نبذة عن حياة الكاتب
لمن الحكم
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ١١١
تاريخ النشر : ١٩٨٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَدِّمة
وَاقِعُ العَقْل
الإدرَاكُ الشعُوريّ أو التميِيزُ الغَريْزِيّ
الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
أقسَامُ الفِكْرِ
حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
خُلاصة
التفكيرُ البَطيءُ وَالتفكيرُ السَّريعُ أو الإدراكُ البَطيءُ وَالإِدراكُ السَّريعُ
فِطْرَةُ الإنْسَان
الطَاقةُ الحيويَّةُ غَريزَةُ البَقَاء
غَرِيزَةُ النَّوْعِ مِنْ مَظاهِرِهَا الشُعورُ الجِنْسِيّ
التَدَيُّن
الخوفُ: مظهَرٌ مِنْ مظاهِرِ غَريزَةِ حُبِّ البَقاء
العِبَادَةُ
حاجَةُ الإنسَانِ إلى الرُّسُل
لِـمَنِ الحُكْمُ؟
الشَرعُ أو الشَرِيعَة
القُرآنُ عَرَبيٌّ
الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
المُجْتَمَع
تَكْوينُ المُجْتَمع وتنظيمُه عِنْدَ الشيُوعِيين
كيفَ يَنْهَضُ المُجْتَمَع
الأهْدافُ العُلْيَا لِصِيَانةِ المُجْتَمَعِ الإسْلاميّ
القانونُ الرُّوماني
الاقتِصاد
الإجَارة
النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
تنظِيمُ العَلاقات
مقاصِدُ كُلِّ حُكْمٍ بعَيْنِه
الخاتِمَـة

القانونُ الرُّوماني
القانونُ الرّومانيُّ الذي عاشَ قرونًا وظلَّ منذُ نشأةِ روما عام 754 قبلَ السيدِ المسيحِ حتّى عام 212 بعدَ السيّدِ المسيحِ امتيازًا خاصًّا ووقْفًا بادئَ الأمرِ على سكّانِ مدينةِ روما فَقَطْ الأصليّينَ من دونِ بقيّةِ اللاتينيّينَ في ما حولَ روما من منازلِ الإيطاليّينَ ولم يستطع بقيَّةُ اللّاتينيّينَ أن يلتحقُوا بالوطنيّين الرومانيينَ في الحقوقِ إلَّا بعدَ أن صدرَ قانونُ جوليا في عام 90 قبلَ السيّدِ المسيحِ وجعلَ منهُم استثناءً في الإمبراطوريّة. وأمّا الغُرباءُ عنِ العِرقِ اللاتينيّ فما استطاعُوا أن يُصبِحُوا وطنيّينَ إلّا عندما سَيْطَرَ الإمبراطورُ كاراكالا وهو نفسُهُ منَ الغرباءِ فينيقيٌّ سوريٌّ وليس برومانيّ فأزالَ بحكمِ سيطرتهِ هذا الغبنَ عنِ الغُرباءِ وأصدرَ في ذلكَ عام 212 بعدَ السيّدِ المسيحِ مرسومًا إمبراطوريًّا خاصًّا جعلَ حقَّ الاستفادة منَ القانونِ الرومانيّ شاملًا لجميعِ المواطنينَ في الإمبراطوريّةِ على اختلافِ أعراقِهِمْ من غيرِ تمييزٍ ولا تفريق غيرَ أنَّ هذا المرسومَ الإمبراطوريَّ لم تعشْ أحكامه بعدَ أن طُردتْ أسرةُ سيفير منَ الحُكْمِ وهيَ الأسرةُ التي ينتسبُ إليها كاراكالَّا، بل إنَّ المصريّينَ أنفسَهُم ظلُّوا في عهدِ كاراكالا محرومينَ ما عدا مدينةَ الإسكندريّةِ منَ الامتيازاتِ المعترفِ بها للوطنيينَ الرومانيّينَ، وظلَّ القانون الرومانيُّ قائمًا على ما قامَتْ عليهِ دولةُ روما في الأصلِ من التمييزِ ما بينَ الحاكمِ والمحكومِ وبينَ الأشرافِ والطبقة الشعبيةِ. في حين أنه من أولِ يومٍ طبّقَ الإسلامُ ساوى بينَ جميعِ المواطنينَ على اختلافِ أعراقِهِمْ وطبقاتهم، والحديثُ الشّريفُ ظلَّ علمًا من أعلامِ عدمِ التّمييزِ العنصريِّ وهو القائلُ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أعْجَمِيٍّ وَلَا لِأبْيَضَ عَلَى أسْوَدَ إلَّا بِالتّقْوَى».

حُكْمٌ مِنْ أحكامِ هذا القانونِ
المَدِينُ المُفْلِسُ في التَّشرِيع الرُّوماني
إذا امتنعَ المدينُ عَن دفعِ الدّينِ وعن تقديمِ الشّخص المحرِّرِ ليحلَّ محلّهُ، أمرَ الوالي الدّائن بسوقِ مدينهِ وحبسهِ لَدَيهِ في سجنِه الخاصّ ويدومُ هذا الحبس مدّةَ ستين يومًا، وللدّائن الحقُّ في أن يكبّل مدينهُ بالقيد أو بالأغلالِ، كما أنّه فرضَ على الدّائنِ أن يعطي مدينهُ نصف كيلو من الطحين على الأقلِ غذاءً له كلَّ يومٍ، ويبقى للمدينِ حقٌّ في أن يستجلبَ طعامَهُ من بيتهِ. والغايةُ من هذا الحبسِ في تلك المدّةِ هو فتحُ المجالِ أمامَ المدينِ للاتّفاقِ مع الدائنِ أو إيجادِ شخصٍ من أصدقائهِ أو أقربائهِ ليدفعَ عنهُ الدَّينَ ويحرّرهُ، لذلك كانَ على الدّائنِ أن يقودَ مدينهُ في هذه المدّةِ ثلاثَ مراتٍ متواليةِ إلى السّوقِ في منتدى روما وهو يرسُفُ في قيده وأن يعلنَ هناكَ بصوتٍ عالٍ مقدارَ الدينِ الواجبِ وذلكَ إعلانًا لأقرباءِ المدين وأصدقائهِ كي يتدخّلوا وينقذوهُ، وإذا انقضتِ الستّونَ يومًا ولم يتقدَّم أحدٌ ويتبرَّع بالدّفعِ عنهُ كانَ للدّائنِ أن يقتلَ المدينَ أو يبيعهُ كالرقيقِ وإذا تعدَّدَ الدّائنونَ تُقطعُ الجُثّةُ بين الدائنين! يقولُ مونييه في كتابه الذي نُشر في باريس عام 1947: إنّنا في الحقيقةِ أمامَ تشريعٍ بربريٍّ يبرهنُ لنا في قضايا المدينين العاجِزينَ عن الوفاءِ عن قساوةٍ لا رحمةَ فيها وتتّضحُ هذهِ القساوةُ الوحشيّةُ إذا ما عرفنا أنَّ أحكامَ هذا القانون في المدينينَ العاجزينَ عن الوفاءِ تقضي باسترقاقِهِمِ من قبلِ الدائن، وتعطي لهذا الحقَّ ببيعهِم أو بقتلِهِمْ، وإذا تعدّدَ الدائنونَ فلهُم جميعًا الحقُّ في تقطيعِ جسمِ المدينِ إربًا إربًا وهو حيٌّ.

حُكْم المَدِينِ المُفْلِس في الإسلام
المفلسُ لُغَةً: هوالذي لا مالَ لهُ ولا ما يَسُدُّ بهِ حاجتَهُ، أي إنّهُ وصلَ إلى حالةٍ ليسَ معهُ فلسٌ واحدٌ فهوَ مُفْلِسٌ. لهذا لما قالَ النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، لأصحابهِ: أتدرونَ مَنِ المفلسُ؟ قالُوا: يا رسولَ اللهِ، المفلِسُ فينا مَنْ لا درهمَ لَهُ ولا مَتَاعٌ.
قالَ، صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيسَ ذلكَ المفلِسَ، لكنَّ المفلسَ مَنْ يَأتي يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ الجبالِ ويَأتي وقَدْ ظَلَمَ هذا ولَطَمَ هذا وأخَذ من عِرْضِ هذا، فيأخُذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناته فإنْ بَقِيَ عليه شيء أخذَ من سيّئاتِهِم» فَقولُهُمْ ذلكَ إخبارٌ عن حقيقةِ المفلِسِ، وقولُ النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم: «ليسَ ذلكَ المفلس» لمْ يُرِدْ بهِ نفْيَ الحقيقةِ بل أرادَ أنَّ مُفْلِسَ الآخرةِ أشدُّ وأعْظَمُ بحيثُ يَصيرُ مُفلِسُ الدنيا بالنسبةِ إليه كالغنيّ. والمفلِسُ في عُرفِ الفقهاءِ مَن دَيْنُهُ أكثرُ من مالِهِ ومصروفُهُ أكثرُ من مدخولهِ وسَمَّوْهُ مفلسًا وإن كانَ ذا مالٍ، لأنَّ مالَهُ مُستَحِقُّ الصّرفِ في جهةِ دينهِ فكأنّهُ معدومٌ.
ومتى لَزِمَ الإنسانُ ديونَ حالةٍ لا يَفِي مالُهُ بها فَسَألَ غُرماؤهُ الحاكمَ الحَجْرَ عليهِ لَزِمَتْهُ إجابتُهُم، ويُسْتَحَبُّ أن يُعْلِنَ الحجْرَ عليهِ ليتجنّبَ الناسُ معاملتَهُ فإذا حُجِرَ عليهِ ثبتَ بذلكَ أربعةُ أحكامٍ:
أحدُها: تَعَلّقُ حقوقِ الغرباءِ بعينِ مالِهِ.
الثاني: مَنْعُ تصرّفهِ بعينِ مالِهِ.
الثالثُ: أنّ مَنْ وَجَدَ عينَ مالِهِ عندَهُ فَهُوَ أحقُّ بها مِنْ سائرِ الغُرماءِ.
الرابعُ: أنَّ للحاكمِ بيعَ مالِهِ بالمزادِ العلنيّ، وإيفاءَ الغُرماءِ. والدليلُ على الحَجْرِ على المفلسِ ما رُوِيَ عن رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنّهُ حَجَرَ على معاذِ بْنِ جَبَلٍ وباعَ مالَهُ. وعنْ عَبدِ الرحمنِ بْنِ كعبٍ قالَ: «كانَ معاذُ بنُ جبلٍ مِنْ أفضلِ شبابِ قومهِ ولَمْ يكنْ يُمسِكُ شيئًا فَلَمْ يَزَلْ يُدَانُ حتّى أغْرَق مَالَهُ في الدّينِ، فكلّمَ النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، غُرَماءَهُ، فَلو تُرِكَ أحَدٌ من أجلِ أحدٍ لتركوا معاذًا من أجلِ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فباعَ لهم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مالَهُ حتى قامَ معاذُ بغيرِ شيءٍ.
والمفلسُ إذا ثبتَ للناسِ عليهِ حقوقٌ من مالٍ، ببيّنَةِ عَدلٍ، أو إقرارٍ منهُ صحيحٍ، بيعَ كُل ما يُوجَدُ لهُ وأُنصفَ الغُرماءُ، ولا يَحِلُّ أن يُسجَنَ أصلًا، كما لا يَحِلُّ أن يُحْبَسَ المدينُ المعْسِرُ مطلقًا، لقولِ الله تعالى: [وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ، ولما رُويَ عَنِ أبي سعيدٍ الخدري قالَ: أُصيبَ رجُلٌ في ثمارٍ ابتاعَها في عهدِ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فَكَثُرَ دَينُهُ فقالَ رسولُ اللهِ لغرمائهِ «خذُوا ما وجدتُم وليسَ لَكُمْ إلَّا ذلكَ». ورُويَ أنّهُ، صلى الله عليه وآله وسلم، قَسَمَ مَالَ المفلِسِ بَيْنَ الغُرماءِ ولم يسجنْهُ قط، وقالَ علِيٌّ أميرُ المؤمنين، عليه السلام: «حَبْسُ الرّجُلِ في السجنِ بعدما يُعرفُ ما عليهِ من دينٍ ظلْمٌ». وعَنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العزيزِ، رضي اللهُ عَنْهُ، أنّهُ قَضى في المفلسِ بأن يُقْسَمَ مَالُهُ بَيْنَ الغُرماءِ ثُمَّ يُتركَ حتى يَرْزُقَهُ اللهُ.
ويُقسمُ مالُ المفلِسِ الذي يوجَدُ لَهُ بينَ الغُرماءِ بالحِصَصِ بالقيمةِ على الحاضرينَ الطّالبينَ الذينَ حلّت آجالُ حقوقِهِمْ فَقَط، ولا يَدخُلُ فيهِمْ حاضرٌ لا يَطْلُبُ ولا غائبٌ لم يوكلْ ولا حاضرٌ أو غائبٌ لم يَحُلَّ أجَلُ حقِّهِ، طَلَبَ أم لم يطلب، لأنّ مَنْ لم يَحُلَّ أجَلُ حقِّهِ فلا حقَّ لهُ بَعْدُ، ومَنْ لم يطلُبْ فلا يلزمُ أنْ يُعطى ما لم يَطلُبْ. هذا إذا كانَ المفلِسُ حيًّا، أما الميتُ المفلِسُ فإنّهُ يُقضى لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ أوْ غابَ، طَلَبَ أمْ لَمْ يَطلبْ، ولكلِّ ذِي دَيْنٍ سواءٌ كانَ حالًّا أم إلى أجلٍ مُسمّى، لأنَّ الآجالَ كلّها تَحُلُّ بِمَوتِ الذي لهُ الحقُّ والذي عليه الحقُّ. وإن اجتمعت على المفلسِ حقوقُ الله وحُقُوقُ العبادِ فَحُقُوقُ الله تَعالى مُقدَّمَةٌ على حقوقِ الناسِ، فَيبدأ مما فَرّطَ فيهِ من زكاةٍ أو كفارةٍ، ويُقسّم ذلكَ على كلِّ هذهِ الحقوقِ بالحِصَصِ لا يبدّى فيها شيء على شيء. وكذلكَ ديونُ النّاسِ إن لم يَفِ مالُه بجميعِها أخَذَ كُلُّ واحدٍ بِقَدْرِ مالِهِ مما وُجِدَ. ودليلُ أنَّ حُقُوقَ الله مقدمةٌ على حقوقِ العبادِ مَا ثبتَ عَن رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنّهُ قالَ: «دَيْنُ الله أحقُّ أنْ يُقْضَى» وقولُهُ: «واقضوا اللهَ فهُوَ أحَقُّ بالقضاءِ» وحينَ يُباعُ مالُ المفلِسِ يُنْظَرُ في نفقتِهِ ونفقةِ مَنْ تلزمُهُ نفقتُهُ، فلا تُباعُ دارُهُ التي لا غِنى لهُ عَن سكناها. أمّا إن كانَ لهُ دارانِ يَستغني بإحداهما عَنِ الأخرى فتُباعُ التي يَسْتَغني عنها. وإن كانَ المفلسُ يَكْسَبُ مَا يَقُومُ بأوَدِهِ وأوَدِ مَنْ تلزَمُهُ نَفَقَتهُ أو كانَ يقدرُ أن يَكْتَسبَ ذلكَ بالفعلِ بأنْ يُؤَجّرَ نَفْسَهُ فإنّهُ في هذهِ الحالِ يُباعُ كلّ مالِهِ ما عَدا دارَهُ التي تَلزمُهُ لِسُكناها، وإنْ لم يَقْدِرْ عَلى شيءٍ مِنْ ذلكَ تُرِكَ لهُ مِنْ مالِهِ ما يكفيهِ ليُنْفِقَ عَلَيهِ وعلى مَنْ تلزمُهُ مؤونَتُهُ بالمعروفِ مِنْ مالِهِ إلى أن يفْرَغَ مِنْ قِسْمَتِهِ بين غُرمائِهِ.

خُرَافَةُ تأثِير الفِكْر الرُّوماني في الفِكْرِ الإسلاميّ
يزعُمُ بعضُ المستشرقينَ أنَّ الفِقْهَ الإسلاميّ، في العصورِ الأولى، حينَ اندفعَ المسلمونَ في الفتوحاتِ، قد تأثَّرَ بالفِقْهِ الرّومانيِّ والقانونِ الروماني؛ بعدما اندفعَ المسلمونَ في الفتوحاتِ؛ وقالوا: إنّ الفقهَ الرّومانيّ كانَ مصدرًا من مصادرِ الفِقْهِ الإسلاميّ، وقدِ استمدّ الفقهُ الإسلاميّ منهُ بعضَ أحكامهِ. وهذا يعني أنّ بعضَ الأحكامِ الشرعيّةِ التي استُنْبِطَتْ في عهدِ التابعينَ وفي ما بعد هيَ أحكامٌ رومانيّةٌ أو مستمدةٌ من الفِقْهِ الروماني. ويستدلّ هؤلاءِ المستشرقونَ على هذا القولِ بأنّ مدارسَ للقانونِ الرّومانيّ كانَتْ في بلادِ الشامِ عندَ الفتح الإسلامي في قيصرة على سواحِلِ فلسطينَ وبيروت، وكانَ في بلاد الشامِ أيضًا محاكمُ تسيرُ في نظامِها وأحكامِها على القانون الرومانيّ، واستمرّتْ هذهِ الأحكامُ في البلادِ بعدَ الفتح الإسلاميّ زمنًا وذلك يدلّ على إقرارِ المسلمينَ لها وأخذِهم بها وسيرِهِم بمُقتضاها. وأيّدُوا هذهِ النظرة بافتراضات من عندهم فقالوا: من الطبيعيّ أنّ قومًا لم يأخذُوا من الحضارةِ بحظٍّ وافرٍ كالمسلمينَ لا بدّ من أنْ يأخذوا من قومٍ سبقوهم في الحضارةِ، ولا بُدّ من أن ينظروا ماذا يفعلون وكيفَ يحكمونَ.
ثم قالوا: إنّ المقارنةَ بينَ بعض أبوابِ الفقهِ الإسلاميّ وبعض أبوابِ الفِقْهِ الرّومانيّ وقوانينهِ تُرينا التّشابُهَ بينَ الاثنينِ، بلْ تُرينا أنّ بعضَ الأحكامِ نُقِلَتْ بنصوصِها عنِ الفقهِ الرّومانيّ، مثل: «البيّنَةُ على مَنِ ادّعى، واليمينُ على مَنْ أنْكر»، ومثلُ كلمةِ «الفِقْهِ والفقيهِ»؛ فيكونَ الفقْهُ الإسلاميّ على حدِّ زعمِهِم أو بعضُهُ مُسْتَمَدًّا منَ الفِقْهِ الرّومانيّ مباشرة أي منْ مدارسِ الشّامِ ومحاكمِها، هذا ما يزعمُهُ المستشرقونَ من دونِ أن يُقيمُوا أيّ دليلٍ عليه سوى الافتراضِ؛ وهذهِ الأقوالُ فاسدةٌ لعدّةِ أسباب منها:
1 ـــ لمْ يروِ أحدٌ عنِ المسلمينَ، لا المستشرقونَ ولا غيرُهُم، أنّ أحدًا منَ المسلمينَ، فقهاءَ أو غيرَ فقهاء، قد أشارَ أيَّ إشارةٍ إلى الفقهِ الرّومانيّ أو القانونِ الرُّومانيّ، لا على سبيل النّقْدِ ولا على سبيلِ التأييدِ، ولا على سبيلِ الاقتباسِ، ولم يذكرهُ أحدٌ لا بالقليلِ ولا بالكثيرِ؛ ممّا يدلّ على أنّهُ لمْ يكنْ موضعَ حديثٍ فضلًا عن أن يكونَ موضعَ بحثٍ. وأنّ بعضَ المسلمينَ ترجَمُوا الفلسفةَ اليونانيّةَ، لكنّ الفقهَ الرومانيّ لم يُتَرْجَمْ بلْ لمْ تُتَرْجَمْ منهُ أيُّ كلمةٍ فضلًا عن كتابٍ، الأمرُ الذي يَبْعَثُ على الجزمِ أنّهُ قد أُلغيَ وطُمِسَ في البلادِ بمجرّدِ فتحِها.
2 ـــ في الوقتِ نفْسِهِ الذي يزعُمُ المستشرقونَ أنّهُ كانَ في بلادِ الشامِ مدارسُ للفقهِ الرّومانيّ ومحاكمُ تحكمُ بمقتضى قوانينهِ كانتِ الشّامُ غاصّةً بالمجتهدينَ من علماء وقضاةٍ وحكام فكانَ منَ الطبيعي أنْ يحصُلَ التأثّرُ ـــ إذا حصلَ ـــ عندَ هؤلاءِ القضاةِ.
3 ـــ إنّ المسلمينَ حملَةُ رسالةٍ، فهم يفتحونَ البلادَ لتطبيقِ أحكامِ رسالتِهِمْ، فكيفَ يفتحونَ البلادَ ليأخذوا أحكامَ الذي جاؤوا ليزيلوهُ، ويضعُوا مكانهُ حُكمَ الإسلامِ وهُمْ في العصرِ الأوّلِ من عصورِ الفتوحاتِ.
4 ـــ وليسَ بصحيحٍ أنّ المسلمينَ حينَ فتحوا البلادَ كانوا أقلّ حضارةً من البلادِ المفتوحةِ، ولو كانَ ذلكَ صحيحًا لتركوا حضارَتهُم وأخذُوا حضارةَ البلادِ المفتوحةِ لأنّ الفكرَ الأقوى هو الذي يُؤثّرُ، لا الفكرَ الأضعفَ، مع العلمِ أنّ الإسلامَ يمنعُ الإكراهَ في الدينِ.
5 ـــ إنّ كلمةَ «فقهٍ وفقيهٍ» قد وردَت في القرآنِ الكريمِ، وفي الحديثِ الشريفِ، ولمْ يكنِ المسلمونَ قد عرفوا أيّ اتصالٍ تشريعيّ بالرّومانِ. قالَ تعالى: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمُ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدّينِ»، وقالَ عليهِ وعلى آلِهِ الصّلاةُ والسلامُ: «مَنْ يُرِدِ الله فيهِ خيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدينِ».
أمّا كلِمَةُ: «البيّنَةُ على مَنِ ادّعى واليمينُ على مَنْ أنكَرَ» فهي حديث قالهُ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وورَدَتْ في كتابِ عُمَرَ لأبي موسى في البصرةِ. فكيفَ يُزْعَمُ أنّ المسلمينَ أخذُوا كلمة «فقهٍ وفقيهٍ» وقاعدة «البيِّنةُ على مَنِ ادّعى واليمينُ على مَنْ أنكرَ» عنِ الفقهِ الرّومانيّ، وقد قالوها وَوُجِدَتْ عندهم مُنْذُ فجرِ الإسلامِ. يتبيّنُ من ذلكَ أنّ خُرَافَةَ تأثّرِ الفقهِ الإسلاميّ بالفِقْهِ الرّومانيّ لا أصلَ لها مُطلقًا، وأنها دسّ منَ المستشرقينَ.
والحقيقةُ والواقعُ المحسوسُ أنّ الفقهَ الإسلاميّ أحكامٌ مُستنبطةٌ مستندةٌ إلى الكتابِ والسنّةِ، أو إلى ما أرشدَ إليه الكتابُ والسنّةُ من أدلّةٍ، وأنّ الحكمَ إذا لم يكن مُستَندًا في أصلهِ إلى دليلٍ شرعيٍّ لا يُعدُّ من أحكامِ الإسلامِ، ولا يُعدُّ مِنَ الفقهِ الإسلاميّ.

يقومُ النظامُ الاقتِصَاديّ في الإسْلام على أربع قواعِد:
1 ـــ المَال لله: قَال الله تعَالى: [وَآتُوهُم مِّن مَّالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ].
2 ـــ الجمَاعَةُ مُسْتَخلَفة فيه: قَال تعَالَى: [وأنْفِقوا مِمّا جَعَلكُمْ مُسْتَخلَفين فيه].
3 ـــ كَنزُهُ حَرَام: قَال تعَالى: [وَالّذينَ يَكنزونَ الذهَبَ والفِضْةَ وَلا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ الله فَبشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أليم].
4 ـــ تداولُهُ واجِبٌ: قَال تعَالى: [وكي لا يَكونَ دُولةٌ بَيْن الأغنِيَاءِ مِنْكُمْ] أيْ كي لا يقتَصِرَ تَداوُلُه عَلَى الأغْنِيَاءِ فَقَط.
ويتَمَيَّزُ النِظَامُ الإسْلاميّ من النِظَامِ الدّيمُقْراطي الرأسماليّ ومن النِظامِ الاشتِراكي الشيُوعيّ أنّ ملكيّة المَالِ في الإسْلَامِ مُحَدَّدة بالكَيفِ وغيْر مُحدّدة بالْكَم .
في النِّظَامِ الدّيمقْراطيّ الرأسمَالي غَير مُحَدَّدة بالكَيفِ وَغَير مُحَدَّدةٍ بالْكَم.
في النِّظامِ الاشتِراكي الشيُوعي المُلكِيّة مُحَدَّدَة بالكَمّ وَغَيرمُحَددة بالكَيف.
وَهَذِهِ لَـمْحَة مُوجَزَة عَن الاقتِصاد في الإسْلام
مُنْبَثِقَة مِن عَقيْدَتِهِ مَعَ العِلْم أنّ العَالَم اليَوْمَ فيْ صِرَاعٍ اقتِصَادِيّ طَبَقيّ


المصادر
2 الكيف ـــ غير محدد بالكيف أي في استطاعتك أن تملك بالكيفية التي تبتغيها عن طريق الربا عن طريق الخمر عن طريق البغاء عن طريق القمار إلخ.
3 الكم ـــ غير محدد بالكم: يعني أنك تستطيع أن تملك كمية من المال مهما بلغت.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢