نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الثاني

البحث الثالث: معركة أُحُد وظِلاَلهَا
وهكذا وفيما كانت المدينة المنورة تشهد الأعراس والأفراح، عابقةً بشذى النصر، مفعمةً بأصداء الإِيمان.. وما إن حلَّ شهر شوال - من السنة الثالثة للهجرة - حتى وصلت من مكة أخبار تدعو إلى القلق، فتنشر الضباب في الأجواء، وتدعو إلى اتخاذ الحيطة والحذر..
استعدادات قريش للقتال:
ذلك أن قريشاً كانت قد وطَّدت العزم على حرب شاملة ضد «محمد» والمسلمين لتأخذ بثأرها، وتشفي غليل حقدها. وكان عكرمة ابن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب وعبد الله بن أبي ربيعة قد عمدوا إلى احتجاز العير التي نجا بها أبو سفيان، وكانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم: «يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك فيه ثأراً؛ فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعيرٍ، ولا يقل ثمنها عن خمسين ألف دينار»[*] وفي ذلك أنزل الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفَال: 36].. وبتلك الأموال الوفيرة، ومما جمع من تبرعات وهبات، قامت قريش بتجهيز الجيش بهدف الانتقام لقتلى بدر، بكل أنواع الأسلحة والعتاد التي استطاعت أن تؤمّنها.. حتى إذا استدار العامُ كان قد اجتمع من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش، وحلفائها من أهل تهامة وكنانة، ومن الأحابيش أمثال بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة.. إذ كانت قريش قد شرعتْ عامَها ترسل إلى قبائل العرب، تحرضها على قتال المسلمين؛ فبعث صفوان بن أمية - في جملة الوفود - أبا عزّة الشاعر الذي كان قد أسر في بدر، وأعتقَهُ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل بناته اللواتي لا معين لهنَّ غيره، وهو يعاهده ألاَّ يُظاهر عليه أحداً ويكثِّر عليه جمعاً.. وقد منَّ عليه الرسولُ الكريمُ بحريته من غير فداء بعدما أخذ عليه الميثاق. وها هو الآن ينكُثُ العهدَ وينقضُ الميثاق، فيكون أوَّل رُسُل قريش إلى القبائل، وإلى كنانة وتهامة خاصة، يدعو بأشعاره للاستعداد لمقاتلة «محمد»، والقضاء عليه وعلى جماعته.
فهل بعدَ فعلةِ هذا الرجل الكاذب، الماكر، من خيانة أقوى للعهد، أو تنكُّر أشدّ لصُنع الجميل؟!...
وكأني بالتاريخ قد أراد أن يحفظ في هوامش صفحاته ذكرَ أبي عزّة الشاعر، ليكون رمزاً للغادرين والسفهاء الذين يعادون الخيرَ وأهله، ويناصرون الشرَّ وفاعليه، فيتخذون الخيانة طريقاً، والباطل مأرباً!..
وغدت قريش على عتبة الحرب.. فلما دقت ساعةُ النفير كانت النساء قد أتممن - بدورهنَّ ـ الاستعداد للخروج مع الغزاة، فوقع الجدال بين مؤيد لهذا الخروج ومعارض له ولكل دوافعه وحججه..
وكاد تضارب الآراء أن يَشُقَّ وحدة الصف، لولا أن هاجت هندٌ بنتُ عتبة، زوجُ أبي سفيان بن حرب، التي كانت تتزعَّمُ حملةَ خروج النساء، وراحت تعنّف المعارضين وهي تقول: «لقد سلمتم يوم بدر فرجعتم إلى نسائكم! والله لنَخرج فنشهد القتال، ولا يردُّنا أحدكم كما رُدّت الفتيات في سفرهنَّ إلى بدر، فقتلت الأحبة، ولم يكن معهم من يُحرِّضَنَّهُم»..
أما دافع هند، فكان حقدها على «محمدٍ» وعمه حمزة، الذي أجّج في أحشائها ناراً ظل يتلهَّبُ لظاها منذ مقتل أبيها وأخيها يوم بدر، حتى صار حقدها بمثابة الوحش الذي يَفْغَرُ فاهُ يريد أن يمزِّقها إنْ لم تشارك بنفسها في القتال، وتثأر من عدوَّيْها اللدودين، فتروي الغلّ الذي صبرت على آلامه، ويلتئم في قلبها الجرح الذي تحملت نزفه.
لا! لن تفوِّت هندٌ بنت عتبة على نفسها منظرَ الدماء تسيل، وهي وحدها كفيلة بأن تردَّ إليها رونق الحياة!.. فهل تقنع إذن بعدم الخروج؟!.
وتصايحت نساءُ قريش من خلفها، يُرِدْنَ ثأراً لقتلاهنَّ. فلم يَر القوم إلاَّ النزول على تلك الرغبة الجامحة، والانصياع لتلك الإِرادة العاتية من نسائهنَّ.
وكان قائد الحملة أبو سفيان بن حرب أكثرَ القوم وأشدَّهم حرصاً على بث الروح القتالية. فجاء بني عبد الدار، وكان اللواء لهم، يقول متهكّماً، متوعداً: «يا بني عبد الدار! وُلِّيتم اللواء يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يُؤتى الناسُ من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا. فإمّا أن تكفونا لواءنا، وإما أن تُخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه».
وهمّوا به، وأرادوا القضاء عليه، لولا حراجة الموقف والتهيئة للمسير. وأبعدوه، وهم يقولون: «نحن لن نسلم لواءنا لأحد، ستعلم غداً يا أبا سفيان يوم اللقاء كيف تكون صناعتنا في الحرب».
وتوزع الجيش في ألوية ثلاثة عُقدت في دار الندوة. فكان على اللواء الأكبر منها طلحة بن أبي طلحة، وعلى الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عِكرمة بن أبي جهل. أما الرجّالة فقد وضع على رأسهم صفوان بن أمية، وعلى رماة النبال عبد الله بن أبي ربيعة..
ولقد توفرت لهذا الجيش، بالإضافة إلى ضخامة عدده، كثرةُ سلاحه وعُدّته، فكان معه سبعمائةٍ من الدروع الصلبة الواقية، يلبسها سبعُمائةٍ من الدارعين، ويتمنطق مثلُ عددهم بالزَّرد العريض.. وقد أمكنهم جمع مئتي فرس وثلاثة آلاف بعير يركبونها ويحملون عليها الأسلحة والذخيرة والأمتعة. وكان يقوم على خدمة هذا الجيش وقضاء حوائجه جمعٌ من الغلمان والعبيد. وكان بعض هؤلاء قد أوكل إليهم القيام بأدوارٍ خاصةٍ وهامة، كما هو الحال مع عبدٍ حبشيٍ يُدعى وحشي بن حرب، مولى جبير بن المطعم، الذي عَهِدَ إليه بأن يترصّد أثناء المعركة حمزة بن عبد المطلب ويقتله ثأراً لعمه في بدر (طعيمة بن عدي بن المطعَم). وقد تلاقى هوى هذا الرجل مع هوى هند بنت عتبة فأغدقا الوعود على ذلك العبد النتن، وهما يمنّيانه بالحرية والمال، ويحرضانه بالقول: إن أنت قتلت حمزة بن عبد المطلب، فأنت عتيق.
ووافق ذلك العبد الرخيص على مكيدة الغدر التي أوكلت إليه، مقابل الحرية والمال؛ وبئس الحرية، التي تُشرى بقتل الأحرار أمثال حمزة بن عبد المطلب، حامي لواء الحق، وناصر الدين، الذي أنزله الله (تعالى) ليحرِّر الإِنسان من كافة أشكال العبودية الأرضية، فلا يكون عبداً إلاَّ لخالقه وحده.. وشتّان بين عبودية العبد لربه وهي جوهر الحرية، وبين استعباد الناس بعضهم بعضاً، الذي جعله المستعبِدون نظاماً ظاهراً أو خفياً، للتعدّي على حقوق الإنسان وهدر كرامته واستلاب أتعابه.. بل وبئس الحرية التي أرادَ مقايضتها ذلك العبدُ، وحشيُّ بن حرب - كما يدل عليه اسمه - بالغدر والدم..
ولكن هل يدرك عبدٌ مثلُ وحشيٍّ ذلك؟
أمَا كان قميناً[*] به أن يرفض عبوديته، كما فعل الكثيرون من الموالي والعبيد، التي يستغلّه بها من هم على شاكلته من عبّاد الأصنام، وينضوي تحت لواء الإِيمان، الذي ينادي به محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتحرير الإِنسان، فيكون حينئذٍ قد أعتق نفسه حقاً، بدل أن يكون قاتلاً مجرماً ليدفع ثمن هذا الانعتاق؟!..
ومثل وحشيٍّ كان في جيش المشركين مَنْ وتَرَهُمُ الحقدُ على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فانزلقوا إلى الهاوية، ينضَوُون تحت إِمرةِ قريش في ذلك الزحف الجهنمي، فكانوا عبيداً لأنفسهم الأمَّارة بالسوء، بل عبيداً للشيطان.. ومن أبرز هؤلاء كان أبو عامر - واسمه عبد عمرو ابن صيفي - من الأوس، فقد كان يدّعي الترهّب، ويكثر من الحديث عن ظهور نبي قَرُبَ زمانُه، يعرفه بصفاته، وسيكون أول المؤمنين به وبالدَّعوة التي يحملها.. ولكن، ما إن جاء رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة، ورأى أبو عامر الناسَ يلتفون من حوله، حتى أنكر نبوَّتَهُ وأضمَرَ له البغضاء والعداء، لأن زعامته في الأوس - التي كان يوهم بها نفسه - لا بدَّ من أن تذبل، وتنذر بالأفول.
ولذلك لم يقدر ابن صيفي، أن يتحمَّل وجودَ «محمد» في المدينة، وإرساءَه قواعد المجتمع الجديد النظيف، فارتحل عنها معانداً، كافراً، بعدما أغوى قرابة خمسين شاباً من الأوس وغلمانهم للالتحاق به، والخروج معه.
وذهب ابن صيفي، بعد بدرٍ إلى أشد الناس حقداً على محمد بن عبد اللّه، وأكثرهم عداوة له، وهم شياطين قريش.. وقد أمكنه أن يوهمهم بأنه قادر على أن يلعب دوراً هاماً في قتالهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، نظراً لمكانته في بني قومه، ويكفيه يومَ المعركة ـ كما كان يعدهم ـ أن يسمعهم صوته كي يبعدهم عن «محمد»، فيميلون إليه.. ..
وصدَّقت قريشٌ أقاويله وادعاءاته، وهي تمنّي النفس بأن يقدر هذا الرجل على انتزاع بني قومه الأوس من صفوف المسلمين، فيكون ذلك من أكبر العوامل على تمزيق وحدتهم، وإلحاق الهزيمة بهم..
وفي أوائل شهر شوال - لستّ خَلَوْن منه - سارت قريش وهي تريد غزو المدينة والقضاء على المسلمين. وخطتها لذلك مفاجأة المسلمين في عقر دارهم، وإنزال الهزيمة بهم بأسرع ما يمكن.. بل ولقد حسبت أنه إن أخفق عنصر المباغتة معها، فإن التخذيل، وإشاعة التفرقة بين المسلمين هو البديل. وإنها لتعتمد في ذلك على عامر بن صيفي، وعلى أمثاله من أعداء «محمد»، ولا سيما المنافقين في المدينة الذين يتظاهرون بالإِسلام. وكانت خطتها ترتكز، قبل كل شيء، على قتل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكبار الصحابة من المهاجرين، ثُمَّ الانقضاض على كامل جيش المسلمين والفتك به. وبذلك تحقق النصر الذي تحلم به، وتتخلّص من ألدّ أعدائها الذين أقضّوا مضاجعها!..
ولقد كان القرشيون يحرصون - منذ البداية - على ألاَّ يعلمَ بخططهم المسلمون القلائل في مكة، وأن يعمّوا على بني هاشم بالذات في كل ما يفعلون .. ولكن يبدو أن تلك السريَّةَ التي أرادوها، كانت ضرباً من الخيال والتصوّر فقط، فقد كان العباس بن عبد المطلب، عمّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقف على كل ما يدور في مكة، ويعرف كل ما يأتمرون به ويقررونه. ولقد رفض أن يماشيهم في استعدادهم للقتال، بل وأبى السير معهم، وبقيَ في مكة، دون أن يجرؤ أحدٌ على مساءلته عن موقفه. إذ كانت له عبرة من خروجه معهم يوم بدر، فحلف ألاَّ يسايرَ هؤلاء المشركين على أمرٍ يناهضون به الإسلام. وأبدى من الجفاء ما جعلهم ينقمون عليه، ويتركون محاسبته لما بعد «النصر» على ابن أخيه.. ولذلك كان يرقب كل ما يقومون به حتى تحين الساعة التي يردُّ بها لقريش الكيل!. وهكذا فإنه ما إن بدأ جيش المشركين في خروجه حتى دفع العباسُ بكتاب إلى رجل من بني غفار ليسلِّمه إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مؤكداً عليه كتمان الأمر، والإسراع في الوصول إلى المدينة خلال أيام قليلة[*]. فانطلق رسول العباس على جناح السرعة حتى أدرك النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مسجد قباء، فأعطاه الكتاب، وأخبره عمَّا خرجت به قريش من جيش لجب، ومن عدة وعتاد. وبذلك تأكَّدت له الأنباء التي كانت تأتيه من العيون الذين بثَّهم في كافة الجوانب والأنحاء، ما بين مكة والمدينة، فذهب من توِّه إلى بيت سعد بن الربيع يعرض عليه كتابَ العباس - لأنه كان يكتب في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلة[*]ـ فقال سعد: والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير!.
وخرج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يوصي سعداً بالكتمان، فلمَّا كان الفجرُ وصلَّى - كعادته - بالصحابة في المسجد، جمعهم من حوله وعرض عليهم أمر خروج قريش في جيش لجب، وهي تريد غزو المدينة، وبعد أن توضَّحت لهم الصورة، أمَرَهُمُ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالاستعداد فوراً لمواجهة شتى الاحتمالات، لأن الوقت قصير، وموعد وصول العدوّ قد بات وشيكاً، ثم بعث مَن يترصَّدُ الجيش الغازي ويستطلع المكان الذي وصل إليه، فلم يلبث هؤلاء الفتية إلاَّ أَنْ عادوا يخبرون رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن قريشاً قد نزلت ببطن الوادي في أُحد!.. مما يعني أن العدو قد بات على أبواب المدينة، ولا يفصله عنه أكثر من خمسة أميال. ولذا فإن الخطر قد حلَّ، ويمكن أن يكون الهجوم بين ساعة وأخرى..
وكان وصول قريش إلى أُحد يوم الأربعاء في الثاني عشر من شهر شوال (سنة ثلاث للهجرة)، فنزلوا بعَيْنين، على جبل ببطن السَّبْخة من قناةٍ على شفير الوادي الذي يقع شمالي المدينة[*]، فركنت، بعدما حطت الرحال، إلى الراحة والنوم من وعثاء السفر.. وهذا تدبير من الله سبحانه وتعالى إذ قد أرهق جيش الكافرين، فلم يباغت المدينة بهجوم مفاجئ كما جرت له الاستعدادات، فآثروا النوم تلك الليلة، ليكون من مطلع صباحها الهجوم الساحق!.. هذا في الوقت الذي ظلت عيون المسلمين ساهرة، خوفاً من هجوم غادر قد يفاجئهم به عدوهم، فقام بعض الفرسان يحرسون المسجد خوفاً على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بينما انتشر الباقون يضربون حول المدينة طوقاً لردِّ العادين.
ولم تلاحظ جواسيس قريش في اليوم التالي، دبيب الرجال، وحسيس السلاح في المدينة، أو تلك الحركة التي تدلّ على أن أهلها ينشطون للقتال، فأدرَكَ أبو سفيان بن حرب ما وراء ذلك، فقال:
ـ أحلف بالله أنهم جاؤوا «محمداً» فأخبروه بمسيرنا وحذَّروه، وهم الآن يلزمون حصونهم، ولن نصيب منهم شيئاً.
فقال صفوان بن أمية:
ـ إن لم يخرجوا إلينا في فضاء الصحراء عمَدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، وتركناهم ولا أموال لهم، فلا يجتنون أبداً. وإن أصحروا لنا (واجهونا في الصحراء) فعددُنا أكثرُ من عددهم، وسلاحُنا أفتكُ وأوفرُ من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل لهم، ونحن نقاتل على وتر (ثأر) عندهم، ولا وتْر لهم عندنا.
قرار المسلمين بالقتال خارج المدينة
أما رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعاد وجمع أصحابَهُ ليشاورهم في الأمر ويقرروا كيف يلقون عدوَّ الله وعدوّهم. فقال (عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام): أشيروا عليَّ!..
وأول من بدأ عبد اللّه بن أبيّ بن أبي سلول، فرأى التحصُّن في المدينة، وعدم الخروج منها لمواجهة غزو قريش، فقال:
يا رسول اللّه، لقد كنا ونحن في الجاهلية نقاتل فيها ونجعل النساء والأطفال في هذه الصياصي (الحصون)، ونجعل معهم الحجارة. ونَشْبِك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية. وترمي المرأة والصبي بالحجارة من فوق الصياصي والآطام، بينما نقاتل العدو بأسيافنا في السكك. وإنّ مدينتنا عذراء ما فُضَّت علينا قطُّ، فأقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلاَّ أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه. فدعهم يا رسول اللّه، فإن أقاموا أقاموا بشرّ محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا[*]. اسمع لي في هذا الأمر يا رسول اللّه، فإني ورثت هذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي منهم، وقد كانوا أهل رأي وتجربة.
ورأى الصحابةُ، شيوخُ السنِّ من المهاجرين والأنصار الرأي ذاته، أي المكوث في المدينة والدفاع عنها من فوق الآطام، فإن دخلوها عليهم، كان القتال في الأزقة، وأهلها أعلم بها من المعتدين.
ولكنَّ حميَّة الشباب أبت على الذين لم يشهدوا بدراً - بل وأولئك الذين ذاقوا حلاوة بدر - إلاَّ الخروج إلى العدو وملاقاته حيث نزل، فقالوا لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم يرغبون في الشهادة: اخرج بنا يا رسول اللّه إلى أعدائنا، لا يرون أنّا جبُنّا عنهم وضعفنا.
وأيَّدَ رجالٌ، من أهل النية الحسنة، الخالصة لوجه الله تعالى، رأي الشباب فقالوا: إنا نخشى يا رسول اللّه أن يظنّ عدوُّنا أنّا كرِهنا الخروج إليه جُبْناً عن لقائه، فتكون له جرأة علينا. وقد كنتَ يوم بدر في ثلاثمائة فظفَرك الله على عدوك، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، وقد كنا نتمنى هذا اليوم، وندعو الله به، فقد ساقَهُ إلينا في ساحتنا.
وكان مالك بن سنان مِمَّنْ يحبّذون الخروج فقال: يا رسول اللّه، نحن بين إحدى الحسنيين: إمّا أن يظفرنا الله تعالى بهم، وهذا الذي نريد، وإما أن يرزقنا الشهادة، والله يا رسول اللّه ما أبالي أيهما كان، إنَّ كلاًّ لفيه خير.
قال حمزة بن عبد المطلب (رضي اللّه عنه) : والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم بعد اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي هذا خارجاً من المدينة.
وقال النعمان بن مالك، معقباً على حماسة حمزة: يا رسول اللّه! لمَ تحرمنا الجنة؟ فوالله الذي لا إلهَ إلا هو لأدخلنَّها..
وهزَّ حديث الاستشهاد هذا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فسأل النعمان: وبم؟
فقال النعمان: إني امرؤ أحبُّ اللَّهَ ورسولَهُ، ولا أفرُّ يومَ الزحف.
فقال إياس بن أوس: إني لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا «محمداً» في صياصي يثرب وآطامها، فتكون هذه مجرِّئة لقريش. وها هم أولاء قد وطأوا سقفنا، فإذا لم نذُبّ عن شجرنا لم يزرع. وإن قريشا قد مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب من بواديها مع من تبعها من أحابيشها، ثم جاؤونا قد قادوا الخيل، وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا. أفيحبسوننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يُكْلَموا؟ لئن فعلنا لازدادوا جرأةً، ولَشنُّوا الغارات علينا، وأصابوا من أطرافنا، ووضعوا العيون والأرصاد على مدينتنا، ثم لَقطعوا الطريق علينا.
وقال خيْثَمةُ أبو سعد بن خيْثَمة: عسى الله أن يظفرنا بهم أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعةُ بدر وكنت عليها حريصاً حتى بلغ من حرصي عليها أن ساهمت بابني في الخروج، فخرج سهمه فرُزق الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم وهو في أحسن صورة، يرتع في جنان الخلد، ويهنأ بنعيم السعادة الخالدة، وهو يقول: إلحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً. فادعُ الله، يا رسولَ الله، أن يرزقني الشهادة لأكون مع ولدي سعد في الجنة، فوالله لقد أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته. وقد كبرت سنّي، ورقَّ عظمي، وأحببت لقاء ربِّي.
ورأى رسول اللّه إجماعَ الغالبية على الخروج، وهم يرومون الشهادة، فهل يحول بينهم وبين حق يطلبونه، وعزّة يرتجونها ما بعدها عزّة؟..
إنه كان لا يحبّذ هذا الخروج، ويفضّل الدفاعَ عن المدينة من داخلها، ولكنَّ كثرة المؤمنين كانت ترنو إلى ملاقاة العدو حيث نزل. ولذلك ترك اتخاذ القرار النهائي إلى اليوم التالي، وبعث بعض الفتية يرقبون تحركات جيش قريش، فجاءه الخبر بأن خيول قريش قاربت المدينة وهي ترعى الزروع المحيطة بها، فأشار بالبقاء على التأهب للقتال.
وانقضت تلك الليلة كسابقتها، وأصبح يوم الجمعة، وما زال المسلمون في حالة تأهُّب، حتى كان الظهر فصلى بهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، وأن لهم النصر ما صبروا، فأيقن الذين أرادوا الخروج أن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عازم عليه، وظلَّ الذين يمانعون فيه على موقفهم من كراهيته ومعارضته، لاسيما وأن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكرهه أيضاً .
فلما كان العصر، صلاَّه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثم دخل بيته بعدما ترك الناس وراءه يتحاورون، وكلُّ فريق ما يزال مصرّاً على رأيه. ويظهر ذلك في ما أبداه سعد بن معاذ وأسيد بن حضير - وهما من المشيرين بالتحصّن بالمدينة - لمؤيدي الخروج بالقول: لقد قلتم لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، وهو كارهٌ له، إنه يتلقى الأمر من ربه تبارك وتعالى ينزل إليه، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى أو رأياً فأطيعوه.
وما زالوا كذلك حتى خرج عليهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بيته وهو يلبس درعه ويتقلّد سيفه، فأيقنوا عندئذٍ أنه قرّرَ الذهابَ لملاقاة العدو، فأقبل عليه الذين كانوا يلحُّون في الخروج، وقالوا: «يا رسول اللّه استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعُد صلّى الله عليك»[*].
فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لَأمَتَهُ (درعه) أن يضعها حتى يقاتل، أو يحكمَ الله بينه وبين أعدائه. انظروا ما آمركم به فاتبعوه، والنصر لكم إن شاء الله ما صبرتم»[*]. ثم دعا الرسولُ العظيمُ الناس إليه، فأمّرَ على المدينة ابن أم مكتوم يصلي بالناس، وأمر أن يرفع النساء والأولاد فوق الحصون والآطام. حتى إذا فرغ من إعداد الجو الداخلي وتأهيله، عاد إلى الجيش يرتِّب أوضاعه وفق تنظيم دقيق، فجعله في ألويةٍ ثلاثةٍ: عهد إلى أسيد بن حُضير بلواء الأوس، وإلى الحباب بن المنذر بلواء الخزرج، وإلى مصعب بن عمير بلواء المهاجرين... ثم لمَّا فرغ من هذا الإِعداد، اعتلى ظهر فرسه، وخطب في الجيش، يبث فيه روح التضحية والفداء، ويبيِّن عظمة الجهاد في سبيل الله تعالى، وسُمُوَّ البسالة من أجل إعلاء الحق، ويذكِّرهم بضرورة الحفاظ على النظام، والتقيّد بقواعد التنظيم، والالتزام بالأوامر، لكي يكون الجيش قادراً على مواجهة العدوّ العاتي الذي جاء لغزوهم، والذي يفوقهم عدةً وعدداً، ويفوِّت عليه المأرب الذي استعدَّ له خلال عام كامل، فيعيده إلى مكة أشتاتاً مبعثرة.
ولقد أفاض رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في التحدث والتشجيع، وشدِّ العزائم وشحذِ الهمم، وأبان كل ما يجب على جيش المسلمين القيام به. حتى إذا فرغ من ذلك كله، وأعلَمَ وبلّغ، دعا بالمسير على بركة الله تعالى.
وسار الجيش الإِسلامي، وقوامه ألف مقاتل[*]، جلُّهم من المشاة، ولا يزيد عدد الدارعين فيهم على مائة، وتقدمهم السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، يعدوان في الطليعة، للاستكشاف..
وكما في الخروج إلى بدر، ولما وصلوا إلى منطقة «الشيخين» وجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين المقاتلين بعض الغلمان، حديثي السن، وقد خرجوا بإرادتهم لحضور القتال أو المشاركة فيه، فردَّهم إلى بيوتهم في المدينة؛ إلاَّ أنَّ رافعَ بن خديج، أخا بني حارثة، أبت عليه نخوتُه العودة، فتقدم من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرجوه البقاء، ويبيِّن له أنه يجيد الرماية، ويريد أن يرميَ في سبيل الله (تعالى)، فأجازه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كراهية أن يردَّ هذا الفتى عن أمرٍ يريده لله سبحانه وتعالى...
ورأى سمرة بن جندب الفزاريُّ في بقاء رفيقه ما يُحزنه ويُبكيه فلما قيل للرسول بأنَّ سمرة يصرع رافعاً، عادَ وأجازه هو الآخر رأفةً به، لما كان عليه من الوجد والحسرة في عدم الخروج مع المقاتلين.
وحلَّ الليلُ فاختار الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خمسين رجلاً بقيادة محمد بن مسلمة (الأنصاري) يدورون حول الجيش في تقدُّمه. فلما أقبل السَّحرُ صلَّى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بجنده الفجرَ، ثم ساروا حتى بلغوا بستاناً، ما بين المدينة وجبل أحد، يقال له الشَّوْط[*]، فإذا بحركة غريبة تدبُّ بين الصفوف، وذلك عندما أمر عبد اللّه بن أبيّ بن أبي سلول رجاله بالانفصال عن الجيش وكانوا يبلغون ثلاثمائة مقاتل، وهو يقول لهم: محمد عصاني وأطاع الوِلْدان. ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والرَّيب [*].
وحاول عبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر بن عبد اللّه الأنصاري، أن يثني ابن أبي سلول عن فعله، وهو يناشده ألاَّ يشق عصا الجماعة، وألاَّ يخذل الناس والنبيَّ، في أدق مرحلة وهم على مقربة من العدو، إلاَّ أنَّ ردَّ ذلك المنافق لم يكن إلا التهكّم، وهو يقول: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، ولو أطعتَنا لرجعتَ معنا[*]؛ فقال له - عندئذٍ - عبد الله: أبعدكم اللَّهُ أعداءَ الله، فسيغني اللَّهُ عنكم نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) [*].
وبالفعل فقد نفّذ ابن أبي سلول ما كان قد خطط له في الخفاء، فعاد برجاله إلى المدينة، ساخراً من المسلمين، مستهزئاً بخروجهم لقتال قريش. ومنذ ذلك اليوم بدأ نفاق ذلك الرجل بالظهور على حقيقته، كما ستكشف عنه الأيام لاحقاً، والمواقف التي سوف يقفها لإثارة الفتنة، وضرب المسلمين!..
وكان من الطبيعي ألاَّ يمرّ مثل هذا الفعل الشنيع من غير أن يترك أثره في الجيش، تماماً كما كان يتوقعه ابن أبي سلول، ويعمل له في السرِّ. إذ سرعان ما ظهرت البلبلة بين صفوفه واختلَّ تنظيمه بانسحاب فئة كبيرة منه تبلغ ثلثَهُ.. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل همَّت طائفتان بالرجوع: بنو حارثة بن البنت من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج[*]، وهما الجناحان، وأن يفعلوا مثلما فعل ابن أبيّ، لولا أن عصمهم الله سبحانه بالإِيمان، فعادوا إلى لُحمة الصفّ، ووحدة المسيرة..
القتال في يوم أحـد
وتابع جيش المسلمين سيره، وعدّته سبعماية مقاتل[*]، حتى وصل إلى «أحد» وهو الجبل المعروف بكثرة مسالكه وشعابه، والأودية التي تقطعه، وبما هو عليه من شكل مميّز بحيث يبدو للناظر وكأنه يلتف حول نفسه التفافاً ليشكل مرتفعاً جغرافياً مستقلًّا عن المرتفعات الأخرى، فكانت من جراء ذلك تسميته بـ«أحد»..
واختار رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) النزول في الشِّعب من أُحُد، على عُدوة الوادي (جانبه)، بحيث يكون ظهره وعسكره إلى الجبل، وهذا الاختيار لأغراض القتال الاستراتيجية، إذ أعاد تنظيم الجيش إلى عدة فرق، ووزعها أمام الجبل حتى يكون من ورائها، ويشكل عاملاً طبيعياً لحماية الجيش بأكمله من الخلف، كما جعل خمسين[*] من الرماة الأشداء على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة - وعرف فيما بعد بجبل الرماة - جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الاسلامي[*]، ليكون موقعاً ثابتاً لهم، لا يبرحونه حتى يأتيهم الخبر. وأوكل الإِمرةَ على هؤلاء الرماة إلى عبد اللّه بن جبير أخي بني عمرو بن عوف، بحيث تكون مهمتهم الأساسية، حماية ظهور المسلمين، والحؤول دون تقدم العدو والالتفاف عليهم.
ولقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعوّل كثيراً على أولئك الرماة أثناء سير المعركة، نظراً للدور الكبير الذي عهده إليهم. ومن أجل ذلك كانت أوامره المشدَّدة بألاَّ يبرحوا مكانهم على التلّ، أياً كان وضع القتال، وكيفما بدا لهم مسار المعركة، سواء بدا النصر للمسلمين، أو كان لأعدائهم.. فقال لقائدهم: «إنضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثْبُتْ مكانك لا نُؤتيَنَّ من قِبَلِكَ»[*]، ثم قال للرماة: «أيها الرُّماة، يا جند الله احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن قد غَنِمْنَا فلا تشركونا»[*] ثم عاد يؤكّد عليهم بالقول: «وإن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنا القومَ، ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم»[*].
كانت الخطة التي اعتمدها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حكيمة للغاية تجلّت فيها عبقريته كقائد عسكري قلَّ أن يدانيه قائد آخر، إذ اختار أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به - إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين - كما أنه عوَّض النقص العددي في رجاله بموقع الرماة الذي يحميهم[*]، وكلّ ذلك يثبت كفاءته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما سوف يدل عليه سير المعركة - لولا مخالفة الرماة لأوامره ـ.
وبعد أن أتمَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تلك التهيئة، واطمأنَّ إلى التنظيم الذي وضعه، والذي يجعل كل مقاتل يعرف دوره ومكانه، وقف قبالة الجيش، ثم جرد سيفاً باتراً ونادى:
من يأخذ هذا السيف بحقه؟
فقام أبو دجانة سماك بن خَرَشَة، - أخو بني ساعدة - فقال:
وما حقه يا رسول اللّه؟
قال: «أن تضرب به العدوَّ حتى ينحني»[*].
قال أبو دجانة: «أنا آخذه بحقه يا رسول اللّه».. فأعطاه إياه[*]..
وكان أبو دجانة مشهوراً بشجاعته، وشدّته في القتال، فما إن صار السيف بين يديه، حتى عصب رأسه بعصابة حمراء، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. (وهكذا كانت تقول له إذا تعصب بها). وراح يتبختر في مشيته مُدلاًّ بقوته وبأسه. فنظر إليه الرسول العظيم وقال «إنها لَمِشيةٌ يبغضها الله، إلا في مثل هذا الموطن»[*].
وأما جيش قريش فيبدو أنه قد ظل على تنظيمه الذي خرج به من مكة: فعلى الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعبد العزى طلحة بن طلحة يحمل اللواء. ثم تقدم في السهل المنبسط أمام التل بفرسانه الأشداء، ومن معهم من المناصرين والعبيد، والنسوة حوله من جميع الجوانب، يضربن الدفوف، ويحرّضن على القتال، ويثرن الحمية..
وكانت هند بنتُ عتبة (زوجة أبي سفيان) على رأسهن، تزيدهن تحريضاً وإثارة، وهي تنشد، فيرددن معها:
وَيْها بني عبد الدارْ
ويْهاً حُماةَ الأدبار
ضرباً بكلِّ بتَّار[*].
وتقول:
نحنُ بناتُ طارقْ
نَمشي على النمارق[*]
إنْ تُقبلوا نُعانِقْ
ونفـرُش النمـارقْ
أو تُدبروا نُفارقْ
فِراقَ غَيرِ وامِقْ[*]
ووقف الجيشان: جيش قريش اللجب، وجيش المسلمين الأقل عدداً وعدة، وجهاً لوجه!..
وراح أبو سفيان ينفذ الخطة التي اتفق المشركون عليها، وكانت ترمي أولاً إلى التخذيل بين الأنصار والمهاجرين، فرفع صوته صارخاً: يا معشر الأوس والخزرج، خلُّوا بيننا وبين ابن عمنا، فننصرف عنكم، فلا حاجة بنا إلى قتالكم[*].
ولكنَّ صراخه كان كعويل ذئبٍ تبدّده فيافي الصحراء، فلم يُسمَعْ له صدىً إلاَّ السبَّة واللعنة، فرجع خاسئاً مذموماً.. وظهر أبو عامر[*]، - الذي كان قد وعد قريشاً بسحب بني قومه الأوس من صفوف المسلمين ـ، وهو يعدو على فرسه مسرعاً، حتى قارب جيش عدوِّه فصاح: يا معشر الأوس! أنا أبو عامر، إليَّ إليَّ، فلا تتباطأوا..
وسقط في تحريضه هو الآخر، فما كان الرد عليه إلا التقبيح واللعن، والأوس يقولون له: فلا أنعمَ الله بك عيناً يا فاسق!.
وخاب ظن ذاك المخادع، وخذلته آماله الكاذبة، فولّى هارباً من حيث أتى، وهو يولول بهذيان المجنون: «لقد أصاب قومي بعدي شرٌّ».
وظهر للعيان أن القتال وحدهُ باتَ سيّدَ الموقف.. فما منّت به قريشٌ النفس من هجوم مباغت على المدينة قد فشل.. وخطة التخذيل قد ذهبت أيضاً سدىً بعد أن واجَهَ الأنصارُ قائدها أبا سفيان بالسخرية والضحك عليه، مما جعله يرتَدُّ إلى جيشه، وهو يشعر وكأنَّ الأرض تميد من تحته، وتكاد تنشق لتبتلعه..
أما أبو عامر بن صيفي المتآمر على بني قومه من الأوس، فإنه لم يلقَ منهم أقلَّ مما لقيه أبو سفيان من الأنصار: لعناتٍ تُخزي صاحبها وتَخذله، ويكفيه عاراً أن يلقبه الرسول الأكرم بـ«الفاسق»، فيناديه بنو قومه بهذا اللقب المشين.
وحميت النفوس على الوغى، فاندفع عِكرمة بلوائه مبادئاً في القتال، وذلك بحركة التفاف سريعة على جناح المسلمين، فإذا النبال تنهال على فرقته مثل وابلٍ من المطر وتجبرها على الانكفاء إلى الوراء.. فانتفض خالد بن الوليد يشن هجوماً على يمين عسكر المسلمين، فارتدت خيوله على أعقابها، وكادت ترمي فرسانها من على ظهورها، لكثرة ما نزل عليها أيضاً من النبال والسهام..
وتكررت تلك الهجمات حتى رأت قريش فيها نُذُرَ شؤم، فاشتعل الحقد في قلوب أولئك المشركين، وهاج بهم الغضب، فتصوَّر البعض منهم أنهم يملكون من القوة والشجاعة، ما يجعلهم قادرين على البطش بأبطال عدوهم، إذا ما تقابلوا وإياهم واحداً لواحدٍ، فانبروا يطلبون المبارزة..
وكان أول من تقدّم للمبارزة طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار، وكان من أشجع فرسان قريش، ويسمونه «كبش الكتيبة» فاندفع إليه فارس الفوارس علي بن أبي طالب في هجمة بطولية علويّة، ليعانق هامَهُ بضربةٍ واحدةٍ من سيفه البتار، فيفلقه، فيهوي على الرمل العطش فيمتص دماءه.
وتعالت هتافات التكبير والتوحيد من المسلمين، وكان أول المكبرين رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ سرَّه أنْ يرى ضربةَ الحق تفلق هامَ الباطل.
وبقي عليّ (كرَّم الله وجهه) في الساح ينتظر من يخرج إليه، فدفعت المنية عثمان بن أبي طلحة، إلى النزول لملاقاة علي، فكان حظه من الموت مثل حظ أخيه طلحة. عندها برز أخوهما أبو سعد بن أبي طلحة يريد أن يقتل عليّاً بأخَويه، فاختلفا ضربتين، فنبتْ ضربةُ المشرك بينما أسقطته ضربة المؤمن على الثرى، فرُئِيَ علي ينصرف عنه، ولا يجهز عليه. ولقد سأله أصحابه - فيما بعد - عن السبب الذي حمله على ترك أبي سعد بن أبي طلحة من غير أن يقضي عليه، فقال:
«إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عنه الرحم، وعرفت أن الله عزَّ وجلَّ قد قتله»[*].
ولم ينزل أحد من المشركين بعد ذلك في مواجهة مع عليٍ المقدام، إلاَّ وألحق به الموت بضرباته الْبِكْرِ التي كانت وحيدة، فريدة، تميَّزت عن سائر ضربات الأبطال..
وأين من يجرؤ من قريش بعدها على الاقتحام، وإلقاء نفسه في أتون الغضب للحق؟ إنَّ في الساحة سيّدَ الوغى، لا يحول ولا يزول.. إنه عليٌّ يقف صامتاً، صامداً كالطود الشامخ، في تطلّعه نحو المشركين، فتنقضُّ نظراتُه عليهم لتبعث الرعبَ في قلوبهم، وكأنها تقتلعها من الصدور، فيجمدون في أماكنهم، ولا يجسرون حتى على التحديق به.
ويأخذ الحنق من كلاب بن طلحة بن أبي طلحة كل مأخذ، على ما حلَّ بأبيه وعَمَّيْه عثمان وأبي سعد فينبري إلى الميدان يريد قتل علي. ولكن هذا البطل المسلم يأنف من قتله رأفةً به مما أصابه في مصارع أهله، فيشيح بوجهه عنه، ويحيد من أمامه. إلاَّ أن كلاباً، وقد أعماه الغضب، لم ينتبه إلى تلك الرحمة به، فصرخ متحدياً أبطال المسلمين، ومتهكماً على عليٍ، فنزل إليه الزبير بن العوام وهجم عليه كالأسد الهصور فأثخنه بالجراح، ثم أهوى عليه بالضربة القاضية فلقي مصيره المحتوم، ثم حمل اللواء أخوه الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة واندفع يريدُ القتال، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضى عليه.
وراحت المبارزات تتعاقب، وأبطال المسلمين يصرعون كل من دنت منيته، حتى رأت قريش أن المبارزة لم تعد في صالحها، وأنها إن بقيت على تلك الحال فإنها سوف تفقد أشدَّ أبطالها وأقواهم.. عندها صرخ أبو سفيان بن حرب، قائد حملة الكفر، مهتاجاً، مسعوراً، يدعو جيشه إلى هجوم شامل.. فاندفع الجيش المشرك في هجمة عاتية شرسة، تروم انتزاع المهج، وسلب الأنفس، ولكن أنَّى له ذلك والجيش الإِسلامي يلقاه بقلوب ملؤها الإِيمان، وبنفوسٍ ذُخرها الحق، فيشتبك معه في معركة حامية، لا تُسمع فيها إلاَّ قرقعات السيوف والدروع، وأصوات الضرب والطعان، ولا يُرى إلاَّ هامات تهوي، وسواعد تتطاير، ورؤوسٌ تتدحرج...
وكان طبعاً في قلب المعركة أبطالُ المسلمين: علي، وحمزة، وأبو دجانة ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله.. وغيرهم ممن ضرَّستهم الحروب بأنيابها من الأنصار والمهاجرين الذين نذروا أنفسهم للذود عن دين الله، فراحوا يُنزلون بالأعداء الضربات الشديدة والطعنات القاتلة التي كان يعبّر عنها أبو دجانة، وهو يضرب يميناً وشمالاً، وينشد غير مهمومٍ ولا متكدِّر:
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحنُ بالسفح لدَى النَّخيلِ
ألاَّ أقوم الدهر في الكَيُّولِ[*]
أضربُ باْسمِ اللهِ والرسولِ[*]
وكان أسدُ الله، حمزة بن عبد المطلب، يكرّ على المشركين، ويلاحقهم من مكان إلى مكان، وهم يفرّون أمامه فرارَ النِّعاجِ من أسدٍ كاسرٍ، فلا يدرك أحدَهَم إلاَّ ويطيح برأسه، ولا ينقضُّ على متكبر إلاَّ ويجعل روحه تفارق جسده.
وكان العبد الحبشي المأجور «وحشي بن حرب» يلاحق حمزة أثناء المعركة في كرِّه ودورانه على الأعداء، دون أن يجرؤ على التقدم منه، حتى إذا تمكّن رماه بحربةٍ من بعيدٍ، فأصابته، وهوى على يدِ النذالةِ والخيانةِ في وسط المعركة، يعانق الشهادة ويخلد في جبين الدهر، سيِّدَ الشهداء، بمنطوق الوحي الإلهي على لسان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ قال يوم وقف يبكيه: «سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب، ورجلٌ قال كلمة حقٍّ أمام سلطان جائر، فقتله»[*].
وراح المشركون يصيحون: «قتل حمزة بن عبد المطلب.. قتل حمزة..».. وهم يظنون أن فرحهم وصيحاتهم من شأنها أن تخذل المسلمين، وتفتَّ في عضدهم. ولكن أنّى لهم ذلك، وفي نفوس المسلمين قوة من الإِيمان لا تزحزحها خسارة مهما كبرت، ولا يثنيها مصاب مهما عظم، حتى ولو كان مصرع «حمزة» أحد أبطالهم الميامين!.
صحيح أن حمزة بطل لا كالأبطال، وقد يعدُّ كألف من الرجال الأشداء، وفقدان أسد الله وأسد رسوله في حمأة الوغى من شأنه أن يُفقد المسلمين قوةً لا يستهان بها، وليس من السهل أن يعوّضوها في هذا الموقف الحرج، ولكن - وبالمقابل - فقد كان استشهاده دافعاً جديداً لهم في شحذ قوتهم، واندفاعهم أكثر في القتال، إلى أن مكّنهم الله (تعالى) من الظفر بعدوهم وتحقيق معجزة النصر فعلاً، قبل أن تُدرك الشمسُ كبدَ السماء.. فقد كان الضعفُ قد نال من جيش عدوِّهم، وخارت قواه، فأدرك أنه غير قادر على متابعة المعركة، فراحت جحافله تلوذ بالفرار وهم يطلقون لخيولهم وجمالهم العنان، تحملهم بعيداً عن ضربات المسلمين، الذين كانوا يتحدّون الموت، حتى ليظن كلُّ من يراهم أنهم يصرخون قائلين: هَلُمَّ إلينا يا منايانا، فإننا لفي سبيل الله نقاتل، وإن مات منا سيدٌ، قام سيّدٌ.
واندفع المشركون في الهرب، يخلون وراءهم المتاع والسلاح، وأرزاقاً وفيرة احتملوها من مكة. بل لقد تخلّوا عن النساء، فانطلقن هاربات حتى لا يقعن أسيرات ذليلات.. هذا في حين تابعهم المسلمون حتى أجلوهم بعيداً عن ساحة المعركة، ثم عادوا إلى الغنائم يجمعونها وكلَّ ما خلّفه أولئك الأعداء وراءهم.
وكان الرماة يرقبون ما يصيب إخوانهم من الغنائم،فقال بعضُهم لبعض: الغنيمة.. إي قوم! الغنيمة! ظهر أصحابُكم، فما تنتظرون...
ونهرهم قائدهم عبد اللّه بن جبير وهو يقول لهم: ويحكم أنسيتم ما أمركم به رسول اللّه ألاَّ تبرحوا مكانكم؟!..
ولكنَّ الغنائم غلبت على صرخات قائدهم، فقالوا له: لنأتينَّ الناس ولنصيبنَّ من الغنيمة، فإن المشركين قد انهزموا، فما مقامنا ها هنا؟!..
واندفعوا يُخلون مراكزهم، دون أن يسمعوا لقائدهم الذي ثبت في مكانه، ومعه نفرٌ قليل، لأن أمرَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان عندهم فوق كل مكسبٍ أو مغنم..
ونَظَر خالد بن الوليد وراءه، فوجد أن الجبل قد خلا من الرماة إلاَّ قليلاً منهم، وأن ظهور المسلمين باتت مكشوفة، وقد انشغلوا بالغنيمة، فصاح في خيله من المشركين، وتبعه عكرمة في مجموعات من المشاة، فحملوا على من بقي في الثغرة، فقتلوهم جميعاً، ثم حملوا على المسلمين من خلفهم، يقاتلونهم، ويبدّلون نصرَهم هزيمة..
ورأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما حلَّ بالمسلمين من مصيبة مفاجئة، فثبت في مكانه لا يتقدم ولا يتأخّر، بل بقي يرمي بالنبل حتى لم يبق معه شيء. فامتشق سيفَه يردُّ عن نفسه. ولكنَّ رجالاً من المشركين كانوا يتقدمون نحوه، فكسر رباعيتَهُ عتبة بن أبي وقاص وجرحه في شفته وشجَّهُ في جبهته عبد الله بن شهاب الزهري ورماه ابن قميئة الليثي بالحجارة، فأصابه في وجهه الكريم، ونشبت حلقتان من المغفر في وجنته، فلم يثنِهِ كلُّ ما أصابه عن القتال، وإلى جانبه مصعب بن عمير يذبُّ عنه، وهو يحمل الراية (راية رسول اللّه: العقاب)، حتى تكاثرَ العدو عليه ولم يعد قادراً على الصمود لكثرة ما نزف من دمه، فوقع على الأرض مضرَّجاً بالدم الزكي دفاعاً عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . وكان علي بن أبي طالب قد تنبَّهَ للأمر، فاندفع يكشف المشركين عن مصعب، وعن النبي، فأخذ الراية، ورفعها كي يراها المسلمون فلا يتفرقوا، ولا يتبدَّدُوا أشتاتاً.. ولكن هيهات أن يبقى لهم حولٌ أو تجتمع لهم قوة الآن، وقد تفرّقت صفوفهم، وتمزقت وحدتهم، فراحوا يقاتلون - فُرادى - لينجوا من براثن الموت، بعد أن كانوا لساعةٍ يقاتلون مجتمعين بأمر اللَّهِ ورسولِهِ، متراصّين، متضامنين منتصرين..
ورجع ابن قميئة بعدما قتل مصعب بن عمير - وهو يظن أنه قتل رسول اللّه - يصيح في قريش: إني قتلت «محمّداً».
وكان أبيّ بن خلف الجمحي من المشركين، قد لمحَ النبيَّ من بعيدٍ، فهجم عليه مثل ذئبٍ مسعورٍ يريد أن يقتله. وهو يصرخ: يا محمد! لا نجوتُ إن نجوتَ!.
وتصدّى له بعض الصحابة فأشار إليهم رسول اللّه أن يُخلوا بينه وبين هذا الكافر، فتناول من الحارث بن الصمّة حربَتهُ ثم استقبله فطعنه في عنقه، ولكنَّ الحديد الذي كان يلبسه قد ردّ عنه القتل، وإنْ لم يحْمِه من جرح أصابَهُ، فما إن أحسَّ به ولمس دمه، حتى ولّى هارباً لا يلوي على شيء. فلما وصل إلى أصحابه وقع عن فرسه، يخور كما يخور الثور، وهو يصيح: قتلني والله «محمد».
وظنَّ أصحابه أن التعب قد أنهكه، وأن ما يقوله عن بقاء «محمد» على قيد الحياة هو نوع من الهذيان، فاحتملوه وهم يشدون من عزمه، ويطمئنونه إلى أنّ ما أصابه ليس سوى جرح صغير لن يؤثّر عليه، فقال لهم بهَلع:
ـ لو كانت الضربة بربيعة أو مضر لقتلتهم! أليس هو من كان يقول لي: بل أنا أقتلك؟ فوالله لو بصق عليَّ لقتلني. أجل لقد كنت ألقى «محمداً» في مكة فأتوعده وأقول له: يا «محمد»، إنَّ عندي العَوْذَ، فرساً أعلفه كل يومٍ فَرْقاً[*] من ذرة، أقتلك عليه. فيقول: بل أنا أقتلك - إن شاء الله[*] ـ.
وبالفعل فإن الخوف من غضب الله ورسوله قد قتل اللعين الكافر، أبيَّ بن خلف، فمات عدو الله بـ«سَرَف»[*] وهم قافلون به إلى مكة، إذ انقضَّ عليه أجلُهُ ينتزع روحه، من جرحٍ بسيط أحْدثه رسولُ الله في عنقه، وما قتلَهُ جرحُهُ، ولكنه توعُّدُ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له بأنه سيقتله بمشيئة الله، وهو توعُّدُ النبيِّ الصادق الذي لا يمكن أن يقع على نفس كافرةٍ إلاَّ ويقتلها، مهما طالت المدة أو استدار الزمن بصاحبها.
إذن كان خبر مقتل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد انتشر بين المشركين فأذهلهم، ولكنه ذهول الفرح والابتهاج! فقد زُين لقريش أنها قَدِرت بعد سنين طويلة، أن تقضي على عدوها اللدود، الذي جاء يزيل مكانتها بين العرب، ويقوّض أركان وجودها، ويهدم الآلهةَ التي ألفت الآباء والأجداد على عبادتها، فاقتدت بهم..
أما المسلمون، فقد كان وقع الخبر عليهم مميتاً.. وكيف لا، وهم يجدون أنفسهم قد فقدوا في لحظاتٍ حاميَهُم، ومحرِّرَهم، ورائدَهم في الحياة؟.. وكيف لا يزلزل هذا الخبر بهمُ الأرضَ والموتُ لا محالة ينتظرهم بعد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟!.. فسيطرت على غالبيتهم روح الهزيمة.. فتفرقوا في الجبل، كلٌّ يلوذ بالفرار، أو يأوي إلى ناحية يختبىء بها، إلاَّ من عَصَمَ الله أمثال علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي دجانة، وأمِّ عمارة الأنصارية، ومالك بن سنان، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن النضر، وقتادة بن النعمان، وغيرهم ممَّن لا يزيد عددهم على ثلاثين مقاتلاً، فقد فاؤوا إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واستماتوا في الدفاع عنه، استماتةً لا يُقهر صاحبُها أبداً.
فهذه أمُّ عمارة، نُسيبة بنت كعب المازنية (الأنصارية)، كانت تجوب أرض المعركة منذ الصباح، وهي تحمل الماء، تدور به على المسلمين تسقي من استسقى. فلما انهزم المسلمون، ورأت ما حلَّ برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألقت سقاءها واستلّت سيفاً، وراحت تقاتل دفاعاً عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلى جانب مصعب بن عمير، ببسالة نادرة، وجرأة لا توصف.. ولكنَّ الجراح التي أصابتها، وقد زادت على ثلاثة عشر، كانت قد أوهنت قواها، وجعلتها تسقط أرضاً تتخبط بنزيف دمائها الزكية، فيلقي عليها رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نظرة إعجابٍ وإكبار، هو يقول: «والله ما التفتُّ يميناً وشمالاً إلاَّ ورأيتك تدافعين عني، بارك الله عليك يا نسيبةُ».
إنها بطولة إسلامية، لا تقابلها إلاَّ تضحية إسلامية، فكما استهانت أم عمارة بالموت، وهي تدفع عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى أثخنتها الجراح، كذلك فعل أبو دجانة، الذي جعل جسمه ترساً للرسولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ انحنى فوقه يتلقى النبال التي تنزل عليه وهو يقول: بأبي أنت وأمي، ليتني أموت وأحيا ألف مرة يا رسول اللّه لأحميك من عدوِّك اللئيم..
إيهِ أبا دجانة! فما أروع التضحية التي قدَّمت، والوفاء الذي خلَّدت!..
أو يظنون أن سهامهم نالت منك؟
لا وحقِّكَ، فأنت فوق كل سهام الغدر، وفوق كل نبال الحقد!..
لقد دافعتَ عن حياة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتضحيتك الباهرة، فقدَّمت للحياة الإنسانية كلِّها سببَ وجودها وبقائها، ففرحت بكَ الحياةُ لتكون أنموذجاً للتضحية، ولم تقبل أن يأخذك الموت منها، فعشت - على الرغم من كثرة سهام الأعداء - بإِذن ربك تبارك وتعالى، الذي يهب الحياة لمن يشاء[*]..
وأنت يا حباب بن المنذر، ما بالك، وأين هذه الغيبة وحبيبك «محمدٌ» في خطر؟!..
إن عُذرك أيها البطل المقدام، أن كثافة المشركين من حولك قد غطت الأنظار فلم تعد تراك إلاَّ وأنت تفرّق جماعاتهم، وتحوشهم كالغنم، وتدقُّ أعناقهم بسيفك، وتحمل عليهم وهم يفرون أمامك وقد أجليتهم بعيداً عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...
وأما أنتَ يا سهل بن حُنيف، فللَّه درُّكَ، وأنت تبايعُ يومها على الموت، وتنفَحُ عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتقول: «نبِّلوا سَهْلاً، فإنَّه سَهْلٌ»..
ومثل هؤلاء الأبطال الصابرين، الذين قاتلوا دون رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، شبانٌ بواسلُ غيرهم، استجابوا لنداء رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما سمعوه، بعدما غشيه القوم، يقول: «من رجل يشري لنا نفسه»؟! فاندفع زياد بن السكن في خمسة نفر من الأنصار، يدافعون عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكل قوة وثبات، فيُقتلون رجلاً تلو رجلٍ، ويكون زياد آخرهم، فيقاتل حتى توهنه الجراح، وتسلب منه كل عزيمة، فيقع قرب نبيِّه الكريم، مستقبلاً الشهادة، فيشدُّهُ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صوبه، ويوسِّده ركبتَيه الشريفتين إلى أن تفيض روحُه الطاهرة..
وانفلت أنس بن النضر (عم أنس بن مالك)[*] من براثن الموت، فراح يبحث عن الفارين بين الشعاب، حتى يستحثهم على العودة إلى المعركة - وكان أنس مثال المؤمن الصادق، المخلص، الذي يفنى في عقيدته ويستميت في الدفاع عنها حتى انتهى إلى مجموعة كبيرة من المهاجرين والانصار، وقد ألقوا ما بأيديهم[*]، فتقدم منهم صارخاً: وما يجلسكم؟
قالوا: قُتل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)[*].
ثم استقبل أنس بن النضر القومَ الكافرين حتى سقط شهيداً، فُوجد بعد المعركة وبه سبعون ضربة وطعنة، وقد مُثِّل به، وشوِّهت خلقته، واختلطت معالمه، فما عرفته إلاَّ أختُهُ بواسطة خاتم ببنانه.
إنها لأُمثولات كثيرة، وبطولات نادرة قدَّمها شهداء المسلمين يوم أحد..
ومثل هذا العطاء لمن آمن بالله ورسوله لا يجدي معه التساؤل: لمن كان النصر؟.. فهذا العطاء هو النصر بعينه يوم أحد، لأنَّ مِلْئَهُ الإخلاص، والفداءُ، وطلبُ الجنة... وهيهات بعد هذه المقاصد نصرٌ هنا، أو هزيمة هناك... إلاَّ أن العبرة تبقى قائمة، فمن اقتدى بأبطال المسلمين يوم أحد وانتفح بالروحية التي ملأت كيانهم، لابدَّ من أن يحمدَهُ أهل الأرض، كما تحمده ملائكة السماء، مثلما كان حمد الملائكة لشهداء أحد....
ومن صور «أحد» الخالدة - أيضاً - ما رواه زيدٌ بن ثابت عن أبيه، قال: بعثني رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - بعدما سكن القتال وانصرف المشركون - أطلب سعدَ بن الربيع، فألفيتهُ وهو بآخر رمق، فقلت له: إنّ رسول اللّه أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنتَ، فهو يقرئك السلام، فقال: وعلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) السلام، وقل له: يا رسول اللّه أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الانصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيكم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنكم عينٌ تَطرِف»[*]، وفاضت روحه من وقته - رحمه الله ـ..
وبنفس الروح قاتل عبد اللّه بن جحش مثل إخوته الآخرين، وكانت أمنيته الوحيدة أن لا يموت إلاَّ شهيداً في سبيل الله.. وها هو يلقى في «أحد» الشهادة التي وعَدَ نفسه بها، فتكون انتصاراً له على أهل الخبث والحقد، الذين لم يكفهم قتله، بل دفعتهم قلوبهم الصدئة بالقسوة إلى التمثيل به أشنع تمثيل..
وهكذا تعاقب على الشهادة يوم أحد صحابةٌ أبرارٌ، حتى بلغوا نحواً من ثلاثين، منهم من لقي وجه ربّه عندما التقى الجمعان، ومنهم من جادَ بروحه دفاعاً عن رسول اللّه، بعدما ضحَّى بحياته فداءً له، وكأنّي بكل واحدٍ منهم لا يودّع هذه الحياة إلاَّ وهو يقول: وجهي لوجهك الفداء ونفسي لنفسك الوفاء، وعليك سلام الله غيرَ مودَّعٍ يا رسول اللّه.. فسلام الله عليهم في أعلى علّيين.. وإذا كانت الشهادة في سبيل الله فضلاً ورضواناً منه - عزَّ وعلا - وقد أكرم بها شهداء «أحد»، فإنَّ الفئة المؤمنة التي لم يكن قتالها دون قتال المستشهدين الأبرار، كانت هي الأخرى في عين الله (تعالى)، ولكن لم يرزقها - سبحانه - الشهادة، بل ادَّخرها لمهمات أخرى في الإسلام، أو لمواقيت أخرى تنالُ فيها الشهادة بنفوس راضية مرضية.. وهي الفئة - وبخاصّة - التي اجتمع فيها أولئك الأحرار حول رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصدّون عنه الأعداء، ويحملونه بعيداً عن الخطر، وكل ذلك بمشيئة الله تعالى، ليحفظ رسوله الكريم حتى يكمل للناس دينهم، ويتم عليهم نعمته، ويرضى لهم الإسلام ديناً.. ومن تلك البطولات التي يُفاخر بها المسلمون في «أحد» الوقفة التي وقفها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه ومعه عليّ بن أبي طالب، وبعض الفتيان من الأنصار، في وجه كتيبةٍ من بني كنانة، تقارب خمسين مقاتلاً، اندفعت نحو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تريد قتله.. فتصدّوا لها، وفرَّقوا جمعها، وردَّها الله (تعالى) خائبةً لم تنل من رسوله الكريم.. وقد أبلى عليٌّ (رضوان الله عليه) في ذلك التصدّي بلاءً عظيماً، لا يقل عمَّا أبلاه منذ بدء المعركة، حتى قال جبريل الأمين لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى (ويعني به علياً)[*]، فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : وما يمنعُهُ وهو مني وأنا منه؟.. فقال جبريل (عليه السلام) : وأنا منكما.
وإذا كان أجرُ الشهداء عظيماً، ومثلَه أجرُ الأبطال الذين ذبّوا عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإن كلَّ من رمى بسهم، أو ضربَ بسيف، أو طعن برمح في «أحد» له أجرُهُ عند ربه تبارك وتعالى، لأنه إنما كان يقاتل في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله... وإنما تبقى المفاضلة الدقيقة بين الذين انقلبوا على أعقابهم وآثروا الفرار بأنفسهم، لقول الناس قتل «محمد»، وبين الذين ثبتوا في وجه العدو، وأخصّهم الشهداء، فهؤلاء أضفى اللَّهُ (تعالى) عليهم صفة الشاكرين، إذ إن ثباتهم، واستشهادهم نعمةٌ من الله، تستحق الشكر، فنزل بحقهم قرآن كريمٌ يُثيبهم فيه ربهم على شكرهم بقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ *} [آل عِمرَان: 144].
وكان يوم «أحد» يوم السبت للنصف من شوّال[*]، إذْ ما كادت شمسُ ذلك اليوم تنحدر نحو المغيب، حتى هدأ أوار المعركة، وتوقف القتال، وكان التعب قد أنهك جميع المقاتلين، فلاذ كل واحد بجمعه..
وكان أول من عرف بنجاة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والمسلمون يجمعون شتات شملهم، كعب بن مالك تعرّف إليه من عينَيهِ اللتين كانتا تُزهران من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا فهذا رسول اللّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) . فأشار إليه الرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يسكت لحراجة الموقف وخطورته.
ثم صار المسلمون يفيئون إلى رسول اللّه زرافات ووحداناً، فحرص على أن يرجع بهم إلى مراكزهم الأولى، لأن ذلك سوف يجعل الجبل من خلفهم، فيجعلون الحرب إلى جهة واحدة[*] تماماً كما هي الخطة الأولى. فلما كثر الرجال من حول النبي - القائد المجاهد - أسرع علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) إلى ماء فملأ درقته، وتقدم يغسل الدم عن وجهه الشريف ويسقيه، حتى يبلَّ ريقَه بعد الجهاد المضني، وهناك في سفح «أحد» أمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المسلمين أن يستقرّوا، ويسكنوا ولا يجاوز أحدٌ منهم مكانه..
أما المشركون فقد غمرهم الابتهاج وعلت صفوفهم الأهازيج، وقرع الطبول، وكان أكثر ما سرَّهم خبر مقتل «محمد» وأقاربِهِ، وأكابرِ صحابته، فرأوا أن يهنأوا بما وعدَهم به «هُبَل»، وأن ينعموا بما منّت عليهم أوثانهم وأصنامهم، فأقاموا حلقة للنصر، يحتفلون به على طريقتهم في العربدة والمجون.
ثم أمروا الغِلمان والعبيد أن يأتوا بالذبائح فينحروها، وبالخمرة فيترعوا من كؤوسها، وانبرت القيان يغنين ويرقصن، بينما أقبلت النساء على رشِّ العطور، والعناق.. جذلات... إلاَّ هنداً بنت عتبة فقد ذهبت - مع أمثالها من نسوة قريش - يُمثّلن بالقتلى من المسلمين، فيجْدعن أنوفهم ويصلمن آذانهم، ليتخذن منها قلائد وأقراطاً.. ووقفت هند، فوق هام حمزة سَيد الشهداء - وما تركت الأفراح إلاّ بحثاً عنه - وهي تقهقه جذلى، سكرانةً لمرآه بدمه النازف. ثم ما لبثت أن انقضت عليه بوحشية موتورة، وأعملت السكين - التي حملتها خصيصاً من مكة - في قطع أنفه وأذنيه.. ولم تشْفِ غليلها بذلك، فأنشبت أظفارها في وجهه، ثم بقرت بطنه بالسكين، وانتزعت كبده من جوفه، وراحت تلوكه في فمها مسعورة، وهي تحاول أن تأكله، إلا أنَّ الكبد الطاهر أبى الدخول إلى جوفها النجس، واضطرها لأن تلفظه كي يستريح في العراء، حُرّاً من دَنسِ تلك الوحشة، آكِلةِ أكباد البشر..
وعاد إلى أبي سفيان بعضُ الوعي الذي كانت نشوة الخمر قد أطاحت به من رأسه، فلم يجد زوجَه هنداً بجانبه، فقال في نفسه: ما بال هذه المرأة قد بعدت عني، ألا تعلم أنني أريد أن أشفي غليلي من «محمد» وهو ملقىً على الثرى، فتكون إلى جانبي وتشاركني هذه الفرحة الكبيرة؟ ولكنه تذكَّر مقدار حقدها على حمزة بن عبد المطلب، قاتل أبيها وأخيها، وما دبّرت من أمر العبد الحبشي النجس «وحشيٍ» للغدر به، فقال: لا شك بأن هنداً هناك، تنعم برؤية «محمد» وحمزة قتيلين في العراء!
واندفع أبو سفيان إلى أرض المعركة، وتبعه الحليسُ بن زبان أخو بني الحارث، وهو يومئذٍ سيد الأحابيش، فوجد زوجَهُ هنداً مع العبد وحشي، وقد غطت الدماء يديها وفمها. فأمر العبد أن يقودها والنسوة اللواتي معها إلى المعسكر، ثم وقف على حمزة يضرب شدقه برمحه، ويقول: ذُقْ عقق (أي ذق جزاء فعلك يا عاقّ).
وتعجب الحليس من فعلة أبي سفيان بن حرب، فقال له منكراً: وكيف تفعل هذا يا رجل، وقد نهيتَ أنتَ، يوم مررتَ بالأبواء عن نبش قبر آمنة بنت وهب؟ كما رغبتْ في ذلك زوجتُك هندٌ؟!
فقال أبو سفيان: لقد أبيت تلك الفعلة حتى لا تكون سنَّةً عند العرب.
فقال له الحليس: بل لقد حرصتَ على قبوركم من أعدائكم!.. أما قلت ذلك اليوم لمن أرادوا النبش: لا تفعلوا ذلك، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وبنو خزاعة موتانا.
ثم أردف مندداً به، وكأنه يريد أن يُسمعَ صوته الناسَ كلَّهم، وهو يصرخ: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحماً؟![*] (أي ميتاً لا يقدر على الانتصار).
فقال له أبو سفيان: ويحك! اكتمها عنِّي فإنها كانت زلّة[*].
وعاد أبو سفيان يطوف في ميدان المعركة بحثاً عن «محمد» فلمّا لم يجده بين القتلى ، بدأ الشك يساوره، ويحسّ كأنَّ فرحة النصر تنسلُّ من جانبيه.. مما يعني أن بقاء «محمد» على قيد الحياة سوف يجعل القضية أكثر تعقيداً على قريش، وقد تتخذ منحىً جديداً لا تعرف عواقبه.
وتهيأت قريش للعودة إلى مكة، ولكن أبا سفيان لم يرد المسير، ما لم يتحرَّ خبر «محمد»، فانطلق حتى أشرف على الجبل، فنادى:
»أفيكم محمدٌ؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم ابن الخطاب؟».
ونهى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحداً أن يردّ عليه؛ فظنَّ أنهم قد هوَوا في المعركة، فعادَ يصرخ من جديد: أمّا هؤلاء، فقد كفيتموهم!
فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه، أن قال: كذبت يا عدو الله، فقد أبقى الله ما يخزيك.
وكأنما أراد أبو سفيان أن يردَّ على شتيمة عمر له، فقال مرتجزاً: أنْعِمَتْ فِعالْ، إن الحرب سجالْ، يوم بيوم، أَعْلِ هُبَلْ[*].
فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : قولوا له: «الله أعْلى وأجلّ». (أي أظهر على معبودك هبل).
فقال أبو سفيان: إنَّا لنا العزَّى، ولا عزَّى لكم..
فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : قولوا له: «الله مولانا ولا مَولى لكم».
فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر.
فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : قولوا له: «لا سَواء! قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار»[*].
قال أبو سفيان: أنشدك اللَّهَ يا عمر، أقتلنا محمداً؟
قال عمر: اللهم لا، وإنه يسمع كلامك الآن[*].
قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة وأبرّ (قال ابن قميئة لهم: إني قد قتلت محمداً).
وكأنما خاف أبو سفيان أن يتهمه المسلمون بأنه هو الذي حرَّض على التمثيل بالقتلى، فأراد أن يدفع عنه التهمة فنادى قائلاً:
إنه قد كان في قتلاكم مُثْلَة، والله ما رضيتُ، وما سخطتُ، وما نهيتُ، وما أمرت[*]. ولعلَّ في حقيقة موقف أبي سفيان من حمزة ما يكذّب مقولته هذه، كما قدمنا في إنكار الحليس بن زبان لفعلته وهو يضرب وجه حمزة رضوان الله عليه - برمحه!...
ثم صاح ابو سفيان قبل أن ينصرف: إن موعدكم بدرٌ للعام القابل. فقال رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : قولوا له: هو بيننا وبينكم موعدٌ.
وانطلق المشركون من أُحد، وما زالت الفرحة تعمر صفوفهم، والأغاريد تسبق حوافر خيولهم، حتى بَعُدوا بعض المسافة، والمسلمون يرقبون ذهابهم، ولكنهم لا يأمنون غدرهم وخبثهم. ولذلك بعَثَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليَّ بن أبي طالب يرقب مسيرتهم، ويقف على وجهتهم، وقال له: «اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وما يريدون. فإن كانوا قد جنَّبوا الخيل (قادوها إلى جنوبهم) وامتطوْا الإِبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإِبل، فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم فيها، ثم لأُناجزَنَّهم»[*].
وعاد عليُّ إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخبره بأنَّهمُ جنَّبوا الخيل، وامتطوا الإبل، ووجَّهوا إلى مكة.. فاطمأن عندها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مدينته..
وذهب جيش الشرك وانجلى النقيع (الصراخ - القتال) من أجواء «أحد».. فهدأ روع المسلمين، وعادت إليهم أواصر اللُّحمة، فكان لا بد لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعظهم من غير توبيخ أو تأنيب، فطلب منهم أن يستووا وراءه صفوفاً، وأخذ يُثني على ربِّه عزَّ وجلَّ، ثم رفع يديه وناظريه إلى السماء وراحَ يدعو الله سبحانه في ابتهال جليل، وهو يقول:
»اللّهُمَّ لك الحمدُ كلُّه، اللّهُمَّ لا قابضَ لما بَسَطتَ، ولا باسطَ لما قبضتَ، ولا هادي لمن أضللتَ، ولا مضِلَّ لمن هَديتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا مانع لما أَعطيتَ، ولا مُقرِّبَ لما باعدتَ، ولا مُبعِّد لما قرَّبتَ. اللّهمَّ ابسُطْ علينا من بركاتِكَ ورحمتِكَ وفَضلِكَ ورزقِكَ. اللّهمَّ إني أسألُكَ النعيمَ المقيمَ الذي لا يحولُ ولا يزولُ. اللّهمَّ إنّي أسألُكَ العونَ يومَ العلّةِ، والأمنَ يوم الخوفِ، اللّهم إني عائذٌ بِكَ من شرِّ ما أعطيتَنا وشرّ ما مَنَعْتَنا. اللّهُمَّ حبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيّنْهُ في قلوبِنا، وكرِّهُ إلينا الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصيَانَ واجعلْنا من الراشدين. اللّهُمَّ أَحْيِنَا مُسلمِينَ وتوفَّنا مسلمينَ، وألحِقْنا بالصَّالحينَ غيرَ خَزايا ولا مَفتُونِينَ. اللّهُمَّ قاتِلِ الكَفَرَةَ الذين يُكذِّبونَ رُسُلَكَ ويصدُّونَ عن سبيلِكَ، واجعلْ عليهم رِجْزَكَ وعذابَكَ. اللّهُمَّ قاتِلِ الكَفَرَةَ من الذين أوُتوا الكتابَ، إلهَ الحقِّ، إنَكَ سميعٌ، قريبٌ، مجيبٌ، يا ربَّ العالمين»[*].
فلما انتهى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من دعائه، - والمسلمون يردّدون من ورائه - كان الألم يعتصرهم، وكانت الغالبية الساحقة منهم تبكي، ولكنه بكاء الفرج النابع من الإِيمان الذي يشد القلوب، وبكاء الندم ممن خالفوا أمر نبيهم، وظهر لهم الخطأ الفادح الذي ارتكبوه، فتقدموا من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعتذرون، ويسألون ربَّهم المغفرة. وكان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يرد معتذراً ولا يُجافي خاطئاً، بل يطلب منهم الابتهالَ إلى الله تعالى، والثناء عليه عزَّ وجلَّ، عسى أن يرحمهم ولا يُنزل غضبه بهم.
ونزل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطوف في كل شبرٍ من أرض المعركة وهو يرقب بأم العين ما حلَّ بالمسلمين من نكبة، وما نزل بهم من مصاب، حتى بلغ عمَّه حمزة، فوجده قد مثّل به أشنع تمثيل، إذ زادت المثلة به عن غيره من الشهداء ببقر بطنه، ونزع كبده. ولذلك كان حزنه لمرآه شديداً. وقد بلغ الغيظ منه كل مبلغ، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «ما وقفت موقفاً قطُّ أغيظ إليَّ من هذا. ثم قال: جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب في أهل السماوات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله»[*].
وكان عدد المستشهدين من الأنصار أربعةً وستين شهيداً، ومن المهاجرين ستة، (أحدهم حمزة). فلما رأى المسلمون ما مُثِّلَ بهم، قالوا: لئن مكَّننا الله تعالى منهم، لنفعلنَّ بهم، ولنُرْبِيَنَّ عليهم. فقال لهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «بل نصبر»[*]. وقد أراد بذلك تذكيرهم بقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ *} [النّحل: 126]، وبذلك نهى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن المثلة. ووقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم «أحد» على سعد بن الربيع يقرئه السلام، ثم على مصعب بن عمير صريعاً في برده، فنعاه لمن حوله، وقال: «لقد رأيتك بمكة، وما بها أحد أرقّ حلة منك ولا أحسن لمّة، ثم أنت أشعث الرأس في بردة».
ولما مرَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على عمرو بن الجموح، قال: كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة..
ثم أمر أن يدفن عمرو وابن أخيه، ومولى لهم، في قبر واحد.
وقصة عمرو بن الجموح أنه كان رجلاً شديد العرج، فلما كان الخروج إلى «أُحد»، أراد بنوه الأربعة أن يحبسوه، فقالوا له: إن الله تعالى قد عذرك. فأتى رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال: إن أبنائي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه. فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : أما أنت فقد عذرك الله تعالى، فلا جهاد عليك. وقال لبنيه: ما عليكم ألاَّ تمنعوه، لعل الله (تعالى) أن يرزقه الشهادة[*] وهكذا كان.. إذ استشهد يوم «أحد»، ونعاه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مبشراً أبناءه بدخوله الجنة، حيث لا عرج، ولا وصب..
وتدفقت نفس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالآلام لتلك المشاهد القاسية، فلم يقدر على حبسها. بل لقد انعكست تلك الآلام مجسّدة في جراح جسده الشريف، التي عاد بعضُها ينزف، ويثور منه الوجع حتى يمنعه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من المسير، فيقف مودعاً الشهداء، ويقول: زمِّلوهم بدمائهم، فإنه ليس أحد يَكْلَمُ في الله إلاَّ ويبعثه الله يوم القيامة وجرحه يدمى: اللون لون الدم، والريح ريح المسك»[*]. ثم قرأ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *} [الأحزَاب: 23] ثم قال: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم، وزوروهم، وسلّموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام»[*].
وكان طلب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الصحابة أن يلفُّوا أجساد الشهداء بدمائهم وجراحهم، وأن يدفنوهم بعد أن ينظروا أكثرهم جمعاً للقرآن، فيجعلوه أمام أصحابه في القبر إذ قال: «ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد وقدموا أكثرهم قرآناً»[*]. ثم جاؤوه بفرسه، فركب ودعا بالعودة إلى المدينة، فساروا من ورائه، بعد أن حمَل بعضُهم قتلاهم يريدون أن يدفنوهم في المدينة...
ووَصل جيش المسلمين إلى أبواب المدينة، والناس بالانتظار، فزاد تدفق العبرات من العيون تبكي الشهداء، وتعالت آهات النساء، وصراخات الأبناء تفتقد الأحبة.. ولكنَّ اللافت أنه على الرغم من الآلام التي كانت تعصف بالناس، فإن الكلَّ كان يتلهَّف لرؤية رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيّاً - بيد أنه كان جريحاً، وقد اخذ منه الجهد والتعب - فلما رأوه هان عليهم كلُّ مصاب.. فهذه امرأة من بني دينار، نُعيَ إليها زوجها وأخوها وأبوها، فقالت: فما فعل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟ قالوا: هو بحمد الله كما تحبين يا أم فلان، قالت: أرونيهِ حتى أنظر إليه. فلما قربتْ منه، ورأته قالت المرأة - وهي أم عامر الأشهلية - تعبِّر عن مشاعر الثكالى والحزانى: «كل مصيبة بعدك جلَل يا رسول اللّه»[*]. وتقدمت نحوه أم سعد بن معاذ، فقال لها الرسول العظيم: أبشري وبشري أهليهم يا أم سعد، إن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً... فتقول أم سعد: رضينا برسول اللّه سالماً، وليس من يبكي عليهم بعد هذا. ولكنها عادت تسأل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الدعاء لذوي قرباهم فقالت: «ادعُ لمن خلَّفوا يا رسول اللّه». فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبُر مصيبتهم، وأحسن الخَلف على من خلَّفوا».
ثم أقبلت صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تريد حمزة (أخاها لأبيها وأمها) لأنها كانت تظنُّ أنه بين القتلى المحمولين إلى المدينة، فأمر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الزبير أن يدركها، فجاءها يقول لها: اهدئي يا أماه، فأبت عليه، وقالت:
»لقد بلغني أنه قد مُثِّلَ بأخي وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبنَّ ولأصبرنَّ إن شاء الله»... ولكنَّ ابنها الزبير عاد يهدِّئ خاطرها، ويبدي لها بأن خاله حمزة لم يُحملْ، بل دفن مع ابن أخته عبد الله بن جحش ومصعب بن عمير في ضريحٍ واحدٍ حيث سقطوا على أرض أُحُد..
ومرَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظَفَر، فسمع النواحَ والبكاء على قتلاهم، فذرفت عيناه، وقال: «لكنَّ حمزة لا بواكيَ له»، فلما وصلَ سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير إلى دار بني الأشهل أمرا النساء أن يذهَبْنَ فيبكين على عمّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلما سمع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكاءهنَّ قال: «رحم الله الأنصار، فإنَّ المواساة منهم ما عتمت لقديمة، مروهُنَّ فلينصرفن»، ونهى يومئذٍ عن النواح، وذلك لِمَا رأى من مظاهر الأسى ما ينمّ عن جاهلية يأنفها الإسلام، فقد كان بعض النساء يَشْدُدْنَ الشّعَر، ويخدشْنَ الوجوه، وَيَشْقُقْنَ الثياب، وغيرها من الأفعال المنكرة التي لا تجدي الحزانى فتيلاً، ولا تغيّر من القدر قليلاً أو كثيراً.. إلاَّ أنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يمنع البكاء، فكان يقول: «البكاء من الرحمن والصراخ من الشيطان»[*].. وبسبب تلك المظاهر أمر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإعادة القتلى، ودفنهم في أرض المعركة حيث صرعوا، لعلَّ في ذلك ما يخفف من غلواء المصيبة على الناس.. وكان لا بدَّ لنصح لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يفعل فعله في النفوس، فاختفت المظاهر «المفجعة» وتفرّق الكل إلى بيوتهم لمداواة الجرحى، وتوفير شيء من الراحة للمحاربين. وأبى السعدان إلاَّ مرافقة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى بيته، فنزل عن فرسه يتوكأ عليهما، ثم دعا لهما بالخير، فذهبا - مثل الآخرين - يخلدان إلى سكينة، كانا بأمسّ الحاجة إليها بعد تلك المعاناة التي أصابت جيش المسلمين.. فاندفعت نساءُ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وابنته فاطمة الزهراء، يرتمين عليه، ولسان كل واحدة يلهج بذكر الله (تعالى) وشكره على هذه النعمة، حيث عاد إليهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سالماً.. أما فاطمة حبيبة أبيها، فاحتضنته باكية، تمسح دموعها برأسه الشريف، وتنظف جروحه من الدم، فلَّما وجدتِ الدمَ لم يرقأ (بجفّ وينقطع)، أحرقت قطعةً من الحصير، وأخذت تذرُّ الرمادَ على الجروح لوقف النزيف.. وكان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند وصوله ناولَ ابنته فاطمة سيفَهُ، وقال لها: اغسلي عن هذا دمَهُ يا بنيَّة، فواللَّه لقد صَدَقني اليوم، وناولها عليٌّ سيفَه، وقال: وهذا أيضاً، فاغسلي عنه دمه، فواللَّهِ لقد صدَقني اليوم»[*].
ظلال آثار غزوة «أحد«
إن سرائر القلوب، ومكنونات الصدور لا يعلمها إلاَّ ربُّ العالمين.. فالإنسان قد يتصرف في الحياة إما بدافع إرادي، وإما بانفعال عاطفي تبعاً للنوازع الذاتية، والظروف الخارجية التي تؤثر فيه.. وعلى هذا فقد يصبح أحدهم أسير الظروف التي تضغط عليه، فيقف متحيّراً، متردداً لا يعرف ماذا يفعل!.. ومن حيث لا يدري يجد نفسه مندفعاً تحت تأثير هذا الظرف الضاغط للقيام بأمر، أو القبول بأمر، دون أن يستطيع تفسيراً لذلك.. ومثل هذا الانجذاب للقيام بفعل - أو الامتناع عن القيام بفعل - هو الذي يؤدي إلى ارتكاب الجرائم والمحرمات، أو غيرها مما يكرهه الإنسان بطبيعته.. ثم تأتي الصحوة، ويعود الوعي، فيجد كثيرون أن ما أقدموا عليه كان غريباً عنهم، فيحزنون.. ويندمون.. ولكن ما النفع وما حصل يكون قد حصل؟!..
وعلى هذا فإذا تتبعنا الأحداث التي سبقت «أحداً»، وما جرى أثناء المعركة - وهو كثير وهامّ - نجد أنها حملت من المعاني، وأظهرت من الأحداث، ما ينمّ عن تعدّد النوايا، وخفايا القلوب.. فمنذ أن اتَّضح للمسلمين مجيء قريش وحلفائها لغزوهم في عقر دارهم، تشعَّبت بينهم الآراء، وكثرت المحاورات والمناقشات.. فكان من دعا إلى البقاء داخل بلدهم والتحصُّن فيه، حتى إذا هاجمهم العدو أوقعوا به الخسائر الفادحة، نظراً لما يتعرض له الجيش المهاجم - عادة - من أخطار أكثر من الجيش الذي يتصدّى له.. بينما كانت غالبية الآراء تؤيد الخروج وملاقاة العدو بعيداً عن المدينة، صوناً لحرمتها، وتعزيزاً أكبر للمسلمين.. ووقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقلّب مختلف الآراء بين الداعين للتحصّن، وبين المظاهرين على الخروج، فوجد أن كثرة العدو وتنوع سلاحه وعدّته، قد لا تجعل الخروج مأمون العاقبة، فكرهه.. بل وصرَّح بكراهيته له، إلاَّ أن الأكثرية ظلَّت على حماستها، ولم تقنع برأي الأقلية.. وهنا أراد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يثبت للمسلمين أن القرارات الحاسمة تعود في الأصل - وفي كل ما لا يتعلق بتطبيق حكم شرعي ملزم - إلى الأمة التي تمثلها الأكثرية... إذن، فما تقرره الأكثرية، في مثل هذه المناسبة الحربية، يجب اعتماده أياً تكن التجربة التي قد يقع بها المقاتلون، ومهما تكن النتائج التي قد تترتب على قرار الأكثرية... ولذلك ترك رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناسَ في تحاورهم، ودخل يستعدُّ للقتال، ثم ظهر عليهم يعلن أُهْبَتَهُ للخروج.. ذلك أنه لم يكن بوسعه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يتردَّدَ في المواقف الحرجة، واتخاذ القرار النهائي الذي يحسم الجدل دونما أي تباطؤ، كي لا يرى الناس في مواقفه مظاهر ضعف هو بعيدٌ عنها.. وحاشا لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكون تفكيره إلاَّ صواباً، ودأبه إلاَّ حقاً، وهداه إلاَّ صلاحاً.. ولذلك تراه يظهر كراهيته للخروج مبدئياً، ثم يوافق عليه، لأنه أراد أن يكون للمسلمين - في بداية تأسيس دولة الإسلام - بناء ذاتي قوي، أساسه الشورى التي تقوم على الحوار والنقاش الهادىء، ليستقرَّ الرأي على وحدة الصف، واجتماع الكلمة، ومصلحة الجماعة.. وهذا ما يجب أن يفهمه المسلمون.. إذ ليس في الإسلام - في معالجة شؤون الحياة كافة - ما يستدعي موقفاً يمليه ظرف معين، ثم يناهضه موقف آخر في ظرف مماثل أو مشابه.. بل توجد في الإسلام أحكام وقواعد ثابتة لمواجهة الظروف المماثلة، ومعالجة المشاكل المتشابهة، في كل زمان ومكان... وفي القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة ما يغني من الأحكام والقواعد التي تجمع المسلمين على وحدة الكلمة حيال أي واقع، أو تجاه أي موقف.. ومع ذلك فإن الإسلام يحتاج، في كل وقت، إلى العلماء والفقهاء والمجتهدين من ذوي الاطلاع الواسع، والفكر العميق، والرؤية الصادقة، والنوايا الحسنة.. الذين يستوحون القرآن والسنة لمواجهة كل طارىء ومستجد، بما لا يخالف جوهر الدين. ومتى وجد هؤلاء المصلحون، الذين يكون نهجهم الإسلام، ورائدهم خدمة المسلمين ليس إلاَّ..، فإنَّ عين الله (تعالى) ترعاهم، وتجعلهم قادرين، بعد التوكل على الله، على ولوج شتى ميادين الحياة، وإيجاد الحلول لمختلف المستجدات... وهذا ما من شأنه - يقيناً - أن يأخذ بيد المسلمين، ويد الإنسانية بأسرها، إلى الصلاح والفلاح... بل، وهذا ما تهدينا إليه سيرة الرسول الأعظم، إذ يبدو أنه أراد من الخروج - وقت «أحد» - تحقيق هدفين أساسيين:
ـ ترسيخ النظام الذي يأخذ بتعدد الآراء، ولكن من دون التأثير على وحدة الكلمة.
ـ والعمل برأي الأكثرية في المواقف الهامة التي تؤثر على مستقبل الأمة.
وإنَّ في هذين الهدفين ما يجعل «أحُداً» تهيّئ لما هو أبعدُ منها بكثير.. إلى وحدة الكلمة ومستقبل الأمة.. بخلاف ما وصل إليه حال المسلمين من التنازع في الرأي، والتضارب في الاتجاه، وفرقة الكلمة!..
ثم تتلاحق بعد القرار بالخروج، الأحداث التي تكشف عن خفايا القلوب والنوايا، وما كان لها من تأثيرات أدت إلى النتائج التي أسفرت عن معركة «أحد»!.
فقد بَدَا جيش المسلمين وقتَ خروجه، وعدده ألف مقاتل، وكأنه جمع متلاحم، ووحدة متراصّة!. ولكن هذا الظاهر سرعان ما تبدَّدَ، إذ ما كادوا يقطعون بعض الطريق حتى تكشفت نوايا المنافقين في صفوفه، وظهرت حقيقة نفوسهم المريضة عندما أمَرَهم زعيمهم عبد الله بن أبيّ بن أبي سلول بالانسحاب من الصفوف والرجوع إلى المدينة، مما أفقد الجيش الإسلامي ثلث عدده، وأثار القلق في نفوسه، لاسيما في خروجه لمواجهة ألدّ الأعداء، وأكثرهم عدداً وعدَّة في شبه الجزيرة، ولم يكن هنالك من سبب يدعو ابن أبي سلول لمثل هذا التصرف الخطير، فإن كانت ذريعته الدفاع عن المدينة «لئلا تفضَّ بكارتها» - وفقاً لمقولته - فإن تلك الذريعة تسقط عندما تُكشَفُ نواياه الخبيثة، وهي أنه كان يؤمِّل هزيمة المسلمين، وغلبة الشرك والنفاق، فيعود له الملك الذي كان يعدُّ له نفسه، وإلاَّ إذا سقطت المدينة، وخربت، فإنَّ ذلك يُذهب أمله في تنصيب نفسه ملكاً فيها.. ثم إذا كانت تلك حجته، فلماذا لم يعلن ابن سلول عدم مشاركته وجماعته - من أهل النفاق - في الجيش، وعدم خروجهم معه إلا عندما وصل إلى منتصف الطريق؟! أما كان قميناً به أن يقول بصراحة: أنا لا أريد الخروج، وها أنا وجماعتي في المدينة قاعدون؟! إلاَّ إذا كانت نيته ضربَ الجيش الإسلامي، بما يملي عليه نفاقه!.. وهذا بالفعل ما كاد أن يحصل، إذ همَّت طائفتان أخريان - بنو حارثة وبنو سلمة - بالرجوع مثلما فعل ذلك المنافقُ، وطائفةُ المنافقين معه، لولا أن تدخل الوليُّ الأعلى، وأوكل إلى ملائكته أن تحول بينهما وبين اقتراف الإثم الذي وقع فيه رأس النفاق عبد الله بن أبيّ، لأن أفراد الطائفتين كانوا من المؤمنين والله تعالى هو وليُّ المؤمنين. وقد ذكر سبحانه ما كان من أمْر هاتين الطائفتين في كتابه العزيز حين حكى عن تلك المعركة. فقال عزَّ من قائل: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ *} [آل عِمرَان: 122].
لقد كاد ابن ابيّ أن يُصدِّع بنيان الجيش الإسلامي، ويقوِّض أركانه، فيعود مهزوماً قبل أن يلقى قتالاً!.. إلاَّ أن الله (تعالى) قضى أن يُفوِّت عليه تحقيق مقاصده الإجرامية، فقوَّى الورعَ في نفوس المؤمنين، وعاد الجيش يتابع مسيرته للقاء العدو الظالم.. ولكنَّ قلة عدده جعلت وضعه مترجرجاً بما يشبه جيش المشركين عند خروجه إلى بدر، وتخلّف بنو زهرة، وبنو عديّ في الجحفة عنه، ورجوعهم إلى مكة...
على أَنَّ رجوع المنافقين من بين صفوف المسلمين قد يعتبر ـ ظاهرياً - في غير مصلحتهم، إلاَّ أنه في الحقيقة كان خيراً لهم، بل ومن الأفضل أن يحصل قبل ملاقاة العدو، وإلاَّ كان الشرُّ أشدَّ، والخطبُ أفدحَ فيما لو انفضَّ المنافقون من بين الصفوف إبَّان القتال، لأن ذلك سوف يكون مفاجأة كبيرة للمسلمين، من شأنها أن تؤثر سلباً على كيانهم المادي والمعنوي، وتجعل العدو يستقوي عليهم، وينزل الهزيمة بهم!.. إلاَّ أن شيئاً من ذلك لم يحصل.. والفضل للَّهِ وهو يتولى - سبحانه - أمر المؤمنين، فيبدِّل الفشل عزماً ثابتاً، ويخزي المنافقين فيظهر نفاقهم ويذهب كيدهم أدراج الرياح.
وتتعاقب آثارُ وقعة «أُحدٍ»، فيظهر أشدُّها تأثيراً على مسار القتال ونتائجه، مخالفة الرماة لأوامر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي مخالفة فادحة، كان سببها الوحيد الطمع في الغنيمة. إلاَّ أنها تنمُّ أيضاً عن التنكر للجندية التي خرجوا فيها وعدم التحلي بالروح العسكرية في خوض القتال ومواجهة الأعداء.. ذلك أن إطاعة الأوامر هي جوهر النظام العسكري، والاختلال في هذا النظام يؤدي إلى فقدان كل مقوماته، وفي مقدمتها إخلاص الجندي وتضحيته في سبيل القضية التي من أجلها يدافع أو يقاتل..
من هنا فإنَّ من بديهيات الأمور في الشؤون العسكرية، ولاسيما في أوقات الحرب والقتال، أن يكون من أولى واجبات الجندي إطاعة أوامر قادته ورؤسائه.. وبالمقابل فإن مهمة القادة تكون، في الدرجة الأولى، التخطيط واعتماد أفضل الأساليب القتالية، وحسن إدارة المعركة وتوفير كل ما يتعلق بذلك من تأمين العتاد، والأدوات والوسائل التي تساعد على تحقيق النصر..
ولكن!.. أية فائدة من الخطط مهما كانت محكمة، وأي نفع للوسائل والأعتدة مهما كانت متطورة ـ بل كيف يكون للقادة سلطة - إذا انعدمت الطاعة بين الجنود، وتحللوا من تنفيذ الأوامر؟! ففي مثل هذه الحالة الخطيرة تكون النتيجة محسومة سلفاً، وهي الهزيمة لا محالة..
وهذا ما حصل بالضبط في معركة «أحد»، عندما خرج الرماة على خطة القائد الأعلى، وعصوا أوامر قائد كتيبتهم عبد الله بن جبير، الذي كان يلحُّ عليهم بعدم ترك مواقعهم على الجبل، والبقاء في تلك المواقع.. بل وضربوا عرض الحائط بكل ما حذَّرهم منه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونبَّه إليه، وهو ألاَّ يبرحوا أماكنهم حتى ولو رأوا العدو يقتل إخوانهم، ويهزم جيشهم!.. وبسبب مخالفتهم أحدثوا الثغرة التي استطاع العدو النفاذ منها، والالتفاف على الجيش - الذي كان منهمكاً بدوره في جمع الغنائم المادية - وأحال نصرهم، الذي بدأوه في أول المعركة، إلى الهزيمة التي انتهوا إليها، تلك الهزيمة التي كادت تقضي على الجيش الاسلامي برمته، وتبيده على بكرة أبيه، لولا رعاية الله (تعالى)، وثبات رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والثلة التي باعت نفسها في سبيل مرضاةِ الله، وطاعة رسوله.
ولقد كان في هذا الدرس القاسي، من دروس الجندية التي قدمتها «أحد»، ما يجعلنا ندرك بأنَّ النصر لا يكون إلاَّ بأسبابه، كما أن الهزيمة لا تكون إلاَّ بأسبابها.. بل وأهم من النصر والهزيمة، توحي «أحدٌ» بأنَّ من سنن الله تعالى في خلقه، أنه - عزَّ وجلَّ - لا يكون مع الانسان، إلاَّ إذ كان الانسان مع ربه، وأن ربَّهُ يتخلَّى عنه إن شغل نفسه بأمور عارضة من أمور الحياة الدنيا.. فالمسلمون عندما أخلصوا النية لله تعالى في بدرٍ، وقاتلوا عدوهم - الذي هو في الأصل عدوّ لله تعالى بضلاله وشركه، ومحاربته لدينه القويم - فقد نصرَهُمُ الله تعالى، وأيَّدهم بجنود من الملائكة لم يروها... بينما ها هُمُ في «أحدٍ» يُهزمون، وهزيمتهم وإن كان سببها المباشر الغنيمة - أي متاع الدنيا - إلاَّ أنها في حقيقتها نوع من القصاص الربّاني، لأن فئة منهم شغلها عرَض الدنيا، فكان لا بدَّ أن يأتيهم الدرس بليغاً بالعبر والعظات، وأهمها هذا البلاء العظيم الذي وقعوا فيه في أحد..
ولكنّ الله عزَّ وجلَّ رؤوفٌ رحيمٌ بالعباد، وبالمؤمنين خاصة، وإن زلّوا أو أخطأوا! فمن الصحيح أن المسلمين قد وقعوا في الابتلاء والتجربة المريرة يوم «أحد»، إلاَّ أنهم عادوا وأدركوا الخطأ الذي ارتكبوه، فكان عفوُ الله عنهم فضلاً من فضائله السنية التي لا تحدُّ. ولذا منَّ سبحانه عليهم بالعفو بعد الابتلاء كما يبيّنه قولُهُ العزيز: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *} [آل عِمرَان: 152].
ثم تتعاقب الظلال عديدة ومتنوعة.. ولكنَّ ما يثير العجب في تلك الظلال يوم«أحد»، هو ذلك الضعف الذي سيطر على نفوس فئة كبيرة من المؤمنين، ساعة ارتداد العدو عليهم. فقد وقع التشتت في صفوفهم، وحلَّ القعود عن القتال بينهم.. بل إن اكثرهم قد فرَّ من المعركة، مولياً وجهه شطر المدينة حتى بلغَ جوارها، فأربكه فراره وأوقعه في حياء منَعَ عليه دخولها.. فهنا العجب!.. أوَ لم يكن حَرِيّاً بالمؤمنين بدل أن يَدَعوا الضعف والخوف يسيطران عليهم، أن يلجأوا إلى الله (تعالى) وينادوا: اللَّهُ أكبرُ.. وهو النداء الذي يكفل أن يعيد جمعهم، ويحيلهم كتلةً متراصة في وجه عدوهم، فيقوَوْا على تشتيت صفوفه - وهم قادرون على ذلك - لأن إعدادهم كان إعداداً صحيحاً، وأوامر نبيهم كانت واضحة؟!.. وقبل ذلك، فإنهم أهل الإيمان والتقوى، وجهادهم إنما هو في سبيل الله، وهذا بخلاف عدوهم الذي يفتقر لمثل هذه المقومات العظيمة!.. نعم لقد كان حريّاً بهم، وهم الذين تلقّوا الإعداد النبوي منذ بدء الدعوة، وقبل أية معركة، ألاَّ يهنوا وألاَّ يضعفوا أمام العدو!.. على أنه قد يبدو مثلُ هذا الضعف أقلَّ مدعاة للعجَب من موقف آخر عندما تخلَّى أكثرهم عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتركوه وحيداً، في أكثر اللحظات خطورة وأشدِّها حرجاً... فأين محبة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في نفوس الذين راحوا يصعدون في الجبل ولا يلوون على أحد؟! وأين إيمانهم بصدقه، وبالحق الذي يدعو إليه؟.. بل أين ذلك التفاني والإِخلاص اللذان كانا يدفعان بالمسلمين لحمايته - وحماية أنفسهم ـ يوم كانوا في أشدّ حالات ضعفهم في مكة، حيث كانوا يتخلّون عن كل شيء في سبيل إسلامهم، ويضحون بكل غال ونفيسٍ من أجل نبيِّهم؟..
فهل تغيّرت عند الهاربين تلك النفوسُ الخيرة في ساعة الشدّة، فآثروا النجاةَ حرصاً على الحياة، وتخلّوا عن النبيّ، والقائد والمحارب؟! مع أنهم يعلمون حق العلم أن أعداءه يريدونه قبل كل الناس، وقبل أي أحد آخر من المسلمين؟!.. إنه الضعف البشري قد فعل فعله في أولئك الصحابة في تلك اللحظات الحرجة، فكان أن بَدَرَ منهم ما بدر من التخلي عن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ساعة الشدّة والابتلاء!....
ولكنْ، وإن افتقد رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غالبية الصحابة من حوله في تلك اللحظات، فإنه سرعان ما عوَّضت عن ذلك هجمةُ الأبطال الأشاوس الذين اندفعوا نحوه يذبّون عنه، ويفرّقون الأعداء عنه وهم يَهبون نفوسهم للموت دونه.
أجل، لقد جاءت هذه الجماعةُ الشجاعةُ تفدي نبيَّها بالأجساد والمهج قبل أن تدافع عنه بالسلاح. ولكنها كانت قليلة أمام كثرة الأعداء، فراحت تتساقط شهيداً تلو شهيد، حتى أمكنها أن تُبعد الأعداء عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بفضل الله ورعايته له، لأن أولئك البررة البواسل، ما كانوا ليغنوا عنه شيئاً، لو لم يكن حفظهُ بأمرٍ من الله عزَّ وجلَّ.. فمكّن لجنوده المخلصين الدفاع عنه وحمايته، والله تعالى هو خيرُ حافظٍ وهو أرحم الراحمين..
وإنَّ أبعد ما يمكن تصوُّره في مواقف الهاربين إلى الصخور في شعاب «أحد» هو عدم الاستماع لصوت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان يدعوهم في أخراهم إلى الرجوع.. فلا يستجيبونَ، بل يمعنونَ في الهرب متخلّين عن كل ما وراءهم، تاركين كل شيء، ولا يلوون على أحد.. فسبحان الله الذي يُحصي على عباده كل صغيرة وكبيرة، فيتنزَّلُ في اولئك الهاربين قرآنٌ كريمٌ يصوّر ما كانت عليه حالتهم، فيقول سبحانه وتعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عِمرَان: 153].
فلله ما أروعَ القرآن الكريم، وهو يرسم بكلمات معدودة مشهداً كاملاً لأولئك الفارِّين، بحيث يُظهر الصورة التي تعجُّ بحركاتهم الحسية والنفسية في آنٍ معاً!.
على أن ذلك المشهد لم يكن - في الواقع - إلاَّ تعبيراً عن ضعف مجموعة من الرجال، يُمثل الضعفَ البشريّ على حقيقته.. أي تلك الحالة المعنوية التي يتهافت فيها الإنسان، فيظهر في تهافته على تلك الحالة الحسيّة من الوهن والخوَر، التي تدفعه لنسيان الواجب، حتى ولو كان من أقدس الواجبات وأعظمها!..
وكما صوَّر القرآن الكريم مشهد الهرب، وكما عرض ذلك الضعف الذي حلَّ بنفوس الهاربين وتأثيره عليهم، فقد أبرز حقيقة أخرى هامة جداً، وهي أن الخطأ الذي يرتكبه الإِنسان في حالة من حالات ضعفه، لا غافر له، ولا مسامح إلاَّ الله سبحانه وتعالى. وهكذا يتنزَّلُ الآي الحكيم وهو يحمل عفوَ الله - تعالى - ومغفرته للذين تولّوا يوم «أحد»، بقوله الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ *} [آل عِمرَان: 155].
تلك هي الظلال السوداء من وقعة «أُحد» في حياة المسلمين.. ولكنها لم تكن هي الوحيدة التي حفلت بها أجواء ذلك اليوم، بل كان بجانبها ظلال أخرى مختلفة عنها أشد الاختلاف، لأنها ازدانت بالإِشراق والنور، وطفحت بالشجاعة والبطولة، وفاضت بالعزَّة والكرامة، حتى جعلت نصرَ قريش يخبو أمام لمعانها البرَّاق، ووهجها الساطع...
فهذا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يثْبتُ طوداً منيعاً، وقائداً عظيماً مهيباً في مواجهة الأعداء في تلك الساعة الرهيبة التي وجفت فيها القلوب، وتخبَّلت منها العقول. فعندما أخذت الكثرة في جيشه تتوزع أشتاتاً، وتتفرق هرباً من الذعر، وقف هو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكافح ويقاتل وحيداً بتصميم وثبات، حتى أَنَّ بعضاً ممَّن كانوا يدافعون عنه، صاروا يلوذون به، ويحتمون في ظله من شدة ما يؤمنون به ملاذاً، ويأوون إلى حمى بطولاته اطمئناناً لمكانته عند ربه، شأنه في كل المعارك الكبرى التي خاضها المسلمون تحت لوائه «فكان إذا لقي العدو يدعو قائلاً: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم».. وكان إذا اشتدَّ البأسُ وحميَ الوطيس، وقصده العدو يُعلن عن نفسه فيقول:
أنا النبيُّ لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
وكان الناس إذا اشتدَّ الحرب اتقوا به (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان أقربهم دائماً إلى العدو»[*]. أجل! هذا هو محمدٌ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، القائد الحربي، والطليعة في القتال... وهذا ما يدعونا للتأمل في شخصية هذا الرسول العظيم، عندما نعلم أن الضعف سمةٌ في طبيعة الإنسان، وكثيراً ما يطير قلبه هلعاً، وترتعد فرائصه في مواجهة الخطر القاتل، بل ويضعف عزمه حتى يفقد السيطرة على نفسه فيصير لقمة سائغة لعدوه.. أما محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد ظلَّ في «أحد» رجلَ المعركة، بكل مخاطرها ومسؤولياتها، يدعو الهاربين من ورائه للعودة والثبات، ويظل وحيداً في مواجهة الأعداء، إلى أن يرسل الله (تعالى) إليه صحابةً أبراراً، ورجالاً أبطالاً يدفعون عنه شدة الخطر، ويردّون عنه غائلة القتل بإذنه تعالى!
فهل أروع وأعظم مما تجلّت به بطولة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقوة رجولته في ذلك الموقف؟!.. وإذا كان موقفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينضح - أجل - بالروعة والعظمة، فإنَّ حسنَ خلقِهِ الذي تجلَّى بعد انتهاء المعركة، في معاملته للمسلمين، يجعله المثلَ الأعلى في بني الإنسان - وعلى الزمان - في التسامح، والعفو والحكمة.. فقد راح يحتضن - بمعهوده - الجيش «المنهزم» باللطف، والحنان والعطف.. فلم يعنّف أحداً، ولم يوجه لوماً أو تأنيباً لأحد، ولم تبدر منه سانحة غضب أو نفور، ولم يغلظ في قول أو اتهام.. بل على عكس ذلك كله، كان يستقبل الجميع بقلب شفوق، ونفس رحيمة: يواسي الجريح - رغم جراحه هو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - ويشدُّ من عزم الضعيف، ويهوّن على المتعب.. ويعدُ الثابتين بنصرٍ قريب آتٍ بإذن الله تعالى.
لقد نظرَ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الهزيمة من منظاره النبوي السامي، فأرادها أن تكونَ عظةً بالغة للمؤمنين، يُفيدون منها في مقبل الأيام، والتعامل مع الحياة.. لا شدّةً تقضي عليهم، وتذهب بقواهم النفسية والمعنوية. صحيح أنه قد هوى في تلك المعركة شهداء أبرار أخيار، ولكنهم كانوا الشعلة التي تضيء الطريق أمام الباقين، والمثال الذي يجب أن يحتذوا به. والشهداء - على كل حال - لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقد أثابهم الله تعالى رحمةً منه ومغفرة، لأنهم مضوا على العهد صادقين، وماتوا على الطاعة لله وَرسوله مخلصين.
نعم لقد عفا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الذين أخطأوا وتسببوا بالهزيمة، واستغفر اللّهَ لهم، فأثنى اللّهُ عزَّ وجلَّ على موقفه الرائع، ونزل قرآن كريم بهذا الثناء الرَّباني بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عِمرَان: 159]، واستغفار الرسول الأعظم، وبأمرٍ من ربه، ليس له معنى إلاَّ الغفران والرحمة من الغفور الرحيم.
أما الصحابة الأبرار فهم، بعد الرسول الأعظم، المصابيح المتلألئة، الذين ينيرون ظلال «أحد»، ويزينون آفاقها بصدق الإِيمان، وقوة العزيمة، وقد صنعوا - فعلاً - نصراً، على الرغم من مظاهر الهزيمة التي وقعت على المسلمين...
فالصحابة الأخيار والشهداء الأبرار، وغيرهم من الشجعان الأشاوس، كانت لهم مواقفُ بمثابة مناراتٍ، تبقى على الزمان مآثر مجدٍ يخلّدها التاريخ.. لقد وهبوا نفوسهم للموت في سبيل الله (تعالى)، وكانت غايتهم القصوى نيلَ رضوان ربهم، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى..
لقد كانوا، يوم «أحد»، سيوفاً لله ودروعاً للإِيمان، وحصناً للإِسلام، فصفَّق لهم المجد عبر الأيام.. إنهم لم ينشدوا مجداً ولا عظمة لذواتهم، بل أرادوا وجه الله - عزَّ وجل - وأيقنوا أنَّ العزَّة لله جميعاً، وما داموا كذلك - وطالما أن القتالَ سجالٌ - فلا بدَّ أن ينتصر اليوم فريقٌ، وغداً فريق آخر.. إلاَّ أن النصرَ العزيز، هو في نهاية المطاف للحق.. والاسلامُ - دينُ الله - ما كان إلاَّ حقّاً، فإن انهزم جندُهُ في معركة «أحد»، فإنّ النصرَ سيكون حليفهَم في مقبل الأيام..
ولئن كانت معركة «أُحد» بذاتها تجربة قاسية، وامتحاناً عسيراً - كما رآها المسلمون - إلاَّ أنها كانت ضرورية؛ وكان يجب أن تحدث ليمحِّص الله (سبحانه) فيها السرائر، ويمزق النقاب عن مخبوء الضمائر. وبالفعل، فقد تميز أهلُ النفاق من المؤمنين، بل وتميّزت مراتب المؤمنين أنفسهم، فَعُلِمَ الذين ركلوا متاعَ الدنيا بنعالهم، ولم يعرّجوا على مطامعها، تماماً كما عُرِفَ الذين مالوا إلى الحياة الدنيا - ولو بعض الميل - فنشأ عمَّا استزلَّهم الشيطان به ما ينشأ عن الشرر المستصغر من حرائق مروِّعة. وكما مسَّ المشركين قرح عندما اختلفوا في الرأي، إذ تبلبلتْ صفوفهم وتفرقوا وانهزموا، كذلك مسّ المسلمين قرح عندما اختلفوا وتفرقوا وعصوْا رسول الله. والأيام دُوَلٌ بين الناس. وصدق الله العظيم بقوله تعالى:
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ *} [آل عِمرَان: 140-141].
وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ *} [آل عِمرَان: 166].
.. وهكذا تظهر «أُحد»، قاتمةً حيناً، ومشرقةً حيناً آخر..
فقد أبانت للمسلمين أخطاءً ارتكبوها، تمثّلت بتلك الوقائع التي عايشوها لحظة بلحظة.. لتكون درساً وعبرة فيتلافوها في مستقبل أيامهم، ولا يقعوا بمثلها مرةً أخرى...
وقد كشفت للمؤمنين - أيضاً - ما يعلو على مصائبها، ويسمو على أحداثها، إذ شعروا بأن الله سبحانه وتعالى لم يتركهم في غمرة اليأس الذي يقتل النفوس، بل مسح على أحزانهم برفق، ومزج العتاب الرقيق بالدرس النافع...، بل وتيقَّنوا - بنعمة الله التي أنارت بصائرهم - أن شدةَ الهزيمة مهما بلغت فإنها لا يمكن أن تنال من شرف الغاية التي من أجلها يقاتلون، ولا من سموّ المبدأ الذي عنه يدافعون، بل يظل مبدأهم - الإسلام - أكملَ المبادئ، وتبقى غايتهم - رضوان الله تعالى - أشرف الغايات. وما النصر والهزيمة إلاَّ عارضان من عوارض الأَيام التي يداولها الله - عزَّ وجلَّ - بين الناس، وسنّة من السنن التي تتفاعل بما كسب الناس:
فيومٌ علينا ويوم لنا
ويوماً نُساءُ ويوماً نُسَرُّ
وإذا كان الموتُ شهادةً يُفرح أهلَ السماوات والأرض - على الرغم من الحزن اللاإرادي عند بني البشر لفقد الأحبة - فإنَّ الموت - على مختلف وجوهه - يبقى في نظر الأعداء شماتةً مثلما كانت شماتة المشركين والمنافقين في قتلى «أحد».. ولئن بلغت الجهالة بالمشركين كلَّ مبلغها، والخبث بالمنافقين كل أَوجِهِ - وذلك بما أظهروا من الشماتة والحقد - فإن الشهادة تبقى أرفع وأجلَّ عطاء يمكن أن يقدمه الإنسان ومثاله شهداءُ «أحدٍ»، وهم يذودون عن حياض الدين القويم، وسلامة النبي الكريم.. لقد تناسى المشركون والمنافقون أنهم بشَرٌ، وأن الموت سيأتيهم عاجلاً أو آجلاً.. وشتان ما بين الموت الذي كتبَهُ الله على رقاب العباد، والموت شهادةً... فالذين لا يدركون من الحياة إلاَّ مظاهرها الحيوانية البحتة - أمثال المشركين والمنافقين - لا يرون في الموت إلاَّ أنه يسلب منهم الحياة، ويحرِمهم من تلك المتع الرخيصة التي يعيشون لأجلها!... أما الموت شهادةً فهو الحياة بعينها، لأن الشهداء لا يموتون - وإن فارقوا هذه الحياة الدنيا - بل هم أحياءٌ عند ربهم يرزقون، ويتمنون - لكثرة ما وجدوا من طيب الحياة هناك - أن تكون لهم دعوة ثانية، ليجاهدوا في سبيل الله، فيقتلون ويُقتَلون، مرةً أخرى.. وهذا ما عبَّر عنه الرسول الأعظم وهو يعزّي بشهداء «أحد» بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «لمَّا أصيب إخوانكم يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل ذهبٍ معلقة في ظل العرش.. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحُسنَ مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا كي يجاهدوا ويلقوا الشهادة»[*].
فعلم الله عزَّ وجلَّ أمانيَّ الشهداء، فخاطبهم مُطمئناً: أنا أبلِّغهم عنكم.
وكان التبليغ ما أنزل الله سبحانه وتعالى من آيات بينات:
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [آل عِمرَان: 169-170].
التطورات التي أعقبت معركة أحد
انتهى يوم «أُحد»، وغطَّى الليلُ المدينةَ بضوء قمره، فهجع المسلمون تلفّهم الأحزان، وتخيِّم على بيوتهم السكينة والكآبة.. لقد أصابتهم النكبة، ولكن رحمة الله أوسع...
أما المنافقون واليهود فقد تواعدوا على السهر والسمر، إذ عادت الآمال تراودهم، والمطامع تدغدغ أحلامهم، بعد هزيمة المسلمين التي تعد نصراً لهم.. كما يُعدُّ يومُ «أحدٍ» يومَهم، لأنه لم يكن يوم خسارة الأعداء وحسب، بل ولأنه يوم السبت الذي أقيمت فيه الصلوات واستجيبت الدعوات!!!..
وإن هذه المناسبة العظيمة - بعرفهم - تفرض عليهم أن يقيموا الاحتفالات التي هجروها منذ سنوات. ولذلك فما كاد الليل يحلّ حتى تلألأت المصابيح والشموع في دورهم، والتهبت الألحان في نواحيهم، وراحت بيوتهم تصدح بالأنغام وغناء القيان، وتوغل في المتع واللذائذ...
فالجميع يشاركون في هذه الفرحة الكبيرة، ولا أحد يريد أن يفوِّت عليه عيدَ الشّماتة.. فكانت لهم تلك الليلة العامرة التي أحيوها، كلّ على طريقته وخُلُقِهِ ومزاجه، كما يعبِّر عنها شيوخ النفاق، ودهاة اليهود - معاً - وهم يتسامرون، ويتحدثون عن أُحد..
فمن قائل:
- لقد أوغرنا قلوب الناس على «محمد» حتى يتفرَّقوا عنه، فعسى أن ننال ثمرة أتعابنا أكثر من يومنا هذا..
ومن قائل:
- وبذلنا وسعنا في زيادة فجيعة ذوي القتلى على موتاهم..
إلى قائل: ونحن لم نألُ جُهداً في إسماعهم شتى ألوان التشفِّي!.. وأننا كنا قوماً أشدَّ حزماً وأكثر حكمةً، حين رجعنا من الطريق ولم نمضِ معهم إلى القتال..
وإلى قائل:
ـ وأوجعناهم لوماً ونحن نُشيعُ بينهم بأنهم لو سمعونا وأطاعونا ما قُتلوا..
حقد .. ورعونة.. بهما كانوا يسمرون، ويتقوّلون هازئين، ساخرين، وانتقام .. وتشفٍّ.. بهما باتوا يبتهجون شامتين، حاقدين.. لقد سرَّهم كثيراً أن يْقتَلَ المسلمون، فأحيوا ليلَ الشماتةِ والضلالة.. ولكنَّ الله ـ وهو أحكم الحاكمين - قد أنزل في نفاق أولئك المتقوّلين آياتٍ تُبيِّنُ خطَلَ ما يدَّعون، بل ويتوعدهم بأن يدرأوا عن أنفسهم الموت إنْ كانوا صادقين في أقاويلهم، فقال عزَّ من قائل: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [آل عِمرَان: 168].
غزوة حمراء الأسد
أمّا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد بات ليلته ساهراً يفكِّر بالغد، لأن الأمر أصبح دقيقاً، ويستدعي اتخاذ خطوة سريعة وحاسمة، وإلاَّ، إن لم يفعل شيئاً، فإن الأمور سوف تتعاظم. وقد تُسوّلُ للمنافقين نفوسُهم، ولغيرهم من قبائل العرب التي ما تزال على عداوتها للدعوة، أن ينقضّوا على المسلمين، ويحاولوا القضاء على كيانهم... ولذا صمَّمَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يزيل أثر الوهن من نفوس المسلمين، وأن يعيد إليهم الثقة في ثباتهم أمام الدسائس والمناورات، فعزم على الخروج في أثر قريش، على الرغم مما أصابَ المؤمنين من قَرْح، وما هم عليه من إعياء..
ولقد قدَّر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن النتائج التي ستعقب ذلك الخروج، تتركَّز في هدفين: قطع الطريق على المرجفين في المدينة، وإشعار قريش ومن يوالونها بأنهم لن يطأوا أرض المدينة إن راودتهم نفوسهم الرجوع للقتال؛ لأن المسلمين لم يضعفوا كما يتوهمون، بل لا يزالون يملكون من القوة التي يستطيعون بها أن يُرهبوا عدوّ الله وعدوَّهم...
فلما كان الغدُ من «أُحُد» أي يوم الأحد في السادس عشر من شوال، إذا بصوت مؤذِّن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتعالى في أرجاء المدينة، ويدعو المؤمنين للخروج في طلب العدوّ، وأن لا يخرجنَّ أحدٌ إلاَّ إذا حضر يومنا بالأمس.
وهبَّ المقاتلون، يمتشقون أسلحتهم، ويتدافعون نحو المسجد، وكأنما ذهب الوهن عنهم بتلك الدعوة الصارخة، وجاء معهم من تخلَّف عن أحد. وبينما هم ينظِّمون الصفوف، ويشدُّون العزائم، خرج إليهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في لباسه الحربي، ونادى فيهم: «ألا عصابة تشدُّ لأمر الله تطلب عدُوَّها؟ فإنها أنكأ للعدو وأبعد للسمع؟»[*]. «وقد ورد في بعض الروايات عن القميّ (رحمه الله): أن جبريل (عليه السلام) نزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: يا محمد، إنَّ اللَّهَ يأمرك أن تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معك إلاَّ من به جراحة؛ فأمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مناديهُ أن ينادي بذلك»[*].. ولكن الأصحَّ أن رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد دعا للخروج الذين شهدوا «أحداً» لأنه الأوْلى بهم أن يتعقّبوا جيش قريش، بعدما ثابَ إليهم عزمهم الاسلامي الصحيح...
وأبصرَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين المقاتلين أناساً تخلفوا عن أُحد، فأبعدهم.. ثم طلب إليه ابنَ أُم مكتوم فاستخلَفَهُ على المدينة، ودفع اللواء إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسار في طليعة جيشه على بركة الله..
وهكذا انطلق الجيش الإِسلامي من جديد يريد اللحاق بقريش، لمقارعتها في قتالٍ حاسمٍ، حتى تعرف هذه الفئة الباغية أن أنصار الله ورسوله هم سيوف الحق، ولن يناموا على الضيم.
لقد خرجوا جميعُهم - من كانوا معافين منهم أو جرحى - يلبون نداء الواجب. لا بل إنَّ الجرحى كانوا أكثر حماسةً، كما يصوّر حالهم أحدُ الصحابة من بني عبد الأشهل فيقول: «شهدت أُحداً أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذَّن مؤذن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالخروج في طلب العدو، وهو يتلو الآيةَ التي أنزلها الله تعالى على نبيِّه الكريم: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [آل عِمرَان: 139].. نعم لما أدركتنا هذه الآيةُ المباركة تواعدنا على ألاَّ تفوتنا غزوة مع رسول اللّه.. واللهِ ما لنا من دابَّة نركبها، وما منَّا إلاَّ جريحٌ ثقيلٌ. وكان أخي رافع أكثر مني جراحاً، فكان إذا ضعف عن السير، تقدمت وحملته على ظهري، وأنا أجهدُ في المسير، حتى لا أعودَ أقوى على احتماله، فأنزله عن ظهري، ليمشي قليلاً، ثم لا ألبث أن أعودَ وأحمله من جديد.. وما زلنا كذلك حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فأتينا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نعتذر عن تأخُّرنا»[*].
وكان الجيش الاسلامي قد بلغ حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة، فعسكروا هناك.. وأمر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يجمعوا الحطب، ويجعلوهُ أكواماً متفرقةً على مختلف جوانب المعسكر، فلما كان نصف اللّيل، أمر بأن يشعلوا النيران حتى ترتفع ألسنة اللّهب بحيث يمكن للمسافر أن يراها من بعيد، فيظنّ بأن أصحاب تلك النيران قوم لا يحصى لهم عدد، ولا تغلب لهم قوة..
وانقضت تلك اللّيلة ونيران المسلمين لا تنطفىء. وعادوا إليها في اللّيل التالي، مما جعل أخبارها تصل قريشاً، فتهنُ منها العزائم، وتفترُ القوى. وكان ذلك أحد العوامل التي كبَتَ (أذلَّ) الله تعالى بها قريشاً.
وبينما كان المسلمون يعسكرون في حمراء الأسد، أقبل عليهم معبد بن أبي معبد الخُزاعي، وكانت خزاعة بمسلمهم ومشركهم لا يُضمرون عداوة للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . بل كانوا - على العكس - موضع سرّه في تهامة، لا يخفون عنه شيئاً كان بها، فجاء معبدٌ يواسي رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقول:
»أما والله لقد عزَّ علينا ما أصابك، ولَودِدْنا أنَّ الله عافاك فيهم»[*]..
ثم خرج معبد حتى بلغَ الروحاء، على بعد خمسة وثلاثين ميلاً من المدينة، وفيها أناخ المشركون للراحة، فسأله أبو سفيان: «ما وراءك يا معبد؟»، قال: «محمد قد خرجَ في أصحابه يطلبكم في جمْعِ لم أرَ مثله قطُّ، يتحرَّقون عليكم تحرُّقاً. قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا. فيهم من الحنق عليكم شيءٌ لم أرَ مثله قطُّ». قال: ويحك! ما تقول؟ قال: «والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل - أو - حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. قال أبو سفيان: فوالله لقد أجمعنا الكرَّة عليهم، لنستأصل بقيَّتهم»[*].
قال معبد: فلا تفعل، فإني ناصحٌ[*].. والله لقد حملني ما رأيت - من المسلمين - على أن قلت فيهم أبياتاً من شعر[*].
قال أبو سفيان: وما قلتَ؟!
قالَ معبدُ: قلت[*]:
كادت تُهَدُّ من الأصواتِ راحِلَتِي[*]
إذْ سالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأَبابيلِ[*]
ترْدِي[*]بأُسْدٍ كِرامٍ لا تَنَابِلَةٍ[*]
عند الِّلقاء ولا مِيلٍ مَعازِيلٍ[*]
فظلْتُ عَدْواً أظنُّ الأرضَ مائِلَةً
لمَّا سَمَوْا برئيسٍ غير مَخْذُولِ
فقلتُ: وَيْلَ ابنِ حربٍ من لقائِكُمُ
إذا تغطمطتِ البطحاء بالجيلِ[*]
إني نذيرٌ لأهلِ البَسْلِ[*] ضاحيةً[*]
لكل ذي إربَةٍ[*] منهم ومعقولِ
من جيشِ أحمدَ لا وَخْشٍ[*] تنابلة
وليس يوصَفُ ما أنذرتُ بالقِيل[*]
وجمع أبو سفيان الرجالَ، وأطلعهم على ما حدَّثهُ به معبد الخزاعي، فاختلفوا بين منكرٍ للرجوع إلى مقاتلة «محمد»ٍ، وبين داعيةٍ للعودة إليه وقتاله حتى يحافظوا على هالة النصر، وتبقى لهم سمعة الظفر به.. ولكن غلب عليهم حبُّ الدعة، والخلود إلى المتعة بدل الحرب، فقاموا يشدُّون الرحال، للعودة إلى مكة.
ومرَّ بهم ركبٌ من عبد القيس، يريد المدينة في طلبِ الميرة، فقال لهم أبو سفيان:
هل أنتم مبلِّغون عني «محمداً» رسالةً أرسلكم بها إليه، وأحمّل لكم رحالكم هذه غداً زبيباً بعكاظٍ إذا وافيتُمُوها؟
فأجابوا: نعم!..
قال أبو سفيان: فإذا جئتم «محمداً» فأخبروه أنَّا قد أجمعنا الكرة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيَّتهم.
..فلما مرَّ ذلك الركب برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، وأخبروه بما أوصاهم به أبو سفيان، لم يزد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أن قال: «حسبنا الله، ونعم الوكيل»[*].
وانقضت أيام ثلاثة: الإثنين والثلاثاء والأربعاء، والمسلمون ينتظرون رجوع قريش ولكنها لم ترجع، بل عاد النفر من المسلمين الذين بعثهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يترصدون أخبار الأعداء، ويرقبون تحركاتهم، ليخبروه بأن قريشاً قد سار ركبها إلى مكة مرتحلاً، ولم يتخلَّف أحدٌ عن هذا المسير. عندها أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) برفع المعسكر، والرجوع إلى المدينة. فأنزل الله تعالى قرآناً كريماً، يَعِدُ أولئك المؤمنين، الذين خرجوا على رغم جراحهم لمقاتلة العدو الكافر، بالأجر العظيم الذي يستحقون. ويصف حالهم عندما جاءَهم أناس يوهنون منهم العزم، ويثيرون في نفوسهم الخوف، فما زادهم ذلك إلاَّ إيماناً واحتساباً، فقال عزَّ وجلَّ فيهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ *الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ *إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [آل عِمرَان: 172-175].
ويشاءُ اللهُ العليمُ الحكيمُ أن يُلاقوا في طريق العودة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبا عزّة الجمحي[*]، الذي أُسر ببدرٍ، ولكن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانَ قد منَّ عليه من أجل بناته الخمس، اللواتي لا معين لهنَّ غيرُهُ، إلاَّ أنه خان العهد، فخرج مبعوثاً لقريش إلى القبائل، يظاهر بشعره على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين، بل وخرج لمقاتلتهم في أحد.. وحاول ذلك المخادعُ أن يتخلَّص مرةً أخرى بنفاقه وخبثه، وهو يبدي عذره وأسفه لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبأنه لم يكن راغباً فيما فعل، بل إنَّ صفوان بن أميَّة هو الذي أغواه عندما قال له: «يا أبا عزة! إنك امرؤٌ شاعرٌ فأعنَّا بلسانك.. لئن خرجت معنا، فلك عليَّ عهدٌ إن رجعت لأعيننك في بناتك»..
فقال له بعض المسلمين:
ـ ورضيت بعهد ابن أمية لك، ونقضت عهدك مع رسول اللّه! فما جزاء من ينقض عهد رسول اللّه؟..
فقال مخادعاً: يا رسول اللّه، أقلني.
فقال له الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمداً مرتين... إن المؤمن لا يلدغ من جُحْر مرتين»[*].
ثم أمر أن يأخذوه جانباً وتُضرب عُنقه، وكذلك ضُرِبَ عنقُ معاوية بن المغيرة لشدة عداوته للمسلمين وأذيتهم في مكة..
وعادَ المسلمون من غزوة حمراء الأسد أرفع رأساً وأعزَّ جانباً.. فقد طاردوا العدو، ولبثوا بضعة أيام ينتظرون رجوعه إليهم، ولكنه آثرـ على الرغم من النصر الذي حققه - عدم مواجهتهم من جديد، بل وولَّى إلى دياره قانعاً بالسلامة، مكتفياً بما حقق من نصر.
وظنَّ المسلمون أن تلك المطاردة، التي عادوا منها أرفعَ رأساً، وأعزَّ جانباً، سوف تخفف من غلواء أعدائهم، في المدينة وخارجها. إلاَّ أنَّ الأمر كان على خلاف ذلك، لأن الغرور كان قد ركب رؤوس الحاقدين، فاعتقدوا أنه لن تقوم للمسلمين قائمة بعد، وأن مظاهر القوة التي أبدوها في المطاردة، إنْ هي إلا ذرُّ رمادٍ في العيون، لن تُزيل الضعف الذي حلَّ بهم!..
كما وأنَّ كثيراً من قبائل العرب، خارج المدينة، نقضوا من جانبهم المواثيق التي عقدوها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانقلبوا إلى سابق عهدهم من العداوة.. بل وراحوا يستعدون لمهاجمته وقتاله..
وكان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يبعث العيون في كل النواحي، فتأتيه بالأخبار عمَّا يُعِدُّه أعداء الداخل والخارج من مؤامرات ضد الإِسلام، ومن استعدادٍ لقتال المسلمين..
سرية أبي سلمة
وفي تلك الأجواء المشحونة، بلغَ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ بني أسد ابن خزيمة يُعدّون للإغارة، واقتياد مواشي المسلمين التي ترعى في أطراف المدينة، فدعا إليه على عجلٍ أبا سلمة بن عبد الأسد، وعقد له لواء على سرية بلغت مائة وخمسين مقاتلاً من خيرة أبطال المسلمين وأكثرهم شجاعة، وأمرهم بالمسير إلى بني أسد، ليغزوهم في عقر دارهم، قبل أن يقوموا هم بغزوهم على المدينة. وكانت أوامر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن يسيروا الليل ويقعدوا النهار، وبأن يسلكوا طرقاً غير مألوفة، ويستخْفوا عن الأنظار، فلا يطَّلع أحد على خبرهم، وبذلك يُمكنهم مفاجأة العدو على غرَّةٍ منه.
وسارت تلك السرية حتى بلغت منازل بني أسد، فضربت حولها نطاقاً في عماية الصبح، واندفع قائدها أبو سلمة أمام رجاله، يحضّهم على الجهاد في سبيل الله، والنيل من أعدائه... وكانت ساعة مباركة، انقضوا فيها على العدو يشتِّتون شمله، ويصيبون إبلَهُ وشاءَه، ثم عادوا يسوقون الأموال التي غنموها، وهم يكبرون ويهلِّلون بالظفر، ويهزجون بالفلاح. ولم يلبث أبو سلمة، بعد هذه السرية، إلاَّ قليلاً، إذ نكأ جرح كان قد أصابه في أحد، فمات - رحمه الله ـ[*].
مقتل خالد بن سفيان الهذليّ
ثم لم يمرَّ وقت طويل على تلك السريّة، ونُقِلَ إلى رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنَّ خالد بن سفيان الهذلي قد أقام بعرنة، يجمع الناس من حوله ويستعد لغزو المدينة. فبعث رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد الله بن أنيس ليقتله، فذهب حتى بلغ منازل خالد الهذلي، واجتمع إليه، مبدياً إعجابَهُ بما سمع من إعداده وجمعه لحرب المسلمين!.. وتراءى للهذلي بأنه صار مشهوراً بين العرب، وأنَّ القبائل سوف تفدُ إليه لتعقِدَ له لواء الحرب.. ومازال عبد الله بن أنيس يدهن له في القول حتى استدرجه للخروج في نزهة كي يستريح من أعبائه... فلما وصَلَ به وراء كثيب من الرمل، استلَّ سيفه، وقتله بغروره من نفسه، وعادَ إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليخبره بما جرى معه، وقتْله ذلك اللعين الكافر، الذي كانَ يجمع فعلاً لحربه، وضرب الإِسلام والمسلمين.
يوم الرجيع
وتناقلت الأخبارُ ما حلَّ ببني أسد، وبزعيم بني هذيل، فهدأت ثائرة القبائل منفردةً ومجتمعةً، ولم تعد واحدة منها تجرؤ على الإعلان عن استعدادها لمهاجمة المدينة، لئلاّ يعرف «محمد» بأمرها، فيأتيها جنده، وتقع الواقعة عليها.. إلاَّ أنَّ ذلك لم يمنع بعض القبائل أن تسلك طريق المكر والخداع، كما فعل بنو لحيان، - بنزعة ثأرية جاهلية[*] - إذ حرَّضوا قبيلتيْ عَضَل والقارة من الهون بن خزيمة بن مُدْركة، أن يبعثوا برهط منهما إلى «محمد» ويقولوا له «إنَّ فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يقرئوننا القرآن، ويعلموننا الدين وشرائع الاسلام»، وقد بيتوا النية على قتلهم إن جاؤوهم!..
ولم يكن النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد جاءه أولئك القوم - وهم يطلبون منه ذلك - ليتأخَّر عن تلبية نداء واجب الرسالة، فدعا إليه ستة من أصحابه[*]، وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، ثم بعثَهم معهم، فلما وصلوا إلى الرّجيع - وهو ماءٌ لهُذيل بناحية الحجاز بين عسفان ومكة - استصرخوا عليهم، حيَّ بني لحيان من هذيل، فجاؤوا يحيطون بهم قائلين:«لكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم رجلاً ولكنّا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة» فقال أميرُهُم مرثَد : «والله لا نقبل من مشركٍ عهداً ولا عقداً أبداً». ثم أمرَ مَن معه بالقتال ولكنه كان قتالاً بلا جدوى لكثرة الاعداء، فاستشهد ثلاثة منهم وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وعاصم بن ثابت ابن أبي الأفلح، وخالد بن البُكير الَّليثيّ، بينما وقع الباقون في الأسر وهم: عبد الله بن طارق، وخُبَيب بن عدي الأوسي (البدري)، وزيد بن الدَّثِنَة بن معاوية بن عبيد الانصاري.
وأخذت هذيل هؤلاء الأسرى، قاصدةً مكة لتبيعهم من قريش بأسيرين منها كانا بمكة؛ حتى إذا كانوا بالظهران اغتنم عبد الله بن طارق غفلة من القوم، فانتزع يده من الغِلِّ، وامتشق سيفه يريد مقاتلتهم، ولكن لم يمكّنوه من الاقتراب منهم، فرموه بالحجارة وقتلوه شرَّ قتلة، ثم تركوه في الفلاة، (فقبره - رحمه الله - بالظهران).
والتفَّت قريش في مكة حول الأسيرين، تهزأ بهما وتشمت، حتى وقف صفوان بن أمية يصرخ في الجمع:
ـ يا قوم! اشهدوا لي بأني ابتعت أحد أصحاب «محمد» لأقتله بأبي (وكان أبوه أميّة بن خلف قتل في بدر)..
وسارع يجذب إليه زيد بن الدَّثنِة، ويسلمه إلى مولاه، ويقال له نسطاس، ليأخذَه إلى التنعيم[*] فيقتلوه..
واجتمع عليه رهطٌ من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له، حين قُدِّم ليُقتل: أيسرُّكَ أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟
فانطلقت صرخةُ زيد بِدَويٍّ يهزُّ كيان أبي سفيان قائلاً:
»لا والله ما يسرّني أنّي في أهلي وأنَّ رسول اللّه في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة».
فاهتاج أبو سفيان لسماعه ذلك، وقال: «ما رأيتُ من الناس أحداً يحبُّ أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً».. ثم قتله نسطاس[*].
أما خبيب بن عديّ فقد اشتراه حجير بن أبي إهاب التميمي، وحبَسهُ عنده إلى أن انقضت الأشهر الحرم، فكانت مولاة له، تدعى ماويّة، تأتيه بالطعام والماء، فتجده وقد جلس يتهجَّد بالقرآن، فتقف بعيدة عنه تصغي لقراءته، حتى يرقَّ قلبها وتبكي.. ثم خرجوا بخبيب إلى التنعيم ليقتلوه، فقال لهم:
»إن رأيتم أن تدعوني أصلي ركعتين - قبل أن ألقى وجه ربِّي - فافعلوا».
ونزل القوم على رغبته فصلَّى ركعتين وهو مقيَّد بالأغلال، ثم رفع رأسه بأنفةٍ وخاطبهم قائلاً:
»أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جَزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة»، وهزَّت رباطة جأشه نفوس المشركين، فاندفعوا إليه يرفعونه على خشبة ويشدّون وثاقه ليصلبوه، فأنشد قصيدة ومنها[*]:
ولستُ أُبالي حين أُقتَلُ مُسلِماً
على أيِّ شقٍّ كانَ في الله مضجعي
وذلك في ذات الإِله وإن يشأْ
يباركْ على أوصالِ شِلْوٍ ممزَّعِ
ثم نظر إليهم بعينٍ غضبى، وصرخ فيهم وهو يرفع رأسه نحو السماء ويقول: «اللهم إنا قد بلَّغنا رسالة رسولك، فبلغهُ الغداة ما يُصنع بنا. ثم قال: اللهم أحْصِهمْ عدداً، واقتُلْهم بَدَدَاً، ولا تغادر منهم أحداً»[*].
وأُرْتِجَ عليهم من صيحته تلك، وشعروا وكأنَّ اللعنة تصيبهم، ثم عاجلوه بالقتل (رحمه الله تعالى وأصحابه من أهل العلم والفقه)..
وهكذا قتل أهل الرجيع غدراً، وبهتاناً، ولم تكن دماء الشهداء قد جفت في «أحد» بعدُ..
إنها قوافل الشهداء من المسلمين تترى في مسيرة التاريخ البشري، لتثبِّت دعائم الدين في صراعه مع الشرك والنفاق، جاعلةً من أجسادها مشاعل النور والهداية، ومن دمائها مداد الدين والإِيمان.
فبالأمس هناك في «أحد».. واليوم هنا في الرجيع.. وغداً في أي مكان تُزرع أجساد الشهداء تحت التراب!. ولكن، أيَّان كان المثوى، فهو المزار للمؤمنين من أهل الأَرض، يتنشَّقون منه عبير الشهادة فيسري في النفوس بطولةً ووفاءً. فبالله عليك يا غادياً إلى مثوى الشهداء: أما شعرت بالعبير - نفسه - رجفةً في أوصالك، وهزَّةً في كيانك؟! ثُمَّ وأنت تذكر مآثر هؤلاء الأحياء عند ربهم، أما ترتسم في مخيلتك صورة أهل بدر، وأُحُد، ومشهد أهل الرجيع، وصرخة زيد، وصلاة خبيب؟!..
إنهم كانوا رجال الإِسلام، وغدوا شهداء الحق، فباركْ لهم، وسبِّح لربهم، ولكنْ: كن مثلهم، فلا تبخلْ في العطاء...
ولئن كان الشهيد لا يُبكى، ولا يُحزن عليه - عادة - عند أهل الإيمان، إلاَّ أنَّ الغدرَ يُحزن ويؤلمُ، وقد حزن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على شهداء الرجيع، وتألم للمصيبة التي ألمّت بنخبة من الأخيار، لأنهم كانوا من ذوي الفقه في الدين، والجودة في قراءة القرآن، ولأنَّ قتلهم كان غدراً ونفاقاً، وبذلك الأسلوب الرخيص الذي استعمله أعداؤهم في امتهان كرامة رجالٍ ما أَتوْهم، أساساً، إلاَّ لهدايتهم!.. وحزن المسلمون على إخوانهم، وأحسوا بالجرح يصيبهم في الأعماق. ولكن هذه هي دربهم جميعاً: التضحية والفداء حتى تعلو كلمة الله تعالى، وتنتصر على كلمة الكفر والشرك.
وكان حرياً بتلك الأحداث أن تهدَّ كيانهم، وهي تتسارع عليهم منذ «أُحُد»، لولا أن آيات القرآن كانت تتنزَّلُ تباعاً، فيتلوها عليهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويبيِّن لهم ما تحمل من مواساة لمصائبهم، واطمئنان لنفوسهم، ويوضح لهم ما تَعِدُ به الصابرين منهم على طاعة ربهم، من الخلود في جنّات غرس هو سبحانَه أشجارها بأمره، وأسال أنهارها بتقديره، وجعلها مستقرّاً ومقاماً لأهل دينه الطائعين، العابدين، وهم أولياؤه الصالحون وحمَلةُ دعوة نبيهم الكريم..
وكان أهمَّ ما يُريح المؤمنين، ويزيد في اطمئنانهم، إيمانُهم القوي بأنَّ الله (تعالى) هو وليُّهم، وأنه يدخل من يشاء في رحمته، وأن الظالمين ما لهم من وليٍّ ولا نصير...
سرية بئر معونة
وفي صفر، على رأس أربعة أشهر من أُحد - في السنة الرابعة للهجرة - قدم على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبو براء عامر بن مالك بن جعفر العامري (المدعو مُلاعب الأسنّة تدليلاً على شجاعته ومراسه في القتال)، وكان سيد بني عامر بن صعصعة، فعرض عليه الرسول الأعظم أن يدخل في الإِسلام، ولكنه لم يسلم، ولم يظهر عداوة، بل قال: «يا محمد! إني أرى أمرك هذا الذي تدعو إليه حسناً ودينك جميلاً، فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد، يدعونهم إلى دينك، لرجوت أن يجيبوهم»[*].
وتفكَّر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الأمر، إنه واجب الدعوة، وهو مقدس.. ولكنَّ الغدر من الأعراب كان حديث عهد في الرجيع، وإنه يخشى على الصحابة من أهل نجد، فماذا يصنع غير أن يصارح أبا براء بهواجسه، وأنه لا يأمنهم من غدرٍ مماثل!.. ولكنَّ أبا براء انبرى يؤكد نواياه السليمة، وعزمه على الذود عنهم، وحرصه على سلامتهم.. وبلغ منه التأكيد لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن أعلن جواره لهم وهو يقول للرسول:
»أنا جار لهم، فابعثْهُمْ فَلْيَدْعُوا الناسَ إلى أمرك»[*].
لقد كان الرسول الأعظم يعرف أن أبا براء رجلٌ مسموعُ الكلمة في قومه، وأنه من أهل الشجاعة، ويحفظ العهد الذي يأخذه على نفسه. وقد اشتهر بذلك بين العرب حتى دعوه «مُلاعبَ الأسنَّة»، فهو أهل لمن يجير، ولا خوف منه أن يخون الأمانة والعهد. ثم فوق ذلك إن هناك نداء الواجب، ولا بدَّ أن يُجابَ.. فدعا إليه المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة، وأمره بالخروج في أربعين[*] من خيار المسلمين وقرائهم، كي يذهبوا إلى بني عامرـ قوم أبي براء - يدعون إلى الإِسلام، ويفقهون في أمور الدين. وكان خروج هذه البعثة من المسلمين في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة، فساروا ملبين نداء الواجب حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرَّة بني سُليم. فانتدب المنذرُ، قائدُ البعثة، حرامَ بن ملحان ليحملَ كتاب رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى عامر بن الطفيل(ابن أخي أبي براء)، ولكنَّ هذا الكافر لم ينظر ما في الكتاب، بل أمر - من فوره - جبّار بن سلمى بن مالك بن جعفر، فقتله، وكان هذا السبب في إسلام جبّار، إذ يُروى عنه أنه قال: «إن مما دعاني إلى الإِسلام أني طعنت رجلاً منهم يومئذٍ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول: فُزتُ والله! فقلت في نفسي: بماذا فاز! أليس قد قتلتُ الرجل؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: بالشهادة. فقلت: فاز لعمرُ الله»[*].
ولم يكتف عامر بن الطفيل بقتل رجل مسالمٍ، بل استنفر على المسلمين بني عامر كي يقتلوهم، فأبوا ولم يجيبوه وقالوا: «لن نخفر أبا براء، قد عقد لهم عقداً وجواراً».
فاستصرخ عدوّ الله قبائل من بني سُليم، فأجابته: عصيّة ورِعْل وذَكْوان، فجاؤوا وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب، فقاتلوهم حتى قتلوا ولم يبق منهم إلاّ كعب بن زيد، أخو بني دينار بن النجّار، فإنّه أغمي عليه من كثرة ما أصابه من جراح، فظنه المشركون مقتولاً، فتركوه..
وكان في سرح المسلمين عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة، أحد بني عمرو بن عوف[*]، فرأيا الطيرَ تحومُ، فأقبلا، فإذا المؤمنون صرعى.. ولم تجفّ دماؤهم بعدُ فنزل المنذر وقاتل القوم حتى استشهد، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقَهُ عامر بن الطفيل عن رقبة زعم أنها كانت على أمه[*].
وقفل عمرو بن أمية راجعاً إلى المدينة، حتى إذا كان بالقرقرة (مكان على صدر وادٍ يأتي من الطائف)، نزل في ظلّ شجرة يلتقط أنفاسه، فإذا برجلين يقبلان، وينزلان بقربه، فسألهما: ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر.. فسوَّلت له نفسه القصاص منهما، ثأراً لأهل معونة، فلما سنحت له الفرصة، انقضَّ عليهما وقتلهما، ثم انطلق إلى المدينة يخبر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمصيبة التي حلَّت بأهل بئر معونة، وقتله الرجلين من بني عامر. وكان معهما عقدٌ من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجوار، فقال له:
»لبئس ما صنعت يا عمرو، لقد قتلت قتيلين، لأَدِيَنَّهما».
وأسف عمرو أشدَّ الأسف، وحزنَ كثيراً على ما قام به. ولكن من أين له أن يعرف أن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أجار هذين الرجلين، ومجرد سماع ذكر بني عامر كان من شأنه أن يثير في نفسه الغضب لمقتل المؤمنين؟!
وتساءل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون: ما ذنب أولئك الصحابة حتى يقتلوا في بئر معونة، إلاَّ أنهم ذهبوا لهدايةِ الناس؟! وهل الهدايةُ إلى دين الله جريمة إلاَّ في نظر تلك القبائل التي تستبدّ بها الرعونة فتدفعها لأن تتخلّى عن كل الأعراف والشرائع، وحتى عن بعض العادات الفاضلة التي كانت من مقومات حياتها، فلا ترعى حرمةً لجوار، ولا تقيم مكانة لشرف أو عهد؟!
... وفي تلك الأثناء كان أبو براء يعاني من فعلة ابن أخيه أشدَّ المعاناة، حتى بات لا يقدر على الاحتمال، فمات حنقاً وأسفاً[*]. ورأى ابنه ربيعة ما حلَّ بأبيه، فانطلق إلى عامر بن الطفيل، وقتله ثأراً لأبيه[*]، ليكون عبرةً لكل من لا يحفظ حرمة الجوار.
لقد كان وقع المصيبة بشهداء «بئر معونة» كبيراً على المسلمين، وبصورة خاصة على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .. بل لقد افتقدهم الإِسلام نفسه، لأنهم كانوا طلاب دينٍ وعلم. وقد كانوا في المدينة من الأنصار الذين أكرمهم اللّهُ تعالى في محكم التنزيل العزيز.. وكانوا منذ دخولهم في الإسلام، إذا جنَّ الليلُ أوَوْا إلى معلّمٍ يدرسون على يديه، فيبيتون الليلَ على التزود بأحكام الدين وتعاليمه، فكان الأسفُ شديداً، لما كان يُعوَّل عليهم من خيرٍ للآخرين.. إلاَّ أنهم رحلوا، على كل حالٍ شهداء أبراراً، وهم في رحمة الله الواسعة.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢