهم..في جانب آخر.. ليُظهر، من ثمَّ، الآثار والنتائج التي تترتب على معتقدات وأعمال هؤلاء وهؤلاء في الدارين.. وعلى هذا فإننا سوف نبحث في هذا الفصل:
- ملامحُ من التوجيه والإرشاد القرآني للمؤمنين.
- عبادةُ الكافرين لآلهةٍ مدعاة.
- أعمالُ الكافرين تذهب يوم الحساب طرائقَ قِدَدا.
- الفوارقُ بين المؤمنين والكافرين.
- الشرك وظلم المشركين لأنفسهم.
- النفاقُ ومواصفاتُ المنافقين وفعالُهم.
- إخْلادُ المكذّبين بآياتِ الله إلى الأرضِ واتّباعُهُمُ الأهواءَ.
الفقرة الأولى - ملامح من التوجيه والإرشاد للمؤمنين
الدين نور يُضيء القلوب، وشعلةٌ تهدي العقول. فمن آمن بدين الله، وهو الحق، اهتدى ونال الفوز في الدنيا والآخرة.. ومن ضلَّ عن هذا الدين فقد كفر بالله، وباء بالخسران، فحق عليه العذاب في الآخرة..
ولا يحسبنَّ أحد أنَّ متاع الحياة الدنيا وزخرفها، وما يمكن أن يحوز الإنسان من الغنى والثروة، أو ما ينال من النفوذ والسلطان، أو يتمتع به من اللذة والمرح.. يمكن أنَّ يُعدَّ غايةً قصوى بذاته، بل إنَّ رضوان الله تعالى هو أسمى الغايات، وأجلُّها على الاطلاق. فكل الأعمال، والتصورات، والقيم والمثل تكون باطلة وعقيمة إنْ لم تؤدِّ إلى رضى الله وطاعته.. وكل القلوب، والضمائر، والعقول والنوايا تكون ضالّة وحائرة إنْ لم تتوجَّه إلى الله تعالى، وتهتدي بهداه.. ولا يظنَّنَّ أحد أنَّ شقاء الحياة وهمومها، والتصدّع الذي يعصف بالكيان البشري من القهر، والقلق، والعذاب، والمرض، والجوع!. يمكن أن يحيد بالإنسان المؤمن عن الطريق المستقيم الذي يسلك، وعن الحق الذي يتّبع، فكل ما يصيبه من الابتلاء يزيده إيماناً، ورجاءً واحتساباً، لأنَّ إيمانه مبنيٌّ على التسليم والانقياد لخالقه، وعلى اليقين بأنَّ الله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد - بالحكمة والعدل - وهذا هو معنى الإسلام.. وهذا الإِيمانُ والاستسلام لمشيئة الله له آثار نفسية هامة من شأنها أنْ تخفّف عن المؤمن تأثير المعاناة التي قد يواجهها، وتُصبِّره على الابتلاء الذي قد يقع فيه!.
وإلى جانب هذا الرضى والتسليم بقضاء الله وقدره، فإنَّ ميزة المؤمن على غيره، استدامته على الحمد والشكر لـربه تبارك وتعالى، بل وفضل المؤمن على غيره أنه لا يحمد ربه على ما آتاه وحده، بل وعلى ما يغدق على جميع خلقه وعباده من واسع الفضل وجزيل النعمة التي لا يمكن للناس عدُّها أو إحصاؤها، وبالتالي عدم إمكانية تصوّر مقدارها، تصديقاً لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. ولا شيء يمكن أنْ يمنح الإنسان مثل هذا الإيمان أكثر من العقيدة الدينية، وعقيدة التوحيد على وجه الخصوص، فهي وحدها التي تجعل جوانب الحياة كلها مضيئة بالنور والهداية، وهي وحدها التي تملأ النفوس زكاةً، والقلوب اطمئناناً، وهي وحدها التي تنير العقول وتحثها على استيقان الحقائق، وهي وحدها التي تزوِّد المؤمنين بالطاقة على العمل، والصبر على الاحتمال، حتى ينشروا الخير والصلاح بين الناس.
ومن النظر إلى واقع الحياة البشرية، يبدو لنا جلياً أن نفوس الناس ليست على مستوى واحد من الهداية والإيمان، ومن الضلال والكفر. بل إنها تتباين تبعاً لما تعتنق من العقائد الدينية، وتتقبل من الأفكار والمفاهيم، التي تتآلف وهذه العقيدة أو تلك، وما لذلك كله من تأثيرٍ على مدارك وميول وأهداف الناس، وعلى ما يتعلق بمسار حياتهم، ونمط العيش في البيئة المجتمعية التي يتواجدون فيها. وهذا ما يجعل النفوس على أنواع مختلفة، حيث نجد النفوس الزكية المؤمنة، المُسْلِمَة لله الواحد الأحد، وبمقابلها النفوس العاصية الكافرة، والنفوس الفاسقة الفاجرة، أو النفوس المادية الماجنة.. وبين هؤلاء وهؤلاء هناك النفوس المنافقة المذبذبة التي تتخبَّط بين إيمان ظاهرٍ، وكفرٍ باطنٍ، فلا تستقرَّ على منهجٍ لأيٍّ منهما!..
على أن النفوس البشرية، ومن حيث إن الله تعالى قد ألهمها فجورها وتقواها، فإنها لا تخرج في تصورنا، ووفقاً لاسترشادنا بالقرآن المبين، عن كونها:
- إمَّا نفوساً على صلة بـالله تعالى وهي النفوس المؤمنة، المهتدية والتقيّة حقاً..
- وإمَّا نفوساً قطعت كل صلة بـالله تعالى وهي النفوس الكافرة، أو المشركة، والضالّة فعلاً.
ويبقى حكم الله العزيز الحكيم، فهو الذي يهب النفوس الهداية أو الضلال، فيضل من يشاء، ويهدي من يشاء، لأنه أعلم بعباده، ومن يبتغي منهم الضلال، أو يكون أهلاً للهداية..
ولقد ثبت على مدى التاريخ البشري، أنَّ مسيرة الأنبياء والمرسلين لهداية الناس وصلاح حياتهم، كانت مسيرةً مباركة عبر العصور، بحيث توالت تلك البعثات لا يخلو منها زمان، حتى كان بعث خاتم النبيين محمد بن عبد الله رحمةً مهداةً للناس، وكان الكتاب الذي أنزل عليه هو هذا القرآن الذي يحمل الشفاء للنفوس مما علق فيها من الوثنية، أو ران عليها من الشرك، أو ما قد داهمها من الأمراض التي تزيدها فجوراً أو نفاقاً.. فهذا الكتاب المجيد، وبحركته العلاجية التي تلامس شغاف النفوس الصافية، إنما يزيد المؤمنين إيماناً وتقوىً، ويجعل نفوسهم مطمئنة إلى مصيرها في الدنيا والآخرة، وهذا في الوقت الذي يقدِّم العلاج لمن تاهوا عن الإيمان، كي يردهم إلى رحاب التوبة والمغفرة، ويحيي قلوبهم بنور الله التوّاب الرحيم.. ولكنَّ الشرط في الحالتين معرفة القرآن، والقبول - عن قناعة - بكل ما أودع فيه ربُّ العالمين من آياتٍ تهدي للتي هي أقوم!.. وهذا ما يستدعي لفت نظر الناس إليه، ولا سيما الذين يعرضون عن القرآن بالهجران أو الاستهتار، أو الذين يؤثرون استنكاره بالتعصّب أو الاستكبار، وكان إعراضهم عن كتاب الله عمداً، أو تعصُّباً أو تقصيراً!... فهؤلاء جميعاً يحملون أوزاراً كبيرةً، وسوف يلاقونها يوم الدِّين، لأن مصيرهم - وجميعِ العباد - إلى الله ربهم، وهو العزيز الحكيم، الذي يحاسبهم على كل حياتهم الدنيا سواء ما تعلق منها بالعقيدة، أو ما اتصل بها من الأعمال، والأقوال والنوايا، فضلاً عن كل ما يمت إلى الآخرة بصلة..فكل ذلك يترتب عليه آثار ونتائج يلاقيها الإنسان في الآخرة، والعاقبة يومئذٍ للمتقين.. مما يعني أنَّ الناس بالخيار أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أنْ يسترشدوا بالقرآن الكريم، لأنه كتاب الرسالة السماوية الخاتمة إلى العالمين، وقد أمرهم الله تعالى أن يسيروا على نوره؛ وإمّا أنْ يمضوا بغير هدى من الله ونور مبين، والحكم في الآخرة للواحد الديّان، الذي يحاسب كل نفس على ما كانت عليه في الحياة الدنيا، بحيث يكون لها ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبت من السيئات، وكان الله عليماً حكيماً.
وقد يسأل البعض: إذا كان القرآن {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *} [البَقَرَة: 2]، فلماذا نجد بعضاً من آياته قد نسخت؟
والجواب: أولاً أنَّ هذا الأمر شأنٌ إلهيٌ فلا يجوز للإنسان أن يناقش فيه، فإذا قضى الله تعالى أنْ ينسخ بعض آيات من كتابه القرآن، أو ينسها، ليأتي بخير منها أو مثلها، فذلك من أجل مصلحة العباد، لأنه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العُسر.. ثم ليعلم الإنسانُ أن هذا الكتاب هو قول الله، وهو وحده - جلّت مشيئته - من يملك أنْ يتصرف بآياته، بينما لا أحد في العالمين يقدر أنْ يبدِّل فيه ولو حرفاً واحداً، وما يشاعُ أحياناً - عن قصد أو غير قصد - من وجود أكثرُ من قرآنٍ واحدٍ، وفيها اختلاف، فتلك ترهات، وأقاويل مضلِّلة، وهي محضُ دسٍّ وافتراء لإشاعة الفرقة بين المسلمين، فلا يجدر بمؤمنٍ أنْ يأخذ بها، ولو من باب الظنّ. فالقرآن هو، هو، قرآنٌ واحدٌ كما أنزله ربُّ العالمين، وكما أبلغه الرسول الأمين (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وكما جمعه الصحابة الأخيار في عهد الخلافة الراشدة.. وكلنا، نحن المسلمين، نقرأ هذا القرآنَ، ونهتدي بهديه، فليذهب الذين يريدون الإدخال عليه، أو التزوير في بعض نصوصه إلى الجحيم، لأنَّ الله تعالى الذي أنزله - بأحرفه، وكلماته، وآياته ورسمه - قد حفظه، وسيظل محفوظاً إلى يوم الدين. ولذلك كان النسخ في القرآن من الشواهد على قدرة الله تعالى، مصداقاً لقوله المبين: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [البَقَرَة: 106]. وهذا يعني أنَّ الله تعالى هو وليُّ الأمر والتدبير، ومنه أمر التبديل، والتغيير، ليس في قرآنه وحسب، بل وفي كل شيءٍ في الوجود؛ ولذلك أنزل الآية المباركة لتبيّن لنا أنَّ ما ينسخ الله تعالى أو ينسي من آيةٍ، أو من حكم، إنما ليأتينا بخيرٍ منها أو مثلها، ولكن بصيغةٍ أخرى، ونصٍّ آخر، زيادةً في النفع والتسهيل لنا. فالأحكام أنزلت في القرآن لصالح العباد، وقد يكون بعضها ممّا لا يطيقونه، فعندما يُنسخ، أو يُجعل منسيّاً، حكمٌ من تلك الأحكام التي قد ترهقهم، فإنَّ اللطيف الخبير يعوّضهم عنه بخير منه، أي مما يطيقونه، ويقدرون على احتماله، وهذا منتهى التيسير الذي يريده المولى الكريم لعبادة، ليس لأنه خيرٌ لهم وحسب، بل ولأنه أيضاً تربيةٌ للمؤمنين على الطاعة والخضوع لحكم ربهم بقبول الحكم الاْكثر عسراً، والتمسك من ثم بالحكم الأكثر يسراً واتباعه والعمل به.. وهذه من أهم جوانب التربية للنفس حيث ترى في النسخ رحمة إضافية، ولطفاً زائداً من ألطاف ربّـها الكريم لكي يحثّ الأنفس المؤمنة على تقبّل الأحكام جميعاً، سواء التي ترغّبها بالمحلَّلِ، أو تنهاها عن المحرَّم.
على أنَّ النسخ، أو التغيير الجزئيّ في الأحكام، إنما كان يقع مع تنزيل آيات القرآن لطفاً بالعباد، ولمقاصد تربوية - كما قلنا - فإذا ما أمر الله سبحانه وتعالى بنسخ[*] آية، أو إلقائها في عالم النسيان أتى بخير منها، أو مثلها أياً كان الحكم أو الشأن الذي تنزَّلت به الآية المنسوخة أو المنسيّة. والقرآن الكريم قليلٌ من آياته قد نسخ، وقد دلَّ عليها القرآن نفسه، ثم بيّن الآيات المنسوخة ليكون هذا الكتاب بعد انقطاع الوحي، قد اكتمل بصيغته النهائية والثابتة التي لا تقبل أي تعديل أو تبديل، ولا أي نسخ أو نسيان، باعتبار أنه لا وحيَ بعدها ولا تنزيل، لأن «محمداً» هو خاتم النبيين، فلا نبيَّ بعده كما يثبته قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا *} [الأحزَاب: 40]. وهو أيضاً ما يشير إليه النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، أثناء سفره في غزوة العسرة، في قوله لابن عمه عليّ بن أبي طالب: «أَلاَ تريدُ أنْ تكونَ مني بمنزلةِ هارونَ مِنْ موسَى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي»[*] . وثبات الصيغة النهائية للقرآن الكريم يدلُّ يقيناً على أنه خيرُ ما يصلح للناس في شؤون دينهم ودنياهم. وكان من أمر ربنا العزيز أنْ يحفظ هذا الكتاب من عبث العابثين، ليبقى المعين الذي يمدُّ الحياة على الأرض بالرحمة الربانية والإنعام على العباد، وقد بيّن لنا حفظ القرآن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحِجر: 9]، فلا يقدر أحدٌ أن يمسَّ آية من آياته بأي تحريف أو تبديل، أو أن يشوّه جمال أية لفظةٍ من ألفاظه بأي تزوير أو تعديل.
ويبقى أنْ نؤكد على أنَّ ذلك النسخ الذي حصل على بعض من آيات القرآن، إنّما هو برهانٌ يريد أنْ يقدِّمه القرآن ليوقر في أذهان الناس «أنَّ الله على كل شيء قدير».. فهو الذي ينزِّل الآيات، وهو القادر على نسخها أو إثباتها، تماماً كما هو القادر على أنْ يفعل ما يشاء، وكيفما يشاء، ومتى يشاء، وأنَّى يشاء، لأن أمره إذا أراد شيئاً أنْ يقول له: كن، فيكون. والإيمان بهذه الحقيقة من المسلمات في عقيدة التوحيد.. فهلاَّ آمن الإنسان، وأيقن بالحق المبين: «أنَّ الله على كل شيء قدير»، وأن القرآنَ منزَّلٌ من رب العالمين؟!.. وهذا الإيمان هو السبيل كي نستشفَّ ما في هذا القرآن من مزايا للمؤمنين، وما وُضِعَ على عاتقهم من تكاليف، وما انتدبوا إليه من المهمات والأعباء.. وجمعيها قد جعلتهم يوصفون بـ«المؤمنين»..
ويمكن أن نستدل على بعض من تلك الخصائص والسمات للمؤمنين من خلال الآيات المباركة التي وردت فيها الأمثال المجيدة، ومنها الأمثال التالية:
1 - خوف مؤمن آل فرعون أنْ يحلَّ بقومه مثلُ الذي حلَّ بالأقوام السابقين.
قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ *يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ *وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد} [غَافر: 28-31].
في هذه الآيات الكريمة قصة رجل مؤمن من آل فرعون (قيل هو ابن عمه أو وزيره) كان يكتم إيمانه بـالله عن الناس، فلما أبى فرعونُ دعوةَ النبيّ موسى - عليه السلام - للإِيمان، وراح ذلك الطاغيةُ يتشاور مع بطانته، ويعدّون العدة لقتل هذا النبيِّ الكريم، لم يقف الرجل المؤمن من آل فرعون متفرجاً، ولا ساكتاً لأنَّ من صفات المؤمن في أي زمانٍ أو مكانٍ وُجد، ألاَّ يخاف في الله لومةَ لائم، وألاَّ يتورع عن قول الحق، ولو كان فيه حتفه، ولذلك نجده، بصدق إيمانه، قد تصدَّى لفرعون وملئه بالنصح، كي يكفّوا عن التآمر على قتل موسى (عليه السّلام) فقال لهم:
كيف تقتلون رجلاً «أنْ يقول ربيَّ الله»، وقد جاءكم بالمعجزات الظاهرات على صدق إيمانه. فإنْ يَكُ كاذباً فيما يقول، فإنَّ كذبه سوف يكشف في نهاية الأمر، وسوف يتحمل وزر كذبه وحدَه، لأنَّ الله تعالى لعن من هو مسرف كذاب، فلا يلاقي في نهاية المطاف إلاَّ عاقبة كذبه.. وإنْ يَكُ صادقاً، فإنَّ في تلبيتكم لدعوته خيراً لكم، إذ هو يعدكم العفو والمغفرة من الله، ونيل الأجر والثواب، فاتبعوه حتى لا يحل بكم العذابُ الذي يعدكم به، لأنَّ الله لا يهدي من هو كافرٌ، مسرفٌ في شركه وفي كذبه على الله ربّه!..
ثم يتابع الرجل المؤمن نصحَهُ لقومه قائلاً: يا قوم أنتم اليوم تملكون، وتحكمون أرض مصر، وأنتم غالبون في الملك والحكم في الأرض، فمن ينصرنا ومن ينجينا من عذاب الله، وشدّة بأسه، إنْ جاءنا هذا العذابُ لاستكباركم عن دعوة الإيمان بـالله تعالى، أو قتلكم النبيَّ موسى وأنصاره؟ فإنه لا ناصِرَ لكم يومئذٍ من عذاب الله، فاسمعوا قولي وأطيعوني!..
فهذا المؤمن يذكرهم، وينصح لهم خوفاً عليهم، ورأفة بهم.. ولكنّ فرعون تأخذه العزة بالإثم، فيقول للملأ من حوله: لا تنصتوا لهذا الرجل، ولا تصدقوه، ما أريكم إلاَّ ما أرى، وهو «الصواب»، وما أهديكم إلاَّ سبيل «الرشاد»، وهو مجدكم، وعزكم في حياتكم!.
ولم يسكت مؤمن آل فرعون، بل يرد على الطاغية ومَلَئه، ليزيد في تخويفهم وتحذيرهم، وهمُّهُ أنْ يوفر لهم السلامة والنجاة، لشدة ما يخاف أنْ يصيبهم مثلُ ما أصاب الأقوام السابقة التي تحزَّبت ضد أنبيائها، فرمتهم بالكذب والاستهزاء، أو أقدمت على قتلهم بدون حق، فحلَّ بهم الهلاك، والدمار والاندثار.. وأعطاهم المثلَ عما أصابَ أقوام نوحٍ وعادٍ وثمودَ، وغيرهم الذين جاؤوا من بعدهم، إذ حاق بهم غضب الله، من جراء إصرارهم على الكفر والشرك، لأنه لا ظلم أشد على النفس البشرية من كفرها، أو شركها بالله تعالى. ولو عقلت تلك الأقوام الحقائق التي جاءتها على لسان النبييّن والمرسلين، لأدركت، قبل فوات الأوان، أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - لا يريد ظلماً للعباد، بل إنه - سبحانه - منزَّه عن الظلم، ولكنَّ وعدَهُ بإنزال الهلاك بالأقوام الكافرين هو الحق، فكان العذابُ الذي حلَّ بهم من جنس الفعل الذي ارتكبوه.
ولم يكن نصح ذاك المؤمن من آل فرعون وحده الذي حفظته أمثالُ القرآن، بل ونصح النبي شعيب (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لبني قومه.. فقد أبان لهم أنَّه لا يريد من دعوته لهم إلاَّ الإصلاح، فإنْ أصرّوا على عنادهم ومخالفتهم له، فإنَّ عاقبة ذلك هلاكهم، مثل الهلاك الذي أصاب أقواماً غيرهم، وهذا ما يهدي إليه قول الله تعالى، على لسان شعيب (عليه السّلام): {وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ *} [هُود: 89] وذلك الهلاك الذي أصاب أولئك الأقوام يخبر القرآن الكريم، وفي آيات عديدة، أنَّ من آثاره ما يبقى شاهداً في الأرض ليعتبر الناس به، وذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا *} [محَمَّد: 10]، أي وللكافرين أمثال عاقبة من كانوا قبلهم.. ويخلد موقف النبي شعيب (عليه السّلام)، وموقف مؤمن آل فرعون، على التاريخ مثالاً على صدق الإيمان، وشاهداً على أحقية النصح والتوعية للناس. وهذا ما يسري على جميع المصلحين عندما يقفون في وجه الظلم والاستبداد، ومناصرة قضايا الحق والعدل، وغيرها من القضايا المحورية مثل قضية الإيمان أو الكفر، كما هي الحال اليوم حيث الناس بأشد الحاجة إلى وجود المؤمنين الصادقين - كـأتباع الرسل، ومثالهم مؤمن آل فرعون - الذين هم وحدهم مؤهلون لأنْ يحملوا لواء التغيير والإصلاح، وأنْ يشهروا سلاح التوعية، ومحاربة كل ما يحيط بالحياة من المظالم والمفاسد، أو ما تحفل به الدنيا من الشرور والمعاصي، حتى يتوقف هذا التدهور الذي ينحدر الناس إليه في علاقاتهم مع بعضهم البعض، بعدما باتت أحوالهم أشدّ سوءاً وفساداً، عما كانت عليه الحال أيام الطاغية فرعون، الذي كان يصرُّ على قتل موسى (عليه السّلام)، لا لشيء إلاَّ «أن يقول ربّي الله».
ويقيناً أنه إذا بقي الناس على هذه الأوضاع التي نشهدها مما تمتلئ به الأرض من الجور والظلم والإلحاد، ومما يشيع في النفوس من الجفاء للإيمان، والابتعاد عن الحق، والانقياد وراء الباطل، فإن الهلاك الجماعيّ آتٍ لا محالة، والعذاب الساحق حالٌّ بلا ريب، وقد يكون أقرب بكثير مما يتوهم الناس أو يظنون.
وهذه دعوة للتحذير، فليتدارك الناس ما هم فيه، وما هم عليه، قبل أنْ يفوت الأوان.. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ *} [غَافر: 31]، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [البَقَرَة: 57].
2 - نهي المؤمنين عن أنْ يكونوا كـالذين يسمعون قول الله ولا ينتفعون به.
يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ *وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ *إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ *وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأََسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ *} [الأنفَال: 20-23].
البارز في هذه النصوص القرآنية مخاطبة العليّ العظيم للمؤمنين مباشرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البَقَرَة: 104].. والميزة في الخطاب أنه تقديرٌ من ربّ العالمين للذين آمنوا، وتفضيل لهم على سواهم، من هؤلاء الذين لا ينعمون بشرف هذه المخاطبة، ولا يستأهلونها لأنهم ليسوا بمؤمنين...
أما فحوى الخطاب فإنه أمرٌ بالطاعة لله تعالى: طاعة صدق، وتقوى واهتداء.. والطاعة لرسوله محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): طاعة تصديق، واتباع، وإخلاص، ومن ثَمَّ عدم التولي عنه، أو تركه، وعدم مخالفته في أمر، أو رأي، أو قول، أو سنّةٍ صدرت عنه..
وفي هذا الأمر من الله تعالى، بألاَّ يتولوا، أو يعرضوا عن رسوله، فرضٌ دائمٌ على المؤمنين جميعاً، أينما وجدوا في كل زمان ومكان. فالرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قد بلَّغ القرآن المجيد، وخلَّف سنته الشريفة، وكلاهما - القرآن والسنة - متلازم مع الآخر. فكان الفرض على المؤمنين بعدم الإِعراض عنهما أو تركهما، بل التمسك بهما، فهما العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ويرافق هذا الأمرَ بالطاعة، والنهيَ عن الإعراض، التحذيرُ.. أي تحذيرُ المؤمنين بألاَّ يكونوا كالمشركين، والمنافقين الذين يقولون: سمعنا من «محمد» ما يتلو من الآيات، وما يعظ به الناس!.. وهم - في الحقيقة - «لا يسمعون»، لأنَّ سماعهم يكون سطحياً وظاهرياً، وليس سماعَ تدبّرٍ وانتفاعٍ، أي من النوع الذي يتاح له مجال للنفاذ إلى القلوب، وملامسة النفوس في الأعماق.
أجل، يحذر ربُّ العالمين المؤمنين بألاَّ يكونوا مثل أولئك الناس.. مثل أولئك الذين يقولون سمعنا، بينما هم، في حقيقة الأمر، أبعد ما يكونون عن السماع الذي فيه التدبّر، والاتّعاظ، والعلم بالدعوة، مما يجعل سماعهم خلواً من أي فهم أو اقتناع، حتى صار مثلهم كـالدواب الصمّاء التي تسمع أصواتاً مبهمة، ولكن لا تدرك معانيها، والبكماء التي تطلق الأصوات، ولكنها لا تمتلك لغة النطق والبيان، لأنها بطبيعتها عاجزة عن هذا النطق والبيان، وغير مؤهلة له في خلقها، فكانت من شرِّ الدواب عند الله، أي أدناها مرتبة بين الدوابّ التي خلقها سبحانه وتعالى.
فإذا كانت تلك البهائم والحيوانات عجماء لا تسمع، ولا تعقل، ولا تنطق، ومن أجل ذلك كانت شرَّ الدواب - بالقياس للإنسان - كما وصفها الخلاَّقُ العليم، فما بال الإنسان الذي يدبُّ ويسعى في الحياة، وهو يتمتع بنعمة العقل والإدراك، وبنعمة النطق والإفهام، مثلما يتمتع بنعمة السمع والبصر.. أجل، ما باله في امتناعه عن استعمال تلك المدارك والملكات، في سبل الخير، والحق والصواب حتى يحقق إنسانيته؟ إنه في عدم سماعه للحق، وفي عدم اتباعه الحق، وقول الحق، يتدنَّى إلى مرتبة تلك الدواب ليصير مثلها، وكأنه قد فقد الملكات والخصائص المميزة له - والتي جعلته في الأصل إنساناً - فلم يعد يختلف عن شرّ الدواب عند الله بشيء، إلاَّ بصورته البشرية الظاهرة..
ومثل هؤلاء الناس، الذين خلت نفوسهم من أية استجابة للحق، من المحتوم ألاَّ يرجى منهم خير، ولو علم الله فيهم ذرةً من خيرٍ، أو استعداداً لقبول رشد، لكان هداهم إلى السماع المفيد، الذي يحمل التمييز والانتفاع!.. ولو أسمعهم الله تعالى سماع اليقظة والتدبّر، والاتعاظ، ثم خلاَّهم إلى سبيلهم، كي يأتي الاختيار منهم، فإنهم سوف يُعرضون عن ذلك، لا لشيء إلاَّ عناداً وجحوداً من عند أنفسهم.! ومن أجل ذلك نجدهم يصرّون على الاستكبار، والإعراض عن دعوات الأنبياء والصالحين، فيخرجون بإرادتهم عن طاعة ربّهم، مؤثرين غواية الشيطان، والركض وراء متع الحياة وغرورها، بدلاً من نعيم الآخرة وخلودها، فكانوا لا خير فيهم، وكانوا من الأخسرين مآلاً.
3 - عدم موالاة قومٍ غضب الله عليهم يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ *} [المُمتَحنَة: 13].
إنها دائماً الحال نفسها مع المشركين والكفار، الذين ابتعدوا عن الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، وخرجوا عن عبادته بطواعية واختيار، فباؤوا بالغضب القاتل.. ولذلك ينزل التحذير للمؤمنين مرة جديدة، بألاَّ يتولوا قوماً غَضب الله عليهم.. وعدم موالاتهم تكون بألاَّ يتخذوهم أعواناً، ولا أصدقاء ولا حلفاء بشيء أبداً.. والسبب في ذلك أنه لا يمكن أنْ تأتلف النفوس المؤمنة، مع نفوس المغضوب عليهم من ربّهم، والضالين عن هدايته.
وهذا منتهى الرحمة بالعباد المؤمنين، فالأمر إليهم بألاَّ يتخذوا أعداء الله، وأعداء الإنسانية، وأعداءَ أهل الإيمان أولياءَ لهم، فهذا الأمر يقوم في جوهره على رعاية المؤمنين والحرص عليهم، لأن مثل تلك الموالاة تُفسدُ عليهم دينهم، وتقودهم إلى طريق الشر والباطل، فيقعون في التهلكة التي وقع فيها أصلاً أولئك الأولياء الأدعياء.. ذلكَ أنَّ قوماً غضب الله عليهم يكون مصيرهم ميؤوساً منه، وعاقبتهم سوءاً وبلاءً، فهم قد يئسوا من النجاة في الآخرة - مع يقينهم بها - كما يئس الكفار من أصحاب القبور، فلا ينبئونهم بشيء عن الآخرة، وما إذا كان فيها جنة ونارٌ.. أو كما يئس الكفار الأموات، بعدما صاروا في قبورهم، وعرفوا أن الحساب آتٍ ولا ريب، من أن يكون لهم أدنى حظ في الجنة. أو - ربما يكون المعنى - أن الكفار قد يئسوا، وهم في قبورهم، من العودة إلى الحياة الدنيا مرة أخرى، حتى يسيروا على طريق الهدى، ولكن أنّى لهم العودة إلى الدنيا بعد الموت، وسنة الله في خلقه، ألاَّ يعقبَ الموتَ إلاَّ النشور والحساب، ثم الخلود في الجنة أو في النار.
فما أروع هذا المثل القرآنيّ الذي يدلنا على مصير الذين غضب الله تعالى عليهم، ويبيّن لنا ما قد يحيق بهم من العذاب، بعد أن سدّوا بأيديهم، على أنفسهم، جميع سبل الأمل والخلاص.
4 - دعوة المؤمنين ليكونوا أنصاراً لله، كما كان الحواريون أنصارَ الله
يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحْوا ظَاهِرِينَ *} [الصَّف: 14].
وهذا النداء هو أيضاً نداءٌ مباشرٌ للمؤمنين من ربّهم بأنْ يكونوا أنصاراً لدينه القويم.. علماً بأنَّه - سبحانه - هو القادر المقتدر، وهو القوي المتين، فلا يحتاج إلى معونة أو مساعدة من عباده، لينصروه على أي أمر، لأنه الوليُّ والمتصرّف الذي يعود إليه كلُّ أمر، وكل شأن.. بل وفي قبضته السماوات والأرض، يأمر بما يريد، ويفعل ما يشاء.. ولكنَّه النداء للمؤمنين بأن يكونوا أنصارَ الله باعتناق عقيدة التوحيد، وما تلزمهم به هذه العقيدة من أمانة في أعناقهم، وهي نصرةُ الأنبياءِ والمرسلين، والدعاةِ من بعدهم لحمل دينه القيّم، مشاعلَ هداية في آفاق الأرض، ومناهجَ عمل في مجالات الحياة، حتى يعمَّ الخير والصلاح بين البشر.
وفضلاً عن ذلك فإنَّ هذا النص الكريم يوحي بأنَّ الإيمانَ أمر جوهريّ في الحياة، ولكنه وحده لا يكفي إنْ لم يقترن بالعمل الصالح، وبالجهاد في سبيل دين الله، وبخاصة عندما يدعو الواجب المقدس إلى مثل هذا الجهاد لمحاربة الشر والفساد، والقضاء على الظلم، والفسوق والعصيان.
وهذا الأمرُ الربانيُّ للمسلمين الذين اتبعوا النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) كي يكونوا أنصاراً لله، فيعملوا على نشر دينه الإسلام، إنما يحمل في طياته نفس الدعوة التي أطلقها السيد المسيح، عيسى ابن مريم (عليهما السلام) إلى الحواريين[*]، عندما قال لهم: «من أنصاري إلى الله»؟
«قال الحواريون: نحن أنصار الله»!. فقد آمنّا بك عبداً لله، ورسولاً لبني إسرائيل. وقد آتاك الله الكتاب والحكمة، وجعلك نبياً، وجعلك مباركاً أينما كنت، وأوصاك بالصلاة والزكاة ما دمت حياً.. فهذا ما قلت لنا، وقد صدَّقناه، وآمنا به. وها نحن نجنّد أنفسنا بين يديك لننصرَ دين الله الذي تحمله نوراً وهدىً، ونذبّ عنه، ونحميه من عبث العابثين، وسفاهة المستكبرين والمنكرين..
فأولئك الحواريون هم أصفياء عيسى ابن مريم (عليهما السّلام)، الذين لبُّوا دعوتَهُ إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وإلى نصرة دينه، فكانوا حقاً، أنصاره إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أنَّ بني إسرائيل قد اختلفوا في بعث النبيّ عيسى (عليه السّلام) ، فآمنت طائفة منهم - وهم الحواريون - بأنَّ المسيح عيسى ابن مريم هو عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، وكفرت طائفة أخرى بصدق رسالته. ووقع القتال بين الطائفتين: المؤمنة والكافرة، فأيَّد الله تعالى المؤمنين بالنصر، بما منحهم من قوة وبأس، فأصبحوا على أعدائهم ظاهرين..
ويتكرر نفس المشهد عند بعثة محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، إذ آمنت به فئةٌ قليلة من اليهود، فدخلوا في الإسلام طائعين مختارين، بينما أنكر أكثر اليهود نبوته، فكفروا برسالته، ولم يصدقوه بدعوته إلى الحق.. وكان من تبعة هذا الكفر الذي أظهره اليهود جهراً وعلانية، أنْ نقضوا عهد رسول الله، وآزروا المشركين في عداوتهم له. ثم كان إقدامهم على مقاتلة المسلمين. ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أيَّد المؤمنين بنصره، فكانت لهم الغلبة على اليهود والمشركين في مختلف النزاعات، ومشاهد القتال التي وقعت في تلك الحقبة من حياة الدعوة الإسلامية.
وها هي الحالة اليوم، وبعد انقضاء ما يزيد على ألف وأربعمائة وثمانٍ وعشرين سنة، كمثلها بالأمس، تنعكس بهذه العداوة من اليهود للمسلمين. إذْ يبدو أنَّ الحقد قد ظل يملأ قلوبهم على الإسلام وأهله منذ بزوغ فجر هذا الدين القويم، فجهدوا حتى أقاموا دولةً لهم في قلب العالم الإسلاميّ هي «دولة إسرائيل»... ثم بدأت منذ قيام تلك الدولة - وبتأييد من الغرب النصراني - حروبهم الظاهرة والخفية لقتل المسلمين واستلاب ثرواتهم. بل وما زالوا يعملون، ويستجدون العالم ليمدهم بالمال والسلاح، والدعم في المحافل والمنابر الدولية، وتقديم كل ما يوفّر لهم القوة والتسلط، وهمهم إخضاع المسلمين وإذلالهم، بل واجتثاث مقومات وجودهم من الجذور حتى لا تقوم لهم قائمة!!.. وقد أمكنهم تحقيق الغلبة عليهم في أكثر القضايا وأغلب الظروف، وكل ذلك بفعل مخططاتهم الجهنمية في محاربة الإسلام حتى يبعدوا الناس عنه!.. أما ما أصابَ المسلمين من الضعف والهوان فيكمن في عدم تطبيق الإسلام روحاً وشكلاً، وارتمائهم في أحضان أعدائهم، يلتمسون منهم العون وطلب المساعدة. وهذا ما أبعدهم عن أن يظلوا أنصاراً لله. لا بل إنَّ التخلّي عن فكرة الجهاد، بمختلف أشكاله المعنوية والمادية، هو الذي جعلهم تابعين لمن يريدون شراً بهم وبدينهم، ويخضعون لأوامرهم، وينصاعون للمواقف التي يتخذونها ضدهم بكل صلافةٍ وكبرياء!. فأين هم المؤمنون، بين المسلمين، الذين يدعوهم ربُهم العليّ القدير ليكونوا أنصاراً له: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصَّف: 14] فينهضوا مجدداً من حالة السبات إلى حالة الوعي واليقظة التي ينصرون فيها دينهم القويم؟ وأين هم أولئك المؤمنون الذين يحضّهم القرآن، كتاب الله الخالد، على إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة؟ لا، لن تيأس أمة الإسلام، أمة «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، من رحمة الله، على الرغم من كل ما يحيق بها من ظلم العالم وعدوانيته عليها، ولا سيما في تعهده كلياً لليهود بالنصرة والدعم!. حتى ليبدو هذا العالم وكأنه نسيَ الله تعالى.. ولا بدَّ أنْ تعود أمة التوحيد إلى أصالتها، فتنزل عن أكتافها أثقال التفرقة والانقسام، وأسبابَ الضعف والهوان، لترفع من جديد راية «لا إلهَ إلاَّ الله محمدٌ رسولُ الله» خفاقةً: نيةً وقولاً وعملاً، مستجيبة لدعوة الداعي، وأبناؤها الأبرار يهتفون: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عِمرَان: 52]..
5 - من جاء بالحسنة من المؤمنين فله عشر أمثالها.
يقول الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الأنعَام: 160].
كما أنَّ كلَّ شيءٍ، وكلَّ شأنٍ، وكلَّ أمرٍ محصيّ في اللوح المحفوظ، كذلك كل عمل يقوم به الإِنسان مكتوبٌ، ومحصيّ عليه من قبل ملائكة مكرمين، أوكلهم الله تعالى أنْ يلازموه في رحلة عمره، ويثبتوا كل شيء يصدر عنه من خير أو شر، حتى تكون أعماله حاضرة يوم الدِّين، فيقرأ يومئذ كتابَ أعماله، وتشهد من ثَمَّ جوارحه على ما دُوِّن في هذا الكتاب من الحسنات والسيئات.. وإنَّ من واسعِ رحمة الله بعباده، أنه جلَّ وعلا ذو فضل على الناس، فيما يضاعف للمؤمنين من الحسنات، بحيث تكون الحسنة بعشر أضعافها، فلا يأتي مؤمنٌ حسنةً إلا وتكتب له عشرُ حسناتٍ من مثلها. وهذا منتهى الجود، والكرم والرحمة من ربّ العالمين.
أما السيئة التي يرتكبها الإنسان المسيء فلا تكتب عليه إلاَّ سيئة واحدة. ولا يكون العقاب إلاَّ على قدرها فقط، وهذا منتهى العدل، والإنصاف والرأفة بالعباد.
والحسنات التي يكون عليها الحساب يوم القيامة أكثر مما تُعدُّ أو تحصى، فتدخل فيها النية ما بين الإنسان ونفسه، مثلما يدخل فيها إحياء النفس المحترمة.
وعلى ذلك فإنَّ من الحسنات: الطاعات على أنواعها، وأعمال البر والخير على أي شكلٍ أتت.. فمن قام بصلاة، أو صوم، أو صدقةٍ، أو زكاة، أو حج.. كانت له فيها حسناتٌ.
ومن أعان مسكيناً، أو يتيماً أو أسيراً، ومن أطعم جائعاً، أو سقى عطشانَ، أو كسا عريانَ، أو زار مريضاً.. كانت له في ذلك حسنات.
بل ومن رأف بحيوان فأطعمه، أو سقاه، أو داواه، أو حماه فله فيه حسنات.. وحتى من أبعَدَ حجراً عن طريق فله فيه حسنة.
ومن أجلّ الحسنات وأسماها، اعتناق عقيدة التوحيد، وهدْي الآخرين إلى الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، والجهاد في سبيل الله، والإنفاق في سبيل الله، والإيمان بالغيب، ومخافة الله في السر والعلن.. ولا يقلُّ شأناً عن تلك الحسنات وسمّوها، مما يحبِّبُهُ إلينا الإسلامُ، أو يأمُرنا به من مثل: طلب العلم والتعلّم، وسؤال أهل الذكر، وتقصّد المعرفة، والتفقه في الدين، ومتابعة قراءة القرآن، والقدوة بـرسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من خلال السيرة النبوية الشريفة...
أضف إلى ذلك مكارم الأخلاق كلها مثل: التواضع، والتراحم، والصدق، والإيثار، والرأفة، والحياء، والنظافة، والضيافة، والكياسة، وحسن الصحبة، وحسن المعشر، وعدم النميمة، وعدم الغيبة، وكراهية الكذب، وكراهية الفسق، وكراهية الفساد.. فهذه كلها من الحسنات التي تكتب للإنسان..
والحسنات جميعاً هي توفيق من الله تعالى، يهدي إليها عباده المؤمنين الصادقين، والعابدين الطائعين..
فكان جديراً بالإنسان أنْ يدرك ما هي الحسنات، صغيرها وكبيرها.. ولو علمها الإنسان لعَبَد الله ربه حق عبادته، لأنه (جلَّتْ عظمتُهُ) أهل للعبادة كما تهدينا إليه صفاته الإلهية، وتدلنا عليه أسماؤه الحسنى. ثم إنه سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى ما يمدُّ به عبادَهُ، وخلْقَهُ - حتى العاصين والمنكرين - من نعمةٍ، وعطاءٍ وفضلٍ، فإنه يجعل لهم من الحسنة الواحدة التي يأتونها في الدنيا عشر حسناتٍ يوم الحساب: فمن قام بصلاة حسبت له عشر صلوات، ومن صام شهراً حسب له عشرة أشهر، ومن أنفق درهماً حسب له عشرة دراهم.. وهكذا كل حسنة مادية أو معنوية يضاعفها الجواد الكريم بعشر أمثالها، بينما بالمقابل لا يجازي على السيئة إلا بـمثلها أي بقدرها، دون زيادة أو نقصان.
ولو شاء الغفور الرحيم أنْ يغفر السيئات، لامّحت جميع ذنوب المؤمنين، ولكنه العدل الإلهيّ الذي جعل السيئة بمثلها فقط، لئلا يشعر المسيءُ، بأنه ظُلِم أو لحق به إحجافٌ، وهذا منتهى الرحمة، من ربّه الكريم، إذ لو شاء ربُّنا أنْ يحسب السيئة - مثل الحسنة - بعشر أمثالها، فمن يقدر من عباده على معارضة أمره، أو الاحتجاج عليه، فهو الخالق القادر، وهو المقدِّر والمدبّر، وإليه يرجع الأمر كله فلا شأن لعباده بتقديره أو بقضائه، وليس لأحدٍ من عباده أنْ يعترض، ولكنه سبحانه وتعالى قد وَسِعَ عبادَهُ رحمةً ومغفرَةَ، فجعل الحسنة بعشرة أمثالها، والسيئة بـمثلها فقط. فلا ظلم لعمل، ولا ضياع لحق. فـالله تعالى منزَّه عن الظلم، كما وصف نفسه في كتابه المجيد، وكما يعرفه عبادُهُ الصالحون. وهو سبحانه يكره الظلم، ويتوعد الظالمين بالعقاب الشديد، فهل يعقل أنْ يكون هناك أيُّ ظلمٍ للعباد إذا جعل ربُّهم جزاء السيئة مثلها، وجزاء المعصية مثلها، وجزاء الذنب مثله؟ حاشَ لله أنْ يكون في عدله ظلم، وهو الذي حرَّم سبحانه وتعالى على نفسه الظلم..
ولو أدرك العبد هذا العدل الإلهيّ على حقيقته، لبادر، ومن ساعته، إلى الإتيان بالحسنات حتى تضاعف له أضعافاً مضاعفة.. بل ولأبعد الظلم عن نفسه بصورة قاطعة، ولم يظلم غيرَه ولو مقدار شعرة واحدة، وبذلك يكون له الجزاء الأوفى يوم الحساب، وهذا ما أشار إليه أبو ذر الغفاريّ (رضي اللَّه عنه) بقوله: «حدَّثني الصادقُ المصدَّقُ أنَّ الله تعالى قال: الحسنةُ عَشْرٌ أو أزْيَدُ، والسيئةُ واحدةٌ أو أغْفَرُها»[*].
الفقرة الثانية - ظلم الكافرين لأنفسهم وجحودهم بأنعم الله
ونردد، ونكرر بأنَّ كلَّ شيء في الكون يدل على حقيقة وجود الله تعالى، وعلى أنه هو الخالق العظيم، والمدبر الحكيم. ولكنَّ أهل الجهل والغفلة أنكروا أنْ يكون للسماوات والأرض إلهٌ واحد يسيرهما وفق السنن التي قدَّرها، وجعلها ثابتة لا يطرأ عليها أي تبديل أو تحويل. كما استكبروا أنْ يكون للعالمين - من الإنس والجان - ربٌّ واحد، يرقبهم من عليائه، ويحصي عليهم كل حركة أو سكنة، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وبسبب ذلك الجهل، والإنكار والاستكبار كانت عبادة أهل الكفر والضلال لآلهةٍ متعددة هي بدعة من خيالهم، أو تجسيد من صنع أيديهم، دون أنْ يسألوا نفوسهم، التي في صدورهم، إنْ كانت تقبل حقاً بعبادة مثل تلك الآلهة المزعومة، التي ليس لها أدنى قدرة على فعل شيء، بل ويستحيل عليها أنْ تفعل أي شيء!. ومِثْلُها أيضاً الآلهة الوهمية التي تصوّروها موجودةً في السماء، وجعلوها نوعاً من الغيب بينما هي في الحقيقة لا تعدو أن تكون ضرباً من الخيال الذي لا يمت إلى الواقع بصلة، والأمثلة عليها تلك الآلهة التي كان اليونان أو الرومان وغيرهم من الأمم الغابرة، يؤمنون بها.. ومثلها الكواكب التي عبدها الناس. لأنهم رأوا فيها قوىً تفوق قواهم، وأَلَقاً يسيطر على مداركهم!.. ومثلها كذلك تلك الأشجار، أو الحجارة، التي نحتوها تماثيل بأيديهم، ثم جعلوها آلهة، مع أنهم يرون بأم العين، ويدركون بالواقع المحسوس أنها مجرد جوامد لا حركة فيها، ولا وجدان لها، وهي لا تنفع ولا تضر بشيءٍ!..
أما الآلهة البشرية التي قدسوها مثل النمروذ في العراق، أو الفرعون في مصر، أو الأمبراطور في روما، أو في بلاد الصين وفارس.. أو غيرها من البلدان التي عبدت أرباباً متفرقة من البشر، فلم يكن لها من الألوهية إلاَّ الاسم، بينما في الواقع تجسدت بأشخاص مثل سائر الناس، استطاعوا بفعل ما يمتلكون من سطوة، وقدرة ونفوذ أنْ يبغوا على الآخرين من بني جنسهم، وأنْ يحكموهم بالظلم والطغيان، فانقادوا لهم، وأذعنوا لسلطانهم.. وذلك كله دون أن يكون لأولئك الأشخاص، الذين نصبوا أنفسهم آلهة، أدنى قدرة على الإتيان بشيء يخرجهم عن صفتهم البشرية ضعفاً، أو يجعلهم فوق مستوى البشر قداسةً!..
... فكل تلك العبادات كانت ضروباً من الكفر، والشرك، والجهل، والضلال.. لأنها عبادة الطواغيت والأهواء البشرية، أو عبادة الانحراف عن الحق، تماماً كما هي اليوم عبادة المال، أو عبادة الأوثان، أو اعتناق الآراء والنظريات الفلسفية الجاحدة، وغيرها من المعتقدات المادية، والشيطانية التي تخالف الفطرة البشرية، وتجافي الطبيعة الإنسانية، لشدة آثارها السيئة على مسيرة الإنسان في الأرض..
ومن هنا كان العجب في الإنسان عندما يعتنق هكذا عقائد زائفة وباطلة، ثم يجعلها موضع عبادة وتقديس!.. فكم يكون العمى ضارباً على بصر وبصيرة من ينكر حقيقة وجود الله تعالى، ويتّخذ من دونه آلهةً حتى يوقع نفسه في الكفر، أو الشرك، أو الإلحاد، أو النفاق؟!.. أفلا يرى اسمَ الله موقعاً على كل صفحة من صفحات الكون، وآياتِهِ باديةً في كل مخلوق من مخلوقاته، وآثارَهُ مرسومةً على كل صغيرة وكبيرة في الوجود كله؟
وكم يكون الضلال قوياً في النفوس حتى لا يؤمن الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما فعلت القرون السابقة، وذلك عندما وقف أهل الكفر والشرك - وفي جميع عصور الظلم والإجرام - في وجه الأنبياء والمرسلين الذين كانوا يُبعثون من ربّ العالمين بالرسالات الهادية، والتعاليم الصادقة.. وقد ضرب الله تعالى المثل على فعالهم الباطلة، وأكاذيبهم المضلّلة بما دأب عليه آل فرعون ومن قبلهم، كما يبيّنه قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الأنفَال: 52]، وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ *} [الأنفَال: 54]...
وكما ضرب الله تعالى المثل بآل فرعون على الذين كفروا، وكذَّبوا بآيات الله، فكانوا ظالمين، كذلك ضرب الله تعالى المثل بـ«عادٍ» التي لم يُخْلَق مثُلها في البلاد، إذ كان طول الواحد منهم أكثر من مائة ذراع، و«ثمودَ» الذين حفروا الصخور في واديهم واتخذوها بيوتاً لهم، و«فرعون» ذي الأوتاد الذي كان يأمر أنْ يوتدوا قضبان الحديد أو الخشب، فإذا أراد أن يعذب أحداً شدّوا يديْه ورجلَيْه إلى أربعة أوتاد.. فأولئك ضرب الله تعالى بهم المثل على ما طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ *الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ *وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ *وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ *الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ *فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ *} [الفَجر: 6-14].. و لم يكن الطغاة في مكة، ومن آزرهم من أهل الجزيرة، أفضل من تلك الأقوام، فيما أنكروا على محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) نبوته، وبعثه رسولاً للناس كافة، وتكذيبهم بآيات القرآن التي كان يتلوها عليهم!.. فجاء القرآن المجيد يبين الآثام، والجرائم التي كان يرتكبها الطغاة، والمفسدون في البلاد في أي عصرٍ عاشوا، ولأي جماعةٍ بشريةٍ انتموا، من خلال الأمثال التي تصور أحوالهم وأوضاعهم بصورة مجملة، أحياناً، أو بصورة مفصّلةٍ، أحياناً أخرى. ومن قبيل تلك الأمثال القرآنية:
1 - ادعاء الكافرين بأنهم لو يشاؤون لقالوا مثلَ آياتِ القُرآن
قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *} [الأنفَال: 31].. تلك هي الكذبة التي اختلقوها حتى كادوا ليصدّقوها، إذ كان النضر بن الحارث يأتي من بلاد فارس وغيرها بالكتب التي تتحدث عن الأساطير والخرافات الموهومة، فيجمع الناس من حوله، ويحدثهم بها، ثم يقول لهم: أرأيتم إلى الآيات التي يتلوها عليكم «محمد»، إنْ هي إلاَّ أساطير الأولين!.. ونحن الأسياد في قريش، ولغتنا لغة الضاد، قد سمعنا ما يتلوه علينا من الآيات، ولو نشاء لقلنا مثلها..
ولكنْ ألم يكونوا كاذبين في قولهم هذا؟! بلى، وأول ما يدحض أكاذيبهم تلك أنهم جرّبوا كثيراً، وجمعوا حولهم عتاة الفصاحة والبلاغة، ولم يقدروا على أنْ يأتوا بأي شيءٍ من مثل القرآن!.. فكانت كل تخرّصاتهم مجرد افتراء على هذا القرآن المبين، الذي أنزله ربّ العالمين على محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقل العباد من مآسي الكفر والضلال إلى رحاب الإيمان واليقين، بما يملأ النفوس رجاءً وطمأنينة، ويشيع في البلاد الصلاح والإصلاح..
ولم يكن ذلك الصلف والتعنّت من المشركين في شبه الجزيرة، وفي مكة خاصة، وذلك الدهاء والمكر من اليهود، الذين كانوا يغذّون روح الاستكبار الأجوف في نفوس أولئك الطغمة من قريش، وقد تحالفوا جميعاً، سرّاً وعلانيةً، على العداوة للنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)!. أجل، لم يكن ذلك إلا حلقةً من حلقات التآمر، ومناورةً من المناورات التي ليس لها هدف إلاَّ صرف الناس عن آيات القرآن.. في حين لو كانوا صادقين مع أنفسهم، ومع ما عندهم من باعٍ في اللغة العربية، لأقرّوا بأنَّ هذه الآيات إنما تتنزَّل حقاً من الله، قولاً مبيناً وذكراً حكيماً لمخاطبة النفس البشرية كي يجلوها من الصدأ الذي علق بها، وينقيها من الأدران والخبائث التي غلبت عليها، فيعود الإنسان إلى فطرته السليمة، ويتشوَّف الحق الذي يكمن في أعماقه، فينقاد طوعاً إلى الإيمان بـالله، ويهتدي إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم في الدنيا، والآخرة على السواء.. وهذا بالفعل ما كان يؤرق أولئك المشركين، لأنهم وجدوا في الدعوة للإيمان بالإسلام الذي يقوم على شهادة أنْ «لا إلهَ إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله»، دعوةً لطرح فكرة الآلهة المتعددة، واعتناق عقيدة ربانية تؤسس لعهد جديد في البشرية، قوامه الإخلاص لله الواحد الأحد، والتصديق ببعث «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) رسولاً لكافة الناس.. إذاً فالدخول في الإسلام واعتناق عقيدة التوحيد إنما يُمثِّل قبل كل شيء إعلاناً للتمرد على سلطان البشر الجائر، والخروج من حاكمية العباد جملة وتفصيلاً، والفرار إلى الله تعالى، وإلى عدله في عباده. وهذا ما لم يكن شياطين قريش يريدونه، لأنَّ من شأنه أنْ يبدل أوضاعهم الجاهلية، وأنْ يُذهب بكل ما يملكون من السلطان، أو النفوذ الذي أولاهم السيادة على كل قبائل شبه جزيرة العرب، فضلاً عن أنَّه يحرر الضعفاء والفقراء من استغلالهم، واستعبادهم لهم!.. ولذلك كانت حرب قريش، ومن حالفها من اليهود، والقبائل الأخرى ضد النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وضد الإسلام على ذلك النحو من القذارة، وهي تتوسل لها مختلف الأدوات، ولاسيما المكر بالنبيّ، ذلك المكر الذي اعتمدوه منذ البداية، ومن ثم التمويه على عامة الجماهير من العرب بالكذب والخداع، كما نلاحظ في هذه الجولة من ادعائهم بالباطل، أنهم قادرون، لو يشاؤون، قولَ مثل هذا القرآن..
ولعلَّ تلك الاتجاهات لدى كبار المشركين في مكة، هي التي جعلتهم دهاة في الكذب، ودهاقنة في خداع الناس، وقد برز من بينهم ذلك الخبيث، النضر بن الحارث.. فقد كان من عادته الاتجار مع الحيرة، فكان يشتري هناك الكتب التي تحمل أخبار العجم، وأخبار غيرهم من الأمم، وجلها من أساطير الأولين، ثم يعود، ويحدث بها أهل مكة، موهماً إياهم بأنَّ ما يتلوه «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من آيات قرآنية إنما هو مأخوذٌ من تلك الكتب. وكانوا يصدقون النضر، بل ويجعلون الناسَ يصدقونه بسبب الدوافع الخبيثة التي كانت تطغى على نفوسهم، والتي فرضت عليهم تحريف الحقائق من أجل تكذيب النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وإنكار الوحي..
والحقيقة أنَّ النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ما كان ليبلّغ آيةً واحدةً إلا عن ربّه تبارك وتعالى، وما كان ليقرأ على الناس إلا قول الله عزَّ وجلَّ. وكان بإمكان أهل البلاغة والفصاحة من قريش - وهم يومئذٍ كثيرون - أنْ يجروا مجرد مقارنة بسيطة بين ما يتلوه عليهم محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من آيات القرآن، وبين ما يجلب لهم النضر بن الحارث من كتب الأساطير والخرافات، حتى يجدوا الفرق بعيداً، والبون شاسعاً بين حقائق القرآن، وخرافات تلك الكتب التي يحملها النضر، لأن القرآن - ولا ريب - هو قول الله الحق، فلا يمكن لأقوال البشر أنْ تدانيه مهما علت في الفصاحة والبلاغة والحكمة، لا سيما وأنَّ القرآن سمته الإعجاز الذي تحدَّى به الثقلين، والذي لا يمكن لأي كتاب غيره في الأرض أنْ يتصف بإعجازه.. إذاً فكيف يجوز لمشركي قريش، أو غيرهم، أنْ يقولوا: قد سمعنا آيات القرآن، لو نشاء لقلنا مثل هذه الآيات؟! إلاَّ أنْ يكون قولهم محض كذب وخداع، وتلك هي الحقيقة.. فقد أرادوا أن يطفئوا نور القرآن - الذي هو من نور الله - بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.. وها هو القرآن ما يزال نوراً مبيناً يضيء القلوب، ويهدي النفوس، وما يزال المعجزة التي فرضت نفسها على الرغم من أنوف المدعين في مشارق الأرض ومغاربها. ولكن الشرك طغى على النفوس، واستمرأ عُتُوَّهُ أهلُ البغي والطغيان، فكان لا بُدَّ أنْ يغلب عليهم شركهم من أجل الحفاظ على مصالحهم.. وهذا لا يكون إلا بمحاربة القرآن، فانبروا لتلك الحرب، حتى انتصر عليهم القرآن في النهاية.
وكذلك كان الوليد بن المغيرة من بين أولئك الكفار الماكرين في مكة، الذين أجمعوا على إسكات صوت الحق الذي يقض مضاجعهم، إذْ لم يجدوا بعد نقاش طويل في دار الندوة خيراً من الوليد يدفعونه للذهاب إلى النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) كي يفاوضه على التخلي عن دعوته، مقابل أنْ يقدموا له ما يريد من المال والملك والسلطان.. فلما جاءه، أخذه الرسول الأعظم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) باللين، والموعظة الحسنة، وهو يتلو على مسامعه من آيات القرآن ما يحمل عظيم المعاني والدلالات التي تقشعر لها الجلود، وتوجِفُ منها القلوب، مما أخرَسَ الوليدَ، وجعله عاجزاً عن التفوه بأية كلمة حول المهمة التي كلف بها، إذ لم يُبدِ - وهو بين يدي رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) - أية معارضة للقرآن، ولا للدعوة التي يحملها النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، بل ظل ساكتاً، وملء قلبه الوجل والخوف، حتى قام من مجلسه، وذهب مسرعاً إلى المتزعمين من قريش، ليخبرهم بحقيقة ما جرى معه، وعدم جرأته على مفاوضة «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم).. وكما كان منتظراً، فقد واجهوه بالاستنكار، واتهموه بالجبن على موقفه، فانبرى أبو جهل ينفث حقد غضبه، وهو يزعق كالغراب في وجه الوليد قائلاً له:
- يا عمّ، إنَّ قومك قد جمعوا لك المال، وأعدّوا لك النصرة لتذهب إلى «محمد» وتغريه كي يتخلَّى عن دعوته، أو لتفنّد آراءه، وتدحض افتراءاته... ثم جئت لتقول إنك خرجت من عنده دون أنْ تُحاجَّه بشيء، أو تفاوضه على السكوت عن أمره؟!
فقال له الوليد: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً!..
فقال له أبو جهل: فقل في «محمد» قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وكاره!.
فقال له الوليد: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر، ولا برجزه أو قصيده، فوالله ما يشبه الذي يقوله «محمد» شيئاً من هذا. ووالله إنَّ لقوله لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنه لمنيرٌ أعلاه، مشرقٌ أسفلُهُ، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته..
وهذا ما جعل أبا جهل اللعين ينتفض مثل الطير المذبوح، وهو يقول للوليد: وهل نتركه وشأنه؟ فوالله لا يرضى عنك قومك حتى تقول في «محمد»!..
قال الوليد: فدعني أفكر...
وجلس الوليد بن المغيرة يقدح زناد فكره حتى يقولَ بشأن «محمد» قولاً ترضى عنه قريش.. ويصفُ الله تعالى - وهو الذي يعلم ما في صدور الناس، ويعلم ما يبدون وما يخفون - ذلك القرشيّ الماكر، بآياتٍ بليغةٍ، فيها منتهى الدقة والتصوير لتعابير وجهه التي تدل على ما في نفسه من انفعال، وما في قلبه من حقد على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ومقدارَ التأثّر الذي يبدو عليه، وهو يقدح زناد فكره بحثاً عما يقوله ويوافق أهواءه، وأهواء قريش، حتى ولو خالف بذلك حقيقة ما وجده في النبيّ، وما سمع منه من بليغ القول، وعظيم معناه. فجاء وصفه في هذه الآيات المبينة التي تظهر تلك الحالة للوليد بن المغيرة بقوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر} [المدَّثِّر: 18-25].
إنه حكم الله الكبير المتعال على ذلك الكافر اللعين بالقتل. ثم بالقتل - مكرراً - لما فكَّر وقدّر من التقوّل على القرآن المجيد بما ليس فيه، ومن ادّعائه زوراً وكذباً بأنَّ الآيات التي يتلوها «محمد» على الناس إنما هي سحرٌ مأخوذ من أقوال الساحرين.. ومثل هذا العقاب لذلك الكافر الحاقد، الوليد بن المغيرة، إنما كان لعلمه - تمام العلم - أنَّ القرآن ليس من عند «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وليس من عند أحدٍ من الناس، لأنَّه ليس لبشر أنْ يقول مثله، خصوصاً وأنَّ الوليد قد شهد هو على نفسه بأنه يعرف لغة العرب: صحيحَها من مدخولها، وبليغَها من ركيكها. وقد أقرَّ - أمام أغلظ المشركين وأشدهم عتواً من بني قومه - بأنَّ ما سمعه من محمد لقولٌ «يعلو وما يعلى عليه»، فكيف يجيز لنفسه أن يتنكَّر لهذه الحقيقة، وأَلاَّ يعلن على ملأ قريش أحقية القرآن، وصدق «محمد»، وأن يقول بخلاف الحق الذي عرفته نفسُهُ؟!.
وفي تصوير أمارات وجهه، وحركاته، يبرز ذلك الحاقدُ حائراً، مرتبكاً، وكأنه كلما لاحت له فكرة نظر إلى القوم من حوله يريد أنْ يقولها، ثم لا يلبث أنْ يتركها، ليعود من جديد إلى العبوس والتجهم، مع ما يرافق عبوسه من انقباض وكلوح.. ثم يغرق مرة أخرى في التفكير، ثم يعبس ويبسر، فيزيده ذلك انقباضاً وكلوحاً.. ويظل على هذه الحالة من التأزُّم في نفسه حتى يجد الفكرة الخبيثة، التي تجعله مُدْبِراً عن الإِيمان، مستكبراً عن اتباع الحق، فينطق بكفره وكذبه، مُدَّعياً أنَّ ما يقوله «محمد» إنْ هو إلاَّ سحر يؤثر عن السحرة، إنْ هو إلا قول البشر!!..
ذلك كان تقدير الوليد بن المغيرة، كما قاده إليه تفكيره. ولكنَّ حكم القادر المقتدر كان، في علمه السابق، قد صدر عليه بالقتل، وقتله سوف يكون، كما أخبر العليُّ العظيم بقوله الحق: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ *لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ *لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ *عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ *وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ *} [المدَّثِّر: 26-31].
أجل إنه حكم الله الحق، من الحق تبارك وتعالى، على كاذبٍ من عتاةِ قريش. لأنَّ كُفرَهُ بالقرآن كان صُراحاً، وتكذيبه لنبيّ الله كان بَواحاً.. وإنه الحكم الذي يستحقه كل مكذب بآيات الله تعالى، وبقرآنه المجيد، ولا يؤمن بنبوة رسوله الكريم محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام).
وليس أعظمُ، ولا أشدُّ بلاءً على الكافرين والمشركين، الذين جاءهم الحق من ربهم فكذبوه، من العذابِ الأليم يخلدون به في نار جهنم المحرقة. ذلك العذابُ الذي يشبِّهه القرآن الكريم بالقتل، تدليلاً على شدته وقسوته، لأنه ليس شيء أقسى على الإِنسان من القتل. وما توكيد الآيات على نوع الجزاء إلا لتبيان ماهية جهنم ذات الشأن العظيم، التي لا تبقي على شيء، ولا تذر شيئاً يدخل فيها إلاَّ جعلته شِواءً، إذ تلتهمه التهاماً، لتحيله وقوداً لنارها، ولكن من غير أنْ يستحيل فيها إلى رمادٍ وينقضي، أو أنْ يحترق بجمرها وينتهي، بل كلما نضج جلده عاد كما كان، وعاوده عذاب القتل حرقاً، كـأشد ما كان.
أجل إنَّ نار جهنم تشوي المفترين على آيات الله، وعلى رسله، كذباً وعناداً، إذ يتقلّبون فيها بعذاب دائم، لا يحول ولا يزول.. ومن أجل ذلك كان لسقر (جهنم) ذلك الشأن العظيم وهي تقتل الكافرين على ذلك النحو الأليم!!..
وتبيّن الآيات الكريمةُ أنَّ الله تعالى جعل على جهنم تسعة عشر خازناً، أي حارساً. وقد سمَّاهم - سبحانه - أصحابَ النار، وهم من الملائكة. أما لماذا جعل عدتهم تسعة عشر، بهذا العدد المحدد، بدون زيادة أو نقصان، فلكي تكون هذه العدة فتنةً للذين كفروا، بحيث يتيهون في البحث عن معرفتها، فلا يقعون إلا على القلقِ والتخبُّط.. وقد برزت فعلاً تلك الفتنة للكفار، بعد نزول هذه الآيات المبيّنات؛ فمنهم من أخذها على محمل الجد، وراح يتفكَّر في معناها، حتى أشقته، دون أنْ يبلغ ماذا أرادَ الله تعالى بها مثلاً؛ ومنهم من أخذها على محمل الهزء والسخرية لضآلة العدد، إذ اكتفوا بظاهر النص، دون عناء التفكير في مقاصده؛ ومن هؤلاء كان أبو جهل الذي قال: يا معشر قريش!.. يزعم «محمد» أنَّ جنود الله الذين يعذبونكم في النار، هم تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عدداً، فهل يعجز مئة رجل منكم عن رجل منهم؟
وقال آخر من قريش يُدعى أبا الأشد: يا معشر قريش! لا يَهُولَنّكم التسعة عشر، أنا سأدفع عنكم بمنكبي الأيمن هذا عشرة، وبمنكبي الأيسر تسعة.. مما يتبيّن معه بوضوح أنَّ عِدَّةَ خزنة جهنم إنما كانت فتنةً للكفار والمشركين، لأنهم احتاروا في تفسيرها، وتحديدها، بل وأخذتهم الخشية والرعب من فكرة المصير في الآخرة التي يتهددهم بها القرآن، وهو يصوّر لهم «سقر» وما سوف تفعله بالبشر الذين ينقادون إليها راغمين..
هذا من ناحية مشركي مكة..
أما أهل الكتاب، فإنَّ ذكر أصحاب النار، وتحديد عدتهم لم يزدهم إلا استيقاناً بأحقية القرآن، لأنه يثبت ما جاء في كتبهم السماوية، ولعلَّ في هذا ما يجعلهم يعرفون الحق فيتبعوه، ويصدقون بعث النبيّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) فيدخلوا في الإسلام، ويعتنقوا عقيدة التوحيد..
وأما المؤمنون، فإنهم لا يتوقفون عند العدد، لأنهم يعلمون أنَّه الحق من ربهم، بل ينصرف تفكيرهم إلى تصوّر شأن جهنم العظيم، وما أُعِدَّ فيها للكافرين من العذاب الأليم، بينما هم يعدُهم ربهم جناتِ خُلدٍ عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين، فيزدادون إيماناً واحتساباً.. ثم إنَّ هذا العدد لا يرتابُ ولا يتخوَّف منه أهل الكتاب، ولا المؤمنون، بل يقولون: سبحان الله العليم الحكيم، الذي أوكل إلى ملائكته بتكاليف عظيمة لا يقدر عليها البشر، ولا يحتملون القيام بها... في حين أن الذين في قلوبهم مرضٌ، من أهل الشك والنفاق، ومن الكافرين يقولون: ماذا أرادَ اللَّهُ بهذا العدد مثلاً؟ مما يعني أنَّ عدد الملائكة، أصحاب النار يحيِّرهم ويجعلهم ضالّين عن الحكمة، التي يريدها الله تعالى من هذا المثل، بل وفي قولهم هذا ما يؤذن بحالة الضياع والضلال التي أوقعوا بها نفوسهم.. كذلك، أي مثل الفتنة التي توقعها عدة الملائكة في نفوس الكافرين، فتضلّهم عن حكمتها، ومثل الاطمئنان الذي يداخل قلوب المؤمنين فيزدادون إيماناً، كذلك يضل الله تعالى من يشاء، ويهدي من يشاء.. أما عدد جنود الله، سواء الذين كلفوا بجهنم، أو بغيرها من شؤون الآخرة، أو الذين كلفوا بالعباد، وبشؤون الدنيا كافة، أو الذين أُعدُّوا لكل أمر يشاؤه ربَّ العالمين فلا يعلمهم، ولا يعلم عددهم إلاَّ هو سبحانه وتعالى. وما هذه الأمور جميعاً - سواء جهنم، أو خزنتها، أو فتنة الكافرين، واستيقان أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين - إلاَّ ذكرى للبشر، من شأنها أنْ تستوقفهم للتفكّر والتدبّر..
فإذا سأل معترض: ولِمَ ورد القول: {وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} [المدَّثِّر: 31] مع أن الاستيقان، وازدياد الإِيمان يدلاَّن على انتفاء الارتياب؟ قيل له: لأنه إذا حصل لهم إثبات اليقين، ونفي الشك، زادهم ذلك تأكيداً، وثباتاً على دينهم، وكان أكثر نفعاً لسكينة نفوسهم، وراحةً لقلوبهم، فيكونون بخلاف المرتابين، والمشككين، والكافرين الذي تتآكل نفوسهم بفعل الريبة والجهالة، وتضعف كياناتهم بتأثير النفاق والضلال، وكلها فتنة وابتلاء..
وإذا سأل آخر: ولِمَ كان ذكر المنافقين، الذي وصفهم الله سبحانه و{الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المَائدة: 52] مع أنَّ الآيات أنزلت في مكة، ولم يكُ فيها نفاق، كما ظهر في المدينة؟ قيل له: إنَّ النص يهدف إلى بيان حال أهل الريب، والشك والذبذبة في كل مكانٍ، ممن لا يُقبلون على الإِسلام، فهؤلاء يظلون فريسة للفتنة التي تؤدي إلى العقد والأمراض النفسية، فتكون هذه النصوص من القرآن الكريم - فوق أنها تدل على أحوالهم - من أهم العوامل التي تبعث في نفوسهم ميلاً إلى فهم الإِسلام، ومن ثَمَّ للدخول في رياضه الغنّاء، وبذلك يتخلصون من عقدهم، ويشفون من أمراضهم، وذلك كله من هدى الله، إن الله يهدي من يشاء..
2 - ليس أظلم مِمَّنْ قالَ سأُنزِلُ مثلَ ما أنزل اللَّهُ من كتاب
يقول الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعَام: 92 - 93].
تبدأ هذه النصوص الكريمة بالتذكرة بحقيقة القرآن، وبأنه كتابٌ، أنزله الله تعالى، مباركاً، لتعمَّ بركاته الأرض وأهلها؛ وأنه مبارك أيضاً بتصديقه الكتب السماوية التي أنزلت من قبله هدىً ورحمةً.. وقد أنزله الله العزيز الحكيم على رسوله محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لينذر أم القرى - مكة المكرمة - حيث كان يعيش، وحيث نزل عليه الوحيُ وباعتبار أنَّ مكة قد جعلها الله فوق محور الأرض، أو تحتها نقطة الارتكاز للأرض، لينطلق منها الإنذار إلى مَنْ حولها من أهالي مناطق شبه الجزيرة العرب، ثم لتنطلق الدعوة إلى الإسلام فتصل المدى الذي يريده الله تعالى، ولتبلغ أسماع الناس جميعاً في مختلف أطراف المعمورة..
فالبدء بإنذار أم القرى ومن حولها له دلالات كثيرة، وأبرزها:
- أنَّ الكعبة الشريفة، هي أول بيت بني لعبادة الله في الأرض، فكانت أمَّ المساجد التي يؤمها المسلمون في المشارق والمغارب، بل وأمَّ أماكن العبادة كلها حيث يتعبَّد الناس لله ربِّ العالمين..
- أنَّ إبراهيم وإسـماعيل (عليهما السّلام) قد أعادا رفعَ قـواعدِ هـذا البيت العتيق، بأمر من ربهما، لمكانته المقدسة عندَهُ عزَّ وجلَّ.
- أنَّ محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) خاتم النبيين هو من أم القرى، وقد بعث نبياً فيها، عندما نزل الوحي عليه وهو يتعبَّد في غار حراء، الذي يقع على أعلى قمة جبل النور، من أرض مكة المكرمة.
- أنَّ الكعبة - أعزَّها الله - وكما أثبت أهل العلم تقع على محور الأرض، التي تدور حول محورها في حركتها الدائمة ليل نهار، وعلى مدار السنوات، وإلى أنْ يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. فكان حقاً أنْ تكون أم القرى هي نقطة الابتداء للدعوة إلى دين التوحيد، كما أراد الله تعالى، عندما أُنزل القرآن على قلب محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في تلك البقعة المباركة من الأرض، فانبرى يبلّغه للناس، ويدعوهم للإيمان به، وبحقيقة ما يخبر عن الأمور الغيبية - مثل الآخرة - أو بما يأتي به من الفرائض - مثل الصلاة - أو غير ذلك من القضايا والأحكام والمواضيع والشؤون التي يتناولها القرآن، وبحيث يعتبر الكتاب الجامع الشامل الذي لا يترك شاردة ولا واردة إلا وذكرها بصورة مفصّلة أو مجملة كما شاءَ ربنا العزيز الحكيم. فالذين يؤمنون بالآخرة أنها حق، وأنَّ يوم القيامة حق، وأنَّ الحساب حق، يؤمنون بهذا القرآن الذي يقدم لهم البراهين والأدلة على حقيقة الآخرة بما يطمئن قلوبهم إلى الإيمان بها. ولذا تراهم يحافظون على صلواتهم، وعلى فرائضهم الأخرى جميعها، خوفاً من عذاب الآخرة.
وعلى خلاف هؤلاء المؤمنين، فإنَّ من الناس من يسعون ظلماً في العباد بشتى أنواعه، ومنها: الكفر، والشرك، والمعصية، وبخس الناس أشياءهم.. فكل من يكون لديه واحدة من هذه المظالم، أو ما يماثلها، فهو ظالم.. ولكن ليس أظلم ممن افترى على الله بتكذيب آياته، وزعم أنَّ القرآن غير منزل من عند الله تعالى، كما يدّعى زوراً وظلماً كثير من المشركين والكافرين، وهم يقولون بأنَّ القرآن مفترىً! ولكنَّ الله عزَّ وعلا، يكذّب كل أباطيلهم وتزويرهم للحقيقة، أي الحقيقة الثابتة والمطلقة، وهي أنَّ القرآن هو كتاب الله، وقد أنزله هدى ونوراً، وإصلاحاً لحياة العباد، ولذلك لا تكتفي نصوص القرآن بتكذيب أهل الباطل، بل وتتحداهم أنْ يأتوا بسورة من مثله، على وجه الافتراء، إنْ كانوا يستطيعون ذلك، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ *} [يُونس: 37-39]..
وكذلك ليس أظلم ممن افترى على الله بادعاء النبوة، وقال بأنه أوحيَ إليه، ولم يوحَ إليه بشيء.. وكذلك ليس أظلم ممن افترى على آيات القرآنِ، المنزلة على رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وما لها من جليل القدر لأنها كلام الله العلي العظيم، وقال بأنه سينزل مثل ما أنزل الله من تلك الآيات المباركة التي أعجزت الثقلين على أن يأتوا بمثلها!...
فكل من يفعل شيئاً من ذلك يعدُّ عند الله كذَّاباً ومفترياً، وهو بالتالي أشدّ الظالمين، مع ما يحمل هذا الظلم من كراهية ومقت لصاحبه، إن مِنَ الله رب العالمين، وإن من عباده الأبرار المؤمنين. فـالله سبحانه وتعالى يمقت الظلم، وقد حذر منه كثيراً، ونهى عنه نهياً جازماً في كتابه المبين. ثم أقر عباده، وخاصة أولئك الضحايا الذين يقع عليهم الظلم، أن يثوروا في وجه الظالمين، وبالفعل فإنَّ الثورات الكبرى إنما كانت بسبب الظلم والطغيان، وظهور الفساد في دنيا الناس، والتاريخ البشري خيرٌ شاهد على ذلك!.. ولذلك كان الظلم، بطبيعته، اعتداءً على حقوق الناس، فكيف إذا كان اعتداءً على قدسية ذي الجلال والإكرام، بنسبة الشريك أو الولد إليه وهو ربُّ جميع الناس وخالقهم، أو إذا كان اعتداءً على أمرٍ هو شأنٌ لله تعالى مثل الوحي الذي خصَّ به مِنْ عباده الصالحين مَنْ اختارهم، واصطفاهم لهذا الوحي..
وقد قيل في أسباب نزول «ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله» كما أخرج ابن جرير عن عكرمة، أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان من كتاب الوحي للنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، فكان إذا أُمليَ عليه من مثل «عزيز حكيم»، يكتب: غفور رحيم. وأخرج عن السّدي نحوه، وزاد: أنَّ ابن أبي سرح كان يقول: إنْ كان «محمد» يوحى إليه، فقد أوحي إليَّ، وإنْ كان الله ينزله، فقد أنزلتُ مثلَ ما أنزلَ الله، قال محمد: «سميعاً عليماً»، فقلت أنا: عليماً حكيماً.. ولكن أمر ابن أبي سرح انكشف، فخرج عن الإسلام، ولحق بأهل الكفر من قريش، الذين كان همُّهُمُ الأكبر منع نور الإسلام من الانتشار، كما يثبته قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *} [الصَّف: 8].
ولم يكن ابن أبي سرح وحده كذاباً لعيناً، بل ومثله مسيلمة الكذّاب، الذي ادعى النبوة في مطلع سريان الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة.. ومن أجل محاربة مثل تلك الدعوات، أو الادعاءات، وفي أي زمانٍ أتت، فقد أحكم الله تعالى في كتابه المجيد الآيات البيّنات التي تحرم كل كذب أو افتراء على الوحي، وتعدّه من أشد أنواع الظلم عتواً..
والسؤال: ولكن ما مصير الظالمين، وأياً كان نوع ظلمهم؟
هذا ما يبيّنهُ قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعَام: 93] .. باسطو أيديهم للظالمين بالضرب، والتعذيب، وهم يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إنْ كنتم قادرين!.. ولكن لن تقدروا، ولن تستطيعوا الإفلات من العقاب الذي تستحقون بسبب ادعائكم الكاذب بأنه أوحي إليكم، وبما كنتم تقولون على الله غير الحق، وبما كنتم عن آياته الكريمة تعرضون، وتتعالون وتستكبرون. وهذا يومكم الذي كنتم توعدون، فما قدرتموه حق قدره، وما حسبتم أنكم تبعثون، وأنكم ستحاسبون على كل ما كذَّبتم وقلتم.. فاليوم تجزون العذاب الهون بما كنتم تكذبون.
فيا سبحان الله، كيف يعرف الناس هذا، ويغرقون في الظلم - من أي نوع كان - وهو محرَّم وممقوت مقتاً شديداً من الله عزّ وجلّ. أفلا يتدبَّرون القرآن الذي ينهى عن الظلم، وينتفعون بهديه، أم على قلوب أقفالها؟!.
3 - مراد الكافرين أن يُؤتوا مثلَ ما أُوتي رسلُ الله
يقول العزيز الحكيم: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ *} [الأنعَام: 124].
قد يشكل الغرور، في أحيان كثيرة، حالةً مأساويةً من شأنها أن تثير الشفقة، بخلاف ظاهر الحال التي يكون عليها المغرور!.. ذلك أن الغرور من الأمراض النفسية المتأتية للإنسان من جرّاء موروثاتٍ، أو مؤثرات، أو نوازع أشربت بها النفس، فجعلتها تنحرف عن جادة الصواب. وهذا المرض الخبيث الذي تألفه النفوس الشريرة - من غير أنْ تشعر بفداحته وخطره - كثيراً ما يصيب المستكبرين، الذين يظنون في أنفسهم علواً على غيرهم، ومقدرةً على الإتيان بعظائم الأمور، دون سائر الناس!.. ويبدو أن بعضاً من القرشيين قد فعل هذا المرضُ فعلَهُ في قلوبهم، فكانوا إذا جاءتهم آية من آيات القرآن، وتلاها عليهم رسوله الأمين، قالوا: لن نؤمن حتى ينزل الله علينا مثل ما أنزل على «محمّد» من الآيات.
وكان الوليد بن المغيرة المخزومي أشدَّ طغاةِ قريشٍ استكباراً واعتداداً بنفسه، إذْ كان يرى بأنه هو أهلٌ للنبوّة، وليس محمد بن عبد الله، لأنه أكبر منه سناً، وأغنى مالاً، وأكثر وجاهة؛ ولم يكن ليتورع عن المجاهرة بذلك، في مناسبات عديدة، منذ أنْ بدأ النبيُّ ينذر الناس، ويدعوهم إلى الإسلام.. وأمانِيُّ النبوة كانت، على ما يبدو، بمثابة حلمٍ لأصلاف قريش الآخرين، أمثال أبي جهل عمرو بن هشام، أو أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، لأن ظهور نبيٍّ قد أطلَّ زمانه كان يرّوج له اليهود في شبه جزيرة العرب، لاعتقادهم بأنه سيكون من ظهرانيهم..
وكان جلُّ اهتمام أبي جهل وأبي سفيان الزعامةَ في قريش ورئاستها أولاً، والعمل لذلك بكل ما أوتيا من الجهد، والمال والجاه.. وكانا يحلمان أنْ تقترن الزعامةُ بالنبوة، وذلك هو المجد التليد!.. وقد أفصَحَ أبو جهل عن نزعته تلك يوم أن قال لصاحبه الأخنس بن شريق: «لقد تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تحاذينا الركبَ وكنا كفرسيْ رهان، قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فهل ندرك مثل هذا؟ واللات والعزى لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه»[*].
لا بل إنَّ بعث محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بالنبوة والرسالة قد اتخذ منه رؤوس المشركين - ما بين مكة والطائف - قضيةً محورية، لأنهم لم يطيقوا أنْ يفلت هذا الأمر من أيديهم، أو على الأقل من أحد زعمائهم الكبار أمثال الوليد بن المغيرة المخزومي - في مكة - أو مسعود بن عمرو الثقفي - في الطائف - لما كان لهذين الرجلين من تأثير ونفوذ في نفوس القوم. وقد أظهر القرآن نزعتهم تلك، وفضحها على الملأ، بقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ *} [الزّخرُف: 31].
أما أن يشترطوا هم على الله عزَّ وجلَّ، وأنْ يربطوا إيمانهم بوحيٍ يُنزَّل عليهم مثل رسل الله!.. فهذا منتهى الضلال، والاستكبار، والغرور، لأن: «الله أعلمُ حيث يضع رسالته».. فهو خالق العباد، وهو أعلم بحال كل واحدٍ منهم، ومَنْ هو أهل لحمل الأمانة، والقيام بأعباء النبوة والرسالة.. وإنَّ اصطفاء محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، أو من سبقوه من الأنبياء والمرسلين هو شأن لله وحده، فليس لعبادٍ ضِعافٍ، منكرين لنعماء الله عليهم، وجاحدين لفضله فيما آتاهم، أنْ يعترضوا، أو يدّعوا، غروراً وبهتاناً، ما ليسوا أهلاً له.. إلاَّ أنْ تزين لهم سفاهة أحلامهم مثل ذلك الاعتراض، أو أن تدّعي نفوسهم مثل ذاك الغرور والبهتان.. وكله باطل فاشل.. بل ومجرد اعتراضهم يُعدُّ جرماً فادحاً. وما عاقبة الذين أجرموا مثل هذا الجرم، إلا الصَّغَارُ والذلُّ عند الله العزيز الجبّار، والعذاب الشديد بما كانوا يمكرون، ويتآمرون على نبيه محمّدٍ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ، وهم يدَّعون أنهم أحق منه بالبعثة.
لقد آثروا الغرور والاستكبار، فرأوا ألاَّ يؤمنوا إلاَّ بحسب أهوائهم ونزعاتهم، وقياساً على مصالحهم، فتاهوا عن الهدى والصلاح.. أما وتلك حالهم فذلك شأنهم، ولكن حقت عليهم كلمة ربهم: {لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *} [هُود: 119] وسينالون العذاب الشديد بما كانوا يمكرون ويدّعون..
أمّا ما يشاء الله تعالى من خير لعباده، ومن هداية للمؤمنين الموقنين، أو إضلال للمنكرين والمستكبرين فيُبيِّنُهُ قوله تعالى:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [الأنعَام: 125].
من الحقائق المطلقة التي يقررها القرآن المجيد بقول ربّ العالمين: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عِمرَان: 19]، وهذه الحقيقة لا مجال لإِنكارها، لأنها القولُ الحقّ، ومن الحقِّ تبارك وتعالى. فمن يُرِدِ الله أنْ يهديَ من عباده إلى ما فيه خيرُهُ، يشرحْ صدره لهذا الدين، فتمتلئ به جوارحه، ويطمئن به قلبه، ثم يقوّي فيه دواعيَ الاستمساك به. وقد سأل الصحابةُ رسولَ الله: كيف يشرح الله صدره يا رسول الله؟ قال: «نورٌ يَقْذِفُهُ الله في قلبِ المؤمنِ فيَنشَرِح لَهُ ويَنْفَسِح» . قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: «الإِنابةُ إلى دارِ الخلودِ، والتَّجافي عَنْ دارِ الغُرورِ، والاستعدادُ للموتِ قبلَ لِقاءِ الموت» [*].
فهذا شأن من يريد الله تعالى أنْ يهديه إلى نور الإِيمان، الذي لا يكون إلاَّ بالإِسلام.
أما من يرد اللَّهُ تعالى أنْ يُضلّه، فإنه يجعل صدره ضيقاً عن استيعاب الإِسلام، قلا يتقبَّل هداه، بل وتغلب عليه وساوس الشيطان حتى تملأ صدره، وتضغط على قلبه، فيشعر - حقيقة وفعلاً - بأنَّ صدره قد ضاق من شدة هذا الضغط، وكأنـما يقذف به في السماء صعوداً، وكلما ازداد في هذا الصعود ارتفاعاً، اشتد الضيق والحرج على صدره حتى يصير عليه أعسر من ساعة الموت عند قبض روحه.
وقد دلَّت الاكتشافات العلمية أنَّ الإِنسان، عندما يصعد في الفضاء، ويخرج من جاذبية الأرض، يكون أكثرُ شيءٍ حاجةً إليه هو الأوكسيجين الذي ينعدم وجوده خارج فضاء هذه الأرض. وبما أنه لا حياة للإِنسان بلا أوكسيجين، فإنَّ فقدانه يؤدي إلى موته اختناقاً، مع ما يصاحب هذا الاختناق من الشعور بضيق الصدر، وبالآلام المبرحة الناتجة عنه. ولعلَّ من تصيبه أزمة قلبية أدرى بهذه الآلام من غيره.. فهـكذا هي حال من يضلّه اللَّهُ تعالى إذ يسلط عليه الوساوس، والهموم، والقلق والاضطراب، فتتأزم نفسه كأنما يصعّد في الفضاء بلا أوكسيجين يمدُّهُ بالحياة. وقد شاء الله أنْ يبين لنا بهذا المثل أن الإِسلام هو الحياة للإنسان، وهو قوام هنائها وراحتها الحقيقين، وبدون الإِسلام فإنه لا مجال إلاَّ لضيق الصدور، وقلق القلوب، وملازمة الشقاءِ والبؤس للناس. من هنا كان الدليل على أنَّ القرآن لم يُنزَّل إلى جيل، أو إلى أمة أو إلى مجتمع.. بل أنزل هذا الكتاب الكريم لكل الناس، ولكل العصور.. ولذلك كان الإسلامُ نور هداية ورشاد، ومصدر علم ومعرفة لكل من أرادَ أن يستقيَ من معين نور الله.
وكما تحل الآلام والعذاب بالإنسان في هذه الدنيا من شدة الضلال حتى تجعل صدره ضيقاً عن استيعابها، وغير قادر على احتمالها، كذلك سيكون عذاب الآخرة.. ولكن أشدَّ إيلاماً على من لا يؤمنون بالإسلام الذي أُنزل على قلب محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، لأنه وحده الدين الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور. أما قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [الأنعَام: 125]، فالرجس هنا يعني: العذاب، فيكون المعنى: ومثل ذلك الضيق والحرج في الصدور، يجعل الله تعالى العذاب على الذين لا يؤمنون بالإسلام، بعدما جاءهم الهدي، فأبوا إلاَّ كفوراَ، وما كانت عاقبة كفرهم إلاَّ الضلال البعيد.. ويقول الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [النّحل: 33]، أي هل ينتظر الكفار إلاَّ الملائكة تأتي لقبض أرواحهم، أو يمهلون إلى أن يأتيهم عذاب الله، إنْ في الدنيا، أو يوم القيامة؟!. وكما يفعل هؤلاء الكفار، فقد فعل الذين من قبلهم من الأمم أو الجماعات السابقة، عندما كذّبوا رسلهم فأخذهم الله بالعذاب الأليم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون..
4 - الكافر كـمن مَثَلُهُ في الظلمات ليس بخارج منها
يقول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الأنعَام: 122].
يرسم لنا هذا النص القرآنيّ صوراً حسّية شتى: الموت والحياة، والنور والظلام.. أربع صور لا تخلو منها حياة الإنسان، ولكل منها تأثيره البالغ عليه. ففي الموت يفنى جسده وينعدم نهائياً من هذه الحياة الدنيا، وفي الحياة يتجسَّدُ وجوده بكل ما يمتلئ به من الحركة، والنشاط، والحيوية، وذلك منذ تكوينه في بطن أمه، وإلى نهاية عمره، وحلول أجله الذي لا مفرَّ منه..
أما النور فإنَّ فيه دلالة على عيش الإنسان في حركته الدائمة، من الصحة والنشاط والعمل، ومن التأثر بما يحيط به، أو التأثير الذي يحدثه في محيطه، والذي ينطلق، عادةً، من البوتقة الفردية إلى البيئة العائلية، ومنها إلى المجتمع الذي ينتمي إليه، وربما يتسع تأثيره حتى يصل إلى رحاب الإنسانية، وهي حال الأفذاذ والنوابغ الذين يخلفون من الآثار، ما قد يُؤثر على حياة الناس أجمعين..
وأما الظلام فهو على عكس النور، لأنه يعني السكون، وعدم وجود المقومات التي تمكّن من الحركة أو الإنتاج أو التأثير، أي أنه من أهم معوقات الإنسان عن العطاء الذي يمكّنه من التفاعل مع الحياة، في كل شيء قد يصل إليه، أو يحتكُّ به..
ولعلَّ أهم ما يُريد النص القرآنيّ أنْ يوجهنا إليه من هذه الصور الأربع، وتأثيراتها علينا، هو التمييز بين الكفر والإيمان، مع إثبات صورة عجيبة في أذهاننا وهي إعادة ميت إلى الحياة، وسعيه بين الناس بأفضل مما كان عليه قبل موته. وهذه الصورة المقصود منها الإنسان الكافر، الذي يكون بمثابة الميت في كفره، فيهديه ربُّهُ العليّ الكبير إلى الإيمان، وفي إيمانه تكون حياته. ولكي يظل على هذا الإيمان، فإنَّ الله تعالى قد جعلَ له نوراً دائماً يهديه من عثرات الحياة، وهذا النور هو القرآن المبين بما فيه من العلم، والحكمة، والموعظة، وبما فيه من راحة للأبدان، وشفاء لما في الصدور من الأمراض التي تعتري النفوس، وتسبب باستحكامها فيها الشقاء للإنسان حتى لتحيل - أحياناً - حياته إلى جحيمٍ لا يطاق. فالقرآن هو هذا النور الهادي، الشافي، وقد جاءت تسمية القرآن ب«النور» في أكثر من آية، كما في قول الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [التّغَابُن: 8]، وهذا النور - أي القرآن - يمكن أن يحمله المؤمن في قلبه، وعلى لسانه، وبين يديه، ويمشي به في الناس، تالياً آياته، مستوعباً معانيها، ناشراً أحكامها وعظاتها.. ولكنَّ السؤال هو: هل يمكن أنْ يكون مَثَلُ المؤمن الذي رضي الله تعالى عنه، فأخرجه من الظلمات إلى النور - أي من الكفر إلى الإِيمان - كمثل من يبقى في ظلمات الجهل والكفر لا يخرج منها؟
لا، فإنَّ من بديهيات القول أنَّ الظلمة هي عكس النور. وقد وردت في القرآن الكريم تسمية الجهل بالظلمة، مثلـما وردت تسمية الإِيمان بالنور.. فيكون الكافر إذاً، هو الجاهل الضال، القابع في غياهب الظلمات لا يبصر عِلماً ربانيّاً، ولا يرى نوراً إيمانيّاً، فلا يهتدي بالتالي إلى حقائق الأشياء، بما يرضي الله تعالى..
وبالمقارنة ما بين المؤمن والكافر، ووصفهما، بالحي والميت، أورد القرآن الكريم هذا الوصف في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النَّمل: 80].
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70].
{وَمَا يسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ} [فَاطِر: 22].
ومن هنا كان التعبير عن القرآن، والإِيمان، والعلم، بـ«النور» الذي هو الإِبصار والاهتداء. كما كان التعبير عن الكفر، والجهل، والضلال بـ«الظلام» الذي هو بمثابة العمى والتيه، ولذلك سمَّى القرآنُ الكريمُ الكافرَ بـ«الأعمى» الذي تغطي الظلمة بصره وبصيرته، كما في قوله تعالى:
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ *} [فَاطِر: 19].
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرّعد: 19]، أي مثل من هو أعمى عن هذه الحقيقة الساطعة؟!..
ولذلك كان الإِيمان ضد الكفر. وكان المؤمنون غير الكافرين في كل شيء.. وكما زُيّن للمؤمنين الإِيمان والطاعات، فـكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون من المعاصي والذنوب.
والله تعالى هو الذي يجعل الإِيمان يعمر قلوب المؤمنين، فكانوا راضين مرضيين؛ بينما تحيط شياطينُ الإِنس والجن بالكافرين، فتوقعهم في الضلال والبهتان، فيعصون الرحمنَ بأقوالهم وأفعالهم، ليعيشوا في الدنيا ضالّين، ومفسدين، وهم في الآخرة من الخاسرين.
5 - المعرضون عن ذكر الله كالحُمر الوحشية التي فرَّت من أسد
يقول الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ *كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ *بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً *كَلاَّ بَلْ لاَ يَخَافُونَ الآخِرَةَ *كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *} [المدَّثِّر: 49-55] }.
يبدو جلياً لكل عاقل منصف أنَّ القرآن الحكيم هو الكتاب الذي يهدي الناس إلى الصلة الحق، التي يجب أنْ تربط العباد بربهم وخالقهم، من خلال تبيان العبادات والفرائض التي تؤمن لهم هذه الصلة، وتعينهم على اجتياز الحياة الدنيا بأمانٍ إلى الدار الآخرة.. كما يحدّد لهم، في الوقت نفسه، قواعدَ السلوك الفردية، ومناهج العلاقات العائلية، والمجتمعية والإنسانية التي يريدها مبنيَّةً على روح التآخي، والتآلف والاستقامة بعيداً عن كل ما يسيء إلى الكرامة الشخصية، أو يضر بالحياة البشرية في مسيرتها الدائبة، وفي توجُّهها إلى الله تعالى، بحيث يشكل ذلك كله نسيجاً متكاملاً للحكم بما أنزل الله، دون سائر أحكام أهل الأرض.. وعلى الرغم من ذلك فإنَّ معظم الناس يعرضون عن «التذكرة»، أي عن القرآن الذي تُذكِّر آياتُهُ، وتعظ بما هو حق للإنسان، وبما هو واجب عليه، ومن غير أن تنفع مع أكثر الناس هذه التذكرة بشيء!.. فكان لا بدَّ أنْ يلاقوا جزاء إعراضهم - وما يجرُّ إليه - في الآخرة، حيث يتوعّدهم ربُهم العزيز الحكيم بأنَّ أبواب سقر (جهنم) سوف تُفتَّح لهم يوم الدين!.. ولو سئل - يومئذ - أصحاب النار: ما أدخلكم في سقر؟ فسوف يكون جوابهم:
{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *} [المدَّثِّر: 43-47].
{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *} [المدَّثِّر: 47].. أي حتى أتانا الموت، ثم بعثنا للحساب، فوجدنا ما كفرناه، وكذبنا به، حقاً يقيناً!..
ولكنْ ما نفع استيقانهم بعد الموت، ويوم الحشر بالذات؟! ولماذا لم يعودوا إلى الرشد، قبل الوصول إلى ذلك اليوم، بحيثُ لا يبقون معرضين عن الصلة التي تربطهم بـالله تعالى، وهو أهل التقوى والمغفرة، لاسيما وأنَّ القرآن قائمٌ بين أظهر الناس جميعاً، ويمكنهم أنْ يستفيدوا مما يعظهم به من العاقبة الحسنى للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومما يذكّرهم به من أحقيّة البعث الذي هو حق مثلما أنهم ينطقون.. وزيادة في العظة والتبيان، فإنَّ هذا القرآن يشبِّهُ حال المعرضين عن آياته، وتدبّر أحكامها ومقاصدها، بالحمير الوحشية التي تستنفر لمجرد رؤية الأسد، وتفرُّ منه خوفاً على حياتها؛ فهم في إعراضهم اليوم في الدنيا عن الإيمان بالله، وعدم اعتناق الإسلام، مثل الحمير الوحشية تماماً في هروبها، خوفاً من الأسد الذي يفترسها..
وهذا التشبيه يعتبر من بديع القياس التمثيلي، لأن الإعراض عن آيات الله في قرآنه، هو دليل على الجهل والضلال، فكما أنَّ تلك الحيوانات البرية المستوحشة - التي لا تعقل - تقودها غريزتها إلى الفرار من الخطر، هكذا، هم، الذين يعرضون عن القرآن، وكأنهم يجدون فيه خطراً على وجودهم، فيستنفرون كلَّ جهودهم لتغييبه عن حياتهم، وحياة غيرهم من الناس!.. وهذا يعني، بطريقة اخرى، أنَّ المعرضين عن ذكر الله - وهم أصحاب العقول التي فيها الإِدراك والتمييز - أضلُّ من تلك الحيوانات العجماء، فهي تهرب من الخطر كلّما داهم غريزتَها شيءٌ منه، بينما هم يعرضون عن القرآن الذي ينقذهم - لو اتّبعوه - من آثام الدنيا، وعذاب الآخرة..وهذا، بالإضافة إلى أنَّ تعبير «المستنفرة» أبلغ من «النافرة»، لأنه يعني أنها لشدة خوفها يستنفر بعضُها بعضاً، ويحثه على الهرب، تماماً كما هو حال المعرضين عن الذكر الحكيم، الذين يتواصون، ويحضّون بعضهم بعضاً على الإعراض عنه، ثم ينفرون من ذكر آيات الله بصورة جماعية.
ولكن لماذا هذا التعنت وعدم الإقرار بصدق القرآن، ومن ثم الاستكبار على ما فيه من «التذكرة» والموعظة؟ وماذا يريد أهل الكفر والإلحاد، وأهل النفاق والضلال من كتاب لا يحمل إلا الحق، ولا يهدي إلاَّ إلى الصراط المستقيم؟ هل يريد كل امرئ منهم أنْ ينزَّل عليه كتاب من السماء يدعوه إلى الإيمان؟ أم يريد كل واحد منهم أنْ تتنزَّل عليه صحيفة في البراءة، والعفو من العقاب حتى يوحِّد الله، ويكون مسلماً لـربّ العالمين؟ أم يطمع كل امرئ أنْ يكون رسولاً يوحى إليه؟ ومحال أن يكون شيء من ذلك، أو أن يُعطى كل امرئ ما يريد، ووفق هواه!.. فالقضية هي أنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يخافون عذابها، على الرغم مما يذكِّرهم به القرآن بشأنها، وفي كثير من آياته، وسوره.. فإن أعرضوا، وأنكروا «التذكرة» فالذنب يقع على عاتقهم، وسوف يستيقنون من عذاب الآخرة يوم ينالون الخسران المبين، لأن الحق حق، والقرآن هو حق، وهو «تذكرة» لكل عبد منيب، فمن شاء آمن به واتخذ إلى ربّه سبيلاً.. على أنَّ الأمر في نهاية المطاف لا يعود للمعرضين، ولا للناس جميعاً، بل الأمر لله تعالى وحده. ولا يمكن أن يذَّكَّر الناسُ، أو يتذاكروا في أمور الآخرة، وفي حكمة القرآن وعظته، إلاَّ أنْ يشاء الله لهم ذلك. فهو - سبحانه - غنيّ عن عباده أجمعين، وهو أهل التقوى والمغفرة. ولا يستأهل أحدٌ من هؤلاء العباد عفو ربه عنه، ومغفرته له، إلا من تنفعه الذكرى لقول الله الكريم: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى *سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى *وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى *الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى *ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا *قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى *بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى *إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى *} [الأعلى: 9-19].
6 - ومثل الذين كفروا كـالسوائم التي لا تعقل
يقول الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ *} [البَقَرَة: 171].
وهنا تتجلّى أيضاً بلاغة المثل القرآني وهو يجسّد، بالصورة الحسيّة، عدم استجابة الذين كفروا لعقيدة التوحيد، وركونهم إلى التقليد، مصمّين آذانهم عن دعوة الرسل، فـمثل الذين كفروا كمثل الراعي الذي يقود قطيعاً من الأنعام، فلا تسمع منه إلاَّ صراخاً ونعيقاً، ولا ترى منه إلاَّ تهويلاً بالعصا، أو رشقاً بالحجارة.. إلاَّ أنها لا تفهم من ذلك كله شيئاً، لأنها مخلوقات غير مزودة بملكة الإِدراك والتمييز.. هكذا هم الذين كفروا، صمٌّ عن نداء الإيمان، بكم عن النطق بكلمة الحق، عميٌ عن التبصّر بآيات الله تعالى.. إذن فهم لا يعقلون الحقيقة، ولا يتبيَّنونُ الطريق السويَّ الذي يجب أنْ يسيروا عليه، بل انقادوا لدعوات الضلال، والباطل، فحق عليهم قولُ الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ *} [البَقَرَة: 171].
7 - لا يدخل الكافرون الجنة حتى يدخل الجملُ في ثقب الإبرة، وكذلك جزاء المجرمين
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ *} [الأعرَاف: 40].
يجزم هذا النص القرآني، وبصورة قاطعة، أن الذين كذَّبوا بآيات الله، واستكبروا عن اتباعها، لا تُفتَّح لهم أبواب السماء - التي تفتح للأرواح والنفوس التي يرحمها الله تعالى - عندما يعرج الملائكة بها حال الموت، لأنَّ أولئك كانوا من أخبث الأنفس، إذْ أنكروا الحق لمَّا جاءهم، واستكبروا عنه، فحقت عليهم اللعنة.. فعن البراء بن عازب: إن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ذكر قبض روح الفاجر، وأنه يُصعد بها إلى السماء، فلا تمرّ على ملأ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان (بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا)، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له، فلا يُفتح له.. ثم قرأ رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «لا تفتَّح لهم أبواب السماء»[*].
وبما أنَّ أبواب الرحمة في السماء لا تُفتَّح للكافرين، فصار من المستحيل عليهم دخول الجنة. وهنا يضرب الله تعالى أدقَّ المثل على ما هو مستحيل، وغير قابل للتحقق إذ يقول عزَّ وجلَّ: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعرَاف: 40].. فسَمُّ الخِياط هو ثقب الإِبرة، وهو ما يضرب به المثل عن ضيق المسلك، فيقال «أضيق من خرم الإِبرة»؛ كما أنَّ جسم الجمل هو مثال عن كبر الأجسام الحية، فيقال: «أجسام الجمال وأحلام العصافير».. والروعة التي تتبدى في هذا المثل القرآنيّ أنه يحيل مفهوم «الاستحالة» من فكرة مجرَّدة إلى واقع محسوس، وليس أدلَّ على ذلك من استحالة دخول الجمل، بجسمه الكبير، في ثقب الإِبرة الصغيرة، التي نخيط بها ثيابنا، فشرط الاستحالة غير قابل للتحقق على الإطلاق، إذ لو تصوَّرنا مشهد الجمل أمام ثقب هذه الإِبرة، ولو تصوَّرنا أنه حين يتسع هذا الثقب لاستيعاب الجمل، فحينئذٍ يمكن أنْ نتصوَّر بأنَّ أبواب الرحمة في السماء يمكن أن تفتَّح للذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها، وحينها فقط يقبل دعاؤهم أو تقبل توبتهم، فيدخلون الجنة.. أما الآن، وإلى أنْ يصير ممكناً دخول الجمل في سَمِّ الخِياط - وهذا محال قطعاً - فإنَّ الكافرين سوف يمتنع عليهم دخول الجنة، مما يعني أنهم سوف يقبعون في النار، وسوف يخلدون فيها، لأنَّ شرط الاستحالة مطلق، وغير قابل للتحقق أبداً...
وكما يكون جزاء الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها عدم دخولهم الجنة، كذلك يجزي الله تعالى المجرمين على اختلاف أصنافهم، وفعالهم الجرمية، سواء أكانوا كافرين أو مشركين، منافقين أو ظالمين، فاسقين أو فاسدين ومفسدين.. فكلّ يؤخذون بذنوب إجرامهم، الذي يحرّم عليهم دخول الجنة، ليكون، بالتالي جزاؤهم النار، وبئس المصير وهو ما يتأكّد في موضع آخر من القرآن بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ *} [فَاطِر: 36].. وهنا الطامة الكبرى التي يذوقون فيها طعم العذاب ومرارة الكفر، فهم لا يقضى عليهم، فيموتوا، ويعودوا تراباً، أي إلى الأصل الذي خلقوا منه، ولا يخفف عنهم شيء من عذاب النار الذي هو جزاء كل كفور، ممَّن مردوا على الكفر والظلم، فيبقون في النار خالدين فيها ما شاء الله تعالى..
8 - وعيد الله تعالى بالتدمير على الكافرين أمثال الذين من قبلهم
يقول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ *} [محَمَّد: 10-11].
لا حاجة للتكرار بأن الجماعات والأقوام البشرية التي مرَّت على هذه الأرض منذ خلق آدم (عليه السّلام)، كانت كثيرة، ومتعددة الأجناس، والعقائد، والمذاهب الفكرية، وطرائق العيش... ولكن وفقاً للتبيان القرآنّيّ، فإنَّ الدَّمار والهلاك كانا دائماً يحلاّن بالأقوام الذين يكذِّبون الرسل والنبيين، ويصرّون على الكفر والضلال.. لأنَّ المعركة الفعلية في هذه الحياة الدنيا هي المعركة القائمة بين الإيمان والكفر، هكذا كانت، وستبقى ما دام في الأرض أناس مؤمنون، وآخرون كافرون.. وهذا ما تلفتنا إليه الآيتان الكريمتان، وهما تشيران إلى الكافرين عندما وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية، يحاربونها ويحاولون القضاء عليها، متوسلين لذلك كلَّ ما لديهم من قوى النفوذ، والاستكبار والقهر، وكلَّ ما يملكون من المال، والسلاح والعتاد.. بحيث تأتي النصوص لتنقضَّ على أولئك الكافرين الذين يظاهرون على أهل الإيمان بالقوة، وهي تشد أنظارهم إلى تلك المعالم الباقية من مواطن الذين من قبلهم، فيروا آثار ما حل بهم من الهلاك، والإفناء تحت ركام التدمير الذي أصابهم، ثم تعود لتقرّر أنَّ المصير ذاته سوف يكون للكافرين - ولكل الذين كرهوا ما أنزل الله - إنْ هم أصرُّوا على الكفر، وعلى محاربة الله ورسوله، من خلال حربهم على المؤمنين، أي أنهم سوف يلاقون عاقبة الذين من قبلهم، وهم الذين {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا *} [محَمَّد: 10].
وفي نفس السياق من الآيات المبينة في «سورة محمد» نجدُ الوعدَ للمؤمنين بالنصر، قد سبق على التهديد والوعيدَ للكافرين بالإضلال وإبطال أعمالهم، يقول الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا *} [محَمَّد: 7-10]، فالنتائج المترتبة على أعمال الذين آمنوا: النصر، شرط أن ينصروا دين الله، ويجاهدوا في سبيله.. وبالمقابل، فإنِّ النتائج المترتبة على أعمال الذين كفروا: التعاسة، وخيبة الأمل من جراء إحباط أعمالهم، أي إبطالها، وإبطال كل ما كان لها من مفاعيل الكراهية لما أنزل الله تعالى من الأحكام، والتكاليف، أو الدعوة للإصلاح..
ولكن لماذا ينصر الله المؤمنين، ويقهر الكافرين {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ *} [محَمَّد: 11] وهنا ظهر الحق الذي يعلو على الباطل فيدمغه؛ فمن كان مؤمناً، كان الله مولاه، فهو إذاً في عين الله، والنصر له من الله؛ بل والحكمة توجب «بأنَّ الله مولى الذين آمنوا»، لأنهم هم الذين يحملون دينه، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة هذا الدين. أما الكافرون فلا مولى ولا نصير لهم، إلاَّ من أنفسهم، ومن أجل مؤازرة قضاياهم لبعضهم بعضاً، كما يدل عليه قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *} [الأنعَام: 129]، أي كما متَّعنا عصاة الانس والجن بعضهم ببعض[*]، كذلك نجعل الولاية، والسلطان لبعض الظالمين على بعض بما كانوا يكسبون من المظالم والمعاصي.. أما معبوداتهم فهي أقل، وأحقر شأناً من أنْ تكون عوناً لهم، أو تمدَّهم بالنصر..
وهذا هو منهج الحق الثابت: أن يكون الله تعالى هو مولى الذين آمنوا، كي يعزَّهم، ويرفع شأنهم، وأنَّ الكافرين ليس لهم مولى قادراً على أنْ يحقق لهم أية عزِّةٍ أو رفعةٍ، لأنَّ العزّة لله جميعاً، وهو يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء، مصداقاً لقوله الكريم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [آل عِمرَان: 26].
الفقرة الثالثة - النتائج المترتبة على أعمال الكافرين يوم الحساب
1 - مثل البعوضة امتحان للعباد
لعلَّ من البديهي القول بأنَّ الأعمال التي تصدر عن الناس، غالباً ما تنبىء عن صفاتهم وتوجهاتهم، وعمّا تنطوي عليه نفوسهم؛ فأعمال الإنسان هي التي تدل عليه إنْ كان كافراً أو مؤمناً، بخيلاً أو كريماً، جباناً أو شجاعاً، عادلاً أو ظالماً، حكيماً أو جاهلاً.. الخ..
ولكي يمكن أنْ نتبين المؤمنين من الكافرين، فإنَّ الله تعالى يضرب مثلاً ما، بالبعوضة، فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون أنه المثل الحقُّ من ربِّهم، وليس فيه ما يدعو للغرابة أو الاستهجان، طالما أنَّ البعوضة من خلق الله، وكلُّ ما خلق الله يمكن أنْ يكون مضربَ مثلٍ، ولا غرابة في ذلك؛ وأما الذين كفروا فيضلّون عن الغاية التي يرمي إليها هذا المثل، فيقولون: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البَقَرَة: 26]؟
يقول العزيز الحكيم: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26][*].
وإنَّ من المدلولات لهذا المثل ما نجد في الحياة من حولنا، والذي يدلنا على أنَّ صغار الأشياء قد يكون لها فوائدها العظام!.. فهلاَّ تفكرّت، مثلاً، في هذه العين التي هي في الوجه كم تبدي لك من مشاهد، ولولاها لكانت الحياة ظلاماً دامساً؟ وهلاَّ تفحصت هذه الإِبرة الصغيرة، كم تخيط من أثواب وألبسة للناس ولولاها لكادوا أنْ يكونوا حفاةً عراةً؟ أم هل عرفت بأنَّ في الورقة الخضراء من الشجر والنبات يكمن التمثيل الكلوروفيليّ، الذي ينتج عن تفاعله غاز الأوكسيجين الضروريّ لحياة الكائنات الحية؟ فهذه الورقة الصغيرة هي التي تعطينا الأوكسجين وتمتصّ ثاني أوكسيد الكربون أثناء النهار، فتخفُّ أضراره عن الناس وهم يروحون ويجيئون إلى معايشهم، ثم هي نفسها التي تنفث، ذلك الغاز السام في الليل - وهم في حال نيام وسكون - لتأخذ بديلاً عنه الأوكسيجين فتبقى على اخضرارها.. أليس في ذلك آية كبرى لقوم يعقلون؟ أم هل رأيت إلى هذه الزهرة الجميلة، كم هي على صغرها، فوّاحةً للعطر، بهيجةً للنظر، باعثةً للراحة في النفوس؟ أم هل تأملت النحلة - الحشرة الصغيرة - التي تصنع عسلاً صافياً فيه لذة وشفاء للناس؟ أم هل تلمَّست عمل النملة، وهي أصغر بكثير من النحلة، لتعرف كيف تُقيم مجتمعاً منظَّماً يدهش العقول؟
وقِس على ذلك كلَّ الأشياء الصغيرة التي يمتلئ بها المحيط من حولنا، فإنَّ لنا فيها منافع كثيرة، وهي عظة بذاتها على أهمية هذه الأشياء، ولذلك كانت مدارَ اهتمام الناس، فضربوا بها الأمثال للتدليل على أمور هامة، أو على معاني تلك المنافع في حياتهم، كما فعل الفرزدق حين ضرب المثل على الذلّ باليربوع الصغير، فقال:
وهل شيء يكون أذلَّ بيتاً
من اليربوع يحتفر الترابا؟
وإذا كان الله العليم الحكيم قد جعل لكل شيء قيمة وقدراً، فلا ينبغي للإنسان أنْ يستهين بشيء هو من خلق الله تعالى، لا سيما وأنه جعل في كل خلق حكمةً بالغةً، قد نهتدي إليها، وقد لا نعرفها أبداً.. ولذلك كان التنزيل المبين وفيه المثل بالبعوضة، على الرغم من ضعفها ووهنها، كي نستدل به على ما أراد الله بهذا مثلاً!.
ومن هذه الدلالات، إحدى الحقائق التي يطلقها القرآن الكريم، وهي أنَّ الخالق العظيم لا يستحي أنْ يضرب مثلاً ما، بشيءٍ من مخلوقاته، حتى ولو كان من أصغر الأشياء وأضعفها.
ذلك أنَّ الحياءَ من طبيعة المخلوقات، حتى ليقال بأنَّ بعض النبات، ولاسيما الورود، تشعر بالحياء، وكذلك الحيوانات الأليفة والمتوحشة، فكيف بالناس والمؤمنين بالذات، من عباد الله، الذين يرون بأنَّ الحياء فرض، بل و«شعبة من شعب الإيمان» كما كان يقول رسولهم الكريم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)؟
فالمؤمنون يعتقدون، يقيناً، بأنَّ ربَّهم تبارك وتعالى هو السميع لجميع أقوالهم، العليم بكل فعالهم، فلا يأتون بشيء إلاَّ ويرجون فيه رضى مولاهم العزيز، واجتناب غضبه، فكان حياء المؤمنين من ربّهم، أهم العوامل المانعة، بل والرادعة لهم عن ارتكاب المعاصي والذنوب. وما ذلك إلا لأن الاستحياء هو الانقباض عن الشيء، فإذا ما أحسَّ المؤمن بالحياء من فعل هذا الشيء الذي ينهاه ربُّه عنه، أو من عدم فعله لشيء يأمره ربُّه القيام به، انقبض عما هو مأمور بتركه، وأقدم على ما هو مأمور بفعله، وإلا شعر في قرارة نفسه بأنه ارتكب مخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه، أو مخالفة للنواميس أو القوانين، أو الأعراف والنظم التي يريده تعالى أنْ يسير عليها، أو يتآلف مع تناسقها في بناء الحياة والكون.. وهذا كله لا ينطبق على الله (جلت عظمته) لأنه خالق السنن، والنواميس والأعراف والقوانين والنظم، وهو الذي يسيّرها، ويديرها ويدبرها لقوام الوجود كله وانتظامه.. وهذا ما أراد اللَّهُ - جلَّ جلاله - أن يبيّنه لنا، منزّهاً نفسه عن الاستحياء، فهو لا يستحي أن يضرب مثلاً ما، أيّاً كان هذا المثل، ولو كان بالبعوضة الصغيرة، الضئيلة، أو بما هو أكبر، أو أجلّ شأناً منها.. وأما الغاية من هذا المثل فلكي يجعله امتحاناً للعباد، فيتميز به المؤمنون عن الكافرين..
إذاً فالعبرة في التمثيل بالشيء لا علاقة لها بشكله أو حجمه أو نوعه، بقدر ما تستهدف صفاته ومعانيه، لأن الأمثال، أصلاً، وسائل للتنوير والتبصير، وليس في ضربها ما يعيب الضارب، أو أنْ يحقر الشيء المضروب به.. واللَّهُ تعالى يريد بهذا المثل (البعوضة)، اختبار القلوب، وامتحان النفوس؛ {فَأَمَا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البَقَرَة: 26]، لأنَّ إيمانهم بربّهم يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بالقبول واليقين والتسليم، فهو الأمر من صاحب الشأن، فكان إيمانهم نوراً في قلوبهم، وتفتحاً في مداركهم. ويدخل في هذا الإِيمان، التصديقُ بـمحمدٍ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) رسولاً من الله، وبشيراً ونذيراً للعالمين، والتصديقُ بالقرآن الذي نزل على محمّدٍ من ربه جملةً وتفصيلاً، لا الإيمان ببعضه، وعدم الإيمان بالبعض الآخر، كما كان يفعل اليهود وهم يؤمنون ببعض التوراة ويكفرون ببعضها.. هذا من ناحية المؤمنين..
أما الذين كفروا فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟
إنه سؤال من لا يرجون لله وقاراً !.. (أستغفر الله)، ولا يتأدبَّون بالأدب اللائق بالعباد تجاه مقام ربّهم العليّ العظيم، ولا يتبَّينون حكمته في ضرب المثل بالشيء الصغير أو الكبير.. يقولون قولهم ذلك - بجهل وقصور - في صيغة الاعتراض والاستنكار، كأنما يريدون أنْ يزرعوا التشكيك، في نفوس المؤمنين، بصدور مثل البعوضة عن الله تعالى، وما ذلك إلاَّ لعدم تدبرهم للمثل، وإنكارهم للحق، لأنَّ كفرهم يضّلهم عن إدراك حكمة الله من هذا المثل..
ويأتيهم الجواب - على شكل التهديد والتحذير - بما وراء المثل من أمرٍ بالتفكّر والتدبُّر: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ *} [البَقَرَة: 26].
فالهدى والضلال من أمر الله.. وهو تعالى يضرب للناس أمثالهم، فتزيد المهتدين هدىً، وتزيد الضالين ضلالاً.. فأما الذين آمنوا فيعلمون أنَّ المثل من ربّهم هو حقٌّ، لأنه صادر عن الحق تبارك وتعالى، وهو هداية لأنه ينشىء حقيقة قد تكون خافية على الناس.. وأما الذين كفروا، فهم، في الأصل، لا يؤمنون بآيات الله، فإذا ورد مثل ما في سياق بعض الآيات، فإنهم يثيرون حوله الاستنكار والاستهجان، حتى ينفروا الناس عن الحقّ، أو الحكمة، أو العظة التي يتوخَّاها المثل القرآني.. والدليل أنَّه لما أنزل الله تعالى المثل بالذباب،[*] أو المثل ببيت العنكبوت،[*] قال الكفار، والمنافقون واليهود: ماذا أرادَ الله مثلاً بهذه الأشياء الخسيسة؟! وردّاً على استنكارهم أنزل الله تعالى، قولَهُ المبين: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البَقَرَة: 26]..
ولكي يكون نهج المثل القرآني واضحاً في الدلالة والمعنى، جاء التعقيب بقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ *} [البَقَرَة: 26].. فالله سبحانه يضلُّ بهذا المثل كثيراً من الذين لا يقبلون ما يأتي به الله، فهم في الضلال والنفاق والكفر يعمهون، فيزيدهم المثل - بالأشياء الصغيرة - ضلالاً.. ويهدي سبحانه بهذا المثل كثيراً من الذين يدركون حكمة الله تعالى وعظته، فهم في الهدى والتصديق والإيمان ينعمون.. وما يضلُّ به إلاَّ الفاسقين، الذين فسقت قلوبهم من قبل، فخرجوا عن طاعة ربّهم، وعن الطريق المستقيم الذي يهدي إليه قرآنه الكريم. أما صنعة هؤلاء الفاسقين، فيبيّنها قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ *} [البَقَرَة: 27].. فأولئك الفاسقون الذين يتصفون بـمثل هذه الصفات الخبيثة، هم الخاسرون، لأنَّ مصيرهم إلى النار في الآخرة.. ثم إنَّ من الدلالات التي يحملها هذا المثل القرآني تبيان قدرة الله في الخلق، فالبعوضة، وإن كانت حشرة صغيرة طائرة، إلاَّ أنها مثال للعارفين الذين يستدلون ممَّا في المخلوقات من الآيات والأدلة التي توحي بأنَّ الله تعالى هو الخلاّق العليم، فقد روي عن جعفر الصادق (عليه السّلام) أنه قال: «إنما ضرب اللَّهُ تعالى هذا المثل لأنِّ البعوضة على صغر حجمها، خلَقَ الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره. فأراد الله تعالى أنْ يُنبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه، وعجيب صنعه، وعظيم قدرته».
2 - أعمال الكافرين كـرمادٍ تذروه الرياح في يومٍ عاصف
يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ *} [إبراهيم: 18][*].
لا ريب بأنَّ الأعمال هي خير ما يعبّر عن شخصية الإنسان، ولا سيما لناحية ارتكازها على الإيمان أو الكفر، فإنْ كان الإنسان مؤمناً، أشاعَ الخير بين الناس، بينما تنعكس أعمال الكافر عليهم شرّاً محضاً..
وكما أنَّ الأعمال هي مرآة للنفس، وتعبير عن أفكار الإنسان ومفاهيمه، وبخاصة العقيدة التي يؤمن بها، فإنها أيضاً طريقه إلى الآخرة، وسبيله إلى المصير الذي ينتظره.. فكيف تتبدَّى أعمال الكافرين يوم الحساب، حيث يقف جميع الناس لـرب العالمين؟!
لقد ضرب الله تعالى المثل على أعمال الكافرين بالرماد الذي تذروه الريح في يوم عاصف، فتبدّده هباءً منثوراً، وكأنه لم يكن موجوداً من أصله. وهذا يعني أنَّ كلّ عملٍ، أو سعيٍ أو جهدٍ لا يقترن بنيَّة الإخلاص لله تعالى، فلا نتائج إيجابية له في الآخرة، لأنه سوف يقع في نهاية المطاف في ميزان العدل الإلهي، والله تعالى وحده، هو الذي يحاسب الإنسان على أعماله..
وتظهر الصورة في هذا المثل نقيةً وجليةً، كما في سائر الصور التي تحدد أطرها ومضامينها الأمثال القرآنية؛ فالرماد بطبيعته هشٌّ وخفيفٌ، لا يصمد أمام حركة من الإنسان، أو عامل من عوامل الطبيعة، فكيف إذا فَجَأَهُ يوم عاصفٌ لا تترك رياحه العاتية أيّ شيءٍ تقع عليه إلاَّ هدمته، أو اقتلعته، أو بدَّدته، فهل يبقى شيء من هذا الرماد، أم تذروه تلك الرياح في طريقها، وتحيله إلى ذرّاتٍ مبعثرةٍ، تقذفها إلى بعيدٍ بعيدٍ، حتى تصير وكأنها في عدمٍ؟!.. فأعمال الكافرين كمثل هذا الرماد.. فقد تتكاثر وتتنوّع، وقد يكون لها آثارها الإيجابية أو السلبية في الحياة الدنيا، ولكنها تبقى بلا أدنى فائدة أو نفع يوم الحساب، لأنها إن كانت إيجابية فهم قد نالوا جزاءهم عليها في الدنيا من الشهرة أو الجاه، أو المال.. أما في الآخرة، فهم لا يقدرون ممّا كسبوا في دنياهم أن ينالوا أيَّ شيءٍ من أجرٍ، أو ثواب، لا بل وترتدُّ عليهم أعمالهم السيئة، يومئذٍ، خسراناً مبيناً، باعتبار أنَّ الكسب الحق، والفوز العظيم الذي يرجوه الإنسان من أعماله، لا يكون إلاَّ ثواباً من الله تعالى، وهو سبحانَهُ، الذي يكافىء به عباده الصالحين. والمعنى أنَّ أعمال الكافرين التي تقوم على عدم الإيمان بما جاءت الرسالات السماوية به، وتكذيبها، ومناهضتها، هو ما يجعلها أعمالاً إجرامية، مما يُرتب على عاتق أصحابها العقاب الذي يستحقون يومَ الحساب.. وبذلك تتبدّد كل نتائج إيجابيةٍ لأعمال الكافرين التي قاموا بها في الدنيا، وتذهب جهودهم معها عبثاً، كما يبدّد الريح في يومٍ عاصف الرمادَ الهشَّ الخفيف.. ولو أنصف الإنسان نفسَهُ من نفسه، لوجب عليه أن يتبصَّر بالمردود لأي عملٍ يقوم به تجاه نفسه، أو تجاه الآخرين؛ فما كان من أعماله خالص النية لوجه الله تعالى، موافقاً لشرعه، كان مقبولاً، ونال الثواب عليه؛ وما كان منها لغير الله عزَّ وعلا، بل كان مقصوراً على طلب متاع الحياة الدنيا وغرورها وحدها، فهو غير مقبول عند الله، أصلاً.. ومثل تلك الأعمال التي يُضلُّ بها الكافرون غيرهم، ويكون من شانها الإفساد بين الناس عموماً، والمؤمنين خصوصاً، هي التي تضع على عاتق أصحابها أعباءً ثقيلة من الخطايا والذنوب وتجعلهم مسؤولين يوم القيامة عمَّا كانوا يفترون به على الناس مصداقاً لقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ *} [العَنكبوت: 12-13].
فهلاَّ وقف الإِنسانُ وقفة تفكيرٍ وتقييم للإعمال التي يقوم بها، ثم تأمَّل في المصير الذي سوف يؤول إليه؟!..
وخلاصة القول أنَّ هذا المثل ينطوي على الأساس العقائدي وعلى نتيجة كل ما يقوم به الإنسان، فما كان عملاً غير مبنيّ، على قاعدة من الإِيمان بـالله تعالى، ولا يتمسَّك بالعروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله تعالى، يكون عملاً مفككاً كـالهباء والرماد، لا قوام له ولا نظام، إذ ليس المعوَّل عليه هو العمل وحده، ولكنَّ الباعث على العمل هو الأهمّ والأجدى، لأنَّ العمل حركة آلية، لا يختلف فيها الإِنسان عن الآلة إلاَّ بالباعث والقصد والغاية، فإذا كان الباعث على العمل هو الإيمان بـالله كان جزاؤه في الآخرة فوزاً عظيماً، أما إذا كان الباعث على العمل لا صلة له بالله، فإنه يذهب أدراج الرياح، ويؤدي في الآخرة إلى الخسران المبين. ومن هنا كان التعقيب على أعمال الكافرين بقوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ *} [إبراهيم: 18] أي الضلال عن إدراك الحقيقة، والضلالُ عن الإِيمان، والضلال عن الإصلاح الذاتيّ والإصلاح بين الناس وكل ذلك من الضلال البعيد الذي يوقع في المهاوي السحيقة.
ألا، فليتأمّل الإنسانُ مشاهِدَ وصورَ القرآن الكريم، ليتبيَّن له الرشدُ من الغيّ، وليهتدي إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان.
3 - أعمال الكافرين كسرابٍ بقاعٍ يحسبه الظمآنُ ماءً، أو كظلماتٍ بعضها فوق بعض
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [النُّور: 39] ! " }.
وهذا مثال آخر، يسوقه القرآن الكريم لإظهار أعمال الكافرين من حيث اعتبارها عديمة الجدوى كـالسراب الخادع، أو من حيث الإطار الذي تتجسَّدُ فيه وكأنها تُزاول وسط ظلمات تراكمت بعضها فوق بعض، لا تتيح النفاذ منها لأدنى بصيص من نور، فيأتي التشبيه مطابقاً للنتائج التي أفرزتها تلك الأعمال.
ولكي يمكن استيعاب ما يرمي إليه المثل القرآني هنا، لا بدَّ من الإشارة إلى النصوص التي تسبقه، والتي تبيّن بعضاً من صفات المؤمنين، وذلك بقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ *لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *} [النُّور: 36-38].
.. فالمؤمنون رجال يدأبون على ارتياد المساجد، التي أذن الله تعالى أنْ ترفع بيوتاً للعبادة، والطاعة والطهر، يذكر فيها اسم الله، فيوحّدونه، ويقدّسونه، ويسبحون بحمده في أوقات الغدو والآصال، لا تلهيهم مشاغل الدنيا مهما عظم شأنها، ولا تلهيهم تجارةٌ أو بيع مهما بلغت مكاسبه، ولا غير ذلك من المتاع والزينة.. لا شيء من ذلك يليهم عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يومَ القيامة الذي تتقّلب فيه القلوب والأبصار بين الخوف، والرجاء، متطلّعين إلى رحمة الله الكريم، ليجزيهم في ذلك اليوم أحسن ما عملوا في الدنيا، بل ويزيدهم من فضله أجراً وثواباً وذلك هو الفوز العظيم...
أرأيت أيها الإنسان ما يوّرث الإيمانُ الصادق بالله، والاعترافُ بهباتِهِ ومِنَنِهِ، والالتزامُ بأوامره ونواهيه، والاستدامةُ على ذكره تعالى، وحمده وشكره.. من فضلٍ يناله الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟. فـالله سبحانه وتعالى يكفّر عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيئاتهم ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون.. وهذا ما يرجوه المؤمنون من ربهم تبارك وتعالى يوم الدين..
وأمَّا الذين كفروا فأعمالهم خادعة مضلِّلة لهم، لا نفع يرتجى، ولا غاية تؤمل منها، إلاَّ الغاية التي يبلغها الظمآن باندفاعه إلى سراب خادعٍ، حيث لا يجد إلاَّ انعكاس الشمس، في فلاةٍ جدباء مقفرة، يركض فيها لاهثاً وراء قطرة ماءٍ يبل بها ريقه؛ ولكنَّه لا يجد شيئاً، إلا ذلك السراب الذي خدع حواسَّهُ، وقاده إلى الفراغ، وخيبة الأمل. وقد اختار المثلُ القرآنيُّ الظمآنَ ليبيّن عطش الذين كفروا للحصول على المكتسبات الدنيوية، التي سرعان ما تزول بموتهم، ليلاقوا، من ثمَّ، ثمرة أعمالهم خسراناً مبيناً في الآخرة. فهم يلهثون وراء متاع الحياة الدنيا، ويكدون، ويجهدون أنفسهم في الركض وراء الأعمال، وحيازة الأموال والممتلكات، وكثيراً ما يكابدون المشقات والأتعاب في سبيل ذلك.. وقد يشاء العزيز الحكيم أنْ يعطيهم ويملي لهم فوق ما يحتسبون. إلاَّ أنَّ ما يملكون من الدور والقصور والمزارع، وما يتّجرون به من المواد، وما يستثمرون من الاموال في البورصات والمصارف، ليس حقيقةً في صالحهم، لأنه تعالى عندما يعطي الكافرين، فإنما يفعل ذلك كي يمدَّهم في طغيانهم يعمهون.. ولكن عندما يأتي الحساب يوم القيامة، فإنهم لن يجدوا شيئاً من كل مكتسباتهم وإنجازاتهم في الدنيا، لأنها ذهبت منذ خلَّفوها وراءهم، بل ووجدوا عواقبها الوخيمة حاضرة بانتظارهم لأنها كانت جميعاً أعمالاً مبنية على الكفر بربَّهم، فوفَّاهم ربهم جزاء ما كانوا يعملون، وذلك قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *} [آل عِمرَان: 178].
فالحساب آتٍ لا ريب فيه، والله سريع الحساب، فلا يشغله حساب عن حساب، بل يحاسب جميع خلقه، وعباده في حالة واحدة.. وقد سئل أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السلام: كيف يحاسبهم اللَّهُ في حالة واحدة؟ فقال: «كما يرزقهم في حالة واحدة»..
فأعمال الكافرين لا يؤمل منها خيرٌ ينفعهم يوم الحساب، لأنَّ مثلها كسراب الماء الخادع، الذي لا يحظى منه الظمآن، وهو يلهث وراءه في قاعٍ خاوٍ من الأرض، إلا على الإرهاق وزيادة الظمأ، وربما الهلاك..
وكي تزيدنا النصوص القرآنية بياناً عن أعمال الكافرين، فإنها تشبهها - بالإضافة إلى السراب الخادع - بالظلمات الداكنة في أعماق بحر لجيّ، هبت عليه الرياح العاصفة فجعلت أمواجه تتلاطم، ويعلو بعضها بعضاً وسط ليلٍ حالك الظلام، فلا يُرى فيه شيء، ولا يسمع إلاَّ أصوات الأمواج المتلاطمة، ومن فوقها سحاب متراكم، هو أيضاً قاتم الظلمة لشدة سواده.. فهذه الظلمات في جوف البحر، وعلى سطحه، وفي ثنايا أمواجه، وفي السحاب من فوقه تجعل الجو كله ظلاماً بظلام، تستحيل معه الرؤية، وتجعل التائه في وسط هذه الظلمات يعاني من الخوف والمرارة والألم ما لا يطاق، حتى أنه لا يكاد يرى يده لو حاول أنْ يرفعها ويقربها من ناظريه، من شدة الظلمة، مما يفقده كل أملٍ بالنجاة.. ولو أمعنا النظر في دقة التركيب لهذه النصوص القرآنية لاستحال على أي تصور ذهنيّ أن يجسِّد هذه الحالة الرهيبة من الظلمات العاتية التي تجمعت لتحيل المساحات الشاسعة التي احتلتها إلى ليلٍ حالكٍ، قاتم السواد، تتصارع فيه الحركات، كـتصارع الأمواج المتلاطمة في ظلمةٍ، فوق ظلمة، فوق ظلمة!..
وعلى هذا النحو تقدم لنا هذه النصوص المجيدة مثلَيْنِ عن أعمال الكافرين، فهي لا تقف عند تشبيهها بالسراب الخادع من حيث آثارها وعاقبتها عند الله تعالى، بل وتقذفُ بأصحابها في ظلمات الكفر والضلال التي تغشى العيون وتعمي البصائر، فلا يعود الكافرون يرون شيئاً من نور الحق المبين، الذي كان كفيلاً بأنْ يهديهم إلى الحق والصواب فيما لو اتبعوه.
«ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور»، ومن لم يهده اللَّهُ تعالى فما له من هادٍ.. وهكذا يضربُ اللَّهُ تعالى لنا مثلين للتدليل على المعرضين عن نور الحق، وهدي الإيمان..
فالمثل الأول يبيّن حال من يظن نفسه أنه على شيء، ولكنه عند انكشاف الحقائق يجد أنه كان ضالاً مضلَّلاً، وأنَّ ما اتبع من العقائد الفاسدة، وما قام به من الأعمال المبنيّة على عقائده كانت بدعاً وأهواء في ميزان العدل الإلهيّ. لذلك يشبهها القرآن بالسراب الذي يظنه الظمآنُ ماءً.
وكما هي أعمال الكافرين، كذلك سائر الأعمال التي تخالف شرع الله، فهي لا تنتج إلاَّ الحسرةَ والخسران يوم الحساب، لأنَّ الجزاء الذي سوف يلاقيه أصحاب تلك الأعمال هو العذاب المهين..
أما المثل الثاني فينطبق على حال الذين عرفوا الحق، ولكنهم آثروا عليه الباطل، فتاهوا في ظلماتٍ ثلاث: ظلمة الجهل، وظلمة النفس، وظلمة المصير.. فهم لم ينتفعوا بعلمهم الذي تعلَّموه، فغدوا شرًّا من الجاهلين. وصار مثلهم كـالتائه في بحرٍ لُجيّ، تكتنفه الظلمات، ومن فوقه السحب السوداء الداكنة، المتصلة بظلمات البحر حتى تسد عليه كل منافذ الرؤية أو النور، فكانت تعبيراً عن ظلمات النفس التي يشتد فيها الكفر حتى لا تعود قابلة لأية توبةٍ، أو طلب مغفرة، أو الرجوع إلى الإيمان..
وفي المثلين أيضاً دلالات أخرى عظيمة ومفيدة.. فذكر الماءِ وحاجة الظمآن إليه، يوحي بأهمية الماء للكائن الحيّ. وذكر البحر يبين مدى أهميته - في خواصه وعناصره التي يحتويها - في توفير الخير والرزق للإِنسان. ومن هنا كان الماء هو أصل الحياة على هذه الأرض، كما يبّينه ربِّ العالمين: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبيَاء: 30]. أما مثل السراب فيجعلنا نتصوّر الفراغ الذي يملأ قلب الإِنسان؛ وكذلك مثل الظلمات التي نتصوَّر معها الشقاء الذي يحيق بالإنسان. وكلاهما - الفراغ والشقاء - عاملان مهمان من العوامل التي تُعجّل في فناء الإِنسان.. مما يعني بالنتيجة أنَّ للحياة مقومات لا تستوي بدونها، وذهاب تلك المقومات إنما يؤدي إلى الانقلاب على الحياة بذاتها.. وبتقابل استواء الحياة والانقلاب عليها، تتقابل أعمال المؤمنين والكافرين، فالمؤمنون يمدهم الإِيمان بالنور الذي تنبعث منه الحياة، والكافرون يعانون من ظلام الكفر الذي يفرغ كل معنى للحياة. أما الغاية النهائية فإنها تتعلق بالمصير في الآخرة حيث يكون الخلود للمؤمنين في حياة النعيم، في مقابل الخلود للكافرين في ظلام الجحيم..
فلنتأمل عظيم المدلولات والعظات التي يمدنا بها المثل القرآنيّ لكي يقرب إلى أذهاننا ما يترتب على أعمالنا من نتائج ومصائر..
4 - مثل القرية التي كفرت بأنعم الله تعالى
يقول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرْتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *} [النّحل: 112][*].
لا غرو بأنَّ الأمان والاستقرار والعدل تعدُّ من الضرورات، والحاجات الأساسية لأيّ مجتمع بشري، ولا يقل أهمية عن تلك المقومات، الشعور بالسلامة، والاطمئنان في نفوس أبنائه؛ فإذا أوتي الناس - مع كل تلك النعم - الرزقَ الوفير والرفاهيةَ في العيش، فذلك فضل من الله عظيم على هذا المجتمع، مما يوجب على كل فردٍ من أناسه عبادة الله تعالى، وطاعته، والسير على هداه، فضلاً عن حمده وشكره في الغدوّ والآصال..
ولا يقل واجب الحمد والشكر من الجماعة، عن واجب الأفراد فيها، وهي ترى الرزق الوفير يتدفق عليها من كل مكان.. وإلاَّ فإنَّ كفران النعم الربانية سوف يجرّ على المجتمع وعلى أهله - جماعةً وافراداً - الويل والثبور، وعظائم الأمور. ولكي تتبيَّن لنا عاقبة الكفر بأنعم الله، فإنَّ القرآن يضرب لنا هذا المثل عن قريةٍ كان الأمن يشيع في ربوعها، والاطمئنان يعمُّ أرجاءها، وتتدفق عليها الخيرات والأرزاق من كل مكان، مما جعلها تنعم بحياةٍ ملؤها الرغد والازدهار، بعيداً عن العوز والجوع، وعن الخوف من غائلة الدهر، وضيق العيش.
ولكنَّ هذه القرية، بدل أن تجعل أنوارَ الإِيمان تتلألأ في ساحاتها، وأناشيد الثناء والحمد تصدح في أرجائها، تتحول عن ذلك كله إلى الكفر بأنعم الله عليها، وجحود رزقه وعطائه، حتى يجيئها حكم الله العليّ القدير، فيبدِّل رزقها بالحاجة، وكفايتها بالجوع، وأمنَها بالخوف، وطمأنينتها بالشقاء، جزاءً لأهلها بما كانوا يصنعون..
ويظهِّرُ المثلُ القرآنيُّ الجوعَ والخوف بالصورة الحسية، فكأننا نراهما يتلبَّسان الناس في تلك القرية كما يتلبَّسُ الثوبُ الجسمَ، لا بل وتتبدّى الصورة بشكل أوضح بالألبسة التي صاروا يرتدونها، والتي تنمُّ عن الفقر والعوز والحاجة، وكل ذلك لكي يجعلهم الله تعالى يتذوقون طعم الجوع والخوف والفقر، كما كانوا يذوقون طعم الطمأنينة، والغنى، والرزق الرغيد. فلعلَّ في لذع مثل هذا الحرمان، وتأثيره في النفوس، ما يجعلهم يشفقون على أنفسهم، فيخافوا من سوء مغبة هذا التحوّل الذي حلَّ بهم، ويغيّروا ما بأنفسهم، علَّ الله يغيِّر ما بهم من سوء الحال.
وَمَثلُ هذه القرية كَمَثل مكة عند بعث «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)؛ فقد جعل اللَّهُ فيها بيته الحرام، وجعلها بلداً حراماً، وبلداً آمناً مطمئناً، لا يقع عليها شيء مما كان يقع على القرى المجاورة لها، بل وعلى أهل شبه الجزيرة جميعاً، حيث كانوا عرضةً للغزو والسلب والنهب، والعيش في أسوأ الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. كما أن الرزق كان يتدفق على مكة من كل مكان، مع الحجيج الآتي لزيارة الكعبة، ومع القوافل التجارية التي تقدم إليها من بلاد الشام واليمن وهي تحمل البضائع من شتى الأنواع والأصناف.. ومع أنَّ وجودها في وادٍ غير ذي زرع، وأرض جدباء لا نماء فيها ولا ثمار، إلاَّ أنه لم ينعدم، ولم ينقطع عنهم رغد العيش، وثمرات الأمن والاستقرار منذ دعاء إبراهيم الخليل (عليه السّلام) الذي يثبته القرآن الكريم بالقول الحقّ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ *} [إبراهيم: 37].. فكان حرياً بأهلها، وقد جاءهم رسولٌ من أنفسهم، حريص عليهم، يبشر بالدين الحق، وديُنُه دينُ إبراهيم الذي أعاد وابُنهُ إسماعيل (عليهم السّلام) بناء البيت المحرَّم الذي ينعمون بجواره بالأمن والطمأنينة.. نعم كان حرياً بأهل مكة أنْ يصدِّقوا هذا النبيَّ الأمين، وأنْ يؤمنوا بدينه ويناصروه!.. إلاَّ أنهم، بدلاً من ذلك، كذَّبوه، وعارضوه، وافتروا عليه بالادعاءات الباطلة، وأنزلوا به، وبمن اتبعوه الأذى ظلماً وعدواناً.. فكان أنْ حاق بأهل مكة الذل، ونزل بساحتهم الهوان، حتى كسرت شوكتهم واضطُرَّ معظمهم إلى التصديق بنبوة محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)! والدخول في الإسلام، فعادت مكة آمنةً مطمئنةً، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان..
ذلك هو المثل الذي ضربَهُ لنا القرآن الكريم عن القرية التي كانت آمنة، مطمئنة، فكفرت بأنعم الله حتى حاق بها الجوع والخوف.. وهو المثل الذي ينطبق في كل زمانٍ، على أي بلدٍ ينعم بالأمن والسلام، فتبطرُهُ النعمة، ويغرّه متاعُ الحياة الدنيا، حتى ينسى ذكر اللَّهِ، ويكفر بأنعمه.. فكان لا بدَّ أن يذيقه الله - جلّت قدرته - لباس الجوع والخوف، فتحل به الأزمات الاقتصادية، ويعم في أرجائه الخوف، وينتشر فيه الفسق والفساد، وذلك بما يصنع أهله، حتى يصيروا على تلك الحالة المزرية من السوء والشقاء.
الفقرة الرابعة - الفوارق بين المؤمنين والكافرين
1 - من كان مؤمناً ليس كـمن كان فاسقاً
يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ *أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *} [السَّجدَة: 18-20].
من القواعد والسنن التي بنيت عليها الحياة وجود الأضداد، فـمثلاً نجد الحق وبمقابله الباطل، والخير وفي مواجهته الشر، والعمل الصالح وعكسه الفسق والفجور، والنور وضده الظلام.. إلخ. وذلك لكي يتبيّنَ للإنسان العاقل، الباحث عن الحقيقة، الطريقُ المستقيم، فيسلكه، ويحقق معاني الاستخلاف في الأرض، وفق شرع الله وعدله.. فكان طبيعياً، وفق منطوق الحقيقة إيَّاها، ألاَّ يكون المؤمن كـالفاسق، وألاَّ يكون الذين يعملون الصالحات مثل الذين يعملون السيئات، وألاَّ يكون بالتالي نفس المصير لهؤلاء وهؤلاء، فلكل مأوى يأوي إليه، جزاءً وفاقاً بما كانوا يعملون.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات، دأبهم العمل على طاعة الله تعالى، والاستقامة على الشرع القويم، ولذلك فإنهم يختلفون كلياً عن الفاسقين، المنحرفين عن طاعة الله سبحانه، الشاردين عن شرعه.. واختلافهم يكون بيّناً في الطباع، والشعور، والتفكير والسلوك، وبالتالي فلا يستوون في الجزاء لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تكون مصائرهم واحدة في الحياة الآخرة، لأنها هي الحياة الأبدية، والتي قال عنها الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [العَنكبوت: 64]. فأما المؤمنون الذين عملوا الصالحاتِ فلهم جنات المأوى نزلاً، وهي مما يُعَدّ، عادةً، للضيوف من منازل، تكريماً واحتراماً، وزيادة لهم في الاعتبار. وأما الذين فسقوا، وعاثوا في الأرض فساداً، فمأواهم النار التي كلما همّوا بالخروج منها، في محاولة للفرار من حريقها، أعيدوا فيها، ورُدُّوا إلى قعر الأتون من جحيمها، وقيل لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *} [السَّجدَة: 20]، مع ما يحمل ذلك من التقريع والتوبيخ، ومن الدفع والتعذيب.. فنتصورهم وقد أُمْسِكَ بهم، لمنعهم من الهرب والإِفلات، ثم يُقذفون في المهاوي السحيقة من نار جهنم وبئس المصير.
أمّا قولُ الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ *} [السَّجدَة: 18] فقد نزل بحقِ علي بن أبي طالب (كرَّم اللَّه وجهه) والوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط، في كلام كان بينهما (افتخر فيه الوليدُ على عليٍّ)[*].
وكما ميزت النصوص القرآنية بين الذين يعملون الصالحات وبين الفاسقين، كذلك ميزت بين المتقين والفجار؛ فقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ *} [ص: 28]؛ وقيل إنَّ هذه الآية نزلت عندما قال كفار مكة للمؤمنين إنّا نُعطى في الآخرة مثل ما تعطون.. ولكنها في الوقت نفسه آيةٌ تحمل سنةً إلهيةً هي تعبير عن الحكمة فيما قضى الله تعالى، بألاَّ يكون المؤمنون كـالمفسدين، ولا المتقون كـالفجار، لأنَّ المنهج الذي يسير عليه هؤلاء وهؤلاء مختلف في منطلقاته ومقاصده، فالمؤمنون والمتقون يسيرون على منهج الله، والمفسدون والفجار يسيرون على المناهج التي يبتدعونها خدمة لأهوائهم، التي تحوم دائماً حول الفساد والفجور! فكان من حكمة الله السنيَّة ألاَّ يجعل المؤمنين كـالمفسدين في الأرض، ولا المتقين كـالفجار...
2 - الكافر كـالأعمى والأصمّ، والمؤمن كـالبصير والسميع
يقول السميع العليم: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [هُود: 24].
إنَّ من يتتبَّع النصوص التي سبقت هذه الآية الكريمة في «سورة هود» يجد تبياناً لبعض صفات الكافرين عن صفات المؤمنين.. فالكافرون هم الذين يصدون عن سبيل الله - وهو الإسلام - ويطلبون السبل المعوجة - وهي الكفر والضلال - ومن ثم فهم بالآخرة يكفرون.. أما المؤمنون فهم الذين يعملون الصالحات، والذين هداهم ربهم إلى الحق المبين، فاطمأنت قلوبهم إلى رحمة الله ورضوانه.. وزيادة في التوضيح والإفهام فقد جاءت هذه الآية المعبّرة لتدل على الاختلاف بين الفريقين من خلال ما يختلف به الأعمى والأصمّ، عن البصير والسميع، مما هو واقع ومشاهد في الحياة من حولنا، حيث نلتقي يومياً ببعض المعاقين العاجزين عن النظر أو السمع، والذين يختلفون تماماً عن الأصحّاء من ذوي الأبصار والأسماع، فلا يستوون في الصورة والشعور، ولا يتماثلون في الحركة والعمل..
فالأعمى والأصم هما المثال عن الكافر الذي عميت بصيرته عن الاهتداء إلى طريق الإِيمان، وسدت أذناه عن سماع الحق المبين. والبصير والسميع هما المثال عن المؤمن الذي اهتدى إلى نور الإِيمان، وامتلأت نفسه من سماع الحق. فكلاهما لا يستويان في الصفات والمزايا مثلـما لا يستوي الأعمى الأصم، والبصير السميع في الخلقة والتكوين، وفي الحركة والسلوك.
فإذا كان هذا ما يراه الناسُ في حياتهم مثلاً حسيّاً ومشاهداً، أفلا يتذكَّرون إذاً قول القرآن وما ضربَ الله تعالى فيه من مَثَلٍ، لينبّه ويحذّر من مغبة الكفر الذي يجعل الكافر كـالأعمى والأصمّ؟ ومتى عرف الكافرون ذلك فكيف يستمرون على كفرهم، وآثارُهُ على مصيرهم في الحياة الأخرى أعظمُ بلاءً من العمى والصَّمم في هذه الدنيا؟ ولكنَّ كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون، فلا يتذكَّرون ولا يتَّعظون.
3 - مثل رجلَيْن أحدهما يجحد نعمة الله وينكر الساعة وصاحبه يعظه ألاَّ يكفر بالله الذي خلقه.
يقول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا *كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا *وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا *وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُّ إِلَى رَبِّي لأََجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا *قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا * ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا * فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا * أو يصبح مآؤها غورا فلن تستطيع له طلبا * وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا * ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا} [الكهف: 32-44].
من الواضح أنَّ مطلع هذه الآيات الكريمة يحمل الخطاب للنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنْ يضرب مثلاً لأولئك المشركين الذين سألوه أنْ يطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه[*]، وللمؤمنين القائمين على ذكر الله تعالى، وتسبيحه ودعائه يريدون رحمته ورضاه، أجل، أن يضرب الرسولُ الأكرمُ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) للمشركين والمؤمنين، على حدٍ سواء، مَثَلَ رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين غنَّاءتين بالأشجار المثمرة، والزروع اليانعة، والمياه المتفجرة من نهر بينهما، بينما الآخر قد لا يملك شيئاً من ذلك كله، ولكنْ لديه ما هو أعظمُ شأناً، وأجلُّ قدراً، ألا وهو الإيمان الصادق بالله ربّه.. لكي يتبيّن من هذا المثل ما يترتب على موقف كلّ من الرجلين من الآثار والنتائج التي تلاصق حياة الناس جميعاً في معتقداتهم. بل ولعلَّ المحور الأهم الذي يُبنى عليه سياق هذه الآيات الكريمة من سورة الكهف هو تبيان مصدر الرزق للناس، باعتباره أهم الأمور الرئيسية والحيوية في حياتهم، وما قد يتميزون به عن بعضهم البعض في التفكير والاعتقاد تجاه واهب الرزق ومعطيه..
وإذا كان في الأمثال القرآنية تصويرٌ لنماذج مختلفة عن الناس، حيث نجد صوراً للمحسن والمرابي، والصادق والكاذب، والمؤمن والمنافق إلخ.. فإنَّ في هذا المثل نموذجاً لمن غلب على طبيعتهم الغرور، والاعتزاز بالامتلاك والثروة، حتى ظنّوا أنَّ كل ما لديهم كان من صنع أيديهم، دونما أدنى تفكيرٍ بأنَّ الذي خلقهم هو الذي أمدَّهم بالعزم، وهو الذي بيّن لهم سبل العمل والامتلاك، وهو الذي جعل حدائقهم وجناتهم تغنى بالخيرات... ولو أنّهم قرأوا القرآن لتبيّن لهم أنَّ الذي يبسط الرزق لعباده ويضيق عليهم هو الله تعالى، بل وهو الذي جعل بسط الرزق أو تضييقه آياتٍ لقوم يؤمنون، مصداقاً لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *} [الرُّوم: 37].
وهذا ما يعظنا به القرآن الكريم، ويمدّنا بالتوجيه والتربية عندما يضرب للناس مثلاً عن رجلين، أحدهما أغناه الله ربُّهُ من ملكه، لأنه هو مالك الملك، فظن أنَّ غناه من عنده، أي من تفكيره وجهده، والآخر ملأ ربُّهُ الكريمُ قلبه بالإيمان، فسار على نورٍ وهدىً، لا تغرَّنَّهُ الحياة الدنيا، ولا يشرك بعبادة ربِّه أحداً؛ فكان لا بدَّ أن يكونا مختلفين اعتقاداً، وتفكيراً، وتوجّهاً..
ويبدو من سياق الآيات أنَّ الصحبة كانت تجمع بين ذينك الرجلين، على الرغم من التمايز الكبير بين أوضاعهما المادية، إذ كان لأحدهما - كما أشرنا إليه - جنتان تحفلان بالحدائق الغناء، والنخيل، والأعناب، والزروع، والمياه المتدفقة، وهذا ما جعله يزهو بنفسه، ويفاخر بملكه... وفي أيام عزّ الموسم جاء بصاحبه المؤمن، وراح يطوف به في أرجاء هذا الملك الواسع، ليريه ما حقق من «إنجازات كبيرة»؛ وهنا يبدأ الحوار الذي يكشف عن طبع كل من الرجلين.. فقال لصاحبه وهو يحاوره:
- لعلك ترى إلى هاتين الجنتين وما تغنيان به من الشجر المثمر على أنواعه، ومن النخل المعطاء الذي يحفُّهما، والزروع المنبسطة بين أرجائهما.. وانظر إلى الظلال الوارفة، وتنشق من أريج الزهر الفوّاح، واملأ جوفك من ماء هذا النهر الذي يتفجَّر خلالهما، فيروي هذه الحدائق وما فيها من الشجر، والزرع على اختلاف أشكاله وأنواعه.. فكل هذا الملك هنا، وما عندي من الدور والأموال غيره، إنما كان بهمتي وعزيمتي، وما بذلت فيه من أموال طائلة، ومن جهد، وعلم وخبرة واسعة.. وهذا ما يجعلني، يا صاحبي، أكثر منك مالاً، وأعزَّ نفراً[*]، بل صاحب الغنى الواسع، والأملاك الكثيرة..
ثم انعطف ذلك المتباهي ليدلف بصاحبه من ناحية إلى أخرى، ويدور به من نُضرة إلى نُضرةٍ.. فيقف هنا، ويمشي إلى هناك، وهو لا يكفُّ عن الوصف، والشرح بما يزيده زهواً وخيلاءً، إلى أن غلب عليه ظنُهُ الواهم، وظلمه لنفسه، فقال:
- ما أظن أنْ تبيد كلُّ هذه الممتلكات والثمار والزروع أبداً؛ وما أظن الساعة قائمةً وفيها بعث وحساب، بل إنه البقاء الدائم في هذه الأرض، وهل يمكن لكل هذا الجنى في الجنتين، وهذا الرونق والجمال الذي يحفّ بهما، أن يتلفَ، ويذهب بدداً؟!
ثم أخذته العزة بالإثم، وطغى عليه غرورُ الملك أنْ رأى نفسه استغنى، فأردف قائلاً:
- ولئن كانت قيامة ونشور - فرضاً - ورددت إلى ربّي - بحسب زعمك - لأجدنَّ ملكاً أوسع، وأكثر خيراً من هذه الحدائق في منقلبي هناك!.. لأنني كما قدرت على أنْ أمتلك، وأثرى هنا في هذه الدنيا، فلماذا لا أقدر على ذلك في حياة أخرى؟ وأنا صاحب الفكر، والإرادة، والعزم، وهي المقومات التي تجعلني أحقق ما أريد، وأرغب، حيثما كنت، وكيفما كنت!.. أجل يا صاحبي، لأجدنَّ بعد الموت الذي تحدثني عنه، خيراً من دنيايَ منقلباً!..
وكان صاحبه رجلاً مؤمناً، ويعلم يقيناً بأن الملك لله تعالى، والرزق منه وحده، فلا يتأتّى لإنسانٍ أن يمتلك عقاراً أو نقداً، ولا ينال عِزّاً أو منصباً إلا أنْ يشاء الله، فالملك لله، والعزة لله جميعاً، وهو جلَّ جلاله يرزق من يشاء بغير حساب، ويجعل الرزق أو الملك أو السلطان تجربةً وابتلاءً لعباده، بقدر ما يجعله نعمةً ومنّةً عليهم..
ولذلك، ومن منطلق إيمانه، قال لصاحبه:
- أكفرت وجحدت بأنعم ربِك الكريم عليك؟ ألا تعلم، يا صاحبي، بأنَّ الله تعالى قد خلقك من ترابٍ، ثم من نطفةٍ، ثم سوّاك رجلاً على هذه الصورة التي أنت عليها، ووهبك من قوة الفكر، وملكة الإرادة، وحرية الاختيار، وأمدَّك بكل الأسباب التي جعلتك تنشئ ما تنشئ، وتجني ما تجني؟! وفضلاً عن هذا الملك الذي أقامك عليه وكيلاً، فقد وهبك ربك الأهل والأولاد الذين تقرُّ بهم عينك، وتستوي بوجودهم حياتك؟ فهل فكَّرت بأنّ كلَّ ذلك من عطاء الله القدير، ومن فضل ربِّك الكريم؟!.
أجل يا صاحبي إنَّ كل قواك الفكرية والجسدية، وكل قدراتك وطاقاتك هي من خلق الله تعالى، وكل ما أنت عليه هباتٌ تمنَّنَ بها عليك، فإن ظننت أنك قد أوتيتَه على علمٍ منك، فأنت واهمٌ ومخطئ، وكافرٌ بالنعمة وجاحدٌ للفضل!.
ثم تابع الرجل المؤمن يعظ صاحبَهُ قائلاً:
- لكن، أنا، هو الله ربي، آمنتُ بالله إلهاً واحداً أحداً، فرداً صمداً، ولا أشرك بعبادة ربّي أحداً، لأنه لا شريك له في الملك، وهو على كل شيء قدير.
فيا صاحبي، لولا إذْ دخلت جنتك هذه وقلت: ما شاء الله قد أعطاني، ولا قوة لعبدٍ إلا بالاستعانة بالله، فهو القوي المتين، ويهب القوة لمن يشاء من عباده. ولو لم يمنحني ربّي قوة، وصبراً واحتمالاً ما مكَّنني من شيء، وما كنت أنشأت حرثاً، ولا غرساً، ولا سقاية.. فلا أحد يملك قدرة على تفكيرٍ أو عملٍ إلا بإذن الله ربّه.. أجل، لو دخلت وقلت ذلك، لكان خيراً لك وأبقى، ولكنك - ويا للأسف - لم تفعل لأنك لم تؤمن بأنَّ الله ربّك، وربَّ العالمين هو الذي يعطي ويمنع!..
ثم يخلص هذا المؤمن بالقول لصاحبه:
- «وإنْ تَرَنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولداً» فهذا من أمر ربّي، فهو سبحانه الذي قدَّر لي رزقي، وخلق لي ذريتي. ولا أملك إلا الحمد والشكر والثناء على ربي لما قدَّر لي، ووهبني من عطاءٍ جزيلٍ، ونعمةٍ كريمةٍ، فعسى أنْ يؤتيني ربي خيراً من جنّتيك في عاجل دنياي، فالغنى ليس حكراً على أحد، ولا الفقر ملازماً لأحد، إلاَّ أنْ يشاء الله تعالى..
وما أدري ما أقول لك بعدُ يا صاحبي! فأيُّ إنسانٍ يظنُّ بأنَّ ما لديه هو من كدّه وجهده، وأنْ ليس لله تعالى فضل عليه، فليحذر غضب الله، فهو وحده يرزق من يشاء ويقدر. فإنْ كنت تدَّعي بأنَّ هذه الجنائن لن تبيد، فما ظنُّك بربِّ العالمين، وهو القادر على أنْ يرسل عليها الصواعق الماحقة، فتصبح جرداء كأنها لم تغن بالأمس، وأنْ يجعل أرضها صلدة ملساءَ لا يستقر فيها ماء، ولا ينبت فيها ثمار؟! ثم ما ظنُّك بـالله تعالى الذي يسمع تحاورنا، وهو إنْ يشأْ يأمر هذا النهر فيختفي في باطن الأرض، فمن يأتيك إلاَّ الله ربُّك بَنَهرٍ غيره إنْ أصبح ماؤه غوراً، ولا أثر له!..
فاتقِ الله ربي وربَّك، وارجع إلى نفسك، فحاسبها على ما فيها من الغيّ والغرور، وإلا وقعتَ في المحظور!..
... ذلك كان ظنُّ الكافر بأنعم ربه، الجاحد بفضله عليه!..
... وذلك كان نصح المؤمن له!..
ولعلَّ الكافر لم يفلح معه نصح ولا إرشاد، بل ظلَّ - على ما يظهر - معانداً، مكابراً بأنَّ علمه وفنَّه ومقدرته هي التي أنشأت تلك البساتين والحدائق، وجهده هو الذي جعلها تؤتي أكلها.. ولكن ها هو يرى بأم العين عاقبةَ سوء الظن بربّه العزيز القدير... إذ بين عشية وضحاها كان الهلاك قد أحاط بكل ما يملك، وما ظلَّ شيءٌ منه قائماً، لأنَّ الله القادر الجبار أرسل على أملاكه حسباناً من السماء، أي صاعقةً أحرقتها ولم تذر منها شيئاً.. فلما رأى ما حلَّ بثمره، أخذ يقلب كفيه، نادماً، متحسِّراً على ما أنفق من مالٍ، وما بذل من جهد في سبيله!.. أما أشدّ ندمه فكان مما فرَّط بحق ربّه تعالى وهو يقول: «يا ليتني لم أشرك بربّي أحداً»، فقد جعلته المأساة المروعة يدرك أنَّ ادعاءه بقوته، وغروره بماله، هو شرك بالله تعالى، وأيقن أنَّ الأمر لله في الأولى والآخرة، وعدم التصديق بهذا اليقين هو الشرك بعينه..
وطبعاً لم يكن لديه، لا هو، ولا أحدٍ من الناس أية إمكانية على أنْ يعوِّضه خسارته الفادحة، فلا الأبناء الذين كانوا مدعاة مباهاته، ولا الأهل أو العشيرة أو غيرهم من الذين كانوا يبجّلونه على غناه، كانت لديهم الاستطاعة على شيء من ذلك.. بل ولم يكن لأية فئة من الناس أن تملك ما يمدُّه من الأسباب التي تمكِّنه من استعادة ما فقد، لأنَّ الأسباب بيد الله تعالى، وهو وحده الذي يقدر على تسخيرها لخدمة عباده. ولذلك لم تكن لذاك الكافر الجاحد بأنعم ربّه «فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً» في النهاية..
وللتدليل على أهمية هذا المثل الذي ضربه الله تعالى للتمييز بين تفكير المؤمن، وتفكير الكافر، فإنَّ الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) قد وقف على معانيه السامية فقال: «عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *} [آل عِمرَان: 173]. فإني سمعت الله تعالى يقول بعقبها: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عِمرَان: 174]. وعجبت لمن اغتمَّ كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *} [الأنبيَاء: 87]. فإني سمعت الله تعالى يقول عقبها: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ *} [الأنبيَاء: 88]. وعجبت لمن مُكِرَ به كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *} [غَافر: 44]. فإني سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول بعقبها: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غَافر: 45].. وعجبت لمن خاف من زوال النعمة وأحبَّ بقاءها، أو لمن أراد سَعَةَ الرزق كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، فإني سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول بعقبها: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف: 40].
وهكذا يتبين لنا مما تقدم أنَّ من مقاصد الأمثال في القرآن الكريم تربية الإنسان إيمانياً، وتهذيب خُلُقهِ إنسانياً، فلا يأخذه الغرور بادّعاء العلم والمعرفة، ولا يسلبه الملك نعمة الاعتراف بفضل ربّه عليه، وذلك مهما زيَّنت له هذه الحياة الدنيا من علمٍ واسع أو ملك عامر. فمن الخير للإنسان أنْ يحمد ربّه تبارك وتعالى، ويشكره على ما يمدُّه به من النعم، أو يفيض عليه من العطاء، وأنْ يؤمن أنه وحده تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو سبحانه الذي يجزي ويثيب على النوايا والأفعال. فالدنيا دار ابتلاء وفناء، والولاية والملك لله الحق. فسبحان الله، وجلَّ شأنه عما يدَّعي الجاحدون والمنكرون.
4 - لا يجعل الله المؤمنين كـالمفسدين، ولا المتَّقين كـالفُجَّار
يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ *كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ *} [ص: 27-29].
...فهل أدرك الإِنسانُ - فعلاً - حقيقة خلق السماء والأرض، وكلَّ ما فيهنَّ، وما بينهنَّ؟! وهل أيقن الإنسان أنَّ كل شيء محكوم بأمر الله العزيز القدير؟!
قد يكفي للتدليل على أحقية وعظمة خلق السماء والأرض، أنْ نسوقَ ما توصل إليه علم الفلك، من اكتشاف حديث مذهل وهو التقاط النور الآتي من مسافة اثني عشر مليار سنة ضوئية، حتى ندرك ما معنى خلق السماء والأرض، وحتى نعلم ما معنى خشوع القلب لذكر الله الخالق العظيم..
ومن الحقائق التي يستيقنها العقل، ولا تدحضها الأدلة والبراهين العلمية، بل وتؤكد صدقيتها، أنَّ الله هو خالق السماوات والأرض، وأن قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] هو القولُ الحقّ، الذي لا يحتمل تأويلاً أو جدالاً، وذلك بخلاف ظنِّ الذين كفروا، وهم يدَّعون بأنَّ خلق السماء والأرض وما بينهما، إنما كان مصادفةً!.. أما كيف جاءت هذه المصادفة، وكيف لها أنْ تستوي في هذا الخلق العظيم، فهذا ما لا يأتونَ عليه ببرهانٍ أو دليلٍ!.. مما يجعل ظنَّهم عبثاً، وباطلاً بطلاناً مطلقاً، وذلك بخلاف التوكيد القرآني، وهو أنَّ الله سبحانه وتعالى ما خلق السماءَ والأرض وما بينهما باطلاً، بل بإرادته السنيَّة التي أنشأتهما من العدم إنشاءً، وابداعاً بلا مثيل سابقٍ لهما.. وهذا التوكيد القرآني هو ما ينفي، ويدحضُ زَعْمَ أولئك الكافرين، وظنَّهم الماكر الخبيث، بل ويهدّدهم على هذا الظن الكاذب بالعذاب في النار، وما يحيق بهم في قعر جهنم من العذاب المهين..
وكما لم يخلق الله تعالى السماء والأرض وما بينهما باطلاً، فـكذلك لم يجعل سبحانه المؤمنين مثل الكافرين، فكان حقاً ألاَّ يكون مصيرُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كـمصير المفسدين في الأرض. وألاَّ يكون مصير المتقين كـمصير الفجّار!... ذلك بأنَّ الله تعالى خلق الأنفس، ووهبها الاستعدادَ، وقابلية التمكين في الأرض، ليعرّضها بعد ذلك للمنافع العظيمة بالتكليف.. وعلى أساس هذا التكليف أعدَّ لها الثواب والعقابَ، فكلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة.. فصارَ من المستحيل أن يجعلَ المولى الكريم أولئك الذين انتفعوا بما أودع فيهم من نفوس خيرة وعقولٍ نيّرة، أقبلت على الإِيمان، وعلى عمل الخير، كـالذين تاهت نفوسهم عن الحق، فعاثوا في الأرض فساداً، وزرعوا الشرَّ في كل مكان.. كما أنه صارَ من المستحيل أن يجعل المولى العزيز عبادَهُ المتقين، الذين يسيرون على دروب التقوى والهدى، كـالذين اتخذوا لأنفسهم الفجور والفسوق والعصيان منهجاً لا يحيدون عنه، فلا يطيعون اللَّهَ ورسله، ولا ينشرون العدل والخير بين الناس، بل دأبهم الركض وراء أهوائهم ومصالحهم، وتأمين مقاصدهم وغاياتهم حتى ولو كان الطريق إليها القهر والتسلط والجحود، وكل ما يخالف سنة الله في خلقه.. ولذا فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أنزل القرآن كتاباً مباركاً، لا ريب فيه، هدىً للمتقين، بحيث يكون المجالُ مفتوحاً أمام جميع الناس ليقرأوه، ويفهموه، ويتفكَّروا بآياته، وما تدل عليه من السنن والأحكام والعظات، والقيم التي تقود إلى خيرِ الناس في الدنيا والآخرة.. وليذَّكر أولو الألباب، ويُذكِّروا الناس بما تحمل الأمثال في القرآن من دلالات ومقاصد، فلا يتوقفون عند ظواهرها، بل ينفذون إلى أعماقها فتهديهم جميعاً سواء السبيل، وإلاَّ كان مثل أهل الذكر والعلم كَمَثَل من له بقرة درور لا يستدرُّها، أو مهرة نَثور[*] لا يستولدها.. أو كمثل من له خيرات وممتلكات وأرزاق وفيرة لا ينتفع بها، بل يقيم نفسه حارساً عليها، ويترك للآخرين جنيَ ثمارها وفوائدها..
وعن الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) أنه قال: «قد قرأَ هذا القرآنَ أُْناسٌ لا علمَ لهم بتأويله. حفظوا حروفَهُ، وضيّعوا حدودَهُ حتى أنَّ أحدهم ليقول: واللَّهِ لقد قرأتُ القرآن فما أسقطتُ منه حرفاً؛ وقد واللَّهِ أسقطَهُ كلَّهُ، ما يُرى للقرآن عليه أثرٌ في خُلُقٍ ولا عمل».
الّلهّمَّ اجعلنا من العلماء المتدبرين، ومن القراء الموقنين. والحمد لله ربِّ العالمين..
5 - مثل الذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ، ومثل الذين آمنوا امرأة فرعونَ، ومريم بنت عمران
يقول الله عزَّ وجلَّ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامَرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ *وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *} [التّحْريم: 10-12].
من المتعارف عليه في الحياة أنَّ الصحبة الطيبة تورث العشرة الطيبة، وأنَّ الصحبة السيئة تورث العشرة السيئة، ولكنْ يبقى هنالك كثير من الحالات التي تشذّ عن هذه القاعدة، بحيث لا ينفع بعضَهم العشرةُ الطيبة، ولو كانت مع النبيين والمرسلين، ولذلك أوصى الله تعالى زوجات النبيّ محمّد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، في آياتٍ كريمة من كتابه المبين، ألاَّ يكنَّ كباقي النساء لصحبتهنَّ من رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ، بل، وإكراماً لهذا الرسول، وإكراماً لهنَّ، فقد أعطاهن الله تعالى مكانة مرموقة بأن جعلهنَّ أمهات المؤمنين والمؤمنات.. وتوكيداً لهذا الأمر مع ما يستتبع من تبيانٍ لفضل المرأة في الإسلام، فقد ضربَ الله تعالى - في الآيات الكريمة (10 - 12) من سورة التحريم - مثلاً للذين كفروا امرأة النبي نوحٍ، وامرأة النبي لوطٍ، ومثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون، ومريمَ بنت عمران لما يحمل كلُّ مثلٍ من هذه الأمثال من أبعادٍ ومرامٍ، يأتي في طليعتها نفي كل شبهة قد تخالط الأذهان حول مصاحبة الأنبياء والمرسلين، التي لا تغني شيئاً، إنْ لم ينتفع بدعواتهم وإرشادهم الإنسان، لأنَّ المقياس في النوايا والأفعال هو الإيمان والطاعة. وهذا يعني أنَّ قرابة النبي أو الرسول مع معصية الله، أو مخالفة مبعوثيه، قد تكون عاقبتها أشد ويلاً وهلاكاً، مهما كانت صلة القربى، حتى ولو كانت الزوجة أو الابن، أو العم أو الخال، أو غيرهم من ذوي الأرحام وقرابة النسب.. وبالمقابل فإنَّ مصاحبة الكافر مع طاعة الله ورسوله لا تحجب رضوان الله تعالى ومغفرته، بل قد تزيد في أجر الإنسان وثوابه، ولا سيما إذا رافقها الألم والعذاب..
ولبيان أنَّ العيش مع رسل الله أو ملازمتهم، حتى في البيت الزوجيّ، قد لا تغني الإنسان من عذاب الله، فقد ضرب الله تعالى للناس مثلاً امرأتين كافرتين، كانتا زوجتين لرسولين من رسل الله، ومثلاً آخر امرأتين مؤمنتين كانت إحداهما زوجاً لكافر، والأخرى أمّاً لنبيّ كريم، وذلك ليكون تأثير المثل في النفوس أقوى، ودلالته في المصاديق أوضح.. فالمثل للذين كفروا امرأة نوحٍ، وامرأة لوطٍ، اللتان خانتا زوجَيْهما في الدين، فلم تؤمن كل منهما بدعوة زوجها النبيّ، ولم تقبل منهاجه في العقيدة والعمل؛ بل وعمدت كل منهما للوشاية بزوجها عند بني قومه، الذين يقاومون دعوته إلى دين الله. فامرأة لوطٍ (عليه السّلام) تآمرت مع الملأ من قومه، على أنْ توقد النارَ على سطح المنزل كلما أتاه غريبٌ عنهم، وذلك للحؤول دون هداية الناس على يديه، وبالتالي إفشال دعوته!. وهذا ما حصل بالفعل عندما بعثَ اللَّهُ ثلاثة من الملائكة على صورة رجال، لكي يحققوا أمره تعالى في قوم لوط المفسدين. فما إن دخلَ أولئك الملائكة على لوط ضيوفاً، حتى سارعت امرأته وأوقدت نارها، علامةً للقوم بالهجوم على بيت زوجها، والاعتداء على ضيوفه. وكان ما كان وأُهلك أولئك القوم في تلك الليلة بالذات. ومثل هذا الفعل من امرأة لوط (عليه السّلام) وصفه ربُنا تعالى بأنه خيانةٌ، لأنه كان يصبُّ في مساعدة الكافرين ضد النبيّ المرسل، فهو خيانة للدعوة إلى الله، وبذلك كان كفراً صراحاً، وليس خيانةً من نوع البغي أو الزنى مع رجلٍ آخر، إن حاول أحد أنْ يفسّر الأمر على هذا النحو دسيسةً وافتراءً. فالخيانة، في مفهوم القوانين الوضعية، والشرعية لها مدلولات عديدة، فيقال الخيانة العظمى ويقصدون بها خيانة الوطن، ويقال خيانة الواجب الوظيفيّ، ويقال خيانة السر (أي بإفشائه) ويقول الله تعالى في سورة الأنفال {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفَال: 58]، ويقولُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [الأنفَال: 27]... وغيرها من مدلولات الآيات التي تدل على الخيانة، وهي مدلولات صحيحة في أعراف الدين وأهل الدنيا. وبهذه المدلولات - بل وأبعد أثراً - كانت خيانة امرأة النبيّ نوح، وخيانة امرأة النبيّ لوط عندما خانتاهما في أمر الدعوة التي يحملان؛ أي لم تؤمنا بعقيدة التوحيد، وبقيتا على الكفر. ولذلك ضرب الله تعالى بهما مثلاً للذين كفروا.. وإنَّ زواجهما من النَّبيَّيْنِ لم يغنِ عنهما شيئاً، بل على العكس زادَ في ذنوبهما وآثامهما، لأنه كان الأَولى بهما أنْ تؤمنا بدعوة زوجيهما، وتعيناهما على نشر هذه الدعوة، كما فعلت خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) التي كانت أول امرأة آمنت بنبوة زوجها محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وبذلت كل ما تملك من الأموال، واستعملت كل ما كانت تتمتع به من النفوذ للوقوف إلى جانب زوجها النبيِّ المبعوث (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، والإيمان بدينه والعمل على نشر هذا الدين.. وذلك الكفر من امرأة نوح، وامرأة لوط عاقبته حكماً العذاب الشديد. وسوف يقال لهما يوم الحساب: ادخلا النار مع الداخلين.
وضربَ اللَّهُ تعالى مثلاً للذين آمنوا «امرأة فرعون»، آسية بنت مزاحم، التي اهتدت إلى الإسلام، فعبدتِ الله تعالى مسلمةً، طائعة مختارة، بعيداً عن ترهات ووثنيّة زوجها فرعون، وكفره، هو والملأ من قومه. فقد عاشت في بيت ذلك الطاغية الجبار، الذي ادَّعى بأنه «ربهم الأعلى»، ولكنها كانت في قرارة نفسها تهزأ من ادعائه الربوبية، وتسخر من سفاهة أحلامه، حتى ظهرت حقيقتها لزوجها فرعون، فنهاها عن ذلك، مدَّعياً أنه لا يريد قتلها لأنها من سلالة العائلة المالكة، وشريكته في الملك. إلاَّ أنها لم تأبَهْ بتهديداته، فإيمانها بالله تعالى كان راسخاً وثابتاً، ولا يمكنها بالتالي، وهي المؤمنة الصادقة، أنْ تتخلَّى عن عبادة الله العليّ العظيم، من أجل مُلْكٍ زائل، ودنيا فانية. ولذلك فقد ثبتت آسية بنت مزاحم (رضي الله عنها) على يقينها وإيمانها بربها تعالى.. وهذا ما أغضب فرعون وأخافه فبادر إلى قتلها!. وقيل إنه ربط يدَيْها ورجلَيْها بالحبال، وشدَّها بأربعة أوتاد، وأمر بإلقائها في حرِّ الشمس اللاهب، وعلى صدرها صخرة كبيرة. فلما أحسّت بدنو أجلها، وأيقنت بأنها ستموت في العراء، قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} [التّحْريم: 11]؛ فاستجابَ اللَّهُ تعالى لدعوتها، وأماتها على الإسلام، وطاعة الله، ونجّاها من فرعون وعمله، ومن القوم الظالمين من الملأ الذين كفروا، أجرموا بحق تلك المؤمنة، وغيرها من عباد الله الذين كانوا ينزلون بهم أشدَّ أنواع المظالم..
ثم إنَّ في هذا المثل قطعاً واجتثاثاً لطمع كل مَنْ ركب المعصية، وهو يأمل أنْ ينفعه صلاحُ غيره من الأنسباء أو الأقرباء، لا بل وجعلَ الله تعالى معصيةَ الجبابرة من العباد واجباً على المؤمنين، إذْ يوم الحساب لا ينفع مال ولا بنون، ولا صحبة، ولا أي شيء، إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليمٍ، ملؤه الإِيمان بالله، والطهر من النفاق، وكان قد عمل صالحاً في الحياة الدنيا.
والمثل الآخر للذين آمنوا يتبدّى بحياة «مريم بنت عمران» التي أحصنت فرجها، وعاشت في الطهر والقداسة والعبادة، حتى حلَّ أمرُ الله، فخلق سبحانه ابنَها عيسى في بطنها من غير أب، ونفخ فيه من روحه ليكون رسولاً كريماً.. ومكانة السيدة مريم (عليها السّلام) رفيعة عند الله عزَّ وعلا، فقد صدَّقت بكلمات ربها، وآمنت بشرائعه وكتبه المنزَّلة، فكانت من القانتين المطيعين، الدائبين على طاعته، وتقديسه في عليائه..
إذاً فالآيات الكريمة في سورة التحريم اشتملت على ثلاثة أمثال: مثلٍ للذين كفروا، ومثلَيْن للذين آمنوا.. فأما المثل للذين كفروا فينطوي على أنَّ الكافر يعاقب على كفره، وعداوته لله ورسله، ولا ينفعه، مع كفره، ما كان بينه وبين المؤمنين من لُحمة نسب أو صلة مصاهرة، أو أي سبب من أسباب الصلة أو القرابة.. لأنَّ جميع الأسباب تتقطع يوم القيامة، إلا ما كان منها متصلاً بـالله وحده، أو على يد رسوله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) . فلو أنَّ القرابة أو المصاهرة أو الزواج، مع عدم الإِيمان، وعدم العمل الصالح، ينفع في شيء، لكانت نفعت الصلة التي كانت قائمة بين نوحٍ ولوطٍ (عليهما السّلام) وبين امرأتيهما، أي صلة الزوجية. ثم إنَّ صلة الأبّوة لم تنفع ابن نوح (عليه السّلام) الذي عصى أباه وغرق في الطوفان؛ كما لم تنفع صلة العمومة أبا لهبٍ عمَّ النبيّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، الذي أبى إلاَّ الكفر برسالة ابن أخيه، فابنُ نوح وأبو لهب ظلا على كفرهما، ولم يؤمن الأول بدعوة أبيه، ولا آمن الثاني بدعوة ابن أخيه شيئاً، ولم يُغن نوحٌ عن ابنه شيئاً، ولم يُغن محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عن عمه شيئاً، كما لم يغنِ كلٌّ من نوحٍ ولوطٍ (عليهم السّلام) عن امرأته شيئاً..
وأما المثلان للذين آمنوا فهما: مثلُ امرأةِ فرعون، ومثلُ مريمَ ابنة عمرانَ.
أما المثل الأول فيبيِّن أنَّ اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئاً إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية العاصي لا تضر المطيع شيئاً في الآخرة، وإنْ تضرر بها في الدنيا. كما يحدث، أحياناً كثيرة، في اتصال الإِنسان مع الكفرة الفاجرين. وهو الاتصال الذي يعتبر بحد ذاته ضرراً للمؤمن، على أن يكون في قرارة نفسه مؤمناً حقّاً، وأن يعمل بوحي هذا الإِيمان، كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أي كلما لم يكن فيه أذيةٌ من الكافرين.. كما هو الحال مع امرأة فرعون، فقد كانت ترى كفر زوجها، وطغيانه وشروره.. ولكنها في قرارة نفسها كانت مسلمة صادقة الإِيمان، فاتصالها به لا يضرها شيئاً طالما أنها لم تفعل فعله. هذا مع الإشارة بأنَّ الإسلام الذي بلّغه محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) للناس قد منع على المرأة المؤمنة المسلمة أنْ تبقى على عهدة زوجها الكافر، وأتاح لها مفارقته حتى تحفظ إيمانها ودينها، وهذا ما حاولت امرأة فرعون المؤمنة أنْ تفعله، فكان جزاؤها القتل على يد زوجها الكافر..
وأما المثل الثاني للذين آمنوا فكان مريم بنت عمران (عليها السّلام). التي لا زوج لها مؤمناً كنوح أو لوط (عليهما السّلام) ، ولا زوج كافراً كـفرعون.. فيكون السياق القرآنيّ قد بيّن الصلات التي يمكن أن تقوم بين الناس، وأهمها الصلة التي يقيمها الإنسان بينه وبين ربه وتأتي من ثَمَّ صلاتُ القرابة والرحم والمصاهرة وما إلى ذلك.. ويبرز ذلك في الأمثال القرآنية على النحو التالي:
1 - المرأة الكافرة التي لها صلة بالرجل المؤمن الصالح.
2 - المرأة المؤمنة الصالحة التي لها صلة بالرجل الكافر.
3 - المرأة المؤمنة العذراء التي لا صلة لها بأحد من الرجال، لا من المؤمنين ولا من الكافرين، بل علاقتها بربّها تبارك وتعالى.
فالأولى لا تنفعها صلتها وسببها. والثانية لا تضرها صلتها ولا سببها. والثالثة لا يضرها عدم وجود صلة لها بالعباد، طالما صلتها بالله تعالى هي الأوثق..
وفي هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يربط العلاقات الإِنسانية كلها - تقريباً - بالإِيمان، فضلاً عمَّا في هذه الأسرار من القضايا التي تتناسب وسياق السورة بكاملها، حيث سبق الأمثالَ ذكرُ أزواج النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وتحذيرهنَّ من تظاهرهنَّ عليه، وأنهنَّ إنْ لم يطعن اللَّهَ ورسوله، ولم يُردنْ الدار الآخرة، فلن تنفعهن صلتُهنَّ برسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، كما لم تنفع امرأتَيْ نوحٍ ولوطٍ صلتهما الزوجية بالنبَّيَيْن الكريمين.
الفقرة الخامسة - الشرك وظلم المشركين لأنفسهم
يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *} [لقمَان: 13] وهذا الشرك بـالله، أو هذا الظلم العظيم جاءت الأمثال في القرآن المجيد لتبيّنه بأروع الصور التي تأخذ بمجامع القلوب. وقد وردت في الآيات المباركة التالية:
1 - من يشرك بالله فـكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق
يقول الله تبارك وتعالى:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *} [الحَجّ: 30-31].
إنه تحذير من ربَّ العالمين لعباده المتَّقين، بل هو الأمر المطلق بالنهي التام، الجازم عن الرجس، الذي هو دنسُ النفس - بصورة مطلقة - ومنه عبادة الأوثان التي هي نجسٌ نفسي وجسدي في آنٍ.. ومن صوره ما كان المشركون يفعلونه في شبه جزيرة العرب من تعبدهم للأصنام، وتقديم النذور، وذبح الأضحيات عندها!.. وهذا هو الرجس أي الشرك وما يماثله من عباداتٍ، وهو الرجس أو الشرك الذي يأمر الله تعالى باجتنابه!..
و«اجتنبوا قول الزور»، أي الكذب، وتزوير الحقيقة لإظهارها على غير واقعها التي هي عليه، حتى تكونوا بهذا الاجتناب - إن فعلتم - سائرين على الطريق المستقيم، الذي هو سبيل الله الذي لا عوج فيه، غير مشركين به، لأن الشرك بالله - وعلى أية صورة أتى - دنسٌ يصيب العقول، ويلوِّث القلوب، ويشوب نقاء النفس وطهارتها، تماماً كما تشوب النجاسةُ الثوبَ والمكان.. فكل شهادة غير شهادة «لا إلهَ إلا الله»، وكل عبادة غير عبادة الله الواحد القهار، وكل كذب على الله، أو تغيير للحقائق التي يريدها الله، وإظهارها على غير واقعها.. فأيُّ شيءٍ من ذلك يكون افتراءً على الله، وشركاً به.. وكذلك فإنَّ كل اعتقاد أو تفكير أو مقولة بخلاف عقيدة التوحيد إنما هو ضربٌ من الشرك المذموم، الذي يزلُّ الإِنسان باتِّباعه زللاً فادحاً، ويرتكب من جرائه أكبر خطيئة أو معصية في حياته، لأن الشرك بالله لظلمٌ عظيم للنفس، وعظيم جداً.. من أجل ذلك يشبِّه النصُّ القرآنيُّ الإنسانَ الذي يشرك بالله فـكأنما سقط من شاهقٍ، من هذا السماء فوقنا، الذي لا أحد من الخلق يعرف مدى علوه وأبعاده، فتتلقَّفُهُ الطيورُ الجوارحُ، لتمزّق لحمه إرباً إرباً، وتكسّر عظامه قطعاً قطعاً، ثم تبتلعه في حواصلها، أو تذري أجزاءه في كل ناحية.
قال ابن عباس: «يريد تخطف لحمه».. وقال الزجاج: «أَعلَمَ اللَّهُ سبحانه أن بُعْدَ من أشرك بعبادته عن الحق كبُعْد من خرَّ من السماء فاختطفته الطير، فتمزَّق مِلَعاً في حواصلها».
ثم تأتي الصورة الثانية لمن يشرك بالله، فكأنما عصفت به الريح الهوجاء العاتية، وهوت به في مكان عميق، بعيد الغور لا قرار له، فلا يكون له ثمة أملٌ في نجاة، لأنَّ الهلاك محتومٌ عليه عندما تهوي به الريح في مكان سحيق.
فالآية الكريمة ترسم لنا مشهداً مرعباً لمن يشرك بالله جلَّ وعلا. وتتبدَّى في هذا المشهد سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها، وخاصة عند بدء اللفظ (بالفاء) وعند عرض المنظر (بسرعة الاختفاء)، وهي صورة قرآنية صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوي من أفق الإِيمان السامق إلى حيث لا قرار له، ولا نجاةَ، بل ضياع في العدم كأنه لم يكن أبداً.
فتأمل صدق هذا المثل ومطابقته لحال من يشرك بـالله، ويعبد سواه، ويستعين بغيره.. ثم انتبه إلى أنك تجد في هذا التشبيه أمرين:
أحدهما: أنه تشبيه مركّب لأنه يُشبِّه من يشرك بالله تعالى بالرجل الذي تسبب في هلاك نفسه هلاكاً لا يرجى معه نجاة، ولأنه يصور حاله بصورة من خرَّ من السماء فاختطفته الطير في الفضاء ثم مزقته مزقاً في حواصلها. أو عصفت به الريح، وهوت به في أوديةٍ سحيقة، بعيدة الأعماق.
وثانيهما: أنه من التشبيه المفرق، فيقابل كل واحد من أجزاء الممثَّل بالممثَّل به. وعلى هذا يكون قد شبَّهَ الإِيمان والتوحيد في علوهما وسعتهما وشرفهما بالسماء، ثم ربطهما بها لأنها هي مصعدهما ومهبطهما.. ثم شبه تارك الإِيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين، من حيث وقوع الهلاك، ومن حيث تأكد الخسران. وقد كنَّى بالطير التي تخطف أعضاءه وتمزقها كل ممزق عن الشياطين التي تغريه وتقوده إلى مظانِّ هلاكه. فكل شيطان يستولي على جزء من تفكيره واعتقاده، كما لكل طير مزعة من لحمه وعظامه. أما الريح التي تهوي به في مكان سحيق فهي هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكانٍ، وأبعده عن الحق، وهو المكان الدون الذي تغطيه ظلمة الكفر والشرك. يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ *} [غَافر: 34]، أي مثل إضلال الذين لا يجتنبون عبادة الأوثان، أو لا يجتنبون قول الزور، بسبب الشرك، كذلك يضل الله كل مشركٍ، مسرفٍ في شركه، متجاوزٍ بكذبه كل ما شهدت به البيّنات على صدق دعوات الأنبياء والرسل...
2 - ضعف الذين يعبدونهم من دون الله مثل الذباب في ضعفه
يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحَجّ: 73-74].
إنه النداء والنفير العام، الذي يشمل كل آفاق الوجود الإنساني: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البَقَرَة: 21]! فلئن أصاخَ الناسُ السمعَ، لوجدوا أنهم أمام مَثَلٍ ضُرب لهم للعظة، والتذكرة، والتنبّه من الغفلة في جوهر معتقداتهم، وأساس وجودهم، وليس للتمثيل على حالة خاصة، أو مناسبة حاضرة. وهذا المثل الذي يدعوهم نداء الحق تبارك وتعالى لأنْ يستمعوا له، يضع قاعدة، ويثبت حقيقة: فأما القاعدة فهي أنَّ الحق حق، والباطل باطل، فعبادة الله تعالى هي الحق، وعبادة غيره من مخلوقاته هي الباطل. وأما الحقيقة فهي أنَّ تلك المعبودات، من دون الله، لا تقدر على أي خلقٍ، مهما كان شأوه، كبيراً أو صغيراً، حتى ولو كان ذباباً.. وكلاهما - القاعدة والحقيقة - يقررهما القول الصادق المبين: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحَجّ: 73]..
يا أيُّها الناس: إنَّ مَن تدعون من دون الله، من تلك المعبودات المدَّعاة، التي لا شأنَ لها ولا قدر، من أصنامٍ وأوثانٍ، أو من بشرٍ، أو من كواكب سيارةٍ، أو من آلهةٍ مختلقةٍ في السماء.. أو غيرها ممّا تزعمون أنها تمدُّكم بالعافية، أو السلطان، أو تعينكم في طلب الرزق، أو أيَّ شيءٍ قد تبغونه!... فإنَّ دعواتكم لها، وطلب عونها كله باطلٌ، ولا جدوى منه، لأنَّ تلك المخلوقات، أو بعضها لا يقدر على شيءٍ إلاَّ أنْ يشاء الله؛ والدليل أنَّ تلك الأرباب المتفرقة، التي تطلقون عليها - جزافاً - تسمية آلهة، ليس لديها أدنى قدرة، أو أدنى إمكانية على خلق ذباب ولو اجتمعوا له، وتعاونوا عليه، مع أنَّ الذباب من الكائنات الحية الأقل صغراً في دنيا الأرض...
ولكن ليس الأمر في الخلق منوطاً بالصغر والكبر من حيث الأحجام والأشكال، إذ الذي خلق الذباب الصغير من الحشرات، هو الذي خلق الإبل، والفيل، والزرافة، والثور الوحشي، وأصغر دودة في صخرة، أو في بطن ثمرةٍ، أو في طعامٍ أو شرابٍ عفن؛ بل وهو الذي خلق هذا الإنسان الذي اتخذ من دون الله أنداداً.. أما تلك الأنداد المخلوقة - أصلاً - فلا تقدر على الخلق، لأنَّ الخلق من صفات الله الخلاَّق العليم، وقد تفَّرد سبحانه بسرّ الخلية التي ينشيء منها الكائنات الحية جميعاً، وهو السرّ المعجز الذي يهب الحياة، فسيّان في خلقه الذباب أو النملة، وسيان في خلقه الحيوان أو الطير أو الإنسان، أو السماوات والأرض، فكلُّها في سرّ الخلق سواء، وفقاً لمشيئة الخالق العظيم.. وهذا ما يثبت أنَّ المخلوقات، أياً يكن جنسها أو نوعها، عاجزة عن خلق أي كائنٍ حيٍّ، حتى ولو كان ذباباً، مما يبرز الحكمة في اختيار المثَل القرآني للذباب الصغير، الضعيف من أجل إظهار ذلك العجز، وعدم الاستطاعة؛ فالعجز عن خلق كائن مثل الذباب في صغره وضعفه، يؤكد انعدام الصفة لمن يتوهم لديه القدرة على الخلق.. وهذا من بديع الأسلوب القرآني العجيب، بل ومن روعة الإِعجاز في المثل القرآني..
ويخطو التعبير القرآني خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري لمعبوداتهم، وذلك عندما يقول الله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحَجّ: 73].. فتلك الآلهة المزعومة لا يقف وهنها، وعجزها عند عدم استطاعتها خلق الذباب، بل وينعدم شأنها بتاتاً إنْ يسلبها هذا الذباب شيئاً بحيث لا تملك أية قدرة أو وسيلة على استنقاذه أو استرجاعه منه.. وهذا ما يوحي بأنَّ هذا الكائن الخفيف، الطري والهزيل هو أقوى من تلك المعبودات لأنه يغلبها في استلاب أشيائها، وتعجز عن استنقاذها منه.. ولعلَّ المراد بقوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحَجّ: 73] هو أنَّ الذباب قد يكون سبباً لبعض الأمراض، أو للقضاء على الحياة، لما يحمل، أحياناً، من ميكروبات السل أو «التيفوئيد»، أو «الديزنطاريا»، أو رمد العيون، أو غيرها، من الأمراضٍ التي قد تؤذي مَنْ تصيبه، أو قد تقضي عليه.. أفرأيت لماذا اختار المثل القرآنيّ (الذباب بالذات) ولم يستعمل مثلاً لفظة «السباع» بدلاً من الذباب، لأنه لو قال: «وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها» لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، وبالثقة بدل الانهزام، وهذا مع العلم أنَّ السباع قد لا تسلب شيئاً أعظم مما قد يسلبه الذبابُ، فأيُّ منهما قادر، بخاصيته، على أنْ يسلب من الإنسان الحياة، وذلك بافتراسه من السباع، أو بالمرض الذي يسببه له الذباب!.. ولكنه الأسلوب القرآنيّ العظيم، فتأمَّل!!..
ويسترسل المثل القرآنيّ في التصوير الموحي عندما يقول معقّباً: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *} [الحَجّ: 73] فكلاهما في منتهى الضعف: الآلهة المدّعاة، والذباب على حدٍّ سواء.. فإذا كانت الآلهة التي يعبدونها من دون الله عاجزة عن إنقاذ ما يسلبها الذبابُ، وهو الكائن الحقير المعروف بهزاله وضعفه، فمعنى ذلك أنَّ تلك الألهة أشدُّ ضعفاً منه. وهذا أدلّ شيء على هوانها وحقارتها.. ويروى عن ابن عباس أنَّ المشركين كانوا يطلون أجسام آلهتهم (الأصنام) بالزعفران، ورؤوسها بالعسل، ثم يغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى، فيأكله.. ولعلَّ في هذا الربط من ابن عباس بين النص القرآني وما كان يفعله المشركون ما يظهر الصورة الحسية كيف أنَّ الذباب كان يهزم أولئك المشركين أنفسهم، حتى عندما كانوا يريدون إظهار التقديس لتلك الأوثان التي يتعبَّدون لها، فيأتي الذباب ويسلبهم كل مظاهر ذلك التقديس.. دون أنْ يجعلهم ذلك يتفكرون بمهانة تلك الآلهة التي لا تردُّ عنها غائلة حشرة ضئيلة!.. فكان حقاً أن يكونوا وآلهتهم ضعافاً لا يقدرون على شيء من دون الله العليِّ القدير؛ وإنَّ عدم إدراكهم لمن يملك حقاً ويقيناً القوة، والقدرة والمشيئة جميعاً هو ما أدَّى بهم إلى ذلك الانحطاط الفكري والشعوري، فجعلوا من تلك الآلهة المهينة شركاء لله تعالى، وبلغ من سفاهة أحلامهم أنهم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعَام: 91] بما هو أهل للتعظيم، والتقديس والإجلال والإكرام؛ وبما يتصف به سبحانه من الصفات العليا، والأسماء الحسنى التي لا تكون إلاَّ لله ربّ العالمين.. وكل ذلك إنما يدلُّ على مدى الجهالة، والضلال، وعلى مدى الشرك الذي طبع على قلوب أولئك المشركين والكافرين الذين يدعون من دون الله عزَّ وعلا آلهةً لا تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمع المشركون وتلك الآلهة على هذا الأمر!.. وهذا ما يجعل اختيار الذباب أروع مثل ينطبق عليهم، وعلى معبوداتهم التي لا تنفع ولا تضرّ بشيء..
3 - مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً هو أوهن البيوت
يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ *خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ *} [العَنكبوت: 41-44]}.
إنَّ هذا المثل، فوق أنه يعبّر عن الدقة والواقعية في التصوير (كما أشرنا إليه في مقدمة هذا الكتاب)، فإنَّ من يتأمل نصوصه بإمعان يلفته استعمال «أولياء» التي تدلُّ، عادةً، على النصرة؛ فالوليُّ - عرفاً - هو المتولي للنصرة، فهو،إذاً، أبلغ من الناصر، لأنَّ الناصر قد يكون ناصراً بأمر غيره، في حين أنَّ الولي هو الذي يتولّى النصرة بدافعٍ من نفسه، وهذه النصرة هي ما كان المشركون يرجونها من آلهتهم الصنميّة.. وهذا يعني أنَّ الذين اتخذوا من دون الله تعالى أولياءً، لن يحصلوا من هؤلاء الأولياء على أيةِ نصرةٍ أو عونٍ، لأنها مجرد مخلوقاتٍ جامدة، لا حسّ فيها ولا حراك، فلا تنفع ولا تضر بشيء.. بل واعتقادهم بولايتها هو مجرد وهم، ودليلُ ضعفٍ ووهنٍ على ما في نفوسهم.. فكان مثلهم بذلك كمثل العنكبوت التي تبني بيتاً تأوي إليه، ليكون سبيلها لتلافي الخطر؛ ولكنه، في الحقيقة، عبارة عن نسيج رقيقٍ وخفيفٍ، قابلٍ للتمزق من مجرد ملامسةٍ بسيطةٍ، بحيث لا يردُّ عنها خطراً، ولا غائلةً من برد أو حرٍّ؛ إلاَّ أنها بحكم طبيعتها - وهي العنكبوت - تنسجه، وتأوي إليه، لأنه لا حيلة لها على بناء بيت أشدَّ متانةً وحمايةً.. وهذا المثل إنَّما ضربه الله تعالى للتدليل على سفاهة أحلام أولئك البشر الذين يرتجون من مخلوقات - عاجزةٍ عن حماية كياناتها - أنْ تمدَّهم بالحماية أو العون والنصرة!.. وأهمية دلالة هذا التمثيل القرآني أنَّه يبّين هشاشة المعتقدات الباطلة، فكما أنَّ بيت العنكبوت أوهن البيوت، فكذلك آلهة المشركين المزعومة هي أوهن من أنْ يتخدوها أولياءَ، يلجأون إليهم وقت الحاجة، أو حين الضرورة.. ولو أدرك المشركون هذه الحقيقة، وهذه البيَّنة الواضحة التي يدلهم عليها القرآن الكريم لما استداموا على اتخاذ الأصنام والأوثان من دون الله تعالى أولياء لا يستطيعون لهم شيئاً... وإنَّ الله سبحانه وتعالى يعلم ما يدعون من دونه من تلك الأشياء، ويعلم ما يحيط بهم، وبأوليائهم، لأنه هو العزيز في ملكه، وهو الحكيم في خلقه..
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ *} [العَنكبوت: 43]. نعم إنَّ مثل المشركين في عبادتهم لآلهة موهومة، واتخاذها أولياء يدعونهم للنصرة - كما يتوهمون - هو منتهى الضعف في الاعتقاد والعبادة، فمثلهم في ذلك كمثل العنكبوت في بناء بيتها الذي هو غاية في الضعف والهوان. وتلك الأمثال يضربُها الله للناس حتى يتبين لهم الحق من الضلال، والأصالة من الزّيف، ولكن لا يعقل تلك الأمثال إلاَّ العالمون بحقائق الأشياء، الذين قدروا اللَّهَ حق قدره، فعبدوه حقاً ويقيناً، ولا يشركون بعبادة ربّهم أحداً.
وتبقى الأمثالُ في القرآن المجيد تذكرةً لجميع الناس، وإنْ كان لا يعي التذكرة إلاَّ من يعلم وجه الشبه بين المَثَل والممثَّل به.. ولذلك استهزأ المشركون بهذا المثل إذ استعصت الحقيقة على عقولهم وأفهامهم، ولم تدخل إلى قلوبهم، فقالوا: «إنَّ ربَّ محمدٍ يتحدث عن الذباب والعنكبوت». وفي هذا منتهى السخف، لأنَّ التشبيه لم يهزَّ مشاعرهم، والتمثيل لم ينبّه عقولهم، وما ذلك إلاَّ لأنهم لا يعقلون، فهم أقلّ حظّاً من الأنعام وأضل سبيلاً. وهو شأن أهل الشرك والضلال في كل زمان ومكان، لا يعقلون أمثال الله تعالى، ولا يعلمون عظاتها البليغة!.. وعلى خلافهم يكون أهل الإِيمان وأصحابُ دعوة الحق، إذ يقفون أمام الأمثال التي يضربها الله تعالى في القرآن خاشعين، مصدقين، عارفين بحقيقة تلك الأمثال، وما تهدف إليه من النهي عن الشرك والإِلحاد، وعن مغريات الدنيا وإغواءاتها؛ أو ما ترمي إليه من بيانٍ للقوى ومصادرها، ووجوب العمل وفق السنن الثابتة في استخدام هذه القوى، وكل ذلك حتى يتبيَّن - دائماً - الحق من الباطل، والإِيمان من الشرك، والعقيدة الصحيحة من العقائد الفاسدة..
4 - مثل المشرك في تعدد معبوداته كَمثلِ رجلٍ يمتلكه شركاء متشاكسون
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [الزُّمَر: 27-29].
القرآن الكريم هو كتابُ الله المبين. ولقد ضربَ فيه سبحانه للناس من كل مثل يبصِّرهم بأمور حياتهم، وبكل ما يتعلق بالمبدأ والمعاش والمعاد، فيسيرون على نوره الهادي في دينهم ودنياهم. ولذلك كان المأمول من الناس، وممَّن يتّبعون القرآن - بالذات - أنْ يتذكروا ذلك، فيتدبروا ما فيه من أمثالٍ جامعة، شاملة، ذات معانٍ ومدلولاتٍ تحيطهم علماً بكل ما تناولته هذه الأمثال..
وهذا القرآنُ أنزلَهُ ربُّ العالمين على قلب محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) النبيِّ الأمي العربي، الذي بعثه خاتماً للنبيين وسيداً للمرسلين، فكان محتوماً أنْ يكون القرآنُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وكان محكوماً، كما هو مقدر في اللوح المحفوظ، أنْ يكون قرآناً لا عوج فيه، لأنه يحمل أكمل الرسالات السماوية، وأتَّمها نعمةً للناس كافة، بل وأعظم من ذلك أنه قول الله الحق، أنزله بالحق، ويهدي إلى الحق، ليَقرَأه محمدٌ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) على الناس باللسان العربيّ الفصيح، فيجدوا فيه حسن السبك والصياغة، وعظيم المبنى والمعنى، مما يقرّر إعجازه، ويقود إلى تقوى الله، التي تُبعد الناسَ عن المعاصي، وخاصة الشرك، والكفر والإِلحاد..
ومن الأمثال التي ضربها الله للناس في هذا القرآن، والتي تُبيِّن سوء الشرك، هذا المثل عن رجلٍ يملكه شركاء عديدون، يخاصم فيه بعضهم بعضاً، بينما هو محتار بينهم، لا يعرف كيف يوزع نفسه ليقوم على خدمتهم. وقد يكون الخدم في البيوت أقربَ من يجسِّدون هذا المثل القرآنيّ؛ فالخادم قد يتلقى الأوامر والتعليمات من سيدة المنزل، ومن رب الأسرة، ومن الأولاد والأحفاد.. وكلٌّ قد يكون له طلبات، وعلى الخادم تلبيتها، وكلٌّ قد يكون له طريقته في توجيهه للقيام على خدمته شخصياً، أو على خدمتهم جميعاً.. مما يجعل هذا المسكين يضيع بين أهوائهم المتضاربة، ونزعاتهم المختلفة، لا يعرف كيف يتصرف، ولا يدري ماذا يفعل، الأمر الذي يجعله عاجزاً عن إرضاء أحدٍ منهم، لأن خلافاتهم حول خدمتهم، فرَّقت اتجاهاته، فصار بلا نفع.. ولكن هذا الخادم، أو هذا الرجل الذي يتشارك في إعطائه الأوامرَ أشخاصٌ عديدون - قد تختلف طباعهم وأهواؤهم ونزعاتهم إلى حدّ المشاكسة - لا بدَّ أنْ تختلف حياته، وطريقة سلوكه عن رجل آخر مثله، إلاَّ أنه يخضع لإرادة سيد واحد، هو الذي يطلب منه ويكلّفه، فيعرف ما يُطلب منه، وما يكلف به، فيؤدي واجبه بأمانة وسرعة، لأنه على منهج واحدٍ في المأمورية والتسيير. فهل يستوي هذا الرجل المنقطع إلى سيد واحد، مع ذلك الرجل المشتت بين أسيادٍ كثيرين متنافرين؟ وهل يكون مثلهما واحداً في واقع الحياة؟ إنهما لا يستويان، بكل تأكيد، مثلاً.. وهذان الرجلان يمكن أنْ يمثل بهما على المؤمن والمشرك، اللذين لا يستويان في العقيدة والعبادة والتوجّه. فالمؤمن بحقيقة وجود الله تعالى، وملائكته وكتبه ورسله يسير على هدي الدين القويم، فتكون نفسه مطمئنةً، ويكون قلبه مرتاحاً، لأنه يؤمن بإله واحدٍ أحدٍ، ويعبد ربَّاً واحداً، وبذلك فهو لا يضل ولا يشقى. وأما المشرك فهو الذي تتوزعه الأهواء والشكوك، وتتقاذفه الشياطين والأبالسة، وتتنازعه الرغبات والشبهات، فيضيع بينها جميعاً، ويصير مهووساً، قلقاً لا يجد راحة في التوجيه، ولا سلامةً في الطوية، ولذلك يكون محكوماً عليه بالضلال والشقاء.
أجل هذا هو الفارق بين حال المشرك الذي تتلبسه الشياطين فتقذفه إلى أتون الشرك، ليضيع في الأهواء المتضاربة، والرغبات الجامحة، وبين حال المؤمن الذي يستقيم على عبادة الله الواحد الأحد، وقد هداه ربُّهُ إلى اليقين والطاعة، فكانت له من إيمانه نعمة كبرى تستحق الحمد والثناء على ربّه تعالى الذي هداه، وأنعم عليه... فـ«الحمد لله» حمداً دائماً، إذ لطفَ بنا فعبدناه وحده، وأخلصنا له الإِيمانَ والتوحيد. وهذه هي النعمة السابغة علينا وعلى جميع المؤمنين الصادقين، الذين وفقهم اللَّهُ تعالى لحمده، وشكره والثناء عليه. ولكنَّ أكثر الناس لا يقرون بهذه النعمة العظيمة، فيجحدون فضل الله تعالى عليهم، ويلوذون إلى أربابٍ موهومة، فيعيشون في القلق والشقاء.. ثم إنهم يجهلون مصيرَهم في العذاب الذي ينتظرهم على عبادتهم الضالة، وجحودهم المنكر. ولذلك كان منهاجُ القرآن هو الطريقُ الواضح للهدى والاستقامة، إذْ يبيّن بأمثاله حال المؤمن، وحال المشرك، ويميّز بأحكامه حقيقة الإِيمان وبطلان الكفر، ولكنَّ أكثر الناس غافلون عن هذه الحقائق، لأنهم لا يلجأون إلى القرآن، حتى يهتدوا بهداه، ولا ينيبون إلى الله تعالى، حتى يحتموا بحماه..
5 - ضرب الله مثلاً للناس من أنفسهم
يقول الله العزيز الحكيم: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *} [الرُّوم: 28].
من يقرأ سورة الروم - في القرآن الكريم - يجد في أوائل هذه السورة الآيات التي تحث الناس على أنْ يتفكروا في أنفسهم، وفي خلق السماوات والأرض. كما أنها تبيّن أنَّ الله جلَّت عظمته ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وأجلٍ مسمّىً، وأنه هو الذي يبدأ الخلق البشري، ثم يعيده، في النشأة الأخرى، حيث يرجع الناس إلى ربّهم للحساب، والحياة الآخرة.. ومثل هذه الدعوة للتفكير، والتأمل في ظواهر الحياة البشرية، وظواهر الكون إنما ترمي إلى توطين النفوس على الإيمان بـالله تعالى، وأنه هو الخالق العظيم، الذي خلق كل شيء في السماوات والأرض...
وهذه الحقيقة التي يجب أنْ تستقر في الأذهان، تستدعي من الناس الإقرار بوحدانية الله تعالى، وأنَّ من الأدلة والبراهين على الألوهية المطلقة، والربوبية المطلقة لله عزَّ وعلا، أنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، بحيث يكون الناس جميعاً، خاضعين في إيجادهم وإنشائهم، وفي تدبير شؤونهم وتقرير مصائرهم إلى رّبهم العلي القدير.. وهذا ما تهدينا إليه آيات القرآن المبين - سواء التي وردت أو لم ترد فيها الأمثال - التي تتحدث عن سنة الله في خلق بني آدم.. ولكنَّ المشركين في شبه جزيرة العرب كانوا يرفضون ، في بداية الدعوة، التصديق بما تثبته هذه الآيات بالأدلة العقلية والحسية واللغوية، ولذلك لم يذعنوا للحقّ الذي كان يبلّغهم إيّاه النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من أنَّ القرآن هو كتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل ولم يؤمنوا ببعث النبيِّ محمّدٍ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الذي كان يدعوهم إلى ترك معتقدات الشرك فأنزلت هذه الآية المباركة التي تضرب لهم المثل من أنفسهم، لإفهامهم - وإفهام الناس كافة - معنى الشرك في التعبّد لأرباب متفرقة، مع ما يحمل هذا المثل من الاحتجاج الصاعق، والتقريع لعقولهم، وهو يسألهم بتوبيخ: «هل لكم من ما ملكت إيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءً؟!.. فأخبرونا، أيها المشركون، هل لكم من العبيد والأرقاء الذين تملكونهم من شركاء في ما رزقناكم من الأموال والمملتكات، فأنتم وإيّاهم متساوون في الشراكة حتى لتخافوا أنْ يقاسموكم أرزاقكم مثلـما يتقاسم، عادةً، الشركاءُ الأندادُ الأموالَ المشتركة فيما بينهم؟ وقد فسَّر ابن عباس أنَّ ما يرمي إليه النص، هنا، هو الإرث، فقال: «تخافون عبيدكم أنْ يرثوكم كما تتوارثون أنفسكم بين بعضكم بعضاً».. أم أنَّ ما تملكون، أيها المشركون، هو خالص لكم، فلا تريدون أنْ يشاطركم، أو ينازعكم فيه أحد؟! بل وقد تكرهون أحياناً المشاركة مع أناسٍ أمثالـكم، لأنَّ كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، فإذا كان الأمر كذلك مما تأباه نفوسكم، بحيث تأنفون حكماً، وتستنكفون أنْ يشارككم أحدٌ من عبيدكم بشيءٍ مما تملكون أو تورثون.. فكيف تشركون، إذاً، في عبادة الله بعض مخلوقاته وعبيده، وقد أخذ عليكم الميثاق ألاَّ تشركوا بعبادة ربكم أحداً؟ أم كيف تجعلون ممَّن خلَقَ شركاء له في ما رزقكم فقلتم: هذا لله وهذا لشركائنا؟![*].
وتظهر روعة المثل عندما يقول الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الرُّوم: 28] أي أنه تعالى ضربَ لهم مثلاً بمواليهم، وعبيدهم، وهم بشر مثلهم، فكان المثل من أنفسهم، أي من جنسهم، ومع ذلك يستعظمون أنْ يكون هؤلاء المماليك شركاء لهم في أشياء مادية، ثُمَّ لا يستعظمون أنْ يجعلوا بعض الأشياء الجامدة، الحقيرة شركاء لله تعالى، فيتخذونها آلهة وأرباباً تقربهم إلى الله زلفى، أو ربما يتعبَّدون لها، من دون الله!.. إنهم لا يجيزون أنْ يشاركهم عبيدهم في أرزاقهم، ويجيزون لمخلوقات الله عزَّ وجلَّ أنْ تشاركه في بعضٍ من صفاته!.. فأي حكم خاطئ هو هذا؟! وأي نظر قاصرٍ هو ما ينظرون به إلى حقائق الوجود؟!.
وهذا من جميل الأمثال التي تفصّلها الآيات لأصحاب العقول النيّرة، المتحررة من ربقة الجهل والضلال، ومن آصرةِ التبعية والتقليد، بحيث يهبهم الله تعالى معرفة الحقائق الثابتة، وإدراك النتائج الصحيحة التي يسعون إليها.. ولذلك كان ضرب الأمثال في القرآن الكريم، مما يدخل في تفصيل الآيات لقوم يعقلون معانيها، ويقفون على أبعادها ومراميها، كي يتدبروا ما فيها من الحكمة، والموعظة، والتوجيه والإرشاد..
6 - للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السَّوء ولله المثل الأعلى
يقول العزيز الحكيم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النّحل: 57 - 60].
لقد بات واضحاً أَنَّ من أهم الأهداف التي يتوخاها القرآن الكريم تصويب المعتقدات، والتصورات والمفاهيم الخاطئة التي تسيطر على الناس، وتقودهم، فعلاً، إلى الضلال والخسران. كما هو الحال في كثير من المعتقدات، والعادات في الجاهليات القديمة، أو في الجاهلية الحديثة التي يعيشها الناس في أسوأ وأبشع مظاهرها!.. ومن قبيل ذلك ما كان يفتري به المشركون في شبه الجزيرة العربية من كذب على الله تعالى وذلك بنسبة الشريك له أو الولد!.. إذ كانوا يتوهمون بأنَّ الملائكة هم بنات الله، بينما الملائكة هم عبادٌ لله مكرمون يعملون بأمر ربهم، ولا يعصونه، بل هم دائمون على تقديسه، وعلى عبادته، لا يملون، ولا يفترون..
وقد نزَّه الله سبحانه وتعالى نفسه عما كانوا ينسبون إليه من تجسيد، فهو جلَّ جلاله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل، فتعالى الله عما يصفون علواً كبيراً، وخسئ من ينسبون للخالق العظيم ما ليس من صفاته، وما لا يليق بعزته وجلاله، والذي لا يعدو أن يكون دليلاً على تقديرهم الجاهل، وعلى ما يتحكم بهم من البلاهة وسوء الظن بالله تعالى، وإلاَّ كيف يصل بهم الحال إلى أنْ يجعلوا لله سبحانه البنات، ولهم ما يشتهون من الذكور؟! ولا يعفيهم من تلك التبعة الجسيمة أن يقروا ذلك الاعتقاد الخاطئ إلى العادات القبيحة التي ورثوها، وأنماط العيش السيئة التي كانوا يعيشونها، والتي حملتهم بالتالي على كراهية البنات، وعدم الرغبة في إنجابهنَّ، كما كان يظهر في سلوكهم، بحيث أنه إذا بشّر أحدهم بأنثى وُلدت له، اكفهرَّ وجهه حتى بدا أسودَ كالحاً من سوء البشرى، وما ولَّدت في قلبه من الغيظ، وفي نفسه من الحنق على حظه التعيس العاثر..
ولشدة ما كانت ولادة الأنثى تغيظ المشرك، وتحزنه، فقد كان يتوارى من القوم، خجلاً، حيث يختلي بنفسه، بعيداً عن الأنظار، وهو حائر، متردد بين أنْ يترك وليدته حيَّةً فيربيها، أم يدسُّها في التراب، ويتخلَّص منها!.. وهذا ما يصوّر أشقى الحالات النفسية، الناتجة عن موروثات اجتماعية، كان يعيشها المشركون في الجاهلية، وكانت تدفع أكثرهم لأن يئدوا المواليد الجديدة من الأناث!.
أما تلك الموروثات الجاهلية فمردها إلى حياتهم التي كانت تقوم على الغزو، والسلب، مع ما يرافقهما من سبيٍ للنساء والبنات، وهو الأمر الذي كانوا يخافون من عاره، أكثر من خوفهم على حياتهم، فيؤثرون وأد الأنثى حين ولادتها، لئلا تجرَّ عليهم ذلك العار المشين يضاف إلى ذلك أنَّ حياتهم في الصحراء القاحلة، التي تقوم على شظف العيش، وعلى الفقر والعوز، قد جعلتهم يرون في البنات عبئاً إضافياً على العائلة، لأنهنَّ لا يكدحن - غالباً - في طلب الرزق، ولا يقاتلن، مثل الرجال.. أما ما وراء ذلك كله، والذي يشكل العنصر الفكري الأساسي، بل والانحراف الاعتقادي الذي قادهم إلى وأد بناتهم، فقد كان الشرك، كما يبيّنه قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعَام: 137]..
ولا يستقيم المعنى إلاَّ إذا ربطنا بين هذه الآية، والآية التي سبقتها في سورة الأنعام[*]، والتي يتبيّن منها أنهم كما جعلوا للأصنام التي يتعبَّدون لها نصيباً من الحرث والأنعام، بحيث يصرفونه إلى سدنتها، الذين زينوا لهم تلك القسمة ما بين حق الله تعالى ونصيب أولئك السدنة، كذلك، أي ومثل ذلك ما زين لهم شركاؤهم الكافرون، من الإنس والجن، قتل أولادهم البنات ليهلكوهم في دنياهم وآخرتهم، فلا يعلمون من الدين إلاَّ الشرك بالله، وهذا الشرك هو الذي يجعلهم يتوهون عن استدراك بشاعة تلك الجريمة التي يرتكبونها بوأد بناتهم، ولا يؤمنون بأنَّ الله تعالى الذي خلقهنَّ، هو الذي يتكفَّل سبحانه بعيشهنَّ مثل ما يتكفَّل بالرزق لجميع مخلوقاته الحية...
ولذلك فإنَّ أسوأ ما عرفه حكم الجاهلية وأد البنات، وتفضيل الذكر على الأنثى، خلافاً لسنة الله تعالى في خلقه. فهو سبحانه قد خلق الناس جميعاً من نفس واحدة، فخلق الأنثى كما خلق الذكر، ولولا خلق البشر من ذكر وأنثى لما استمرت حياة الناس على الأرض، ولولا نظام الزوجية الذي يجمع ما بين الذكر والأنثى في العائلة الواحدة، لما بقي وجود للرجال أو للنساء، ولانتفت بذلك كل غاية من خلق البشر!.. مع أن من غايات خلق هؤلاء البشر وتكاثرهم ما يبيّنه قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجرَات: 13]. فجوهر هذا النظام في الخلق يقوم على الذكر والأنثى. ومن مميزاته ألا يكون تفاضل بين المرأة والرجل، ولا بين الرجل والرجل، أو بين المرأة والمرأة على أساس الجنس أو اللون أو العرق، بل على أساس التقوى. فأكرم خلق الله عند الله سبحانه وتعالى أتقاهم في عبادته، وطاعته، والامتثال لأوامره ونواهيه.. وهذا فضلاً عن أنَّ المولود الجديد - ذكراً كان أو أنثى - يجب أن ينظر إليه على أنه خير، وبركة، بل ونعمة إلهية، يجب إعطاؤها ما تستحق من الاهتمام والرعاية، كما يشير إليه، بل ويهدينا إليه القرآن الكريم، عندما استعمل، تعبير البشارة كدليل على الخير القادم، إذ قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى} [النّحل: 58]... وذلك كله مما كان الجاهليون بعيدين عنه في المعرفة والإدراك، فاحتكموا إلى سوء معتقداتهم وإلى قساوة عيشهم، فأكرموا شأن الرجل، وحقَّروا كيان الأنثى، حتى جاء الإسلام وأعاد الأمور إلى نصابها، عندما فرض الحفاظ على حياة الإنسان، وصون كرامته، ورعاية حقه بما أمر الله تعالى به، وذلك بتحريمه قتل النفس المحترمة، واعتبار ذلك جريمة منكرة، يُعاقَبُ عليها الجاني، وفقاً للحدود التي تقررها الأحكام الشرعية. فكان من فضل هذه الأحكام القضاء على جريمة وأد البنات، واحترام الحق بالحياة لكل مخلوق من بني آدم، بل والحفاظ على الكائنات الحية الأخرى التي تغني الناس بالأرزاق والثمرات، وتغني البيئة الطبيعية بالجمال، وبالكثير من الموارد الحياتية..
فالإسلام هو العقيدة التي تعصم من الزلل، ومن مآثره أنه يدل الإنسان على أنَّ الرزق من الله تعالى، فهو يرزق جميع مخلوقاته، بل ويرزق من يشاء بغير حساب.
ومن مآثر الإسلام المجيدة أيضاً أنه ينظر للإنسان - دونما تفريق بين الذكر والأنثى - على أنه مخلوق كريم على ربّه الذي خلقه، فسوّاه، فعدله؛ كما ينظر للأنثى على أنها صنو الرجل، وشطر نفسه، وهي ركن أساسي في بناء الإنسان، وبناء المجتمع، مثلـما هي عامل جوهري في تحقيق إنسانية الإنسان.
هكذا يريدنا الإسلام أنْ ننظر إلى وجودنا الإنساني الذي لا يستقيم إلاَّ بوجود الرجل والمرأة، وعلى أساس روابط المودة والتراحم في الحياة الزوجية التي تجمعهما وفقاً لشرع الله، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [الرُّوم: 21].. فهل أقبل الناس على الإسلام ليروا كيف يبني العلاقة الزوجية، من حيثُ أنَّ الله تعالى قد جعلها علاقة السكن والاطمئنان، وعلاقة الإلفة والرأفة، بل وجعلها علاقة تقوم على المحبة والرحمة، بحيث تتحد مشاعر الزوجين فكأنهما نفس واحدة في جسدين.. ولا تستقيم هذه النظرة للوجود الإنساني إلاَّ بتقوى الله، والإيمان باليوم الآخر، ولذلك جاء البيان القرآني بعد الحديث عن السوء الذي يسّببه الشرك من قتل الأولاد، بقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [النّحل: 60]؛ فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يعبأون كثيراً إنْ جاءت أعمالهم حسنة أو سيئة، أو جاءت كلمتهم طيبة أو خبيثة، فهم لا يرتقبون حساباً ولا آخرة، ولا ثواباً أو عقاباً، ولذلك لا يسوؤهم أنْ يقدموا على وأد البنات، على هذا الفعل الشنيع الذي يُعدُّ عند المؤمنين أشدَّ الأعمال سوءاً وقباحةً، وأكثرها جهلاَ وضلالاً، لا بل هو في نظر الإسلام دليل على عمى القلوب وقساوة المشاعر.. وليس وأد البنات إلاَّ مثالاً على أعمال السُّوء التي يمكن أنْ يقوم بها كل إنسانٍ، وفي أي زمانٍ عاش، إذا لم يؤمن بالآخرة، كما هو حال الكافرين والمشركين والملحدين عبر التاريخ البشري برمته!.. فكان حقاً أنْ يكون لهم مثل السَّوْء، وكان حقاً أنْ يكون لله تعالى المثل الأعلى، أي الكمال المطلق في الصفات العليا والأسماء الحسنى التي تفرَّد بها سبحانه وتعالى؛ وكان حقاً أنْ يكون سبحانه العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يمتنع عليه شيء، بل هو سبحانه الذي يضع الأشياء في مواضعها، ووفق ما هو حق وعدل وصواب. ومن أجل ذلك فقد عاب الله عزَّ وجلَّ على المشركين ذلك السوء الكبير بإضافتهم إليه ما لا يرضونه لأنفسهم؛ فإذا كان الإنسان يكره إضافة القبيح إلى نفسه للمقتضى الذي يراه فيه، فكيف يجوز له أنْ يضيفه إلى الله ذي الجلال والإكرام؟ سبحانه وتعالى عما يشركون..
7 - المشركون يتعبَّدون لعبادٍ أمثالهم
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنْظِرُونِ *} [الأعرَاف: 194-195].
تسوق هاتان الآيتان الكريمتان بعض الحجج القاطعة على المشركين، وهي تخاطب عقولهم وضمائرهم بأنْ يعوا، ويدركوا أنَّ ما يعبدون، من دون الله تعالى، إنْ هم إلاَّ عبادٌ أمثالهم، ومخلوقات في عداد مخلوقاته، فكان وجوباً أنْ تكون تلك المعبودات خاضعةً لمشيئة خالقها، ولو كانت مخولة بالنطق لأفصحت عن ذلك بذلٍّ وخشوعٍ. وهذا الخضوع هو ما يعرف بحكم التعبيد، أي التذليل (ولذا يقال: طريق معبَّد، أي طريق موطوء).
ويدلُّ عليه أيضاً مخاطبة النبي موسى (عليه السّلام) لفرعون مصر، عندما يقول له بأنَّ ما فعله ببني إسرائيل إنما كان تعبيداً لهم، وذلك بإذلالهم، وتسخيرهم لخدمته وخدمة بطانته، كما يبيّنه قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ *} [الشُّعَرَاء: 22].
وتستبين الحجة، وتصبح أقوى بتوكيدها على عبودية تلك المعبودات لله تعالى، من خلال عدم استجابتها لأية دعوة يدعو بها المشركون.. إذ لو كانت آلهةً كما تزعمون يا مشركين، فادعوهم، فليستجيبوا لكم إنْ كنتم صادقين بأنها آلهة؛ ومن الطبيعي ألاَّ يجيبوا، أو يستجيبوا، لأنهم في حقيقة تكوينهم، ليسوا أكثر من جماداتٍ بلا روحٍ تبعث الحياة فيهم، أو أشياءَ معدومةٍ من الإدراك الذي تمتازون به عن غيركم من الكائنات في الأرض، مما يجعل معبوداتكم - حتى ولو توهمتموها في السماء - دونكم في الرتبة والمقام اللذين فضل بهما الخالق بني آدم على كل تلك الكائنات، وهذا ما لا يستقيم معه معنى العبادة لها، لأنَّ المعبود يجب أنْ يكون أعلى شأناً، وأجلَّ قدراً من عابديه، وفقاً لما يحكم به العقل؛ إلاَّ أنْ تكونوا قد أذهبتم عقولكم وخصائصكم سدىً، وهذا سببه الكفر والشرك!..
وبعد الحجج العقلية، يأتي البرهان الحسّي على هوان ما يزعمون أنها آلهة، فيسأل القرآن المشركين، وبصيغة التقريع والتأنيب: هل لآلهتكم التي تدعون من دون الله تعالى أرجل يمشون بها؟ أم هل لهم أيدٍ يبطشون بها؟ أم هل لهم أعين يبصرون بها؟ أم هل لهم آذان يسمعون بها؟ فهذه حواس وأعضاء قد جعلها الخالق في الإنسان، وزوّدها بوظائف تجعله قادراً على الإدراك والتمييز فيتحرك على ساحة الحياة، ويتفاعل مع كيانه ووجوده الإنساني؛ ومن البديهي القول أنْ ليس للآلهة التي تدعونها تلك الملكات مثلكم، مما يجعلها أقل منكم شأناً، وأدنى مرتبة، فيكون من عجيب أمركم أنْ تتعبَّدوا لمن كان أدنى منكم قيمةً ومكرمةً، وأعجب منه أنْ تدعوهم من دون الله العزيز الحكيم، أولياءَ ترجون منهم المدد والعون!.. وأنتم ترونهم على تلك الحالة المهينة من الخلْق، وعلى تلك الصورة الوضيعة من العجز، ومن غير أنْ تستدركوا ما حباكم ربكم الكريم من خصائص جعلتكم في أحسن تقويم، مصداقاً لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [التِّين: 4].
وما يجدر الانتباه إليه أنَّ الله سبحانه وتعالى عندما يلقي الحجة على المشركين بأنْ ليس لآلهتهم أرجلٌ، أو أيدٍ، أو أعينٌ أو آذانٌ فذلك للتوكيد على أنهم مخلوقاتٍ مثل سائر المخلوقات الأخرى التي جعل لها مثل هذه الحواس من الإنسان والحيوان والطير، دون أنْ يكون لذلك أدنى علاقة بالتجسيد الذي يدّعيه من يزعمون أنَّ الله تعالى خلق الإنسانَ على صورته؛ فما يدّعي المشركون من وجود آلهةٍ فإنه لا وجود لها أصلاً، لأنه «لا إله إلاَّ الله» إلهٌ واحد في السماوات والأرض، فلا شبيه له ولا مثيل، وهو «ليس كمثله شيء».. فليحذر إذاً من يعتقدون بفكرة التجسيد، لأنها زيادة في الكفر والشرك، ونحيلهم ليكونوا على يقين بوحدانية الله، وألوهيته وربوبيته المطلقة إلى قوله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ *} [البَقَرَة: 255].
أما وقد ثبت بالبرهان العقلي والدليل الحسيّ أنَّ ما يدعون من دون الله مجرَّد أوهام ضالّة وعقائد فاسدة مصداقاً لقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [يُوسُف: 40]... فإنَّ ما يفضح هوانَ المشركين، وهوانَ آلهتهم على السواء، الأمر الجلل لـرسول الله محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأنْ يتحدَّى المشركين، وذلك في محاولة جديدة، لإبطال مزاعمهم وادعاءاتهم، إذ يقول له ربُّه تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنْظِرُونِ *} [الأعرَاف: 195].. قل لهم يا محمَّدُ: هؤلاء المخلوقات أمثالكم الذين تدعون من دون الله عزَّ وجلَّ وتسألونهم المدد والنصرة والمنفعة، ولاسيما عندما تقدمون لهم الأضاحي تذبحونها عند أقدامهم، أو نذور الحلية والكسوة تلبسونها هياكل أجسادهم، أو عندما تجعلونهم شركاء لكم في أموالكم وأرزاقكم[*].. فادعوا هؤلاء الشركاء - وتعاونوا وإيّاهم - أنْ يهلكوني، ولا تمهلوني في ذلك طرفة عين، فهل يمكن أن يستجيبوا لكم؟! أبداً، كما يدلُّ عليه خلقهم، وكما يثبت واقعهم!.. ولكن أقول لكم كما قال أخي لوط من قبل: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ *} [هُود: 78] يدرك معاني الحق الذي أدعوكم إليه، ويصدقكم قولي، بأنَّ ما تشركون في عبادة الله لا يقدرون على خلق ذبابٍ ولو اجتمعوا له؛ فكيف إذاً تتعبَّدون لهم من دون الله القوي العزيز؟ أما أنا، فإني عبد الله، ورسوله، ولا أشرك بعبادة ربّي أحداً. ولذلك أقول لكم أيضاً، كما قال أخي شعيب لقومه: {ويَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ *} [هُود: 93]، أي فارتقبوا سوء عاقبة أمركم، إني معكم منتظرٌ أمرَ ربّي الذي يحلُّ لكم!.. وإلى أنْ يأتي أمر الله تعالى فإني عامل بما بعثني به سبحانه من البلاغ المبين، وإنّي والله على يقينٍ بأنه سوف ينصرني، وأنتم لا ناصرَ لكم من دون الله، وما كيدكم إلاَّ في تضليل!.. وهكذا فإنَّ المثل القرآني يبيّن أنَّ تلك الوثنية عند المشركين العرب - مثل سائر الوثنيات الأخرى - ليست إلاَّ وثنيةً جاهليةً حقاً، خالية من أية قيمة أو اعتبار بذاتها؛ بل وتصورها نصوص القرآن على أنها وثنية منحطة في ميزان العقل البشري، ولذلك تأتي مصاديق آياته الكريمة لتخاطب عقول المشركين وتوقظهم من الغفلة، وتحضّهم على التخلّي عن الإصرار والعناد في متابعة الشرك بالله تعالى، ومن ثمَّ لتبيّن لأولئك المشركين على أنهم عبادٌ لله، وأنَّ الله رؤوف رحيم بعباده، ولكنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... فلعلَّ في ذلك كله ما يخلّصهم من العادة التي ألفوْا عليها آباءهم، فهم على آثارهم يهرعون، بحيث ينتهون عن التعبّد لتلك الآلهة التي يصنعونها بأيديهم، أو التي يتوهمونها في مخلوقات أخرى، ويقيمون من ثَمَّ العبادة الحقَّ التي لا تكون إلا لله الواحد القهار!.
8 - لا يُنبئُ عن خذلان الآلهة المدعاة مثل خبير بعباده
يقول الله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ *} [فَاطِر: 14].
ودائماً ينصبُّ التوكيدُ في آيات القرآن الكريم على هوان عقائد المشركين باتخاذهم آلهةً مزعومة، ولذلك تخاطب آيات القرآن المباركة الإنسان، لتقول له: ولِمَ لا تضع، أيها الإنسان العاقل مثل تلك العقائد تحت مجهر العقل، وتتفكَّرَ في ماهيتها ومنطلقاتها ومقاصدها؟! ولو فعلت لوجدت أنها عقائد فاسدة حقاً، ولثبت لديك أنَّ تلك الآلهة لا تعدو أن تكون في حسبان العقل والشعور - ولدى الملايين من الناس الذين يؤمنون بحقيقة وجود الله تعالى - مجرد مخلوقات، اقتضت الحكمة الإلهية إيجادها لاكتمال عناصر هذا الوجود، إلاَّ أنَّ الإنسان تجنَّى عليها، كما تجنَّى على نفسه، فاتخذها أولياءَ من دون الله، وذلك عن جهلٍ وضلال، وخلافاً للفطرة التي فطر الله الناس عليها!.. من هنا تطرح هذه الآيةُ البيّنةَ على المشركين ألاَّ يجعلوا من تلك المخلوقات آلهةً يدعونها من دون الله، إذْ على سبيل المحاكاة أو التشبيه، فهي لا تسمع كلامهم، ولا تعي دعاءهم - كونها جمادات صمّاء، بكماء، عمياء ليس لها أدنى حظٍ من حياة الإنسان - ولو سمعت، افتراضاً، دعاءَ من يدعونها، فهي لا تستجيب لهم بشيء.. لا بل إنها يوم القيامة، يوم ينطقها ربُّ العالمين، تتبرَّأ من عبادتهم لها، ومن إشراكهم إيَّاها مع الله عزَّ وعلا في العبادة. بل وإنها لتستهجنَ كيف وصل، بأولئك المشركين والكفار، السفهُ والضلالُ إلى ذلك الحد من الانحطاط الفكري والشعوري حتى عبدوها من دون الله جلّت عظمته!...
وتوكيد القرآن على تنكّر معبودات المشركين لهم، وتبرُّوئهم منهم ومن عبادتهم يوم القيامة، هو، في الأصل، من علم الله المغيب، ولكنه سبحانه وتعالى، أخبرنا به في قرآنه المجيد، بقوله المبين: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البَقَرَة: 166-167].. وإخبارنا عن ذلك حتى يستيقن الناسُ جميعاً، ولا سيما الكافرون والمشركون، أنّ الله تعالى خبيرٌ بكل شأنٍ من شؤون عباده، سواءً وهم في الدنيا، أو في الآخرة، وأنَّ مصائر هؤلاء العباد محكومة بأمره تعالى، فكان الإخبار من لدنٍ خبيرٍ عليمٍ، ولا ينبئك، أيها الإنسان، مثل خبيرٍ بخلقه، لعلّك تدرك وتتّعظ، فيكون لك هداية وصلاح.
9 - قول المشركين، لولا يكلمهم الله أو تأتيهم معجزة، هو مثل قول الذين من قبلهم
يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *} [البَقَرَة: 118].
..لعلَّ من الأمور التي تثير العجب ذلك الكيد من «الذين لا يعلمون»، أي من الأميين المشركين في مكة، بعدم تصديقهم أنَّ الله تعالى قد أرسل محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بشيراً ونذيراً للعالمين.. ويتبدَّى ذلك في تلك الحرب الإعلامية التي شنَّوها ضدَّ النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وتابعوها بكل صلافةٍ وشراسةٍ، حتى يظهروا عجزه، ويبعدوا الناس عنه، فتتوقف دعوته، كما كانوا يتوهمون.. وكان أبرز وجوه حربهم تلك، ما كانوا يطالبون به النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من المعجزات، كما في قولهم «لولا يكلمنا الله» ويخبرنا بأنه هو الذي بعثك، لكنَّا نصدق بأنك نبيُّ الله ورسوله!... أو قولهم: لولا «تأتينا آية» من الآيات (المعجزات) التي نراها بأم العين، وقد تكون سبيلاً لنؤمن بما تدّعيه!...
والواقع أن الآيات التي كانوا يطلبونها هي من المعجزات التي لا لا يقدر عليها البشر.. وهذا، بالفعل، ما كانوا يتقصّدونه، بل وما لجّوا في طلبه، طوال المدة التي كان يتنزَّل فيها الوحيُ على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وهو ما يزال في مكة!...
ومن المعجزات التي كانوا يطلبونها، والتي تدلُّ على عنت وخبث أولئك المشركين، في عداوتهم للنبي الأكرم، ودعوته، ما يثبته القرآن الكريم، في عدد من السور الشريفة، ومن قبيل ذلك:
- أنْ طلبوا من النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنْ ينزل الله عليه كتاباً في رقٍّ فيلمسوه بأيديهمم (ليكون أنفى للشك).. ولكن الله عزَّ وعلا رد عليهم بقوله الحق: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ *} [الأنعَام: 7].
- أن قالوا: لولا أنزل عليه ملك يشهد له بالنبوة.. فردَّ الله تعالى عليهم بقوله المبين: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ *} [الأنعَام: 8]
- أن قالوا: لولا أنزل عليه كنز من ربه حتى يجعله غنياً، فلا يحتاج إلى عمل مثل سائر الناس، وإلاَّ فلن نصدق بأنَّ الله بعثه نبياً رسولاً.. فجاءته المواساة من ربّه تعالى، بألاَّ يضيق صدره، وألاَّ يكون في حرج مما يتلوه عليهم من الآيات، مصداقاً لقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ *} [هُود: 12].
بل وغالوا كثيراً في طلبات المعجزات، وتحدّيهم المنكر للنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، واستخفافهم بما يتوعدهم به من العذاب، حتى بلغت بهم الوقاحة والسفاهة إلى الحد الذي يطلبون أن يروا الله جلَّت عظمته والملائكة معه مقابلةً وعياناً.. وتدلّ على مغالاتهم تلك هذه السلسة من المطالب الإعجازية، كما حفظتها «سورة الإسراء» في كتاب الله المجيد، حتى تكون شاهداً على مدى الجهل والضلال اللذين يطغيان على عقول وقلوب الكافرين والمشركين، فلا يرجون لله عزَّ وعلا وقاراً، ولا للنبوَّة مقاماً!!..
يقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً *أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِّيِكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً *} [الإسرَاء: 90-93].
على أنَّ ما كان المشركون الأميون في مكة يقولونه للنبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، أو ما كانوا يطلبون منه من المعجزات - وكان ذلك في أغلبه بإيعاز من اليهود في يثرب - لم يكن جديداً في عهود الرسالات السماوية، فقد قال منْ قبلُ مثل قولهم أحبارٌ من اليهود للنبي موسى (عليه السّلام): {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النِّسَاء: 153]، أو مثل ما قال الحواريون لعيسى بن مريم (عليه السّلام) : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المَائدة: 112]!.. إذاً فقد قال مثل قول المشركين من عرب شبه الجزيرة أقوام قبلهم، فتشابهت قلوبهم - جميعاً - في عدم الإيمان بـالله تعالى، وتصديق أنبيائه ورسله، أو بسبب ذلك الضعف في إيمان الحواريين، الذي اعترى قلوبهم في لحظات من الشك، وكان يمكن أنْ يودي بهم إلى الكفر والهلاك، لولا أنْ تداركهم الله تعالى برحمته، وثبتهم على إيمانهم، فأنزل عليهم المائدة التي سألوها نبيَّهم.. ولكنْ بمقابل ذلك، توعدهم سبحانَهُ بأنَّ من يكفر منهم بعدها، فسوف يعذبّه بعذابٍ، لا يعذبه أحداً من العالمين، مصداقاً لقوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ *} [المَائدة: 115].
ولقد أثبت القرآن المبين أنَّ الله تعالى كان يؤيّد مبعوثيه بالآيات الدّالة، والمعجزات الظاهرة، حتى تكون البراهين الحاسمة على صدق الدعوات إلى سبيل الله القويم؛ وقد انقضت تلك المعجزات بانقضاء تلك العهود، ولم يبقَ منها إلاَّ بعض من آثارها في الأرض، إلاَّ أنَّ أخبارها حفظت في القرآن الكريم لتبقى شواهد حيّة - على مدى الأزمان - لكلّ من يريد أنْ يتّعظ، ويهتدي إلى نور الحق المبين..
وهنا لا بد من تكرار التوكيد، ولو على عجالة، على أنَّ المعجزة الحسيّة الدائمة، التي لن تنقضي، ولن تغيب عن الأسماع والأبصار إلى يوم القيامة، هو هذا القرآن الكريم وما فيه من الآيات التي تحمل الأدلة والبراهين على نبوّة محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، بما يجعلها يقيناً في القلب السليم، والنفس الصافية. ولكن ما نفع ذلك مع المشركين الذين ضلوا عن اليقين، وحرموا طعم حلاوة الإيمان؟ وإن الذي يجد راحة اليقين في قلبه، يجد في آيات القرآن الكريم مصداق يقينه، ويجد فيها طمأنينة نفسه، وراحة ضميره، فالآيات لا تنشئ اليقين، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها، ويطمئنُّ إلى حقيقتها، ويهيّءُ القلوب للتلقي الصحيح، وذلك كله على عكس ما هم عليه المشركون الذين ضلوا عن الاهتداء إلى اليقين بنبوَّة سيدنا محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وتاهوا عن الإيمان بـالله العلي العظيم، حتى حرموا من نعمة الشعور بطمأنينة القلوب، والعمل بضمائر حيّةٍ.. ولذلك كان بيان الآيات لقوم يوقنون...
10 - إنذار المشركين بعذاب صاعقةٍ مثل صاعقة عاد وثمود
يقول الله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ *} [فُصّلَت: 9-13].
إنه خطاب من الله تبارك وتعالى لرسوله محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأن يحذِّر المشركين من الكفر الذي هم عليه، فيقول لهم بلهجة الاستهجان والاستنكار ما مؤدّاه:
أئنكم لتكفرون بالله، وهو الخالق العظيم، وتجعلون له شركاء في هذا الخلق، وهو الذي تفرَّد بالألوهية والربوبية؟ فما بالكم لا تعتبرون مما في أنفسكم، ومما تشاهدون في حياتكم من عجائب الخلق، وبديع الصنع، وانتظام الوجود كله مما ترون في الأرض والسماء؟! ألا ساء ما تحكمون!..
ألا تعلمون بأن الله جلت قدرته قد خلق الأرض في يومين، وجعل فيها الرواسيَ من الجبال التي تحفظ توازنها فلا تميد بكم. وبارك فيها وأنزل من السماء ماءً طهوراً جعل منه كلَّ شيءٍ حيٍّ.. ومن هذا الماء ما فيه عذوبة تشربونه، وتسقون به زروعكم وأنعامكم، ومن هذا الماء ما فيه ملوحة تصطادون منه أقواتاً لكم، وحلْىً تتزيَّنون بها وتتَّجرون!.. فكانت هذه الخيرات الوفيرة التي بها تنعمون.. وكلها تدلُّ على ما بارك في الأرض ربُّ العالمين. فقد بارك فيها بأنْ خلقكم من ترابها ليكون فيها قوامُ حياتكم، وقدَّر فيها الأقوات لتهتدوا إلى سبل عيشكم وطرائق أرزاقكم، ولاسيما من خلال العلاقات والمبادلات التي تنشأ بين الأمم والشعوب، التي يجب أنْ تتضافر جهودها لما فيه خير الناس ونفعهم... كل ذلك ممَّا قدَّره العليم الحكيم في أربعة أيام سواء للسائلين، أو المتعجبين من كثرة هذا الخلق وتنوعه، ومن عجيب تدبيره وتقديره.
أما مدلول هذه الأيام الأربعة، من حيث الطول أو القصر، أو المدة الزمنية التي استغرقتها، فهذا في علم الله تعالى!.. لأنَّ مقاييس أهل الأرض عن الزمن إنما هي ناشئة عن دورة الأرض حول نفسها التي تولِّد الليل والنهار، وعن دورتها حول الشمس التي ينتج عنها اختلاف الفصول والأحوال الجوية.. وهذه المقاييس لا علاقة لها بالزمن الذي تكونت فيه الأرض، ولا بالزمن الذي تكونت فيه السماوات السبع. ودليله ما قال أهل العلم من أنَّ تكوين الأرض، بعد انفصال كتلتها عن الشمس قد استغرق أزماناً طويلة حتى بردت قشرتها وتصلَّبت، ثم مرت عليها عصور جيولوجية كثيرة حتى استقرت على وضعها الراهن.
وأما عن المواد التي تتألف منها هذه الأرض، وما فيها من الأقوات، فيقول أهل العلم: إنَّ الأرض كرة تلفها قشرة من صخر، وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء، وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء، وهي طبقة من الغاز سميكة لها أبعاد معروفة ومقدرة. ونحن، بنو البشر، ومعنا الحيوان والطير والنبات، نعيش جميعاً في هذه الأجواء التي جعلت الأرض صالحة للحياة.. فمن «أوكسيجين» الهواء نستمد أنفاسنا التي تدلُّ على بقائنا أحياءَ.. ومن كربون الهواء يبني النبات جسمه. ونحن نأكل النبات، ونأكل الحيوان الذي يأكل بدوره النبات وغيره، ومن هذا النبات ولحم الحيوان نبني أجسامنا.. فهذا كله يشير إلى تقدير الأقوات، ووفرة الخيرات والبركات التي قسَّمها الخالق، وجعلها أنواعاً وأجناساً لا تعد ولا تحصى، ووزعها بين مختلف أصقاع الأرض بحسب المناخ والتربة المتناسبين مع كل نوع منها. وقد تمَّ ذلك كله في الأيام الأربعة التي لا يعلم مقدارها ومعناها إلا الله تعالى.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فُصّلَت: 11].. والاستواء هنا لا يعني التجسيد والحركة، ولا احتواء الزمان والمكان - كما هي الحال في تقدير كثيرٍ من بني البشر - وإنما يعني القصد والإرادة، أي ما شاءَ الله تعالى، أنْ ينشئ - وعن حكمةٍ وتقديرٍ - في كل سماء، من السنن التي تجعلها منتظمة مع منظومات سنن السماوات الأخرى، حتى يتكامل انتظام الكون بأسره، في تسييره وتدبيره وفقاً لمشئية الله تعالى الذي أنشأه.. وعلى ذلك فإنَّ عبارة {ثُمَّ اسْتَوَى} [فُصّلَت: 11] لا توحي بأنَّها جاءت للترتيب الزمنيّ، ولكن للارتقاء المعنويّ، لأن السماء في الحسّ أرفع وأرقى..
{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *} [فُصّلَت: 11].. وهذا ما يؤكّد انقياد الكون كله إلى خالقه بالطاعة، والاستسلام. ولا يشذُّ عن الطاعة وعن الخضوع لربّ السماوات والأرض إلاَّ هذا الإنسان في إعراضه عن عبادة ربّه تعالى، واتخاذه أولياءَ يجعلهم شركاء له في العبادة، ثم في عدم قبوله دعوات الأنبياء والرسل لهدايته، وهذا ما يجعله ينحرف عن الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، ويلجُّ بالتالي في الكفر والإلحاد والجحود!.. ولذلك كان الخطاب للنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «فإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَة عادٍ وثَمُودَ» ، وهو الإنذار الذي يتوعَّدُهم على شركهم وكفرهم، وعدم قبولهم بالحق، بأن يحلَّ بهم العذابُ الذي أخذ تلك الأقوام الغابرة، وجعلها كـالحصيد الهشيم.. فإن لم يُلاقِ أهل مكة، ومن تبعهم على الشرك، هذا العذاب في دنياهم، (لأنَّ الله تعالى قضى بألاَّ يعذبهم ما دام النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قائماً فيهم، وبين ظهرانيهم، وما دام هنالك المؤمنون الذين يستغفرون الله، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *} [الأنفَال: 33]).. أجل، إنْ لم يعذّب الله الناس كرمى للنبي الأعظم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) واستجابةً لاستغفارهم، في الحياة الدنيا، فإنَّهم سوف يلاقون العذاب - ولا ريب - في الآخرة. وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم - بالكفر والشرك - أيّ منقلب ينقلبون.
11 - ما يعبد المشركون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل
يقول ربنا تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ *} [هُود: 109].
إنه توجيه، ولكنه يحمل الإيناس من الله اللطيف الودود، لرسوله محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، بألاَّ يكون لديه أدنى شكٍّ ممّا يعبد بنو قومه من الأصنام والأوثان، بدعواهم أنها تقرّبهم إلى الله زلفى.. والعلّة أنَّ هؤلاء ما يعبدون إلاَّ مثل ما كان يعبد آباؤهم من قبل، فإن اختاروا وثنيةً صنميّة، خلافاً للهدى الذي تدعوهم إليه، أيّها النبيّ، فلا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ؛ وإنَّا لموفّوهم نصيبهم في الدنيا من متاع الغرور الذي يلهثون وراءه - ممَّا قضى به ربُّك في اللوح المحفوظ - وكذلك إنَّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص في الآخرة من العذاب، على فعالهم وأعمالهم الظالمة، بما أشركوا بالله، وبما لم يتّعظوا بآيات الله،التي تبين لهم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *} [لقمَان: 13]...
12 - طلع شجرة الزقوم التي يأكل منها الظالمون كأنه رؤوس الشياطين
يقول الله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ *إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ *وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ *بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ *إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ *وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أولئك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * في جنات النعيم * على سرر متقابلين * يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون* وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون * فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ *إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ *إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ *طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ *فَإِنَّهُمْ لآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ *ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَِلَى الْجَحِيمِ *إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَآلِّينَ *فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ *وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ *وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ *فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ *إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصَّافات: 34-74].
تقرّر هذه الآيات البيّنات ما يفعله الله العليُّ القديرُ بالمجرمين، الذين إذا دعوا إلى دعوة الحق والتوحيد، وقيل لهم: «لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ» يستكبرون عن هذه الدعوة، ويتبرّمون، ويستخفّون بالدعاة، لأنهم لا يريدون التخليَ عن الوثنية والشرك؛ متذرّعين بما يعتدّون أنه إرث موروث، إذ يقولون: أنترك آلهتنا، وما كان يعبد آباؤنا، لشاعرٍ مجنونٍ لا يقيم لها اعتباراً، ويريد أن يستأصلَ عبادتها من حياتنا؟!.. فتلك كانت مقولتهم الباطلة عن النبي الأعظم محمد بن عبد الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في استكبارهم عن عقيدة التوحيد، واستنكافهم ترك آلهتهم «لشاعر مجنون» كما اتهموه - ظلماً وعدواناً - لا شيء إلاَّ لعدم قبولهم بالحق الذي جاء به..
ولكنَّ مثل ذلك الاستكبار، وتلك التهمة الكاذبة، فكلاهما على قباحتهما، ووقاحة المشركين، ما كان ربُّ العزة والجلال ليذرهما يمرّان دونما تصويب، لبطلانهما المطلق عنده سبحانه، وهذا كافٍ بذاته لمن أراد أنْ يلقي السمع وهو شهيد، لاسيما وأنه مدعوٌّ لأن يستمع إلى قوله جلَّ وعلا: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ *} [الصَّافات: 37]..أبداً أيها المستكبرون والكاذبون، ليس «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) مدّعياً، ولا مجنوناً، ولا شاعراً!.. بل إنَّه نبيُّ الله، وقد جاء بالحق من عند ربّه، يتلوه قرآناً عربياً غير ذي عوجٍ لقوم يعلمون، فيهتدي به الناس إلى الشريعة الإسلامية الحق، دون غيرها من الشرائع والعقائد الفاسدة.. ومن أصول الدعوة التي يحملها هذا النبي الكريم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وأبرز وجوهها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، دونما تفريق بين أحد من النبيين والمرسلين الذين توالوا في الأرض على مختلف الأزمنة، منذ آدم (عليه السّلام) وحتى بعثه، هو، خاتماً للنبيين.. فإذا كان «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) قد جاء بالحق، وصدَّق المرسلين الذين خلوا من قبل، فهل يجوز اتّهامه بدعاوى باطلة لا أساس لها من الصحة، إلاَّ أنْ يكون سوءُ حكمكم عليه، ولذلك يأتيهم السؤال الإنكاري بقول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *} [يُونس: 35]؟!
من أجل ذلك نزلت هذه الآيات الكريمة، التي لا تقف آثارها عند نفي أية تهمة عن النبي محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وحسب، بل وليكون فيها حكم الله على أولئك المجرمين، بما يصفع وجوههم، ويقرر مصيرهم في العذاب الأليم {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ *} [الصَّافات: 38] على ما كنتم تستكبرون، وتقولون، وعلى كل ما كنتم تعملون في دنياكم.. {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ *} [الصَّافات: 34].. فأنتم، وبما تشاقّون الله ورسوله، من جرّاء فعالكم تلك، وكلها فعال جرمية في ميزان العدل والحق، فلذلك ستصلون العذاب الأليم؛ إنَّا مثل ذلك نجازي المجرمين بالعذاب على جرائمهم المنكرة.. وهذه هي عدالة الحق التي لا يمكن أن يهرب منها أحدٌ من المجرمين، وهي ستطالهم، كما قضى بذلك ربُّ العالمين، إذ أمرَ بالعدل في دنيا الأرض، وعدم الطغيان من الناس على الناس من أجل إحقاق الحق، مصداقاً لقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ *أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ *} [الرَّحمن: 7-8]، أجل إنه ميزان العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض، وهو ميزان الحساب للأعمال جميعاً، ولو كان العمل مثقال ذرةٍ من خيرٍ أو شرٍّ؛ فكان من مقتضيات العدل الإلهي أن يكون جزاءُ المستكبيرن المجرمين العذابَ الأليم، على مقدار ما أتوا من الشرور، وما ارتكبوا من الجرائم...
وبعد هذا البيان لحال المجرمين، يعود القرآن الكريم ليصور أحوال المؤمنين من عباد الله المخلصين، وما ينالون في دار الخلود على إخلاصهم في عبادة الله الواحد الأحد، وطاعة أوامره ونواهيه: فهؤلاء عن العذاب مبعدون، ولهم رزق معلوم، فواكه من كل الطيّبات التي لا عهد لهم بها في دنيا الأرض، كرَّمهم بها مولاهم العزيز الحكيم، وهم يرفلون بالحبور والسرور في جنات النعيم المقيم، متكئين على سرر وأرائك ناعمة، متقابلين بوجوهٍ ناصعة مشرقة، حتى يكون تقابلهم - بذاته - راحةً وطمأنينة، واجتماعهم مع بعضهم أماناً وسلاماً.. وفي ذلك المقام الكريم يطاف عليهم بكؤوس من خمر، تُملأ من معين أنهار جارية، ظاهرة للعيان أمامهم؛ وإنها لخمرة نقية صافية مثل البياض الناصع، لذة خالصة للشاربين، فلا يعتورها أيُّ شوب قد يجعل النفس تتقزَّزُ منها مرارةً وكراهةً، كما لا غول فيها مما يغتال العقول، ويفقد الوعيَ والإدراك، أو يسبب صداعاً في الرأس، وأوجاعاً في البطن[*] كما هي الحال في خمر الدنيا.. {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ *} [الصَّافات: 47] بالقيء لشدة السكر.. فلا شيء في خمر الجنة مما تعرفونه من خمر الدنيا (وقيل: إنَّ فيها أربعَ شوائب من سكرٍ، وصداعٍ، وقَيْءٍ وكثرةِ بولٍ).. بل إنه خمرٌ أعِدَّ شراباً لأصحاب الجنة، يتلذَّذون به كما تلذُّهم مختلف الطيبات والأرزاق الوفيرة في النعيم الكبير..
ومن أنعم الله تبارك وتعالى على أهل الجنة أنَّ عندهم كذلك زوجات طاهرات، قاصرات الطرف على أزواجهن، فلا تحيد أنظارُهُنَّ عنهم لشدة حبّهن لهم، ولحسنهم عندهنَّ، فلا يطرف لهنَّ جفنٌ، أو تميلُ نظرةٌ إلى غيرهم من عيونهن الواسعة، التي يتكامل جمالها مع جمال الهيئة، وحشمة الأنس والمعشر، فـكأنهنَّ بيضُ النعام المستور بريشها الناعم، فلا يصل إليه شيء من غبار أو ريح، أو ما قد يشيبه بشائبة - فالمكنون هو المصون -. وقد جاءَ هذا التشبيه لزوجات أهل الجنة، ليدلَّ على مقدار ما هنَّ عليه من الجمال المصون، الخالي من كل عيبٍ أو خلل، وبما يتوافق مع الأنس والإلفة، والأدب والاحترام. وكل ذلك انسجاماً مع حياة الجنة بما فيها من الطهارة والعفاف، والسموّ والرقيّ.
تلك هي حالُ عباد الله المخلصين، وهم في جنات النعيم. وإنهم لعلى تلك الحال، إذ يُقبل بعضهم على بعض، يتساءلون عما مرَّ بهم في الحياة الدنيا من مغريات شتى!.. وكيف هداهم الله تعالى لطاعته، فساروا على الصراط المستقيم، ووصلوا إلى هذا الفوز العظيم.. وفيما هم يتذاكرون ويتساءلون عما حلَّ بأهل الكفر والشرك، قال قائل منهم: إنّي كان لي صاحبٌ في الدنيا، ينكر البعث والحساب، فكان يبكّتني ويقول: أإنك لمن المصدّقين حقاً بالبعث والنشور؟ وكيف؟ أخبرني، أإذا ما متنا، وصرنا تراباً، وعظاماً نخرةً مفتتةً، تعود أجسامنا هذه إلى ما كانت عليه، ونحيا من جديد لنحاسبَ، وندان على ما فعلنا في هذه الدنيا؟ لا، لا أعتقد أنَّ هذا ممكن حدوثه، لأننا بعد الموت نفنى، ونزول، فلا بعث ولا حساب.
ثم يتابع صاحب الجنة قائلاً لإِخوانه: هل أنتم مطّلعون معي إلى الجحيم، علّنا نرى ما حلَّ بذلك القرين في الدنيا، على ما كان يكذّب بآيات الله تعالى ووعيده؟
ولا تبيّن النصوصُ القرآنية ما قاله أصحاب الجنة لأخيهم، ولكن يُفهم بأنْ لا شأنَ لهم بأصحاب الجحيم، الذين لاقَوْا ما وعدهم الله به حاضراً، فنالوا ما يستحقون من الجزاء على إنكارهم، وتكذيبهم، وعلى ما سعوا في الكفر والضلال في دنياهم...
ولكنَّ أخاهم أراد أنْ يتبيّن بالمشاهدة مآل ذلك الصاحب، فاطّلع - من مكانٍ يمكّن من رؤية أصحاب النار - فرآه في سواء الجحيم، يتقلّب في وسط نارها بالعذاب المهين.. فناداه وقال له: تالله، إنك كدتَ لترديني معك، وتهلكني في هذه النار؛ ولولا نعمة ربّي بما هداني إلى الحقّ، لكنت معك من المحضرين إلى هذا المصير المقيت..
وفيما هذا المؤمن يذكّر قرينَه بحياتهم الدنيا، وما كان عليه كلٌّ منهما من خلاف في العقيدة والعمل والنهج، وما صار إليه كلٌّ منهما في الدار الآخرة، تراءى له مشهد الأموات، يوم كانوا يُحملون، كلٌّ إلى مثواه الأخير، فأدرك ما يعني الموت، الذي يتجسَّد بذلك الانتقال من الدار الفانية إلى دار البقاء، حيث لا موت، بل حياة أبدية في الجنة أو في النار.. فانطلق في معاودة تسبيحه لخالقه، وبارئه، وهو يقول: الحمد لله الذي هدانا في دنيانا إلى صراطه الحميد المجيد، والحمد لله الذي أماتنا وأحيانا، فوالله ما نحن بميتين بعدُ بفضل الله، إنْ هي إلاَّ موتتنا الأولى التي أعقبت حياتنا الدنيا، لتكون لنا هذه الحياة في دار الخلد، التي أسبغ علينا ربُّنا تبارك وتعالى فيها من رحمته الواسعة ما يجعلنا نتبَّوأ فيها ما نشاء.. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ *} [الشُّعَرَاء: 138]، في مهاوي الجحيم، وهذا بفضل الله ورحمته.
وليس أوسعَ نعمةً يجزيها الله الكريم، وليس أعظمَ فضلاً يؤتيه العزيز الحكيم لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات - في دار الدنيا - من هذا الرضوان منه تعالى، الذي أدخلهم الجنة.. ولذلك يجيءُ هذا التأييد لهم وهم يسبحون بحمده تعالى بقوله المبين: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [الصَّافات: 60]، و{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ *} [الصَّافات: 61].. وقد تكون هذه لفتةٌ من أروع اللفتات التي وردت على لسان أهل الجنة، وهم يعترفون بفضل الله عليهم.. كما يمكن أن تكون نقلةٌ ينقل بها النصُّ القرآني المؤمنين، وهم ما يزالون في الدنيا، إلى أجواء النعيم، فتكون لهم الوعدَ الحقَّ الذي يرجونه، فيزدادون إقبالاً على عبادة الله، وعلى طاعته، ولا يفترون عن ذكره تعالى في الحمد والثناء عليه، إلى ما هداهم من صدق الإيمان، والعمل الصالح، ومناصرة الحق ومحاربة الباطل، حتى ينالوا فعلاً رحمة الله تعالى بالهداية والفوز العظيم.. فكان حقاً وصدقاً وعدلاً: ولمثل هذا الفوز العظيم فليعمل العاملون، الذين يريدون أنْ ينالوا الجزاء الأوفى في دخول الجنة. ثم، وعلى سبيل المقارنة: أذلك النعيم المقيم يكون خيراً نزلاً ينزلون به أعزَّاء ومكرَّمين، أم شجرة الزقوم التي أعدت لأهل النار جزاءً موفورا؟.
وما شجرة الزقوم؟ إنها كما يقال من أخبث الشجر المرّ الذي ينبت في أرض تهامة، وقد مثَّل بها اللَّهُ سبحانه وتعالى على كل خبيث يستقبح الإِنسان مرآه، فكيف إذا كان مجبراً على الحاجة إليه وأكله؟! إنَّ هذه الشجرة الخبيثة قد جعلها الخبير العليم فتنة للظالمين، تحيرهم بطلوعها وسط النار، فيقولون: إنَّ النار تحرق الشجر، فكيف إذاً تنبتها؟!.. ولذلك جاء التأكيد القرآنيّ: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ *} [الصَّافات: 64]. أي أنها تنبت من قعر نار الجحيم، وترتفع حتى تبلغ طول ألسنة تلك النار المستعرة، وتظل على حالها، لا يصيبها أي احتراق.. أمَّا طلعها، أي ثمرها، «كأنه رؤوس الشياطين»، التي يمكن أنْ نتَّخيلها مثل رؤوس الثعابين الكريهة السَّامة.. وما هذا التشبيه لطلع شجرة الزقوم إلاَّ لإِثبات شدة بشاعته، وفداحة استقباحه في النفوس. فنحن عندما نتخيَّل رأس الشيطان، وما يبعث فينا من خوف وهلع، وبشاعة وتقزّز، فإننا نسارع إلى إبعاد تلك الصورة عن ذهننا، لأننا لا نطيق احتمالها!.. فكيف الحال إذا كان ذلك الطلع كـرؤوس الشياطين، هو طعام أهل النار، وكانوا محتاجين على قطفه بأيديهم، ليسدّوا به جوعهم الملهوف؟
أجل، إنَّ ذلك الطلع الذي تعطيه شجرة الزقوم الخبيئة هو ما جعله ربُّ العباد - الذي بيده الأقدار - طعاماً لأهل النار الآثمين، يأكلونه حتى تمتلئ منه بطونهم، مصداقاً لقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *} [الصَّافات: 66].
ويجدر بنا أن تتوَّقف ونتأمل في سياق النصوص القرآنية، فهي عندما تطرح التساؤل: أذلك النعيم في الجنة (مع ما فيه من فاكهة ولحم طري، وأنهار من عسل مصفَّى، وأنها من خمر لذة للشاربين وغير ذلك من الطيبات) خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم؟! فإنَّها تهدينا مباشرة إلى حكمة الله تعالى في خلق هذه الشجرة بالذات، وذلك ليجعلها سبحانه وتعالى فتنةً للظالمين الآثمين في هذه الدنيا {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ *} [الصَّافات: 63].. وبالفعل، وكما ثبت في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذْ لمَّا سمع رؤوس المشركين في مكة، الآيات التي ورد فيها البيان عن شجرة الزقوم، بادروا إلى تكذيب آيات الله، فقالوا: كيف تنبت هذه الشجرة في أصل الجحيم ولا تحترق؟ وزادهم أبو جهل سخريةً، فقال: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها «محمد»؟ إنْ هي إلاَّ عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمْكَنَّا منها لنمزّقنها تمزيقاً.. وفي الرواية أيضاً أنَّ أبا جهل كان يأتي بالزبد والتمر، ثم يقول: تزقَّموا، فهذا الزقُّوم الذي يعدكم به «محمد ابن عبد الله»..
وهكذا وبعد تبيان الفارق العظيم بين طعام أهل الجنة وطعام أهل النار، وبعد تبيان الحكمة الإلهية من جعل شجرة الزقوم فتنة للآثمين، تأتي النصوص على التعريف بتلك الشجرة، من حيث منبتُها في وسط الجحيم ومن حيث بشاعة ثمارها، ومن حيث اضطرار أهل النار للأكل منها حتى الامتلاء...
ولكي لا تبقى «شجرة الزقوم» فكرةً مجرَّدةً في الأذهان، فإنَّ الله تعالى يضرب المثل الحسيَّ عليها ولكن في سورة أخرى من قرآنه بقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الأَثِيمِ *كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الْحَمِيمِ *} [الدّخان: 43-46].
فالطعام الذي يأكله الأثيم - ذي الإثم الكبير - من تلك الشجرة هو كـالمهل، أي مثل دردريّ الزيت الأسود المحمَّى، يغلي في البطون كـغلي الماء على النار، فعندما ياكل منه الأثيم ويملأ بطنه، فإنه يظمأ ظمأً شديداً، فيسرع، فلا يجد إلاَّ ماءً أشدَّ حرارة من الحميم، فيشربه، وما أنْ يصل إلى جوفه اللاهب ويمتزج بالطلع الذي أكله حتى يصير خليطاً يقطع أمعاءه.. ويبدو، كما يستدلُّ من النصوص، أن ذلك الشوب من الحميم الذي يشربونه ليس في وسط الجحيم، بل في ناحية ما من جهنَّم يهرعون إليه، ثم يرجعون - بعد شربهم - إلى مكان مستقرّهم في أصل الجحيم، حيث النار المستعرة {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَِلَى الْجَحِيمِ *} [الصَّافات: 68]، وبذلك فإنَّ أهل النار يتقلّبون من سوءٍ إلى سوءٍ، أمَّا لماذا يتقلّبون في تلك الأهوال، والمصائب الشديدة، التي لا تنفكُّ عنهم أبداً - وذلك هو البلاء العظيم - فالسبب {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَآلِّينَ *فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ *} [الصَّافات: 69-70].. لقد وجدوا آباءهم يعبدون الأصنام، وهي عبادة الضالّين عن الطريق المستقيم، طريق الله الحق، فبدلَ أنْ يدخلوا في الإسلام، ويهتدوا بهدي القرآن، ساروا على مثل ضلال آبائهم، ومضَوْا على تقليدهم الباطل، عمياً عن الحق، فهم على آثارهم في العبادة، والنهج السلوكي، يسرعون كأنما يدفعون إليه دفعاً.. ومثل هؤلاء قد ضلَّ قبلهم أكثر الأولين من الأقوام الماضية، فكان الأنبياء والرسل يأتونهم منذرين بالعقاب، ومبشرين بالثواب.. ولكنّهم لم يستجيبوا لدعواتهم، ولم يرعووا عن الكفر والشرك، ولم يرتدعوا عن الظلم والإجرام، فكانت عاقبتهم الوخيمة أنهم في النار خالدون كما يبيّنه قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ *} [البَقَرَة: 161-162].
أما عباد الله المخلصين - من بين تلك الأقوام الغابرة - الذين آمنوا، واتّبعوا النبيين والمرسلين، وكانوا، في كل زمان، قلةً قليلةً، فقد نجوا من الهلاك الذي كان يحلّ بتلك الأقوام، وذلك بما أخلصوا هم أنفسهم في الإِيمان والطاعة، وبما أخلَصَهم لهما ربُّهم، ذو الفضل العظيم، فنالوا السلامة في الدنيا، والفوز في الآخرة..
13 - النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بشرٌ مثل سائرِ النّاسِ
يقول المولى العزيز: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ *} [فُصّلَت: 6].
هذا الأمر الإلهي للنبي محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، كان ردّاً على المشركين الذين عارضوه في دعوته، وشنّوا عليه تلك الحرب النفسية والدعائية كي يصدوا الناس عنه؛ وقد كان من أنواع المكر والخبث التي اتَّبعها أولئك المشركون أنْ كانوا يتقصَّدون الجأر أمام الناس بعدم قبول الاستماع إلى ما يبشرهم وينذرهم به رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، فكانوا يقولون له: قلوبنا مغلقة على مكنوناتها، ومغلّفة بأغطيةٍ فلا ينفذ إليها شيء مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، فلا نسمع شيئاً مما تقول، ومن بيننا وبينك خلاف في المعتقد، هو ما يحجبنا عنك، وعن دعوتك، فاعمل على دينك، إنَّا عاملون على نصرة آلهتنا، وهذا ما يهدينا إليه قول الله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ *} [فُصّلَت: 5].
وما كان ردُّ النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إلاَّ بما أوحى إليه ربُّه، بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف: 110].. فقد كان عليه (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) أنْ يبيّن لهم الحقائق التي تكتنف حياته، ورسالته، وما يجدر بالإنسان أن يقوم عليه من عبادة الله الواحد، والعمل الصالح، وألاَّ يشرك بعبادة ربّه أحداً من الناس، أو شيئاً من المخلوقات.. أي بحيث تناول ردُّ النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ما فحواه: إنّما أنا بشرٌ مثلُكم، فلستُ ملاكاً منزلاً من السماء، ولكنَّ ربِّي تعالى قد اختارني واصطفاني، ويوحي إليَّ بالآيات القرآنية التي تهدي إلى دينه القويم، وتنكر عبادة مثل هذه الآلهة المزيفة التي قد تشترونها مثل أي سلعة، أو التي قد تصنعونها بأيديكم، وتنصبونها في بيوتكم، ثم تقومون على عبادتها!..
ومن هدي هذا الوحي الذي يتنزل عليَّ، أعظكم، أيها الناس، أنْ توقنوا بأنْ لا وجود لآلهةٍ متعددةٍ لا في الأرض، ولا في السماء، وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلاَّ هو، لا شريك له، فآمنوا بالله مخلصين له الدين، واستقيموا على عبادته وطاعته، لأنَّ من شأن هذه الاستقامة أنْ تجعل أبواب الرحمة تتفتَّح عليكم، وتأخذكم إلى الاستغفار مما أشركتم به، وستجدون الله غفوراً رحيماً.. أما إنْ بقيتم على شرككم، فويل للمشركين، أنتم وأمثالكم الذين قال عنهم الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *} [البَقَرَة: 16].. فويل لهم مما كسبت أيديهم، وويلٌ لهم ممّا ينتظرهم لو كانوا يعلمون!.. ولعلَّ في الآية (6) من سورة (فصّلت) ما يبيّن مقدار المعاناة التي كان النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) يلاقيها من الإعراض عن الدعوة، والإصرار من بني قومه على الشرك؛ وكان ذلك يتطلب منه الصبر، والاحتمال على الرغم من شدة تلك المعاناة، وأثرها على نفسه الزكية؛ إذْ كان عمله (صلوات الله عليه) خالصاً لوجه الله تعالى، فلا يروم إلاَّ إيصال الإسلام إلى عقول الناس وقلوبهم، لأنَّ في اتباع هذا الدين،والسير على هداه رحمةٌ ربانية، لا يقدّرها الظالمون، الذين تاهوا في غياهب الشرك والكفر على مدار العصور..
ونحن عندما نوقن بأنَّ الله تبارك وتعالى هو السميع البصير،وأنه ينظر سبحانه إلى النبيين والمرسلين بعين العطف والرحمة، لما يلاقون من الاستكبار والعداوة، ولاسيما تلك المواقف التي تضغط على قلوبهم من عدم الاستجابة لدعواتهم.. فإننا ندرك أهمية زاد الصبر الذي كان ربُّهم الكريم يدعوهم للتجمّل به.. إذْ عليهم، وقد اصطفاهم سبحانه لحمل الأمانة، أنْ يصبروا، وألاَّ تضيق صدورهم من عنت المشركين، والكافرين، لأن طريق الدعوة هو طريق الصبر الجميل، وأول ما يستوجبه هذا الصبر - فيما ينشد من انتصار الدعوة - تحمل إبطاء النصر، وتأخر أماراته، وعدم انفتاح سبله، ثم التسليم لمشيئة الله، والرضى بما يقدرّ سبحانه وتعالى.. وكل ذلك ليوفَّى أصحاب تلك الثلة المختارة، أجرهم بغير حساب..
الفقرة السادسة - النفاق، ومواصفات المنافقين
لا بد قبل التعرف على الأمثال القرآنية التي تبين أفعال المنافقين، من التطرق إلى بعض السمات التي يتميزون بها، والتي تدل على ما تنطوي عليه نفوسهم من أمراض خبيثة لشدة ما يعشِّشُ فيها من النفاق، والغش والخداع، وما تنزع إليه من الكذب والإفساد في الأرض. فانظر إلى ما يصف به الله تعالى المنافقين بقوله العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ *يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ *فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ *أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ *} [البَقَرَة: 8-12].
أربع صفات من السوء تصبغ المنافقين في أقوالهم وأفعالهم:
- ما هم بمؤمنين..
- يخادعون اللَّهَ والذين آمنوا..
- في قلوبهم مرض النفاق والكذب..
- مفسدون في الأرض..
فالمنافقون قد جُبلوا على حب الخداع والمراوغة، وعلى الفساد والإفساد في الأرض ، يتوهمون أنَّ ما يلجأون إليه، ويقومون به من المداهنة والتدليس، والتلبّس بالكذب والرياء، والتذبذب بين الأهواء والمطامع.. يتوهمون ذلك بمثابة عناصر رئيسة لحياتهم، تمدّهم بالطاقة والقدرة لتحقيق مآربهم، وغاياتهم، ونيل مطالبهم وشهواتهم!.. ولكنهم ما دروا بأنَّ ذلك كله مرضٌ في قلوبهم، وأن الله الذي خلقهم، ويعلم سرَّهم ونجواهم، يزيدهم على مرضهم في النفاق، مرضاً في الكفر، بحيث لا يعود لهم أي أمل في النجاة، إلاَّ أن يعودوا عن نفاقهم وكفرهم .. فقد يبدو لنا أن المنافقين على أتم الشكل والرونق، بحسب الطرق التي يعيشون بها. ولكن ذلك هو ظاهر حياتهم فقط، بينما هم في دخيلتهم من أقبح خلق الله، إذ يكفي أنْ يمارسوا الفعال التي يمارسها الشيطان من أفانين التملق، والخداع، والمراوغة والكذب حتى ينقادوا إليه، ويصيروا من قبيله، ولكن في لباس بني آدم، كما تدلُّ عليه الآيات الكريمة بما تصفهم به من الصفات السيئة التي هي من صفات الشيطان فعلاً.. وليس للعباد المؤمنين، الذين يرون بنور الله، إلا أنْ يتلمَّسوا أقوالهم، ويروا فعالهم حتى يدركوا حقيقة نوازعهم وأهوائهم، وحقيقة نفاقهم، وأنهم أتباعٌ للشيطان، بل ومن قبيله الفاسقين المفسدين!.. فمن تلك الصفات ما يزيدنا به القرآن الكريم تبياناً وذلك بقول الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [التّوبَة: 67].
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التّوبَة: 67]، أي من نفس الطينة التي تجعلهم متشابهين في الصفات والخصائص كـأبعاض الشيء الواحد، ومتشابهين في السلوك والحركة كـالحرباءة في تلوّنها!.. ومن فعالهم التي تدل عليهم: أنهم يأمرون بالمنكر (كـالكفر، والخداع، والكذب والفساد، وغيرها من الفواحش، والمعاصي).. وينهون عن المعروف (كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الطاعات) ويقبضون أيديهم عن الإِنفاق في سبيل الله، وفي كافة وجوه البرّ والخير.. نسوا الله فأعرضوا عن ذكره وطاعته، ولم يتفكروا بقدرته وببطشه، فتخلَّى سبحانه عنهم، وتركهم منسيين من لطفه.. وكل ذلك يجعلنا نستيقن {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [التّوبَة: 67]، الخارجون عن حدود ما أنزل اللَّهُ تعالى، والذين يأتون النفاق والفساد كيفما داروا، وحيثما توجهوا، وهو ما يُقبِّح وجوههم، ونفوسهم!..
وبسبب ما هم عليه فإنَّ العزيز الحكيم يَعِدُ المنافقين بما يعد به الكفار، فهم سواء في نار جهنم، فيقول الخبير العليم: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ *} [التّوبَة: 68].
هذا هو وعد الله عزَّ وعلا للمنافقين والمنافقات والكفار، بأن تكون عاقبتُهم {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [التّوبَة: 68]..
والوعد معناه هنا التحقق، لأنَّ وعد الله حق {لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ *} [الرُّوم: 6-7]..
كما انه واضحٌ من النصّ القرآني أنه يضع المنافقين والمنافقات على مستوىً واحد مع الكفار في المصير.. مما يعني: كم يكون النفاق مذموماً، ومحرّماً عند ربّ العالمين، حتى يصبح أهله بنفس المنزلة مع الكفار!.
أما نار جهنم التي وعدهم الله حقاً بأن يخلدوا فيها، فهي حسبهم جزاءً وعقاباً، لأنه ليس وراءها عقابٌ أشدُّ، إذ يتناسب ذلك العذاب المقيم في جحيمها، مع ما قدمت أيديهم من الشرّ المستطير، الذي ظلموا فيه أنفسهم، مثلـما ظلموا غيرهم من عباد الله الذين اكتوت حياتهم من شرِّ ظلمهم.. {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} [التّوبَة: 68] بإبعادهم عن رحمته التي وسعت كلَّ شيء، بعد أنْ طفح كيلُهم بالنفاق والكفر.. ولو أبقوا مساحةً صغيرةً، على الأقل، من عمرهم، لشيء من الإِيمان، والتقوى، وفعل الخير، لما لحقت بهم اللعنة السرمدية، التي أودت بهم إلى ذلك العذاب المقيم، الذي ليس له دافع من الله ذي المعارج..
هذا ويبيّن القرآن الكريم أنَّ المنافقين والمنافقات، والكفار، في أي زمانٍ عاشوا، وإلى أية بيئةٍ انتموا، إنما هم مثل الذين من قبلهم، حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، فكانوا هم الخاسرون، يقول الله تعالى: {كالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ *} [التّوبَة: 69].. ويوجّه القرآن الكريم نظر المنافقين والمنافقات، والكفار لأنْ يعتبروا بأخبار الأقوام الماضية، الذين أتتهم رسلهم بالآيات البينات التي تدعوهم إلى الإيمان، فكذبوهم، فأهلكوا، فما كان الله ليظلمهم بذلك الهلاك، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، باتباع النفاق والكفر، يقول تعالى: {أَلَمْ يأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [التّوبَة: 70].
هذا هو القرآن الكريم، فيما يبين من الشواهد والعظات لعلَّ الذين مردوا على النفاق والكفر، يأخذون العبرة من الماضين، وإلاَّ فإنَّ وعد الله جلّت قدرته آتٍ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
هذا ويسوق القرآن الكريم أمثالاً كثيرة عن المنافقين (والكفار وهم مثلهم)، كما يتبين من الآيات التالية:
1 - مثل المنافقين كمثل الذين تُركوا في الظلمات يعمهون، أو كمثل الذين أحاطت بهم الصواعق في يوم ماطرٍ مظلم
يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ *وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين * مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} [البَقَرَة: 13-20].
من يتحرّى تاريخ السيرة النبوية الشريفة، يجد أنَّ المجتمع في المدينة المنورة، بعد هجرة النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إليها، كان يضم أطيافاً متنوعة من الناس، الذين كانوا يختلفون في توجهاتهم، وتصرفاتهم انطلاقاً من اختلافهم في معتقداتهم؛ فكان منهم المستكبرون، الذين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البَقَرَة: 13] بالإسلام ديناً، {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البَقَرَة: 13] ويعنون بهم أصحاب النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ولاسيما الضعفاء والمساكين، فردَّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله المبين: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ *} [البَقَرَة: 13]..
وكان في المدينة إلى جانب المستكبرين، أهل النفاق والشقاق، الذين لم يؤمنوا بالإسلام دين هدىً وتقوى، وشريعة صلاح وإصلاح، بل أسلموا، ولمّا يدخل الإِيمان في قلوبهم، كما كانت تنبئ عنهم فعالهم: فإذا لقوا المؤمنين، تجدهم يداهنون بالقول: آمنا بـالله ورسوله!. وإذا خلوا إلى زعمائهم من رؤوس الكفر والشرك، الذين وصفهم الله تعالى بأنهم «شياطينهم»، قالوا: إنَّا معكم في الدين والدنيا، إنّما نحن مستهزئون بأتباع «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، فندّعي إذا لقيناهم بأنَّا آمنّا بدعوته، حتى نبقى في ظاهر الحال قريبين منهم، إلاَّ أننا في قلوبنا أشدُّ الناس حقداً عليهم وعلى نبيّهم!.. وهذا ما يجعل المنافقين بوجهين ولسانين: يبدون مودتهم للؤمنين - نفاقاً وكذباً - ويظهرون العداوة والبغضاء لهم إذا اختلوْا بـ«شياطينهم»، وهم يقولون لهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *} [البَقَرَة: 14] بأولئك «الصابئين» الذين أتوا من مكة، ومن تابعهم وناصرهم هنا في يثرب.. ولكنهم ما حسبوا أنَّ {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *} [البَقَرَة: 15] عن الحق، ويوغلون في الباطل، بحيث يجعلهم مترددين، حائرين، لا يدرون ماذا يفعلون: أيستمعون إلى نداء الفطرة الذي يدعوهم للإيمان والإخلاص لله خالقهم.. أم يظلون على نفس الحال من النفاق، وبالتالي من الكفر، الذي يجعلهم ينقادون إلى زعمائهم، فيأتمرون بأوامرهم، وينصاعون لسلطانهم؟!
بئس مثل القوم الذين اشتروا الضلالة بالهدى، فاستحبوا الكفر على الإِيمان. وبئس مثل القوم الذين تاجروا بالنقيض ونقيضه، فما ربحت تجارتهم في النفاق والترّدد، وما كانوا مهتدين إلى الحق، فدفعهم نفاقهم بعيداً عن نور الله، فكانوا من الأخسرين عملاً!..
ومَثَل هؤلاء المنافقين - وما يجرهم إليه النفاق - كمثل الذي استوقد ناراً في ظلمة دامسة، فلما أنارت ما حوله، فأبصر واستدفأ، وأمِنَ مما يخاف، انطفأت ناره فجأة، وحلَّ الظلام حوله من جديد، وذلك بأمرٍ من الله تعالى الذي ذهب بنور تلك النار، وتركه في ظلمات الرهبة المخيفة، لا يبصر شيئاً، ولا يهتدي إلى شيء.. (ونلاحظ في النص القرآنيّ أنه جمع الضمير مراعاة لمعنى «الذي»، فقال تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ *} [البَقَرَة: 17] وذلك حتى يكون المثل شاملاً لحال المنافقين جميعاً، الذين، بعد أنْ سطع نور الإسلام في المدينة المنوّرة، عادَ من عادَ منهم إلى جماعته من المشركين، وظلَّ مَنْ خافوا على وجودهم، في نفس الحالة من النفاق، يظهرون الإسلام، ولكنهم يعيشون، في حالة نفسية من الرعب، تحت وطأة المعاناة، والقلق، والحيرة والخوف، وشتى المشاعر التي تتآكل بها أحشاؤهم.. فكان ذلك ظلام النفاق الذي غطَّى نفوسهم الحائرة، المتعبة.. وهذا في الحياة الدنيا.. أما في الآخرة فسوف يقبعون في ظلمات الجحيم، وأسفل السافلين.. ولذلك وصفهم العليم الحكيم بأنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ *} [البَقَرَة: 18].. فهم صمٌّ عن سماع الحق، وعن الانتفاع بالحكمة والموعظة الحسنة، وسبل الهدى التي يقدمها الرسول الكريم في تبيان آيات القرآن المبين. وهم بكمٌ عن قول كلمة الحق، ومواجهة شياطينهم بها، حتى فارقتهم تلك الكلمة، فلا تنطق بها ألسنتهم. وهم عميٌ عن آيات الله تعالى، فلا يرون آثاره في ملكوت السماوات والأرض، وفي أنفسهم، وفي كل شيء من حولهم حتى ضلّوا عن طريق الهدى، فلا يتبعونه أبداً.. وفي هذا توكيد على أنهم لم ينتفعوا بالحواس التي خلقها الله تعالى لهم من سمع ونطق وبصر، حتى لكأنَّ تلك الحواس قد ماتت لديهم، فتعطَّل عملها لمعرفة الإِسلام الذي يأمرهم ربّهم العليّ القدير باعتناقه واتباعه. وبذلك سيطر الضلالُ على عقولهم، وعشش البهتان في نفوسهم، فلا يرجعون إلى نور أو هداية.
وهذا المثل - كما يقول بعض المفسّرين - ينطبق على حال اليهود في معاداتهم سيدنا ونبيِّنا محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم). فقد كانوا ينتظرون بعث النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، من بني يهود، فلما بعثَهُ الله من أهل مكة، وأنزل عليه قرآناً عربياً، وتأكَّد لهم أنه هو النبيّ الموعود، كذبوه وحسدوه! أما لماذا شنَّوا عليه تلك الحرب الشعواء؟ فلأنه - وهذا الأهم - قد جاء بالشرع الذي فيه القصاص على السوء والفحشاء، وفيه الزجر والنهي عن الربا والخداع والدسيسة.. وغيرها من الأمور التي ألفوها في دنياهم، وجعلوها منهاجاً مرسوماً في حياتهم، وكل ذلك بخلاف ما تأمرهم به التوراة التي حُمِّلوها، ثم لم يحملوها، فصار مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً!.. ولا يختلف دور أولئك المنافقين على عهد رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) عن الدور الذي يقوم به المنافقون اليوم لمناهضة الجماعات الإسلامية، وإعلان الحروب الصليبية على الإسلام والمسلمين، كما تظهر الأمور جهاراً!. والأدلة كثيرة من مثل خطاب الرئيس الأميركي آنذاك (جورج بوش) بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001م، ومنع المسلمات من ارتداء حجاب الرأس في المدارس والمؤسسات في فرنسا، والصور المسيئة للـرسول الأعظم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) في عدد من الدول الأوروبية، ومحاضرة البابا في ألمانيا، واحتلال أفغانستان، ثم من بعده احتلال العراق، ومحاصرة الشعب الفلسطيني كي يموت من الفقر، والجوع والمرض، وشن حرب إبادة على المقاومة الإسلامية وشعبها في لبنان، والتصدّي للجمهورية الإسلامية في إيران لمنعها من استكمال برنامجها النووي لأغراضٍ سلمية!.. وهذا كله في العلن، وبإصرارٍ واستكبارٍ!..
أما في الخفاء، فالأمور أدهى وأخطر!. بما يضعون من الدراسات والمخططات، وبما يحيكون من الدسائس والمؤامرات، لإحداث الفتن والتفرقة بين البلاد الإسلامية، والتركيز خاصة على الشحن المذهبي الذي يعتمدونه كسلاحٍ أمضى، لصرف الأمة الإسلامية عن أداء واجبها المقدس في نشر الإسلام، وضرب وحدة كلمة المسلمين، وشق صفوفهم.. وعلى الرغم من كل ذلك تجد بين المسلمين من يتابعونهم على سياساتهم، ويسيرون في مخططاتهم، ولو كان فيها القضاء على الإسلام وأهله!!..
وهذا ما يجعل الحاجة اليوم ملحة وضرورية، أكثر من أي وقت مضى، كي يتنبَّه المسلمون إلى جديّة الأخطار التي تنتظرهم - حكاماً وشعوباً - وألاَّ ينزلقوا في موالاة أعدائهم - الحقيقيين - إلى مخالفة أمر الله عزَّ وعلا بقوله المبين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عِمرَان: 103]، وحبل الله - كما تعلمون - هو دينه القويم الإسلام.. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [آل عِمرَان: 101]، وقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ *} [الحَجّ: 78].. وأما جزاء الذين يعتصمون بـالله فهو جزاء عظيم، كما يبيّنه قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *} [النِّسَاء: 175].
ومن أجل أنْ تزيدنا النصوص القرآنية إيضاحاً أكثر بأحوال المنافقين، فإنها تقدم لنا مثلاً آخر يكشف عن طبيعتهم، وتقلّبهم بين الإِيمان والكفر. وتبدو صورة هذا المثل في المطر الذي ينهمر بغزارة في ليلة حالكة حيث يغطي الظلامُ الأرجاء كلها، فلا يُرى إلا البرق الذي يخطف الأبصار، ولا يُسمع إلاَّ الرعد الذي يقصف، والعواصف التي تزمجر؛ وأما أشدَّ الأهوال في ذلك المطر والظلام فتلك الصواعق التي تنزل لتحرق كل ما تقع عليه، وتقتل كل من تصيبه، وتبدّد كلَّ شيءٍ من حولها شتتاً..
وتبرز الموعظة في هذا المثل عندما نتصوَّر بعض الناس في وسط تلك الشدائد، وقد أحيط بهم من كل جانب، وهم يضعون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت من دويّ أصواتها، وشعلة نارها وهي تنقضّ من السماء على الأرض، فلا تذر شيئاً، ولا تصل إلى شيء إلا وتقضي عليه. فحالهم إبّان تلك الظلمات، والشدائد القاتلة والمدمّرة، كـحال المنافقين الذين أحاطت ظلمات الكفر بقلوبهم، بعد أنْ ملأتها بالضلال والبهتان، وبالخداع والكذب، والفساد والفسوق، فلا يجدون راحة في البال، ولا طمأنينة في النفس، بل يقتلهم القلق والخوف على المصير.. وهذا كله من إضلال الله لهم، لأنه عزَّ وجلَّ محيط بالكافرين علماً ومقدرة، فلا يفوته شيء من أمرهم، مثلما لا يفوته شيء من أمر المنافقين في سرهم ونجواهم.
وعن معنى الإحاطة، قال الشاعر:
أَحَطْنا بِهِمْ حتى إذا ما تَيَقَّنُوا
بما قَدْ رأَوْا مَالُوا جميعاً إلى السَّلْمِ
..فعندما يحيط قومٌ أشداء - كما يقول الشاعر - بقومٍ ضعافٍ، لا يقدرون على مواجهتهم، أوْ الإفلات من قبضتهم، فإنهم يستسلمون لهم وينزلون على حكمهم وإرادتهم.. إذاً فما بال الكافرين والمنافقين لا ينزلون على حكم الله، وحكم رسوله، والله تعالى محيط بهم من جميع الجوانب؟ أو لا يرون بأنه هو القويّ المتين، وهو القاهر فوق عباده.. وهم الضعفاء، العاجزون، التائهون في ملك الله وسلطانه؟!. فما بالهم لا يفقهون، ولا يستسلمون لله العلي العظيم، فيتخلوا عن الكفر والنفاق، ويعودوا إلى رحاب الإيمان؟! وما لهم لا يهتدون بهدي الله، ولا يردعهم وعيده؟! فكان لا بدَّ لمشهد القابعين وسط ظلمات المطر الغزير ببرقه ورعده وصواعقه، أن يعطينا صورة حسية للشدة التي يحيط بها الله تعالى الكافرين والمنافقين في الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، لربّ العالمين...
أما عن فعالهم الملتوية التي لا تستقرُّ على منهج واضح، وطريق مستقيم في تعاملهم مع الآخرين، فيصورها النص القرآنيّ بتلك الحركة الحذرة التي تنم عن الخوف والقلق في كل خطوة يخطوها أولئك الذين أحاطت بهم الظلمات الدهماء. إذ نجدهم بين دفعات الخوف من البرق الذي يكاد يخطف أبصارهم، وبين دفعات الرجاء الذي يلوح كلما أضاء لهم الطريق مشوا فيه بضع خطوات، وإذا انقطع البرق، وعاد الظلام فأطبق عليهم، وقفوا مسمَّرين في أماكنهم لئلا يسيروا على غير هدى، فيهبطوا في المهاوي السحيقة، ويلفهم الضياع النهائيّ..
وتلك الأمثال يضربها الله للناس - عن المنافقين والكافرين - حتى يتبيّن لهم مقدار ما يوقعهم به النفاق، أو الكفر، من القلق والحيرة، ومن الشدة والبلاء، علَّهم يتعظون، لاسيما وقد وهبهم خالقهم المدارك والحواس التي من شأنها أن تفتح أمامهم السبل لسماع الهدى ورؤية الحق.. إلاَّ أنَّ النفاق، ومثله الكفر، غالباً ما يطغى على تلك الملكات فيعطلها، بل ويشلّها تماماً، ليحيلها بلا جدوى. ولو شاء الله العزيز القدير لذهب بسمع المنافقين والكافرين فلا يسمعون شيئاً، وببصرهم فلا يبصرون شيئاً، إنَّ الله على كل شيء قدير. فهو سبحانه قدير على أنْ يذهب، ليس بحواسهم وحدها، بل وأنْ يبدلهم، بصورة كاملة، من حال إلى حال، وفق ما يشاء، وما يريد... فسبحان الله القادرُ على أنْ يوجد المعدومات، كما هو قادرٌ على أنْ يعدم الموجودات!.
وهذا المثل في الآيات القرآنية، من سورة البقرة، يحتمل كثيراً من المعاني الأخرى: فقد يكون عنى بالظلمات، الكفر الذي أغلق على قلوب المنافقين حتى صارت مظلمة لا يصلها شيء من نور الإِيمان.. وقد يكون عنى بالرعد، التخويف والوعيد بالعذاب على النفاق والكفر.. وبالبرق، الإِيمان بالقرآن الذي ينير القلوب ويهديها.. بينما المنافقون كانوا إذا سمعوا القرآن أعرضوا ونأوا مخافة أنْ يتعظوا به، أو أنْ تدخل حلاوة تلاوته إلى قلوبهم، فكانوا يهربون من سماعه، ولكنه سبحانه ختم على آذانهم وقلوبهم بسبب تلك الكراهية للقرآن؛ ولو شاء لأسمعهم وهداهم، ولكن عدم قابليتهم للهدى جعلتهم على تلك الحالة من النفاق، فكرهوا القرآن، وعصوا الرحمن!..
ونحن نرى في الآيات الكريمة مثلين: أحدهما عن النار المستوقدة، والآخر عن المطر الذي ينهمر من السماء.. ففي النار: نورُ إضاءة وإشراق للأسماع والأبصار، وفي الماء: حياة للناس والأَحياء، لأنَّ النار، في أصلها، مادة للنور، والماء مادة للحياة. فيكون في الوحي الذي أنزل في القرآن من ربّ السماء استنارةٌ للقلوب وحياتها، قَبِلَ البرق الذي ينزله سبحانه من السماء ومنه النور الذي يضيء الظلمات!، ولذلك وردت تسمية الوحي في القرآن الكريم، «روحاً» و«نوراً»؛ وفي النور دائماً قابلية الحياة، وبغير نور لا يمكن أنْ تستقيم حياة أو تستمر لأي مخلوق، حتى الجماد فإن استمرار الظلمة عليه قد يجعله يتفتت، ويذهب بفعل الرطوبة، وغيرها من عوامل الطبيعة..
ويكون التقدير أن حظَّ المنافقين من الوحي الذي أنزل به القرآنُ، كمثل من استوقد ناراً لتضيء من حوله وينتفع بها. وهذا لأنهم دخلوا في الإِسلام فأحسّوا بنورانيته، وبالانتفاع من الانضمام إلى الجماعة الإسلامية، ولكنْ وبما أنَّ الإِيمان لم يلج إلى قلوبهم ويملأها، فقد ذهب الله بنورهم - ولم يقل «بنارهم»، لأنَّ في النار الإِضاءة والإِحراق، فإنْ ذهبت الإِضاءة بقي الإِحراق الذي قد ينتفعون به - بينما إذا ذهب النور الهادي للقلوب، لا تبقى للإِنسان أدنى فائدة من شيء، لأنَّ كل شيء، باطلٌ بدون هذا النور، ولذلك عقّب بقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ *} [البَقَرَة: 17]، أي في ظلمات الكفر والجهل والظلم التي تعمي الأبصار والقلوب..
وهؤلاء المنافقون الذين تحدثت عنهم الآيات القرآنية الكريمة، نجدهم متفاوتين في كل عصرٍ وآنٍ، فهم ليسوا على شاكلة واحدة في الزيغ، والمروق، والخروج على المحجة والتعاليم. فمنهم من استقى من نبع الإِيمان الصافي ثم ارتد إلى الوحل يعبّ الماء الآسن الراكد. ومنهم من ظل هائماً، صادياً، سادراً في غوايتهِ، تائهاً في ضلاله بعد أن ازورَّ[*] عن المنهل العذب، وهو منه جدّ قريب..
وفي المنافقين قال النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «مَثَلُ المنافِقِ مِثْلُ الشَّاةِ العاثِرَةِ[*] بين الغنمين، تَتَردَّدُ بينَهُمُا مرةً إلى هذه ومرةً إلى هذه»[*] . وقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «مَثَلُ المنافِقِ مِثْلَ رجُلٍ في نهرٍ يسبَحُ فيه، فلَّما بَلَغَ أَنْ يَقْطَعَهُ نودِيَ مِنَ الجانبِ الآخرِ، فَرَجِعَ إلى ذلك الصَّوت، ثم نُودِيَ من هاهُنا فأجابَ، ثم رَجِعَ، فبينما هو في تردُّدِهِ، إذْ عَلاَ آذيٌّ[*] فأَغْرَقَهُ»[*].
2 - نهي المؤمنين عن مجالسة الذين يكفرون ويستهزئون بآيات الله حتى لا يكونوا مثلهم
يقول الله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَىءُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا *} [النِّسَاء: 140].
لقد نزَّل الله تعالى أمره الجلل على المؤمنين، ينهاهم فيه عن مجالسة من يسمعونهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها،سواء أكانوا يفعلون ذلك عن قصد، أو على سبيل التسلية؛ أو كانوا يتحدثون عن الإسلام بأيّ حديث من هذا القبيل الذي فيه إثمٌ وعدوانٌ.. فقد نهاهم الله تعالى عن مجالستهم، حتى يخوضوا في حديث غيره، وإلاَّ كانوا مثلهم في الإِثم..
ومن وحي هذه الآية نهي رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بقوله الشريف: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فلا يجلسْ على مائدةٍ يُدارُ عليها الخمرُ. وإنّ مجالسة الكفَّار والمنافقين تجعلُكُمْ مِثْلَهُمْ في الإِثمْ، لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النِّسَاء: 140]»[*]..
وفي القرآن الكريم آيات أخرى بهذا المعنى، وكلها تفيد بأنَّ القعود مع الكافرين والمنافقين، أو الاجتماع بهم، عندما يكونون على شيءٍ ممّا يحرم الإسلام، منهيٌّ عنه شرعاً، إلاَّ إذا كان الجلوس من أجل رفع ذلك الحرام عن المجلس، أو تعريف المجتمعين بدين الله، وهدايتهم إلى هذا الدين، فهذا مما يثاب عليه المؤمن، لأنه من أجل الحقّ الذي أمرَ به ربُّ العالمين، وشرَّعه لصالح الإنسان.. وكذلك فإنَّ التعامل أو التداول مع الآخرين لأيّ شأنٍ أو غرضٍ يهم المسلمين، أفراداً أو مؤسساتٍ، كالبيع والتجارة، أو المشاركة في العمل أو المال، أو إذا كان لعقد المعاهدات والمواثيق التي يرجى منها تأمين مصالح للمسلمين - كبلد أو أمةٍ - ، فكل ذلك مما يوجب على المسلمين القيام به في سبيل الصالح العام، وبخاصة ما يتعلق باحترام العقد الاجتماعي الذي ينضوي تحته المسلمون مع أبناء وطنهم الواحد، لأي دين أو معتقد انتموا، أو فيما خص احترام القوانين والأنظمة، والحفاظ على حقوق الآخرين عندما يعيشون في مجتمعات أجنبية، غير المجتمعات الإسلامية.. المهم ألاَّ يقعد المسلمون في مجالس فيها اعتداء على حقّ الله تعالى، وحقوق عباده، ولاسيما حقهم في المعتقد الديني، فإذا فعلوا، وسكتوا عن إبداء التذمر، أو الاحتجاج على الكافرين والمستهزئين بآيات الله، فإنَّهم يكونون مثلهم في الإثم، لأنَّ واجبهم الديني يحتّم عليهم أنْ يجانبوا أولئك الناس من أهل الكفر والنفاق، إذْ أُولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلساً يباح فيه الكفر بآيات الله، أو الاستهزاء بها، ثم يسكت، ويتغاضى، ويسمّي ذلك تسامحاً، أو حرية رأي، أو حِلْماً، أو سعة صدر في تقبّله، والصبر عليه!.. ولكنْ، في الحقيقة، هي الهزيمة الداخلية، تدبُّ في أوصال المؤمن، فيموّه على نفسه بتلك الذرائع الواهية، بينما يكون متلبّساً بالضعف والهوان!..
إنَّ الحمية لدين الله هي من مقومات الإيمان، فإذا ما فترت هذه الحميّة، إنهار بعدها كل موقف أو مناعة في مواجهة أعداء الدين. وقد تكبت هذه الحمية في أول الأمر لمصلحةٍ ما، أو تحت ذريعة معينة، لكنها تهمد وتتلاشى بعد ذلك.. فكان على كل مؤمنٍ - أو مؤمنة - يسمع التطاول على دينه، أنْ يدافع عن هذا الدين، وأنْ يجادل الآخرين ولاسيما أهل الكتاب، بالتي هي أحسن، إلاَّ الذين ظلموا منهم - بإشهار الحرب النفسية أو الإعلامية أو غيرها على الإسلام - فإذا وجَدَ إصراراً على مثل هذا الظلم، كان عليه أنْ يقاطع المجلس وأهله، لا أنْ يسكت وينصاع، لأنَّ مثل هذا السكوت يعتبر أول مراحل الهزيمة للحقّ الذي يؤمن به، وهو المعبر بين الإِيمان والكفر على جسر النفاق.. وإلاَّ لو لم يكن كذلك لما أمر الله تعالى عباده المؤمنين أنْ يهاجروا من البلاد التي لا تتيح لهم عبادة الله، والحفاظ على دينهم، إلى أرض الله الواسعة، حيث يتسنى لهم ممارسة إسلامهم وفقاً لأوامر الله ونواهيه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ *} [العَنكبوت: 56].
وإنَّ في نهي الله تعالى المؤمنين عن القعود مع الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها، دلالةً على وجوب إنكار المنكر مع القدرة، وزوال المعذرة. ومن ترك هذا الموجب مع القدرة عليه فهو مخطئ آثم؛ كما أنَّ في النهي دلالةً على تحريم مجالسة الفسَّاق والمنافقين، لأي جماعة كانوا، ما أظهروا الفسق والنفاق، حتى لا يكون المؤمنون شركاء لهم في الإثم..
وعلى كل حال، فقد توعَّد ربُّ العزة والجلال أنْ يقتصَّ من الكافرين والمنافقين جميعاً؛ إذْ كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر بالقرآن، والاستهزاء به، فقد قضى سبحانه أنْ يجمعهم كلَّهم في جهنم، حيث العقاب الشديد على ما كانوا يعملون..
وها نحن نجد - في الآية التي تلي مباشرة نهي المؤمنين عن مجالسة أهل الفسق والنفاق - تحذير العلي العظيم للمؤمنين مما قد يمارس عليهم الكافرون والمنافقون من الغيّ والبغي، وذلك بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً *} [النِّسَاء: 141].
وهذا وجْهٌ آخر من وجوه النفاق الذي كان يلبسه الكافرون والمنافقون؛ فقد كانوا ينتظرون النتائج التي يسفر عنها أي قتال يدور بين المسلمين وأعدائهم، فإن كان للمسلمين نصرٌ من الله تعالى، قالوا: ألم نكنْ معكم في هذا الدين، نجاهد على طريقتنا، ونحمي عيالكم وأرزاقكم، فأعطونا نصيباً من الغنيمة!.. وإذا حلّت بالمسلمين هزيمة، انقلبوا إلى أعدائهم يفاخرون بما كانوا يعملون في السرّ لإلحاق تلك الهزيمة بالمسلمين، فيقولون: ألم نحطكم بالعون فنحمي ظهوركم؟ ألم نراسلكم بأخبار «محمد» وأتباعه؟ ألم نجهد في تخذيلهم، والإيقاع بينهم؟ فنحن وإيَّاكم سواء في كل أمورنا، وعسى أنْ تظفروا بهم يوماً، فنرتاح منهم، ومن هذا الدين الذي جاء به نبيّهم!..
إنَّه حال الكافرين والمنافقين في كل زمانٍ ومكان، ولكن مهما بلغوا من العنت، والضلال والمكر فإنَّ الله جلَّت عظمته سيحكم بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة، فيدخل المؤمنين الصادقين الجنَّة، ويدخل الكافرين والمنافقين النار...
وإلى أنْ يأتي يوم القيامة، ويتحقق العدل الإلهي، فإنَّ أعداء الإسلام والمسلمين لن يتوقفوا عن حشد كل الطاقات والقدرات الفكرية والمادية لتطويع الحركات الإسلامية، أو القضاء على كل ما تقوم به في تصديها للمشاريع الخبيثة ضدَّها، ولا سيما ما تقوم به هذه الجماعات من نشر الوعي في صفوف الأمة الإسلامية، لتنفض عنها ثوب الضعف والتخاذل، فتنهض من جديد للقيام بدور الريادة للبشرية جمعاء؛ وهذا ما يعدنا به الله بقوله العزيز: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً *} [النِّسَاء: 141].. أبداً، لن يجعل الله العليُّ القدير للكافرين النصرَ والظهور - في نهاية المطاف - على المؤمنين، ولا سبيلاً أخيراً إلى قهرهم، واستئصال قواهم، ما أطاع المؤمنون أوامر الله ونواهيه، وجاهدوا لنصرة دينهم.. فلا يغترنَّ أعداء المؤمنين بما يملكون من الأسلحة، والثروات، وما يرسمون من المخططات، ويعدّون من الجيوش والأجهزة الأمنية، فكلها هباءٌ في تقدير ربِّ العالمين، وسوف يجعل الغلبة لدينه الذي بعث به محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ولو كره أعداء هذا الدين، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *} [التّوبَة: 33]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا *} [الفَتْح: 28] ومن ناحية أخرى، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يبيّن توهُّمَ المنافقين الخاطئ بما يخدعون به أنفسهم، وذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً *مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً *} [النِّسَاء: 142-143].
قد يتوهم المنافقون بأنهم يخادعون الله عزَّ وعلا بإظهار غير ما يبطنون، كأن يدَّعوا نصرةَ دين الله، بينما هم يؤلّبون جماعةً على جماعةٍ إسلامية أخرى مثلاً، أو يبدون الاهتمام بقضايا المسلمين بينما يكون همُّهم الحقيقي الحفاظ على مصالحهم الشخصية، أو قد يتخذون المواقف غير الواضحة في كثيرٍ من الحالات، ثم يختلقون الأعذار، والحجج لتبرير تلك المواقف، حتى قد يصل بهم الأمر إلى التواطؤ مع أعداء الأمة لقاء وعودٍ كاذبة!.. وكلها أنماط من الخداع لأنفسهم، بينما يظنون أنهم يخادعون بها الله عزَّ وجلَّ.. ولكن، وهم يقرأون القرآن، أو يسمعون آياته، ألا يصغون إلى قوله تعالى بأنه عليم بذات الصدور، يعلم ما في نفوسهم، وما تنطوي عليه قلوبهم، بل وأنه تعالى يعلم السرَّ وأخفى؟!.. فإذا كانوا لا يسمعون، سماع تدبر واتّعاظ ما يقول ربُّهم العزيز الحكيم، أفلا يفطنون إلى أنَّه سبحانه يتركهم يفعلون ما يفعلون - سرّاً أو جهراً - ليكون ذلك استدراجاً لهم، وجزاؤه زيادة في الإِثم والجرم؟! وهذا كتاب الله يبيّن بوضوح، وفي أكثر من آيةٍ، أنَّ مما يجازيهم الله به هو افتضاح أمرهم في الدنيا، ولذلك كان الوحيُ يتنزَّل على الرسولِ الكريم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ويطلعه على ما يبطن المنافقون في سرائرهم، وما يتآمرون به في خلواتهم، كما كان يظهر ذلك في مجمل حركاتهم وسلوكهم المشين: فإذا قاموا إلى الصلاة - مع المؤمنين - قاموا كسالى، متثاقلين؛ بل ولا يذهبون للصلاة إلاَّ مراءاة، ومداهنة وخداعاً. ولا يذكرون الله تبارك وتعالى إلا قليلاً، ليظهروا على أنهم مؤمنون، وما هم بمؤمنين، بل هم من الحائرين بين الكفر والإيمان، لا ينتسبون إلى الكفار، ولا إلى المؤمنين.. أو هم من الحائرين بين الحرص على مصالحهم الشخصية وبين الظهور بمظهر المؤمنين، يتلوَّون في مسيرتهم كما تتلوى الأفاعي، ويتلَّونون في أقوالهم كما تتلون الحرباءة، وليس في نفوسهم إلا النوازع الشيطانية المضلّلة. فكان حكم الله تعالى عليهم بالضلال، ومن يضلل الله فلا هادي له، بل ولا سبيل يمكن أنْ يرده إلى الإيمان، لأنَّ الهدى هدى الله - لمن كان أهلاً له - والإضلال منه سبحانه وتعالى للذين يسلكون طريق الشيطان!، وقانا الله، ووقى الأمة من نفاقهم!...
3 - تشبيه المنافقين بالخشب المسنَّدة
يقول الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} [المنَافِقون: 1 - 4].
في هذه الآيات البيّنات يحذّر ربُّ العالمين رسولَهُ محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) مما تنطوي عليه نفوس المنافقين من الخداع والكذب، كما يُستدلُّ من هذه النكتة الدهماء، التي يحملونها إذا جاؤوه - حيث يظهرون بألسنتهم خلاف ما يبطنون في قلوبهم - و{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنَافِقون: 1]!.. ولكنَّ هذه الشهادة، وإنْ كانت تلامس الحقيقة التي سطعت أنوارها منذ أنْ أعلنَ رسول الهدى (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ، أنَّ الله تعالى أرسله بالهدى ودين الحق، إلاَّ أنها شهادة تحتاج إلى تصويب، لأنَّها صادرة عن المنافقين، وقد جاء البيان لهذا التصويب بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *} [المنَافِقون: 1].. وعلم الله بأنَّ محمداً (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) رسول الله هو كائن، ولا يخاصمُ به إلاَّ كافرٌ أو منافق، بل وعليه يجب أنْ تنعقد القلوب، وتستيقنه الضمائر، ويستقر في الأذهان.. واللَّهُ جلَّ وعلا يعلم إِنَّك - يا محمَّدُ - لرسوله، وهذا أمرٌ، هو، في الأصل، خارج عن طوع المنافقين وأمانيّهم، فلا يحتاج إلى شهادتهم، لأنه يتعلق بالمشيئة الإلهية، وما أرادَهُ تعالى في علمه الأزلي.. ثم إنَّ هؤلاء المنافقين هم أقلُّ شأناً، وأدنى مقاماً من كون شهادتهم ذات قيمة أو اعتبار في حسبان الله تعالى، لأنه عليم بما يبطنون من الحقد، والضغينة عليك - يا محمد - وعلى دينك، ويكفيهم مقتاً أنَّ الله جلَّت عظمته يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون.. فقد كرهوا ما أرسلك الله به، ولكنَّهم اتخذوا إيمانهم، وكلَّ ما يحلفون به من العظائم.. اتخذوا ذلك جُنَّةً يستترون بها، لكي يأمنوا - قبل كل شيءٍ - على أنفسهم وأموالهم، وليتَّخذوا هذا التستّر، من ثمَّ، بمثابة الغطاء لما ينشطون به في الخفاء، وهم يصدّون الناس عن سبيل الله - عن الدخول في الإسلام - والافتراء على هذا الدين بشتى الأقاويل من الكذب والتجنّي، وبثّ الإشاعات، وإثارة الشكوك، وما إلى ذلك من الفِعال التي تدخل في دائرة السوء، والتي تورثهم - ولا ريب - الهوان في الدنيا، والخسران في الآخرة.. فالمنافقون قد بنوا أعمالهم على خلفية سوء النوايا، ذلك بأنهم آمنوا بدايةً، ثم كفروا عملاً وفعلاً، بما بدا من أفاعيلهم المشبوهة، إذ كانوا يبدون الاستعداد لمناصرة رسول الله، والخروج معه في غزواته، أو في السرايا التي يقودها المؤمنون، ثم لا يلبثوا أنْ يذهبوا ويكيدوا له مع أعدائه!.. بل وكانوا يتعمَّدون أنْ يخذّلوا المؤمنين، ويحرّضوهم على التقاعس عن القتال بما يخوّفونهم به من القتل، وإيتام الأولاد، وترك الأهل لغوائل الزمان.. ومرادهم، من وراء ذلك كله، بث روح الردّة في نفوس المؤمنين، ونشر الفرقة والشقاق بين صفوفهم، لعلَّ في مثل هذا التآمر، ما يصرفهم عن واجبهم في الجهاد، كما كان المنافقون يتوهمون!.. أما المعصية الكبرى التي ارتكبوها، وكانت أسوأ ما يعملون، أنهم آمنوا بدايةً بالإسلام، ثم كفروا بهذا الدين، وراحوا يتآمرون عليه: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم!.. وذلك ليس نفاقاً وحسب، بل ومدعاة للكفر والضلال؛ لأنهم قد كرهوا في الأصل ما أنزل الله!.. ولكن كان حكم الله عزَّ وعلا، وهو الحقُّ بما يتناسب وكفرهم، فطبع على قلوبهم بالخاتم الذي يغلقها على كفرها، فلا ينفذ إليها الإيمان.. {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ *} [المنَافِقون: 3] معاني هذا الإيمان الذي تبيّنه آيات الله تتلى على الملأ؛ ولا يستمعون إلى القرآن سماع تدبّر، ولا يطيعون الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بما يأمرهم به طاعة صدق، وذلك كلّه بخلاف ما يعلنون، أو ما يظهرون فيه من أقوالٍ منّمقةٍ خادعة.. فإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، لأنها من صنع الخالق العظيم، وإذا حدّثوا يبرعون برونق الكلام وذلاقة اللسان، بما يجعلك تستمع لأقوالهم! على أنَّ كلَّ ما يعجب فيهم، أو كلَّ ما يحاولون القيام به لتحسين صورتهم، ليس إلاَّ مظاهر خادعة، فالله الذي خلقهم وهو «أعلم بمن خلق» يشبّه أولئك المنافقين بالخشب المسنَّدة إلى الحائط؛ تبدو للعيان ملساءً، مصقولةً بعناية، وجسامها صلبة متينة، ولكنْ ما أنْ تتفَّحصها حتى تكتشف مدى هشاشتها، وخواء جوفها، قد نخر السوس داخلها، فلا تكاد تحرّكها إلاَّ وتتشقّق ضلوعها تحت يدك، ثم تترنَّح معلنةً مدى قابليتها للتفتّت!.. وهذا التشبيه لأحوال المنافقين «بالخشب المسنَّدة» أصدق ما يعبّر عن ظاهرهم وباطنهم، بدليل ما يتوجسون به من خوفٍ وقلقٍ لأية حركة جماعية يقوم بها المؤمنون، أو لأي استعدادٍ للخروج والقتال؛ إذْ يحسبون كلَّ شيءٍ من ذلك بمثابة نداءٍ لقتالهم، وأنهم هُمُ المستهدفون للقضاء عليهم، وهذا إنْ دلَّ على أمرٍ، فإنَّما يدلُّ على قلقهم النفسي، ومدى ما يتآكل قلوبهم من الهواجس، مثلـما يتآكل قلب الخشب من السوس.. أمَّا أكثر ما كان يؤرّقهم فهو الجزع من الموت، فلا يسمعون نداء النفير، إلاَّ ويشعرون بأنَّ أفئدتهم هواء، فيسارعون إلى التلطّي في مخابئهم، أو يتذرعون بالانشغال في شؤونهم، لأنهم يريدون الابتعاد عن القتال بشتى الوسائل، ولاسيما الاعتماد على الكذب والمخادعة، بل ويندفع شياطينهم، وهم رؤوس النفاق، إلى الإلتجاء عند إخوانهم الكافرين، متخفين عن الأنظار حتى لا يظهروا بمظهر الجبن لمجرد سماع التهيُّؤ للخروج إلى القتال!.. مما يجعل كلَّ فعالهم في شك مريب، ويجعل القول بأنَّ: «المريب خائف» منطبقاً عليهم تماماً.. ولذلك كانوا «هُمُ العدوُّ» كما قال عنهم الله تعالى، ونبَّهَ سبحانه رسوله والمؤمنين إلى هذا العدوّ المستخفي بالنفاق، كي يحذروهم، وألاَّ يأمنوهم بشيء.. ولكن مع التعقيب الذي يحمل التوبيخ والتقريع للمنافقين بقوله العزيز: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *} [التّوبَة: 30]. وهذا هو الجزاء الذي يستحقون، كما قضى به جبار السماوات والأرض، لأن من قاتله الله فهو مقتول لا محالة، ومن غالبه الله فهو مغلوب حتماً. وقد حق عليهم القتل، والغلبة والقهر بما كانوا يؤفكون، وبما كانوا يتوسلون من الرياء والنفاق.
4 - مثل المنافقين في نصرة إخوانهم الكافرين كمثل الشيطان عندما يتبرّأ من الكافر
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ * لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون * لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون * كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ *لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *} [الحَشر: 11-21].
في كثير من السور القرآنية، وآياتها المجيدة يأتي الذكر الحكيم على تبيان المزايا والصفات النبيلة التي يتحلّى بها المؤمنون، والتي تصهرهم في رابطة الأخوة الإسلامية التي تشدهم إلى بعضهم البعض، عبر سلسلة الزمان، مهما تمادى في السنين والآجال، فيسَمْونَ بعقيدة التوحيد، والإخلاص لله ورسوله.. بل ومن الأهداف التي تتوخاها الآيات القرآنية، فضلاً عن تبيان خصال وسجايا المؤمنين، إظهار الفوارق والاختلافات البعيدة - في الجوهر والشكل - بينهم وبين الكفار والمنافقين؛ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ساروا على هدىً من ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقد حملوا الإسلام مشعل هداية للحقّ، لأنه الدين الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم تبارك وتعالى.. أما أهل الكفر والشرك، فهم على نقيضٍ من ذلك تماماً، إذ أنَّهم، ومنذ ظهور الإسلام في مكة، تألّبوا ضد النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وراحوا يتصدون له - شخصياً - ولدعوته، بكل الوسائل المتاحة التي كانوا يملكونها في ذلك الحين؛ فلما كانت الهجرة، وظهر النفاق في المدينة، تعاهد المنافقون والكفار على نصرة بعضهم البعض: المنافقون يأخذون دور الرياء والمخادعة حتى يكتشفوا أسرار المسلمين، والكفار يدبّرون المؤامرات التي يمكن أن ينفذوا منها للقضاء عليهم!.. على أن يتكاتف المنافقون والكفار،ويقفون جنباً إلى جنبٍ ساعة يحين قتال المسلمين. فكان الذكر الحكيم يتنزَّل على رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) مبيِّناً تآمر أولئك الأعداء، وما كان المنافقون - خاصة - يتوسّلون به من الوعود الكاذبة، والأمانيِّ الخادعة التي يُمَنُّون بها إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب في نصرتهم ضد المسلمين، كما في هذه الآيات الكريمة - التي نحن بصددها - والتي توجّه الرسول الأكرم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إلى أقوال وأفعال المنافقين واليهود من أهل الكتاب..بما مؤدّاه:
ألم ترَ، يا «محمد» إلى الذين نافقوا (من الأوس والخزرج) فدخلوا في الإسلام، لا حباً بالهداية، وإنما طمعاً في الترقب إلى أنْ تتّضح الأمور بينك وبين أعدائك، فيعلنون الموقف الذي يتناسب وأغراضهم الدنيوية؟!
ألم ترَ إلى هؤلاء الذين نافقوا، يقولون لإخوانهم من بني النضير، وهم من أهل الكتاب، من اليهود الذين كفروا بدينك: اثبتوا على مكانتكم، فلا يغرَّنكم هؤلاء المهاجرون والأنصار من أتباع «محمد» بمظهر قوتهم وتماسكهم.. لئن أخرجتم من دياركم لنخرجنَّ معكم، لأننا لا نطيق حكم «محمد» علينا، ولا نطيعه فيكم أبداً.. ولئن قوتلتم لننصُرَنَّكم، ونمدَّنَّكم بالمال والسلاح والرجال، فنحن وإياكم سواء في السرّاء والضراء!..
وتلك أقوالهم بأفواههم لأنهم كاذبون {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *} [الحَشر: 11] بما يغدقون على إخوانهم من يهود بني النضير، من الوعود الخادعة!.
وشهادة ربّ العرش العظيم بكذبهم هي - والله - الحق المبين.
فلئن أخرجوا من ديارهم، لا يخرجون معهم، ويتركون ديارهم التي عاشوا فيها.. ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم - على سبيل الظهور لا غير - ليولُنَّ الأدبار، حين يرون بأس المسلمين، {ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ *} [الحَشر: 12] لأنَّ مجرد هروبهم هو الهزيمة بعينها.. ذلك أنَّ أولئك المنافقين، والذين كفروا من اليهود، كانوا يعلمون في قرارة نفوسهم، أنهم لا يقدرون على المواجهة مع المسلمين، فإذا أضيف إلى الجبن - الذي يعتبر من سماتهم - حرصهم على وجودهم في يثرب حيث يتمتعون بالملك والثروة، فإن ذلك من أهم الدواعي التي تجعلهم لا يخرجون مع بني النضير، إذا أخرجوا من ديارهم.. ولئن وعدوهم بأنهم سوف يقفون معهم في القتال، فذلك مجرد خداع، إذ ما أنْ يبدأ القتال حتى يولوا الأدبار، ويذهبوا لمداهنة أعدائهم حتى يأمنوا على حياتهم وبقائهم في أرضهم..
أما من ناحية بني النضير، فهؤلاء لا يمكن أنْ ينتصروا بقوتهم، وبأسهم لوحدهم؛ أمَّا النصرة التي وعدهم بها إخوانهم، فلا تتعدى - في أي حال من الاحوال - مجرد النفاق... إذاً فهم، على مختلف الوجوه، لا ينصرون..
وهذا ما حصل بالفعل، كما تبيّنه الآيات الكريمة، حول الأحداث التي جرت بين المسلمين وبين بني النضير من يهود المدينة المنورة..
إذ لمَّا وقع المسلمون في الضائقة، بعد معركة أحد، وما عقبها من الأحداث، رأى المنافقون واليهود في المدينة، أنَّ الفرصة باتت مؤاتيةً لتوجيه ضربةٍ قاضيةٍ إلى «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وأتباعه، فدبروا مؤامرةً لاغتياله، إلا أنَّ ربَّه تبارك وتعالى أوحى إليه بخبرهم، فبعث إليهم رسولُ الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) الأمر بالخروج من المدينة، لأنهم نقضوا عهده، وقطعوا الميثاق الذي أمَّنهم فيه.. ويبدو أنَّ صلافة بني النضير كانت أكبر من أنْ تجعلهم يطيقون الرضوخ لأمر «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وخاصة بعدما حرَّضهم عبد الله بن أبيّ بن أبي سلول على عدم الخروج، ووعدهم بأنْ ينصرهم مع بني قومه من الخزرج في مقاتلة المسلمين، إذا أقدموا على قتالهم.. وحاصرهم المسلمون في ديارهم، فلم يقدِّم لهم ابن سلول - وكان رأس النفاق في المدينة - ولا أبناءُ ملتهم من اليهود، أيَّ عون أو مساعدة لفك الحصار عنهم، فلما وجدوا أنفسهم وحيدين، ولا نصرة لهم من أحد، نزلوا على حكم الله ورسوله، وخرجوا من ديارهم وخلّفوا وراءهم جميع ممتلكاتهم..
وهذا الحادث الذي حصل في تلك الحقبة التاريخية هو ما تثبته الآيات القرآنية في سورة الحشر، لتنفذ منه إلى تبيان أوضاع المنافقين، والذين كفروا بالإسلام من أهل الكتاب، وخاصة اليهود في المدينة، وشبه الجزيرة كلها.
وكان العامل الأساسي لخروج بني النضير، كما يتبيّن من تلك الآيات البيّنات، الخوف من المسلمين، إذ كانوا يرونهم أشدَّ رهبةً في صدورهم من الله عزَّ وعلا؛ ولعلَّ تلك الرهبة قد سيطرت على نفوس اليهود، جرّاء ما كانوا يجدون في المسلمين من وحدةٍ وتماسكٍ، ومن إقدام على الموت والشهادة في سبيل الله، وذلك عن إيمانٍ، وطيب خاطر.. فطلب الشهادة في سبيل الله، وما يتبعه من رفع الظلم عن الناس، وإحقاق الحقّ، يُعدُّ من أهم السمات التي تميّز بها المؤمنون عبر التاريخ؛ وذلك أنَّ من لا يخاف الموت من أجل العقيدة التي يؤمن بها، فإنه لا يخاف بعده شيئاً أبداً، إلاَّ خوفه من الله تعالى، وخوفه من الذين يعبدون الله، لأنهم أهل الله وأحباؤه.. فالمؤمن الذي يكون على هذا المثال، هو - بذاته - طاقةً وقوةً من شأنها أنْ تبعث الخوف والرعب في قلوب أعدائه، حتى يصبح أشدَّ رهبةً - في النفوس الضعيفة - من الله القوي الجبَّار!.. وقد كانت للمؤمنين مثل هذه الرهبة، حقاً، في صدور أعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين، والعلة الكامنة وراء تلك الرهبة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ *} [الحَشر: 13] معنى القوة الحقيقية، ولا يدركون بأنَّ القوة لله جميعاً، ووحده جلَّت قدرته هو الذي يهب القوة، والمنعة، والعزة لمن يشاء من عباده،إمّا تمكيناً لهؤلاء العباد حتى يقيموا الحق والعدل إن كانوا مؤمنين؛ وإمَّا استدراجاً لهم حتى يزدادوا جرماً، وإثماً إن كانوا كافرين أو منافقين.. فالذين لا يخافون من الله الواحد القهار، بقدر ما يخافون من عبادٍ له، أولئك {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعَام: 91] فوقعوا في الضلال البعيد؛ ولذلك تجدهم ضعاف النفوس، إلاَّ أنهم يعتمدون على القوة المادية في إعلان مواقفهم، وشنّ حروبهم، كما كان عليه حال اليهود في المدينة المنورة، وفي خيبر، إذْ لم يكونوا يقاتلون المسلمين إلاَّ في قراهم المحصنَّة، أو من وراء جدران سميكة تحيط بتلك القرى، ظنّاً منهم أنَّ حصونهم حامية لهم، ومانعتهم من وصول المسلمين إليهم.. وها هي نفس الصورة يجسّدها اليهود اليوم بجدار الفصل العنصري الذي أقاموه بينهم وبين الفلسطينيين، وبالجدران من الأسلاك الشائكة، وكاميرات المراقبة التي تلفّ الحدود بينهم وبين الدول العربية المجاورة..
ومن مظاهر ضعف اليهود، وهوان نفوسهم أنَّ يكون {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحَشر: 14] فيتباهون بالقوة، وكثرة السلاح والعتاد، ويتشدَّقون بالخطط والأساليب العسكرية، بما يجعلك تحسبهم قوةً جامعةً مانعةً، وقوماً ذوي بأسٍ وشدةٍ، لا يقهرون!.. أو لعلَّ هذا ما يتوهمون في أنفسهم، كما يظهر من وسائلهم الإعلامية، وما يحاولون إقناع العالم به!... ولكنَّ مظاهرتهم تلك بالقوة، إنَّما تنمُّ عن ادّعاء أجوف، لأنهم يريدون أن يخفوا حقيقة تفرق قلوبهم، واختلاف أفكارهم وآرائهم حول أساليب السيطرة على غيرهم، وكيفية التحكم بمصائر الآخرين، فضلاً عن شدة أهوائهم في طلب الدنيا، والحرص على متاعها وزخرفها، بعيداً عن أي التزامٍ ديني أو أخلاقي.. وهذا ما يجعلهم يعيشون على النفاق والتكاذب حتى فيما بينهم.. بل ومن غريب أمرهم أنهم يستكبرون حتى على من يمدُّونهم بالمال، وبكل أسباب القوة، من خلال إقناعهم بأنهم وحدهم مؤهلون لأنْ يجعلوا العداوةَ مستحكمةً دائماً بين العرب - والمسلمين عموماً - وبين دول الغرب، وأنَّ على العالم - في الغرب والشرق - أن يمدَّهم بالدعم في كل ما يطلبون حتى يبقوا على جهوزية تامة لضرب أعدائهم المسلمين، إمَّا ساعة يشاؤون هم - اليهود - وإمَّا ساعة يُطلب منهم ذلك!. أما لماذا يربطون وجودهم، وحياتهم بالمكر والخداع، وبالغطرسة والاستكبار، فذلك {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ *} [الحَشر: 14] السنن التي تقوم عليها حياة الأمم والشعوب والجماعات البشرية، ومن مقتضاها أنَّ كلَّ أمة، مهما بلغ شأوها، لا بدَّ أن تبدأ في الانحدار عندما تصل إلى أعلى مستوى قدراتها؛ ولا يقتصر انحدارها على نفسها وحدها، بل وعلى غيرها من الأمم أو الجماعات التي ترتبط بها؛ كما أنَّهم {قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ *} [الحَشر: 14] لأنهم يتجاهلون أيضاً، السنن التي يربط بها الله تعالى على قلوب المؤمنين، ويوهن بها كيد الكافرين والمنافقين. ومن تلك السنن ما وَعدَ الله عزَّ وعلا المؤمنين بالنصر، مصداقاً لقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الرُّوم: 47].. وهو وعدٌ إلهيٌّ ثابتٌ بإهلاك الكافرين، ونصر المؤمنين.. وهذا يفسّر ما حصل لبني النضير من اليهود في المدينة المنوَّرة؛ فقد غرَّتهم أنفسهم بادَّعاء القوة والغنى، وزادهم غروراً، وُعودُ عبد الله بن أبي بن أبي سلول - رأس النفاق - بالنصرة لهم، إلاَّ أنَّه خذلهم، كـعادة المنافقين عندما يجدُّ الجد، ويحين اتخاذ الموقف، فإنهم يتخلون عن حلفائهم، ويذرونهم وراء ظهورهم يلاقون العثرة التي أوقعوهم فيها بأنفسهم!. وهذا الواقع الذي لم يفهمه بنو النضير كان من بين عوامل أخرى عديدة أدت إلى إخراجهم من المدينة، دون أن يعتبروا بما حلَّ بإخوانهم من بني قينقاع من قبل، الذين نقضوا عهد رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) لهم بالأمان، فاضطُّر إلى إجلائهم، وكان ذلك قبل إخراج بني النضير بزمنٍ يسيرٍ!..
ولم يترك الحقُّ سبحانه وتعالى ذلك المنافق، عبد الله بن أبي بن أبي سلول، يعيث فساداً في نفاقه، فضرب المثل الذي يخزيه في الدنيا بقوله الحكيم: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *} [الحَشر: 16]، فقد كان مثل ذلك المنافق في وعوده لبني النضير بالنصرة، كمثل الشيطان فيما يمنّي الإنسان بالوعود الخادعة، حتى إذا أغواه، وأوقعه في المعصية، تخلَّى عنه، وتركه لمصيره.. تماماً كما فعل الذين كفروا من أهل الكتاب، والمنافقون من العرب، بما أوغروا به صدور بني النضير من الحقد على رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) والمسلمين، وأغروهم بإعلان العداوة لهم، ثم خذلوهم بعد أنْ أوقعوهم في البلاء، والخروج من ديارهم وممتلكاتهم لأول الحشر؛ فخرجوا أذلاَّء مقهورين،والحسرة تكاد تأكل قلوبهم.. إلاَّ أنَّ ما وقع قد وقع، وكان من صنع أيديهم، وما سوَّلت لهم أنفسهم من الخيانة والغدر {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [العَنكبوت: 40].
ولكي يكتمل مشهد النفاق في المدينة، الذي كانت تصرفات ابن أبي سلول تجسّده كـمثالٍ حيٍّ على الخبث والدهاء، فلا بدَّ أن نستشهد بالتاريخ، حيث جاء في الروايات أنَّ رجلاً من بني إسرائيل، كان يُدعى «برصيصا»، قد ذاع صيته بقوة إيمانه، وزهده في الدنيا، والانقطاع عن كل شيءٍ إلاَّ العبادة لله تعالى، وإرشاد الناس، وقد بلغ به الإيمانُ أنْ يشفي المرضى، ولاسيما المجانين، بإذن الله - كما تقول الرواية - .. ولعل هذا ما أثار حفيظة الشيطان عليه، لأنَّه لا يطيق أنْ يرى مؤمناً ويتركه على حاله، فشدَّ العزم ليوقعه في أكبر الكبائر التي من شأنها أنْ تصرفه عن طاعة رب العالمين، وتؤدي به إلى الكفر!.. وكانَ مما نصب الشيطان حبائله لـ«برصيصا» أنْ أتَوْهُ بامرأةٍ، علَّهُ يشفيها من الجنون، فاتخذ الشيطان من جمال هذه المرأة وسيلةً لغوايته، فزيّن له مواقعتها، فحملت منه.. وبدل أن يسترَ عليها، ويتزوجها بالحلال، ليحفظها ويحفظ جنينها، أقدم على قتلها، وإخفاء أثرها، ظناً منه أنه قادر على طمس معالم جريمته.. ثم ادَّعى هروبها، وجهله بمكانها.. ويشاءُ الله تعالى أنْ يكشف فعله الإجرامي، ليكون مثالاً عن الكافرين والمنافقين، فحُكِمَ عليه بالصلب والقتل.. وهنا أمكن للشيطان أنْ يضربَهُ الضربة القاضية، فوسوس له أنَّ نجاته، وخلاصَهُ من العذاب والموت أمرٌ سهل، فما عليه إلاَّ أنْ يُعلن كفره بالله، والعودة إلى طاعة الملك، واتّباعه على دينه - في الكفر -!.. فراح «برصيصا» يصرخ على الملأ بما يظهر كفره الصراح!.. ولكنَّ أحداً لم يأبَهْ لصراخه وندائه، فالحكم قد صدر عليه، وطاعته للحاكم لن يعيد المرأة إلى الحياة!.. ويبدو أنَّ الشيطان لم يكتف بكل ما فعله، بل دفعه خبثه لأن يعلن لـ«برصيصا» عداوته له، والشماتة به، وهو يقول له: مت أيها الإنسان على كفرك: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *} [الحَشر: 16]..ولكنْ ماذا كانت عاقبتهما، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحَشر: 17].. أما الشيطانَ، وكما هو ثابت في الرسالات السماوية جميعاً، فقد عصى أمر ربِّه، وكان من الكافرين، فكان جزاؤه اللعنة الأبدية، ثم يوم القيامة، إدخاله النار خالداً فيها.. وأما «برصيصا» فقد اقترف معصية الزّنى، وارتكب جريمة القتل العمد، ثم أعلن كفره بالله صراحاً.. فكان عاقبته، يوم القيامة، كـعاقبة الشيطان، أنه معه في النار، خالداً فيها.. وذلك جزاؤهما، وجزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر، وما يجرُّ إليه من المعاصي والذنوب.
ومن سمات الأمثال القرآنية أنها تتعدى في الزمان والمكان الأحداث الجماعية والفردية التي تربطها بها أسباب النزول، أو بعض التفسيرات، لتنطبق على الناس - جماعاتٍ وأفراداً - على مدى الحياة، إذ ليس الخداع الذي وقع على بني النضير من المنافقين واليهود، الذين كفروا بدين «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وكان عاقبته إخراجهم من المدينة، أو خداع الشيطان للإنسان الذي كفر وكان عاقبته أنَّه خالد في النار.. أجل ليس ذلك إلاَّ للتدليل على عاقبة الناس الذين يعصون الله تعالى، فيتبعون غواية الشيطان، وقبيله من أهل الكفر، والشرك، والنفاق.. فالإنسان المنافق - مثل الكافر أو المشرك - شيطان بشري يغوي نفسه، ويوقعها في السوء، ثم يمدُّ إغواءه إلى الآخرين، ليحرفهم عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويدسَّ في نفوسهم الفساد، والفسوق والعصيان.. وتبدأ غواية الإنسان بما يزيّن له الشيطان من الأفكار، والأعمال الإجرامية، وتهوين أمرها عليه، والفوائد التي يجنيها من ورائها.. حتى إذا وقع العاصي في أول جرم، شدَّه إلى جرمٍ غيره، ويتوالى تقلّب الإنسان بين وخز الضمير الذي تحرّكه الفطرة، وبين استمراء حلاوة الأعمال التي يقوم بها، حتى تموت بذور الخير والصلاح في نفسه، وعندها تهون عليه أية معصية، أو إثم، أو جريمة يرتكب.. ولا يصل الإنسان إلى هذا الدرك إلاَّ إذا قطع كل صلة بالله خالقه، فلا ينيب إليه بأمره، ولا يركن إلى حماه بحركته، ولا يلجأ إليه باستغفاره.. وقد يتمادى به الانصياع لغواية الشيطان حتى يوقعه في اليأس من رحمة الله، فيكون قد حكم على نفسه بالكفر، الذي مصيره الهلاك الأبدي، مصداقاً لقول الله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ *} [يُوسُف: 87].. فهؤلاء الكافرون،هم الذين يغلب على أكثرهم حبُّ الدنيا، بحيث يصيرون عبيداً لرغباتهم وشهواتهم، منقادين لأطماعهم وأهوائهم، وذلك لأنهم غفلوا عن حقيقة نفوسهم، فجعلوها مرتعاً للشيطان، يوسوس فيها ما يشاء.. أو أنَّ هؤلاء قد نسوا أنَّ الشيطان هو العدو المبين الذي أخذ على نفسه العهد بأنْ يغوي بني آدم.. أو أنَّ هؤلاء اتخذوا الشيطان ولياً، فعبدوه عن قناعة، وأنشأوا الجمعيات السرية التي تنشر هذه العبادة، ولاسيما في صفوف الفتيان والشباب بشتى وسائل الإغراء والفحشاء والمنكر.. فكلُّ هؤلاء الكافرون قد اتخذهم الشيطان مطية، فزعموا لأنفسهم أنَّ لديهم من الطاقات، والقدرات الفكرية، والشعورية والجسدية؛ وأنهم يملكون من القوى المادية ما يمكّنهم أن يكونوا «أسياد العالم» فيفرضوا المبادئ والمعتقدات التي يريدون، والتي تخدم أطماعهم الشخصية، «ومصالح بلادهم الحيوية» كما يدّعون!.. وهذا ما أوصل العالم اليوم إلى هذه المادية الرعناء، التي حلَّت بديلاً عن القيم والمثل الإنسانية، وفرضت على الناس ،من حيث لا يدرون، أن يتهالكوا على متاع الحياة الدنيا بأشكاله وأفانينه جميعها.. والسبب الحاسم وراء ذلك كله عدم الإيمان الصادق، فالكافر الذي لا يؤمن بحقيقة وجود الله تعالى، والمشرك، أو المنافق الذي غلبت عليه دواعي الشرك أو النفاق... فهؤلاء لا بدَّ أنْ يكونوا جميعاً أعواناً للشيطان، بل وهم قبيل الشيطان من الإنس، الذين يعيثون في الأرض فساداً..
ولو تنبَّهَ الناس لهذه الحقيقة لعلموا أنَّ خيرَ ما يعينهم للعودة إلى فطرتهم البشرية، وأصالتهم الإنسانية هو الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والعمل بأوامره ونواهيه، لأنَّ تعاليم الله التي أنزلت على لسان الرسل هي وحدها سبل الخلاص من كل عوامل الضعف التي تطرأ على النفوس، لأنها تشكل القوى المعنوية الدافعة لمحاربة وساوس وإغراءات الشياطين من الإنس والجنّ.. ولكن ما العمل، وقد ترك الناس الإيمان، فكان محكوماً عليهم أنْ يعيشوا هذه الفوضى العارمة من الظلم والفساد، ومن الجور والفسق، ومن الخداع والنفاق، ومن الكفر والشرك.. وبالتالي أن يحقق الشيطانُ وعده بإغواء الناس، إلاَّ عبادَ الله المخلصين، الذين ليس له سلطان عليهم، فكانوا حقاً أهل التقوى والمغفرة..
وفي الحقيقة لو أنَّ الإنسانَ خاف ربَّهُ تعالى، وخشي وعيدَهُ، لما أطاع الشيطان وعصى الرحمن. وهذا ما يتبيّن من الآيات الكريمة التي تبدو فيها آثار رحمة الله تعالى بعباده واضحة، وذلك بقوله الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [الحَشر: 18]، فهي موعظة للذين آمنوا بأن يتَّقوا الله جلَّ جلاله، وتقوى الله تكون بالخوف من الإقدام، أو القيام بأي عملٍ قد يكون فيه معصية لله، وهذا الأمر الربَّاني لينظر كل امرئٍ ما قدَّم في هذه الدنيا لغده يوم القيامة من عمل الخير أو الشر، لأنه محاسب عليه يوم الدين، حيث الفوز العظيم أو الخسران المبين. ثم يأتي التوكيد على التقوى، والخوف من عدم الامتثال لأوامر الله تعالى ونواهيه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [الحَشر: 18] فلا يعزُبُ عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فالنوايا، والأقوال، والأعمال والأفعال يعلمها سبحانه جميعاً، وهو خبير بها، أَلاَ إنه هو السميع العليم.
ثم يأمر اللَّهُ تعالى عباده الذين آمنوا بألاَّ يكونوا كـالذين نسوا اللَّهَ، بترك طاعته وعبادته، وأداء حقه، فأنساهم أنفسهم، فلا يقدِّمون لها خيراً ولا تزكية، ولا يجعلونها تنال حظاً من أجرٍ أو ثواب {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [الحَشر: 19] لأنهم عندما ينسون الله تعالى، يقعون في المحظور، فيرتكبون المعاصيَ دون وجلٍ أو خوف من شيء، وهذا من نسيان النفس وإهمالها، لأنها هي التي يقع عليها الحساب والعقاب.. فالفاسقون الذين يخرجون عن طاعة الله، ومثلهم الكافرون والمنافقون، ليسوا كـالمؤمنين الذين يطيعون الله ويعبدونه حق عبادته، فكان حقاً ألا يستووا مصيراً وجزاءً.. فلا يستوي أصحاب النار من الكافرين، وأصحاب الجنة من المؤمنين، إنَّ أصحاب الجنة هم الفائزون بالثواب الكبير، والنعيم الأبديّ.. إذاً، فالفرقُ عظيمٌ بين الفريقين: المؤمنين الذين يخشون الله تعالى، وغيرهم ممَّن لا يتّقون غضب الله، ولا يخشونه بشيء.. وها هي العبرة الكبرى بقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحَشر: 21].. فهذا القرآن المجيد هو كلام الله عزَّ وجلَّ، ولو أنزله سبحانه على جبلٍ لَرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.. فالجبل، لا يعدو كونه من الجماد الأصمّ، بكل ما فيه من صخور صلبة، ومتانة تركيب، وشدة تماسك.. وعلى الرغم من ذلك، ومع كبر حجمه وارتفاعه، فإنه لو أنزل الله تعالى عليه القرآن، وآذن الجبل بفهمه وتكاليفه، ليعي الأمانة التي يحملها هذا القرآن، لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.. وكيف لا يتصدع الجبل و{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشّورى: 5]، فتنشق كل واحدة فوق التي تليها من عظمة الله الكبير المتعال؟! فالجماد يخشع ويتصدع من خشية الله، وما أنزل في القرآن، والناس من الكافرين والمنافقين لا يأبهون لهذا القرآن، ولا يخشون الله المنتقم الجبار!..
وتلك هي أمثال وعظات وبراهين، يضربها اللَّهُ سبحانه للناس في القرآن، لعلهم يتفكرون بها، ويعتبرون، ويتدبرون، فيحتذون - على الأقل - بالجماد الذي ضُرب عَليه المثلُ بالجبل، ويخافون اللَّهَ تعالى ويخشونه، فيستقيمون، ويكونون مؤمنين صادقين. فالقرآن وحده طريق النجاة والخلاص، إذا أدرك الناس عظمة هذا الكتاب المجيد، وساروا على طريقه المستقيم، ونهجه القويم.
وفي نهاية المطاف، وبمناسبة هذه الآيات الكريمة التي تتناول ما حصل مع بني النضير في المدينة المنورة أيام رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، وما يعقبه من توجيه للمؤمنين، لا بد من التوقف عند أحوال اليهود اليوم، الذين ما يزالون على نفس الطبيعة والمنهج في عداوتهم للمسلمين، وشنَّ الحروب عليهم، ومقاتلتهم بأشدِّ أنواع الأسلحة وآلات الدمار التي يتحصّنون بها، ومن ثَمَّ يستكبرون عليهم بأقوى أفعال البغي والمكر والدهاء، فضلاً عن أنهم يخدعون بها دول العالم بأسره، ليتخذوا من قواها متاريس يحتمون وراءها، بدل تلك الحصون والجدر التي كانت لآبائهم وأجدادهم في شبه الجزيرة.. فها هُم، وكما نراهم اليوم، يستخدمون ضد المسلمين والبلاد الإسلامية، أقوى الدبابات والمدافع، وأحدث الطائرات والغواصات العسكرية، وأكثر الأساليب الحربية تقدماً وتقنية، وكل ذلك توفره لهم المساعدات والأموال التي تخصصها لهم الدول الحليفة والصديقة، وهذا فوق المفاعلات النووية والقنابل الذرية التي يحوزونها حتى صارت ترسانة «إسرائيل» تختزن ما يزيد على مئتي قنبلة نووية، وهي ما تزال تصنِّع بين عشر واثنتي عشرة قنبلة من هذا النوع في كل سنة..
وإذا أمعنا النظر في الحروب الكبرى التي كان اليهود يشنونها ضد المسلمين من العرب، فإننا نجد أنَّ عنصر المباغتة والمفاجأة كان من أهم العوامل التي حققت لهم النصر، إذ كانت آلتهم العسكرية، والطيران بصورة خاصة، تحدث تدميراً شبه شامل لأسلحة وتحصينات العرب قبل بدء المعركة.. وهذا يعني اعتماد التخطيط الذي يمكّن لهم كسب الحرب بأسرع وقت ممكن، وبأقل كلفة ممكنة، وبالتالي فرض الشروط التي توفر لهم الهيمنة والسيطرة التي يريدونها من وراء تلك الحروب، وفقاً لمنظورهم التوراتي!..
ولكن مهما بلغ اليهود من التفوق التقنيّ، والقوة العسكرية، ومهما أنتجوا، أو استجلبوا من الصواريخ المدمرة، والطائرات المتطورة، والبوارج والغواصات التي تحمل الرؤوس النووية فإنهم في حقيقتهم، وفي داخل نفوسهم قوم ضعفاء، جبناء {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحَشر: 14] كما يصفهم ربّ العالمين.
الفقرة السابعة - عدم تصديق الرسل لأنهم بشر مثل سائر الناس
1 - مثل الذين كذّبوا بآيات الله كـمثل الكلب اللاهث
يقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ *} [الأعرَاف: 175-177]
توحي هذه الآيات الكريمة بمصير الذين كذَّبوا بآيات الله، ولاسيما أولئك الذين آتاهم الله علم ما في هذه الآيات، حتى يعلّموها الناس، فتكون هدىً يخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكنْ بدلاً من ذلك يتخَّلون عمَّا وهبهم ربهم من نعمة هذا العلم، ويخلدون إلى الأرض، وليس لهم مطمع إلاَّ متاع هذه الدنيا وغرورها!... ولذلك كان العلم المبنيُّ على الإِيمان بحقيقة وجود الله تعالى، والذي يتوخى فيه الإنسان، قبل كلّ شيء، رضى الله، هو أسمى العلوم في ذراها الإنسانية، لأنَّ الخالق العظيم ما علَّمَ الإنسان شيئاً من علمه الواسع إلاَّ لتكون العلوم أفضل نتاجٍ فكريٍّ لترقّي الناس، وتنظيم أوضاع المجتمعات، وتصويب مسار البشرية.. ولا تقتصر هذه المنافع على العلوم الدينية وحدها، كما يظن البعض، بل وتتناول كلَّ العلوم التي لا تتناقض في جوهرها مع شرع الله، وما جاءت به الكتب السماوية من الأحكام والتعاليم التي تهدي للتي هي أقوم..
ولكنْ على ما يبدو فإنَّ العلم شيءٌ، وتطبيقاته شيء آخر!.. فعلوم الطب، والاقتصاد، والمال، وعلوم الأحياء، أو الفيزياء، أو الكيمياء، وعلوم الجيولوجيا والفلك، والعلوم السياسية والاجتماعية.. وسائر العلوم الأخرى إنّما تتوخى في الأصل، خدمة الناس ونفعهم.. ومن هنا كانت المآخذ على العلماء، وعلى من يتولون تطبيق العلوم في مجالات الحياة، أنْ حوّلوا كثيراً من علومهم إلى الإضرار بحياة البشر، بل والإضرار بالحياة البرية والبحرية على حدٍّ سواء..
ولعلَّ الشرَّ المستطير لا يكمن فقط بتسخير العلوم إلى مآرب مادية ودنيوية، ولو على حساب الناس، بل وفي المبادئ والأفكار التي تُنبت، وتُشيع العقائد الفاسدة، كـالكفر والشرك، وعبادة الشيطان، أو تلك التي تبيح الإجرام، والقتل، والظلم، والفساد، والانحلال الأخلاقي، وكل ما يهدر كرامة الإنسان، ويزري بحياته إلى الحضيض!.. فكان لا بدَّ أن نرى الجوع، والفقر، والجهلَ، والقهرَ، والشقاء، والأمراض الجسدية والنفسية تستشري وتتعاظم في دنيا الناس!.. من هنا يمكن القول بأنَّ أيّ نتاجٍ فكريٍّ، علمياً أو ثقافياً كان، ويحمل في طياته الشرَّ والسوءَ للإنسان، إنَّما هو الباطل بعينه، وليس لصاحبه عند ربّ العالمين، إلاَّ العذاب الأليم!..
أما الإسلام المجيد فقد جعل العلم جوهر الخصائص التي يتميز بها الإنسان على سائر المخلوقات في الأرض، وهذا ما يهدينا إليه القرآن الكريم، عندما نستدلُّ منه على أنّ قوام الوجود البشري - بأسره - ركنان أساسيان:
الأول : خلق الإنسان.
والثاني : تزويد الإنسان بملكة العقل، الذي به الإدراك والتمييز، وبهذا العقل عرف الله تعالى، فعبده، وبهذا العقل كانت العلوم والمعارف فعمَّر الأرض..
ويتجلَّى هذان الركنان بأنْ خلق الله تعالى آدم (أبا البشرية) في أحسن تقويم، ثم أنعم عليه، بعد مكرمة خلقه، بنعمة العلم، لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البَقَرَة: 31] أي جميع المسميات من الكائنات والأشياء وخصائصها..
وما يؤكد نظرةَ الإسلام إلى ما للعلم من أهمية في حياة الإنسان، هو أنَّ أول الوحي الذي أنزله الله تعالى على قلب نبيّنا محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، إنما كان يحمل أمرَهُ الجللَ بالتعلّم - ممَّا علَّم الإنسانَ من علمه الواسع - بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ *} [العَلق: 1-5]..
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *} [العَلق: 1].. إقرأ يا «محمد» الآيات التي تتنزَّل عليك قرآناً عربياً مبيناً، وبالكيفية التي يُقرؤك إيَّاها أمين الوحي جبرائيل، واحفظها في جماع قلبك بألفاظها ومعانيها ومقاصدها كي تتمكن إبلاغها من الناس.. على أنْ يكون تعلمك وبلاغك للآيات القرآنية التي تتنزَّل عليك باسم ربك الذي خلق وقدَّر هذا الوجود، وكلَّ ما في هذا الوجود من المخلوقات، والذي خلق «الإنسان» من نطفةٍ أمشاج تعلق في جدار الرحم، ثم تتحوَّل هذه العلقة إلى مضغةٍ مخلّقةٍ يتكون منها الجنين، ليخرج إلى عالم الحياة والنور، بشراً سويّاً في أحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *} [العَلق: 3].. وربُّك الأكرم بذاته القدسية، وبأنه الحيُّ القيومُ، ذو الجلال والإكرام، وسع كرسيُّهُ السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العليُّ العظيم.. وربُّك الأكرم في فيوضات أنعمه وهباته ومكرماته على مخلوقاته، ومن جميل كرمه أنه تبارك وتعالى هو {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ *} [العَلق: 4-5].. فقد هدى الإنسان إلى كيفية التعلّم، وأتاح له اكتشاف وسائل هذا التعلم بالمشاهدة والقراءة والكتابة (التي عبَّر عنها: بالقلم).. ثم خوَّله - بما أودع فيه من ملكات - لأنْ يحيط من العلم ما لم يكن باستطاعته أنْ يبلغه إلاَّ إذا شاء الله {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البَقَرَة: 255]..
وبمقتضى هذا الوحي، كان للعلوم - النافعة وليس الضارة - هذا الشأن العظيم في الإسلام..
وأكثر من ذلك:
فقد وضع الله تعالى العلماءَ في أعلى مراتب السمو على غيرهم من البشر، وذلك بما خصَّهم به من مزايا لم يتفضَّل بها على الآخرين من بني جنسهم، ومن تلك المزايا:
- أنَّ الله تعالى جعل ذاته القدسية، والملائكة، والعلماء شهوداً على وحدانيته، وتفرّده بالألوهية، وعلى قيّوميته بالقسط والعدل في الوجود كله، مصداقاً لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [آل عِمرَان: 18].
- أنَّ الله تعالى قد بيّن لنا في قرآنه المجيد أنَّ العلماء هم العباد الذين يخشون الله تعالى حقاً ويقيناً، مصداقاً لقوله تعالى: {كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِر: 28]، فالعلماء الذين يدركون ما في هذا الوجود من السنن والأنظمة التي يقوم عليها الكون، وبمثل هذه الدقة من الصنع، والإحكام في التدبير والتسيير، يؤمنون بأنَّ ذلك لا يمكن أن يصدر إلاَّ عن إلهٍ واحد، هو ربُّ السماوات والأرض، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأنَّ من جلال قدرته أنه يرفع من يشاء من عباده درجاتٍ، ولا سيما في مراتب العلم.. وهذا ما يجعل العلماء كلما ازدادوا علماً، تتعمق خشيتهم من الله تعالى... وخشية العلماء لله تعالى، قد تحتمل في معانيها أنه كما يجد هؤلاء العلماءُ الاختلاف في الثمار والجبال،[*] وهذا التنوع في أشكالها وألوانها، وكما يجدون هذا الاختلاف في أجناس الناس[*]، والأنعام، والطيور والدوابّ، فإنَّهم، هم العلماء، وأكثر من غيرهم، يدركون عظمة الخالق في هذا الاختلاف، وفي هذا التنوع اللذين يدلاَّن على قدرة الله تعالى، وعظيم خلقه، فكان ذلك من أسباب خشيتهم الله تعالى، أي الخشية التي ميّزتهم عن غالبية الناس الذين لم يروا شيئاً يلفت انتباههم، أو يشدُّ مداركهم إلى هذه المخلوقات من حولهم، فكان فضل العلماء على غيرهم بما حباهم ربُّهم العزيز الحكيم من الحكمة، والخشية، ومن المكانة الرفيعة، والتي عبَّر عنها الرسول الأكرم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بقوله: «.. العلماءُ ورثةُ الأنبياء» [*]..
هذه هي نظرة الإسلام إلى العلم وأهله... أما من أرادَ أنْ يحيدَ بعلمه عن غايته في منفعة العباد، أو من يأخذ المعادلات والنتائج التي توصل إليها العلماء ليطبقها في مجالات يغلب عليها الظلم والفساد، وتحقيق المطامع والأهواء، فـمثله كمثل أحد علماء اليهود الذي آتاه الله علماً واسعاً بآياته، إلاَّ أنه لم يحفظها، بل انتزعها من عقله وقلبه، وتركها وراء ظهره، كما تنزع الحية جلدها عن بدنها، وتخلّفه وراءها ليس أكثر من قشرةٍ مرقّطة.. وفي الرواية أنَّ «بلعاء بن باعوراء»، كان من علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالنبي موسى (عليه السّلام)، وكان لهم باع في فهم أحكام التوراة.. ويبدو أنَّ الفئة الطاغية من أحبار بني إسرائيل، قد اتخذت موقفاً معادياً من نبيهم الكريم بسبب حملته الشعواء ضد فسادهم ولاسيما أكل الرشاوى، وتسلّطهم على الناس، وخداعهم بالأضاليل.. فراحت تلك الفئة من الاحبار تعمل في الخفاء للنيل من نبيِّ الله؛ ونظراً للمكانة العلمية التي كان يتمتع بها «بلعاء»، فقد أغواه بعض الأحبار بالمال، والمنصب الرفيع، على أنْ يذكر موسى بالسوء، ويتهمه بالنعوت التي تؤذيه!.. وبدل أنْ يتصدّى لهم ذلك العالم الربانيّ - نظراً لما آتاه الله من علمٍ بالتوارة، وفيها الآيات التي تدلُّ على مكانة نبيه موسى (عليهم السّلام) - فقد انقاد إلى العلماء الغاوين، حباً بالشهوات والرغبات الدنيوية، حتى انحدر إلى مهاوي الكفر، وغرق في أوضار الضلال...
ووجدَ الشيطان أمَامَه عالماً ينسلخ من علمه، ويسخر ضميره لأهوائه، فأتبعه بوساوسه المفسدة، حتى جعله تابعاً مطيعاً له، فكان من الغاوين..
وتبيّن الآيات القرآنية حكم الله تعالى على ذلك الغاوي، إذ لو شاء سبحانه لجعل «بلعاء بن باعوراء» ثابتاً على مكانته العلمية، ولرفعه بالعلم الذي آتاه إياه إلى مكانةٍ سامية!.. ولكن كان في علمه سبحانه أنَّ هذا الرجل يغلّب استعدادات الشر على استعدادات الخير في نفسه، فما أنْ وقع في التجربة حتى هبط من شاهق الإيمان إلى مجاهل الكفر، فكان مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
وإذا كان الكفر يعدُّ عنصراً طارئاً على النفس، لأنه يأتي من خارجها لمخالفته الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإنَّ الكفر بآيات الله بعد استيقانها، والإيمان بها، يجعل الإنسان أدنى مرتبةً من الكلب، باعتبار أنَّ اللهاث خاصية في تكوين هذا الحيوان، وليس عنصراً طارئاً عليه؛ ويوضّح صاحب «تفسير المنار» اللهاث لدى الكلب، فيقول: «اللهث هو النفس الشديد مع إخراج اللسان، ويكون لغير الكلب من شدة التعب والإعياء والعطش. وأما الكلب فيلهث في كل حال، سواء أصابه ذلك أم لم يصبه، وسواء حملت عليه تهدده بالضرب أم تتركه آمناً وادعاً». ولقد ثبت في الطب البيطري أنَّ الكلب لا توجد في جمسه غدد عرقية إلاَّ القليل في باطن قدميه، فلا تفرز من العرق ما يكفي لتنظيم درجة حرارة جسمه، فيستعين عن هذا النقص، في وظيفة تنظيم الحرارة، باللّهاث، أي بزيادة تنفّسه عدداً من المرَّات تفوق التنفس الطبيعي لدى الحيوانات الأخرى، ويكون ذلك بتعريض مساحةٍ أكبرَ من داخل الجهاز التنفسي لتلقي الهواء ونفثه عن طريق اللسان، والسطح الخارجي من فمه.
ولعلَّ في خلق الكلب على هذا النحو من التكوين البيولوجي ما يشير إلى أنَّ لكل نوع من الكائنات الحية خصائص ذاتية تميّزه عن غيره من الأنواع الأخرى، كما أنَّ في تعدّد تلك الخصائص وتنوعها ما ينبيءُ عن قدرة وحكمة الخالق العظيم، وحاجة كل مخلوق - حتى الجماد - إلى خالقه؛ وهذا ما يستدعي من «الإنسان» التفكّر والتبصّر بالخلائق من حوله، ولو فعل، لما أجاز أحدٌ لنفسه أنْ يركنَ إلى قواه الذاتية، ويتوهم أنَّ لديه القدرة على شيء، إلاَّ أنْ يشاء الله تعالى.. ومن لم يؤمن بهذه الحقيقة، التي هي من البيّنات على الخلق، فاغترَّ بنفسه، ومواهبه، وعلومه - عالماً كان أو غير عالم - فهو بشرٌ أخلد إلى الأرض، واتَّبع هواه حتى انطبق عليه المثل القرآني الذي يشّبههه بالكلب اللاهث، فلا يعيش إلاَّ تحت وطأة الإِعياء، والتعب، والقلق طلباً للاستزادة من أعراض الدنيا، واللهث وراء الرغبات، والشهوات إشباعاً لمطامعه وأهوائه؛ وقد ينسيه ذلك كله كينونته البشرية، وجبلَّته الإنسانية، ويهوي به إلى مصاف الحيوان الضعيف، فلا يقضي من هذه الدنيا مطالبه، ولا تنتهي فيها مآربه، فحاله كما يقول الشاعر:
فَمَا قَضَى أحدٌ منها لُبَانَتَهُ
ولا انْتَهَى أَرَبٌ[*] إلاَّ إلى أَرَب.
{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعرَاف: 176].. وهذا أغرب ما يمكن أنْ يتصورَّهُ الإنسان من الناس الذين يرتضون أن يهبطوا بإرادتهم من شاهق الإنسانية إلى مرتبة الحيوان. ذلك أنَّ القوم الذين كذبوا بآيات الله هم الذين لا يريدون التخلي عن المعتقدات التي ألفوا آباءَهم عليها، فهم على آثارهم يُهرعون.. وهم القوم الذين ساقتهم الأنظمة المادية إلى مغرياتها، فضربوا بالأديان وتعاليمها عرض الحائط، وأوغلوا في الضلال والكفر.. وهم القوم الذين يأنفون من عبادة الرحمن، وينصرفون إلى طاعة الشيطان..
والحال لو أنَّ الذين كذَّبوا بآيات الله، نظروا إلى هذه الآيات نظرة استبصار واستدلالٍ لوجدوا فيها الخيرَ كلَّ الخير، والطمأنينة والارتياح، والصلاحَ والفلاح،.. ولكنهم بدل أنْ يفعلوا آثروا تكذيبها، فكان حكم الله تعالى عليهم - ومن خلال آياته التي كذَّبوا بها - أنْ يكونوا مثل الكلب، الذي إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث..
أجل إنَّ آيات الله هي التي تحمل الحكم على المكذبين بها، بأنهم كفرةٌ فجرةٌ.. وهي أعلى وأسمى من أنْ تطالها ولو ذرة من تكذيبهم، لما تنضح به من البيّنات والعظات، وما تشع به من نور الهدى الذي يضيء جوانب النفوس وكوامنها بنور الله.. ويكفي أنَّها آيات منزلة من ربَّ العالمين حتى تكون حقاً وصدقاً .. ولكن ما العمل، والعيب ليس في آيات الله - نعوذ بالله - كما يجهلون، بل العيبُ، والجهلُ والضلالُ في نفوس المكذبين بآيات الله، الذين أخلدوا إلى الأرض، فلا تهتدي قلوبهم إلى الإيمان بالحق المبين، ولا تقبل نفوسهم أي تذكرة أو عظة للسير على الصراط المستقيم، فكان مثلهم في طلب الحياة الدنيا، واندفاعهم وراء متاع غرورها، كمثل الكلب الذي يلهث «تعباً وإعياءً وعطشاً» بصورة دائمة!..
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *} [الأعرَاف: 176].. فاقصص عليهم، أيها النبيُّ، ما أنزلنا عليك من الآيات التي تحمل الأخبار، وتروي القصص عن الغابرين، من الأقوام والشعوب والجماعات، الذين لم يصدقوا المرسلين، فحلَّ بهم الهلاك والدمار، لعلَّهم يتفكرون بما تحفل به هذه القصص من الحكمة، والعبرة والموعظة، فيحملهم تفكيرهم على إنكار التكذيب بآيات الله، والولوج إلى رحاب الإيمان، حيث الطمأنينة والأمان..
{سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ *} [الأعرَاف: 177]، فـمثل الذي انسلخ عن آيات الله كمثل الكلب في لهاثه، هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله وهو من أسوأ المثل، لأنَّ فيه الذم القبيح، والتشهير الصريح بهم؛ ولو شعروا بالكرامة الإنسانية لنفضوا عن أنفسهم هذا الذل والهوان الذي تصفهم به آيات الله، وأقبلوا يتفحَّصون هذه الآيات، ويقلبونها على مختلف وجوهها، وهي كفيلة، إذا استيقنتها نفوسهم، بأن تجذبهم إلى حلاوة تلاوتها وترديدها، وتدبر مصاديق معانيها، فيكونوا من الفائزين في الدنيا والآخرة، بدلاً من أن يكونوا من المكذبين بآيات الله، ومصيرهم الخسران المبين.
بل والقرآن الكريم يعظهم بأنْ يرجعوا عمَّا هم عليه من الغفلة، أو الغواية، أو الكذب، أو الكفر.. إلى رحاب الإيمان، لأنَّ في ذلك خيراً لهم، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *} [الأعرَاف: 174]، أي كما بيّنا في الآيات التي تحمل الأمثال بعضاً من صفات الذين كذبوا بآياتنا، ومثل ذلك نبيّن في هذه الآيات ما سيؤول إليه مصيرهم من العذاب، لعلهم يرجعون عن تكذيبهم، فيكونوا من المؤمنين بآياتنا وما أنزل في هذا القرآن، فيتّبعوه، ثم يسألون ربّهم العفو والمغفرة عما أتوه من قبل.. والله تعالى هو الخبير بعباده، اللطيف بهم، إنْ يشأ يعذّبهم، وإنْ يشأ يكفّر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم في عباده الصالحين.
2 - تكذيب الكافرين من قوم نوحٍ دعوته لأنه بشرٌ مثلهم
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ *فَقَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ *} [المؤمنون: 23-24].
لقد سبق هاتين الآيتين المباركتين، في سورة «المؤمنون»، الأدلة التي تأخذ الإنسان، عن طريق التفكير والتأمل، إلى الإقرار واليقين بأن الله تعالى هو الخالق، ومن تلك الأدلة:
- خلق الإنسان من الطين، ثم إنشاؤه خلقاً آخر حتى استوى بشراً سوياً {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} [المؤمنون: 14]..
- خلق سبع سماوات تسلك فيها الملائكة الطرق والمعارج المعدَّة لها في الآفاق، لتحقيق أمر ربّها بما يشاء من تدبير وتسيير لهذا الكون، بكل ما فيه من الأجرام السيارة التي تدور في أفلاكها.
- أنَّ الله تبارك وتعالى أنزل من السماء ماءً فأنشأ به جناتٍ تمتليء بالخيرات والبركات رزقاً للعباد.
- وأن الله جلَّ وعلا قد جعل في الأنعام عبرة للناس بما لهم فيها من منافع كثيرة..
وبعد تبيان تلك الشواهد العظام على الخلق والتدبير تأتي البيّنة على جحود العباد، وكفرهم بـالله وأنبيائه، والمثال في قوم نوحٍ الذي أرسله ربُّهُ ليدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، إذ قال لهم: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعرَاف: 59].. وهي الدعوة الصادقة، والحجة البالغة على أنه لا إلهَ إلا الله، وأنَّ العبادة له وحده، فلا شريك له في عبادته.. والأدلة تلك الآلاء التي تحيط بهم، وفيها أود حياتهم، والتي لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها!.. ثم ماذا يخالف الفطرة عندما يقول لهم نوح: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره؟ وهل هي إلاَّ الكلمة الحق، والدعوة الحق التي يقوم عليها الوجود كله، ويشهد بها كل ما في هذا الوجود، عندما يكون مرتبطاً بربّه تعالى بصلة العبودية، والخضوع، والطاعة؟ ولكنَّ قوم نوح (عليه السّلام) شذوا عن الكلمة الحق، ورفضوا الدعوة الحق، إذ قال الملأ الذين كفروا من قومه، وهم كبراؤهم وأسيادهم:
لا يا قوم، لا تصدقوا نوحاً، فما هذا الرجل إلاَّ بشر مثلكم، ولكنه يريد أنْ يتفضَّل عليكم بالقَدْر، والمنزلة والرفعة، فيدعي أنه نبيّ مرسل من الله. ولو شاء الله لأنزل ملائكة يدعوننا إلى عبادته. أما أن يبعث نوحاً بهذه الدعوة، وهو بشر، وليس ملاكاً، فما سمعنا بهذا في دين آبائنا من قبل، ولا في دين الأولين من الأقوام، والأمم السابقة..
وهنا كان قصور أولئك القوم، في تلك النظرة الضيقة التي تربط العقيدة بشخصِ رجلٍ مثلهم، دون أنْ يدركوا ما للدعوة إلى الله تعالى من الأثر العميق في صلاح نفوسهم، وإصلاح حياتهم وآخرتهم..
وأبعد أثراً من تلك النظرة الضيقة في ربط الإيمان بالشخص وليس باللّه تعالى، أنْ يقرّوا بحقيقة وجود الله عندما يقولون: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً} [المؤمنون: 24]، ثم يرغبون عن عبادته، وعن الإيمان بأنه لا إله غيره، دون أن يتقوا في ذلك غضب الله، أو يخافوا بطشه..
أمَّا العلة وراء رفض تلك الدعوة من رسولٍ كريمٍ مع بيان الشواهد الحسية، إنما كانت تكمن في نوايا رؤسائهم وقادتهم، الذين استفحل الاستكبار في نفوسهم، فأبوا أن يكون رجل منهم، مثل نوحٍ رسولاً من الله، وأن تكون له المنزلة الرفيعة عليهم، لأن إقرارهم برسوليته، إنما يعني ذهاب رئاستهم، وضياع نفوذهم، وهذا ما لا يرضون به أبداً. وتلك هي النظرة ذاتها لدى كل الذين يتولون مقاليد الشؤون العامة، فإنه لا يتبادر إلى أذهانهم، عندما تظهر دعوة إلى الصلاح والإصلاح، إلا شيء واحد، وهو أنَّ الداعية كاذب، وأنه لا يريد من وراء دعوته إلاَّ منافستهم على الزعامة، ومشاركتهم في القيادة والحكم، ومن ثم اقتسام الغنائم معهم، هذا إنْ لم يكن راغباً في إقصائهم، والاستئثار بكل شيء لنفسه!. وذلك ظنُّ الذين يحاربون - دائماً - دعوات التغيير والإصلاح، في حياة الناس، فـمثلهم كمثل الذين كفروا من قوم نوحٍ، جاءهم نبيهم بالبيّنات فصدوا الناس عن عبادة الله، وكانوا من الظالمين!.. ولكن ماذا حلَّ بقوم نوحٍ من جرّاء كفرهم؟
يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ *أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ *فَقَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وأتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} [هُود: 25-28].
... هذا ما جاء به الذكر الحكيم في «سورة هود» بعد تبيانه الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وإعطاء الأمثال للتوضيح والاستدلال، إذ أعقب ذلك كله بذكر قصة النبي نوح مع قومه، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ *} [هُود: 25]. وهو الإخبار الذي يحمل فحوى الرسالة، وهدفها، بالقول الموجز والكلمات المعدودة. فالله تعالى هو الذي أرسل نوحاً إلى قومه ليعلن لهم، من غير مواربةٍ أو وجلٍ، بل بالقول الصريح: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ *} [هُود: 25]. والتعبير القرآنيّ يجعل المشهد الذي يقابل فيه نوحٌ (عليه السّلام) قومَهُ وكأنه واقعة حاضرة، لا حكاية ماضية، فكأنما هو يقول للناس الآن: إنَّ أي رسالة سماوية تنذركم بوعيد الله، وتبشركم بوعده، إنَّما لتبيّن لكم طرق الهدى والاستقامة، وتنهاكم عمَّا تبغونه عِوَجاً.. فاتّبعوا، أيها الناس، ما يهدي إليه العقل الواعي، بتوفيقٍ من الله تعالى، وابتعدوا عن الأهواء الضالّة، بوسوسةٍ من الشياطين!.. فإنْ لم تفعلوا، فإنّي أخاف عليكم من عذاب يومٍ أليم، يوم يأتيكم العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم، ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون، فهذا جزاء ما أشركتم بالله، وكنتم بكتبه وآياته تكذّبون!..
ذلك بعض التصوّر عما كان نوحٌ (عليه السّلام) ينذر به قومه، وهو يدعوهم إلى الحق.. ولكنَّ الملأ من قومه، أولئك المتحكّمين برقاب الناس، رفضوا بإصرارٍ وعنادٍ تلبية دعوته للإيمان؛ وقالوا: ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا، وما ينبغي أن يكون الرسل الذين يبعثهم الله من البشر، بل من الملائكة المقرّبين.. ولم يتوقفوا عند تلك الحجة التي اتخذوها أساساً لتكذيب نبيّهم، بل توالت احتجاجاتهم الواهية، فقالوا له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هُود: 27]، أولئك الضعاف الفقراء، وليس لهم شأن أو مكانة بيننا، لا من مالٍ ولا جاهٍ، وما كان اتباعهم لك منذ بدأت بإعلان رسالتك، ونشر آرائك «بادي الرأي»، إلاَّ عن تهوّرٍ وعجلةٍ، ودونما تفكّر أو تقدير لمعرفة إنْ كنت، حقاً، رسولاً من الله!..
وبعد أنْ يئس أولئك الملأ من قوم نوح من المواربة، وتقديم الذرائع الواهية، التي لم تفلح في ثنيه عن متابعة دعوته، أعلنوا صراحةً تكذيبهم له، ولمن اتّبعه على دينه، فقالوا: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ *} [هُود: 27].
ففي اعتقادهم أن أصحاب الفضل والمنزلة في القوم هم الذين يملكون المال، والوجاهة والسلطان.. أمَّا ما تنضح به ألسنتهم من كفرٍ وبهتانٍ، وما تنطوي عليه نفوسهم من أفكار شريرةٍ، وعقائدَ فاسدةٍ، وما تنطوي عليه قلوبهم من أهواء ونوازع خبيثة، فذلك لا شأن له في حسبانهم..
وتلك مقولة أكثر أهل الدنيا، فهم - عادة - يحتقرون المؤمنين، ويكذبونهم في معتقداتهم، ويذمّونهم بما ليس فيهم، بينما أهل الإيمان، في الحقيقة، هم أكرم خلق الله على الله، وأصدقهم عند الله، وأعلاهم شأناً بين عباد الله، فكان حقاً على نوحٍ أنْ يرفع التهمةَ عن نفسه وعن أتباعه، وأن يريهم الحق، وهو يعلن لهم:
يا قومِ! أرأيتم إنْ كنتُ على بصيرةٍ من ربّي، وآتاني سبحانه وتعالى النبوَّة رحمةً من عنده - بي وبمن اتبعني - أفلا أبادله بالشكر والحمد؟ ويا قومِ! أرأيتم إنْ كنت أدعوكم إلى الإِيمان بالله، وفيه خلاصكم من الكفر، ومن العذاب، وقد عُمّيت عليكم دعوتي، كما عُمّيت عليكم الرحمة الربانية التي تنزلت عليَّ فأنكرتموها، وكذبتمونني أنا ومن اتبعني من المؤمنين، فهل نلزمكم بها، أو نجبركم على الانتفاع بها؟ لا، ليس هذا هو شأن النبيين، ولا أكرِهُ بني قومي على الدخول في دين الله إكراهاً، بل وما أمرت بذلك، لأنه «لا إكراه في الدين». إنْ أحمل لكم إلاَّ الهدى، وإنْ أضعكم إلاَّ أمام البيّنة.. أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟!...
ولبث نوحٌ في قومه ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً، يزيَّن لهم الإيمان، ويبغض إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ولكنهم لم يستجيبوا لدعوته، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون؛ فأنجاه الله تعالى وأصحاب السفينة، وقضي الأمر بهلاك القوم الكافرين، مصداقاً لقوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِل يابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ *قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ *} [هُود: 42-43].
..فقد كان نوح (عليه السّلام) لا يني، خلال تلك المدة الطويلة من الزمن، عن تقديم البيّنات لبني قومه، تدليلاً على صدق دعوته، وكانت بيّناته كفيلةً - لو كانوا يعقلون - بأن تهديهم إلى دين الله، واتباع رسوله، ومن قبيل ذلك أنه كان ينصح لهم بأنْ يستغفروا ربَّهم الغفَّار، لأنَّ من شأن هذا الاستغفار أنْ ينزل عليهم الغيث والبركة، كما يتبين من قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا *} [نُوح: 10-12].. فأي قوم يعقلون ولا يسارعون للاستجابة إلى طلب الاستغفار من ربّهم، حتى تفيض عليهم كل تلك البركات، وتعم ديارهم وحياتهم كلُّ تلك الخيرات، إلاَّ أنْ يكونوا - مثل قوم نوحٍ - كافرين..
ولمَّا لم ينفع معهم شيءٌ من ذلك، راح يحثهم على توجيه أبصارهم، إلى أطوار خلقهم من نطفةٍ من منيٍّ يمنى، ثم من علقة ثم من مضغةٍ مخلّقةٍ، ليخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً.. ثم يبين لهم تقلب أحوالهم بين الضعف والقوة، مصداقاً لقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ *} [الرُّوم: 54]..
بل ومن البيّنات التي كان النبي نوح يلفت انتباه بني قومه إليها، هذا الخلق في السماوات والأرض، مصداقاً لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} [نُوح: 15-16].. فهذه السماوات من فوقكم، وهذا القمر المنير، وهذه الشمس الوهاجة، وكلها ممّا تنتفعون بها، أليست من الأدلة الحسية على قدرة الله الخالق العليم؟ ثم ألا تتفكَّرون كيف بسط الله الأرض، وجعل فيها هذه السهول الغنّاء لتأكلوا من خيراتها وثمارها وجعل فيها الطرق التي تسلكونها إلى معاشكم مصداقاً لقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا *لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا *} [نُوح: 19-20].
وعلى الرغم من كل تلك الشواهد والبراهين على عظمة الخالق، الذي كان النبيُّ نوحٌ يدعوهم إلى عبادته، فإنَّه لم يجدهم نفعاً أيُّ شيءٍ منها، بل أصرّوا على كفرهم، واستكبروا عن الإيمان استكباراً، وهم يتداعون إلى نصرة آلهتهم من الأوثان والأصنام، كما يبينه قوله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا *} [نُوح: 23]، وهي أسماء لأصنامهم التي اتخذوها آلهةً من دون الله، سبحانه وتعالى عما يشركون!..
ومن أساليب السفاهة التي كانوا يلجأون إليها، أنهم كلما مرّوا به، وهو يصنع الفلك، تعمّدوا السخرية منه ومن أتباعه، وذلك من جملةِ ما كانوا يكذبونه به، وما يمكرون باتباعه مكراً كبيراً، حتى ضاق بهم صدره، ولم يعد قادراً على الاحتمال، على الرغم من شدة صبره، واحتماله، وأناته طوال تسعماية وخمسين عاماً، كان يدعوهم فيها إلى عبادة الله!.. فدعا على قومه بالهلاك، وكانت دعوته بعد أنْ أوحى إليه الله تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} [هُود: 36]؛ وكان توجّه قلبه إلى ربّه أن يهلك الكافرين، ولا يبقي منهم على الأرض ديّاراً، حتى لا يضلّوا عباده، ويظهر الكفرُ على الإيمان، ومن دعوته قوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا *إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا *} [نُوح: 26-27].
وجاء أمر الله، وبدأت الأمطار تهطل بغزارة شديدة من كل صفحةٍ في السماء، وتصاحبها، في آنٍ واحدٍ، العيون وهي تتفجَّر في كل بقعةٍ من الأرض، حتى صارت الأمواج تتلاطم، وتتعاظم كـالجبال العالية، فيتحقَّق أمر الله.. ويصوّر لنا القرآن ذلك الحدث الكوني بقوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ *وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ *} [القَمَر: 11-12].. وهو أمر الله العلي القدير الذي قضى بإهلاك الكافرين غرقاً، في طوفان غطى الأرض بأسرها...
وكانت المعجزة الإلهية، في ذلك الطوفان، سفينة نوحٍ وهي تجري بهم، وتتأرجح في الأمواج العاتية، لتكون أماناً للمؤمنين، لقوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِل يابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ *قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ *} [هُود: 42-43].
والمشهد الإنساني المروّع، الذي يبرز لنا في خضم ذلك الطوفان، رؤية نوح وهو يقف على حافة السفينة، ملهوفاً على ابنه العنيد الذي أبى أن يركب معه، وهو يناديه أنْ يسرع قبل أنْ يدركه الموج فيغرقه، فيقول له: {يابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ *} [هُود: 42]!..
وكان ابنه يتوهَّم أنَّ المياه لن ترتفع كثيراً لتغطّي الجبال، فقال لأبيه: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هُود: 43]، وينجيني من الغرق.. وعاد الأب يُلحّ عليه أنْ يركب، قال يا بنيَّ: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هُود: 43]، ولا رادَّ لقضائه، ولن ينجو أحدٌ من الهلاك إلاَّ من رحم الله، وأرادَ له سبحانه النجاة، فلا جبال تعصم، ولا أراضين تأوي، ولا شيء اليوم يغني إلاَّ الإيمان بـالله تعالى، فآمن يا بنيَّ بالله ورسوله، واركب معنا، يرحمك الله، ويكتب لك النجاة..
وتعاظم الموج حتى غطَّى الأرض وجبالها، وحالَ الموج بين نوحٍ وابنه، فكان من المغرقين..
واللفتةُ القرآنية، هنا، التي تبيّن رحمة الله، قوله تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هُود: 43] فلم يعد أحدهما يرى الآخر أو يسمعه، حتى لا يرقب نوحٌ تخبّط ابنِهِ في غرقه، فيزيد قلبه تفطراً وألماً، فجعل الرؤوف الرحيم الموج يحجبه عن ناظريه، رحمةً بهذا الأب الكلوم..
وحكاية نوحٍ، سواء الأب المؤمن مع ابنه الكافر، أو النبي الهادي مع قومه الضالّين، هي نفسها حكاية المؤمنين في دعوتهم إلى الحق والإيمان، ومقابلة الكافرين لهم بالعداء والظلم. والقرآن الكريم إنما يسوق قصة قوم نوح، وغيرهم من الغابرين، حتى توحي لنا قصصهم بمشاهدها المرسومة، وكأنها حاضرة أمام انظارنا، في هذا الفساد الذي ظهر في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس.. بينما المؤمنون ينادون للعودة إلى الدين، إلى طريق الله تعالى، وليس من يجيب!..
3 - إنكار عادٍ أن يكون رسولهم بشراً مثلهم، يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون.
يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ *فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون} [المؤمنون: 31-36].
تخبر هذه الآيات الكريمة عن قوم عادٍ، الذين أنشأهم الله تعالى من بعد قوم نوحٍ، ثم أرسل فيهم رسولاً من أنفسهم، أخاهم هوداً (عليه السّلام) ليعبدوا الله الواحد الأحد، ما لهم من إلهٍ غيره، وأنْ يتَّقوا الله في عبادةِ آلهةٍ صنميّةٍ لا شأن لها في ميزان العقل!..
ولكنَّ الملأ (وهم الشيوخ والقادة في القوم)، الذين كفروا بالله، وكذَّبوا بلقاء الآخرة - فاتَّبعهم سائر القوم، فلا يؤمنون مثل أسيادهم ببعث، ولا حساب - أنكروا تلك الدعوة التي يحملها إليهم أخوهم هود، والتي من شأنها أنْ تخرجهم من الظلمات إلى النور، لأنها الدعوة من الحقّ، وإلى الحقِّ تبارك وتعالى.. فقدَّم إليهم الحجج والبراهين من واقع حياتهم، ممّا يعيشون فيه من الترف والغنى، المتأتيان عن الخيرات والأرزاق الوفيرة التي أنعم بها الله تعالى عليهم، لأنه وحده مالك الملك ومصدر الرزق، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيّق الرزق على من يشاء من عباده، وبقدر ما يشاء.. ولكن يبدو أنَّ قوم عادٍ، ومن جراء الغنى الواسع، الذي ظنوا أنه من صنع أيديهم، قد أعماهم عن الحقائق، لأنَّ الترف الذي ينقلب إلى الفحشاء والمنكر، قد يكون، في غالب الأحيان، عاملاً هاماً لأنْ يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويفقد القلوب حسَّ التفكير السليم، وتلقّي دعوة الحق، والاستجابة لها.. ولذلك نجد الإسلام يضع الضوابط الشرعية التي تفرض على الناس الكسب الحلال، وتلزم الأغنياء بأن يؤدوا حقوق الله، وحقوق العباد من أموالهم، وذلك بإيتاء الزكاة، وإعطاء الصدقات، والإنفاق في وجوه البرّ والإحسان، كما يضع هذا الدين القويم الضوابط الأخلاقية التي تحرّم الفاحشة والمنكر، وغيرهما من الموبقات حتى لا تدخل على المجتمع الإسلامي، وتجعل الجماعة الإسلامية لاهيةً عن أوامر الله تعالى ونواهيه، إذ كلما كثر المفسدون، والفاسقون والمترفون داخلَ الجسم الاجتماعي المؤمن، كلما خرب هذا الجسم، لأنَّ هؤلاء وأمثالهم كـالعفن يفسد ما حوله، أو كـالمستنقع الذي تسبح فيه الأوبئة والجراثيم.. ولعلَّ ذلك الترف الذي كان عليه قوم عادٍ، هو الذي جعلهم مثل سائر الأقوام التي تصدَّت، على مرّ الزمن، لدعوات المرسلين الإصلاحية، واعتبرتها دعواتٍ خارجة عن نطاق تصوراتها التي تهفو للحياة الدنيا بمادّيتها، دونما أية اعتبارات روحية، وهذا ما ينأى بأناس تلك التصورات عن التفكّر بالحياة الآخرة، ومن مقوماته الأولى التقوى، وحبُّ العباد لله تعالى، والإيمان بالثواب والعتاب.. فكان غريباً على تصور قوم عادٍ أنْ يقوم رجلٌ منهم، ويدّعي أنه رسولٌ من الله إليهم، ثم هم يرونه يأكل ممّا يأكلون منه، ويشرب ممّا يشربون، فكيف يدعوهم إلى عبادة الله، واتّقاء غضبه وهو بشرٌ مثلهم؟!.. أبداً لم يستسغ أولئك القوم أن يكون أخوهم هود رسولاً من الله، فوقف الملأ منهم في وجه دعوته، يصدّون الناس عنه، معتمدين في حملتهم سلاح الباطل، وذلك بالتهديد والوعيد لكل من تسوّل له نفسه أنْ يؤمن به ويتّبعه، لأنه سوف يكون معرَّضاً لحرمانه من أمواله وممتلكاته!.. ومن الطبيعي لشعبٍ يعيش على الترف، ألاَّ يقبل بأنْ يتخلَّى عن ذلك النمط من العيش الذي اعتاد عليه، مقابل وعودٍ من بشرٍ مثلهم، حول حياةٍ أخرويةٍ لا يدركون شيئاً عنها!.. إذ في ذلك مجازفة غير مأمولة العواقب!.. بل ومن الصعب وفقاً لتصورهم، أنهم إذا ما ماتوا وصاروا تراباً، وبقايا عظام رميمة، أن يحيوا من جديد، ويُبعثوا من القبور إلى حياةٍ أبدية لا موت فيها!.. وهيهات، هيهات أنْ يكون ذلك، فالحياة هنا في هذه الدنيا، ولا حياة بعدها!..
ولم يكن ذلك الموقف من المترفين إلا لانقطاع الصلة بين قلوبهم وبين النفحة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم، فلا يمكن أنْ يدركوا حكمة ربهم في خلقهم وتدبيرهم، للوصول إلى الغاية البعيدة التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض؛ فالخيِّر لا يلقى جزاءه الكامل في هذه الحياة الدنيا، والشرير كذلك.. وإنما يستكملان هذا الجزاء هنالك يوم الحساب، حيث يصل المؤمنون الصالحون، بما قدموا لأنفسهم من خير، إلى الحياة الخالدة التي لا خوف فيها ولا نصب، فهي قد أُعِدَّت لهم، ولأمثالهم المتقين فلا يتحولون عنها أبداً.. بينما يصل كذلك الذين كفروا، وصدوا عن سبيل الله إلى الحياة الأبدية، فلا يتحولون عنها أبداً، ولكن ينتظرهم فيها عذاب السعير.. حتى ليتمنَّى الكافر أن يكون تراباً، لقول الله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا *} [النّبَإِ: 40].
إذاً فالحياة المادية، والتصورات الخاطئة هي التي حملت «عاداً» على أن يكذّبوا أخاهم «هوداً»، ويواجهوه بحملات الافتراء عليه، وتشويه دعوته!.. وحيال ذلك لم يجد هذا النبيّ، في نهاية المطاف، إلاَّ الاستنصار بـربّه تعالى فدعاه: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ *} [المؤمنون: 39].
وحلَّ وعد الله الحق بنصرة رسوله على القوم الكافرين، فأرسل عليهم {الرِّيحَ الْعَقِيمَ *} [الذّاريَات: 41] التي لا تذر من شيء مرت عليه، إلاَّ حولته إلى فتات بالٍ مصداقاً لقول الله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ *} [الذّاريَات: 41] ! }.
وهذا الوصف القرآني لتلك الريح {الْعَقِيمَ *} [الذّاريَات: 41] حتى يبيّن لنا مدى ما تحمل في طياتها من الأثر على حياتهم، إذ كما المرأة العقيم أي العاقر، التي لا تحمل ولا تلد، (وهذا بأمر الله، ليكون عبرةً للعباد، وليس للمرأة ذنب في ذلك) كذلك تلك «الريح العقيم» فإنها لم تكن تحمل مطراً، ولا تلقح شجراً، أو تذري حبّاً، بل كانت ريحاً مهلكة، ما تذر من شيء أتت عليه إلا أتلفته وهدمته وأحالته بالياً، يتفتَّت مثل نبات الأرض اليابس إذا ديس بالأرجل؛ أو كمثل العظم الرميم الذي يُفتُّ بالأصابع.. أما مصير «عاد»ٍ، من جراء تلك الريح العقيم، فيبيّنه قوله الله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} [الحَاقَّة: 6-7].
إنها ريحٌ صرصرٌ: هوجاء، شديدة البرد - أو الحرّ - عاتية ما تأتي على شيء إلا وجعلته بدداً. وقد سخَّرها أمرُ الله على قوم عادٍ، الذين كانوا يدّعون القوة والبأس، فأتتهم عاصفةً، هادرةً، مهلكةً لا طاقة لهم على احتمالها، أو ردِّها، مدة سبع ليال وثمانية أيام «حُسُوماً» أي تَحْسُمُ أثرهم وتقطع خبرهم، وذلك تشبيهاً لها - في استمرارها تلك المدة - بالكيّ الحاسم الذي يُكوى به الداء، مرة بعد أخرى، حتى ينحسم، أي حتى ينحسر فلا يبقى له وجود.. أو تشبيهاً لها بالشدة التي حلت بهم لتحسم أمرهم، وتستأصلهم من هذه الدنيا، فتراهم، من جرائها، قوماً صرعى، مطروحين في العراء كأنهم أصول نخل هوت، وسقطت مما أصابها من الخواء والاهتراء. ويتأكد هذا المشهد لقوم عاد في (سورة القمر) بقول الله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ *إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ *تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ *} [القَمَر: 18-20].
لقد كذبت قبيلةُ عادٍ بآيات الله، فلم يفلح معها إنذار رسوله الكريم، وتوعده لها بالهلاك، فأرسل اللّه عليهم ريحاً صرصراً عاتية لمدة سبع ليال وثمانية أيام نحسة، مليئة بالشؤم القاتل، باعتبار أن النحس هو النذير الذي يجلب الويل، والقهر والعذاب.. ويبدو أنَّ أولئك القوم قد بادروا، لما رأوا تلك العاصفة تشتدُّ عليهم، إلى الاختباء في منازلهم وسراديبها، إلا أن قوة الريح كانت تنتزع مساكنهم من الأساس، وتذرها مبدَّدة، ومَنْ فيها، في الخواء، فترى القومَ صرعى، كأنهم أصول نخل اقتلعت من جذورها العميقة، وقذف بها خاوية، مهملة. وقيل إنَّ هذا التشبيه لقوم عاد بالنخل إنما مرده إلى ما كانوا عليه من طول في القامة، ومتانة في الأبدان، تمكّنهم من مواجهة البأساء والضرّاء..
أما (تأنيث) أعجاز النخل في سورة الحاقَّة {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ *} [الحَاقَّة: 7] و(تذكيرها) في سورة القمر {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ *} [القَمَر: 20] فمراعاة لتناسب الفواصل عند البلاغيّين، ومراعاة للإيقاع عند الموسيقيين، في الموضعين[*]، ومن ثمَّ للتدليل على أنَّ الموت قد صرعهم جميعاً ذكوراً وإناثاً، على الرغم مما كانوا عليه من بسطةٍ في الأجساد، وقوة في الاحتمال.
وليست تلك الريح، وهي تفتك بقوم عادٍ، في حقيقتها، إلا قوةً من قوى الطبيعة التي أوجدها جلَّت قدرته في هذه الأرض، وجعل لها من السنن والقوانين ما يدفعها ويسيِّرها إلى ما يشاء الله تعالى ويريد، لأنه هو صاحب الأمر والشأن.. وهذا يعني أنَّ القوى جميعاً، الطبيعية وغير الطبيعية هي - في المفهوم الإسلامي - جنود لله، يسخرّها بأمره كيف يشاء، فإذا أمرَ الريح أن تهلك «عاداً» فلا بدَّ أنَ تستجيب لأمر ربَّها، ولذلك جاءتهم تلك «الريح العقيم»، جنوداً لله، كي تستأصل وجودهم من جرّاء الكفر الذي آثروه على الإِيمان..
4 - هلاك قوم ثمود بالصيحة فكانوا كـهشيم المحتظر
يقول الله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ *فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ *أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ *سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ *إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ واصْطَبِرْ *وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ *فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ *فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ *إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ *} [القَمَر: 23-31].
يقص القرآنُ المبين في هذه الآيات خبر تكذيب قبيلة «ثمود» بالنذر التي توعَّدهم بها أخوهم صالح، الذي أرسله الله تعالى إلى بني قومه ليدعوهم إلى الإيمـان والهدى. وقد خصَّ الخالق العظيم قـومَ «ثمودَ»، كمـا خصَّ، من قبلُ، قومَ «عـادٍ»، بالقوة والبأس وطـول القـامـة.. فبدل أنْ يؤمنوا بـالله تعالى ويشكروه على ما آتاهم من النعماء، كفروا وأنكروا على أخيهم صالح (عليه السّلام) أن يُبعث رسولاً إليهم، فقالوا: أرجلاً منا نتبعه، وبشراً مثلنـا وحده يرسله الله، وليس معـه من يصدقه؟! فلمـاذا لم يرسل الله منا رجالاً من ذوي المال، ومن أصحاب القوة والسلطان؟! لا، لن نتّبعـه، ولئن اتّبعنـاه إنّا إذاً لفي ضـلال وجنون! وهـل صحيح أنه أنزل عليه الوحي من بيننا كلنا؟ لا! لا نصدقه! بل هو كاذبٌ، حاذقٌ في ادعائه النبوَّة، وهو أشرٌ، متكبرٌ بقوله إنه رسولٌ من الله!.
هكذا كانت تصورات قوم «ثمود»، التي جعلتهم يثيرون مثل تلك التساؤلات الاستنكارية الجاحدة.. فقد اشتبهوا في حقيقة التكليف، وتوهموا أنَّ الوحيَ لا ينزل على بشرٍ منهم، ويكون واحداً، بل يُلقى التكليف على عدة أشخاص، إنْ كان الأنبياء من البشر. ولذلك لم يصدقوا نبيهم (عليه السّلام)، وكذبوا بما أنذرهم به من الآيات التي تحمل العذاب للكافرين.
ولم يكن مثل ذلك الاعتقاد الخاطىء ليسيطر على نفوسهم، لولا انعدام الإدراك لديهم، بأنَّ الرسالة لا يصلح لحملها إلاَّ من يختاره الله تعالى لهذه المهمة السامية. فالقضية في هذا الاختيار لا تعني بني البشر، لأنها من أمره عزَّ وجلَّ، فلا يحق لهم الاستنكار بأنْ يكون أحدهم رسولاً!، ولا يحق لهم أنْ يجادلوا في عدد المرسلين، لأن البعث بالنبوة والرسالة محض تعبير عن إرادة الله المطلقة، فهو يصطفي من يشاء من عباده الأخيار الصالحين، لأنَّ في علمه الواسع، الذي أحاط بكل شيء، أنَّ هؤلاء الصفوة من البشر قادرون على تحمل أعباء الأمانة بصدق، وأنهم يستوفون شروط التكليف من الطهارة، وصفاء السريرة، وسماحة الخُلُق، والقدرة على حمل أعباء النبوة أو الرسالة. فالأمر، إذاً، ليس بيد البشر، بل الأمر لله تعالى وحده، و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعَام: 124] ولكنَّ قوم ثمود كانوا غير قادرين على استيعاب هذه الحقيقة، فثاروا في وجه الرسول المبعوث إليهم، يتهمونه بالكذب، والبطر، والافتراء بادعاء النبوة.. فتوعدهم عالم الغيب والشهادة بالعذاب على هذا الاتهام - إنْ أصروا عليه - كما توعَّدهم رسولُهُ بأنهم سوف يعلمون قريباً من هو الكذَّابُ الأشر، وحتماً لن يكون هو، هذا الرسول، لأنَّ الرسل لا يكذبون على الله ربهم، ولا يكذبون على الناس في دعواتهم إلى الحق..
وأمام عجزهم عن استيعاب الحجج التي ألقيت عليهم، والتي لم يستطيعوا البرهان على عكسها، تفتّقت أحلامهم عن طلب المعجزة، فقالوا لأخيهم النبيّ صالح (عليه السّلام): {مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [الشُّعَرَاء: 154] بأنك نبيٌ مرسلٌ من الله.. والآية أو المعجزة التي ظنوا أنَّه لن يقدر على أنْ يأتي بها، كانت في طلبهم، أنْ تخرج من بين الصخور، في الهضبة عند ديارهم، ناقةٌ عشراءُ وبراءُ، ويكونوا، هُم، عليها من الشاهدين..
ويشاء الله، وهو على كل شيءٍ قدير، أنْ يقيم عليهم الحجة والبيّنة، فأوحى إلى رسوله بأنَّ المعجزة التي طلبوها سوف تتحقق. ولكنَّ تلك الناقة ستكون فتنةً لهم، ومحنةً تحلّ بهم إنْ لم يقروا بصدقه، بعد إرسالها.. وإلى ذلك الوقت الذي يشاؤه الله، فسوف لا يتوقفون عن أذيته، وعن السخرية منه، وعليه هو أنْ يرتقب ويصبر على ذلك: {فَارْتَقِبْهُمْ واصْطَبِرْ *} [القَمَر: 27]، كما عليه أنْ يرقب ما سوف يصنعون بعد المعجزة، لأنهم لن يصدقوه، حتى ولو أرسلت لهم الناقة. فكان لا بدَّ له من الصَّبر على ما يلاقيه من عنتٍ وشدةٍ وتكذيبٍ، حتى يحين أمر الله، ويحكم بينه وبين قومه، وهو خيرُ الحاكمين.
وتحققت المعجزة - بإذن الله - وأرسلت الناقة.. فدعاهم النبيُّ صالح إلى تصديقه، فلم يفعلوا..
إذاً فقد حلَّ وقت الفتنة والابتلاء. فأوحى إليه ربُّه تعالى أنْ يجعلوا الماء قسمةً بينهم وبين الناقة، يَرِدُونَه يومهم، فلا تقربه الناقة، فيسقون، ويغتسلون، ويحملون منه ما يشاؤون، وترِدُهُ يومها، فلا يجورون عليها، بالاقتراب من الماء، أو صدّها عنه.. وفي ذلك قسمة عادلة، بأنْ يكون لهم شربُ يومٍ من الماء، ويكون لها شرب يوم معلوم، مقابل تحقق المعجزة!..
ولكن ماذا فعل قوم «ثمود»، بعدما رأوا تلك المعجزة بأم العين، ومثلـما طلبوها تماماً؟ إنهم لم يتأثروا بها، لأنهم جاحدون منكرون، ولم تبعث الإيمان في قلوبهم، لأنهم قساة كافرون.. وكانوا أكثر ظلماً لأنفسهم، عندما دبروا مكيدة لقتل الناقة، فاختاروا واحداً من أشرارهم يدعى «قداراً»، وأوكلوا إليه تلك المهمة الشنيعة، فذهب هذا الشرّير الغرّير وملأ جوفه بالخمرة، ثم قصد الناقة، واستلَّ سيفه وعقرها، ثم ذبحها، كما طلب منه عتاة القوم!..
ولكن كيف كان عذاب الله بعد ذلك العبث، بل والاستهتار بحكمه تعالى، وقد توعَّدهم بأشدّ العقاب إن خالفوا أمره؟ لقد أرسل عليهم ملائكة مأمورين، وقيل أَمَرَ جبريل الأمين (عليه السّلام) ففاجأهم بصيحةٍ واحدةٍ جعلتهم كـأوراق الأغصان والأشواك التي توضع حول الحظيرة لحماية الأنعام من دخول الوحوش المفترسة إليها، فإذا يبست وتساقطت، داستها بقوائمها، حتّى صارت هشيماً تذروه الرياح أنَّى ذهبت.. وتلك عاقبة «ثمودَ»، قوم صالح (عليه السّلام) ، إنْ كانت إلاَّ صيحة واحدة، فإذا هم خامدون، صرعى، محطَّمين كـهشيم الحظيرة التي تؤوى إليها الأنعام، وصدق الله العلي العظيم بقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ *} [القَمَر: 31][*].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *} [الشُّعَرَاء: 8]. إذ لم يؤمن من قبيلة «ثمودَ» إلا قليلٌ، هم الذين أنجاهم الله تعالى والنبيَّ صالح، من الهلاك..
5 - اتهام النبيّ شعيب بالسحر لأنه بشر مثل بني قومه
يقول اللَّهُ تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ *إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ *وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ *وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ *وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ *قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربي أعلم بما تعملون} [الشُّعَرَاء: 177-188].
لقد أرسل اللَّهُ تعالى إلى مدين أخاهم شعيباً (عليه السّلام)، يدعوهم إلى عبادة الله الذي لا إله إلاَّ هو؛ ويعِظهم بأنْ يتخلوا عن عاداتهم السيئة التي ورثوها، كـالغش والخداع في معاملاتهم، وتجاراتهم.. ويحذرهم من عاقبة الفساد الذي يظهر بأبشع الوجوه في الأرض من مثل القتل، والزنا، والربا.. أضف إلى ذلك الفسق والفجور، وغيرها من القبائح والجرائم التي يألفها الكفار، ويستمرئون الولوغ في موبقاتها، كما كان يفعل أهل «مدين».. فقد كانوا يقطنون على مقربةٍ من الأردن، وقد اتخذ أكثرهم وسيلةً للكسب عمل الأدلاَّء ، لإرشاد القوافل التجارية التي تعبر تلك المنطقة في رحلاتها ما بين بلاد الشام ومصر، أو باتجاه الحجاز واليمن، وهذا ما جعلهم، مع الوقت، يتحكّمون بانتقال تلك القوافل، وابتزازها لزيادة أجورهم..
وبعد أنْ راحوا يتعاطون التجارة لحسابهم، تحوّلوا إلى نمطٍ جديد من سوء المعاملة، كان أبشعها فاحشةً التلاعب بالكيل والميزان، وأنْ يبخسوا الناس أشياءهم وحقوقهم، عن طريق شراء البضائع بأقل من أثمانها الفعلية، وتعمد السرقة في البيع والشراء على حدٍّ سواء، فإذا اكتالوا على الناس يستوفون حقهم، ويزيدون في الكيل لصالحهم، وإذا كالوا أو وزنوا للناس ينقصون الكيل والميزان، فكانوا من المطففين الذين توعدهم الله تعالى بالعذاب[*].. ثم زادت أفعالهم الجرمية، فصاروا يقطعون الطرق، ويسطون على القوافل، ثم يسلبون أحمالها، بعد أنْ يقتلوا من يقتلون من رجالها - بدلاً من حمايتها - ولذلك كان تحذير أخيهم شعيب لهم {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ *} [الشُّعَرَاء: 183].. ولم تلاقِ دعوة النبي شعيب (عليه السّلام) أيَّ صدىً في نفوسهم، فكانوا أنْ رفضوها رفضاً قاطعاً، لأنها تنهى عن الفعال الشنيعة، والعادات الذميمة التي ألفوها عن آبائهم، وتلزمهم باتّباع الاستقامة، وعدم البغي على بعضهم البعض، وعلى الناس الذين يمرّون بجوارهم.. ولم تنفع معهم دعوته لاتقاء غضب الله تعالى، والعمل بطاعته كما يهديهم إليه، بل لجّوا في عتوٍّ ونفورٍ، وهم يستهزئون به، فيقولون: أصلاتك يا شعيب تأمرك بأنْ نتخلَّى عمَّا كان يعبد آباؤنا؟! أم إيمانك يحملك على نهينا بألاَّ نفعل بأموالنا ما نشاء؟!.. إنما أنت رجل مسحور، وما أنت إلاَّ بشر مثلنا، وإن نظنّك لمن الكاذبين في دعواك النبوة.. فأْتنا بالعذاب الذي تعدنا، ينزل علينا قطعاً من السماء، إنْ كنت من الصادقين بأنك مبعوث رسولاً إلينا!.
لقد كذبوه، واتهموه بالسحر، ولكنه ألقى عليهم التبعة على عاتقهم، فذكرهم بما أصاب الأقوام التي سبقتهم، بقوله الذي يبيّنه قول الحق تبارك وتعالى: {وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ *} [هُود: 89].. فقد كان تحذير النبيِّ شعيب لهم واضحاً وهو يقول لهم: يا قومِ! لا يُكسبنَّكم اختلافي معكم في الرأي الكراهيةَ، ولا تدفعنَّكم المعارضة لنصحي وإرشادي إلى البغضاء، فإنْ لم تطيعوني - بما لا أسألكم عليه أجراً وإنما حُباً بهدايتكم، ورحمةً من ربّكم - فإني أخاف أنْ يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوحٍ من الغرق بالطوفان، وقوم هودٍ من الإِهلاك بالريح العقيم، وقوم صالحٍ من الموت بالصيحة، وقوم لوطٍ من الفناء بتدمير قراهم على رؤوسهم. وتلك منازل قوم لوطٍ بقربكم، وهلاكهم ليس ببعيد في الزمن عنكم.. فإنَّ في عذاب تلكم الأقوام الذين سبقوكم عظاتٍ بيّنات، فلا يصيبنَّكم ما أصابهم من العذاب!. وعلى الرغم من كل ذلك التحذير والوعيد، فقد أبوا واستكبروا، فحلَّ بهم عذاب يوم الظلَّة، الذي أخبر عنه الله سبحانه وتعالى بقوله العزيز: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *} [الشُّعَرَاء: 189-190].
.. وكان عذاب «يوم الظُلّة»، كما ذهب المفسرون، عندما سلَّط الله تعالى عليهم أشعة الشمس، كـأنها النار المحرقة، ثم بعث من فوقهم سحابة كبيرةً، نشرت ظلاًّ واسعاً، ظنّوا فيه الخلاص، فأسرعوا يستظلّون تحتها من شدة الحرّ الذي لا يطاق؛ ولكنهم ما أن اجتمعوا حتى بدأت تتساقط عليهم من تلك السحابة قطع كبيرة من دخانٍ كثيفٍ - رجَّح بعضهم أن تكون قطعاً من نارٍ - لا يصل إلى أحدٍ إلاَّ وصرعه اختناقاً أو حرقاً، فعذاب يوم الظلّة تلك {كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [الشُّعَرَاء: 189].. وإنَّ في ذلك اليوم لآيةً تستدعي التأمُّلَ والتفكير، بما قد ينزل بكل قوم يكثر فيهم الكافرون على المؤمنين، مثلـما نزل بقوم شعيب {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *} [الشُّعَرَاء: 8]..
6 - استكبار فرعون وملئه عن الإيمان لبشرَيْنِ مثلهم.
يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ *إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ *فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ *فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ *} [المؤمنون: 45-48].
قصة موسى (عليه السّلام)، مع فرعون مصر قد ورد ذكرها في القرآن الكريم أكثر من قصة أيّ نبيٍّ آخر، ولكنّها أينما جاءت في السور، نجدها تصوّر حقيقة الدعوة للإِيمان بأن الله تعالى إلـه واحد في السماوات والأرض، وربٌّ واحدٌ لا شريك له في الملك.. إلا أنَّ فرعون وملأه كذَّبوا الدعوة وحاملها، ولم يقروا بما دعاهم إليه موسى وأخوه هارون (عليهما السّلام) من الهدى والحق، لا سيما وأنَّ فرعون الطاغية قد جعل نفسه ربّاً للناس، فكان - والعياذ بالله - يقول لهم: «أنا ربُّكم الأعلى»!! أو يقول لهم كما يبيّنه قول الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القَصَص: 38].
... لقد جاءه موسى (عليه السّلام) بالبيّنات الصادقة التي تدلُّ على أنه رسول الله، فلم يجد فرعون حيلةً إلا أن يوهم الناس بأنه ما جاء إلاَّ ليخرجهم من أرضهم بالسحر، ولذلك قال له: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى *} [طه: 57]، من أجل أنْ تستولي أنت وبنو إسرائيل على ملك مصر وحكمها؟ ولكن لا، لن ندعك تفعل هذا، {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوىً *} [طه: 58] فنحن قادرون على أنْ نأتينّك بسحرٍ مثل سحرك، بل ويفوقه، ولنبيّننَّ للناس مدى هوانك علينا، وعدم قدرتك على مجاراة سحرتنا، فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن، ولا تخلفه أنت، وليكن في مكان تستوي فيه الرؤية للناس جميعاً، ليروا عندئذٍ كذب ادعائك النبوة، وضعف سحرك الذي لا يجدي..
وهذا ما يوحي بأنَّ فرعونَ كان مشوشاً في نفسه، خائفاً من حقيقة ما جاء به موسى (عليه السّلام).. ويظهر ذلك من خلال التفاوض الذي أجراه معه، وترك الأمر له بأنْ يعيّن زمان ومكان الاجتماع الذي تجري فيه مباراة السحر. كما يدل ذلك على أنه، ومنذ القدم، كان هنالك مباحثات تجري حول القضايا الهامة؛ وأنها كانت في بعض الأحيان، تحصل في اجتماعات عامة تعقد في زمانٍ ومكانٍ يتم تحديدهما والاتفاق عليهما من قبل الأفرقاء المتنازعة..
ولم يكن لتلك المباحثات التي جرت ما بين موسى (عليه السّلام) وفرعون وجهها الدينيّ فقط، بل كان لها كذلك وجهها السياسيّ بما له من تأثير على بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون تحت سلطة فرعون، الذي كان يذلهم بشتى أنواع الإذلال، ويستعبدهم بكل ألوان الاستعباد خوفاً على ملكه من تكاثرهم وغلبتهم، وهذا هو شأن الظالمين والطغاة الذين يكونون في سدّة الحكم.. فهم لا يتحرَّجون - عادةً - من فعل أي شيءٍ للاحتفاظ بالسلطة، ولو أدّى ذلك إلى ارتكاب أشدّ الجرائم وحشية، وأشنعها بربرية بحق البشر والإِنسانية.. تماماً كما كان فرعون يفعل في محاولاته الإجرامية لاستئصال بني إسرائيل من الوجود، وذلك بقتل مواليدهم الذكور، واستبقاء إناثهم أحياءً، وتسخير آبائهم وأمهاتهم في الشاقّ والمهلك من الأعمال، حتى جعلهم عبيداً له ولبني قومه..
فلما أنْ جاءه موسى وأخوه هارون (عليهما السّلام) بالبيّنات من ربهما، وسألاه أنْ يرسل معهما بني إسرائيل، ولا يعذبهم، قال فرعون لموسى: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى؟ وهذا يعني بنظره أنَّ إطلاق بني إسرائيل من العبودية، هو تمهيد للاستيلاء على الحكم والأرض في مصر.. ولذلك فإنه لمَّا جمع السحرة، كان جلُّ اهتمامه، هو وبطانته، منصباً على إيهامهم بأنَّ موسى وهارون إنّما يريدان حكم مصر وإخراجهم من أرضهم، كما يبيّنه قول الله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى *} [طه: 63].
وكان ما كان من اجتماع فرعون بالسحرة، وتشدّده عليهم لكي يأتوا بكل أنواع السحر التي تمكّنهم من الغلبة على موسى.. ووجدها السحرة فرصةً مواتية للكسب الكبير، فسألوا فرعون أنْ يجزيهم أجوراً عالية، لأنه سوف يرى ما يُرضيه!! فوعدهم بجزيل العطاء، وبعلوّ المنزلة والتكريم عنده!. ولكن ماذا حصل في الحقيقة؟ لقد رأى السحرة آية الله الكبرى التي ظهرت لهم بتحويل العصا الجامدة، التي ألقاها موسى، إلى ثعبانٍٍ حيٍّ يلقف حبالهم التي جعلوا الناس يظنونها حياتٍ تتلوى أمام أنظارهم من قوة السحر. ولكنَّ السحر لا يمكن - مهما كان قوياً وشديداً - أن يحوِّل الجوامد إلى كائنات حية.. أما وإنْ حصل في دنيا الأرض، فلا يكون إلا بمشيئة الله القادر المقتدر، كما في أمره الجلل الذي حوَّل عصا موسى الخشبية إلى حيةٍ حقيقيّةٍ تبتلع الحبال التي رماها السحرة، فآمنوا، وهم يرون المعجزة الخارقة، وسجدوا لربّ العالمين. أما فرعون والملأُ من قومه، فأصرّوا على كفرهم ولم ينفع معهم ذلك البرهانُ الربانيُّ، لأنهم كانوا من الطغاة الذين يستمرئون حكم الناس بالظلم والجبروت!.. وكان ذلك ظاهراً باستكبارهم وتعاليهم، وبالسلطان والقوة، والثراء والبذخ، وسائر المظاهر المادية التي يتعالى بها الناس على بعضهم بعضاً!. ويبيّن النص القرآني جانباً من استكبار فرعون وملئِهِ إذ قالوا: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ *} [المؤمنون: 47]؛ فهم يستكبرون أنْ يؤمنوا لبشرين مثلهم، وأنْ يكونا رسولين من الله، لأنهم ينكرون أصلاً حقيقة وجود الله تعالى، وألوهيته المطلقة!.. ثم كيف يؤمنون لرجلين من بني إسرائيل، وهم قوم عبيدٌ عندهم، يستخدمونهم بزراعة الأرض، وجمع الغلال، وفي المشاغل والمصانع، ويسخّرونهم بشتى أنواع التسخير لخدمة مصالحهم.. ثم لا يعاملونهم إلاَّ بالإِذلال، والقهر، والتعذيب والقتل، وكل ما يؤدي إلى هدر كرامة الإنسان، وحقه في الحياة!.. فكانت مشيئة الله تعالى، أن ينجي بني إسرائيل من ذلك العذاب، لأنهم وحدهم كانوا الجماعة المؤمنة في مصر، ويسيرون على ملّة آل يعقوب، فكان أنْ بعث سبحانه رسولين منهم إلى الطاغية فرعون، علَّه يرعوي عن طغيانه واستبداده، ويخلّي سبيل بني إسرائيل، فيخرجوا من مصر!.. ولكنَّ القوم الكافرين كذَّبوا الرسولين، ولم يؤمنوا لهما بشيء، فحقَّ عليهم العقاب، فكانوا من المهلكين!..
وقد ذكر الله تعالى كيف انتقم منهم بإغراقهم أجمعين، وذلك بقوله العزيز: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ *فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ *} [الزّخرُف: 55-56].
وتلك كانت نهاية المطاف لذلك الظالم، الطاغية فرعون، ولملئه الذين اتبعوه على الضلال. فقد استطاع موسى (عليه السّلام) أنْ يخرج بني قومه من مصر في جوف الليل.. ولكنْ سرعان ما وصل الخبر إلى فرعون، فأعلن من فوره النفير العام، ثمَّ جمع جنوده من كل أنحاء البلاد، وركب على رأس جيشه للّحاق ببني إسرائيل، وإبادتهم على بكرة أبيهم. ولكنَّ الله تعالى أهلكه وجنوده جميعاً بإغراقهم في اليم. وهذا ما يوجزه القرآن المبين في الآيتين (55 و56 من سورة الزخرف) بإعجاز رائع في أداء التعبير ودلالة المعنى. أما قوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزّخرُف: 55]، فمعناه: فلمَّا أغضبونا، ولكنَّ هذا الغضب الذي ينسبه تعالى إلى نفسه، إنما هو في الحقيقة تدليل على غضب موسى وأخيه هارون (عليهما السّلام)، لأنه لا يمكن لمخلوق أنْ يغضب ربَّ العزة والجلال، وإنْ كان للمخلوق قدرةٌ على أنْ يغضب مخلوقاً مثله؛ ومن قبيل ذلك أنَّ إصرار الكافرين على كفرهم، والمشركين على شركهم كان يغضب - على الدوام - أنبياء الله، ورسله، وأولياءه الصالحين. وهذا الغضب كان يتبدَّى بانتقام جبار السماوات والأرض من أعدائه وأعداء رسله، وانتقامه سبحانه وتعالى لا يكون إلاَّ لأجل الحق، ولأجل أوليائه الصالحين، لأن في رضاهم ما يرضي الله، وفي غضبهم ما يغضب الله تعالى، فلما كان ذلك الغضب من موسى وهارون (عليهما السّلام)، كان الانتقام من الله تعالى بإهلاك فرعون وجنوده، فأغرقهم أجمعين. ثم جعل سبحانه هذا الهلاك، وبالطريقة التي يصفها القرآن، عندما انفلق البحر فكان كل فرقٍ كـالطود العظيم، عبرةً للآخرين من الناس أجمعين، ومثلاً لكل من يقفون على خبرهم، علَّ في ذلك ما يردعهم عن غيهم، فلا يفعلون مثل فعالهم..
7 - مَثَلُ أصحاب القرية التي جاءها المرسلون
قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون * وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون} [يس: 13-30].
في مطلع هذه الآيات خطابٌ من الله تعالى لرسوله محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأن يضرب لكفار مكة - وللناس كافة - مثلاً عن أهل القرية - وقيل هي أنطاكية - إذ جاءها المرسلون بدعوة الإِيمان، وترك الكفر.. فقد أُوحي إلى عيسى ابن مريم (عليه السّلام) أن يبعث إلى تلك القرية اثنين من أنصاره الحواريين؛ ولكنَّ أهلها كذّبوهما؛ فعزَّزهما الوحيُ من اللّهِ تعالى برسولٍ ثالث، يشدّ أزرهما ويقوِّي موقفهما، فاجتمع الثلاثة على تبيان الدعوة التي أرسلوا بها، لصلاح أهل تلك القرية، علّهم يهتدون إلى الإيمان بعقيدة التوحيد، وينبذون الكفر والشرك، فيأتيهم الانعتاق من سيئات ما يحيط بهم!..
ولم يصدقهم أهل القرية بأنهم إليهم مرسلون، فقالوا: ما أنتم إلاَّ بشر مثلنا، والمرسلون ليسوا من البشر، وما أنزل الرحمان من شيءٍ مما تدعوننا إليه، إنْ أنتم إلاَّ تكذبون، فيما تزعمون من حمل الرسالة، والدعوة إلى الله..
ويبدو أنَّ اعتقاد أهل أنطاكية بعدم صلاحية البشر لحمل الرسالات السماوية، كان كـاعتقاد غيرهم من الأقوام الماضين، وذلك للجهل بأنَّ اختيار الرسل من البشر إنَّما أمرٌ ربانيٌّ كي لا تلتبس على الناس الأمور؛ إذ لو كان الرسل من الملائكة لوجب أن يبعثوا على صورة البشر، فيحصل الالتباس، ثم إنَّ الرسالة السماوية عندما يحملها أحدٌ من البشر فإن ذلك يكون أدعى لتأثيرها في النفوس، وأجدى في إيصال آياتها ومفاهيمها إلى العقول والقلوب، لأنَّ المبعوثين أدرى بأحوال الناس أمثالهم، وبطرق تفكيرهم، وسبل معايشهم من الملائكة، الذين لا يعملون إلاَّ بما يؤمرون..
وردَّ المرسلون على أهل أنطاكية قائلين: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ *وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ *} [يس: 16-17]، وإنَّا لصادقون بما نبّلغكم عن لسان عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم (عليه السّلام) من الآيات التي تحمل الأدلة والبراهين على صدق وأحقية التعاليم التي يبشّر بها، ويدعو إليها. فإن اهتديتم فذلك خير لكم، وفيه صلاحكم في الدنيا والآخرة..
قال أهل القرية: إنَّا تشاءمنا بكم، فالمطر انحبس عنّا، وعمَّ الجفاف ديارنا، فلم يعد عندنا زروع تنمو، ولا مواشٍ ترعى وتحلب، بل واختلطت علينا أمور حياتنا كلها منذ مجيئكم، لئن لم تنتهوا عن دعوتكم، لنرجمنَّكم وليصيبَّنكم منّا عذاب أليم.
قال المرسلون: إنما شؤمكم، وتطيّركم معكم، ويلازمكم لأنكم قوم كافرون، وما انحباس المطر إلاَّ آية من أمر الله، علَّها تبعث فيكم التفكير على أنه هو القادر على إنزال المطر، وإحياء الأرض بعد موتها، وإلاَّ فمن يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته، ومن ينشر السحاب في السماء فيجعله كسفاً، فيخرج الودق من خلاله؟!.. فهل إلاَّ الله الذي لا إله إلاَّ هو، ووحده القادر على ذلك؟ فهو سبحانه وتعالى الحق المبين، ومنه الخير، والبركة والرزق، ومنه الرحمة، والعفو والمغفرة.. أما الشؤم الذي تنسبونه إلينا فلا شيء منه يصاحب رسل الله، بل تتوهمه النفوس الكافرة التي لا تريد الاهتداء إلى الحق المبين.. ثم ما بالكم أإذا دُعيتهم لعبادة الله، وذُكِّرتم بفضله وإنعامه على عباده، تتهموننا بالكذب والشؤم؟!.. بل أنتم قوم مسرفون في الشرك، والعبادة لغير الله تعالى، وهو الذي يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم..
وثابر الكافرون على تكذيب المرسلين وتهديدهم، ودفَعَهم كيدهم لإنزال السوء بأولئك المرسلين.. فجاء أحد أبناء مدينتهم، ويدعى حبيب النجار، كان يقيم في طرفٍ بعيد من أطراف المدينة، يسعى مسرعاً إلى حيث تجمهر الناس في موجةٍ عارمةٍ من الغضب، ليعلن أمامَ الجماهير، إيمانَهُ بالله تعالى، ثم يقول: يا قوم، اتبعوا هؤلاء المرسلين، الذين يهدون للحق اليقين. اتبعوا من لا يسألونكم أجراً على هدايتكم، وهم مهتدون.. يا قوم! قد تعلمون أنَّ ولدي قد أصيب بالجذام، وقد بذلت في شفائه للأطباء والعرافين أموالاً طائلة من غير نفع جاؤوني به، ويشاء الله ربُّ العالمين أنْ يأتيني هؤلاء المرسلون، وأنْ ينكبّوا على معالجة ابني، فيشفى بإذن الله من الجذام. وقد حاولت جاهداً أن أعطيهم أجرَ ما فعلوا، فردّوا عطائي بالمعروف، ودعوني إلى الإيمان بـالله، والاهتداء إلى دينه القويم، فآمنت بالله إلهاً واحداً، عزيزاً مقتدراً؛ فاقبلوا نصحي، واتبعوا هؤلاء المرسلين.
وحاجّوه في أمره، منكرين عليه التخلِّيَ عن عبادة آلهتهم، والركون إلى عبادة الله!..
فقال لهم: وما لِيَ لا أعبد الذي خلقني، وأنعم عليَّ فهداني.. وقد كنتم أمواتاً، فأحياكم، ثم يميتكم، ثم إليه ترجعون بعد الموت.. أأتخذ من دون الله آلهةً من الأصنام أو الأوثان، إنْ يُردني الرحمنُ بضرٍّ، فلا تستطيع تلك الآلهة المزعومة أنْ تشفع لي عنده، لأنه لا شفاعة لها، وهي أحقر وأذلُّ من أنْ يكون لها شفاعة عند ربّ العالمين، أو أن يكون لديها قدرة على الإنقاذ عند الشدَّة.. فإن لم يكن لهذه الأصنام شأن يذكر، أأتخذها آلهة موهومة من دون الله، ولئن فعلت، إني إذاً لفي ضلالٍ مبين. ولكن ولله الحمد ظهر لي الحق من الباطل، فاتّبعت ما أنقذني من الكفر والضلال.. إني آمنت بالله بربّكم، فاسمعوني وأطيعوني في دعوتي، لعلَّ خلاصكم يكون فيها، ويكتب لكم النجاة والفوز!.. وكانت نهاية الرجل المؤمن، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى للذود عن رسل الله، أنْ رجمه الكفار بالحجارة (كما ورد في بعض التفسيرات) فخرَّ مضرَّجاً بدمائه، وقضى شهيداً لإيمانه، ودفاعه عن الحق..
والقرآن الكريم لا ينبيء شيئاً عن حال أولئك المرسلين إلى أنطاكية، وهل كان مصيرهم القتل.. ولكن يفهم من السياق أنَّ أهل تلك القرية قد رجموهم وعذَّبوهم كما توعدوهم من قبل.. وكذلك لم يُخبر القرآن عن الكيفية التي قتل بها المؤمن، بل ينقلنا نقلةً سريعة توحي بأنه توفي، وأنه حُمل على أجنحةِ الملائكة إلى السماء، الذين بشِّروه بالجنة «قيل ادخل الجنة»، هذا ما وعد اللَّهُ عباده الشهداء، على ما عاهدوا الله عليه من صدق الإيمان، والوفاء بعهده تعالى.. ثم نتبيّن مقدار الفوز العظيم الذي ناله ذلك المؤمن بوعد الله دخوله الجنة إذ يخبر القرآنُ عنه أنه قال: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ *} [يس: 26-27]، من الصالحين الذين يستشهدون في سبيل الله، ونصرة دينه ورُسله.. فأي ثواب أعظم من مغفرة الله، وأي جزاء أوفى من مكرمته لعبده، بل وأي فوز أعظم من دخول الجنة؟ ولهذا فليعمل العاملون.
ومن الحقائق الأساسية التي يبيّنها لنا القرآن الكريم في هذه الآيات الكريمة، أنَّ الحياة الدنيا غير منفصلة عن الآخرة، بل هي تتصل بها في كل شيء يخص الإنسان، وأنَّ الموت ليس إلاَّ خطوة فاصلة تنقل المؤمن من ضيق الأرض إلى رحاب السماء، ومن ظلمات الجهل إلى نور اليقين، ومن جور الباطل إلى طمأنينة الحق. أما الأثر المباشر، والأهم للموت فهو أنه ينقل الإنسان من عالم الفناء إلى عالم البقاء، حيث لا موت ولا فناء، بل خلود وحياة أبدية سرمدية: إما في النار، وإما في الجنة.. وما جزاء الإيمان الصادق، والاستشهاد في سبيل الله تعالى إلا الفوز العظيم في الجنة. وهذا حق اليقين مثلُ ما أنَّ الناس ينطقون. فلا يتوهمنَّ أحدٌ أنه لا قيامة، ولا دينونة!.. ولا يظننَّ أحد بأنَّ له فضلاً عند ربّه تعالى، من كفر فعليه كفره، ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون.. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الحياة الدنيا، هم الذين يمنُّ الله عليهم بالفضل العظيم من الأجر والثواب، يوم الحساب. ولولا مغفرة الله عزَّ وجلَّ ورحمته التي وسعت كل شيء، لما كان حتى لهؤلاء المؤمنين من فوز، لأنَّ الإنسان - بطبيعته - قد يخطىء ويصيب، وقد يسيء ويحسن، ولكن ما يتميز به المؤمنون عن غيرهم، بأنَّ كفة حسناتهم ترجح على كفة سيئاتهم، فتشملهم رحمة الله، الذي يبدِّل سيئاتهم حسنات، إلاَّ من شاءً الله تعالى أن يدخله الجنة بغير حساب، ومن هؤلاء الشهداء الأبرار الذين قتلوا في سبيل الله؛ ولذلك كان قتل حبيب النجار، المؤمن من أصحاب القرية التي جاءها المرسلون، الفاصلَ الذي نقله سريعاً من دار الدنيا إلى رحاب الوعد بالجنة، لأنه استشهد دفاعاً عن الحق، وقال كلمة الحق، من غير أنْ يخاف في الله لومة لائم. ومن شدة فرحه بما آتاه ربُّه من الرضى والكرامة، يتمنى لو يعلم قومُهُ بما غفر له ربُهُ، وجعله من المكرمين..
وما أنزل الله على قومه من بعد موته، ملائكةً من السماء (من جندٍ) يسومونهم سوء العذاب، وما كان جلت عظمته ليُنزلَ مثل هؤلاء الملائكة ليهلك الناسَ وهو اللطيف الخبير، أو ليروِّع أهل الأرض بجندٍ من السماء لا قبل لهم بملاقاتهم، إلاَّ أنْ يشاء نصرة جنده من عباده المؤمنين، الذين يدافعون عن الحق في مختلف وجوهه، فهؤلاء يمدهم الله تعالى بجنود لا يعلمها غيره سبحانه وتعالى، وحكم هذا الإمداد أنْ يهلك القوم المجرمين.. تماماً كما حدث لأهل تلك القرية التي كذبت المرسلين، {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ *} [يس: 29].. فقد أمر الله العزيز الجبّارُ جبريل (عليه السّلام) بتلك الصيحة فأخمدت أنفاسهم، فماتوا وهم كافرون..
.. فيا حسرة على العباد، كيف يتيهون وراء الباطل، وينسون بأنَّ الله هو العليّ القدير، ولولا كلمة منه بتأخير العذاب إلى يوم الحساب لما أبقى على هذه الأرض ديَّاراً.. فالعباد ضعاف في الحقيقة، بل وهم في منتهى الضعف، لأنَّ الصيحة الواحدة - بأمر الله - ترديهم صرعى، وتُنزل بهم الموت الزؤام!. ولم يفصِّل القرآن خبرَ هلاك أهل أنطاكية تحقيراً لشأنهم، وتصغيراً لقدرهم، ولكن كان مصيرهم مثل مصير أمم غابرة عديدة، وأقوامٍ كثيرين ممن سبقوهم من الأولين، كانوا مثلهم ما يأتيهم من نبيّ إلا كانوا به يستهزئون، فأهلكهم الله تعالى، وأهلك أشدَّ منهم بطشاً وطغياناً. ومضى هلاكهم مثلاً في الزمان على كل من يكذِّب رسل الله، ويتصدّى لدعوات الحق التي يحملونها للعباد، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ *وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ *} [الزّخرُف: 6-8].
وهنا نجد أنَّ النصوص الكريمة توحي، أيضاً، بأنه ما من عصر أو زمانٍ إلاَّ وبعث الله نبيّاً أو رسولاً يدعو بني قومه إلى اعتناق عقيدة التوحيد، والاحتكام إلى شرع الله تعالى.. ولكنَّ الأقوام كانوا يكذّبون بآيات الله، إمَّا بسبب الجهل الذي يسيطر على عقولهم وأفئدتهم، وإمَّا بسبب الاستكبار والعناد في قبول الحق من ربّهم تعالى، فكان حكم الله العزيز على تلك الأقوام من السابقين المكذّبين بقوله تعالى: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا *} [الفُرقان: 39]، وكُلاً من أولئك الأقوام ضربنا له الأمثالَ لإقامة الحجة عليهم، ولم نهلكهم إلاَّ بعد الإنذار، وكان إهلاكنا إهلاكاً شاملاً لكل قومٍ إلاَّ الذين آمنوا واتبعوا المرسلين.. فكان بيان مصائر الأولين المكذبين - في هذه النصوص، وغيرها - عبرةً للناس عامةً، وموعظةً لأهل مكة، ومن تبعهم من عرب الجاهلية، لئلاّ يكذبوا النبيَّ المبعوث فيهم، وألاَّ يستهزئوا به، وإلاَّ حاق بهم ما حاق بالأقوام من قبل، وقد كانوا أشدَّ منهم قوةً وبأساً، وأكثر مالاً ومنعةً..
ويمكن أن نستشفَّ من هذه الآيات المبينة، وما فيها من المثل، سنةً كونيةً تـرد القوى جميعـاً لله العلي القدير، فـلا يغتَرنَّ بعدها أهل الأرض بقـوةٍ أو بأسٍ، ولا يعتدُنَّ بسلطانٍ أو حصانة، وألاَّ يقولوا هذه دولة عظمى، وهـذه دولـة نـووية!..إذ كم من فئـة قليلةٍ غلبت فئـة كثيرة بإذن الله، فالعاقبة الحسنة - في الحقيقة - ليست للقوة، ولاسيما إذا كانت هـذه القـوة ظالمةً وغاشـمة، بل بما تلتزم بـه هـذه الـدولـة أو تلك من قواعد العدل والإنصاف، ومن مقومات الحق والفضيلة، وبما يتحلى به هذا المرء أو غيره من إيمان صادق، وسلوك حسن وعملٍ صالح.. وما عدا ذلك، سواء على مستوى الأفراد، أو الجماعات أو الدول، فهو هراء، واستخفاف من العباد بما ينتظرهم يوم الحساب..
8 - للذين ظلموا ذَنوبٌ مثل ذَنوب أصحابهم.
يقول الله وتعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونَ *} [الذّاريَات: 59].
من الثابت في تاريخ الدعوة الإسلامية، ولاسيما في مراحلها الأولى، أنَّ قوى المشركين من أهل مكة، ومن تبعهم من الأحزاب من قبائل الأعراب، واليهود من أهل الكتاب، قد تضافرت في إعلان حرب همجية على النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وأصحابه، استخدموا فيها كل أفانين السياسة، والدعاية، ووسائل القتال، في محاولات يائسة للقضاء على الدعوة التي جاء بها محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) من ربّ العالمين، لأنَّ هدفهم كان البقاء على الشرك، وأنماط العيش، ولاسيما تلك العادات الجاهلية السيئة التي كانت، في كثير منها، تحط من كرامة الإنسان، وكأنه لم يخلق إلاَّ عبداً للأهواء والشهوات.. وهذا ما يجعل وصف «الظالمين» ينطبق على أولئك جميعاً، لأنهم كانوا من أهل الكفر والشرك.. فاليهود كفروا بدين «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، مع أنهم من أهل الكتاب، وأعلنوا للمشركين صراحةً أنَّ عبادتهم للأصنام أفضل من الدين الذي يدعو إليه «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)!.. والمشركون من جانبهم، كانوا يتعبدون للأصنام والأوثان، فالتقوا جميعاً - اليهود والمشركون - على الكفر والشرك، وهو العامل الأساسي الذي دفعهم إلى التحزُّب ضد النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ودعوته لاعتناق عقيدة التوحيد.. ووفقاً لأحكام القرآن المجيد ليس أكثر ظلماً في الحياة من أهل الكفر والشرك، فما من شيء محرّم في عرف هؤلاء، إذا رأوا فيه ما يخدم مصالحهم، وأغراضهم الدنيوية.. لذلك كانت أعمالهم كلُّها، في شرع الله، ظلماً بظلم، وما يؤدي إليه الظلم - عادة - من الجرائم والمفاسد، التي هي محل للذنوب التي تتراكم في أعناق الظالمين.. وهذا ما يبيّنه النص القرآني عندما يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذّاريَات: 59]، أي فإن لهؤلاء الظالمين من مشركي قريش والأحزاب معهم، ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم في الكفر والشرك من الأمم قبلهم، وقد أهلكهم الله تعالى بذنوبهم، فلا يستعجل الذين يتصدون لدعوة النبي محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) هذا الهلاك، لو كانوا يعلمون عواقبه الوخيمة، فهم سوف ينالون - إن لم يكن في هذه العاجلة - نصيبهم من العذاب غير منقوص في الآخرة، وإنْ بدا أنهم مستأخرون بأمر الله لآجالهم.. فالأجل آتٍ، ولا ريب، ويوم القيامة لن يُتركوا سدىً، وسيجزي الله تعالى الظالمين، يومئذٍ، بظلمهم، وبمقدار ما ارتكب كل ظالم من جرائم، وفسادٍ في الأرض. والتعبير القرآني {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذّاريَات: 59] يوحي بأنَّ الظالمين هم صحبةٌ، كأنهم يُرون متلازمين مع بعضهم لارتكاب جرائم الظلم، إلى أي زمان انتموا.. وهذا فضلاً عن صحبة بعضهم بعضاً في نفس المصير الذي سيؤولون إليه في الآخرة.. فقد عبرت عصور وعصور بين الزمان الذي عاش فيه طغاة قريش والأحزاب معهم في شبه جزيرة العرب، والأزمنة التي عاش فيها الظالمون من قبلهم، ومع ذلك فإنَّ القرآن المبين يسميهم {أَصْحَابِهِمْ} [الذّاريَات: 59] لأنهم جميعاً من نفس الطينة الظالمة الطاغية!..
9 - عدم اعتبار المكذبين بالمَثُلات التي خلت من قبلهم
يقول الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الرّعد: 6].
تبدأ سورة الرعد بالتأكيد على أَنَّ الآيات في هذه السورة، وأنَّ القرآن جميعَهُ، قد أُنزل على النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) وهو الحق من ربّه تبارك وتعالى، ولكنَّ أكثر الناس لا يؤمنون بأنه من عند الله تعالى، الذي خلق السماوات بغير عمد يرونها؛ وأنه سبحانه استوى على العرش، وسخَّر الشمس والقمر، كل يجري في فلكه وفق تقدير العزيز الحكيم لما فيه صالح العباد؛ وأنه تعالى هو الذي بسط الأرض وأرسى فيها الجبال، وأجرى الأنهار، وجعل من كل الثمرات فيها زوجين اثنين لتمدَّ الناس بالخيرات والأرزاق الوفيرة التي تمكِّن لهم من العيش والبقاء أحياء؛ وأنه هو الذي خلق الليل والنهار، يتعاقبان بأمره ليسكن الناس ويخلدوا إلى الراحة في الليل، ويكدّوا في النهار وراء معايشهم وغاياتهم؛ وأنه هو الذي جعل في الأرض بقاعاً طيبة، فتنبت الزروع والثمار الطيبة، وبقاعاً تلاصقها وتجاورها، قليلة الريع فلا تنبت زرعاً، ولا تعطي خيراً...
وإنَّ في ذلك الخَلْق الكبير لآياتٍ وبراهينَ لقوم يعقلون، فيدركون عظمة الخالق، وأنه على كل شيء قدير. فإن لم يعقلوا فذلك غريب ومستهجن. وأعجب منه إنكارهم قدرة الله تعالى على البعث وإعادة إحيائهم من جديد، كما يتبيّن ذلك، في الخطاب للنبيّ من ربّه الحكيم، بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [الرّعد: 5]، إذْ على الرغم مما في السماوات والأرض من الآيات التي تدل بنفسها على قدرة الله العليّ الكبير، في الخلق والتدبير، فإنه من العجب أنْ ينكروا البعث، وألاَّ يصدقوا بأن الله الذي خلق ذلك الخلق، قادر على إحيائهم من جديد، بعد أنْ يكونوا تراباً، وإعادتهم بشراً كما كانوا من قبل في الحياة الدنيا. والذين لا يؤمنون بأنهم سوف يبعثون في خلق جديد، أولئك الذين كفروا بربّهم، وأولئك الأغلال في أعناقهم، يجرُّون بها إلى النار، وهم فيها خالدون.
ويبدو أنَّ الكفار والمشركين كانوا يسخرون، ويهزأون مما يتوعدهم به الذكر الحكيم من ذلك العذاب، فكانوا يقولون للنبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): إنْ كان ما تعدنا به يا «محمد» حقاً، فأنزل علينا كسفاً من السماء يكون فيها هلاكنا، وبعثنا في خلق جديد!..
أجل، بمثل هذا الهزء كانوا يستعجلون النبيّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بالعذاب «ويستعجلونك بالسيئة».. من غير أن يعتبروا «بالمثلات»، أي بعقوبات أمثالهم من المكذبين الذين خلوا من قبلهم، والتي تنزَّل بها الوحي على النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)، ليتلوها على مسامع الناس، مع ما تحمل من البراهين والأدلة، لعلَّها تكون عبراً وعظات تردهم عن غيِّهم وضلالهم. ولكنَّ المكذبين بآيات الله وقرآنه، لم ينفع معهم الوعيد، ولا الوعظ، بل لجّوا في عتوِّهم وظلمهم.. وعلى الرغم من ذلك فإن ربَّك - يا محَّمدُ - لذو مغفرة للناس على ظلمهم، ولولا رحمته بالناس لما ترك على ظهرها من دابةٍ، فهو سبحانه قابل التوب، غافر الذنب لمن أطاعوه، وهو سبحانه شديد العقاب لمن عصوه...
وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [الرّعد: 6] - الآية - قال النبيُّ (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) : «لَوْلاَ عَفْوُ اللَّهِ وتجاوُزُهُ لَمَا هَنَّأَ أحداً العيشَ، ولولا وعيدُهُ وعقابُهُ لاتَّكَلَ كلُّ واحدٍ على عَفْوِهِ ومَغْفِرَتِهِ» [*] وقال (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «لَوْ يَعْلَمِ الناسُ قَدْرَ رحمَة اللَّهِ وعفوِهِ وتجاوزِهِ عَنْ ظلمِهِمْ لأنفُسِهِمْ، لقرَّتْ أعينُهُمْ، وَلَوْ يَعْلَم النَّاسُ قَدْرَ عذابَ اللَّهِ وبَأْسِهِ ونِكَالِهِ وَنَقْمَتِهِ، ما رَقَأَ لَهُمْ دَمْعٌ، وَلاَ قَرَّتْ لَهُمْ عَيْنٌ» [*]. على أنَّ ما يلفت إليه القرآن الكريم هو أنَّ المكذبين لا يكتفون بأحابيل أكاذيبهم في الحياة الدنيا، بل ويخدعهم الضلالُ الذي لا يفارق نفوسهم، حتى بعد مماتهم، لأن يفتعلوا الكذب على ربّ العزة والجلال، فيحلفون له يوم البعث والحساب، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، على أنهم مؤمنون، ويحسبون أنَّ حلفهم يومئذٍ قد ينفعهم في شيء، ولكنَّ السميع العليم يبيّن في قرآنه الكريم أنهم، ومهما حلفوا، هُمُ الكاذبون، وذلك بقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ *} [المجَادلة: 18].
10 - نار جهنم ترمي المكذبين بشرر كـالقصر
يقول الله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ *لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ *إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ *كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *} [المُرسَلات: 29-34].
وهذا تبيان لما يقوله الملائكة المأمورون للمكذبين، يوم الحساب، ومؤدّاه: هيا انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون به من عذاب النار، فاليوم تجدونها حقاً يقيناً، وترِدُونها عذاباً أليماً {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا *} [مَريَم: 71].
وبما أنَّ الانطلاق يعني، لغةً، العدو من مكان إلى آخر من غير مكث أو وقف، فيكون المعنى أنَّ الملائكة يدُعُّون الكفار إلى جهنّم دعّاً، ويزجرونهم زجراً للإسراع إلى مصيرهم المحتوم، في نار جهنم التي يتلظى سعيرها، فيتصاعد منها الدخان الكثيف حتى يصير ظلاً داكناً ذا ثلاث شعب، وذلك كناية عن الاتجاهات من أمامهم، وعن يمينهم وشمالهم، لأنهم خلَّفوا الجهة التي كانوا فيها من ورائهم (وهي مكان الحساب) فلا يعودون إليها.. فهم كيفما التفتوا يرون ظلالاً داكنة، ولكنها ليست من الظلال التي ألفوها في الحياة الدنيا، والتي يلجأ الناس للتبرّد تحتها من وهج الشمس وشدة الحرّ، بل إنها ظلال من دخان متراكم بعضه فوق بعض، يتصاعد من نار جهنم، ولا يغني أو يردُّ عنهم شيئاً من اللهب المنبعث منها؛ وتلك النار التي تتلظى من الغيظ، غضباً على المسوقين إليها، ترميهم قبل وصولهم بشرر، كل شرارة كـالقصر الكبير في بنائه وارتفاعه.. وفي وصف ذلك المشهد العظيم، لا تكتفي النصوص القرآنية بتبيان حجم الشرر الذي تقذف به نارُ جهنم، بل تمثّل عليه بصورة حسيَّة أخرى إذ لا يكون لونه أصفر وهاجاً مثل لون الشرر، عادة، بل يشبه، لاختلاطه بالدخان الأسود المتصاعد، لون الجمال السود التي كانت العرب تسميها «صفرا»، لشوب سواد جلودها بصفرة؛ وتلك النار في الآخرة، هي مستقر المكذبين بآيات القرآن، والمنكرين للبعث والحساب.. ولو أنَّ هؤلاء وضعوا في تصورهم، أقلَّ احتمال ممكن لوجود بعث، يعقبه عذاب في نار جهنَّم، لأدركوا ما ينتظرهم، وهم يشاهدون هذه الحرائق التي تشبُّ أحياناً في الأبنية، أو الغابات، أو المنشآت النفطية، كيف يتصاعد منها الدخان الكثيف الأسود، وكيف ترتفع منها ألسنة اللهب الحارق، وما تؤدي إليه من زهق في الأرواح، والقضاء على الكائنات... فلو تأملوا في ذلك لوجدوا في هذه النيران عبرةً وعظةً، ولمَّا ظلّوا في غيّهم يعمهون!! فالنصوص القرآنية ترسم لنا صورة حسيّة للمكذبين وهم يُؤمرون بالانطلاق سراعاً إلى مستقرهم في النار، إذ يكونون بحالة مزريةٍ من الذل والهوان، وبنفوس ضعيفةٍ من الهلع والخوف. ويزيدهم قهراً وعذاباً ما يُداهِمُ وجوهَهم من سحاب الدخان الأسود الحار، وما يتطاير من شرر قاتل ينبعث من اللهب المتأجج، الذي يُرمون به، قبل أنْ يُقذف بهم في ذلك الأتون المستعر.. فكان حقاً أنْ يلاقوا العذاب الأليم، والبلاء العظيم. فويل يومئذٍ للمكذبين، وتلكم هي عاقبتهم في نار الجحيم..
11 - ليس عاقبة الذين لا يؤمنون إلاَّ مثل عاقبة الذين مضوا من قبلهم.
يقول الله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ *ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ *} [يُونس: 101-103].
وهذا توجيه من الله سبحانه وتعالى للتفكّر في خلق السماوات والأرض. وهو يأتي في سياق تنبيه الـرسول الكريم (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) بأن يقول، للذين يطلبون الحجج والبراهين على صدق دعوته، ما معناه: انظروا ماذا في السماوات والأرض من الدلائل والعبر: ففي السماوات النجوم والكواكب المسيّرات بأمر الله في كونٍ بديع الصنع، متكامل التناسق والانتظام، وفيها الأفلاك والمدارات التي حبكت بأدق خلق وأعظم تقدير.. وفي الأرض: تعاقب الليل والنهار، والبحار الواسعة والأنهار الجارية، وفيها الجبال الرواسي، والأَرض المنبسطة التي أخرج نباتها وأشجارها، وأطلع ثمارها وأزهارها، بل والتي خلق فيها من أنواع الطيور والحيوانات والحشرات ما لا يقع تحت حصر.. فانظروا وأحسنوا النظر في هذا التنوع والتعدّد، ثم تدبروا ما يقدر عليه القادر المقتدر.
والنظر في السماوات والأرض يمدّ العقل والقلب بزادٍ من المشاعر والتأملات عند ذوي البصر والبصيرة، وبزادٍ من الاستجابات والتأثرات عند ذوي التفكّر والتدبّر.. أي أن النظر[*] يدعو إلى الإِيمان بالخالق إلهاً واحداً، وربّاً معبوداً، وإلى الاستيقان بأنه العليم الحكيم. ولكن وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون!.. فالحجج والبراهين المقدمة، والآيات المبثوثة في الكون، جميعها لا تغني ولا تفيد عند قوم لا يؤمنون بخالق السماوات والأرض - أصلاً - ولا يملكون استعداداً للهداية والإِيمان - تبعاً - ومهما تبدّى لهم من الأدلة والبراهين المؤكدة،، ومهما ظهر لهم من الآيات في المخلوقات الحية والجامدة، فإن شيئاً من ذلك لا يؤثر في عقولهم الجافة، وقلوبهم المغلقة، ونفوسهم الجاحدة.. إنهم ينظرون إلى الآيات في الخلق بأم العين، ولكن من غير استدلال أو استنتاج، وكأنَّ ما يعنيهم فقط هو الإِعراض عن التبصّر والتفكّر بحقائق ودلالات هذا الخلق من حولهم، ومن فوقهم، فماذا ينتظرون، في النهاية، من هذا الإِعراض؟ بل وماذا يأملون في الآخرة، وهم يعرفون أنهم ميِّتون، وقد أنذروا من قبل الرسل، فلم يرعووا للإنذار ولم يؤمنوا؟ ليس أمامهم إلاَّ العواقب الوخيمة التي تحل عليهم في أيامٍ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم. هذا في الحياة الدنيا، أما في الآخرة وحيث يلقون ربّهم بوجوهٍ مكفهرّة، وذنوبٍ مستقرّة، وآثامٍ مدانة فيوم الحساب عسير، وبعده أيام العذاب الطويل الأليم.. هذا ما ينتظرهم، ولعلَّه الشيء الوحيد الذي يستحقون!.. وذلك ما كان رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) ينذر به، ويحذّر منه، وهو ذاتُهُ ما تبقى آيات القرآن - وعلى مدى الزمان - تنذر به، وتحذر منه.. فإن لم يستجبِ الذين لا يؤمنون فما على الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) إلاَّ أنْ يدعوهم للإنتظار بما سيكون من أمر الله تعالى، كما يأمره ربُّه بقوله المبين، أن يقول لهم: {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ *} [يُونس: 102].. فانتظروا أيها الكفار والمشركون، إني معكم من المنتظرين حكم ربّي، وقد جعلني شهيداً عليكم، وعلى أمتي، وجعل المؤمنين الصادقين من أمتي شهداء على الناس، وهذا وعد الله الحق، مصداقاً لقوله المبين: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً *} [المُزّمل: 15]، ومصداقاً لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البَقَرَة: 143]، وخطابه للمؤمنين بقوله الحق: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ *} [الحَجّ: 78]..
وهكذا يتبين من النصوص القرآنية المجيدة ما ينتظر القوم الذين لا يؤمنون، من أمر الله تعالى!.. ما ينتظرون {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يُونس: 102]. أي مثل وقائع وأحداث أيام العذاب التي كانت تحل بهم.. وبخلاف هؤلاء فإنَّ التعقيب الذي جاءت به هذه الآيات يبيّن أنَّ رسل الله والذين آمنوا من أتباعهم هم ناجون من ذلك العذاب مصداقاً لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ *} [يُونس: 103] أي مثل ذلك الإِنجاء للرسل والذين آمنوا معهم، كان حقاً علينا أنْ ننجي المؤمنين، النبيَّ محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) والذين آمنوا معه، ومختلف المؤمنين الذين أخلصوا لله بالطاعات، وعملوا الصالحات، فكانوا من المهتدين.. وقد جعل ربُّ العزّة والجلال هذا الإنجاء حقاً عليه سبحانه، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، إذْ كما يدافع الله تعالى عن الذين آمنوا في الحياة الدنيا، كذلك يتغمدهم سبحانه برحمته يوم الحساب، ليكونوا من الفائزين.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢