نبذة عن حياة الكاتب
لمن الحكم
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ١١١
تاريخ النشر : ١٩٨٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَدِّمة
وَاقِعُ العَقْل
الإدرَاكُ الشعُوريّ أو التميِيزُ الغَريْزِيّ
الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
أقسَامُ الفِكْرِ
حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
خُلاصة
التفكيرُ البَطيءُ وَالتفكيرُ السَّريعُ أو الإدراكُ البَطيءُ وَالإِدراكُ السَّريعُ
فِطْرَةُ الإنْسَان
الطَاقةُ الحيويَّةُ غَريزَةُ البَقَاء
غَرِيزَةُ النَّوْعِ مِنْ مَظاهِرِهَا الشُعورُ الجِنْسِيّ
التَدَيُّن
الخوفُ: مظهَرٌ مِنْ مظاهِرِ غَريزَةِ حُبِّ البَقاء
العِبَادَةُ
حاجَةُ الإنسَانِ إلى الرُّسُل
لِـمَنِ الحُكْمُ؟
الشَرعُ أو الشَرِيعَة
القُرآنُ عَرَبيٌّ
الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
المُجْتَمَع
تَكْوينُ المُجْتَمع وتنظيمُه عِنْدَ الشيُوعِيين
كيفَ يَنْهَضُ المُجْتَمَع
الأهْدافُ العُلْيَا لِصِيَانةِ المُجْتَمَعِ الإسْلاميّ
القانونُ الرُّوماني
الاقتِصاد
الإجَارة
النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
تنظِيمُ العَلاقات
مقاصِدُ كُلِّ حُكْمٍ بعَيْنِه
الخاتِمَـة

النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
النظامُ الاجتماعيّ هوَ النّظامُ الذي يبحثُ علاقة المرأةِ بالرجلِ، وما ينشأ عن هذه العلاقةِ، وينظّمُ صلات التعاونِ بينهما.
ويقوم على الأمور التالية:
1 ـــ الأصل في المرأةِ أنها أمٌّ وربّةُ بيت، وهي عرضٌ يجبُ أن يُصان.
2 ـــ الأصلُ أن ينفصلَ الرّجالُ عن النساءِ في المجتمعِ الإسلاميّ ولا يجتمعونَ إلّا لحاجةِ يُقرّها الشرعُ ويقرّ الاجتماع من أجلها.
3 ـــ أ ـــ للمرأة الحقّ في أن تُزاوِلَ التجارة والصناعة والزراعة، وأن تتولى العقُودَ والمُعاملاتِ وأن تملكَ كل أنواعِ الملك وأن تنمّيَ أموالها وأن تُباشرَ شؤونها في الحياةِ بنفسها.
ب ـــ يجوز للمرأة أن تُعيّنَ في وظائِفِ الدولةِ، وفي مناصبِ القضاءِ وأن تَنتخِبَ وتُنْتَخَبَ في مجلسِ الشورى وأن تشتركَ في انتخابِ الخليفةِ ومبايعتهِ.
ج ـــ لا يجوزُ أن تتولى المرأةُ الحكمَ، فلا تكونُ خليفةً ولا قاضيًا في محكمةِ المظالمِ ولا واليًا ولا عاملًا ولا تباشر أي عملٍ يُعدّ من الحكم.
4 ـــ تُمنَعُ الخلوةُ بغير محرمٍ، ويمنعُ التبرجُ ويُمنعُ الاختلاط.
5 ـــ يُمنعُ كلٌّ من الرجلِ والمرأةِ من مباشرةِ أي عملٍ فيه خطرٌ على الأخلاق أو فسادِ المجتمع.

وَاقِعُ النظامِ الاجتماعيّ
إنّ الكثيرَ من النّاسِ يطلقُ على جميعِ أنظمةِ الحياةِ اسمَ النظامِ الاجتماعيّ وهذا إطلاقٌ خاطئٌ، لأنّ أنظمةَ الحياةِ أولى أن يطلقَ عليها «أنظمة المجتمع» إذ هي في حقيقتها أنظمةُ المجتمع لأنّها تنظّمُ العلاقاتِ التي تقومُ بين الناسِ، والاجتماعُ لا يُلاحَظُ فيها بل تُلاحظُ العلاقاتُ فقط.
والعلاقاتُ متعدّدةٌ ومختلفةٌ، وهي تشملُ الاقتصادَ والحكمَ والسيّاسةَ والتعليمَ والعقوباتِ والمعاملاتِ والبيّناتِ وغيرَ ذلك. فإطلاقُ «النّظامِ الاجتماعي» عليها لا وجه له ولا ينطبقُ عليها وفضلًا عن ذلك فإنّ كلمةَ الاجتماعيّ للنظامِ توحي أنّهُ لا بدّ من أن يكونَ هذا النّظامُ موضوعًا لتنظيمِ المشاكلِ أوِ العلاقاتِ النّاشئةِ عن الاجتماعِ. واجتماعُ الرجلِ بالرجلِ والمرأةِ بالمرأةِ لا يحتاجُ إلى نظامٍ لأنّهُ لا تنشأُ عنه مشاكلُ ولا تنشأ علاقاتٌ تحتاجُ إلى نظام. أمّا اجتماعُ الرجلِ بالمرأةِ، والمرأة بالرجل، فإنّه هو الذي تنشأ عنه مشاكلُ وتنشأ عنه علاقاتٌ مما يحتاجُ إلى التنظيمِ بنظام. فأولى بنا أن نُطلقَ على هذا الاجتماعِ بأنّه هو النظامُ الاجتماعيّ. فالنظامُ الاجتماعيّ إذًا يكونُ محصورًا في النظام الذي يبيّن تنظيمَ اجتماعِ المرأةِ بالرجلِ والرجلِ بالمرأةِ وينظّم علاقتهما الناشئةَ عن اجتماعهما لا عن مصالحهما في المجتمع ويبيّن كلَّ ما يتفرّعُ من هذه العلاقةِ. فتجارةُ المرأةِ مع الرجلِ والرجلِ مع المرأةِ هي من أنظمةِ المجتمع، لا من النّظامِ الاجتماعي لأنَّها تدخلُ في النّظامِ الاقتصاديّ. أما منعُ الخلوةِ بين الرجل والمرأة، أو متى تملكُ المرأةُ طلاقَ نفسِها أو متى يكونُ للمرأةِ حقُّ حضانة الصغير فإنّ ذلك كلّه من النظامِ الاجتماعيّ. وعلى ذلك يكونُ تعريفُ النظامِ الاجتماعيّ هو: النّظام الذي ينظِّمُ اجتماعَ المرأةِ بالرجلِ والرجلِ بالمرأةِ وينظمُ العلاقةَ التي تنشأُ بينهما عن اجتماعِهما وكلَّ ما يتفرّعُ من هذه العلاقةِ. وقد اضطرب فهمُ المسلمين، وبعدوا في هذا الفهمِ من حقيقةِ الإسلامِ ببعدهم من أفكارهِ وأحكامهِ وكانوا بين مفرطٍ كلّ التفريطِ، يرى من حقِّ المرأةِ أن تخلوَ بالرجلِ كما تشاءُ وأن تخرجَ كاشفةَ العورةِ باللّباسِ الذي تهواه. وبين مُغالٍ كلَّ الغُلُوِّ لا يرى من حق المرأةِ أن تُزاولَ التّجارةَ والزراعةَ ولا أن تجتمعَ بالرجالِ مطلقًا، ويرى أنّ سائرَ جسدِ المرأة عورةٌ بما في ذلك وجهُها وكفّاها. وكان من جرّاءِ هذا الغلوِّ والتفريطِ انهيارٌ في الخُلُقِ وجمودٌ في التفكيرِ نجم عنهما تصدّعُ الناحيةِ الاجتماعيّةِ وقلقُ الأسرةِ الإسلاميّةِ وغلبةُ روحِ التذمّرِ والتأففِ على أعضائِها وكثرةُ المنازعاتِ والشقاقِ بين أفرادِها. وصار الشعورُ بالحاجةِ إلى جمعِ شملِ الأسرةِ وضمانِ سعادتِها يملأُ نفوس جميعِ المسلمينَ. وصار البحثُ عن علاجٍ لهذه المشكلة الخطيرة يشغلُ بالَ الكثيرينَ، وصارت المحاولاتُ المختلفةُ تُظهِرُ أنواعًا متعدّدةً لوضعِ هذا العلاجِ.
فوُضِعَتِ المؤلفاتُ التي تبيّنُ العلاجَ الاجتماعيَّ وأُدخِلَتِ التعديلاتُ على قوانينِ المحاكمِ الشرعيّةِ وحقِّ المرأةِ في الانتخابِ، وحاولَ الكثيرونَ تطبيقَ آرائِهِمْ على أهليهم من زوجاتٍ وأخواتٍ وبنات.
وأدخِلَتْ على أنظمةِ المدارسِ تعديلاتٌ من حيثُ اختلاطُ الذكورِ بالإناثِ، وهكذا ظهرت هذه المحاولاتُ بهذه المظاهرِ وأمثالها. لكن جميع أولئك وهؤلاء لم يوفقوا إلى العلاجِ ولم يهتدوا إلى النّظامِ لأنَّهُ قد عَمِيَ على مُعظمِ المسلمينَ أمرُ علاقةِ الجنسينِ المرأةِ والرجلِ، وصاروا لا يعرفون الطريقةَ التي يتعاونُ فيها هذان الجنسانِ مما جعلهم يتناقشون حولَ طريقةِ العلاجِ ويبعدون من دراسةِ حقيقتِها حتى ازدادَ القلقُ والاضطرابُ من جرّاءِ محاولاتِهِم وصارت في المجتمعِ هوّةٌ يُخشى منها على كيانِ الأمّةِ الإسلاميّةِ بصفتها أمةً متميّزةً بخصائصها.
ويُخشَى على البيتِ الإسلاميّ أن يفقدَ طابَعَ الإسلامِ وعلى الأسرةِ الإسلامية أن تفقدَ استنارةَ أفكارِ الإسلامِ وتبعدَ من تقديرِ أحكامهِ وآرائِهِ. أما سببُ هذا الاضطرابِ الفكريّ والانحرافِ في الفهمِ عن الصوابِ فيرجعُ إلى الغزوةِ الكاسحةِ التي غزتنا بها الحضارةُ الغربيّةُ وتحكّمت في تفكيرنا وذوقِنا، تحكمًا تامًّا غيّرت به مفاهيمَنا عن الحياةِ ومقاييسَنا للأشياء وقناعاتِنا التي كانت متأصلةً في نفوسنا. فكان انتصارُها علينا شاملًا جميعَ نواحي الحياةِ ومنها هذه الناحيةُ الاجتماعيةُ. ولم يتبيّن المسلمون استحالةَ أخذِ الحضارةِ الغربيّةِ وأنَّه لا يمكنُ أخذُ هذه الحضارةِ لأي جماعةٍ في أيِّ بلدٍ إسلاميٍّ وتبقى هذه الجماعةُ جزءًا من الأمّةِ الإسلاميّةِ أو تبقى عليها صفةُ الجماعةِ الإسلاميّةِ، واتُخذَتِ الناحيةُ الاجتماعيةُ في الغربِ القدوةَ المحبّبةَ، واتُّخِذَ المجتمعُ الغربيُّ مقياسًا من دون أن يُؤخَذَ في الاعتبارِ أنّ المجتمعَ الغربيَّ لا يأبهُ بصلاتِ الذكورةِ والأنوثةِ ولا يرى فيها أيَّ معرَّةٍ أو طعنٍ أو مخالفةٍ للسلوكِ الواجبِ الاتّباعِ، أو أيَّ مساسٍ في الأخلاقِ أو أيَّ خطرٍ عليها، ومن دونِ أن يلاحظَ أنَّ المجتمعَ الإسلاميّ يخالفُهُ في هذهِ النّظرةِ مخالفةً جوهريّةً، ويناقضهُ مناقضةً تامّةً، لأنَّ المجتمعَ الإسلاميّ يُعدّ صلاتِ الذكورةِ والأنوثةِ من الكبائرِ عليها عقوبةٌ شديدةٌ، هي الجلدُ أو الرجمُ، ويُعدّ مرتكبَها منبوذًا منحطًّا منظورًا إليه بعينِ المقتِ والازدراءِ، ويرى من البديهيّاتِ لديه أنَّ العرضَ يجبُ أن يُصانَ. لكنَّ كثيرًا من المسلمينَ اندفعوا وراءَ النقلِ والتقليدِ حتى لبست دعوةُ نهضةِ المرأةِ ثوبَ الإباحيّةِ وعدمِ المبالاةِ بالاتِّصافِ بالخلقِ الذميم. وهكذا مضى هؤلاء الناقلونَ والمقلدونَ في تهديمِ الناحيةِ الاجتماعيةِ عند المسلمين باسْمِ إنهاضِ المرأةِ، وبحجّةِ العملِ لإنهاضِ الأمّةِ. وعلى الرّغمِ من وجودِ علماء في الأمّةِ لا يقلّونَ عن المجتهدين الأوّلين في العلمِ والاطّلاعِ، وعلى الرغمِ من وجودِ ثروةٍ فكريّةٍ وتشريعيّةٍ بين يَدَي المسلمينَ لا تدانيها أيُّ ثروةٍ لأيّ أمّةٍ في العالمِ، فإنّهُ لم يكن لذلك أيُّ أثرٍ في ردعِ الناقلين والمقلّدين عن غيّهم. وفي إقناعِ الجاحدين بأيّ رأيٍ إسلاميٍّ إذا كان مخالفًا لما يريدون أن تكون المرأةُ عليه. وذلكَ لأنّ هؤلاء وأولئك من المقلّدين والجاحدين والعلماءِ والمتعلمين ابتعدت عنهم صفةُ المفكرِ فلا يفهمون الواقعَ أو لا يفهمون حكمَ الله أو لا يتلقّونَ أحكامَ الشرعِ تلقيًا فكريًّا بتطبيقها على الواقعِ تطبيقًا دقيقًا يُحدثُ الانطباق الكاملَ. ومن أجل ذلك باتت المرأةُ المسلمةُ حائرةً. فهي بين امرأةٍ قلقةٍ مضطربةٍ تنقلُ الحضارةَ الغربيّةَ من دون أن تفهمَها أو تعيَ حقيقتَها، ومن دون أن تعرفَ التَّناقضَ الذي بينها وبين الحضارةِ الإسلاميّة، وبين امرأةٍ جامدةٍ لا تنفعُ نفسها ولا ينتفعُ المسلمون بجهودها. وذلك كلُّهُ من جرّاءِ عدمِ تلقّي الإسلامِ تلقيًّا فكريًّا، وعدمِ فهمِ النظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ.
لذلك كان لا بدّ من دراسةِ النظامِ الاجتماعي في الإسلامِ دراسةً عميقةً شاملة، حتى تُدرَكَ المشكلةُ بأنَّها اجتماعُ المرأةِ بالرّجلِ والعلاقةُ الناشئةُ عن اجتماعهما وما يتفرّعُ من هذه العلاقةِ، وأنَّ المطلوبَ هو علاجُ العلاقةِ الناشئةِ عن هذا الاجتماعِ وما يتفرعُ منه، وأنّ هذا العلاج لا يمليهِ العقلُ بل يمليهِ الشّرع.
وأما العقلُ فإنّهُ يفهمُهُ فهمًا وأنّهُ علاجٌ لامرأةٍ مسلمةٍ ورجل مسلم يعيشانِ طرازًا معيّنًا من العيش، وأنَ الإسلامَ أوجبَ عليهما أن يتقيّدا بالعيش على هذا الطراز كما أمر به اللهُ في الكتاب والسنّةِ بغضّ النظر عما إذا وافقَ عقولَ النّاس أو خالفها. أو ناقضَ عاداتِ الآباءِ والأجدادِ وتقاليدَهُم أو وافقَها.

الإنسانُ
المرأةُ والرَّجُل
قال اللهُ تعالى: [يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] [قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ] [بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ] [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى] فالله خاطبَ الإنسانَ بالتكاليفِ وجعلَ الإنسانَ موضعَ الخطابِ والتكليفِ، وأنزل الشرائعَ للإنسانِ، ويبعثُ اللهُ الإنسانَ، ويحاسبُ الإنسانَ، ويُدخِلُ الجنّةَ والنارَ الإنسانَ، فجعلَ الإنسانَ لا الرجلَ ولا المرأةَ محلَّ التكليفِ. وقد خلقَ اللهُ الإنسانَ امرأةً أو رجلًا في فطرةٍ معينّةٍ تمتازُ منِ الحيوانِ. فالمرأةُ إنسانٌ والرجلُ إنسانٌ ولا يختلفُ أو يمتازُ أحدُهما من الآخر في الإنسانيّة. وقد هيأهما اللهُ سبحانَهُ وتعالى لخوضِ معتركِ الحياةِ. وجعلهما يعيشانِ في مجتمعٍ واحد. وجعلَ بقاءَ النّوعِ متوقفًا على اجتماعهما، وعلى وجودهما في كلِّ مجتمع. وقد خلقَ اللهُ في كلٍّ منهما طاقةً حيويّةً، هي الطّاقةُ الحيويّةُ نفسُها التي خلقها في الآخر. فجعل في كلٍّ منهما الحاجاتِ العضويّةَ كالجوعِ والعطشِ وقضاءِ الحاجةِ. وجعل في كلٍّ منهما غريزةَ البقاءِ، وغريزةَ النوعِ، وغريزةَ التدين. وجعل في كلّ منهما قوّةَ التّفكيرِ وهي قوّةُ التّفكيرِ نفسُها الموجودةُ في الآخر. فالعقلُ الموجودُ عندَ الرجلِ هو العقلُ نفسُه الموجودُ عند المرأةِ إذ خَلَقَهُ اللهُ عقلًا للإنسانِ، وليس عقلًا للرّجلِ أو للمرأةِ. إلّا إنّ غريزةَ النّوعِ، وإن كان يمكنُ أن يُشبِعَها الذّكرُ من ذكرٍ أو حيوانٍ، أو غيرِ ذلك، لكنّه لا يُمكنُ أن تؤدّيَ الغايةَ التي من أجلها خُلِقَتْ في الإنسان إلّا في حالةٍ واحدةٍ وهي أن يُشْبِعَها الذّكرُ من الأنثى، وأن تُشبِعها الأنثى من الذّكر. لذلك كانت صلةُ الرجلِ بالمرأةِ وصلةُ المرأةِ بالرجلِ من الناحيةِ الجنسيّةِ الغريزيّةِ صلةً طبيعيّةً لا غرابةَ فيها. بل هي الصلةُ الأصليةُ التي بها وحدها يتحقّقُ الغرضُ الذي من أجلهِ وُجِدَتْ هذه الغريزةُ وهو بقاءُ النّوعِ. وأمّا اللّذةُ والتمتّعُ التي تحصلُ بالإشباعِ فهي أمرٌ طبيعيٌّ وحتميٌّ سواءٌ نظرَ إليها الإنسانُ أم لم ينظرْ.
ولهذا كان لا بدّ للإنسانِ من مفهومٍ عن إشباعِ غريزةِ النّوع، وعن الغايةِ من وجودِها، وكان لا بدَّ من أن يكونَ للجماعةِ الإنسانيّةِ نظامٌ يمحو من النفوسِ تسلّطَ فكرةِ الاجتماعِ الجنسيّ واعتبارها وحدها المتغلبةَ على كل اعتبارٍ ويبقي صلاتِ التعاونِ بين الرجلِ والمرأةِ. لأنّهُ لا صلاحَ للجماعةِ إلا بتعاونهما باعتبارِ أنهما إخوان متضامنان تضامنَ مودةٍ ورحمة.
لذلك لا بدّ من التأكيدِ على تغييرِ نظرةِ الجماعةِ إلى ما بينَ الرّجلِ والمرأةِ من صلاتِ تغييرًا تامًّا يزيلُ تسلّطَ مفاهيمِ الاجتماعِ الجنسيّ، ويجعلُها أمرًا طبيعيًّا وحتميًّا للإشباعِ، ويزيلُ حصرَ هذه الصلةِ باللّذةِ والتمتعِ وجعلها نظرةً تستهدفُ مصلحةَ الجماعةِ لا نظرةَ الذكورةِ والأنوثة. ويسيطرُ عليها تقوى الله لا حبُّ التمتّعِ والشهواتِ، نظرةً لا تنكرُ على الإنسانِ استمتاعَهُ باللّذةِ الجنسيّةِ، لكنَها تجعلُهُ استمتاعًا مشروعًا محقِّقًا بقاءَ النوع، متفقًا مع المثل الأعلى للمسلمِ وهو رضوانُ الله تعالى.

الصِّلاتُ بين المرأةِ والرَّجُل
إنَّ نظرةَ التشريع الإسلامي للصّلاتِ بين الرجلِ والمرأةِ هي لبقاءِ النّوع، ونظرةُ الرأسماليّةِ الديمقراطيّةِ العقلانية للصلاتِ بين الرجلِ والمرأةِ نظرةً جنسيّة.
والذي يزعمُ أنَّ كبتَ الغريزةِ الجنسيّةِ في الرجلِ والمرأةِ يسبّبُ للإنسان أمراضًا جسميّةً ونفسيّةً وعقليّةً، فإنّ ذلك غير صحيحٍ وهو وهمٌ مخالفٌ للحقيقة. ذلك أنَّ هنالك فرقًا بين الغريزةِ والحاجةِ العضويّةِ من حيثُ حتميّةُ الإشباع. فإنّ الحاجةَ العضويّةَ كالأكلِ والشّربِ وقضاءِ الحاجةِ يتحتّمُ إشباعُها، وإذا لم تشبع ينجم عنها أضرارٌ ربما تصلُ إلى الموت. وأما الغريزةُ كالبقاءِ والتديّنِ والنوعِ فإنّه لا يتحتّمُ إشباعُها، وإذا لم تشبَعْ لا ينجم عن عدمِ إشباعها أيُّ ضررٍ جسميٍّ أو عقليٍّ أو نفسيٍّ بل يحصلُ من ذلك انزعاجٌ وألمٌ ليس غير، بدليلِ أنّه قد يُمضي الشّخصُ عمرَهُ كلّه من دون أن يُشبعَ بعضَ الغرائزِ، ومع ذلك لا يحصل لهُ أيُّ ضرر. إذ لو حصلَ أيُّ ضررٍ من كبتِ الغريزةِ لحصلَ للإنسانِ في كل حالةٍ يقع فيها الكبتُ حصولًا طبيعيًّا بحسبِ الفطرةِ وهو لم يقعْ مطلقًا.
هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الحاجةَ العضويّةَ تتطلبُ الإشباعَ طبيعيًّا من الداخلِ من دون حاجةِ مؤثّرٍ خارجيٍّ، وإن كان المؤثّرُ الخارجيُّ يثيرها في حالةِ وجودِ الجوعِ بخلاف الغريزةِ فإنَّها لا تتطلّبُ الإشباعَ طبيعيًّا من الدّاخلِ من غيرِمؤثّرٍ خارجيٍّ بل لا تثور داخليًّا إلا بمؤثّرٍ خارجيٍّ من واقعٍ ماديٍّ مثيرٍ أو فكرٍ جنسيٍّ مثيرٍ، فإذا لم يوجدْ هذا المؤثّرُ الخارجيُّ لا تحصلُ الإثارةُ. وهذا شأنُ جميعِ الغرائزِ بجميعِ مظاهرِها كلِّها. فإنّه إذا وجد أمام الشخص ما يثيرُ أيَّ غريزةٍ يتهيّجُ وتتطلبُ الغريزةُ الإشباعَ فإذا أُبعِدَ عنهُ ما يحرّكُ الغريزةَ أو أُشغِلَ بما يطغى عليها بما هو أهمُّ منها ذهبَ تطلّبُ الإشباع وهدأت نفسُهُ، بخلافِ الحاجةِ العضويّةِ فإنَّه لا يذهبُ تطلّبُ إشباعِها متى ثارت مطلقًا بل يستمرُّ حتى تشبعَ. وبهذا يظهرُ بوضوحٍ أنَّ عدمَ إشباعِ غريزةِ النّوعِ لا يحصلُ منه أيُّ مرضٍ جسميٍّ أو عقليٍّ أو نفسيٍّ مطلقًا لأنها غريزةٌ وليست حاجةً عضويّة. وكلُّ ما يوجدُ هو أنّ الشخصَ إذا وُجِدَ أمامه ما يثيرُ غريزةَ النّوعِ من واقعٍ مادّي أو فكرٍ جنسيٍّ مُثيرَيْنِ فإنّهُ قد يتهيّجُ فيتطلّبُ الإشباعَ، فإذا لم يشبع يصيبُهُ من هذا التهيّجِ انزعاجٌ ليس أكثر. ومن تكرارِ هذا الانزعاجِ يتألم. فإذا أُبعدَ منه ما يُحرّكُ غريزةَ النّوعِ أو أُشغِل بما يطغَى على هذه الغريزةِ بما هو أهمُّ منها ذهبَ الانزعاج.
وبهذا يتبيّنُ خطأُ وجهةِ النظرِ الغربيّةِ التي جعلت نظرةَ الجماعةِ إلى الصّلاتِ بين الرّجلِ والمرأةِ مسلّطةً على الصّلةِ الجنسيّةِ، وبالتالي خطأُ علاجِ هذه النظرةِ بإثارةِ الغريزةِ في الرّجلِ والمرأةِ بإيجادِ ما يُثيرها من الوسائلِ كاللّباسِ القصيرِ والمايوهاتِ على البحارِ والاختلاطِ والرقصِ والأفلامِ الجنسية والقصصِ وما شابَهَ ذلك. كما يتبيّنُ صدقُ وجهةِ النّظرِ الإسلاميّةِ التي جعلت نظرةَ الجماعةِ إلى الصّلاتِ بين الرّجلِ والمرأةِ مسلّطةً على الغرضِ الذي من أجله وُجدت هذه الغريزةُ وهو بقاءُ النّوعِ، ويظهرُ صحةُ علاجِ هذه النّظرةِ بإبعادِ ما يثيرُها إذا لم يتأتَّ لها الإشباعُ المشروعُ بالزواجِ، فيكون الإسلامُ وحده هو الذي يُعالج ما تحدثُه غريزة النّوعِ من الفسادِ في المجتمعِ والناسِ علاجًا ناجحًا يجعل أثرَها مُحدِثًا الصّلاحَ والسّموَّ للإنسانِ في المجتمع.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢