نبذة عن حياة الكاتب
لمن الحكم
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ١١١
تاريخ النشر : ١٩٨٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَدِّمة
وَاقِعُ العَقْل
الإدرَاكُ الشعُوريّ أو التميِيزُ الغَريْزِيّ
الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
أقسَامُ الفِكْرِ
حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
خُلاصة
التفكيرُ البَطيءُ وَالتفكيرُ السَّريعُ أو الإدراكُ البَطيءُ وَالإِدراكُ السَّريعُ
فِطْرَةُ الإنْسَان
الطَاقةُ الحيويَّةُ غَريزَةُ البَقَاء
غَرِيزَةُ النَّوْعِ مِنْ مَظاهِرِهَا الشُعورُ الجِنْسِيّ
التَدَيُّن
الخوفُ: مظهَرٌ مِنْ مظاهِرِ غَريزَةِ حُبِّ البَقاء
العِبَادَةُ
حاجَةُ الإنسَانِ إلى الرُّسُل
لِـمَنِ الحُكْمُ؟
الشَرعُ أو الشَرِيعَة
القُرآنُ عَرَبيٌّ
الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
المُجْتَمَع
تَكْوينُ المُجْتَمع وتنظيمُه عِنْدَ الشيُوعِيين
كيفَ يَنْهَضُ المُجْتَمَع
الأهْدافُ العُلْيَا لِصِيَانةِ المُجْتَمَعِ الإسْلاميّ
القانونُ الرُّوماني
الاقتِصاد
الإجَارة
النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
تنظِيمُ العَلاقات
مقاصِدُ كُلِّ حُكْمٍ بعَيْنِه
الخاتِمَـة

الاقتِصاد
كلمةُ الاقتصادِ مُشتَقّةٌ من لفظٍ إغريقيٍّ قديمٍ؛ معناهُ «تدبيرُ أُمورِ البيتِ» بحيثُ يشتركُ أفراده القادرونَ في إنتاجِ الطيّباتِ، والقيامِ بالخدماتِ، ويشتركُ جميعُ أفراده في التمتّعِ بما يحوزونهُ. ثمّ توسّعَ الناسُ في مدلولِ البيتِ، حتى أُطلِقَ على الجماعةِ التي تحكمُهَا دولةٌ واحدةٌ، وعليهِ فلمْ يَعُدِ المقصودُ من كلمةِ «اقتصاد» المعنى اللغويّ، وهو التوفيرُ، ولا معنى المالِ، بل المقصودُ المعنى الاصطلاحيّ لمسمّى معيّنٍ، وهو تدبيرُ شؤونِ المالِ، إمّا بتكثيرهِ وتأمينِ إيجاده، ويبحثُ فيهِ علْمُ الاقتصادِ، وإمّا بكيفيّةِ توزيعهِ، ويبحثُ فيهِ النظامُ الاقتصاديّ.
وإذا كانَ علْمُ الاقتصادِ، والنظامُ الاقتصاديّ يبحثانِ في الاقتصادِ، فإنهما شيئانِ مختلفانِ متغايرانِ، ومفهومُ أحدهما يختلِفُ عنْ مفهومِ الآخر. فالنظامُ الاقتصاديّ لا يتأثّرُ بكثرةِ الثروةِ ولا بقلّتِها، بلْ لا يتأثّرُ بها مُطلقًا.
وكثرةُ الثروةِ وقلّتها لا يؤثّرُ فيها شكْلُ النظام الاقتصاديّ بوجهٍ منَ الوجوهِ. وعليهِ كانَ منَ الخطأ الفادحِ جَعْلُ الاقتصادِ موضوعًا واحدًا يبحثُ كونه شيئًا واحدًا. لأنّ تدبير أمورِ الجماعةِ منْ حيثُ توفيرُ المالِ، أي إيجادُهُ، شيءٌ، وتدبيرُ أمورِ الجماعةِ منْ حيثُ توزيعُ المالِ المدبّرِ شيءٌ آخرُ. لذلكَ يجبُ أنْ يُفْصلَ بحثُ تدبيرِ المالِ عن بحثِ تدبيرِ توزيعهِ؛ إذ الأوّلُ يتعلّقُ بالوسائلِ، والثاني يَتَعَلّقُ بالفكرِ، وإذا لمْ يُفْصَلْ يؤدّي إمّا إلى الخطأ في إدراكِ المشاكلِ الاقتصاديّةِ المراد مُعَالَجَتُها، وإمّا إلى سوءِ فَهْمِ العوامل التي توفّرُ الثروةَ أي تُوجِدها في البلادِ.
ولهذا يجبُ بحثُ النظام الاقتصاديِّ كونه فكرًا يؤثّرُ في وُجْهَةِ النظرِ في الحياةِ ويتأثّرُ بها.
ويبحثُ علمُ الاقتصادِ كونه عِلمًا، ولا علاقَةَ لهُ بِوُجْهَةِ النّظَرِ في الحياةِ؛ والبحثُ الأهَمّ منهما هو النظامُ الاقتصاديّ لأنّ المشكلةَ الاقتصاديّةَ تدورُ حول حاجاتِ الإنسانِ، ووسائل إشباعها والانتفاعِ بهذهِ الوسائل، وبما أنّ الوسائلَ موجودةٌ في الكوْنِ فإنّ إنتاجَها لا يسببُ مشكلةً أساسيّةً في إشباعِ الحاجاتِ، بلْ إنّ إشباعَها يدفَعُ الإنسانَ لإنتاجِ هذهِ الوسائلِ، أو إيجادِها، بل المشكلةُ الموجودةُ في علاقاتِ النّاسِ، ناشئةٌ عنْ تمكينِ النّاسِ من الانتفاع بهذهِ الوسائلِ، أو عدمِ تمكينِهِم. أي في موضوع حيازةِ الناس لهذه الوسائل. فيكون ذلك أساسَ المشكلة الاقتصاديّةِ وهو الذي يحتاجُ إلى علاجٍ. وبناءً عليهِ، فالمشكلةُ الاقتصاديةُ آتيةٌ من موضوعِ حيازَةِ المَنْفَعَةِ لا منْ إنتاجِ الوسائلِ التي تعطي هذهِ المنفَعَةَ.

أساسُ النظامِ الاقتِصادي
المنفعةُ صلاحيّةُ الشيءِ لإشباعِ حاجةِ الإنسانِ وتتكونُ منْ أمرين:
1 ـــ أحدهما: مَبْلَغُ ما يشعرُ بهِ الإنسانُ منَ الرّغْبة في الحصولِ على شيءٍ معيّنٍ.
2 ـــ الثاني: المزايا الكامنةُ في نَفسِ الشيءِ، وصلاحِيّتُها لإشباعِ حاجةِ الإنسانِ، لا حاجةِ فَرْدٍ معيّنٍ. وهذهِ المنفعَةُ يمكنُ أنْ تكونَ ناجمةً عنْ جُهْدِ الإنسانِ أو عنِ المالِ أو عَنْهُما معًا. وبما أنّ المالَ هو الذي يُشبِعُ حاجاتِ الإنسانِ، وأنّ الجهدَ الإنسانيّ وسيلةٌ للحصولِ على المالِ عَيْنًا ومنفَعَةً، لذلك كانَ المالُ أساسَ المنفعةِ، وأمّا جُهْدُ الإنسانِ فهوَ من الوسائلِ التي تمكّنُ منَ الحصولِ عليهِ.
ومنْ هنا كانَ الإنسانُ، بفطرتهِ، يسعى للحصولِ على المالِ ليحوزَهُ، وعليهِ يكونُ جُهْدُ الإنسانِ والمالُ الوسيلتينِ اللّتينِ تُسْتَخْدَمانِ لإشباعِ حاجاتِ الإنسانِ. والثروةُ التي يسعى للحصولِ عليها، وحيازةُ الأفرادِ للثروةِ تتأتى إمّا منْ أفرادٍ آخرينَ وإمّا منْ غير الأفرادِ. وتكونُ إمّا حيازةً للعينِ استِهلاكًا وانتِفاعًا، وإمّا حيازَةً لمنفعةِ العينِ، وإمّا حيازةً للمنفعةِ الناجمةِ عن جُهْدِ الإنسانِ. وهذهِ الحيازَةُ بجميعِ ما تصدُقُ عليهِ إمّا أنْ تكونَ بعوضٍ كالبيعِ وإجارَةِ المالِ وإجارَةِ الأجيرِ. وإمّا بغيرِ عَوَض كالهِبَةِ والإرثِ والعاريةِ.
وعلى ذلكَ فالمشكلةُ الاقتصاديةُ لا تتعدّى حيازةَ الثروةِ وليستْ في إيجادِ الثروةِ، وهيَ تأتي منَ النّظرةِ إلى الحيازةِ أي الملكيّةِ؛ ومن سوءِ التصرّفِ في هذه الملكيّةِ. أي منْ سوءِ توزيع الثروةِ بينَ النّاس، ولا تأتي من غيرِ ذلكَ مطلقًا. ولهذا كانتْ معالجةُ هذه الناحيةِ أساسَ النظامِ الاقتصاديّ.
وعلى ذلكَ فالأساسُ الذي يقومُ عليهِ النظامُ الاقتصاديّ مبنيّ على ثلاثِ قواعدَ هيَ:
1 ـــ الملكيّة، أو الكيفية التي يجبُ على الإنسانِ أن يحوزَ بها المنفعة الناجمة عن الخدماتِ أو السلع.
2 ـــ التصرّفُ في الملكيّة. أو الكيفية التي يجب أن يتصرف بها الإنسان بهذه الخدمات والسلع.
3 ـــ توزيعُ الثروةِ بينَ الناسِ. أو توزيع الخدمات والسلع على الناس.

نظرةُ الإسلامِ إلى الاقتِصاد
تختلفُ نظرةُ الإسلامِ إلى مادّةِ الثروةِ عنْ نظرتهِ إلى الانتفاعِ بها، وعندَهُ أنّ الوسائلَ التي تُعطي المنفعَةَ شيءٌ، وأنّ حيازَةَ المنفعةِ شيءٌ آخرُ. فمالُ وجُهْدُ الإنسانِ هما مادّةُ الثروةِ وهما الوسيلتانِ اللّتانِ تخلقان المنْفَعَةَ. ووضعهُما في نَظَرِ الإسلامِ منْ حيثُ وجودُهما في الحياةِ الدنيا، ومن حيثُ إنتاجُهُما يختلفُ عن وضعِ الانتفاعِ بهما، وعن كيفية حيازَةِ هذهِ المنفعةِ. فالإسلامُ حرّمَ الانتفاعَ ببعضِ الأموالِ كالخمرِ والميْتَةِ، كما حرّمَ الانتفاعَ ببعضِ جهودِ الإنسانِ كالرّقصِ والبغاءِ. وحرّمَ بَيْعَ ما حُرّمَ أكْلُهُ منَ الأموالِ، وحَرّمَ إجارَةَ ما حُرّمَ القيامُ بهِ منَ الأعمالِ.
هذا منْ حيثُ الانتفاعُ بالمالِ والجهْدِ. وأمّا من حيثُ كيفيّةُ حيازةِ الثروةِ، فقد شرّعَ أحكامًا متعدّدةً لحيازتها، كأحكامِ الصّيْدِ، وإحياءِ الموات، وأحكامِ الإجارَةِ والإرثِ والهبَةِ والوصيّةِ. هذا بالنسبةِ إلى الانتفاعِ بالثروةِ وكيفيّةِ حيازتها، أمّا بالنسبةِ إلى مادّةِ الثروةِ منْ حيثُ وجودُها، ومن حيثُ إنتاجُها فإنّ الإسلامَ لمْ يتدخل فيها مُطلقًا؛ فالمالُ موجودٌ في الحياةِ الدنيا وُجودًا طبيعيًّا، وخَلَقَهُ اللهُ سبحَانَهُ وتعالى مُسخّرًا للإنسانِ، قالَ تعالى: [هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] وقال: [وَسَخّرَ لَكُمْ مَا فِي السَمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] وقالَ: [وأَنْزلنَا الحديدَ فيهِ بأسٌ شديدٌ ومَنَافعُ للنّاسِ]، فبيّنَ في هذهِ الآياتِ وأشباهها أنّهُ خَلَقَ المالَ وخَلَقَ جُهْدَ الإنسان، ولم يَتَعَرّضْ لشيءٍ آخرَ يتعلّقُ بهما، ممّا يدلّ على أنّهُ لم يتدخّلْ في مادّةِ المالِ وجهدِ الإنسانِ، لكنّهُ بيّنَ أنّهُ خَلَقَهما لينتفع بهما الناسُ.
وكذلكَ لم يتدخّل في إنتاجِ الثروةِ، ولا يوجدُ نص شرعيّ يدلُّ على أنَّ الإسلامَ تدخّلَ في إنتاجِ الثروةِ، بل على العكسِ من ذلكَ فإنَّ النصوصَ الشرعيّةَ تدلّ على أنّ الشرعَ تركَ الأمرَ للنّاسِ في استخراجِ المالِ، وفي تحسينِ جُهْدِ الإنسانِ؛ فقد رُويَ أنّ الرسولَ، صلى الله عليه وآله وسلم، قالَ في موضوعِ تأبيرِ النّخلِ: «أنتم أدرى بأمورِ دُنياكم» ورُوي أنّهُ أرسَلَ اثنينِ منَ المسلمينَ إلى اليمنِ يتعلّمانِ صناعةَ الأسلحةِ، وهذا يدلّ على أنّ الشرعَ تركَ أمرَ إنتاجِ المالِ إلى النّاسِ يُنتجونهُ بحسَبِ خبرتهم ومعرفتهم.
وعلى هذا فالذي يتبيّنُ من ذلكَ أنّ الإسلامَ ينظرُ في النظامِ الاقتصاديّ لا في علْمِ الاقتصادِ، ويجعلُ الانتفاعَ بالثروَةِ قائمًا، وكيفيّةَ حيازةِ هذهِ المنفعَةِ موضوعَ بحثهِ، ولم يتعرّضْ لإنتاجِ الثروةِ ولا إلى وسائلِ المنفعَةِ مُطْلَقًا.

النِظامُ الاقتِصاديّ في الإسْلام
يقومُ نظامُ الاقتصاد في الإسلامِ على الأمورِ التاليةِ:
1 ـــ ملكيّةُ الأشياءِ للنّاسِ، وهذا هوَ الأصلُ، لأنهم مستخلفون فيها عنِ الله، ولا تكونُ للأفرادِ إلّا بإذْنِ الشّارعِ.
2 ـــ وتتحقّقُ الملكيّةُ العامّةُ في كل ما كانَ من مرافقِ الجماعةِ، أوْ منَ الضروريّاتِ للحياةِ العامّةِ.
3 ـــ الملكيّةُ الفرديّةُ حكمٌ شرعيٌّ مُقَدّرٌ بالعينِ أو المَنْفَعَةِ، تُقَيِّض تمكينَ مَنْ يضافُ إليهِ منَ انتفاعهِ بالشيء، وأخْذ العوضِ عَنْهُ.
4 ـــ لا يجوزُ للدولَةِ أنْ تأذَنَ للأفرادِ بملكيّةِ ما يدخلُ في الملكيّةِ العامّةِ كالمناجمِ ومنابعِ البترول والمراعي وساحاتِ البلدَةِ وشواطئِ البحارِ ومضائق الأنهارِ وما شابهَ ذلكَ.
5 ـــ يُمْنَعُ كَنْزُ المالِ ولو أُخْرِجَت زكاتهُ، والدولة يجبُ أن تعملَ على تداوُلِهِ بين النّاسِ وتحولَ دونَ تداوُلهِ بينَ يدي فئةٍ خاصّةٍ.
6 ـــ الملكيّةُ الفرديّةُ في الأموالِ المنقولةِ وغيرِ المنقولَة مُقَيّدَةٌ بالأسبابِ الشرعيّةِ الخمسةِ وهيَ:
أ ـــ العَمَلُ.
ب ـــ الحاجةُ إلى المالِ في سبيلِ الحياةِ.
ج ـــ إعطاءُ الدولةِ أموالها للأفرادِ لسد الحاجةِ، أوِ الانتفاعِ بالملكيّةِ.
د ـــ الإرثُ.
هـــ ـــ صلَةُ الأفرادِ بعضهم ببعض.
7 ـــ حقُّ التصرّفِ الإنفاقيّ بهذهِ الملكيّةِ الفرديّةِ مُقَيّدٌ بحدودِ الشرعِ، فيُمْنَعُ السرفُ والتقتيرُ.
وتنميةُ الثروةِ مُقيّدَةٌ أيضًا بالحدودِ الشرعيّةِ؛ فيُمنَعُ الاحتكارُ والغبْنُ والغِشُّ والرّبا والقمارُ وغيرُهُ.
8 ـــ يمنَعُ فَتْحُ المصارفِ ما عدا مصرِفَ الدولةِ، ولا يصحّ أن يتّخِذَ الرّبا، ويكونَ دائرةً من دوائرِ بيتِ المالِ بلْ يقومُ بإقراضِ الأموالِ بحسب الحاجةِ، وتسهيلِ المعاملاتِ الماليّةِ.
9 ـــ الاكتشافاتُ والاختراعاتُ إذا كانت من مرافقِ الجماعةِ تصبحُ مُلكًا عامًّا.
10 ـــ تضمَنُ الدولةُ إيجادَ الأعمالِ لكل مَنْ يحملُ التابعيّةَ، وجميعُ الموظفينَ سواءٌ كانوا عندَ الأفرادِ أوِ الشركاتِ أوِ الدولةِ، لهم جميعُ الحقوقِ والواجباتِ، وكلّ مَنْ يعملُ بأجرٍ موظّفٌ مهما اختلَفَ نوعُ عَمَلِهِ وتحدّدُ الدولةُ الأجرةَ للجميع.
11 ـــ تَضْمَنُ الدولَةُ نَفَقَةَ مَنْ لا مَالَ لهُ ولا عَمَلَ، إذا لمْ يكنْ وراءَهُ مَنْ تَجِبُ عليهِ نَفَقَتُهُ، وتتولى إيواءَ العَجَزَةِ وذوي العاهاتِ، وتُوَفِّرُ لكل فردٍ الحاجاتِ الضروريةَ للعيشِ من مأكلٍ ومَلْبَسٍ ومسكنٍ. وعليها أن توفّرَ جميعَ الخدماتِ الصحيّةِ مجانًا للفقيرِ والغنيّ على السواء.
12 ـــ تعالجُ الدولةُ رفْعَ مستوى العيشِ، وبقاءَ التوازنِ في المجتمعِ على الوجْهِ التالي:
أ ـــ أنْ تعطي المالَ منقولًا وغيرَ منقولٍ ممّا تملكه.
ب ـــ إنْ لمْ يَفِ بذلكَ ملكَتْ من أموالِ النّاس ما يَلزَمُ لإبقاءِ هذينِ الغَرَضينِ.
ج ـــ إذا مَلَكَتْ منْ أموالِ النّاسِ أرضًا عشريّةً تدفع ثمنها لصاحبِها، وإنْ ملكَتْ أرْضًا خراجيّةً لا تدفَعُ ثمنها. بل تدفَعُ ثمنَ ما أُنْشئَ عليها.
13 ـــ يُمْنَعُ استغلالُ واستثمارُ الأموالِ الأجنبيةِ في البلاد كما يُمْنَعُ منحُ الامتيازاتِ لأيّ أجنبيّ.
سِيَاسَةُ الاقتِصَاد
سياسةُ الاقتصادِ هدفٌ ترمي إليهِ الأحكامُ التي تعالجُ تدبيرَ شؤونِ الإنسانِ.
وسياسةُ الاقتصادِ في الإسلامِ مبنيّةٌ على أساسِ تحقيقِ أكبرِ عددٍ ممكنٍ من الرفاهيّةِ للإنسانِ كونه إنسانًا، وكونه يعيشُ في مجتَمَعٍ، لا لكونهِ فردًا، ولا لكونهِ مُنعزلًا، أو فَرْدًا في مجتمع يَرتَبِطُ أفرادُهُ بأيّ علاقةٍ.
فالنظرةُ الاقتصاديّةُ في الإسلامِ تتلخّصُ في أنّ الاقتصادَ للإنسانِ لا للفردِ، وأنّهُ للمجتمعِ لا للجماعةِ المكوّنةِ من أفرادٍ من دونِ ملاحَظَةِ العلاقاتِ.
لذلكَ نجدُ أنّ نظرتَهُ هذهِ حتّمَتْ تحريمَ إنتاجِ الخمرِ واستهلاكهِ، ولا تُعدُّهُ بالنّسبةِ إلى المسلمِ مادّةً اقتصاديّةً كما حتّمَتْ تحريمَ الرّبا، ولا تُعدُّهُ، بالنسبةِ إلى جميعِ مَنْ يحملونَ تابعيّةَ الدولةِ، مادّةً اقتصاديّةً سواء كانوا مسلمينَ أو غير مسلمينَ.
فالإسلامُ لا يفصلُ اعتبارَ ما يجبُ أنْ يكونَ عليه المجتمعُ عن تحقيق الرفاهيّة للإنسان، بل يجعلهُما أمرين متلازمين. لأنّهُ يهدفُ إلى إيجاد الطمأنينة عندَ الإنسان لا إلى مجرّد إشباع حاجَتِهِ، ويجعلُ نَيْلَ السعادة المثلَ الأعلى الذي يسعى المسلمُ لتحقيقهِ منَ الاقتصاد. قالَ تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] لذلكَ جَعَلَ فَلسَفَةَ الاقتصادِ مربوطةً بأوامرِ الله ونواهيه بناءً على إدراك الصلة بالله، أي ربْط الفكرة التي يُبْنَى عليها تدبيرُ أُمور المسلم والمجتمع بالحياة وذلكَ بجعل الأعمال الاقتصادية موافقةً للأحكامِ الشرعيّة كونها دينًا وربط تدبيرِ أُمور الرعيّة بمن يحملونَ التابعيّة، وتقييد أعمالِهم الاقتصاديّةِ بالأحكامِ الشرعيّة كونها تشريعًا، فأباحَ لهم ما أباحَهُ الإسلامُ، وقيّدَهُم بما قيّدَهُمْ به. قالَ تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] وقال: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]، وقد قيّدَ الذينَ يحملونَ التابعيّةَ بهذه الأحكام بالتوجيه الذي يجعَلُ المسلمَ يُنفّذُ هذه السياسة بدافع تقوى الله، والتشريع الذي تُنَفِّذهُ الدولةُ، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ].
وقالَ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا]. وقالَ: [وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا] وفي ذلكَ بيانُ الكيفيّة التي تُنَفّذُ بها هذه الأحكامُ، وما يضمَنُ تقيّدهم بها. وقد شملتْ هذه الضمانَةُ الأحكامَ التي تتعلّقُ بالفرد والمجموع. فحرّمَ الاعتداءَ على الملكيّة العامّة كما حرّمَ الاعتداءَ على الملكيّة الفرديّة وجَعَلَ تنفيذَ حق الله كتنفيذ حقّ الإنسان.
وجَعَلَ تنفيذَ الزكاة كتنفيذ النّفَقَة، وحينَ شرّعَ الأحكامَ راعى مصلَحَةَ الفرد والجماعَة. وحينَ شرّعَ للجماعةَ بما بينها من علاقاتٍ راعى مصلحةَ الفرد، وحينَ شرّعَ للفرد ما بينه وبينَ غيره من علاقاتٍ راعى مصلحةَ الجماعة، لذلكَ نجدهُ حينَ جعلَ للدولة حقّ أخْذ المال منَ المسلمينَ، لإدارَة شؤون الرعيّة قيّد الدولةَ بألّا تأخذَ إلَّا فضولَ الأغنياء، أي ما يزيدُ على حاجاتِهِم الضروريّة، وهيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ والزواجُ، وما يركبونَهُ لقضاء حاجاتهم البعيدة، فهذا التشريع الذي يحفظُ الجماعة رُوعيَت فيه مصلحةُ الفرد. ونجدُ الشّرعَ أيضًا يتيحُ للفرد أن يبنيَ بيتًا أو يزرعَ بستانًا، ومن ناحيةٍ أُخرى فَرَضَ عليه حقَّ الطريق ومنعه من البناء أو الزرع على أي وجه يعتدي به على حق الطريق أو على ملكيّة عامّةٍ. وحينَ أباحَ للفرد بَيْعَ ما يملكُ خارجَ الدولة الإسلاميّة في تجارةٍ مَنَعَهُ من بيع السلاح وكلّ ما يتقوّى به العدو على الدولة؛ فهذا التشريعُ للفرد رُوعيَت فيه مصلحة الجماعة.
وهكذا نجدُ الإسلامَ معَ كونه يُشرّعُ للإنسان، ويشرّعُ للمجتمع يَنظُرُ إلى ما يجبُ أن يكونَ عليه المجتمعُ.إنّهُ يشرّعُ في الاقتصاد لمجتمعٍ معيّنٍ لهُ صفةٌ معيّنةٌ.
ولا يكتفي بذلكَ، بل يحثّ على الكسب وطلَب الرزق والسّعي لتحقيق أكبرِ درجةٍ ممكنةٍ من الرفاهيّةِ للفردِ وللمجموعِ.
لذلكَ كانَ السعيُ لكسبِ الرّزقِ فَرضًا على كل رجلٍ، قال تعالى: [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ] وقالَ عليهِ وعلى آلهِ الصلاةُ والسلامُ: «طَلَبُ الحلالِ كمُقارَعَةِ الأبطالِ، ومَنْ ماتَ في طَلَبِ الحلالِ ماتَ مَغفورًا لهُ» وقالَ: «إنّ أطْيَبَ ما أكَلْتُمْ منْ كَسْبِ أيديكمْ، وإنّ أخي داودَ كانَ يأكلُ منْ كَسْبِ يدِهِ» وقالَ: «إنّ منَ الذنوبِ ذنوبًا لا يُكَفّرُها الصّومُ ولا الصّلاةُ». قيلَ: فما يُكَفّرُها يا رسولَ الله؟ قال: «الهُمومُ في طَلَبِ المعيشةِ». وفي حديثٍ قُدْسيٍّ عنْ ربّهِ عزّ وجلّ قالَ تعالى: «عَبْدي حَرّكْ يَدَكَ أُنْزِلْ عَلَيكَ الرزْقَ».
فالآياتُ والأحاديثُ تحثّ على السّعي لطلبِ الرّزقِ وعلى العملِ لكسبِ المالِ كما تحثّ على التمتّعِ بهذا المالِ وأكل الطيّباتِ. قالَ تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ]، وقالَ تعالى: [كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] وقالَ: [فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً] وقالَ تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ]. فهذه الآياتُ وما شابهها تدلّ دلالةً واضحةً على أنّ الأحكامَ الشرعيّةَ المتعلّقةَ بالاقتصادِ تهدفُ إلى رفع مُستوى المعيشةِ والتمتّعِ بالطيّباتِ. وقد راعى الإسلامُ في الحصولِ على المالِ عدمَ تعقيدِ الكيفيّةِ التي يحوزُهُ الإنسانُ بها؛ فجعلها بسيطةً كلّ البساطةِ إذ حدّدَ أسبابَ التملّكِ، وحدّدَ العقودَ التي يجري بها تبادُلُ المِلكيّةِ.
ولا يعني تحديدُهُ لأسبابِ التملّكِ وللعقودِ تجميدَ الوضعِ الاقتصاديّ، بل يعني مساعدةَ الناسِ على الرّبحِ والتقدمِ الاقتصادي والحيلولةِ دونَ وقوعِ الهزّاتِ الاقتصاديّةِ العامّةِ، لأنّ الإسلامَ جَعَلَ الأسبابَ والعقود خطوطًا عريضةً تدخلُ فيها جزئيّاتٌ متعدّدةٌ، كأنواعِ العملِ وأنواعِ البيعِ، وتدخلُ فيها كليّاتٌ متعدّدةٌ في قياسها عليها كقياسِ العطيّةِ على الهِبَةِ في أنها تكونُ سببًا للمُلكِ، وكقياسِ الوكالةِ على الإجارَةِ في استحقاق أُجرةِ الوكيلِ.
ولا يجوزُ أن يخرجَ المرءُ على هذهِ الخطوطِ العريضةِ التي جاءَ بها الشرعُ، بل يجبُ أن يتقيّدَ بها تقيدًا تامًّا، وهكذا نجدُ أسبابَ التملّكِ والعقودِ قد بيّنها الشارعُ وحدّدها في معانٍ عامّةٍ، وهذا ما يجعلُها شاملةً لكلّ ما يتجدّدُ منَ الحوادثِ.
وبهذا تكونُ سياسةُ الاقتصادِ في الإسلامِ غيرَ مقتصرةٍ على الرفاهيّةِ وحدها، بل تشملُ الرفاهيّةَ والوضعيّةَ التي تكونُ عليها هذه الرفاهيّة، لتحقّقَ مجتمعًا يعيشُ فيهِ الإنسانُ مطمئنًا هادئَ البالِ، ويعيشُ فيهِ المسلمُ متمتّعًا بالسعادةِ وراحةِ الفكرِ.

تلخيصُ سِيَاسَةِ الاقتِصَادِ بأربعَةِ أمُور
أولًا ـــ إشباعُ جميعِ الحاجاتِ الأساسيّةِ لكلِّ فردٍ إشباعًا كليًّا وتمكينُهُ من إشباعِ الحاجاتِ الكماليّةِ بقدرِ ما يستطيعُ، لأنّهُ يعيشُ في مجتمعٍ مُعيّنٍ لهُ طِرازٌ خاصّ في العيشِ.
ثانيًا ـــ النظرُ إلى كلّ فردٍ بعينهِ لا إلى مجموعِ الأفرادِ الذين يعيشون في البلادِ.
ثالثًا ـــ النظرُ إلى الفردِ كونه إنسانًا قبل أيّ اعتبارٍ آخرَ، ولا بدّ من إشباعِ حاجاتهِ الأساسيّة كلّها إشباعًا كليًّا، ولكونهِ، بعد ذلك، شخصًا مُعَيّنًا بذاتهِ، بتمكينهِ من إشباعِ حاجاتهِ الكماليّةِ بقدرِ ما يستطيعُ.
رابعًا ـــ النظرُ إليه في الوقتِ نفسهِ، كونه مرتبطًا بغيرهِ ارتباطًا معيّنًا يسيِّرهُ تسييرًا معيّنًا وفقَ طرازٍ خاصٍّ، وبناء على ذلك يكونُ الأساسُ توزيعَ الثروةِ لا تنميَتَها. ولكن لما كان توزيعُ الثروةِ بغيرِ بيان كيفيّةِ حيازَتها من مصادِرِها، فإنّ تنميَةَ الثروةِ تأتي إتيانًا طبيعيًّا من هذه الكيفيّةِ للحيازةِ، فإنّ الكيفيّةَ التي تجري فيها حيازةُ الأرضِ تؤدي بالطّبعِ إلى استغلالها، والكيفيّة التي يجري بها امتلاكُ المصنعِ تؤدّي طبيعيًّا إلى استغلالهِ. ويمكنُ تحسينُ هذه الزيادةِ للدخلِ بالمعلوماتِ الاقتصاديةِ لا بالأحكامِ الاقتصاديةِ، وتُؤخذُ هذه المعلوماتُ من أي جهةٍ كانت من دون قيدٍ.

مَوْضُوعُ مُعالَجَةِ الاقتِصَادِ في البِلادِ الإسْلاميّة
هذه المعالجةُ تنقسمُ قسمينِ منفصلينِ بعضهما عن بعض تمامَ الانفصالِ، ولا علاقةَ لأحدهما بالآخر.
القسم الأول ـــ السياسةُ الاقتصاديةُ: ومعالجتُها في أمرين:
أ ـــ الخطوطُ العريضةُ لمصادرِ الاقتصادِ وهي أربعةٌ: «الزراعة ـــ الصناعة ـــ التجارة ـــ وجهد الإنسان».
ب ـــ الخطوطُ العريضةُ لضمانِ الحاجاتِ الأساسيّةِ.
القسم الثاني ـــ معالجةُ زيادَةِ الثروةِ يختلفُ باختلافِ أوضاعِ البلدانِ. ففي سورية يختلفُ الأمرُ ـــ مثلًا ـــ عن باكستان أو إيران، لذلكَ كانتْ معالجتها بحسب متطلبات الأوضاع الخاصة وهي تدخل في علم الاقتصاد، وسيقتصر بحثنا على القسم الذي يتعلق بمعالجة السياسة الاقتصادية المتعلقة بالمصادر الأربعة للاقتصاد، وبالحاجات الأساسية.

معَالجَةُ مَصَادِرِ الاقتِصادِ الأرْبَعة
الأرضُ ـــ الصِّنَاعَةُ ـــ التِجَارةُ ـــ الجَهْدُ
الرأسماليةُ تجعلُ زيادَةَ الثروةِ أساسَ النظامِ، وتتركُ للأفرادِ حريّةَ الملكيّةِ والعملِ. والاشتراكيّةُ، وبعدها الشيوعيّةُ، تقولُ بإلغاءِ الملكيّةِ إلغاءً كليًّا أو جزئيًّا وتجعلُ العملَ هو الأساسَ، وشعارها: «مَنْ لا يعملْ لا يأكلْ».
والإسلامُ يقولُ بإباحةِ الملكيّةِ والعملِ. قالَ تعالى: [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ]. وقال: [فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله] والأمرُ هنا للإباحةِ. قالَ رسولُ الله: «مَا أكَلَ ابنُ آدَمَ طعامًا قَطّ خَيْرًا مِنْ أنْ يأكُل مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» وهو خبرٌ مقرونٌ بالمدحِ، لكنّهُ منَ الأوامرِ غيرِ الصريحةِ، والمرادُ بهِ الإباحَةُ.
والإسلامُ جَعَلَ الملكيّةَ والعملَ في هذهِ المصادرِ مباحينِ للنّاسِ. وينبغي أنْ يُلاحَظَ أنّ الإباحَةَ إباحَةُ ملكيّةٍ وعملٍ وليستْ حريّةَ ملكيّةٍ وعملٍ، لأنّ الإباحةَ تقييدٌ لحكمٍ شرعي هوَ أمرُ الله بالتخييرِ بينَ الأخْذِ وعدمهِ بخلافِ الحريّةِ فهي عدمُ التقيّدِ بشيءٍ.

المَصْدَرُ الأوّل
الأرضُ
الأرضُ أساسُ الزراعةِ لا جُهْدُ الإنسانِ ولا الخبرةُ الفنيّةُ حتى ولا الآلةُ، فالذي يعيّنُ وجه الإنتاجِ هو كيفيّةُ الحيازةِ للأرضِ وكيفيّةُ العملِ بها لا جهدُ الإنسانِ ولا خبرتهُ الفنيّةُ ولا الآلةُ ولا علاقاتُ الإنتاجِ، لذلكَ يجبُ أن يكونَ البحثُ في الزراعةِ مُنصبًّا على الأرضِ، لأنّ الجهدَ مصدرٌ منفصلٌ عن الزراعةِ، والآلةُ كذلكَ مصدرٌ منفصلٌ عنِ الزراعةِ، ولها أحكامٌ خاصّةٌ. والخبرةُ الفنيّةُ وعلاقاتُ الإنتاجِ، لا علاقةَ لأيّ منهما بالزراعةِ أيضًا، وهو أمرٌ ظاهرٌ، لذلكَ سنحصرُ البحثَ في الزراعةِ بأحكامِ الأرضِ فقط.
وموضوعُ ملكيّةِ الأرضِ يختلفُ عن ملكيّةِ بقيةِ الموادِّ من عقارٍ وسلعٍ ونَقْدٍ ومواشٍ وغيرِ ذلكَ، والإنتاجُ فيها جزءٌ لا يتجزأُ من وجودها، كما أنه جزءٌ لا يتجزأُ من ملكيّتِها. والأرضُ تختلفُ عنِ المصنعِ الذي لا يعدو إنتاجُهُ جزءًا من وجودهِ، وعنِ البيتِ الذي يشتركُ معَ المصنعِ في الإنتاجِ بل هيَ تختلفُ عن كل سلعةٍ في الدنيا، إذ لا تنتجُ سلعةٌ في الدنيا من نفسِها، من دونِ أن يباشرَ الإنتاج فيها أحدٌ سوى الأرضِ، ومن هنا يجبُ أن تكونَ للأرضِ بالذاتِ، من دونِ باقي الأموالِ، أحكامٌ خاصّةٌ من حيثُ ملكيّتُها ومن حيثُ العملُ فيها.
ملكيّةُ الأرض: تتحقّقُ ملكيّةُ الأرضِ بالإقطاعِ والتحجيرِ والإحياءِ، كما تتحقّقُ بالشراءِ وبالإرثِ وبالهِبَةِ. يقولُ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ». والأرضُ الميتةُ هي الأرضُ الّتي لم يظهرْ أنّه جرى عليها ملكُ أحدٍ فلم يظهرْ فيها تأثيرُ شيءٍ من إحاطةٍ أو زرعٍ أو عمارةٍ أو نحوِ ذلك، ولا يُوجد أحدٌ يملكُها أو ينتفعُ بها وإحياؤها هو جعلُها صالحةً للانتفاعِ بها. وقالَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ عَمَرَ أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحقُّ بها» وقالَ: «أيما قوم أحيَوْا شيئًا من الأرض أو عَمَرُوهُ فهم أحقُّ به». وبالتّحجيرِ: وقالَ: «مَنْ أحَاطَ حائطًا على أرض فَهِيَ لهُ». والتحجيرُ هو أن يَجعلَ المَرْءُ على حدودِ الأرضِ ما يدل على تخصيصٍ لهُ. كأن يضعَ حولها حجارةً أو سياجًا أو جدارًا أو ما شاكل ذلكَ، والتحجيرُ كالإحياءِ سواءٌ لقولهِ، صلى الله عليه وآله وسلم: «أيما قوم أحيوا شيئًا منَ الأرضِ أو عمروهُ فهم أحقّ بهِ».
وأما أرضُ الإقطاعِ فهيَ الأراضي التي تُعطيها الدولةُ للأفرادِ مجّانًا من دون مقابلٍ، بعدما سبقَ إحياؤها، ولكن لا مالكَ لها فتكونُ الدولةُ هيَ المالكة، فهذه الأرضُ لا تملكُ بالأحياء أو التحجيرِ، لأنها ليستْ ميتةً بعدما أحْيِيَتْ بالزرعِ، فهيَ حيّةٌ ولكن لا مالكَ لها، فلا تملكُ إلّا بتمليكِ الدولةِ، وقد أقطعَ رسولُ الله لبعضِ أصحابهِ أرضًا.
فإعطاءُ الدولةِ لأحدِ الرعيّةِ أرضًا، هو الإقطاعُ؛ وهو جائزٌ بدليلِ فعلِ الرسولِ بهِ.
وإذا مُلِكَتِ الأرضُ بسببٍ منَ الأسبابِ المذكورةِ أُجبِرَ مالكُ الأرضِ على استغلالها ولا يُسْمَحُ لهُ بتعطيلها، فإذا أهملَ ذلكَ وعَطّلَ الأرضَ ثلاثَ سنوات نُزِعَتْ منهُ جبرًا وأُعطيتْ لغيرهِ. قالَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «عادي الأرضِ لله وَلِرَسُولِهِ ثمّ لَكُمْ مِنْ بَعْدُ فَمَنْ أحْيَا أرْضًا ميْتَةً فهيَ لهُ، وَلَيْسَ لِمُحْتَجِرٍ حَقّ بَعْدَ ثلاثِ سِنينَ».
ولا يُقالُ: إنّ الحديثَ أتى على ذكْرِ المحتجرِ لأنّ العبرَةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ. فيظلّ العامّ على عمومهِ فيكونُ قولهُ: «مَنْ عَطّلَ أرْضًا» شاملًا لكل أرضٍ مُلِكَتْ بالإقطاعِ أمْ بالشّراءِ أم غيرِ ذلك.

الصِّنَاعة
الصناعةُ أساسٌ مهمّ منْ أُسُسِ الحياةِ الاقتصاديّةِ لأيّ أُمّةٍ أوْ أي شعبٍ في أي مجتمعٍ. وقد بيّنَ الإسلام أحكامَ المصانعِ بأن الأصلَ فيها أنّها ملكيّةٌ فرديّةٌ، فلكل فردٍ منْ أفرادِ الرعيّةِ أن يملك المصانعَ، فالمصنعُ من حيثُ هو داخلٌ في الملكيّةِ الفرديّةِ، وليسَ بداخلٍ في الملكيّة العامّةِ ولا في ملكيّةِ الدولةِ.
والدليلُ على ذلكَ أنّ الرسولَ استصنعَ منبرًا عندَ مَن يملك المصنعَ ملكيّةً فرديّةً.
غيرَ أنّ الصناعةَ تأخذُ حكْمَ ما يجري صنعُهُ، والقاعدةُ الشرعيّةُ تقولُ: «الصناعةُ تأخذُ حكمَ ما تُنْتِجُهُ». مثلًا فصناعةُ العصرِ مباحةٌ سواءٌ كانت عصرَ عنبٍ أو تفاحٍ لأنّ الصناعةَ مِنْ حيثُ هِيَ مباحةٌ ومنها صناعةُ العصرِ فتدخلُ في عمومِ إباحةِ الصّناعاتِ، فجاءَ الرّسولُ وحرّمَ صناعةَ عصرِ الخمرِ. عَنْ أنسٍ قالَ: «لَعَنَ رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم: في الخمرةِ عشرةً: شاربَها وساقيَها وبائعَها ومبتاعَها وعاصرَها ومعتصرَها إلخ». كما أن الشّرْعَ رأى في بعضِ الحالاتِ أنّ المصانعَ لا يجوزُ أن تُمْلَكَ ملكيّةً فرديّةً. ولما كانتِ المصانعُ قائمةً على المواد الأوليّةِ والأشياءِ التي تتعلّقُ بطبيعةِ تكوينِها بالجماعةِ والمرافق العامّةِ، فإن البحثَ إذًا يجبُ أن يكونَ حولَ هذهِ الحالاتِ الثلاثِ.
1 ـــ الحالةُ الأولى: المعادنُ الصلبةُ كالفضّةِ ـــ الحديد ـــ النحاسِ ـــ الرصاص، أو السوائل كالنفطِ والزئبقِ وما شاكلها، لا تُقتطع أي الأرضُ التي يوجدُ فيها أمثالُ هذه الأشياء المذكورة، لا يجوزُ أن تُعطى من قبل الدولة وإن أُعطيتْ خطأ استُعيدتْ من قبل الخليفةِ. والدليلُ إرجاعُ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما أقْطَعَهُ من أرض إلى عُمَرَ بن قيسٍ المأربيّ وغيرِهِ.
2 ـــ الحالة الثانية: الأشياءُ التي تمنعُ طبيعةُ تكوينِها اختصاصَ الفرْدِ بحيازَتِها، كملكيّةِ الطريقِ العامّةِ والبحارِ والخلجانِ والمضايقِ والمساجدِ والمنتزهاتِ وما شاكلها لقولِ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «منى مناخ من سبق».
3 ـــ الحالة الثالثة: ما هو من مَرافقِ الجماعة بحيثُ لو لمْ يتوافرْ لها بصفتها جماعةً تفَرّقَتْ في طلبهِ كالماءِ والكلأ والنارِ لقولِ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمونَ شركاء في ثلاث: الماءِ والكلأِ والنّارِ».
ومن هذه الخطوطِ العريضةِ يتبيّنُ أنّ الشرعَ قد عالجَ الصناعةَ والآلات ببيانِ ملكيّتها، وأوضحَ متى تكونُ ملكيّةً عامّةً ومتى تكونُ ملكيّةٍ فرديّةً خاصّةً فالحكمُ في المصانعِ هو للأصل لا للتابع، مثل آلة توليد الكهرباء تُستعملُ في وقتٍ واحدٍ للحرارةِ والإنارةِ، فإن كانت هذه الآلة تُستعملُ في الغالبِ للإنارةِ فإنها حينئذٍ تكون ملكيةً فرديةً، إذا كان توليدها من ملك فردي، وإن كانت غالبَ ما تُستَعملُ له هو الحرارة، فإنها حينئذٍ تكون ملكيّةً عامة، كالكهرباء في المصانعِ تُستعملُ لصهرِ المعادنِ وللإنارةِ، لكن غالبَ ما تُستعملُ له هو الحرارةُ وهي إنما وُجِدتْ في المصنع للحرارة. أمّا الإنارة فتابعةٌ لها، والتابع تابع في الحكم. وأما إذا كان توليدُ الكهرباءِ من مساقط المياهِ العامةِ، فإنها، ولا شك، تكون من الملكية العامةِ سواءٌ أكانتِ الغايةُ التي يجري توليدُ الكهرباءِ من أجلها هي الإنارة أم كانت لتستعمل مقام النار. ومما ينطبق عليه حكم مرافق الجماعة أيضًا مصانعُ الكبريتِ والفحم الحجريّ والصناعاتِ المتولدة عن النفطِ فإنها ملكيّةٌ عامة لأنها داخلةٌ تحتَ نصِّ الحديثِ «الماء والكلأ والنار» إذ المرادُ بالنارِ الوقودُ وما يتعلقُ به.
وأما مصانعُ الحلوياتِ والنسيجِ والسكر والزجاج ومحالج القطن والمطاحن ومعامل السماد وما شابهها فإنها ملكيّةٌ فردية لأن ما تصنعه ليس من مرافق الجماعة.
ولكن يجوز للدولةِ أن تشتريَ هذه الملكية الفردية. فمثلًا أن تشتريَ الدولة مصانعَ السيارات والبرادات من أصحابها، أو تنشئَ الدولة هذه المصانعَ وما شابهها فيكون بذلك كلّ ما هو داخلٌ في الملكية الفردية يجوزُ للدولة أن تملك مثلهُ وخصوصًا في العصر الحديث أشياء كثيرة دخلت في الملكية الفردية، وستكون مملوكة للدولة واقعيًّا كمصانع الآلاتِ التي تنتجُ الآلاتِ ومصانعَ السيارات ونحوها، مما يحتاجُ القيامُ به، إلى أموالٍ ضخمةٍ، فإنه لا يتأتى أن تقوم بمثلِ هذهِ الصناعاتِ إلا الدولة، لأنها هي التي تملك الإمكاناتِ لمثلِ هذه المصانع. وذلك لأن إنشاءَ مثل هذه المصانع يحتاجُ إلى رأسمالٍ كبير لا يقوى عليه الفردُ. لذلك درج الغربُ على إنشاءِ شركات المساهمةِ التي يتيحُ لها نظامُ تكوينها أن تجمعَ أموالًا ضخمة تستطيع بها أن تؤسسَ وتمتلكَ امتلاكًا فرديًّا مثلَ هذهِ الصناعاتِ، لكنَّ الإسلام يحرم شركاتِ المساهمةِ، ويحرمُ اجتماعَ عدّةِ شركاتٍ مساهمة في شركةٍ واحدة مثل التروستات والكارتل، لأنَّ الشركة في الإسلام من بابِ العقود كالبيع والإجارة، وليست هي كالوقف والوصية من قبل الإرادة المنفردة، لهذا لا تكونُ الشركةُ إلا من شركاء يباشرون بأنفسهم التصرّفَ في الشركة، أو بأموالهم مع شريك يتصرف هو مباشرةً بنفسه. وهذه من طبيعتها لا يحصل فيها تجمعُ مال. لهذا فإنّه لا يمكن، بحسب أحكامِ الشركةِ في الإسلامِ، أنْ تُنشأَ شركةٌ تملك أموالًا ضخمةً تَقدِرُ على إنشاء مصانعَ كبرى. فلا يبقى قادرًا إلا الدولة، فتكون هذه المصانعُ وإن كانت ملكية فردية، ولكن، لضخامة نفقاتها، لن تكون إلا للدولة، وبهذا لا توجد الاحتكارات للمصانع والإنتاج في كونِ مصانعِ الآلاتِ والسياراتِ ونحوها ملكية فرديّةً كما هي الحالُ في النّظامِ الرأسمالي، بل طبيعة تطبيقِ أحكام الشرعِ تجعلُ مثلَ هذه المصانعِ ملكًا للدولةِ ولو كانت من الملكية الفردية. وهكذا تكونُ الدولةُ هي المتصرفةَ بما هو داخلٌ في الملكية العامة، ولها أن تملك كل ما هو داخلٌ في الملكية الفردية، ولكن برضى صاحبها، ولا يحل للدولة أن تستولي عنوة على المصنع الداخل في حكم الملكية الفردية لقول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفسه» فإذا ملكت الدولة المصانع التي تدخل في الملكية الفردية كمصانع الآلات الثقيلة فإنَّ أرباحَها تكون للدولة، توضع في بيتِ المالِ مع الخراج والضرائب ونحوها وهي تصرف برأي الخليفة واجتهاده كسائرِ أموال الدولة، وله الحق أن يبيعَ هذه المصانع أو أن يعطي امتيازَها للأفرادِ بخلاف ما هو داخل في الملكيةِ العامةِ من المصانع وغيرها، فإنّه ملك لعامة المواطنين فلا يحلّ للدولة أن تبيعها أو تهبها أو تعطي امتيازها لأحد، لأنَّها لعامة المواطنين وليست لبيتِ المالِ فيكون بيت المال حرزًا لها ليس غير، وتُوزَّعُ على جميع المواطنين من دون تمييزٍ ولا تفريقٍ.
وتوزيعُ الأرباحِ حاصلٌ لما هو داخلٌ في الملكيّةِ العامةِ على الرعيةِ، فقد يوزع عينًا وقد يوزع ثمنًا، فذلك راجع لرأي الإمام واجتهاده. فللدولة أن تعطيَ الرعية ما هو داخلٌ في الملكيةِ العامة كالماء والكهرباءِ بالمجان قدر حاجتهم، ولها أن تبيعهم إيّاهُ بسعرِ السوق كالنفطِ والحديد وتوزع عليهم ثمنه من غير تمييز ولا استثناء، تفعل ما تراه مصلحةً للناس. لأنَّ ما هو داخلٌ في الملكية العامة لا يصحُّ أن يُصرَفَ في شؤون الدولة، وليس للإمام أن يتصرّفَ بشيء منه مطلقًا، لكنّ كيفيّةَ رعاية شؤون الملكية العامة فقط موكولٌ للخليفة بحسب نص الشرع.
هذه هي أحكامُ الصناعةِ وكيفية معالجتها من حيث المصنعُ فقط، وليس من ناحيةِ العمال أو تصريف الإنتاج، لأنَّ المصنعَ هو وحدَه الأصلُ في الصناعةِ، وبيانُ أحكامِهِ بيانٌ لأحكامِها. والصناعةُ مصدَرٌ مهمٌّ من مصادرِ الثروةِ. كما أنَّه ليس في الصناعةِ أحكامٌ سوى أحكام المصانع.
أما موضوعُ العمال فهو مصدر اقتصاديٌّ آخرُ، هو جهدُ الإنسان. كما أنَّ تصريفَ الإنتاج مصدرٌ اقتصاديٌّ آخرُ، هو التّجارة.

التِّجَارة
التجارةُ عمليّاتُ البيعِ والشراءِ وهيَ مبادلةُ مالٍ بمالٍ، سواءٌ كانتْ تجارةً داخليةً، وهي المبادلاتُ التي تجري في البلادِ، وتخضعُ لسلطاتِ الدولةِ أم تجارةً خارجيةً، وهيَ المبادلاتُ التي تجري في البلادِ غيرِ الخاضعَةِ لسلطاتِ الدولةِ.
والتجارةُ الداخليّةُ لا تحتاجُ إلى بحثٍ أو بيانٍ؛ فتطبّقُ عليها أحكامُ البيع التي جاءَ بها الشرْعُ.
أمّا التجارةُ الخارجيّةُ، فهي التي تحتاجُ إلى توضيح وبيانٍ، لأنّ لها أحكامًا خاصّةً، فضلًا عن أنَّها الأساسُ في كونِ التجارةِ مصدرًا من مصادرِ الاقتصادِ، لأنّ زيادةَ ثروةِ البلاد من التجارةِ تأتي منها. وحينَ تُبحَثُ التجارةُ يجبُ أنْ يتبينَ الأساسُ الذي تُبنى عليهِ. أهيَ السلعُ التي تجري التجارةُ بها أم التاجرُ مالكُ السّلعِ؟
إنّ أصحابَ النظامِ الرأسماليّ وأصحابَ النظامِ الاشتراكيّ الماركسيّ جعلوا السلعةَ أساسًا في بحثِ التجارةِ الخارجيّةِ، لذلكَ يُعدّونَ البحثَ التجاريّ قائمًا على منشأ البضاعةِ لا على مالِكِها. وتقومُ العلاقاتُ التجاريةُ بينَ الدولِ على أساسِ منشأ البضاعةِ لا على مالكها، لكنّ الإسلامَ جعلَ التاجر أساسًا في التجارةِ الخارجيّةِ لا البضاعة، وجعلَ البضاعةَ تأخذُ حكمَهُ، لأنّ البضاعةَ يجري عليها البَيْعُ والشراءُ، فَتُطَبّقُ عليها أحكام البَيْعِ. وأحكامُ البَيْعِ أحكامٌ لمالكِ المالِ وليست أحكامًا للمالِ الممْلُوكِ.
فهيَ أحكامٌ للبائعِ والمشتري وليست أحكامًا للمالِ المبيعِ أو الذي يُشترى، فاللهُ تعالى قال: [وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ] أي من قِبَلِ الناس، فهو حكمٌ متعلّقٌ بالناس لا بالمالِ، فالحكمُ في الآيةِ للبيعِ من قبلِ الناس لا البيعِ بالنسبة إلى المال المبيعِ. قالَ رسولُ الله: «والبيعانِ بالخيارِ ما لمْ يَتَفَرّقَا» فالحُكْمُ للبائعِ والمشتري لا للمالِ الذي جرى بيْعُهُ وشراؤهُ، فالشرعُ إذًا قدْ عالجَ التجارةَ الخارجيّةَ باعتبار مالكِ المالِ بغض النظرِ عنِ المالِ.
وأمّا جَعْلُ البضاعةِ تابعةً للتاجرِ فلأنّ التجارةَ الخارجيّةَ تندرجُ تحتَ أحكامِ دارِ الحربِ ودارِ الإسلامِ.
أمّا بالنسبةِ إلى أحكامِ دارِ الإسلامِ، فإنّ الإسلام عدَّ الرعيّةَ للدولةِ بالتابعيّةِ لا بالدينِ.
فَمَنْ كانَ يحمِلُ التابعيّةَ الإسلاميّةَ فهو من رعايا الدولةِ مُسلمًا كان أمْ غيرَ مُسْلِمٍ، والدولةُ مسؤولةٌ عنهُ وعنْ كفايتهِ وحمايتهِ وحمايةِ أموالِهِ وعرْضِهِ، وتوفير الأمْنِ والعيشِ والرّفاهِ والعدْلِ والطمأنينةِ لهُ، من دونِ أي فرْقٍ بينَ مسلمٍ وغير مسلمٍ، فكلّهُمْ رعايا الدولَةِ، وليستِ العقيدةُ هيَ الجامعَ بينهُم في الرعويّةِ بل التابعيّةُ. وأمّا بالنسبةِ إلى دارِ الحربِ، فكلّ من لا يحمل التابعيّة الإسلامية فهو أجنبيّ، سواء كانَ مسلمًا أو غيرَ مسلمٍ، ويُعامَلُ معاملةَ الحربيّ حُكمًا.
والتجارُ الذينَ يدخلونَ الدولةَ أو يخرجونَ منها ثلاثةُ أصنافٍ:
1 ـــ تجّار من رعايا الدولة: لهمُ الحقّ بالتجارةِ في الخارجِ والداخلِ، سواء بسواء، من دون أيّ قيْدٍ أو شرطٍ. معنى آية [وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ] عامّ يشملُ كلّ بَيْعٍ إلّا في حالتينِ:
أ ـــ ما لو حصل ضررٌ في الاستيراد والتصديرِ؛ فإن ذلك يؤدّي إلى منعهما.
ب ـــ يمنعُ الاستيرادُ والتصديرُ من البلادِ التي نكونُ معها في حالةِ حرْبٍ فعلًا كإسرائيل اليوم.
2 ـــ التجار المعاهدون: يعامَلُونَ في التجارةِ الخارجيّةِ وَفْقَ نصوصِ المعاهدة المعقودةِ معهم ويستوي في ذلك التصديرُ والاستيرادُ، لقوله، صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمونَ عندَ شروطهم» ولأنّ المعاهدةَ عَهْدٌ والوفاءَ به فرضٌ [أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ].
3 ـــ التجار الحربيّون: وهم الذين بيننا وبينهم حَرْبٌ، وهؤلاء لا يدخلونَ بلادنا إلّا بإذنٍ خاصٍّ بالدخولِ بعد إعطائهمِ الأمانَ، وهوإذنٌ لهم بالدخولِ. وعلى هذا فالتاجرُ الحربيّ إذا أدخلَ بضاعَةً كان الإذنُ له بالدخولِ لبضاعته، وإذا أراد أن يشحنَها بوسيلة من وسائلِ النقلِ، فإنه يجوزُ أن يُعطى إذنًا لماله. ولا يدخُلُ الحربيّ ولا مالهُ بلادنا بغير إذنٍ مُطْلَقًا.
وإذا دخلَ البلادَ فلهُ أن يُتاجرَ فيها بأيّ بضاعةٍ يُريدُها، وله أن يُخرجَ منَ البلادِ أيَّ بضاعةٍ يريدُها وأيّ مالٍ يملكُهُ، إلّا أن يكونَ سلعةً مهمّةً في إخراجها ضررٌ؛ فتمنَعُ وحدها ويسمحُ له بغيرها، وبكل مالٍ، وذلك لقوله، صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ ذِمّةَ المسلمينَ واحدةٌ فَمَنْ أخْطَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والملائِكَةِ أجْمَعِين»، والمرادُ بذمّةِ المسلمين أمانهم. وإعطاؤهُمُ الأمانَ، يعني إباحةَ الدخولِ والعملِ والتجارةِ لهم إلّا أن يحدّدَ الحاكمُ الأمانَ، أي الإذنَ، فيكون حينئذٍ بحسبِ ما أذن، كتحديدِ الإقامَةِ أو العملِ، فعليهم أن يلتزموا بما حدّدَهُ الحاكمُ.
وأمّا ضريبةُ الجماركِ فلا تُؤخَذُ من أيّ شخصٍ من رعايا الدولةِ على أيّ بضاعةٍ داخليّةً كانت أو خارجيّةً لما رُوِي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يدخُلُ الجنّةَ صاحبُ مكسٍ» والمكسُ ضريبةُ الجماركِ خصوصًا. وقال: «إنّ صاحبَ المكسِ في النار» يعني العاشر، والعاشر هو الذي يأخذُ العُشْرَ على التجارةِ التي تأتي من الخارج. وعن عبد الرحمن بن معقل قال: «سألتُ زيادَ بنَ جدير: من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشرُ مسلمًا ولا معاهدًا، قلت: من كنتم تعشرون إذًا: قال: تجّارَ الحرْبِ، كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم».
على أنّ أخْذَ الضريبةِ للجماركِ من الأجنبيّ جائزٌ لا واجبٌ.
فيجوزُ للدولةِ أن تعفيهم من الضرائبِ أو مِنْ ضرائبِ بضاعَةٍ مُعيّنةٍ، بحسبما تراهُ مَصلَحةً للمسلمينَ.
هذا هو حكمُ التجارةِ الخارجيّةِ في الإسلامِ.

الجَهْدُ الإنْساني
إنّ المصادرَ الثلاثةَ السابقةَ: الزراعةَ والصناعةَ والتجارةَ، لا تُعطي الإنتاجَ إلّا بجهدِ الإنسان، فهو الذي يزرعُ الأرضَ ويصنعُ المصنوعاتِ ويديرُ الآلة، وهو الذي يقومُ بالبيع والشراء، لذلك فهو مصدرٌ مهمّ من مصادرِ الثروةِ. وإذا لم يكن بُدّ منهُ في الزراعةِ، فمنَ المؤكّد أنّهُ لم يكن جزءًا منها. كذلك في الصناعةِ والتجارةِ لا يعَدُّ جزءًا من أيّ واحدةٍ منهما، لكنه مصدر مستقلّ عن الثلاثة.
وجهدُ الإنسان هو العملُ الذي يقومُ بهِ عقليًّا كانَ أو جسميًّا، ولهذا قيلَ لمن يقومُ بالأعمالِ: عمال. والأدقّ أن يقال: الأجزاء لأنّ البحثَ بحثُ الأجراء لا العمّال، والأجيرُ هو كلّ إنسان يشتَغِلُ بأجرَةٍ، سواءٌ كان المستأجرُ فردًا أو جماعةً أم دولةً، فموظّفُ الدولةِ أجيرٌ، وموظّفُ الجماعةِ ـــ كالشركةِ ـــ مثلًا أجيرٌ، وموظّفُ الفردِ أجيرٌ، وأما العامل فهوكل من يعمل سواء كان صاحب عمل أجيرًا. والأجرة هي المال الذي يُعطى مقابل قيامِ الإنسانِ بالعَمَلِ سواء أكان نقدًا أم سلعةً فكلّهُ مالٌ، لأنّ المالَ هو كلّ ما يُتموَّلُ، أي كلُّ ما يُنْتَفَعُ به من الأشياء. والبحثُ الاقتصاديّ في الأجيرِ يُبنى على معرفةِ الأساسِ الذي يقومُ عليه تقديرُ الأجرةِ للأجير.
فقد عرّفَ الفقهاءُ الإجارَة بأنَّها عَقْدٌ على المنفعةِ بعوضٍ. فجعلوا العقدَ مسلطًا على المنفعةِ، وجعلوا العوض مقابلَ تلك المنفعةِ، أي جعلوا المنفعة أساسًا لتقدير الأجرة وقالُوا: إنّ تمليكًا من الأجيرِ للمستأجر منفعة، وتمليكًا منَ المستأجر للأجير مال.وقد استُنبِطَ ذلك من كتاب الله تعالى وسنّةِ رسوله في قوله تعالى: [فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ] فجعل إعطاء الأجور مقابلَ الإرضاعِ، وقال، صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ: «ثلاثةٌ أنا خصمهُم يومَ القيامةِ: رجلٌ أعطى بي ثم غَدَرَ، ورجل باعَ حُرًّا فأكلَ ثمنَهُ، ورجلٌ استأجرَ أجيرًا فاستوفى منه ولم يُوفِهِ أجْرَهُ». فجعلَ استيفاء المنفعةِ قائمًا على إيفاءِ الأجرِ فتكونُ المنفعةُ أساسًا لتقديرِ الأجر، والعَقْدُ في إجارَةِ الأجيرِ إمّا أن يردَ على منفعةِ العملِ، كالمنفعةِ التي يُقدّمُها أصحابُ الحِرَفِ والصنائعِ كاستئجارِ الصائغِ والنجّارِ والمهندس والطبيبِ والمحامي. وأمّا أن يرِدَ على منفعةِ الأجيرِ نفسه كالخادم والبستاني، وفي كلتا الحالتينِ لا بُدّ من أن تكونَ الأجرةُ معلومةً، لقوله، صلى الله عليه وآله وسلم: «ومن كان يُؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يستعملنَّ أجيرًا حتى يُعلمَه أجره».
وبعد المقارنة بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصاديّ والسياسة الاقتصادية نصلُ إلى نتيجةٍ واضحةٍ مبنيةٍ على فهمِ حقيقةِ علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي والسياسة الاقتصادية. فنرى أنَّ علمَ الاقتصادِ يبحثُ في الإنتاجِ وتحسينهِ وزيادتهِ وهو عالمي لا تختصُّ بهِ أمة من دونِ أخرى. وأنّ النظامَ الاقتصاديّ يبحثُ في الكيفية التي يجبُ أن يُجبى بها المال وأن يُوَزَّعَ، فهو لأمة من دونِ أخرى ويختلف في النظامِ الرأسمالي عنه في النظامِ الاشتراكي عنه في النظامِ الإسلامي.
والسياسةُ الاقتصاديةُ التي تُخَطِّطُ كي تحققَ الرفاهيةَ للشعبِ بامتلاكه أوفر قسط من الحاجاتِ الكمالية تكون متأثرة إلى حدٍّ بعيدٍ بالمبدأ الذي تعتنقه الدولة. فبالنتيجة نصل إلى الصراع الاقتصاديّ الطبقيّ القائم في العالم اليوم فنراهُ ليس موجهًا إلى السياسةِ الاقتصادية ولا إلى علمِ الاقتصادِ بل نراهُ موجهًا إلى النظامِ الاقتصادي الذي يعالجُ كيفية التوزيع والجباية. ففي النظام الرأسمالي يقول علماء الاقتصاد إنَّ زيادة الدخل يُحَسِّنُ دخلَ الفرد بزعمهم أنّ البلدَ الذي يتألفُ من مليون شخص، ودخله 500 مليون ليرة يكون دخل الفرد 500 ليرة فإذا ارتفع الدخلُ إلى 700 مليون ارتفع دخلُ الفرد. هذا الزعم يَدْحَضُه الواقعُ. فالواضح في المجتمع الرأسماليّ أنَّ الغنيّ يزدادُ غناه وتنمو ثروته ويعودُ فائض الدخل القومي إلى خزائنهِ في حين أن الفقير الذي يصيبه وعائلته من الدخل ألف ليرة ما زال يستفيدُ المبلغ نفسه أو أكثر قليلًا إذا وافاه الحظ، وإذا ساءه الحظ استفادَ بأقل من المبلغ الذي كان يعودُ عليه من قبل.
وهذا الدخل في الحالتين لا يمكّنه من إشباع حاجاته الضرورية إشباعًا كاملًا.
فالنظام الأمثل هو الذي يكفل لكل فرد من رعاياه الحاجاتِ الضروريةَ، أي يكفلُ لسمير وكامل وإلياس وبطرس ما يحتاجه من السلع والخدمات الضرورية له ولجميع أفراد عائلته ويتركُ جميعَ الأفراد يتنافسون للعملِ في سبيل نيل حاجاتهم الكمالية.
وهنا يرد سؤال: كيف نستطيعُ أن نحدد السلع الضرورية، والسيارة والبراد والغسالة أصبحت من السلع الضرورية؟
الجواب عن ذلك: يجب أن تُحَدَّدُ السلَعُ والخدماتُ الضروريةُ وإلا أصبح في المستقبل بناءً على هذا المفهوم اقتناءُ الصاروخ والصعود بوساطته إلى القمر ضروريًّا. فهذاالسؤال مردود، لأنَّ السيارة والبراد والغسالة لا تُعدّ من السلع الضرورية بدليل أنَّ الإنسان كان يحيا حياةً كريمةً قبلَ اختراعها، فإذن هي تُعدّ من السلع الكمالية. ونحن عندما نقولُ السلع والحاجات الضرورية إنما نعني أنها ضروريةٌ لبقاءِ الإنسان حيًّا وضروريةٌ لاستمرارهِ بصحةٍ جيدةٍ، وضروريةٌ لدوام استمرارهِ عضوًا مفيدًا بعلاقته بالمجتمع الذي هو جزءٌ منه. وأخيرًا بناءً على هذا الأساس من الفهم نستطيعُ أن نجزُمَ بأنَّ السلع الضرورية ثلاث: المأكل والملبس والمسكن. وأما الخدمات الضرورية فهي التعليم والتطبيب، فالتعليم والتطبيب يجبُ أن يكونا مجانًا للجميع ومن دونِ تمييز، لأنّه لا يجوزُ المتاجرةُ بالأرواحِ والعقولِ في مجتمعٍ يحافظُ على بقاء جسمه سليمًا وعلاقة بعض أفراده ببعض وبالدولة علاقة متينة.

النِظامُ الإِسلاميّ وَحدَه الذي
يَضْمَن الحاجاتِ الأسَاسِيَّة

ضمانُ الحاجاتِ الأساسيّةِ في الإسلامِ هو الأساسُ في السياسةِ الاقتصاديّةِ بخلافِ النظامِ الرأسماليّ، فإنَّ الأساسَ فيه زيادةُ الدخلِ الأهلي. ولما ظهرت المساوئُ من جرّاءِ تطبيقِ هذا النظامِ، وُضِعَتْ بعضُ أحكامٍ للعمّالِ والموظّفين والفقراءِ المحرومين، لتخفيف شيء منَ الظلمِ الواقع بهم. فالضمانةُ فيه ليست أساسًا في النظامِ ولا أمرًا جوهريًّا فيه، بل هي أحكامٌ طارئة أُدخلت عليه.
وبخلافِ اشتراكيّةِ الدولةِ، فإنَّ الضمانَ فيها معالجةُ الحالات التي تَظْهَرُ فيها مساوئ النظام الرأسمالي في الملكيّةِ وأجورِ العمّالِ وأرباحِ الرأسماليين، ولم يكن أساسًا، بل كان أحكامًا طارئة.
وبخلافِ الاشتراكيّةِ، ومنها اشتراكيةُ ماركس، فإنَّ الضمانَ فيها محاولةٌ لإيجادِ المساواةِ في الملكيّةِ، لا ضمانُ الحاجاتِ الأساسيّةِ لكلّ فرد. وسواء عندهم أضمنت هذه المساواة الحاجات الأساسية، أم لم تضمن، فالنتيجةُ من هذه المحاولةِ كانت الحرمان من ملكية الإنتاج.

الحاجاتُ الأساسِيَّةُ في الشَّرعِ الإِسلاميّ قِسمان
القسم الأول: الحاجاتُ الأساسيّةُ لكل فردٍ من أفرادِ الرعيّةِ، الطعام واللباس والمسكن. فإذا توافرت، لم تبقَ هناك مشكلةٌ أساسيّةٌ، والدّليلُ على أنَّها أساسيّةٌ النصوص التي جاءت في المأكل والملبس والمسكن، فالله تعالى يقول: [وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ] ويقول: [وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ] {سورة النساء: الآية 5} [وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ] {سورة الحاج: الآية 28} ويقولُ: [أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم] [وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا] والرسولُ يقول: «ليس لابنِ آدم إلا كسرةُ خبز يسدّ بها جَوْعَتَهُ وشربةُ ماءٍ يُطفئ بها ظَمَأهُ، وقطعةُ ستر يسترُ بها عَوْرَتَهُ، وما زادَ على ذلك فهو فضلٌ» فهذه النصوصُ تدلّ دلالةً كاملةً على أنّ الحاجاتِ الأساسيّةَ هي الحاجات الثلاث، وما زادَ عليها، فهو منَ الكماليات؛ أما الذي يقوم بالإنفاقِ أي بإشباعِ الحاجاتِ الأساسيّة، فقد عيّنهُ الشرعُ تعيينًا واضحًا بأدلّةٍ، منها ما هو صريح الدلالةِ ومنها ما يُستنبطُ منه استنباطًا.
فَفَرْضُ النفقَةِ للزّوجَةِ على الزوجِ، وهي المأكلُ والملبسُ والمسكنُ، مُستمدّ من قوله تعالى: [أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ] وقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزقُهُنّ وَكِسْوَتُهنّ» وقال: «وحقّهنّ عليكم أن تُحْسِنُوا لهنّ في كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ».
فهذه النصوص صريحةٌ في وجُوبِ النفقةِ للزوجةِ على الزوجِ؛ وفرضُ النفقةِ للأولادِ على أبيهم يستندُ إلى قوله تعالى: [وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ] وفرضُ النفقةِ للأبِ وللأم على أولادهما لقوله تعالى: [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] وقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن أطْيَبَ ما أكلَ الرجلُ بَعْدَ كَسْبهِ وإنّ ولَدَهُ مِنْ كسبه». فيُسْتَنبطُ من هذه النصوص أنّ النّفَقَةَ للأبوَينِ واجبةٌ على أولادِهِما، والنفقةُ شرعًا مأكلٌ وملبسٌ ومسكنٌ.
وفرضُ النفقةِ على القريبِ ذي الرّحمِ المحرّمِ لقريبهِ، يستندُ إلى قوله تعالى: [وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] [وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ] وقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «وابْدأ بمنْ تَعُول أمك وأباكَ وأخاكَ وأختكَ ثم أدناك أدناك» وهو يعني النفقة. والمستنبطُ من هذه النصوصِ أن نَفَقَةَ القريبِ واجِبَةٌ على قريبهِ.
وبضمانِ النّفَقَةِ للزوجةِ والأبوين والأبناء وكلّ ذي رحمٍ ضُمِنَ إشْباعُ جميعِ الحاجاتِ الأساسيّةِ لجميعِ أفرادِ الرّعيّةِ، إلّا من لا رحمَ لهُ، أو عجزَ هؤلاء عن الإنفاقِ، وهاتانِ الحالتانِ قد احتاطَ الشرعُ لهما وشرّعَ لهما أحكامًا معيّنَةً محدّدَةً.
ففي حال عدمِ وُجودِ ما لا تجبُ عليهِ، أوْ وُجِدَ، لكنّهُ لا يستطيعُ الإنفاق، أوجبَ الشرعُ النفقةَ في هاتينِ الحالتينِ على بيْتِ المالِ، أي على الدّولةِ، قال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «من تَرَكَ كلًّا فإلينا ومَنْ تَرَكَ مالًا فَلِوَرَثَتِهِ». والكلّ الضعيفُ الذي لا ولدَ له ولا والد. وقال: «فأيما مؤمن مات وتركَ مالًا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك ديْنًا أو ضياعًا فليأتني فأنا مولاه» والضياع صف العيال وذوي ضياع أي لا شيءَ لهم، فهذا دليلٌ على أنّ النفقةَ واجبة على الدّولةِ.
ولا يقال: إنّ الشرعَ لم يوجب النفقةَ على الدّولةِ. إلّا في حالِ عَدَمِ استطاعةِ الأقاربِ دفع النفقةِ، لأنّهُ ألزَم الأقارِبَ أولًا بدفعِ النفقةِ، وهذا يُفْقِرُ الأقارِبَ باقْتِسامِ ما لدَيْهِم مِنْ مالٍ بينهم وبينَ قريبهِم، ويؤدّي ذلك إلى انخفاضِ مستوى المعيشةِ عند الجميعِ.
لا يقالُ ذلك، لأنّ النفقةَ لم يُوجبْها الشرعُ على القريب، إلّا إذا كان لديهِ ما يفضلُ على حاجاتهِ الأساسيّةِ والكماليّةِ لقولِ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «خيرُ الصَدَقَةِ ما كانَ عن ظهرِ غنى» وقولِهِ: «اليدُ العليا خيرٌ من السفلى، وابدأ بمنْ تعولُ» «وخيرُ الصدَقَةِ عن ظهرِ غنى».
والصدَقَةُ والنَفَقَةُ سواءٌ. والغنى هنا ما يَسْتغني به الإنسانُ مما هو قدْرُ كفايتهِ بالمعروفِ في مجتمعهِ، لإشباعِ حاجاتهِ كلّها الأساسيّةَ والكماليّةَ، قالَ الله تعالى: [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ].
هذا من حيثُ ضمانُ الحاجاتِ الأساسيّةِ لكلّ فَرْدٍ بذاتِهِ، أمّا من حيثُ ضمانُ الحاجاتِ الأساسيّةِ للرعيّة كلّها، فإنّ الشرع جعلَ على الدّولةِ مباشرةً ضمانَ توفيرِ هذه الحاجاتِ الأساسيّةِ، وهي بخلافِ حاجاتِ كل فردٍ، لأنّ حاجاتِ كلّ فردٍ ضَمِنَها الشرعُ بفرضِ نفقةٍ، إلزامًا على الأقاربِ، ليُحَصّلَ منهم إن لم يدفَعوها.
أما الحاجاتُ الأساسيّةُ للرعيّةِ كلّها فإنّ الشرْعَ هو الذي جعلها على الدّولةِ مباشرةً، فقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أصبحَ آمِنًا في سِرْبِهِ معافى في بدنهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ فكأنما زُوِيتْ لهُ الدنيا». فقد جعلَ الأمْنَ والصحّةَ والنّفَقَةَ حاجاتٍ أساسيّةً؛ وأمّا كونُ التعليم من الحاجاتِ الأساسيّةِ، فلما رويّ عن رسولِ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «مَثَلُ ما بعثني اللهُ به مِنَ الهدى والعِلمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكثيرِ أصابَ أرضًا فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ قَبِلَتِ الماءَ فأنْبَتَتِ الكلأ والعشبَ الكثيرَ وكانت منها أجادبُ أمْسكتِ الماءَ فَنَفَعَ اللهُ بها الناسَ فشربوا وسقَوا وزَرَعُوا وأصاب منها طائفةً أُخرى إنما هي قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبتُ كلأً فذلك مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دينِ الله، ونَفَعَهُ ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلّم ومَثَلُ مَنْ لم يرفع بذلكَ رأسًا ولم يَقْبَلْ هُدى الله الذي أُرْسلتُ به».
ففي هذا الحديثِ شبّهَ الرسولُ الهدى والعلمَ، في قبول الناسِ له ورفضهِم إيّاه، بالغيثِ في قبولِ الأرضِ وعَدَمِ انتفاعِها، والغيثُ من الحاجاتِ الأساسيّةِ للناسِ، فكذلكَ الهدى والعلمُ، مما يدلّ على أنّ العلمَ مِنَ الحاجاتِ الأساسيّةِ. ويؤيّدُ هذا قولُ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «من أشراطِ الساعةِ أن يُرْفَعَ العِلْمُ ويَثْبتَ الجهلُ».
وهذا القولُ يُشيرُ إلى أنّ فقدانَ العِلْمِ من علامةِ انتهاءِ عمارِهذه الدنيا.
ويدلّ في الوقْتِ نفسِه على أنّهُ من الضروريّاتِ، وإذا قيلَ إنّ ذلك في علومِ الإسلامِ الضروريّةِ لمعرفةِ الدينِ، كانَ الجوابُ بأنّ العلومَ الضروريّةَ للناسِ تقاسُ عليه بجامع الضرورةِ في الكلّ. ومن ذلك يظهرُ أنّ الأمنَ والتَّعليمَ والتطبيبَ قد جعلها الشرعُ من الحاجاتِ الأساسيّة، وهي فَرْضٌ على الدّولةِ. وذلك ظاهرٌ في الأدلّةِ الواردَةِ في الأمنِ الخارجي، والدفاع عن البلادِ مشهورٌ من غزواتِ الرسولِ ومن آياتِ الجهادِ، أمّا بالنسبةِ إلى الأمْنِ الدّاخلي فهو معروفٌ من أحكامِ العقوباتِ على المعتدي، ومن قَولهِ في حجّةِ الوداع: «ألا إنّ دِماءَكُمْ وأمْوالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وغير ذلك.
وأمّا بالنسبةِ إلى التعليمِ فَقَدِ انْعَقَدَ إجْماعُ الصحابَةِ على إعطاء المعلمينَ قَدْرًا مُعينًا من بَيْتِ المالِ أجرًا لهم، والرسولُ جعلَ فداءَ الأسيرِ تعليم عشرةٍ مِنْ أبْناءِ المسلمينَ أو أكثرَ، مما يدلّ على أنَّه واجبٌ على الدولةِ. وأمّا بالنسبةِ إلى التطبيبِ فإنّ الرسولَ، صلى الله عليه وآله وسلم، قد أمرَ بالتداوي حيثُ قال: «عباد الله تداووا فإنّ اللهَ لم يَضَعْ داءً إلَّا وضَعَ له شفاءً أو دواءً». فهذا من المباحاتِ وهو في الوقتِ نفسِه شأنٌ من شؤونِ الرعيةِ. فإنّ معافاة البدنِ من أعظمِ شؤونِ الرعيّةِ، ورعايةُ شؤونِ الرعيّةِ واجبةٌ على الدولةِ بنصّ الحديثِ: «الإمام راع وهو مسؤولٌ عن رعيّتهِ».
وعدم توفيرِ الطبّ لمجموعِ الناسِ يؤدّي إلى الضررِ، وإزالةُ الضررِ واجبةٌ على الدولةِ. قال، صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
فمن هاتين الناحيتين كان التطبيبُ واجبًا على الدولة.
هذا هو الضمانُ لإشباعِ جميعِ الحاجاتِ الأساسيّةِ لجميعِ أفرادِ الرعيّةِ إشباعًا كليًّا، وتوفير إشباعِ الحاجاتِ الأساسيّةِ اللازمةِ لجميعِ الناسِ. فإيجادُ أعمالٍ للقادرينَ وضمانُ نفقةِ الفقراءِ العاجزينَ، يتحققُ بهما ضمان إشباعِ الحاجاتِ الأساسيّةِ لكلِّ فردٍ من أفْرادِ الرعيّة إشباعًا كليًّا، وبه يتمُّ تحقيقُ السياسةِ الاقتصادية في الإسلام.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢