نبذة عن حياة الكاتب
لمن الحكم
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ١١١
تاريخ النشر : ١٩٨٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَدِّمة
وَاقِعُ العَقْل
الإدرَاكُ الشعُوريّ أو التميِيزُ الغَريْزِيّ
الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
أقسَامُ الفِكْرِ
حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
خُلاصة
التفكيرُ البَطيءُ وَالتفكيرُ السَّريعُ أو الإدراكُ البَطيءُ وَالإِدراكُ السَّريعُ
فِطْرَةُ الإنْسَان
الطَاقةُ الحيويَّةُ غَريزَةُ البَقَاء
غَرِيزَةُ النَّوْعِ مِنْ مَظاهِرِهَا الشُعورُ الجِنْسِيّ
التَدَيُّن
الخوفُ: مظهَرٌ مِنْ مظاهِرِ غَريزَةِ حُبِّ البَقاء
العِبَادَةُ
حاجَةُ الإنسَانِ إلى الرُّسُل
لِـمَنِ الحُكْمُ؟
الشَرعُ أو الشَرِيعَة
القُرآنُ عَرَبيٌّ
الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
المُجْتَمَع
تَكْوينُ المُجْتَمع وتنظيمُه عِنْدَ الشيُوعِيين
كيفَ يَنْهَضُ المُجْتَمَع
الأهْدافُ العُلْيَا لِصِيَانةِ المُجْتَمَعِ الإسْلاميّ
القانونُ الرُّوماني
الاقتِصاد
الإجَارة
النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
تنظِيمُ العَلاقات
مقاصِدُ كُلِّ حُكْمٍ بعَيْنِه
الخاتِمَـة

الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
الحقيقةُ الشرعيّةُ هي اللفظ المستعملُ فيما وُضعَ له أولًا في اصطلاحِ الشرعِ. والأسماءُ الشرعيّةُ مثلُ الصلاةِ للأفعال المخصوصةِ، والصومِ للإمساكِ المعروفِ إلى غيرِ ذلك، هيَ الأسماءُ التي جاءَ بها الشّرعُ.
الحقيقةُ العرفيّةُ هي اللّفظُ المستعملُ فيما وُضعَ لهُ بعُرفِ الاستعمالِ اللُّغويّ. أي هي اللّفظةُ التي انتقلتْ عَنْ مُسمّاها اللّغويّ إلى غيرِهِ للاستعمالِ العامّ في اللغةِ بحيثُ هُجِرَ الأوّلُ، وهيَ قسمانِ: الأوّلُ: أن يكونَ الاسمُ قد وُضعَ لمعنى عامٍّ ثُمّ يُخصّصُ بِعرفِ استعمالِ أهلِ اللغةِ ببعضِ مُسميّاتِهِ، كاختصاصِ لفظِ الدّابّةِ بذواتِ الأربعِ عُرفًا. وإن كانَ في أصلِ اللّغةِ لكلِّ ما دبَّ على الأرضِ فتشمل الإنسانَ والحيوانَ لكنَّ الاستعمالَ العامَّ في اللّغةِ خصّصَها بذواتِ الأربعِ وهُجِرَ المعنى فصارتْ حقيقةً عُرفيّةً لُغويّةً في المعنى الذي نُقِلَتْ إليه.
الثاني: أن يكونَ الاسمُ في أصلِ اللّغةِ بمعنى، ثمَّ يشتهرُ في عُرفِ استعمالِهِمْ بالمعنى الخارجِ على الموضوعِ اللُّغويّ، بحيث إنّهُ لا يُفهمُ من اللّفظِ عند اطلاقِ غيرِهِ كاسمِ الغائطِ فإنّهُ وإن كانَ في أصلِ اللّغةِ للموضعِ المنخفِضِ منَ الأرضِ غير أنّهُ قد اشتهرَ في عُرفِهِم بالخارجِ المُسْتَقْذَرِ منَ الإنسانِ، حتّى إنّهُ لا يُفهمُ من ذلكَ اللّفظِ عندَ إطلاقِهِ غيرُهُ. فالحقيقةُ اللّغويّةُ قد وضعها العربُ فهي وضعيّةٌ والحقيقةُ العُرفيّةُ استعملَها العربُ فهيَ عُرفيّةٌ أي تعارف العربُ عليها باستعمالهم لها.
وأمّا أنّهُ يوجدُ لكلِّ طائفةٍ من العلماءِ من الاصطلاحاتِ التي تخصهم مثلَ اصطلاحِ النحاةِ على الرفعِ والنصبِ والجرِّ فإنّهُ حقيقةٌ عرفيّةٌ خاصّةٌ وهي غيرُ الحقيقةِ العرفيّةِ اللغويّةِ لأنَّ الحقيقةَ العرفيّةَ اللغويّةَ من العربِ أنفسِهِم، وأمّا الحقيقةُ العرفيةُ الخاصةُ فهي ليست من العربِ الأقحاحِ بل تعارَفَ عليها علماءُ كلِّ علمٍ للدّلالةِ على معانٍ معينة كعلماءِ الهندسةِ والكيمياءِ والطبِّ والاقتصادِ وما شاكلَ ذلكَ فكل ما اصطلحَ عليهِ علماءُ أيِّ علمٍ أو فنٍّ في أيِّ عصرٍ هو حقيقة عُرفيّةٌ خاصةٌ، وهي منَ اللغةِ العربيّةِ كالحقيقةِ العُرفيةِ العامّة سواءٌ بسواءٍ، لأنَّ العرفيّةَ العامّةَ قد استعملَها العربُ في غيرِ ما وضعُوها له واشتُهرت بهِ فكانت عربيّةً لاستعمالِ العربِ لها، فهي كالوضعِ من قِبَلِهِم وكذلك العُرفيّةُ الخاصّةُ قد جرى الاصطلاحُ عليها من قِبَل علماءِ العربِ وعلى مسمعٍ منهم وأقرّوهُ وعدّوهُ من اللّغةِ، بل استعملوها في معانيها التي وُضعت لها كاستعمال الحقيقةِ العُرفيّةِ، وكذلك هم استعملوا اللفظة في النّحو في غير ما وضعت له استعمالًا خاصًّا في علمٍ مخصوصٍ فكانت لذلكَ عربيّةً كالذي استعملوهُ استعمالًا عامًّا وكالذي وضعوهُ. وما انطبقَ على العلومِ التي وضعوها والعلومِ التي أقرّوا استعمالها ينطبقُ على كلِّ علمٍ منَ العلومِ الحديثةِ، ومن هنا كانتِ الحقيقةُ العرفيّةُ الخاصّةُ عربيّةً كالحقيقةِ العُرفيّةِ العامّةِ سواءٌ بسواءٍ.
وأمّا الحقيقةُ الشّرعيّةُ فتنقسمُ إلى أسماءِ الأفعالِ كاسمِ الفاعل واسمِ المفعولِ والصفّةِ وأفعلِ التّفضيلِ، كقولِنا زيدٌ مؤمنٌ أو فاسقٌ أو محجوجٌ عنه أو أفسق من عمرو. وأمّا بالنسبةِ إلى الحروفِ فإنَّ الحروفَ الشرعيّةَ لم تُوجد مطلقًا لأنها لا تُفيد وحدَها، ولأنَّ المعانيَ التي وُضعَ كلُّ حرفٍ ليؤدِّيَها معَ غيرهِ مثلَ الباءِ للإلصاقِ، واللّامِ للاختصاصِ وما شاكلَ ذلكَ لم يوجدْ في الاستعمالِ الشرعيّ نقلٌ لها عن معناها، لذلكَ لم تكن موجودةً، وأمّا الفعلُ نحو صلّى الظّهرَ فإنّ الفعلَ عبارةٌ عنِ المصدرِ والزمانِ، فإن كانَ المصدرُ شرعيًّا، استحال أن يكونَ الفعلُ إلّا شرعيًّا وإن كانَ لُغويًّا فكذلك.

الحِكمةُ في وَضْعِ الألفاظِ العَرَبيَّة
إذا قُيّضَ لكَ أن تَتَبَحّرَ في لغتكَ العربيّةِ، وتقِفَ على مكنوناتها، وتطّلِعَ على سرِّ الوضعِ فيها، والطريقةِ التي تمشّى عليها الواضعُ في صياغةِ أُصولها، وكيفَ احسنَ التفريعَ على تلكَ الأصولِ مع مراعاةِ التناسُبِ بينَ كل أصلٍ وفرعهِ، لم تملكْ نفسَكَ عنِ الإعجابِ بذهنِ العربِ الشفّافِ الذي عَرَفَ كيفَ يحوِّلُ الكلماتِ الجامدةِ إلى حياةٍ.
ولولا ظهورُ اختلالٍ في بعضِ متونِ اللغةِ، واضطراب في أوضاعها لكانت الصلةُ بينَ المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازي أسْطَعَ من جبينِ البدْرِ في جوْفِ الظلماءِ. ولما كنّا نرى في بعضِ الكلماتِ بَوْنًا شاسعًا بحيثُ كادَتْ تنعدمُ أيُّ رابطةٍ بينَ المعاني المختلفةِ للكلمةِ الواحدةِ، وهذا أكبر دليلٍ على أنّ اللغةَ التي انتهتْ إلينا قدِ اعتورَتْها أيدي التصحيفِ والتحريفِ والإفسادِ، وبعدَ أن تظاهرتْ عليها عواملُ العُجْمَةِ، وبعدَ أن تفرّقَتِ القبائلُ العربيّةُ في جميعِ الأطرافِ حتى كادتْ تلحقُ بشقيقاتها اللغاتِ الساميّةِ، لو لم يحفَظْ لها كيانها القرآن الكريمُ.
وها نحنُ نوردُ لكَ شيئًا من تلكَ الألفاظِ الناطقة بحكمةِ واضعيها. فقد قالوا: أسْرَفَ الرجلُ مالَهُ: إذا بذّرَهُ وأنْفَقَهُ في غيرِحاجةٍ، وهو مشتقّ من السّرقةِ وهي دُوَيْبَةٌ سوداءُ الرّأسِ سائرها أحْمَرُ، تَقَعُ على الشجرةِ فتأكلُ وَرَقَها وتُفْسِدُها. وقريبٌ من هذا المعنى قولهم بذّرَ مالهُ: إذا أفسدَهُ وأنْفَقَهُ إسرافًا، وهو مجازٌ عن قولهم: بذّرَ الحَبّ إذا نَثرَهُ في الأرضِ وبذّرَ الشيءَ إذا فَرّقَهُ، فكأنّ المُبذِّرَ لمالهِ يبدّدُهُ وينثرهُ في الأرضِ حتى يضيعَ أو يلتقطَهُ عابرُ سبيلٍ.

المَفَاهِيمُ وَالمَعْلُومَات
المفاهيم: معاني الأفكار لا معاني الألفاظ. فاللفظُ كلامٌ دلّ على معانٍ. قد تكونُ موجودةً في الواقع، وقد لا تكون، فالشاعر حين يقول:
وأخَفْتَ أهل الشرْكِ حتى إنّه لَتَخَافُكَ النُّطَفُ التي لم تُخْلَقِ
فإن هذا المعنى في الشطر الأول موجودٌ في الواقع مُدْرَكٌ حِسًّا.
لكنّ المعنى في الشطر الثاني غيرُ موجود مُطلقًا فهذه المعاني للجُمَل، تُشرَحُ وتُفَسرُ ألفاظها. أما معنى الفكر فيتلخص في أنّه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمّنهُ اللفظُ واقعٌ يقعُ عليه الحسّ أو يتصوّره ويُصدّقُه الذهن كشيء محسوس فإنه يكون مفهومًا عند من يحسه ويتصوَّره ولا يكون مفهومًا عند مَنْ لا يحسّه ولا يتصوّره، فعلى المتلقّي أن يَفْهَمَ معاني الجملِ كما تدلّ عليه من حيث هي، لا كما يُريدها لافِظُها، وأن يُدرِكَ، في الوقتِ نفسه واقعَ هذه المعاني في ذهنه، إدراكًا يُشخّص له هذا الواقع، حتى تُصبحَ هذه المعاني مفاهيمَ. فالمفاهيم هي المعاني المُدْرَك لها واقعٌ في الذهنِ، سواءٌ كان واقعًا محسوسًا في الخارج، أم واقعًا مُسلّمًا به أنه موجودٌ تسليمًا مبنيًّا على واقعٍ محسوسٍ، وما عدا ذلك من معاني الألفاظِ والجُملِ لا يسمى مفهومًا، بل مجرّد معلوماتٍ، وتتكوّن هذه المفاهيم من رَبْطِ الواقعِ بالمعلوماتِ أو من ربطِ المعلوماتِ بالواقعِ.
وأفكار الإسلامِ مفاهيمُ وليست معلومات لمجرّد المعرفَةِ، وكونها مفاهيمَ لها مَدلولاتٌ واقِعةٌ في مُعتركِ الحياةِ، وليست مجرّد شرْحِ الأشياء التي يفْرض المنطقِ المجرّد وجودَها، بل كلّ مدلول يدل عليه له واقعٌ يمكن للإنسان أن يضعَ إصبعَهُ عليه سواءٌ كانت مفاهيمَ عميقةً يحتاجُ إدراكُها إلى اسْتِنارَةٍ أوكانت ظاهِرَةً يمكن فَهْمُها بسهولةٍ، وسواء كانت محسوسةً بالحواس كالمعالجاتِ والأفكارِ والآراءِ العامّةِ أوكانت غيبيّة؛ لكن الذي أخبرنا عنها قد قطعَ العقل حسًّا بصدقِهِ كالملائكةِ والجنّةِ والنارِ، فكلّها وقائعُ موجودةٌ لها مدلولاتٌ واقعةٌ ذهنًا على شكلِ قطعيّ جازم.

السُّلوك
الأصلُ في السّلوكِ هو الطاقةُ الحيويّةُ. والطاقةُ الحيويةُ هي الغرائزُ والحاجاتُ العضويّةُ، فهذه الغرائزُ والحاجاتُ العضوية تدفعُ وتطلبُ الإشباعَ، فيقومُ الإنسانُ بالتحركِ بالقولِ أو العملِ من أجلِ الإشباع. إنّ الذي يعيّنُ هذا السلوكَ هو المفهومُ وليس الفكر فحسب. فالفكرُ لا يؤثّرُ في السّلوكِ إلا إذا صدّقهُ الإنسانُ وارتبط هذا التصديقُ بالطاقةِ، فأصبح مفهومًا من مفاهيمِ الشّخص. فالقولُ بأنَّ سلوكَ الإنسانِ بحسبَ مفاهيمهِ قولٌ يقينيٌّ، وغيرُ قابلٍ للشكّ، لأنّ التصديقَ بالفكرِ إذا ارتبطَ بالطاقةِ لا يمكنُ أن يكونَ السلوكُ إلا بحسبه. إلا إنَّ هناك أفكارًا ارتبطَ التصديقُ بها بالطاقةِ ارتباطًا متينًا، حتى ليَصعبُ على التصديقِ بفكرٍ آخرَ أن يُزيلَها أو يزيلَ آثارَها إلا بعد مرورِ زمنٍ. في هذه الحالةِ يبقى الفكرُ غيرَ متحوّلٍ إلى مفهومٍ، أو يتحوّلُ تحوّلًا مترجرجًا متقطعًا. وأكثرُ ما يكونُ هذا في مفاهيمِ الأعماقِ لذلك يحتاجُ إلى معاناةٍ أكثرَ وزمنٍ أطولَ.
والفكرُ هو نتيجةُ العقلِ وهو غيرُ السلوكِ، والسلوكُ هو نتيجةُ الطاقةِ وهو غيرُ الفكرِ، إذن، فإن التفكيرَ غيرُ الميلِ، وإن العقليّةَ غيرُ النفسيّة. هناك طاقة تتطلبُ الإشباعَ وهناكَ عقل يفكّرُ. وهما أمرانِ مختلفانِ، فإذا ارتبطا وحصلَ سلوكٌ بحسب الأفكارِ كانت الشخصيّةُ. وإذا لم يرتبطا وظلَّا منفصلينِ كانتْ هناك ميولٌ وكانتْ هناك أفكار، إلا إن مخالفةَ السلوكِ للفكرِ أكثرُ ما تكونُ في بعضِ الجزئيّاتِ، ولا يؤثّرُ ذلك في الشخصيّةِ بل يؤثّرُ في بعضِ التصرّفاتِ في بعضِ الأحيانِ.
ففي غزوةِ بني المصطلق تنادى الأنصارُ ضدّ المهاجرين وتنادى المهاجرون ضدّ الأنصار حينَ تحرّكت في الفريقين النعرةُ العصبية. في هذهِ الحالةِ انفصلَ السلوك عن الفكرِ مع أنّ المفهومَ واحدٌ عند الفريقينِ. إلّا إن هذا المفهومَ في هذا الوقتِ لم يعد مفهومًا لأنه انفصلَ عن الارتباطِ بالطاقةِ فتصرّفَ كلُّ فريقٍ بحسَبِ ميولهِ لا بحسَبِ أفكارهِ أي تحركتْ لديه مفاهيمُ الأعماق، من دون أن يؤثرَ ذلك في شيءٍ على شخصيةِ الأنصار أو شخصيّةِ المهاجرين لأن الفريقين ما لبثا أن عادا إلى المفهوم. وهكذا، فانفصالُ السّلوكِ عن الفكرِ في بعضِ الأحيانِ لا يؤثّرُ في الشخصيّة. والقولُ بأنّ للإنسانِ وجهتيْ نظرٍ في الحياةِ قولٌ خاطئٌ إذ لا يكونُ للإنسانِ إلَّا فكرٌ أساسيٌّ واحدٌ عن الحياة تحوّلَ إلى مفهوم، فإذا وُجدَ فكر غيره فإنّه يبقى مجرَّدَ فكرٍ وليس بمفهومٍ.

العَقْلِيَّةُ وَالنَفْسِيَّةُ
عندما تتكوّن المفاهيمُ من ربط الواقع بالمعلومات، يتبلورُ هذا التكوين بحسبِ القاعدة أو القواعدِ التي يجري عليها قياسُ المعلوماتِ والواقع، حين الربط، ثم تُوجد بذلك للشخص عقليّةُ تفهّم الألفاظ والجمل، لتُدْرِكَ المعاني بواقعها المشخّص، وتُصدرَ حكمها عليه.
فالعقليّةُ إذن، هي الكيفيّةُ التي يُرْبَطُ فيها الواقع بالمعلومات، بقياسها إلى قاعدةٍ واحدةٍ أو قواعدَ معيّنة؛ ومن هنا يأتي اختلاف العقليّات كالعقلية الإسلاميّة، والعقليةِ الشيوعية، والعقلية الرأسمالية، والعقلية الفوضويّة، والعقليّة الرتيبة.
النفسية: هيَ الكيفيّة التي يجري عليها إشباعُ الغرائزِ والحاجاتِ العضويّةِ، وبعبارةٍ أُخرى هيَ الكيفيّة التي تُربَط فيها دوافع الإشباع بالمفاهيم، فهي مزيجٌ من الارتباط الحتميّ الذي يجري طبيعيًّا في داخلِ الإنسانِ، بينَ دوافعهِ والمفاهيم الموجودةِ لديهِ عنِ الإشباعِ، مربوطةً بمفاهيمهِ عنِ الحياةِ.
الشخصية: ومن هذه العقليّةِ والنفسيةِ تتكوّن الشخصيّة، فالعقل أو الإدراك، وإنْ كانَ فطرةً، ووجودهُ حتميّ لدى كلِّ إنسانٍ، لكنّهُ تكوينٌ يجري بفعلِ الإنسانِ، والميولُ لإشباعِ الغرائزِ والحاجاتِ العضويّةِ، وإن كانتْ فطريّةً في الإنسانِ، ووجودُها حتميّ لدَى كلّ إنسانٍ، لكنّ التكوينَ النفسيّ يجري بفعلِ الإنسانِ، فإنْ كانتْ هذهِ القاعدةُ أوِ القواعدِ التي يجري عليها تكوين العقليّةِ هيَ القاعدةِ نفسها أوِ القواعدِ التي يجري عليها تكوينُ النفسيّةِ فقد وجدتْ عندَ الإنسان شخصيّةً متميّزةً بلونٍ خاصٍّ. وإن كانت القواعدُ النفسيّة منفصلةً عنِ القواعدِ التي يجري عليها تكوينُ العقليّةِ، كانت عقليّةُ الإنسانِ غيرَ نفسيّتِه، لأنّهُ حينئذٍ يقيسُ ميولهُ على قاعدةٍ أوْ قواعدَ موجودةٍ في الأعماقِ، فيربطُ دوافعَهُ بمفاهيمَ غير المفاهيمِ التي تكوّنت بها عقليّتُهُ فيصبحُ شخصيّةً مختلفةً متباينةً، أفكارهُ غيرُ ميولهِ، لأنّهُ يفهمُ الألفاظَ والجُمَلَ، ويدركُ الوقائعَ على وجهٍ يختلفُ عن ميله للأشياء.
الشخصية الإسلامية: عالجَ الإسلامُ أعمالَ الإنسانِ الصادرةَ عن حاجاتهِ العضويّةِ وغرائزهِ، بالأحكامِ الشرعيّة المنبثقة عن هذهِ العقيدةِ نفسها، معالجةً صادقةً تُنَظِّمُ الغرائزَ ولا تَكْبتُها، وتُنسّقُها ولا تُطلقُها، وعلى هذا تجد أنّ الإسلامَ يكوّن الشخصيةَ الإسلاميّةَ بالعقيدةِ الإسلاميّةِ، فبها تتكوّنُ عقليّتُهُ، وبها نفسها تتكوّن نفسيّته؛ إنّ جعلَ الإسلامِ مقياسًا لجميعِ الأفكارِ عمليًّا وواقعيًّا يجعل عندَ الإنسانِ عقليّةً إسلاميّةً ونفسيّةً إسلاميّةً. وهما اللتانِ تجعلانِ ميُولهما كلها على أساسِ الإسلامِ، فيكونُ الإنسانُ حينئذٍ بهذه العقليّةِ وهذه النفسيّةِ شخصيّةً إسلاميّةً، بغضِّ النظرِ عن كونهِ عالمًا أو جاهلًا؛ لأنّ كلَّ مَنْ يفكِّرُ على أساسِ الإسلامِ، ويجعلَ هواه تبعًا للإسلامِ يُكوِّنُ شخصيّةً إسلاميّةً. والإسلامُ أمرَ بالاستزادةِ منَ الثقافةِ الإسلاميّةِ، لتنمو هذهِ العقليّة، وتُصبحَ قادرةً على قياسِ كلِّ فكرٍ منَ الأفكارِ، وأمرَ بأشياءَ ونهى عن أشياءَ لتقوى هذهِ النفسيّة، وتصبح قادرةً على ردعِ كلِّ ميلٍ يخالفُ الإسلام؛ ومن هنا يأتي تفاوُتُ الشّخصيّاتِ الإسلاميّةِ، وتفاوتُ العقليّاتِ الإسلاميّةِ وتفاوُتُ النفسيّاتِ الإسلاميةِ. لذلكَ يُخطئُ كثيرًا أُولئك الذينَ يتصوّرونَ الشخصيّةَ الإسلاميّةَ بأنها مَلَكٌ سماويّ، فهم يبحثونَ عنِ المَلَكِ بينَ البشرِ، فلا يجدونهُ مُطلقًا، بل لا يجدونَهُ في أنفسهم، فييأسونَ وينفضونَ أيديهم منَ المسلمينَ، وهؤلاءِ الخياليّونَ يبرهنونَ بتصوّرهم على أنّ الإسلامَ خياليّ، وأنّهُ مستحيلُ التّطبيقِ مع أنّ الإسلامَ جاءَ ليُطبّقَ عمليًّا، وهو واقعيّ أي يُعالجُ واقعًا لا يصعبُ تطبيقهُ وفي متناولِ كلّ إنسانٍ مهما بلغَ تفكيرُه من الضعفِ ومهما بلغت غرائزه وحاجاته العضويّة من القوّةِ، فإنّه يمكن لهُ أنْ يطبّقَ الإسلامَ على نفسهِ بسهولةٍ ويسر؛ المسلمُ عندما يُطبّقُ الإسلامَ على نفسهِ يصبحُ، شخصيّةً إسلاميّةً، ويُصبحُ مؤهّلًا للجنديةِ والقيادةِ في آن،ٍ جامعًا بينَ الرّحمةِ والشدّةِ والزهدِ والنعيمِ، يفهمُ الحياةَ فَهمًا صحيحًا، فيستولي على الحياة الدنيا بحقّها، وينال الآخرةَ بالسعيِ لها.
لذا لا تغلبُ عليهِ صفةٌ منْ صفاتِ عُبّادِ الدّنيا، ولا يأخذُهُ الهوس الدينيّ، ولا التقشّفُ الهنديّ، وفي الوقتِ الذي يكون سريًّا يكون متواضعًا، ويجمع بينَ الإمارةِ والفقْهِ، وبينَ التجارةِ والسياسةِ، وأسمى صفةٍ من صفاته أنّه عبدٌ لله تعالى خالقهِ وبارئهِ.

السِّيَادَةُ لِلأمّةِ والأمّةُ مَصْدَرُ السُّلُطاتِ
إن نظريتَي: السيادةُ للأمةِ والأمّةُ مصدرُ السلطاتِ هما نظريتانِ غربيّتانِ من نظريّاتِ النظامِ الديمقراطي، وقد ظهرتا في أوروبّا بعد الصراعِ الدامي الذي اجتاحها في القرونِ الوسطى واستمر عدةَ قرون. ذلك أن أوروبا كان يحكمُها ملوك، وكانت تتحكّمُ في أوروبا نظريّةُ الحقِّ الإلهي، وهي أن للملكِ حقًّا إلهيًّا على الشّعب، فالملِك بيده التشريعُ والسلطانُ والقضاء. والشعبُ هو رعيّةُ الملكِ فلا حقَّ له لا في التشريعِ ولا في السلطةِ ولا في القضاء. والناسُ بنظرِ الملكِ عبيدٌ لا رأيَ لهم ولا إرداةَ بل عليهم التنفيذُ والطّاعة. وقد استبدَّ هؤلاء الملوكُ بالشعوبِ أيّما استبداد، فضجَّ الناسُ في كل مكانٍ وقامتِ الثوراتُ، لكن الملوكَ كانوا يخمدونها بالقوة. إلَّا إنَّ هذه القوة كانت تقضي على الثوراتِ قضاءً مؤقتًا، لأن الثوراتِ كانت من الشّعب كلِّه ولا سيّما العلماء والمفكرين، وصارت الثوراتُ ثوراتٍ فكريةً ينجم عنها ثوراتٌ دموَّية، وفي هذه الأثناء برزت نظريّاتٌ متعددة للقضاءِ على الحقِّ الإلهي الذي يدعيه الملوكُ، وكان من أهمّها النظريتان موضوع هذا البحث: «السيادةُ للأمّةِ والأمةُ مصدرُ السلطات». لأنهم رأوْا أنّه لا بد من إلغاء الحقِّ الإلهي إلغاءً تامًّا وجعلِ التّشريعِ والسّلطةِ للأمّة، فصار البحثُ في أن الشعبَ سيدٌ وليس عبدًا وأنّه هو الذي يختارُ الحاكمَ الذي يريدُ، فنشأت نظريّتا: السيادةُ للأمةِ والأمّةُ مصدرُ السلطات، ووجدَ النظامُ الجمهوريُّ تحقيقًا لذلك.
أما نظريّةُ السيادةِ فقد قالوا: إنَّ الفردَ يملكُ الإرادةَ ويملكُ التنفيذَ، فإذا سُلبتْ إرادتهُ وصارَ تسييرُها بيدِ غيرهِ كان عبدًا، وإذا سيّرَ إرادتَهُ بنفسهِ كان سيّدًا. والشعبُ يجب أن يسيّرَ إرادتهُ بنفسهِ لأنه ليس عبدًا للملكِ بل هو حرٌّ، وما دام الشعبُ هو السيّد، ولا سيادةَ لأحدٍ عليه، فهو الذي يملكُ التّشريعَ وهو الذي يملكُ التّنفيذ.
فالعبوديّةُ تعني أن يُسيّر بإرادةِ غيره، ولتحريرِ الشعبِ من العبوديّةِ لا بد من أن يكونَ له وحدَه حقُّ تسيير إرادتهِ: له الحقُّ أن يسنَّ القانونَ الذي يريد، وأن يُلغي أو يُبطلَ الشّرعَ الذي يريد. وقد شبت نيرانُ ثوراتِ التّحريرِ ونجحت، وأُزيلَ الملوكُ وزالَ معهم الحقُّ الإلهيُّ الذي كانوا يدعونَهُ، ووُضِعَت نظريّةُ «السيّادةُ للأمّةِ» موضعَ التّطبيق، وصارَ الشّعبُ هو الذي يشرع، ثم وُجدتِ المجالسُ النيابيةُ لتنوبَ عن الأمةِ بمباشرةِ السيّادةِ. لذلك تسمعُهم يقولون مجلسُ النوابِ سيدُ نفسهِ أي ليس عبدًا، لأنهُ يمثّلُ الشعبَ، والسيادةُ للشّعبِ.
والسيّادةُ تعني تسييرَ الإرادةِ وتنفيذَها. إلَّا إنَّ الشعبَ إذا استطاعَ أن يباشرَ السيادةَ بإيجادِ وكلاء عنه لمباشرةِ التشريع، فإنّه لا يستطيعُ أن يباشرَ السلطةَ بنفسهِ، لذلكَ لا بدَّ من أن يُنيبَ عنه من يباشرُ السّلطةَ، فأوكلَ أمرُ التنفيذ لغيرِ الشعب، على أن يقومَ الشعبُ بإنابتهِ عنه، فوُجدت من ذلكَ نظريّةُ: الأمةُ مصدرُ السلطات. أي إنها هي التي تُنيب عنها من يتولى السلطةَ فيها، أي من يتولّى التنفيذَ. والفرقُ بين السيّادةِ والسلطةِ، هو أنَّ السيادةَ تشمَلُ الإرادةَ والتنفيذَ، أي تشملَ تسييرَ الإرادة وتشمَلُ القيامَ بالتنفيذ، بخلافِ السلطةِ فإنها خاصةٌ بالتنفيذِ ولا تشمَلُ الإرادة. لذلكَ كانَ التشريعُ للأمّةِ بوساطةِ نوابٍ عنها، ومن هنا لا يقالُ إن الأمةَ مصدرُ التشريع. بل يُقالُ إن التشريعَ للأمّةِ لأنها هي التي تباشرُهُ بنفسِها. أمّا السّلطةُ فإنَّ الأمّةَ لا تستطيعُ مباشرتَها بنفسِها لتعذُّرِ ذلك عمليًّا فكان لا بد من أن تعطي التنفيذ لغيرها ليباشرَهُ نيابةً عنها، ومن هنا لم تكنِ السّلطةُ للأمّةِ بل السلطةُ يباشرُها الحاكم والقاضي بتفويضٍ منها وإنابةٍ عنها فكانت هي المصدرَ للسلطة.
وهذا الواقعُ للأمّةِ في الغربِ من حيثُ كونُها سيدةَ نفسِها يخالفُ واقعَ الأمّةِ الإسلاميّةِ، فالأمّةُ الإسلاميّةُ مَأمُورَةٌ بتسييرِ جميعِ أعمالِها بأحكامِ الشّرع. فالمسلمُ عبدٌ لله، لا يسيِّرُ إرادتَهُ ولا ينفِّذُ ما يريدُ، بل تُسيَّرُ إرادتُهُ بأوامرِ الله ونواهيهِ، وهو المنفّذ. لذلك فالسيادةُ ليستْ للأمّةِ بل هي للشّرع، أما التنفيذُ، أي السلطانُ فهو وحده للأمّةِ، ولما كانت الأمّةُ لا تستطيعُ مباشرةَ السّلطانِ بنفسها كانَ لا بدَّ لها من أن تُنيبَ عنها من يُباشرُهُ. وجاءَ الشّرعُ وعيّنَ كيفيّةَ مباشرتِها له بنظامِ الخلافةِ، ومن هنا كانتِ السيّادةُ للشّرعِ والسلطانُ للأمّةِ.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢