نبذة عن حياة الكاتب
لمن الحكم
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ١١١
تاريخ النشر : ١٩٨٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَدِّمة
وَاقِعُ العَقْل
الإدرَاكُ الشعُوريّ أو التميِيزُ الغَريْزِيّ
الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
أقسَامُ الفِكْرِ
حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
خُلاصة
التفكيرُ البَطيءُ وَالتفكيرُ السَّريعُ أو الإدراكُ البَطيءُ وَالإِدراكُ السَّريعُ
فِطْرَةُ الإنْسَان
الطَاقةُ الحيويَّةُ غَريزَةُ البَقَاء
غَرِيزَةُ النَّوْعِ مِنْ مَظاهِرِهَا الشُعورُ الجِنْسِيّ
التَدَيُّن
الخوفُ: مظهَرٌ مِنْ مظاهِرِ غَريزَةِ حُبِّ البَقاء
العِبَادَةُ
حاجَةُ الإنسَانِ إلى الرُّسُل
لِـمَنِ الحُكْمُ؟
الشَرعُ أو الشَرِيعَة
القُرآنُ عَرَبيٌّ
الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
المُجْتَمَع
تَكْوينُ المُجْتَمع وتنظيمُه عِنْدَ الشيُوعِيين
كيفَ يَنْهَضُ المُجْتَمَع
الأهْدافُ العُلْيَا لِصِيَانةِ المُجْتَمَعِ الإسْلاميّ
القانونُ الرُّوماني
الاقتِصاد
الإجَارة
النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
تنظِيمُ العَلاقات
مقاصِدُ كُلِّ حُكْمٍ بعَيْنِه
الخاتِمَـة

حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
إنّ الأشياءَ التي يُدْرِكُها العقلُ هيَ الإنسانُ والحياةُ والكونُ؛ وهذهِ الأشياءُ محدودةٌ، فالإنسانُ محدودٌ لأنَّهُ ينمو في كلّ شيءٍ إلى حدٍّ ما ولا يتجاوزُهُ، فهو محدودٌ. والحياة محدودةٌ لأنّ مظهرَها فردي فَقَطْ. والمشاهدُ بالحسّ تنتهي أيضًا في الفردِ فهي محدودةً.
والحكمُ على الإنسانِ لا يجوز أن يَنْصَبّ على مجموعهِ، لأنّ جنسَه ليس مركبًا من مجموعهِ، بل الحكمُ عليه يجبُ أن يَنصَبّ على ماهيتهِ، أي على جنسِهِ، فما يَصْدُقُ على الماهية في فرد يصدُقُ على الجنسِ كُلِّهِ مهما تعدّدَ أفراده. وبما أن الماهية متحققة كلها في الفردِ الواحدِ وفي كل فرد، والفرد الواحد يموت معناه جنس الإنسان يموت، وما دامت تنتهي هذه الحياة في الفرد الواحد فمعناه أن جنس الحياة ينتهي فهي محدودة.
الحياةُ في الإنسانِ عينُ الحياةِ في الحيوانِ، وهي ليستْ خارجَ هذا الفردِ، بل فيهِ، وهي شيءٌ يُحَسّ وإنْ كانَ لا يلْمَسُ. ويُفرّق بالحسّ بين الحيّ والميت، فهذا الشيءُ المحسوسُ ـــ وهو موجودٌ في الكائنِ الحيّ ومن مظاهرهِ النموّ والحركةُ ـــ ممثّلٌ كليًّا وجزئيًّا في الفردِ ولا يرتبطُ بأيّ شيءٍ غيرِه مطلقًا.
والكونُ محدودٌ لأنّهُ مجموعُ أجرامٍ، وكلّ جِرْمٍ منها محدودٌ، ومجموع المحدوداتِ محدودٌ بداهةً، وذلكَ لأنّ كلّ جِرْمٍ منها له أوّل وله آخر. فمهما تعدّدت هذه الأجرام فإنها تظلّ تنتهي بمحدودٍ، والمحدودُ هوالعاجزُ والنّاقصُ والمحتاجُ لإيجادِ شيءِ ما مِنَ العدمِ، أيْ عاجزٌ عنْ إيجادِ ما احتاجَ إليهِ. ولا يقالُ إنّ الأشياءَ المدركةَ المحسوسةَ احتاجت إلى بعضها، لكنها في مجموعها مستغنية عن غيرها؛ لا يقال ذلك لأن الحاجة إنما تبين وتوضح للشيء الواحدِ، وتلمس لمسًا ولا تفرض فرضًا نظريًّا لشيءٍ غير موجودٍ فيفرض وجوده، فلا يقال إن النارَ احتاجت إلى جسم فيه قابليّةُ الاحتراقِ، فلو اجتمعا معًا لاستغنيا ولم يحتاجا إلى غيرهما، لأنّ هذا فرضٌ نظريّ. فالحاجةُ إلى النار وإلى الجسم القابل للاحتراقِ هي حاجةٌ لشيءٍ موجودٍ حسًّا، ومحسوسٍ بإحدى الحواس، أو مدرك عقلًا، وهو بالطبع مما يقع الحس على مدلوله حتى يتأتى إدراكُهُ عقلًا، فالحاجةُ إلى شيء موجود، والنار والجسم لا يوجد من اجتماعهما شيء يحصل فيه الاستغناء أو الحاجة.
وكذلك الأشياء التي في الكون لا يحصل من اجتماعها شيءٌ يحصل فيه الاستغناءُ أو الحاجة. فالحاجةُ والاستغناء متمثلان في الجسم الواحد، ولا يوجد شيء يتكون من مجموع ما في الكون حتى يوصف بأنه مستغن أو محتاج . فإذا قيل إن مجموع الأشياء التي في الكون مستغنٍ أو محتاجٌ، فإنه يكون وصفًا لشيءٍ متخيل الوجود لا لشيءٍ موجود. والبرهان يقوم على حاجةِ شيءٍ معين موجودٍ في الكون، لا مجموعة أشياء يتخيل لها اجتماع يتكون منه شيء. ويعطى له وصف الحاجة أو الاستغناء لذلك لا يرد هذا السؤال لأنه سؤال فرضي تخيلي، وليس هو واقعيًّا، حتى ولا فرضًا نظريًّا. ولا يقال إن الأشياء احتاجت بعضها، فلا يكون دليلًا على أنها محتاجة، لا يقال ذلك لأن احتياج الشيء، ولو إلى شيء واحد في الدنيا، يثبت أنه لا يوجدُ في الكونِ شيءٌ هو مُسْتَغْنٍ الاستغناء المطلق. يعني أنّهُ محتاجٌ ولو إلى شيءٍ واحدٍ في الوجودِ. أي يثبت له وصف الاحتياج، كمن يمشي خطوةً واحدة، أو يتكلم كلمة واحدة. فقد ثبت له وصف المشي، ووصف التكلم، فالاحتياج والمشي والتكلم، وغير ذلك، مما يدل على الجنس، أي مما يدل على الماهيةِ، فإن ثبوت المرّة الواحدة فيه يثبت الوصف لماهيته. فإنَّ احتياج كل جزءٍ إلى جزءٍ آخر يثبتُ له قطعًا وصف الاحتياج. وهذا كلّه ملموس محسوس بالنسبة إلى جميعِ الأشياءِ الموجودةِ على سطحِ الأرضِ، أما بالنسبةِ إلى الكونِ والإنسانِ والحياة فإنّ الكونَ مجموعة أجرامٍ، وكلّ جرمٍ منها يسير بنظام مخصوص لا يملك أن يغيّره. وهذا النظام إما أن يكون جزءًا منه، أو خاصية من خواصّه، أو شيئًا آخر غيره، ولا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة مطلقًا. أما كونُهُ جزءًا منه فباطل، لأن سيرَ الكواكبِ يكون في مدارٍ معيّن لا يتعدّاه، والمدار كالطريق هو غير السائر. والنظام الذي يسير به ليس مجرد سيره فحسب، بل تقييده بالسير في هذا المدار.
لذلك لا يمكن أن يكون هذا النظام جزءًا منه. وأيضًا إن السير نفسه ليس جزءًا من ماهية الكوكب، بل هو عمل له، لذلك لا يمكن أن يكون جزءًا منه. وأما كونُهُ خاصية من خواصّهِ فباطلٌ، لأنَّ النِّظامَ ليس هوَ سيرَ الكوكبِ فحسب، بل سيره في مدارٍ معيّن. فالموضوع ليس السير وحده بل السير في وضع معيّن. فهو ليس كالرؤيّةِ في العينِ التي هي من خواصِّها. بل هو كونُ الرؤيةِ في العينِ لا تكون إلّا بوضع مخصوص. ومثل كونِ تحوّلِ الماءِ من ماءٍ إلى بخار لا يتأتى إلّا بنسبة معيّنة، فالموضوعُ ليسَ سيرَ الكوكبِ، أو رؤيةَ العينِ، أو تحوُّلَ الماءِ، بل الموضوعُ هو سيرُ الكوكبِ في مدارٍ مخصوصٍ، ورؤيةُ العينِ في أحوالٍ مخصوصةٍ وتحوُّلُ الماءِ بنسبةٍ معيّنةٍ. هذا الوضعُ المفروضُ على الكواكبِ، وعلى العينِ، وعلى الماءِ هو النِّظام.
وهو، وإن كان السيرُ من خواصِّهِ، لكانَ عليهِ أن ينظّمَ سيرَ نفسِهِ، وحينئذٍ يستطيعُ أن ينظِّمَ نظامًا آخر ما دام من خواصِّهِ التنظيمُ، والواقعُ أنه لا يستطيعُ ذلك ولهذا لا يمكنُ أن يكونَ من خواصِّه. وما دام ليس جزءًا منه، وليس من خواصِّهِ، فهو غيره قطعًا. فيكونُ قد احتاجَ إلى غيرِه، أي احتاجَ الكونُ إلى النظام.
ولا يقالُ كونُ الكوكبِ مسيّرًا في مدارٍ معيَّنٍ هو خاصيةٌ ناجمةٌ عن اجتماعِ الكواكبِ مع بعضِها في جسمٍ واحدٍ وهو جزءٌ لا يتجزّأ من هذا الجسمِ، كالإيدروجين وحدَه له خاصيةٌ والأوكسجين وحدَه له خاصيةٌ، فإذا اجتمعا معًا صارت لهما خاصية أُخرى، وكذلك الكوكب. لا يقالُ ذلك لأن ـــ الإيدروجين والأوكسجين حين اجتمعا كوّنا جسمًا آخر، فصارت له خاصيّةٌ أُخرى، فهي خاصيةُ جسمٍ لا خاصيةُ وجودِهما في الكونِ، بخلافِ الكواكبِ. فإن الكوكبين ـــ أو الكواكبَ ـــ لم تكن لكلّ منهما خاصيةٌ وهو منفردٌ، ثم صارت له خاصيّةٌ بالاجتماعِ في جسمٍ واحدٍ، بل ظلَّتْ هذه الخاصيةُ خاصيةً لكلِّ كوكبِ بمُفردِه خاصيةً له وحدَه، ولم يجتمعا ويكوّنا جسمًا واحدًا قط. لذلك تكونُ الخاصيةُ لكوكبٍ ولا تكونُ لاجتماعِ كوكبين أو لاجتماعِ الكواكبِ في جسمٍ واحدٍ، لأن الاجتماعَ الذي يشكّل جسمًا آخر لم يحصل.
وأما الحياةُ فإن احتياجَها إلى الماءِ والهواءِ ملموسٌ محسوسٌ وأما الإنسانُ فإن احتياجَهُ إلى الطعامِ وغيرِ ذلك ملموسٌ ومحسوسٌ. وعليه فإن الكونَ والحياةَ والإنسانَ كائنةٌ في حالةِ احتياجٍ دائم.
ومدلولُ كلمةِ محتاجٍ يعني أنه مخلوقٌ، لأن مجرّدَ حاجتهِ تَعني أنه عاجزٌ عن إيجادِ شيءٍ ما من عدم، أي عاجزٌ عن إيجادِ ما احتاجَ إليه فهو ليس خالقًا، وما دام ليس خالقًا فهو مخلوق. لأن الوجودَ كلّهُ لا يخرجُ عن خالقٍ ومخلوقٍ، ولا ثالثَ لهما قطعًا وهذا ليس فرضًا، بل الواقعُ المحسوسُ للمخلوقِ يدلُّ عليه. وهذا المخلوقُ إما أن يكونَ مخلوقًا لنفسِهِ أو مخلوقًا لغيره. أما كونُهُ مخلوقًا لنفسه فباطلٌ، لأنه يكونُ مخلوقًا لنفسِهِ وخالقًا لنفسهِ في آنٍ وهذا باطلٌ، فلا بدَّ من أن يكونَ مخلوقًا لغيرِهِ، وهذا الغيرُ هو الخالق.
وأما كونه أزليًّا أي لا أولَ له، فلأنه إذا كان له أولُ كان مخلوقًا، إذ قد بدئ وجودُه من حدٍّ معيَّن، فكونه خالقًا يقضي بأن يكون أزليًّا. إذ الأزلي تستندُ إليه الأشياءُ ولا يستندُ إلى شيء.
والمحدودية والأزليّةُ ليستا اصطلاحًا وضِعَ له تعريفٌ اصطلاحيٌّ، ولا مدلولًا لكلمة وُضِعَ لها من اللغة لفظٌ يدلُّ عليها، بل واقعٌ معيَّنٌ كالبحثِ في الفكرِ سواء بسواء. فنحن حين نقولُ إن الكونَ محدودٌ إنما نشير إلى واقعٍ معيّن وهوكونُهُ له بدايةٌ وله نهاية، فالبحث هو في هذا الواقع، وليس في كلمةِ محدود. وكونه له بداية وله نهاية قد قام البرهانُ الحسيّ عليه فيكونُ البرهانُ على واقعٍ معيّن لا على معنى الكلمة لغويًّا.
فواقعُ المحدودِ هو أنّ له أوّلًا وله آخِرًا، وواقع الأزلي هو ما ليس له أولٌ فيكونُ واقعُ المحدودِ غيرَ واقعِ الأزلي فيكونُ الكلامُ عن واقعٍ معيّن لا عن مدلولِ الكلمةِ لغويًّا.
والبرهانُ على أنّ وجودَ الخالقِ حقيقةٌ ملموسةٌ محسوسةٌ هو في منتهى البساطة. فإن الإنسان يحيا في الكونِ فهو يشاهدُ، في نفسه وفي الحياة التي يحياها، وفي كلِّ شيء في الكونِ، تغيّرًا دائمًا وانتقالًا من حالٍ إلى حال، ويشاهدُ وجودَ أشياء وانعدامَ أشياء، ويشاهد دقةً وتنظيمًا في كلِّ ما يرى ويلمس فيصل من هذا عن طريقِ الإدراكِ الحسيّ إلى أن هناك موجدًا لهذا الوجودِ المدرك المحسوس. وهذا أمرٌ طبيعيّ جدًّا، فإن الإنسانَ ليسمعُ صوتًا فيظنّ أنه صوتُ رجُلٍ أو حيوانٍ أو آلة ولكن يوقنُ أنّه صوت ناجم عن شيء فيوقن بوجود شيءٍ خرج منه هذا الصوت. فكان وجود الشيء الذي نجم عنه الصوت أمرًا قطعيًّا عند من سمعه. فقد قام البرهان الحسيّ على وجوده، فيكون الاعتقادُ بوجودِ شيءٍ نجم عنه الصوت اعتقادًا جازمًا قام البرهانُ القطعيّ عليه، ويكون هذا الاعتقاد أمرًا طبيعيًّا ما دام البرهانُ الحسيّ قد قام عليه، وكذلك فإن الإنسانَ يشاهدُ التغيّر في الأشياء ويشاهدُ انعدامَ بعضِها ووجودَ غيرها، ويشاهدُ الدقةَ والتنظيمَ فيها، ويشاهدُ أن كل ذلك ليس منها، وأنها عاجزةٌ عن إيجادهِ وعاجزةٌ عن دفعِهِ فيوقنُ أن هذا كلّهُ صادرٌ عن غير هذه الأشياءِ ويوقنُ بوجودِ خالقٍ خلقَ هذه الأشياءَ، وهو الذي يغيِّرُها ويعدمُها وينظِّمُها، فكان وجودُ هذا الخالقِ الذي دلّ عليه وجودُ الأشياءِ وتغيرها وتنظيمُها أمرًا قطعيًّا عند من شاهدَ تغيّرَها ووجودَها وانعدامَها ودقةَ تنظيمِها. فقد قامَ البرهانُ الحسيّ بالحسِّ المباشر على وجودِهِ وهو برهانٌ بمنتهى البساطة. لذلك جاءت أكثرُ براهين القرآن الكريم لافتةَ النظر إلى ما يقع عليه حسّ الإنسان للاستدلال بذلك على وجود الخالق كقوله تعالى: [أَفَلَا يَنْظرونَ إلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] {سورة الغاشية: الآية 17}. وقوله تعالى: [فَلْيَنْظُر الإنْسانُ مِمَّ خلق خُلِقَ من ماءٍ دافقٍ يخرجُ مِنْ بَيْنِ الصّلبِ والتَرائِبِ] {سورة الطارق: الآيات 5 ـــ 7}. وقوله تعالى: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَمَوَاتِ والأرضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ] {سورة الطور: الآيتان 35 ـــ 36}. وكقوله تعالى: [قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لله قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)‏ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ] {سورة المؤمنون: الآيات 84 ـــ 91}.
لكنّ هناك أُناسًا من البشر يَأبَوْنَ البساطةَ ويعقّدون الأمورَ فيبحثون في هذا الأمرِ البسيطِ، وكأنّهُ المشكلُ المعقّدُ، فيصلون إلى أشياءَ جديدةٍ تعقّدُ الأمور؛ لذلك كان لا بدَّ لهم من براهين على هذه الأمور الجديدة التي وصلوا إليها. فمن ذلك أن بعضَ الناسِ في العصرِ القديمِ رأوا أنّ العالمَ متغيّرٌ بالمشاهدةِ والحسّ، وهذا أمرٌ لا يستطيعُ أحدٌ إنكارَهُ وهذا يعني أنّ العالمَ حادثٌ، لأنّ كلّ متغيّرٍ حادثٌ، وما دام حادثًا فهو مخلوق، أي وجد بعد أن لم يكن، لكنهم رأوا أنَّ تغيّرَهُ، إنما هو في أجزائه التي يتكون منها، أما هو ككل فرأوه كما هو، فالكواكبُ لا تزال كما هي كواكبَ لم تتغيّرْ، والحياةُ لا تزالُ في الأحياءِ هي الحياةَ لم تتغيّرْ والإنسان لا يزالُ هو الإنسان لم يتغيّر، فتوصلوا من ذلك إلى أن العالمَ ليس حادثًا بل هو قديمٌ أزليٌّ لا أولَ له، فهو إذًا، ليس مخلوقًا لخالق. ومن ذلك أن بعضَ الناسِ في العصرِ الحديثِ رأوا أن حوادثَ العالمِ متعددةٌ كما يشاهد ذلكَ بالحس فهي تنتقلُ من حالٍ إلى حالٍ، ونقلُها هذا وجعلُها في حركة دائمةٍ ليس ناتجًا منها، فإنّها بذاتها ومفردها لا تستطيعُ ذلك ولا تملكُ دفعَهُ عنها. فكان الأمر الطبيعي أن يتوصلوا بذلك إلى وجود خالقٍ للعالمِ، لكنهم توصلوا إلى عكسِ ذلك تمامًا، إذ قالوا إن العالمَ بطبيعته مادّي، وإنَّ حوادثَ العالمِ المتعدّدة هي مظاهر مختلفة للمادة المتحركة، وإنَّ العلاقاتِ المتبادلةَ بين الحوادثِ وتكييف بعضها بعضًا بصورةٍ متبادلةٍ، هي قوانينُ ضروريةٌ لتطوّرِ المادةِ المتحركة وإنَّ العالمَ يتطور تبعًا لقوانينِ حركةِ المادة وتوصلوا من ذلك إلى أنَّ العالمَ ليس في حاجة إلى عقلٍ كليٍّ، فليس في حاجة إلى خالقٍ يخلقه، لأنه مستغنٍ بنفسه. ومن هنا يتبين أنه في القديم والحديث لم يأتِ إنكارُ وجودِ الخالقِ طبيعيًّا، بل جاء على مخالفة للأمر الطبيعي بتفسير ما يلزم بالاعتراف بوجودِ الخالقِ تفسيرًا مغلوطًا يؤدي إلى إنكار وجودهِ.
فبالنسبة إلى القديمِ تجد أن تَغَيُّرَ العالم أمرٌ لا يمكن إنكارُهُ والتغيّرُ ليس من أجزائهِ فحسب بل فيه أيضًا ككل. غيرَ أنّ التغيّرَ لا يعني أن حقيقته قد تغيّرت، بل وضعه في تغيّر دائم، فالإنسان والحيوان ونيتة الزرع والشجرة والحجر تتغيّر من حال إلى حال بالمشاهدة، لكن تغيُّـرَها لا يعني أنَّ الحجر يصبح برتقالة أو الحديد يصبح نبتة زرع. وهكذا وإنما التغيّر يكونُ بالصفاتِ ويكون بالأحوال، وأما تغيّرُهُ إلى شيءٍ آخرَ فهو تبدل، والتبدلُ ليس هو البرهانَ وإنما البرهانُ هو وجود التغيّرِ، وبناءً على هذا ليس صحيحًا أنّ العالمَ ككلّ لم يتغيّرْ، وليس صحيحًا أن الكواكبَ لا تزال كما هي لم تتغيَّر وليس صحيحًا أنّ الإنسانَ كما هو لم يتغيَّرْ. وليس صحيحًا أن الحياةَ كما هي لم تتغيَّر. فالعالم في مجموعهِ بكل ما فيه من كونٍ وإنسانٍ وحياةٍ يتغيَّر فالكواكب متغيِّرة بالمشاهدةِ ومجرد حركتها هو تغيرٌ، والإنسان متغيِّر بالمشاهدة وانتقاله من طفلٍ إلى شابٍّ إلى هرمٍ هو تغيُّرٌ، والحياةُ، متغيّرة بالمشاهدة وكونها تظهرُ في الإنسانِ والحيوان والنبتة والشجرةِ دليلٌ على وجود التغيّر فيها فهي متغيِّرة حتمًا، وبذلك ينقض ما ذهبوا إليه بأن العالم ليس حادثًا لأنه ليس متغيِّرًا ككل، وهذا كاف لإثبات وجود الخالق.
وأما بالنسبة إلى ما قاله الشيوعيون في العصر الحديث، فإننا نجد أن موضعَ الإنكار عندهم هو أنهم يقولون إنَّ العلاقاتِ المتبادلةَ بين الحوادثِ، وتكييف بعضها بعضًا بصورة متقابلة، هي قوانينُ ضروريةٌ لتطوّر المادة المتحركة، وإنَّ العالم يتطور تبعًا لقوانين حركةِ المادة. هذا هو موضع إنكارِ وجود الخالق عندهم. فالتعقيدُ جاء إليهم من تفسير ما في العالم من تغيّرٍ وانتقالٍ من حال إلى حال، وما فيه من وجود بعض الأشياءِ بعد أن لم تكن وانعدام بعض الأشياء بعد أن كانت، أو على حدِّ تعبيرهم من تشكل المادة بأشكال مختلفة، ويفسرون ذلك بأنه يحدث من قوانين المادة وليس من شيء غيرها، فقوانين حركة المادة هي التي تؤثّر في العالم، وهو يتطوّر تبعًا لقوانين حركة المادةِ. هذا هو موضع الإنكار، لذلك كان المطلوب حلّ هذه العقدةِ عندهم، أي كان محلّ البحث هو قوانين المادة وليس تغير العالم. فإذا ثبت أنّ هذه القوانينَ لم تأتِ من المادة، ولا هي خاصية من خواصِّها، بل هي مفروضة على المادة فرضًا من غيرها ومن خارجها، فإنَّهُ يكون هناك غير المادة هو الذي يؤثّر فيها، وبذلك تبطلُ نظريتُهم وتحل العقدةُ عندهم، لأنّ العالم لن يكون سائرًا تبعًا لقوانينِ حركةِ المادة، بل سائرٌ بتسيير من أوجد له هذه القوانينَ وفرضها عليه فرضًا، وأجبره على أن يسير بحسبها، فتنتقض النظرية وتحل العقدة.
أما كونُ هذه القوانينِ لم تأتِ من المادةِ فلأن القوانينَ عبارةٌ عن جعلِ المادّةِ في نسبة معيّنة أو وضعٍ معين، فالماء حتى يتحوّل إلى بخار أو إلى جليد، إنما يتحول بحسب قوانين معيّنة، أي بحسب نسبة معينة من الحرارة، فإنَّ حرارةَ الماءِ ليس لها في بادئ الأمر تأثيرٌ في حالتِهِ من حيث هو سائل ولكن إذا زيدت أو أنقصت حرارةُ الماءِ جاءت لِخطّةٍ تعدلت فيها حالةُ التماسكِ التي هو فيها وتحوّل الماء إلى بخار في إحدى الحالات وإلى جليدٍ في الحالةِ الأخرى فهذه النسبةُ المعيّنةُ من الحرارةِ هي القانونُ الذي بحسبه يجري تحوّل الماءِ إلى بخار أو إلى جليد، وهذه النسبةُ، أي كونُ الحرارةِ بمقدارٍ معيّنٍ لمقدارٍ معيّنٍ منَ الماءِ لم تأتِ من الماء، لأنه لو كانت منه لكان في إمكانه أنْ يغيّرها وأن يخرج منها بل هي مفروضةٌ عليه فرضًا فدلّ ذلك على أنها ليست منه قطعًا، وكذلك لم تأتِ من الحرارةِ، بدليل أنها لا تستطيعُ أن تغيّرَ هذه النسبةَ أو تخرجَ عنها، وأنها مفروضةٌ عليها فرضًا، فهي ليست منها قطعًا، فتكون هذه القوانين ليست من المادة.
فأما كونُ هذهِ القوانين ليست خاصية من خواصِّ المادة فلأن القوانينَ ليست أثرًا من آثارِ المادةِ الناجمة عنها حتى يقال إنّها من خواصِّها، بل هي شيءٌ مفروضٌ عليها من خارجها.
ففي تحوّلِ الماءِ ليستِ القوانين فيه من خواصّ الماء ولا من خواصّ الحرارة، لأن القانون ليس تحوّل الماء إلى بخارٍ أو إلى جليد، بل القانونُ هو تحوّلهُ بنسبةٍ معيّنةٍ من الحرارةِ لنسبةٍ معيّنةٍ من الماءِ. فالموضوع ليس التحوّلَ، بل هو التحولُ بنسبةٍ معيّنةٍ من الحرارة لنسبةٍ معيّنةٍ من الماءِ، فهو ليس كالرؤية في العينِ التي هي من خواصِّها، بل هو كون الرؤية لا تكون إلا بوضع مخصوص. هذا هو القانون، فكون العين ترى خاصية من خواصِّها، ولكن كونها لا ترى إلا في وضع مخصوص ليس خاصِّية من خواصِّها، وإنما هو أمر خارج عنها، وكالنار من خواصِّها الإحراق، ولكن كونها لا تحرق إلا بأحوال مخصوصة ليس خاصِّية من خواصِّها بل هو أمر خارج عنها فخاصِّية الشيء هي غير القوانين التي تسيره، إذ الخاصِّية هي ما يعطيه الشيء نفسه وينجم عنه كالرؤية في العين وكالإحراق في النار وما شاكل ذلك، لكن القوانين التي تسيِّر الأشياء هي كون الرؤية لا تحصل من العين إلا بأحوال مخصوصة وكون الإحراق لا يحصل من النار إلا بأحوال مخصوصة وكون الماء لا يتحول إلى بخار أو جليد إلا بأحوال مخصوصة وهكذا.
وبهذا ثبت أن قوانين المادة ليست خاصِّية من خواصِّ المادة، بل هي أمرٌ خارجٌ عنها.
وبما أنه ثبت أن هذه القوانينَ ليست من المادة ولا خاصِّية من خواصِّها فتكون آتيَة من غيرها، ومفروضة عليها فرضًا من غيرها ومن خارجها، وبذلك يثبت أن غيرَ المادةِ هو الذي يؤثر فيها، وبذلك يثبت بطلانُ نظرية الشيوعيين لأنه ثبت أن العالمَ ليس سائرًا تبعًا لقوانينِ حركةِ المادةِ بل هو سائرٌ بتسيير من أوجد هذه القوانين وفرضها عليه فرضًا، فيكون العالم في حاجةٍ إلى من وضع له هذه القوانينَ وفرضها عليه. وما دام في حاجةٍ إلى من فرض عليه هذه القوانين، فالعالم إذن ليس أزليًّا، وما دام ليس أزليًّا فهو مخلوق. لأنّ كونه ليس أزليًّا يعني أنه وجد بعد أن لم يكن فهو مخلوقٌ لخالق. وهذا الأزليّ الخالقُ هو مدلول كلمةِ الله، أي هو الله سبحانَهُ وتعالى.


المصادر
1 ملاحظة: مفهوم الاحتياج متعلق بعدم الاستغناء، ومفهوم الاشتراط الماركسي متعلق بعدم فصل الأشياء بعضها عن بعض.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢